المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سلسلة أثر عمل القلب على العبادات (4) بسم الله الرحمن الرحيم أثر - أثر عمل القلب على تلاوة القرآن وتدبره

[إبراهيم بن حسن الحضريتي]

فهرس الكتاب

سلسلة أثر عمل القلب على العبادات (4)

بسم الله الرحمن الرحيم

أثر عمل القلب على تلاوة القرآن وتدبره

د. ابراهيم بن حسن الحضريتي

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المقدمة

إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن الاهتمام بذكر أثر عمل القلب على عبادة تلاوة القرآن وتدبره من أعظم ما ينبغي الاعتناء به، والحرص عليه؛ لأنه لا عزة ولا شرف للمسلم في الدنيا، ولا مكانة له عند الله إلا بالإقبال على هذا الكتاب تلاوة وتدبراً وعملاً، والسنة كذلك مرتبطة به، قال تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].

وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 43 وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} [الزخرف: 43 - 44].

وهذا الكتاب الذي أعانني الله عليه، ووفقني لأن أكتبه هو الرابع في هذه السلسلة المباركة (أثر عمل القلب على العبادات).

وأسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يرزقني الإخلاص فيه، وأن ينفعني به وكل من قرأه والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الدكتور: إبراهيم بن حسن الحضريتي

إمام وخطيب جامع القناعة بشرائع المجاهدين بمكة المكرمة

ebrahim1407@gmail.com

ص: 2

وهذه‌

‌ المحاور التي يدور عليها هذا البحث:

التمهيد، وفيه مقدمتان:

المقدمة الأولى: القرآن الكريم دواء وشفاء ونور وهداية، لا ينتفع به العبد إلا إذا كان محله قابلاً لذلك.

المقدمة الثانية: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.

المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.

المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.

المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.

المبحث الثاني: القلب لا يتأثر بالقرآن وينتفع به ويظهر أثره على الجوارح إلا بتحقق المطالب الآتية:

المطلب الأول: الإخلاص لله تعالى والحرص الشديد على سلامة المقصد.

المطلب الثاني: الحرص على إتباع الهدي النبوي في هذه العبادة.

المطلب الثالث: ملازمة التوبة النصوح، وكثرة الاستغفار الصادق.

المطلب الرابع: كثرة الدعاء والإلحاح فيه على الله أن يرزق العبد حلاوة تلاوة القرآن والتلذذ به، واجتماع القلب عليه، وحسن تدبره.

المطلب الخامس: شعور العبد في قلبه بعظمة أثر القرآن.

المطلب السادس: حرص العبد على تدبر القرآن العظيم، وله عدة عناصر.

أولاً: معنى التدبر وأنواعه.

ثانياً: أهمية التدبر والأدلة عليه.

ثالثاً: ذم السنة لقوم اشتهروا بكثرة التلاوة بدون تدبر لمعانيه وفهمه على طريقة الصحابة.

رابعاً: وسائل التدبر.

ص: 3

ولهذا التدبر عدة وسائل، منها:

1 -

الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل التلاوة.

2 -

تكرار الآية أو الآيات في الموضوع الواحد.

3 -

أن يعيش بقلبه وأحاسيسه في معنى الآيات، ويسبح بفكره في معانيها، فيحرك قلبه بها، ويتصور مشاهدها كأنها رأي عين.

4 -

أن يحاسب نفسه إذا لم يجد أثراً للآيات في قلبه.

5 -

أن يحاسب نفسه إذا لم يجد أثراً للآيات في قلبه.

6 -

ترتيل الآيات وتحسين الصوت بقدر الوسع بدون تكلف.

7 -

أن يحرص على الخلوة مع ربه في ظلمة الليل عند تدبره للآيات.

8 -

أن يفرغ نفسه مما يشوش عليه قلبه وفكره -من الشواغل- عند التلاوة أو الاستماع لها.

9 -

أن يفرغ نفسه مما يشوش عليه قلبه وفكره -من الشواغل- عند التلاوة أو الاستماع لها، ويبحث عما هو أنفع لقلبه.

10 -

الاطلاع على أحوال السلف مع القرآن العظيم.

المبحث الثالث: مظاهر ودلائل أثر عمل القلب على انتفاع العبد بالقرآن العظيم:

أولاً: زيادة خشوع الجوارح تبعاً لزيادة خشوع القلب، والتأثر بالآيات الذي يؤدي إلى البكاء من خشية الله وتعظيمه وإجلاله، وإلى اقشعرار الجلد من خشيته، ومن ثَمَّ لين القلب والجلد لذكر الله.

ثانياً: زيادة الإيمان في القلب الذي يظهر أثره على الجوارح بالشعور بعظمة الله وهيبته في القلوب والمسارعة والمسابقة إلى مرضات الله وجنته، ويثمر انشراح الصدر وطمأنينة القلب.

ثالثاً: ممم

رابعاً: التخلق بخلق القرآن.

ص: 4

المبحث الرابع: موانع تأثر القلب بالقرآن العظيم، وفيه تمهيد ومطالب.

التمهيد:

المطلب الأول: الخلل في النية والمقصد.

المطلب الثاني: الخلل في متابعة الهدي النبوي في تلاوة القرآن وتدبره.

المطلب الثالث: عدم طهارة القلب.

المطلب الرابع: عدم تقدير كلام الله حق قدره.

المطلب الخامس: تعلق القلب بغير الله.

المطلب السادس: الغفلة عن لقاء الله في الآخرة.

المطلب السابع: التقصير في أداء الفرائض، ومن ثم إهمال النوافل.

المطلب الثامن: مجالسة أهل الأهواء الذين يضربون القرآن بعضه ببعض، ويتبعون متشابه ويتركون محكمه.

المطلب التاسع: ذنوب الخلوات.

المطلب العاشر: التعلق بشهوات النفس المحرمة من سماع الحرام والنظر إليه وأكل الحرام.

ص: 5

‌التمهيد:

مقدمتان مهمتان:

‌المقدمة الأولى: القرآن الكريم دواء وشفاء ونور وهداية، لا ينتفع به العبد إلا إذا كان محله قابلاً لذلك

، وقال في الخلاصة: "وهو القلب الحي؛ وذلك أن القلب إذا كان زكيًّا يَقِظًا أثمر ذلك فيه كل وصف ومعنى شريف؛ لأن «القلب إذا كان رقيقًا لينًا كان قبوله للعلم سهلًا يسيرًا، ورسخ العلم فيه وثبت وأَثَّر، وإن كان قاسيًا غليظًا كان قَبوله للعلم صعبًا عسيرًا.

ولا بد مع ذلك أن يكون زكيًّا صافيًا سليمًا؛ حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا، وإلا فلو قَبِل العلم، وكان فيه كَدَر وخبث، أفسد ذلك العلم، وكان كالدَّغَل في الزرع إن لم يمنع الحبَّ من أن ينبتَ منعه من أن يزكوَ ويطيب، وهذا بَيِّن لأُولي الأبصار»

(1)

.

ومن هنا كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون الإيمان قبل القرآن.

فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزَاوِرَة

(2)

، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا»

(3)

.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «لقد عشنا بُرْهَة من دهرنا، وإن أحدنا يُؤتَى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فنتعلم حلالها وحرامها، وآمِرَها وزَاجِرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تَعَلَّمُون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالًا يُؤتَى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فَاتِحَتِه إلى خَاتِمَتِه ما يدري ما آمِرُه ولا زَاجِرُه، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه»

(4)

.

وعن حذيفة رضي الله عنه: «إنَّا قوم أُوتينا الإيمان قبل أن نُؤتَى القرآن، وإنكم قوم أُوتيتم القرآن

(1)

مجموع الفتاوى (9/ 315).

(2)

هو جمع حَزْوَرٍ، وهو الذي قارب البلوغ. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 380).

(3)

أخرجه ابن ماجه (1/ 23) رقم (61)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 152) رقم (50)، والسنن الكبرى (6/ 78) رقم (5357)، وصححه الألباني في تحقيقه لسنن ابن ماجه رقم (61)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (1/ 42):«إسناده صحيح» .

(4)

أخرجه الحاكم (1/ 91) رقم (101) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 78) رقم (5355).

ص: 6

قبل أن تُؤتوا الإيمان»

(1)

.

وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه: «لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل»

(2)

.

وعلى قدر حياة القلب يكون تَأَثُّره وتَدَبُّره وتَذَكُّره، فتارة يقوى، وتارة يضعف، وقد ينعدم ويتلاشى، كما يدل على ذلك ما جاء في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى من الطبع على القلوب، والخَتْمِ عليها، وإزاغتها، فصاحب هذا القلب الأغلف أو المنكوس لا يحصل له شيء من التدبر والاعتبار والتفكر والانتفاع بما يقرأ أو يسمع من آيات الله تعالى.

قال ابن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]: «كان المنافقون يجلسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون، فيقولون: ماذا قال آنفًا؟! ليس معهم قلوب»

(3)

؛ يشير إلى قوله تعالى عن المنافقين: {وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] " انتهى المقصود من كتاب الخلاصة في تدبر القرآن

(4)

.

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 78) رقم (5356).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في الزهد (ص 106) رقم (680)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 300).

(3)

أخرجه في الدر المنثور (7/ 608) عن ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص 41 - 42).

ص: 7

‌المقدمة الثانية: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}

[العنكبوت: 69].

وفي هذه الآية عدة أقوال، منها:

1 -

قيل: لنزيدنهم هدى كما قال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76].

2 -

وقيل: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة، والطريق المستقيمة هي التي يوصل بها إلى رضا الله عز وجل.

3 -

وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات.

4 -

وقال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى.

5 -

وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به.

6 -

وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.

7 -

وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا

(1)

.

وقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].

ومن جاهد عدوه الكافر، ونفسه بالصبر على الطاعات، وجاهد هواه وشيطانه، فإنما تعود ثمرة تلك المجاهدة عليه

(2)

.

وعلى هذا فمن جاهد نفسه على تدبر القرآن والانتفاع بعظاته والعمل به، وفقه الله للحصول على ذلك والوصول إليه، وهداه لما يحبه ويرضاه، فإذا علم الله من العبد صدق النية والرغبة الصادقة في تدبر القرآن والانتفاع به، وبذل أسباب ذلك، وعلى رأسها الدعاء الذي يلح فيه العبد على ربه، فإن الله يفتح عليه ويهديه إلى أسباب النجاح في ذلك.

(1)

ينظر: تفسير البغوي (6/ 256).

(2)

ينظر: تفسير البغوي (6/ 233)، تفسير ابن كثير (6/ 264)، تفسير السعدي (626).

ص: 8

‌المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب

.

‌المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب

.

لقد اعتنى القرآن العظيم والسنة الشريفة بمسألة عمل القلب وأثره اعتناء كبيراً، فقد جاءت آيات كثيرة في إثبات أثر عمل القلب وتأثره بما يعمل صاحبه، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن قلوب المؤمنين يصيبها الوجل، وتطمئن بذكره، وأنها تخشع وتخضع لأمره، وغير ذلك كثير، وإذا تقرر هذا في حق المؤمنين، فإن القرآن الكريم قد ذكر في مقابل ذلك حال الكفار والمنافقين وتأثر قلوبهم بما يعملون، وذكر سبحانه وتعالى كذلك أثر أمراض قلوبهم عليهم؛ من الختم والطبع، وما أصابها من مرض النفاق، والزيغ عن الحق، والقسوة

وقد جاءت آيات كثيرة في بيان ذلك. وكذلك جاءت أحاديث كثيرة تثبت أثر عمل القلب، ودونك ملخص لإثبات ذلك:

‌أولاً: أمثلة على إثبات أثر عمل القلب على المؤمن مع ذكر شواهدها من القرآن العظيم

.

1 -

وجل القلب وخوفه من الله، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2]. وفيها إثبات أثر ذكر الله على القلب بحصول الوَجَل، ومعناه: الخوف من الله

(1)

، ولا شك أن الذكر لا يحدث أثره في حصول وجل القلب من الله تعالى إلا إذا تواطأ القلب مع الحواس.

2 -

طمأنينة القلب، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 425).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (16/ 432).

ص: 9

‌ثانياً: أمثلة على إثبات أثر مرض القلب على صاحبه وردت في آيات الكتاب العزيز

.

1 -

عقوبة الله لأصحاب القلوب التي كفرت بالله بالختم عليها، وزيغ القلوب عن الحق، فقال تعالى عنهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].

قال البغوي رحمه الله في تفسيره لمعنى الختم على القلوب: "فقال: {خَتَمَ اللَّهُ}: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيرًا ولا تفهمه"

(1)

.

وهذا الختم على القلوب عقوبة لهم بسبب منهم، قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

ومن آثار مرض النفاق على القلوب تقييدها عن الخير بما يحدث لها من التردد والتذبذب والشك والحيرة والكسل عن الطاعات وكرهها، قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. والريب هو الشك، وهو من أثر أمراض النفاق على القلوب، فيتولد منه أثره على القلب بالتردد والتذبذب والكسل عن الطاعة وكرهها، فقال تعالى في بيان أثر النفاق على القلب: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا

(1)

تفسير البغوي (1/ 64 - 65).

ص: 10

3 -

إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143].

وقال تعالى عن المنافقين: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].

4 -

وقال تعالى في بيان أثر مرض النفاق على القلب وأن الله سبحانه وتعالى لا يمكِّن صاحبه من العمل، بل يقعده عنه عقوبةً له على ما في قلبه من مرض:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].

وإذا وجد العبد أنه يثبَّط عن الطاعات، ويحال بينه وبينها، فليفتِّش عن مرض في قلبه.

5 -

أثر الذنوب على القلب في تغطيته وحجبه عن رؤية الحق، كما في قول الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14].

أثبت الله تعالى أن الذنوب تغطي على القلوب، فتحجبها عن رؤية الحق فلا تقبله، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ

(1)

فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ

(2)

قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ

(1)

أي نُقِطَ نقطة في قلبه.

ينظر: الصحاح (1/ 269)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114) لابن الأثير، مادة (نكت).

(2)

وفي أكثر روايات الحديث: "صُقِلَ" بالصاد، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.

ينظر: الصحاح (5/ 1744) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1622)، تحفة الأحوذي (9/ 178) للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.

ص: 11

الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]»

(1)

.

فإذا غطت الذنوب القلب عمي عن رؤية الحق وانطمست بصيرته، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

‌ثالثاً: وقد ورد في السنة ما يبين مكانة عمل القلب وأثره على صاحبه، ودونك إشارة لذلك:

1 -

أثر عمل القلب على صلاح الجسد أو فساده، ويدل عليه ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .

وفي الحديث إشارة -كما يقول ابن رجب رحمه الله: "إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍ للشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات.

وإن كان القلب فاسدًا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب"

(2)

.

2 -

ارتباط التقوى بعمل القلب، يقول صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. الحديث

(3)

وذكر النووي في شرحه للحديث أن التقوى إنما تحصل بما في القلب من الأعمال، فيقول رحمه الله: "إن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة

(1)

أخرجه أحمد (13/ 333) ح (7952)، والترمذي واللفظ له (5/ 434) ح (3334) وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4244)، وابن حبان في صحيحه (3/ 210) ح (930)، الحاكم في مستدركه (2/ 562) ح (3908) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 271) ح (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (13/ 334) ح (7952):"إسناده قوي".

(2)

جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 210).

(3)

أخرجه مسلم (4/ 1986) ح (2564).

ص: 12

الله تعالى وخشيته ومراقبته"

(1)

.

3 -

في بيان أثر مرض الكبر على القلب، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»

(2)

.

وفي الحديث دليل على أثر آفة الكبر على من تلبس بها، وهو من أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم ما يصد القلوب عن الهدى.

(1)

شرح النووي على مسلم (16/ 121).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 93) ح (91).

ص: 13

‌المطلب الثاني: أهمية عمل القلب

.

وتتضح الدلالة على أهمية عمل القلب من خلال الأمور الآتية:

‌أولاً: كثرة ذكرها في القرآن العظيم

، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك.

‌ثانياً: ويكفي في الدلالة على عظيم مكانة عمل القلب في السنة ماورد في الحديثين الآتيين:

1 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»

(1)

، فالقلوب وأعمالها هي محل نظر الرب سبحانه وتعالى،.

2 -

وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»

(2)

، فصلاح الجوارح مرتبط بصلاح القلب، وهذا له أثره الكبير على خشوع المؤمن في صلاته.

‌ثالثاً: تحدث ابن القيم عن أهمية عمل القلب

، فقال رحمه الله: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح

ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان"

(3)

.

وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال القلوب، فلا تتم إلا بها

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1987) ح (2564).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599).

(3)

بدائع الفوائد (3/ 192 - 193).

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 184 - 185)، بدائع الفوائد (3/ 187 - 188).

ص: 14

‌المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات، ونجملها في الآتي:

1 -

قبول الله للعمل، وذلك يكون بشرطين:

أ - مجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى، مما يثمر الحرص على سلامة المقاصد في العبادات من العجب والرياء والسمعة.

ب - مجاهدة النفس على اتباع الهدي النبوي في أداء العبادة والحرص على سلامتها من البدع.

2 -

طهارة القلب من التعلق بغير الله يثمر حضور القلب في العبادة وعدم تشتته في أودية الدنيا، ولايؤدي إلى ضيقه بالعبادة وثقلها عليه؛ لأنه اذا تعلق القلب بالله وحده لا شريك له صفا له قلبه وطهر وصار همه الآخرة، وسلم من التشتت والفتنة التي تضرب بها القلوب المتعلقة بغير الله، فتثبطها عن طاعة الله، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»

(1)

.

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 642) ح (2465)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 266) ح (11690)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (2/ 633) ح (949)، وصححه في صحيح الجامع (2/ 1109) ح (6505).

وأخرجه ابن ماجه (2/ 1375) ح (4105) بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 634) ح (950)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 227) ح (4105).

ص: 15

3 -

الحرص على إتقان العبادة وإتمامها، والاجتهاد في الوصول إلى مقام الإحسان في العبادات، كما قال صلى الله عليه وسلم عن مقام الإحسان:«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

(1)

.

وهذه المرتبة العظيمة لا تحصل إلا إذا سلم القلب لله تعالى، واستحضر عظمة الله ومراقبته له وعلمه واطلاعه عليه، وجاهد العبد نفسه على إصلاح قلبه، وتنقيته من شوائب العجب والرياء والكبر والحسد، ومن بقية الآفات.

(1)

أخرجه البخاري (1/ 19) ح (50)، ومسلم (1/ 36) ح (8).

ص: 16

‌المبحث الثاني: القلب لا يتأثر بالقرآن وينتفع به ويظهر أثره على الجوارح إلا بتحقق المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: الإخلاص لله تعالى والحرص الشديد على سلامة المقصد

.

لأن تلاوة القرآن عبادة لله عظيمة لا تقبل إلا بإخلاص النية لله تعالى، ومجاهدة النفس على التخلص من المقاصد السيئة التي تكون لغير الله تعالى، ولهذا جاء التحذير من الخلل في النية وما يترتب عليه من خسارة عظيمة للعبد في الدنيا والآخرة، ومن ذلك ما ورد من حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»

(1)

.

ومن أعظم ما يخيف المؤمن ما يحدث من خطر عظيم على من يقع في الرياء والعجب بعمله، وأن يحب أن يسمع ثناء الناس عليه عند تلاوته للقرآن في الدنيا، ما يحدث له من موقف مخيف تنخلع منه القلوب من شدة هوله، وتأمل معي في هذا الحديث العظيم الذي ينقل هذا المشهد من يوم القيامة، هذا المشهد الذي أبكى الصالحين بكاء عظيماً وهم قد بلغوا في الصلاح مبلغاً عظيماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بكى منه أبو هريرة رضي الله عنه واغمي عليه، وبكى منه معاوية رضي الله عنه بكاء شديداً، فكيف بمن عداهم؟ دَخَلَ شُفيٌ الأصبحي المَدِينَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا

(1)

أخرجه النسائي (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".

ص: 17

حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثْنَا قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ "، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» وَقَالَ الوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ «أَنَّ شُفَيًّا، هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا» قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي العَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: " قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ؟ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ

ص: 18

وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 – 16] "

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ"

(2)

.

وإذا رسخ في القلب هذه العقوبات المخيفة المترتبة على الخلل في النية والمقصد، فإن ذلك يحدث في القلب خوفاً من الله تعالى وخشية أن تحصل له هذه العقوبات العظيمة المخيفة، فيكون قلبه في خوف عظيم من هذه الآفات التي تورده موارد الهلكة في دنياه وأخراه، فيجاهد نفسه على السلامة من الخلل في نيته ومقصده عند تلاوته للقرآن العظيم وغيره من الأعمال الصالحة،

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 591) ح (2382)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"، وابن حبان (2/ 136) ح (408)، والحاكم في المستدرك (1/ 579) ح (1527) وصححه وأقره الذهبي، وابن خزيمة (2/ 1188) ح (2482)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 114) ح (22)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (2/ 137) ح (408).

(2)

أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).

ص: 19

ويكون دائم التفقد لنيته شديد المحاسبة لنفسه على إخلاص النية لله رب العالمين.

وهنا أحب أن أختصر كلاماً لابن القيم رحمه الله رائعاً نافعاً بإذن الله لمن عرف قدره وهو يتحدث عن فوائد محاسبة النفس، فيقول رحمه الله: "وفى محاسبة النفس عدة مصالح:

منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مَقَتها في ذات الله.

وقال مُطرِّفٌ في دعائه بعرفة: «اللهم لا تَرُدَّ الناس لأجلي»

(1)

.

وقال أيوب السختياني: «إذا ذُكر الصالحون كنتُ عنهم بمعْزِل»

(2)

.

وقال يونس بن عبيد: «إني لأجد مئة خصلة من خصال الخير؛ ما أعلم أن في نفسي منها واحدةً»

(3)

.

وقال محمد بن واسع: «لو كان للذنوب ريح ما قَدَرَ أحد أن يجلس إليّ»

(4)

.

فالنفس داعية إلى المهالك، مُعينةٌ للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متَّبعة لكل سوء؛ فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.

فالنعمة التي لا خَطَر لها: الخروج منها، والتخلصُ من رِقِّها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله، وأعرفُ الناس بها أشدُّهم إزراءً عليها، ومقتًا لها

و مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه في لحظة واحدة أضعافَ أضعافِ ما يدنو بالعمل.

ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار، قال:«إن قومًا من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله إلى نبيهم أنّ فلانًا صدِّيق»

(5)

.

(1)

محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 72).

(2)

محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 76).

(3)

محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 80).

(4)

محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 82).

(5)

محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 77).

ص: 20

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الحسن بن أَتَش، حدثنا منذر، عن وهب:«أن رجلًا سائحًا عبد الله عز وجل سبعين سنة، ثم خرج يومًا، فقلّل عمله، وشكا إلى الله منه، واعترف بذنبه، فأتاه آتٍ من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إليّ من عملك فيما مضى من عمرك»

(1)

.

وفى كتاب «الزهد» للإمام أحمد: «أن رجلًا من بني إسرائيل تعبَّد ستين سنة في طلب حاجة، فلم يظفر بها، فقال في نفسه: والله لو كان فيكَ خير لظفرتَ بحاجتك، فأُتي في منامه، فقيل له: أرأيت إزراءك على نفسِك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين»

(2)

.

ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه. ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تُجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدًّا

فمِن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العبد؛ فإن ذلك يُورِثه مقتَ نفسِه، والإزراء عليها، ويُخلِّصه من العُجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته؛ فإن من حقه أن يُطاع ولا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.

فمَن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلْمَ اليقين أنه غير مؤدٍّ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أُحيل على عمله هلك.

فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسَهم من أنفسهم، وعلَّق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.

وإذا تأمَّلت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا

(1)

الزهد لأحمد بن حنبل (ص 47).

(2)

الزهد لأحمد بن حنبل (ص 303) لفظ الزهد فيه اختلاف وهذا لفظه: عَنِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ:" كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ تَعَبَّدَ زَمَانًا ثُمَّ طَلَبَ إِلَى اللَّهِ عز وجل حَاجَةً وَصَامَ سَبْعِينَ سَبْتًا يَأْكُلُ كُلَّ سَبْتٍ إِحْدَى عَشْرَةَ تَمْرَةً قَالَ: فَطَلَبَ إِلَى اللَّهِ حَاجَةً فَلَمْ يُعْطِهَا قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ مِنْ قِبَلِكِ أُتِيتُ، لَوْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ لَأُعْطِيتَ حَاجَتَكَ وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ سَاعَتَئِذٍ مَلَكٌ، فَقَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ سَاعَتُكَ هَذِهِ الَّتِي أَزْرَيْتَ فِيهَا عَلَى نَفْسِكَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَتِكَ كُلِّهَا الَّتِي مَضَتْ وَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ حَاجَتَكَ الَّتِي سَأَلْتَ ".

ص: 21

ينظرون في حق الله عليهم، ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.

فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولًا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا؟ وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك؛ فإنه يسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلًا خاضعًا، منكسرًا كَسْرًا فيه جَبْرُهُ، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلًا ذلًّا فيه عِزُّه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل، فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى به

ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه: أنه لا يتركه ذلك يُدِلُّ بعمل أصلًا، كائنًا ما كان، ومَنْ أدلّ بعمله لم يصعد إلى الله، كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله، أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي؛ فأبكي حتى يكاد ينبت البَقْل من دموعي، فقال له: إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك، خيرٌ من أن تبكي وأنت تُدِلُّ بعملك؛ فإن صلاة المُدلِّ لا تصعد فوقه، فقال له: أوصني، قال: عليك بالزهد في الدنيا، وأن لا تنازعها أهلَها، وأن تكون كالنّحلة، إن أكلت أكلت طيِّبًا، وإن وضعت وضعت طيبًا، وإن وقعت على عود لم تضرَّه ولم تكسره، وأوصيك بالنصح لله عز وجل نُصْح الكلب لأهله؛ فإنهم يُجِيعونه ويطردونه؛ ويأبى إلا أن يحوطَهم وينصحهم»

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا الجريرى، قال:«بلغني أن رجلًا من بني إسرائيل كانت له إلى الله تعالى حاجة، فتعبد واجتهد، ثم طلب إلى الله حاجته، فلم ير نجاحًا، فبات ليلةً مُزريًا على نفسه، وقال: يا نفس! مالك لا تُقضَى حاجتك؟ فبات محزونًا قد أزرى على نفسه، وألزم الملامةَ نفسه، فقال: أما والله ما من قِبَل ربي أُتِيتُ، ولكن من قِبَل نفسي أُتيتُ، فبات ليلةً مزريًا على نفسه، وألزم الملامة نفسه، فقُضِيت حاجته» "

(2)

. انتهى ما اختصرته من كتاب إغاثة اللهفان

(3)

.

(1)

الزهد لأحمد بن حنبل (ص 81).

(2)

قال محقق إغاثة اللهفان: لم أقف عليه.

(3)

إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 143 - 154 ط عطاءات العلم)

ص: 22

‌المطلب الثاني: الحرص على إتباع الهدي النبوي في هذه العبادة

.

وقد تتبع ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم زاد المعاد- هديه صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة، فقد جمع في ذلك ما ورد من النصوص في هديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع القرآن الكريم، وقد جمع رحمه الله في ذلك كعادته علماً جماً وفيراً، فجزاه الله خير الجزاء وتوسع في ذلك بما لا مزيد عليه، فأحببت أن أختصر منه الآتي

(1)

:

- "كان له صلى الله عليه وسلم حزب يقرؤه لا يخل به وكانت قراءته ترتيلًا، لا هذًّا ولا عجلةً، بل قراءةً مفسَّرةً حرفًا حرفًا. وكان يقطع قراءته آيةً آيةً. وكان يمدُّ عند حروف المدِّ، فيمُدُّ (الرحمن)، ويمُدُّ (الرحيم).

- وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول القراءة، فيقول:«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، وربما كان يقول:«اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» .

وكان تعوُّذه قبل القراءة.

- وكان يحبُّ أن يسمع القرآن من غيره. وأمرَ عبدَ الله بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه.

-وكان يقرأ القرآن قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، ومتوضِّئًا ومحدِثًا. ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة.

- وكان يتغنَّى به، ويرجِّع صوته به أحيانًا، كما رجَّع يوم الفتح في قراءته {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]. وحكى عبد الله بن مغفَّل ترجيعه آآآ ثلاث مرات. ذكره البخاري.

وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله: «زيِّنوا القرآن بأصواتكم» ، وقوله:«ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن» ، وقوله:«ما أذِن اللهُ لشيءٍ كأَذَنِه لنبيٍّ حسَنِ الصَّوت يتغنَّى بالقرآن» = علمتَ أنَّ هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم كان اختيارًا، لا اضطرارًا لهزِّ الناقة له. فإنَّ هذا لو كان لأجل هزِّ الناقة لما كان داخلًا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغفَّل يحكيه ويفعله

(1)

زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (1/ 613 - 632) مع الاحتفاظ بكلامه بحروفه.

ص: 23

اختيارًا لِيُتأسَّى، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول:«كان يرجِّع في قراءته» فنسَب الترجيع إلى فعله. ولو كان من هزّ الراحلة لم يكن منه فعلٌ يسمّى ترجيعًا.

وقد استمع ليلةً لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال:«لو كنتُ أعلم أنَّك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا» ، أي حسَّنتُه وزيَّنتُه بصوتي تزيينًا.

وروى أبو داود في «سننه» عن عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبيد الله بن أبي يزيد: مرَّ بنا أبو لُبابة، فاتبعناه حتى دخل بيته، فإذا رجلٌ رثُّ الهيئة. فسمعته يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن» . قال: فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسَن الصوت؟ قال: يحسِّنه ما استطاع.

-وتوسع رحمه في نقل أقوال أهل العلم في مسألة التغني والتطريب في قراءة القرآن، ثم قال رحمه الله في خاتمة هذه المسألة مرجحاً ومفصلاً للقول الراجح: "وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين:

أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به، من غير تكلُّف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خُلِّي وطبعَه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز، وإن أعان طبيعتَه فضلُ تزيين وتحسين كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه وسلم:«لو علمتُ أنَّك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا» . والحزين ومن هاجه الطربُ والحبُّ والشوقُ لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكنَّ النفوس تقبله وتستحليه وتستملحه لموافقة الطبع وعدم التكلُّف والتصنُّع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكلِفٌ لا متكلِّف. فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغنِّي الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثَّر به التالي والسامع. وعلى هذا الوجه تُحمَل أدلَّةُ أرباب هذا القول كلُّها.

الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، ليس في الطبع السماحةُ به، بل لا يحصل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلَّم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركَّبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلُّم والتكلُّف. فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذمُّوها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها. وأدلَّةُ أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه.

ص: 24

وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبيَّن الصواب من غيره. وكلُّ من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلَّفة التي هي على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها أو يسوِّغوها؛ ويعلمُ قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجًى تارةً، وبطرب تارةً، وبشوق تارةً. وهذا أمر في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارعُ مع شدَّة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه، وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال:«ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن» . وفيه وجهان، أحدهما: أنه إخبار بالواقع، أي كلُّنا نفعله. والثاني: أنه نفيٌ لهَدْيِ من لم يفعله عن هَدْيه وطريقته. والله أعلم" انتهى المقصود من كلام ابن القيم رحمه الله.

ومن هديه صلى الله عليه وسلم: عدم العجلة في ختمه في أقل من ثلاثة أيام؛ لأجل والله أعلم الحرص على تدبره وفهم المقصود منه والعمل به، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَفْقَهُهُ مَنْ يَقْرَؤُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ»

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد (11/ 104) ح (6546) واللفظ له، وقال محقق المسند:«إسناده صحيح على شرط الشيخين» ، ومسند الدرامي (2/ 936) ح (1534) وقال محققه:"إسناده صحيح"، وأبو داود (2/ 54) ح (1390)، وابن ماجه (1/ 428) ح (1347)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 256) ح (1157).

ص: 25

‌المطلب الثالث: ملازمة التوبة النصوح، وكثرة الاستغفار الصادق

.

إن الذنوب تعمي القلب فلا يبصر الحقائق، ويضيق من القرآن وينفر منه، ويعمى عن هداياته، فلا يرى النور الذي فيه، قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

وكما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ

(1)

فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ

(2)

قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]»

(3)

.

وكذلك فتن الشبهات والشهوات إذا عرضت على القلب وتشربها فإنها تعميه عن الحق، وعن نور القرآن، فلا يقبل ما فيه من الهدى بل ينقلب قلبه فلا يقبل إلا الهوى، وينفر من الحق والهدى، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ

(1)

أي نُقِطَ نقطة في قلبه.

ينظر: الصحاح (1/ 269)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114) مادة (نكت).

(2)

وفي بعض روايات الحديث: "سُقِلَ" بالسين، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.

ينظر: الصحاح (5/ 1744) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1622).

(3)

أخرجه أحمد (13/ 333) ح (7952)، والترمذي واللفظ له (5/ 434) ح (3334) وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في سننه (2/ 1418) ح (4244)، وابن حبان في صحيحه (3/ 210) ح (930)، الحاكم في مستدركه (2/ 562) ح (3908) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 271) ح (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (13/ 334) ح (7952):"إسناده قوي".

ص: 26

مُرْبَادًّا

(1)

كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»

(2)

.

ولا شك أن للذنوب والمعاصي أثرًا كبيرًا في إفساد القلب، وضررها عظيم عليه، "وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! "

(3)

.

وهذا الداء الخطير على القلوب الذي يفسدها ويبعدها عن كتاب ربها، قد جعل الله له علاجًا، وهو الاستغفار والتوبة.

قال تعالى في بيان أثر الاستغفار: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].

وقال سبحانه وتعالى في بيان ثمرات الاستغفار والتوبة: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].

وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].

والذي يظهر من أقوال المفسرين في زيادة القوة أنها قوة حسية ومعنوية، يجدون أثرها في حياتهم

(4)

.

(1)

مربادًّا من الرُبدَةِ: لَوْنٌ يميل إلى الغُبْرَة، وهو لون يخالط سواده كدرة غير حسنة.

ينظر: الصحاح (2/ 472)، مقاييس اللغة (2/ 475) مادة (ربد).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 128) ح (144).

(3)

الجواب الكافي (1/ 98).

(4)

ينظر: تفسير الطبري (12/ 445)، تفسير البغوي (4/ 183)، تفسير ابن كثير (4/ 329)، فتح القدير للشوكاني (2/ 573)، تفسير السعدي (383).

ص: 27

ولا شك أن المسلم بحاجة ماسة لهذه القوة التي يعينه الله بها على الإقبال على القرآن وكثرة تلاوته.

وجاء الأمر بالتوبة فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وينظر المسلم إلى حال القدوة صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يبذل جهدًا عظيمًا في كثرة الاستغفار والتوبة، وذلك ما يجعله يسابق وينافس في هذا المضمار لينال ثمرة ذلك في حياته، فيفتح له في الإقبال على تلاوة الكتاب العزيز وتدبره، وسائر طاعته.

يقول أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»

(1)

.

ويَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ»

(2)

.

ومن رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة، فعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(3)

.

بل الأمر أعظم من ذلك، فالله يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا قرّبه النبي صلى الله عليه وسلم بمثال؛ ليظهر منه عظيم فرحة الرب سبحانه وتعالى بتوبة عبده.

يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى

(1)

أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6307).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (30/ 226) ح (18294)، والسنن الكبرى للنسائي (9/ 168) ح (10205)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 435) ح (1452)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (30/ 226) ح (18294):"حديث صحيح".

(3)

أخرجه مسلم (4/ 2113) ح (2759).

ص: 28

مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»

(1)

.

وحتى يحصل من التوبة والاستغفار أثرهما على صلاح القلب وإقبال المسلم على تلاوة كتاب ربه وفهمه والتلذذ به، فلا بد من مراعاة أمور

(2)

، وهي:

1 -

الإخلاص لله تعالى في هذه التوبة، وأن يكون المقصد منها وجه الله تعالى.

لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لله وأريد به وجهه، وأن يكون موافقاً للسنة، فترد التوبة على صاحبها إذا أراد بها التقرب من أحد أو الحصول على مكسب من مكاسب الدنيا قال صلى الله عليه وسلم في بيان ذلك: فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»

(4)

.

وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»

(5)

.

2 -

الندم على ما حصل من الذنب.

عَنِ ابْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» ، قَالَ: نَعَمْ "

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2103) ح (2744).

(2)

ينظر في شروط التوبة: رياض الصالحين (33 - 34)، التوبة إلى الله (ص 21 - 25)

(3)

أخرجه (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".

(4)

أخرجه مسلم (3/ 1343) ح (1718).

(5)

أخرجه مسلم (3/ 1343) ح (1718).

(6)

أخرجه أحمد (6/ 37) ح (3568)، وابن ماجه (2/ 1420) ح (4252)، والحاكم (4/ 271) ح (7612) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1150) ح (6802)، وصححه محقق المسند.

ص: 29

وعكس الندم ما يحصل من المجاهرة بالذنوب التي عملها، وكأنها شيء يتمدح به في المجالس وهذه المجاهرة خطر عظيم على صاحبها قال صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ»

(1)

.

3 -

الإقلاع عن الذنب مع العزم على عدم العودة للذنب.

وقد ذكر الله في كتابه من صفات عباده المتقين أنهم لا يصرون على الذنب وإذا وقعوا فيه تذكر الله وتذكروا ما توعد به العاصين ووعد المتقين فبادروا إلى التوبة والاستغفار مع ندم وعزم على عدم العودة إلى الذنب ويسارعون إلى الإقلاع عنه ولا يستمرون ويصرون عليه وهم يعلمون أنه ذنب، فقال تعالى عنهم:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: " .. وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ"

(2)

.

4 -

وإذا كان الذنب في حقوق الآدميين، فلا بد من إرجاعها لهم أو طلب السماح.

لأن حقوق العباد من مال ونحوه لا يقبل توبة صاحبها حتى يرجعها إليه أو يستسمحه، لأن العبد يوم القيامة يأمره الله بأن يعيد الحقوق إلى إصحابها وذلك بدفع حسانته إلى أصحاب الحقوق حتى يستوفوا حقهم أو إذا لم يكن له حسنات أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه ثم يطرح في النار كما حديث المفلس قال صلى الله عليه وسلم:«أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ» ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ

(1)

أخرجه البخاري (8/ 20) ح (6069).

(2)

ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، كما رجح ذلك ابن حجر رحمه الله في الفتح (13/ 471)، ورجح وقفه أيضاً غيره.

ص: 30

هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»

(1)

.

5 -

حضور القلب عند التوبة والاستغفار، فتكون التوبة والاستغفار باللسان والقلب، فيحدث أثر التوبة في القلب، وهذا الأثر يحدث -والله أعلم- مع كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه مع التكرار يحضر القلب ويحدث الأثر فيه، ولذا جاءت النصوص بالإكثار من التوبة والاستغفار، كما سبق في الأحاديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحثه لأمته.

6 -

البحث عن جلساء صالحين يعينونه على الخير، والاستمرار على التوبة، كما في حديث قاتل المائة، فقد حثه العالم على الذهاب إلى قرية الصالحين حتى يجد من يعينونه على توبته

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1997) ح (2581)، وهذا لفظ الترمذي (4/ 613).

(2)

وقد دل على هذا حديث أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» .

أخرجه مسلم (4/ 2118) ح (2766).

ص: 31

‌المطلب الرابع: كثرة الدعاء والإلحاح فيه على الله أن يرزق العبد حلاوة تلاوة القرآن والتلذذ به، واجتماع القلب عليه، وحسن تدبره

.

ومما يدل على المكانة العظيمة للدعاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»

(1)

.

وأفاد الملا على القاري رحمه الله في شرحه لهذا الحديث بأن الدعاء: "هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة لدلالته على الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه، قائمًا بوجوب العبودية، معترفًا بحق الربوبية، عالمًا بنعمة الإيجاد، طالبًا لمدد الإمداد على وفق المراد وتوفيق الإسعاد"

(2)

.

قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ»

(3)

.

وهذا دعاء عظيم ينبغي أن يقبل القلب عليه، له ارتباط بالتلذذ بالقرآن والطلب من الله أن يذهب عن العبد الهم والحزن، ويكون ذلك بأثر القرآن على قلبه، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (30/ 340) ح (18391)، وأبو داود (2/ 76) ح (1479)، والترمذي (5/ 375) ح (3247) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1258) ح (3828)، والحاكم (1/ 667) ح (1802) وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 641) ح (3407)، وقال محقق المسند (30/ 340) ح (18391):"إسناده صحيح".

(2)

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1527).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (14/ 360) ح (8748)، والترمذي (5/ 455) ح (3370) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ القَطَّانِ .. "، وابن ماجه (2/ 1258) ح (3829)، وحسن إسناده الألباني في صحيح الجامع (2/ 951) ح (5392)، وكذلك شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 6) ح (3829).

ص: 32

عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا "، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: " بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا "

(1)

.

أما أثر الدعاء على صلاح القلب فأثره عظيم، وما يترتب على ذلك من المعاني العظيمة، ومنها:

1 -

الشعور بمعية الله له وقربه منه.

2 -

قوة القلب وثباته وشجاعته.

3 -

صلاح القلب وثباته على الحق.

فإذا صدق العبد في الطلب والإلحاح على ربه أن يرزقه تدبر القرآن وفهمه على ما يحب ويرضى وأن يرزقه التلذذ به، فإن ثمرة ذلك شعور العبد برقة في قلبه يظهر أثرها على جوارحه خشوعاً وبكاء من خشية الله، عند تلاوة القرآن أو سماعه.

(1)

أخرجه أحمد (6/ 246 - 247) ح (3712)، والبزار (5/ 363) ح (1994)، وأبو يعلى (9/ 198) ح (5297)، وابن حبان (3/ 253) ح (972)، وقال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 136) ح (17129)"ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 361) ح (1822)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند ح (4318)(4/ 215).

ص: 33

‌‌

‌المطلب الخامس: شعور العبد في قلبه بعظمة أثر القرآن

(1)

.

وصف الله القرآن بأنه عظيم في أكثر من آية، فمنها:

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ 67 أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67 - 68].

وتتجلى عظمة القرآن في الأمور الآتية:

1 -

عظمة منزله سبحانه وتعالى، وتدرك عظمة الله من خلال حديثه عن نفسه تبارك وتعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].

وقال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج: 74

وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].

وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66].

وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].

(1)

ينظر في ذلك: عظمة القرآن الكريم للدكتور محمود الدوسري أصله رسالة ماجستير، موجودة على الشبكة، كتاب عظمة القرآن وتعظيمه وأثره في النفوس في ضوء الكتاب والسنة للدكتور. سعيد بن علي بن وهف القحطاني.

ص: 34

وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15 – 16].

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]

(1)

.

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَقْبِضُ اللهُ تبارك وتعالى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ "

(2)

.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَطْوِي اللهُ عز وجل السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ "

(3)

.

وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" يَأْخُذُ اللهُ عز وجل سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللهُ - وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا - أَنَا الْمَلِكُ " حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (6/ 126) ح (4811)، ومسلم واللفظ له (4/ 2147) ح (2786).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2787).

(3)

أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2788).

(4)

أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2788).

ص: 35

ومن الأدلة على عظمة الله، عظمة مخلوقاته، ومن ذلك قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].

وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 – 76].

وقال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ»

(1)

.

وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ"

(2)

.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ»

(3)

.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فالسموات السبع والأرضين السبع في كفه تعالى كخردلة في كف أحدكم، يعني: السموات السبع على عظمها والأرضين السبع مثلما لو وضع الإنسان في يده خردلة -وهي حبة الخردل التي بكبر حبة السمسم- وهذا أيضا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فالله تعالى أعظم وأجل، فكل المخلوقات بالنسبة له تعالى ليست بشيء"

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4/ 232) ح (4727)، وقال ابن كثير في تفسيره (8/ 212):" وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات"، وقال الذهبي في العلو للعلي الغفار (97) ح (234):"إسناده صحيح"، وفي فتح الباري لابن حجر (8/ 665):"إسناده على شرط الصحيح"، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 282) ح (151).

(2)

أخرجه محمد ابن أبي شيبة في العرش (432) ح (58)، وابن حبان في صحيحه (2/ 76) ح (361)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (7/ 181) ح (136)، وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 411):"وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه بن حبان .. وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح عنه"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 226) ح (109).

(3)

تفسير الطبري ط هجر (20/ 246).

(4)

تفسير العثيمين لسورة سبأ (171).

ص: 36

2 -

عظمة من نزل بالقرآن الكريم وهو جبريل عليه السلام أمين الله على وحيه، قال الله تعالى عنه:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194].

وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ 19 ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ 20 مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21].

وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].

وقال تعالى في وصف جبريل عليه السلام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5].

3 -

ومما يدل على عظمة القرآن شدة تأثيره على الجمادات، فقال تعالى عنه:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى مادحاً للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومفضلاً له على سائر الكتب المنزلة قبله: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} أي: لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله"

(1)

.

4 -

ومما يدل على عظمة القرآن إقسام الله به وعليه في آيات كثيرة منها:

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 460).

ص: 37

قال تعالى: {يس 1 وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 - 2].

وقال تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1].

وقال تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1].

وقال تعالى: {حم 1 وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ 2 إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1 - 3].

وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ 75 وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ 76} إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ 77 فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ 78 لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ 79 تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 75 - 80].

وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ 38 وَمَا لَا تُبْصِرُونَ 39 إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ 40 وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ 41 وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ 42 تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38 - 43].

5 -

ومما يدل على عظمة القرآن العظيم ما ذكره الله عز وجل له من صفات عظيمة، ومن ذلك:

‌أولاً: قال تعالى عنه وهو يبين عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله: {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا} [الإسراء:

88].

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ 33 فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33 - 34]

ثم نزل معهم في التحدي إلى عشر سور فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، فعجزوا، فتنزل معهم إلى سورة واحدة، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ

ص: 38

قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، فعجزوا «وقد سمع هذا التحدِّي من سمع القرآن وعرفه الخاص والعام، ولم يتقدم أحد على أن يأتي بسورة مثله من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم، وإلى قيام الساعة، والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف آية ومائتي آية، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع بذلك التحدي والإعجاز؛ ولهذا كان القرآن يُغني عن جميع المعجزات الحسِّية والمعنوية؛ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإعجازه في وجوه كثيرة: الإعجاز البلاغي والبياني، والإخبار عن الغيوب بأنواعها، والإعجاز التشريعي، والإعجاز العلمي الحديث؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(1)

»

(2)

.

‌ثانياً: وقال تعالى في بيان أنه كتاب هداية:

- هداية لما فيه سعادة العبد في كل شؤون الدنيا والآخرة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرا} [الإسراء: 9].

القرآن تبيانٌ لكل شيء: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

- وقال تعالى في بيان أنه هدى للمتقين: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ

(1)

أخرجه البخاري (6/ 182 ط السلطانية) ح (4981)، ومسلم (1/ 134 ت عبد الباقي) ح (152).

(2)

عظمة القرآن وتعظيمه وأثره في النفوس في ضوء الكتاب والسنة (ص 9).

ص: 39

- هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].

«وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومبين للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم، في دنياهم وأخراهم»

(1)

.

- وقد وصفه الله بأنه نور يهدي من استمسك به واعتصم إلى سعادة الدنيا والآخرة ويخرجهم به من ظلمات الشك والشبه والجهل والحيرة إلى نور الهداية والى الطريق المستقيم الموصل إلى جنة النعيم، فقال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16].

وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا 1 يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا} [الجن: 1 - 2].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا 174 فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيما} [النساء: 174 - 175].

‌ثالثاً: شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:

57].

(1)

تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص 40)

ص: 40

وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارا} [الإسراء: 82].

‌رابعاً: من اتبعه لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، قال تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:

123].

عن ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما، قال:"تضمن الله لمن قرأ القرآن، واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} "

(1)

.

وقال تعالى: {طه 1 مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى 2 إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى 3 تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 1 - 4].

وفي المقابل من أعرض عنه فقد توعده الله بالشقاء والضنك في الدنيا والآخرة ويعمى الله بصره حقيقة في الآخرة جزاء إعراضه عن آياته، فقال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى 126 وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124 - 127].

‌خامساً: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:

41 - 42].

(1)

تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (16/ 191).

ص: 41

‌سادساً: تكفَّل الله بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:

9].

6 -

ومما يدل على عظمة القرآن وصية النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالتمسك به في أكثر من حديث للنجاة من الفتن والضلالات، ومن ذلك:

يقول صلى الله عليه وسلم: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:«اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «قَدْ يَئِسَ الشَّيْطَانُ بِأَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَاقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم .. "

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 890) ح (1218).

(2)

أخرجه البزار (15/ 385) ح (8993)، والحاكم (1/ 172) ح (319)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 566) ح (2937).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 171) ح (318) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 125) ح (42).

ص: 42

‌‌

‌المطلب السادس: حرص العبد على تدبر القرآن العظيم

(1)

.

‌أولاً: معنى التدبر وأنواعه

.

تدور عبارات المفسرين في معنى التدبر على إعمال الفكر والنظر مرة بعدة مرة، وذلك بالتأمل والتفهم في آي القرآن الكريم؛ للتوصل إلى معانيه ومقاصده والاتعاظ بها

(2)

.

والتدبر نوعان:

الأول: تدبر التلاوة: وهو أن يتدبر القارئ فيما يتلوه، فيحضر قلبه عند تلاوته، ويعمل ذهنه في فهم ما يتلوه مرة بعد مرة حتى يرسخ معنى الآية في قلبه، فيزيد الإيمان وتدمع العين من خشوع القلب وتأثره بكلام ربه سبحانه، كما سيأتي مزيد تفصيل في هذا الأمر.

والثاني: تدبر الاستماع: وهو أن يستمع للقران العظيم مع إنصات كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].

ويقول ابن تيمية رحمه الله: "ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله، وتَدَبَّره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة، والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام، لا مَنظومِه ولا منثورِه"

(3)

وقال السعدي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : "هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في

(1)

ينظر في ذلك: الخلاصة في تدبر القرآن، القواعد والأصول وتطبيقات التدبر، كلاهما للدكتور: خالد السبت، وقد استفدت منهما كثيراً في هذا الموضوع، وكتاب مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، للدكتور: مساعد الطيار.

(2)

ينظر: الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص 14)، أضواء البيان (3/ 334).

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 270).

ص: 43

الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.

وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيراً كثيراً وعلماً غزيراً، وإيماناً مستمراً متجدداً، وهدى متزايداً، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.

ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات .. "

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: "روي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.

وقال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر

(2)

، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نوراً"

(3)

.

(1)

تفسير السعدي (ص 314).

(2)

نقله عنه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 284).

(3)

تفسير القرطبي (11/ 176).

ص: 44

‌ثانياً: أهمية التدبر والأدلة عليه

.

تدبر كتاب الله له أهمية عظيمة وأثر كبير على حياة قلب المؤمن، ومن ذلك

(1)

:

1 -

اكتسب أهميته وشرفه لتعلقه بفهم كتاب الله فلذا صار من أشرف الأمور وأجلها وأفضلها.

2 -

ولأن الله أمر به وأوجبه على عباده المؤمنين، فقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرا} [النساء: 82].

وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

وهذا الخطاب وإن كان في أصله موجه إلى غير المسلمين، فلزوم التدبر ووجوبه على المسلم من باب أولى، ولهذا استنبط العلماء وجوب التدبر على المسلم من قوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} فقال القرطبي رحمه الله: "ودلت هذه الآية

(2)

وقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه"

(3)

.

وقال الشنقيطي رحمه الله بعد أن أورد آيات التدبر فختم الكلام عليها بقوله: "وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به، أمر لا بدَّ منه للمسلمين"

(4)

.

3 -

إن الله جعل التدبر مقصوداً من إنزاله، فقال سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

(1)

ينظر في ذلك: الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص 21)، وخطبة عن وجوب تدبر القرآن، د. محمود الدوسري على شبكة الألوكة.

(2)

يعني قوله تعالى في سورة النساء: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرا} .

(3)

تفسير القرطبي (5/ 290).

(4)

أضواء البيان (7/ 458).

ص: 45

قال الشنقيطي رحمه الله معلقاً على الآية السابقة: " وأما كون تدبر آياته، من حِكَم إنزاله، فقد أشار إليه في بعض الآيات، بالتحضيض على تدبره، وتوبيخ من لم يتدبره، كقوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرا} [النساء: 82]، .. وقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]

(1)

.

وقال رحمه الله

(2)

في موطن آخر معلقاً على قوله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]: " وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإِنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله، جاء موضحًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرا} [النساء: 82]، .. وقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، وقوله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: 57] الآية، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22].

ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات القرآن العظيم، أي تصفحها وتفهمها، وإدراك معانيها، والعمل بها؛ فإنه معرض عنها، غير متدبر لها، فيستحق الإِنكار والتوبيخ المذكور في الآيات، إن كان الله أعطاه فهمًا يقدر به على التدبر، وقد

(1)

أضواء البيان (7/ 34).

(2)

أي الإمام الشنقيطي.

ص: 46

شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورا} [الفرقان: 30].

وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به، أمر لا بدَّ منه للمسلمين.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المشتغلين بذلك هم خير الناس، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح

(1)

من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» ، وقال تعالى:{وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].

فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له، من أعظم المناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى .. " انتهى المقصود من كلامه رحمه الله

(2)

.

4 -

إنه الطريق إلى معرفة العبد لخالقه جل جلاله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو الطريق إلى معرفة صراطه المستقيم الذي أمر العباد بسلوكه.

قال الآجري رحمه الله: «ومن تدبر كلامه، عرف الربَّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تَفَضُّله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فَرْضِ عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رَغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وَعَزَّ بلا عشيرة، وأَنِس بما يستوحش منه غيره، وكان هَمُّه عند التلاوة للسّورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلو؟! ولم يكن مراده: متى أختم

(1)

أخرجه البخاري (6/ 192) ح (5027).

(2)

أضواء البيان (7/ 457 - 458).

ص: 47

السّورة؟! وإنما مراده: متى أعقل عن الله الخطاب؟! متى أزدجر؟! متى أعتبر؟! لأن تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة» اهـ

(1)

"

(2)

.

5 -

قال ابن القيم رحمه الله: "وبالجملة؛ فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه.

فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية هو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مئة مرة، ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن"

(3)

.

(1)

أخلاق أهل القرآن (ص 36 - 37).

(2)

الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص 23 - 24).

(3)

مفتاح دار السعادة (1/ 535).

ص: 48

‌ثالثاً: ذم السنة لقوم اشتهروا بكثرة التلاوة بدون تدبر لمعانيه وفهمه على طريقة الصحابة

.

لقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم: في أكثر حديث القوم الذين يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم، مع كثرة تلاوتهم للقرآن لدرجة أن الصحابة رضوان الله عليهم يحقرون قراءتهم أمام قراءة هؤلاء الذين ضلوا عن الحق واتبعوا الأهواء وفهموا كلام الله وفسروه على حسب أهوائهم وترك فهم الصحابة للقرآن واحتقروه لأن الشيطان لهم سوء عملهم فرأوه حسناً، قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي القِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الفُوقِ»

(1)

.

وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ» الحديث

(2)

.

وفي الأحاديث إشارة عظيمة مهمة تتعلق بأمر القلب وهي قوله صلى الله عليه وسلم: " لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ"، "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ" أي: لم يصل إلى قلوبهم، إذن ليست العبرة بكثرة تلاوة القرآن وكثرة الصلاة والصيام بدون فهم للقرآن كما فهمه الصحابة وسلف الأمة، بل حال هؤلاء الخوارج تدين ظاهري لم يصل إلى القلب لينتفع به، بل العبرة والمطلوب هو العمل وفهم القرآن على طريقة السلف الفهم الذي يجعل الآيات تنزل إلى القلب، فينتفع بها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لذلك الرجل الذي يقرأ المفصل في ركعة -وهو يبين الخطأ

(1)

أخرجه البخاري (6/ 197) ح (5058).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (21/ 51) ح (13338)، وأبو داود (4/ 243) ح (4765)، والحاكم (2/ 160) ح (2648) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 684) ح (3668).

ص: 49

الذي وقع فيه-: "هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ

(1)

! إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ"

(2)

.

‌رابعاً: وسائل التدبر

.

ولهذا التدبر عدة وسائل، منها:

1 -

الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل التلاوة.

قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

وذكر ابن القيم رحمه عدة فوائد وثمرات للاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل التلاوة واختصر منها الآتي:

- "ومنها، أن القرآن شفاء لما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أَثَّره فيها الشيطان، فأمر أن يطرُدَ مادة الداء، ويُخلِي منه القلب، ليصادف الدواء محلًّا خاليًا، فيتمكّن منه، ويؤثِّر فيه .. فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحمٍ ومُضادٍّ له، فينجع فيه.

- ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نارٌ يحرق النبات أولًا فأولًا، فكلما أحسَّ بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأُمر أن يستعيذ بالله منه؛ لئلا يُفسِد عليه ما يحصل له بالقرآن.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله: أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفى الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.

-

ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى

(1)

الهذُّ: السرعة، والمراد به هنا: سرعة قراءة القرآن كما يسرع في قراءة الشعر.

ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 255) مادة (هذذ).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 563) وسيأتي الأثر بتفصيل أكثر.

ص: 50

- الشيطان في أُمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته .. فإذا كان هذا فعله مع الرسل، فكيف بغيرهم؟

ولهذا يُغلِّط القارئ تارة، ويخلط عليه القراءة، ويشوِّشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يُشوِّش عليه فهمه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يَعدمْ منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: استعاذة بالله منه عند القراءة.

- ومنها: أن الشيطان أحرصُ ما يكون على الإنسان عندما يهُمُّ بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذٍ ليقطعه عنه .. فالشيطان بالرَّصدِ للإنسان على طريق كل خير .. فهو بالرَّصد، ولاسيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدُوَّه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله منه أولًا، ثم يأخذ في السير"

(1)

.

2 -

أن يشعر بأن القرآن خطاب موجه له من الله تعالى

(2)

.

أَتَى رَجُلٌ إلى عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ:"إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا}، فَأَصْغِ لَهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُصْرَفُ عنه"

(3)

.

وقال الحسن البصري رحمه الله عن القرآن: " .. وإن من كان قبلكم رأوه رسائل إليهم من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار"

(4)

.

وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: " من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم "

(5)

.

(1)

إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 158 - 161).

(2)

ينظر: الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص 66 - 67).

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 211) رقمه (50).

(4)

تفسير ابن عطية (1/ 39).

(5)

تفسير الطبري (9/ 182).

ص: 51

وقال سلم الخواص رحمه الله: "قلت لنفسي: يا نفس، اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به، فجاءت الحلاوة"

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: " إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله"

(2)

.

وقال أيضاً: " وبالجملة فمن قرئ عليه القرآن فليقدر نفسه كأنما يسمعه من الله يخاطبه به، فإذا حصل له مع ذلك السماع به، وله، وفيه ازدحمت معاني المسموع ولطائفه وعجائبه على قلبه وازدلفت إليه بأيها يبدأ، فما شئت من علم وحكم، وتعرف وبصيرة، وهداية وعبرة"

(3)

.

وقال والد محمد إقبال لابنه لما رأه يكثر من تلاوة القرآن، يا بني إذا أردت أن تفقه القرآن فأقرأه كأنه أنزل عليك

(4)

.

فقيل: إنه كان بعد ذلك إذا قرأ القرآن يبل ورقات المصحف بدموعه

(5)

.

3 -

تكرار الآية أو الآيات في الموضوع الواحد.

فهذا التكرار له أثره العظيم على حضور القلب، وفهم ما يتلوه، وحسن تدبره له، وهو منهج نبوي، فقد ردد النبي صلى الله عليه وسلم آية في صلاة الليل حتى أصبح، يَقُولُ أبو ذر رضي الله عنه:«قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا» وَالْآيَةُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]

(6)

.

(1)

سير أعلام النبلاء (8/ 180).

(2)

الفوائد (1/ 3).

(3)

مدارج السالكين (2/ 166).

(4)

ينظر: محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره (24).

(5)

سمعته قديماً ولا يحضرني من قاله.

(6)

أخرجه أحمد (35/ 310) ح (21388)، والنسائي (2/ 177) ح (1010)، وابن ماجه (1/ 429) ح (1350)، والحاكم (1/ 367) ح (879) وصححه ووافقه الذهبي، وحسن إسناده محقق المسند، وحسنه كذلك الألباني في تحقيقه لسنن ابن ماجه (1/ 429) ح (1350).

ص: 52

قال ابن القيم رحمه الله: " فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية هو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مئة مرة، ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.

وهذه كانت عادة السلف، يردد أحدهم الآية إلى الصباح .. فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب.

ولهذا قال ابن مسعود: «لا تهذوا القرآن هذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب» .

وقال ابن مسعود ــ أيضا ــ: «اقرؤوا القرآن، وحركوا به القلوب، لا يكن هم أحدكم آخر السورة» .

وروى أيوب، عن أبي جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث. قال:«لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ» "

(1)

.

وعن عباد بن حمزة قال: "دخلت على أسماء وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، قال: فوقفت عليها، فجعلت تستعيذ وتدعو، قال عباد: فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو"

(2)

.

وعَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ رَدَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحَ:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]

(3)

.

وعَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، قَالَ: " لَمَّا تُوُفِّيَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ دَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى أُخْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرِينَا عَنْهُ. فَقَالَتْ: قَامَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ حم، فَلَمَّا أَتَى عَلَى

(1)

مفتاح دار السعادة (1/ 535 - 536).

(2)

مصنف ابن أبي شيبة (4/ 309 ت الشثري) رقم (6176).

(3)

الزهد لوكيع (ص 388).

ص: 53

هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18] فَمَا جَاوَزَهَا حَتَّى أَصْبَحَ "

(1)

وقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الصَّلَاةِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً:{وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]

(2)

.

وردد ابن مسعود رضي الله عنه: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]

(3)

.

وردد أيضاً: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]

(4)

.

وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى: {لَهُم مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] رددها إلى السحر

(5)

.

4 -

أن يعيش بقلبه وأحاسيسه في معنى الآيات، ويسبح بفكره في معانيها، فيحرك قلبه بها، ويتصور مشاهدها كأنها رأي عين.

وهذا يحصل مع تكرار الآية أو الآيات في الموضوع الواحد، ولابد من صفاء النية ونقائها وإخلاصها لله، مع الدعاء الذي يلح فيه على ربه أن يرزقه تدبر الآيات كما يحب ويرضى الذي يؤدي إلى خشوع قلبه وتأثره بالآيات وزيادة إيمانه وخشوع جوارحه وبكاؤه من خشية الله ..

5 -

أن يحاسب نفسه إذا لم يجد أثراً للآيات في قلبه.

ولن تحصل المحاسبة للنفس إلا شعر في قلبه بأهمية تدبر القرآن، وشعر كذلك أنه ما قسى قلبه إلا بسبب ذنوبه وغفلته عن ربه فيسارع إلى الندم والاستغفار

(1)

حلية الأولياء (4/ 158).

(2)

فضائل القرآن - أبو عبيد (ص 148).

(3)

التبيان في آداب حملة القرآن (ص 86).

(4)

التبيان في آداب حملة القرآن (ص 86).

(5)

التبيان في آداب حملة القرآن (ص 86).

ص: 54

والتوبة الصادقة من قلبه، ثم يقوم بلوم نفسه لماذا يا نفس لا يأثر فيك القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته كما قال الله تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

6 -

الرجوع لتفسير مختصر لفهم بعض الآيات التي يشكل على القارئ معناها.

وهي قليلة لأن أكثر آيات القرآن من الآيات المحكمة التي يفهم العربي معناها، ومع ذلك إذا احتاج إلى فهم معنى آية رجع إلى مختصر التفسير حتى يتمكن من تدبرها والانتفاع بها، ويستحسن أن يكون معه مصحف بهامشه مختصر التفسير، حتى إذا أشكل عليه فهم آية رجع من قريب.

7 -

ترتيل الآيات وتحسين الصوت بقدر الوسع بدون تكلف.

وللصوت الحسن أثر في زيادة تدبر الآية أو الآيات التي يريد تدبرها مع تكراره لها يحاول أن يحسن صوته بها حتى يصل الخشوع والتأثر إلى قلبه، فينزل أثر الآيات إلى القلب ومن ثم إلى الجوارح فيقشعر الجسد وتدمع العين من التأثر الناتج عن تكرار الآية أو الآيات مع تحسين الصوت والقراءة بنبرة الحزن أكثر أثراً من غيرها

8 -

أن يحرص على الخلوة مع ربه في ظلمة الليل عند تدبره للآيات.

بقدر ما يستطيع يحرص على الخلوة مع ربه عند تدبره للآيات، لأن ادعى لانقطاع الشواغل عنه وبعده عن العجب والرياء والسمعة الآفات الممرضة للقلب والقاطعة بينه وبين بركة التدبر، فهي أشد خطراً على القلب من السموم على الجسد، وتلاوة القرآن وتدبره وترتيله وتحسين الصوت به، مما ينفذ من الشيطان إذا وجد في القلب مدخلاً من حب تلك الأمور المهلكة التي ربما لا يشعر بخطرها لضعف إيمان القلب فتردية في أودية الخسارة في الدنيا والآخرة والحرمان وقلة التوفيق، ولذا على من كان لا بد له أن يتصدى للظهور إما لإمامة الناس

ص: 55

وتعليمهم أو يظهر على المواقع والقنوات ونحوها للتلاوة يلزم عليه أن يكون على حرص تام من تسرب شوائب العجب وحب السمعة والرياء إلى قلبه، دائم المحاسبة لنفسه حريصاً كل الحرص على سلامة مقاصده مجاهداً لنفسه، ينظر لها بمنظار صاف، لا يجامل مع نفسه ولا يداهن معها، ومع ذلك يكون داعياً ملحاً في الدعاء على ربه أن يرزقه الإخلاص لوجهه الكريم وأن يجيره من الرياء والسمعة والعجب بعمله.

ووقت الليل أكثر صفاء من وقت النهار، يقول ابن حجر رحمه الله معلقاً على مدارسة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من رمضان:"وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم، لأن الليل مظنة ذلك؛ لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية"

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: «ينبغي للمرء أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر، وفي صلاة الليل أكثر .. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة .. وإنما رُجِّحت صلاة الليل وقراءته؛ لكونها أجمع للقلب، وأبعد عن الشاغلات والمُلْهِيَات والتصرف في الحاجات، وأصون عن الرياء وغيره من المُحْبِطَات، مع ما جاء به الشرع من إيجاد الخيرات في الليل

(2)

.. »

(3)

.

والخلوة مع الله في ظلمة الليل واقفاً بين يديه قائماً راكعاً ساجداً لتلاوة كتابه وتدبر آياته لها طعم وحلاوة ولذة لا مثيل لها.

يقول من ذاق ذلك: " أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء"

(4)

.

عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «تَفَقَّدُوا الْحَلَاوَةَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْقُرْآنِ وَفِي الذِّكْرِ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهَا

(1)

فتح الباري (9/ 45).

(2)

وذكر رحمه الله لهذا أمثلة من الأسراء والمعراج، ونزول الله في ثلث الليل الآخر

(3)

التبيان في آداب حملة القرآن (82 - 84) ط المنهاج.

(4)

نقله في تاريخ دمشق لابن عساكر (34/ 146) عن أبي سليمان الدارني.

ص: 56

فَامْضُوا وَأَبْشِرُوا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ»

(1)

.

9 -

أن يفرغ نفسه مما يشوش عليه قلبه وفكره -من الشواغل- عند التلاوة أو الاستماع لها، ويبحث عما هو أنفع لقلبه.

وقد سبقت الإشارة إلى شيء من هذا فيما سبق ولكن هنا أنبه على بعض الأمور:

الأول: أن يختار القارئ أو من يسمع الأنفع لقلبه، الذي يجده من خلال ما جربه مع نفسه، فبعضهم يخشع عند إسراره بالتلاوة، ومنهم من يخشع عند جهره، وبعضهم يجد خشوعاً وتدبراً عند قراءة القرآن في الصلاة، وقد سبقت الإشارة لذلك، ومنهم من هو عكس ذلك يجد خشوعاً وتدبراً عند تلاوته خارج الصلاة، وبعضهم يجد ذلك عند سماعه للآيات من قارئ يقرأ في الصلاة لأن قراءة الصلاة تختلف عن غيرها، وقد تجد عند سماعك لبعض القراء خشوعاً وتدبراً ما لا تجده عند غيره، وقد تكون بعض التلاوات لبعض القراء ترتبط بزمن جميل مر على الشخص فإذا سمعها أحدثت له أثراً في قلبه، فهو يختار الأصلح لقلبه، وأنفع ذلك ما كان في حال قيام الليل، يقول الشنقيطي رحمه الله:«لا يثبت القرآن في الصدر، ولا يُسَهِّل حفظه، ويُيَسِّر فهمه إلا القيام به في جوف الليل» اهـ

(2)

.

وهكذا القراءة إذا كانت في صلاة فهي أفضل، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة

ولكن من حصل له نشاط وفهم للقراءة دون الصلاة؛ فالأفضل في حقه ما كان أنفع له»

(3)

.

«كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة، بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك، وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل

(1)

حلية الأولياء (10/ 146).

(2)

ذكره عنه الشيخ عطية سالم رحمه الله. ينظر: مفاتيح تدبر القرآن (ص: 50).

الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص 51).

(3)

مجموع الفتاوى (23/ 62).

ص: 57

أحد، بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له»

(1)

(2)

.

10 -

الاطلاع على أحوال السلف مع القرآن العظيم.

إن الناظر إلى أحوال السلف -من الصحابة ومن بعدهم- مع القرآن ليرى ما يشحذ همته ويقوي عزيمته على الإقبال على تلاوة الكتاب العزيز وتدبر آياته كما يحب ويرضى، فكانوا كما وصفهم الله في كتابه:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا 108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا} [الأنفال: 2] الآية.

وقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].

وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ 16 فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانا} [الفرقان: 73].

(1)

مجموع الفتاوى (23/ 60).

(2)

ينظر: الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص 51).

ص: 58

11 -

‌المبحث الثالث: مظاهر ودلائل أثر عمل القلب على انتفاع العبد بالقرآن العظيم، وفيه مطالب:

‌المطلب الأول: زيادة خشوع الجوارح تبعاً لزيادة خشوع القلب، والتأثر بالآيات الذي يؤدي إلى البكاء من خشية الله وتعظيمه وإجلاله، وإلى اقشعرار الجلد من خشيته، ومن ثَمَّ لين القلب والجلد لذكر الله

.

قال تعالى: {وَقُرْءَانا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا 106 قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا 108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا} [الإسراء: 106 - 109].

وقال الطبري رحمه في تفسيره لقوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا} : "يقول تعالى ذكره: ويخر هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان، إذا يتلى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعاً، يعني خضوعا لأمر الله وطاعته، واستكانة له .. عن عبد الأعلى التيمي، أن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا 108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا} "

(1)

.

وقال السعدي رحمه الله في تفسيره للآيات: " أي: وأنزلنا هذا القرآن مفرقًا، فارقًا

(1)

تفسير الطبري (15/ 122).

ص: 59

بين الهدى والضلال، والحق والباطل. {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أي: على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه.

{وَنزلْنَاهُ تَنزيلا} أي: شيئًا فشيئًا، مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة.

{ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} فإذا تبين أنه الحق، الذي لا شك فيه ولا ريب، بوجه من الوجوه فـ:{قُلْ} لمن كذب به وأعرض عنه: {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئًا، وإنما ضرر ذلك عليكم، فإن لله عبادًا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع:{إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا} أي: يتأثرون به غاية التأثر، ويخضعون له.

{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} عما لا يليق بجلاله، مما نسبه إليه المشركون.

{إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} بالبعث والجزاء بالأعمال {لَمَفْعُولا} لا خلف فيه ولا شك.

{وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ} أي: على وجوههم {يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ} القرآن {خُشُوعًا}

وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره، ممن أمن في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك"

(1)

.

وقال الزحيلي عند تفسيره لقوله تعالى {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} : " أي يزيدهم القرآن تواضعاً لله تعالى، وهذه مبالغة في صفتهم، ومدح لهم، وحض لكل من توسم بالعلم، وحصّل منه شيئاً أن يصل إلى هذه الرتبة، وهي رتبة الخشوع والخضوع لله عز وجل.

والواقع أن العبادة لله تعالى ينبغي أن تكون بقلب خاشع، ونفس خاضعة ذليلة لله عز وجل، يظهر منها معنى العبودية الخالصة لرب العزة، ويتجلى بها استحضار عظمة الله وهيبته التي تملأ النفس محبة لله، وخوفاً منه، فيصير الإنسان صالح القول والعمل، بالعبادة المرضية لربه تعالى"

(2)

.

وقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيّا} [مريم: 58].

يقول القرطبي رحمه الله: " في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيراً في

(1)

تفسير السعدي (ص 468).

(2)

التفسير الوسيط (2/ 1397).

ص: 60

القلوب"

(1)

.

يقول طنطاوي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " .. وقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيّا} بيان لرقة مشاعرهم، وشدة تأثرهم عند سماع آيات الله تعالى.

فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان عظم خشيتهم من الله تعالى أو هي خبر لاسم الإشارة {أُولئِكَ} و {سُجَّدا وَبُكِيّا} جمع ساجد وباك.

أى: أولئك الذين أنعم الله تعالى عليهم، من صفاتهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن، المتضمنة لتمجيده وتعظيمه وحججه .. خروا على جباههم ساجدين وباكين. وسقطوا خاضعين خاشعين خوفا ورجاء، وتعظيما وتمجيدا لله رب العالمين.

وجمع سبحانه بين السجود والبكاء بالنسبة لهم، للإشعار بأنهم مع تعظيمهم الشديد لمقام ربهم، فهم أصحاب قلوب رقيقة، وعواطف جياشة بالخوف من الله تعالى.

وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت آيات كثيرة، منه قوله تعالى:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا 108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا} [الإسراء: 107 - 109].

وقوله سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].

فهذه الآيات الكريمة تدل على أن من صفات المؤمنين الصادقين، أنهم يتأثرون تأثراً عظيماً عند سماعهم لكلام الله تعالى تأثراً يجعلهم يبكون ويسجدون وتقشعر

(1)

تفسير القرطبي (11/ 120).

ص: 61

جلودهم، وتوجل قلوبهم، وتلين نفوسهم"

(1)

.

وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

"والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف"

(2)

.

وقد وصف الله حال الذين يخشون ربهم مع القرآن العظيم بأنهم إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلودهم، وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم، فحقيقة حالهم أن قلوبهم تقشعر من خوفهم من الله وخشيته، وتلين عند الرجاء.

عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: "كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم"، قال فقلت لها: إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، فقالت:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".

قال قتادة: "هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان"

(3)

.

(1)

التفسير الوسيط لطنطاوي (9/ 50).

(2)

تفسير البغوي (7/ 115).

(3)

ينظر: تفسير البغوي (7/ 116).

ص: 62

‌المطلب الثاني: زيادة الإيمان في القلب الذي يظهر أثره على الجوارح بالشعور بعظمة الله وهيبته في القلوب والمسارعة والمسابقة إلى مرضات الله وجنته، ويثمر انشراح الصدر وطمأنينة القلب

.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. الآيات.

يقول الطبري رحمه الله في معنى هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره خوفاً منه وفرقاً من عقابه، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدق بها وأيقن أنها من عند الله، فازداد بتصديقه بذلك إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك تصديقاً، وذلك هو زيادة ما تلي عليهم من آيات الله إياهم إيماناً "

(1)

.

وذكر القرطبي رحمه الله من معاني قوله تعالى: {إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا} "وقيل: هو زيادة انشراح الصدر بكثرة الآيات والأدلة"

(2)

.

وقال السعدي رحمه الله عند قوله تعالى: {إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا} "ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم؛ لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقاً إلى كرامة ربهم، أو وجلاً من العقوبات، وازدجاراً عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان"

(3)

.

(1)

تفسير الطبري (11/ 27).

(2)

تفسير القرطبي (7/ 367).

(3)

تفسير السعدي (ص 315).

ص: 63

‌المطلب الثالث: تدبر القرآن ونزول أثره إلى القلب المؤدي إلى زيادة الاعتصام بما في الكتاب والسنة والحذر من الأهواء والابتداع

.

وهذه ثمرة من أعظم ثمرات التدبر والفهم لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح عليهم رضوان الله ورحمته، وما حصل من ضلال للفرق التي انحرفت عن منهج السلف ووقعت في البدع، فلعل من أسبابه الكبيرة هذا السبب، كما في أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عَنْ أَبِي وَائِلٍ. قَالَ:

جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ أَلِفًا تَجِدُهُ أَمْ يَاءً: {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أو {من ماء غير يا سن} ؟ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكُلَّ الْقُرْآنِ قَدْ أَحْصَيْتَ غَيْرَ هَذَا؟ قَالَ: إِنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "هَذًّا كَهَذِّا الشعر؟ إن أقواما يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ. وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ، نَفَعَ"

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 563) ح (722).

ص: 64

‌المطلب الرابع: التخلق بخلق القرآن

.

وهذا دليل بيّن على الانتفاع بالقرآن ونزوله في القلب الذي يثمر ثماره المباركة على عبادة المؤمن، وعلى رأسها امتثال القرآن سلوكاً عملياً في حسن الخلق.

وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:" كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"

(1)

.

وللأخلاق الحسنة مكانة عظيمة في عبادة المسلم، ولذا اعتنى القرآن العظيم بتربية المسلم على حسن الخلق، ولأنه كتاب مبارك، ومن قرب منه نال من هذه البركة بقدر قربه منه، وهذه البركة مرتبطة بتدبر آياته وفهمها والعمل بها، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وكلما ازداد قرب المسلم من كتاب ربه، وتمكن أثره من قلبه، ظهر ذلك عليه في سلوكه وأخلاقه وتعامله، وإنك لتميز صاحب القرآن المرتبط به، من سمته، وحسن تعامله، وبهاء الإيمان الذي تشرق أنواره على قسمات وجهه، وإن أهل القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ " قَالَ: قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ، وَخَاصَّتُهُ "

(2)

.

ومن كان من الله بهذا القرب لابد أن يظهر على سمته وأخلاقه وسائر أحواله أثر هذا القرب في صفاء القلب وطهارته وسلامته، فتحسن أخلاقه وتنبل أفعاله، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه صاحب القرآن، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الله عنه في وصف حامل القرآن:«ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً عليماً سِكِّيتًا، وَلَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ جَافِيًا، وَلَا غَافِلًا، وَلَا صَخَّابًا، وَلَا صَيَّاحًا، وَلَا حَدِيدًا»

(3)

.

(1)

أصله في صحيح مسلم مطولاً (1/ 512) ح (746)، وهذا لفظ الإمام أحمد (42/ 183) ح (25302).

(2)

أخرجه أحمد (19/ 305) ح (12292)، وابن ماجه (1/ 78) ح (215)، والبزار (13/ 520) ح (7369)، والحاكم (1/ 743) ح (2046)، وحكم الألباني بصحته في تحقيقه لسنن ابن ماجه، وصححه كذلك في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 168) ح (1432)، وحسن إسناده محقق المسند.

(3)

حلية الأولياء (1/ 130).

ص: 65

وانظر رحمني الله وإياك إلى المكانة العالية لأهل الأخلاق الحسنة، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ»

(1)

.

وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»

(2)

.

وفي رواية أخرى عن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»

(3)

.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»

(4)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ:«تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ» ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ:«الفَمُ وَالفَرْجُ»

(5)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا»

(6)

.

ومما يدل على مكانة حسن الخلق وأثره العظيم أنه سبب لدخول الجنة مع قلة النوافل، أو العقوبة بالنار لمن ساء خلقه مع كثرة نوافله، لكنها لا تنفعه، بسبب سوء خلقه، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

(1)

أخرجه أحمد في المسند (45/ 537) ح (27555)، وابن حبان (2/ 230) ح (481)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 89) ح (134)، وقال محقق المسند (45/ 537) ح (27555):"حديث صحيح".

(2)

أخرجه البخاري (5/ 28) ح (3759).

(3)

أخرجه البخاري وهذا لفظه (8/ 14) ح (6035)، ومسلم (4/ 1810) ح (2321)

(4)

أخرجه أحمد في المسند (42/ 346) ح (25537)، وأبو داود (4/ 252) ح (4798)، وابن حبان (2/ 228) ح (480)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 8) ح (2643)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (42/ 346) ح (25537):"حديث صحيح لغيره".

(5)

أخرجه أحمد في المسند (15/ 47) ح (9096)، والترمذي (4/ 363) ح (2004) وقال:"صحيح غريب"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4246)، وابن حبان (2/ 224) ح (476)، والحاكم (4/ 360) ح (7919) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 318) ح (1723).

(6)

أخرجه أحمد في المسند (11/ 347) ح (6735)، وابن حبان (2/ 235) ح (485)، وقال في مجمع الزوائد (8/ 21) ح (12666):"رواه أحمد بإسناد جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 10) ح (2650).

ص: 66

قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي النَّارِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ»

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (29/ 33) ح (9674)، وابن حبان (13/ 76) ح (5764)، والحاكم (4/ 183) ح (7304) وصححه ووافقه الذهبي، ولفظه عند الحاكم: إنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانُهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةٌ، قَالَ:«لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ فِي النَّارِ» وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ، وقال في مجمع الزوائد (8/ 169):"رواه أحمد والبزار، ورجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 682) ح (2560).

ص: 67

‌المبحث الرابع: موانع تأثر القلب بالقرآن العظيم، وفيه تمهيد ومطالب

.

التمهيد:

كما مر معنا في أكثر من موضع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذم الذين يتلون القرآن بألسنتهم دون أن ينزل إلى قلوبهم وحذر أمته من مسلكهم، وكذلك اتباعه صلى الله عليه وسلم من بعده حذروا من هذه المسالك، وعلى رأس هؤلاء الخوارج ومن سار على طريقهم من أهل الأهواء، واللافت في الأمر الاخبار بكثرة تلاوتهم لدرجة أن الصحابة يحقرون قراءتهم أمام قراءة هؤلاء، وإخباره صلى الله عليه وسلم بسهولة حفظهم للقرآن كشرب اللبن والماء، فيقول صلى الله عليه وسلم:«سَيَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَشْرَبُونَ الْقُرْآنَ كَشُرْبِهِمُ اللَّبَنَ»

(1)

.

وقال الفيض المناوي في شرحه للحديث: " أي يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه ولا تأمل في أحكامه، بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة"

(2)

.

وفي رواية الأخرى: «سَيَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يَشْرَبُونَ الْقُرْآنَ كَشُرْبِهِمُ الْمَاءَ»

(3)

.

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الله عنه قَالَ: " لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا حِينٌ وَزَمَانٌ، وَمَا نَرَى أَنَّ أَحَدًا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ يُرِيدُ بِهِ إِلَّا اللَّهَ عز وجل، فَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا بِأَخَرَةَ حَسِبْتُ، أَنَّ رِجَالًا يَتَعَلَّمُونَ يُرِيدُونَ النَّاسَ وَمَا عِنْدَهُمْ، فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِقِرَاءَتِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا نَعْرِفُكُمْ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِذْ يَنْزِلُ إِلَيْنَا الْوَحْيُ، وَيُنَبِّئُنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ مَضَى

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17/ 297) ح (821)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 229) ح (10412):"رواه الطبراني، ورجاله ثقات" و حسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 681) ح (3653).

(2)

فيض القدير (4/ 118).

(3)

أخرجها الفريابي في فضائل القرآن (ص 204) ح (109)، و حسن إسنادها الألباني في السلسة الصحيحة (4/ 507) ح (1886).

ص: 68

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ، وَإِنَّمَا أَعْرِفُكُمْ بِمَا أَقُولُ: مَنْ أَعْلَنَ لَنَا خَيْرًا أَحْبَبْنَاهُ عَلَيْهِ وَظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا بَغِضْنَاهُ عَلَيْهِ وَظَنَنَّا بِهِ شَرًّا، سَرَائِرُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ "

(1)

.

عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله قال: " إنما أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن من العمل قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعاً، وأنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز هذا، وأشار بيده إلى حنكه"

(2)

.

عن الحسن رحمه الله قال: "إن هذا لقرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قبل أوله قال الله عز وجل:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وما يتدبر آياته إلا اتّباعه بعلمه، والله يَعْلَمُه، أما والله ما هو بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفاً، وقد أسقطه والله كله ما بدا له القرآن في خلق ولا عمل.

حتى أن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة، والله ما هؤلاء بالقراء، ولا العلماء، ولا الحكماء، ولا الورعة، ومتى كانت القراء تقول مثل هذا إلا أكثر الله في الناس مثل هذا "

(3)

.

وبهذا يتبين لنا أموراً تمنع من أثر القرآن على صاحبه، ودونك بعضها في المطالب الآتية:

(1)

أخرجه الفريابي في فضائل القرآن (243) برقم (173).

(2)

أخرجه الفريابي في فضائل القرآن (241) برقم (169).

(3)

أخرجه الفريابي في فضائل القرآن (247) برقم (177).

ص: 69

‌المطلب الأول: الخلل في النية والمقصد

.

وهذا المانع من أعظم موانع الانتفاع بالقرآن والتأثر به، ولذا كان لزاماً على من أراد القرب من القرآن والانتفاع به أن يحرص كل الحرص على سلامة نيته ومقصده، وأن يجاهد نفسه على ذلك، ويسأل الله دائماً أن يرزقه الإخلاص وأن يعينه عليه، وأن يجيره من السمعة والرياء والعجب، وأن يكون دائم التذكير لنفسه بخطورة الخلل في نيته ومقصده في تعامله مع كتاب الله ويحاسبها على ذلك، ويكثر دائماً من الاستغفار والتوبة، ويكثر من الدعاء الذي جاء النص عليه في إذهاب أثر هذه الأمراض على القلب، عن معقل بن يسار قال: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟» قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ»

(1)

.

والخلل في النيات له خطره العظيم على صاحبه، وجاء التحذير الشديد من هذا الأمر في كثير من الأدلة، وبعضها قد سبق ذكره، ومنها، قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ 15 أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16].

ويقول تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ

(1)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد (377) ح (716) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (265 - 266) ح (554)، وصححه أيضًا في صحيح الجامع (1/ 694) ح (3731)، وحسنه لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 121) ح (36)، وقد قال العلامة ابن باز رحمه الله في برنامج الفتاوى الشهير (نور على الدرب) عن هذا الحديث:"لا أعلم به بأسًا سنده لا أعلم به علة".

ينظر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الإمام ابن باز على الرابط:

ttps:// binbaz.org.sa/ fatwas/ 11434/

وبناء على ما قاله هذان العَلمان في الحكم على الحديث فهو حديث صحيح، والله أعلم.

ص: 70

بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ ا} [الكهف: 110].

وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»

(1)

.

وذكر الخطابي رحمة الله في معني الحديث: أن من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جزاه الله على ذلك بأن يشهره ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه

(2)

.

وأضاف ابن حجر إلى ما ذكره الخطابي، فقال:"وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة ومعنى «يرائي»: يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه"

(3)

.

وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ:«الرِّيَاءُ؛ إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!»

(4)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»

(5)

.

وقد مر معنا حديث الذين أول من تسعر بهم النار، وذكر منهم قارئ القرآن الذي يريد مدح الناس له ويقوم بهذه العبادة من أجل الناس عياذاً بالله من حالهم.

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له عن جندب رضي الله عنه (8/ 104) ح (6499)، ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما (4/ 2289) ح (2986).

(2)

ينظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي (3/ 2257).

(3)

فتح الباري (11/ 336).

(4)

أخرجه أحمد (39/ 43 - 44) ح (23636)، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 34) ح (50)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 102) ح (375):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 120) ح (32)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (39/ 44) ح (23636):"إسناده حسن".

(5)

أخرجه مسلم (4/ 2289) ح (2985).

ص: 71

‌المطلب الثاني: الخلل في متابعة الهدي النبوي في تلاوة القرآن وتدبره

.

وتلاوة القرآن وتدبره عبادة عظيمة لا تقبل إلا بالإخلاص لله تعالى، وموافقة الهدي النبوي، وسبق الحديث عن الإخلاص، والخلل في متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العبادة يؤدي إلى عدم الانتفاع بهذا الكتاب العظيم، ويمنع أثره المبارك على صاحبه، ولهذا الخلل عدة مظاهر، منها:

1 -

ختمه في أقل من ثلاثة أيام، وقد ورد النهي عن ذلك، وسبق ذكره.

2 -

السرعة في تلاوته ويكون هم القارئ آخر السورة، وهذا تؤدي إلى عدم فهمه وتدبره، والإخلال بأحكام التلاوة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:«اقرؤوا القرآن، وحركوا به القلوب، لا يكن هم أحدكم آخر السورة» .

وقد سبق الكلام عن ذلك.

3 -

قراءته على لحون أهل الغناء مع التكلف وزيادة التمطيط في الحروف الخارج عن حدود الأداء الصحيح، ويرافق ذلك الكثير من اللغط ورفع الأصوات من قبل المستمعين، ويحصل ارتفاع للأصوات لا يحسن عند سماع كلام الله عز وجل، كهيشات الأسواق المنهي عنها، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى. ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (ثَلَاثًا) وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأسواق"

(1)

.

ومن معنى "هيشات الأسواق": ارتفاع الأصوات والصياح واللغط

(2)

.

‌المطلب الثالث: عدم طهارة القلب

.

الانتفاع بالقرآن والتأثر به مرتبط ارتباطاً وثيقاً بطهارة القلب وسلامته، وما يحصل من نفور وبعد عن تدبر القرآن والانتفاع به يرجع إلى عدم طهارة القلب، وهي عقوبة ناتجة عن الخلل في امتثال أمر الله، وفتنة سببها الاعتراض على حكم الله ومحاولة التلاعب به، وتحريف الدين طلباً لرضا الناس، والتظاهر بأمور من الدين مع وجود البغض للحق في الباطن، وذلك يؤدي إلى فساد القلب وعدم طهارته ومن ثم عدم الانتفاع بكلام الله وقسوة القلب، وهذه

(1)

أخرجه مسلم (1/ 323) ح (432).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (4/ 156)، توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (2/ 94).

ص: 72

عقوبة يضرب الله بها تلك القلوب، قال تعالى عن حال أولئك اليهود ومن يشبههم:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].

‌المطلب الرابع: عدم تقدير كلام الله حق قدره

.

وهذا المانع ناتج عن السبب السابق لما تدنست القلوب ولم تكن طاهرة لم يكن لكلام الله تقدير عندهم فلا ينتفعون به ولا يرتفعون، بل لا يرون له مكانة ولا تقدير، فيهجرونه بكل أنواع الهجر، ويرون العزة في غيره من علوم الشرق والغرب، ولهذا يحرمون من بركة تدبره والانتفاع به، والله أخبر في كتابه أن عزة المسلم والأمة في الارتباط بالقرآن والتمسك به والاقبال عليه، قال تعالى:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 43 وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} [الزخرف: 43 - 44].

قال أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} [الزخرف: 44].

إنه لشرف لك ولقومك الذين اتبعوك بهذا القرآن، وإنه لفخر لكم ومنقبة جليلة، ونعمة لا يقدر قدرها إلا من عرف قيمتها

(1)

.

وقال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].

وإنه لشرف لمن اتبع هداه وعمل بما فيه

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير الطبري (20/ 603)، تفسير السعدي (766).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (16/ 232).

ص: 73

ويقول ابن كثير رحمه الله: " يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن، ومحرضاً لهم على معرفة قدره: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قال ابن عباس: شرفكم"

(1)

.

وقال السعدي في تفسيره لهذه الآية: " لقد أنزلنا إليكم - أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - كتاباً جليلاً وقرآناً مبيناً {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا ترضون ولا تعملون على ما فيه ذكركم وشرفكم في الدنيا والآخرة، فلو كان لكم عقل، لسلكتم هذا السبيل، فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق، التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما، علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي رجيح.

وهذه الآية، مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن، من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر، والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا، ولم يهتد به ويتزك به، من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا بالتذكر بهذا الكتاب"

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»

(3)

.

وعلى هذا من لم يقدر القرآن حق قدره ويعمل بما فيه، فإن الله يحجبه عن بركة القرآن، ويصيبه الذل والهوان والخسارة في الدنيا والآخرة.

(1)

تفسير ابن كثير (5/ 334).

(2)

تفسير السعدي (ص 519).

(3)

أخرجه مسلم (1/ 79) ح (218).

ص: 74

‌المطلب الخامس: تعلق القلب بغير الله

.

إن هذا القرآن عظيم كتاب عزيز قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42].

فهو كتاب محفوظ بحفظ الله له محمي بحماية الله، ليس للباطل إليه سبيل لأنه منزل من الله رب العالمين، ذو مكانة منيعة جامع لأوصاف الكمال، منيع عن كل من أراد به تحريفاً أو سوءاً {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} لا تقربه شياطين والجن بتبديل أو تحريف من زيادة أو نقص، ولا بإدخال فيه ما ليس منه، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، وقد تكفل الله بذلك، فقال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

{تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} في خلقه وأمره، وأقواله، يضع كل شيء موضعه، وينزله منزله. {حَمِيدٍ} على ما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والإفضال، فلهذا كان كتابه، مشتملاً على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار، التي يحمد عليها، ومحمودة عواقبه وغاياته

(1)

.

وهذه بعض صفات هذا الكتاب، فإذا تعلق القلب بغير الله، حرمه الله بفعله هذا المذموم، -ولا يظلم ربك أحداً- من بركة الكتاب العزيز، ومنع من تأثيره عليه، لأن قلبه تعلق بغير منزله العظيم، وتدنس بحب غير الله من الشهوات المحرمة والشبهات، فكان جزاءاً وفاقاً أن يحال بينه وبين بركة تدبر القرآن.

‌المطلب السادس: الغفلة عن لقاء الله في الآخرة

.

ومن الأسباب العظيمة التي تحجب القلب عن تدبر القرآن والانتفاع به، غفلته عن لقاء الله التي تؤدي ولا بد إلى غفلته عن الآخرة، فيحال بينه وبين بركات تدبر القرآن العظيم، فقال تعالى عن الغافلين حين تتلى عليهم آيات الله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 183)، تفسير السعدي (749 - 750).

ص: 75

الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] الآية.

وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ 1 مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ 2 لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1 - 3].

وقال تعالى عن حال الغافلين في الدنيا والآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 124 - 126].

وقال تعالى عن حال الغافلين في الآخرة، وما يذكرهم الله به وهم في النار من أحوال الغفلة التي كانوا فيها في الدنيا، في مشهد مهيب تكاد تنخلع منه القلوب:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ 103 تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ 104 أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ 105 قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ 106 رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ 107 قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ 108 إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 109 فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110 إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ 111 قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ 112 قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ 113 قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 114 أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ 115 فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 103 - 116].

ص: 76

‌المطلب السابع: التقصير في أداء الفرائض، ومن ثم إهمال النوافل

.

للقران العظيم آثار مباركة على الذين يحبهم الله بسبب محافظتهم على الفرائض، وكثرة تقربهم إلى الله بالنوافل، فيفتح الله قلوبهم لتدبر آياته كما يحب ويرضى، ويعلمهم الله ويفتح عليهم من كنوز القرآن الكريم، لأنه يحبهم قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله قال: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ .. » الحديث

(1)

.

وإذا تساهل العبد في الفرائض وفرط في النوافل أبعد عن الله وتسلط عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، وعلى رأس ذكر الله تلاوة القرآن وتدبره، قال تعالى عن حال من تسلطت عليهم الشياطين:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19].

قال ابن كثير رحمه الله: " أي: استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله، عز وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه؛ ولهذا قال أبو داود .. عن أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية". قال زائدة: قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة"

(2)

"

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (8/ 105) ح (6502).

(2)

وهو في سنن أبي داود (1/ 150) ح (547) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 58) ح (556)، وحسن إسناده محقق المسند (45/ 507) ح (27514).

(3)

تفسير ابن كثير (8/ 53).

ص: 77

‌المطلب الثامن: مجالسة أهل الأهواء الذين يضربون القرآن بعضه ببعض، ويتبعون متشابه ويتركون محكمه

.

إن مجالسة أهل الاهواء تفسد القلب وتمرضه، فلا يجد لذة في تلاوة القرآن وتدبره، وتذهب منه حلاوة العبادة، وتجعله يفهم القرآن على منهج أهل البدع الذين يجالسهم، ولذا ينبغي الحذر من مجالستهم لمن أراد السلامة لقلبه، ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ»

(1)

.

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ»

(2)

.

كان من منهج السلف رحمهم الله الحذر من مجالسة أهل البدع والأهواء والتحذير من ذلك أشد التحذير؛ لأن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة، من تعرض لها تعلقت بقلبه وأفسدته. وقبل ذكر أمثلة من حياة السلف تبين شدة تحرزهم من أهل والأهواء، أود أن أقدم بهذا التنبيه المهم.

تنبيه مهم: وهذه المجالسة في زمننا لا يلزم منها حضور مجالسهم أو قراءة كتبهم؛ لأن مفهوم المجالسة تغير في زمننا بسبب ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة نتاجهم الفكري الموجود على شبكة الإنترنت، أو المتابعة التي تتم من خلال البث الفضائي.

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له (6/ 34) ح (4547)، ومسلم (4/ 2053) ح (2665).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (1/ 289) ح (143)، وابن حبان في صحيحه (1/ 281)، ح (80)، وقال في مجمع الزوائد (1/ 187) ح (886):"رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورجاله موثقون"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 107) ح (239)، وقال محقق مسند أحمد (1/ 289):"سنده قوي".

ص: 78

فيستطيع الواحد في هذا الزمن أن يجالس أهل البدع والأهواء ويرى ويسمع دروسهم وخطبهم ومحاضرتهم ويقرأ كتبهم وهو في بيته، وبينه وبينهم المسافات الشاسعة، وأضف إلى هذا ضعف العلم الشرعي وضعف التمسك بالدين عند المتلقين، وقدرة أصحاب الباطل على المحاجة وتلبيس الحق بالباطل؛ ولذا كان الخطر عظيمًا والخطب جليلًا، وحينها نعرف لماذا يحذر السلف من مجالسة أهل الأهواء، ويحرصون على عدم سماع كلامهم مع قوتهم العلمية، وتمكن الدين من قلوبهم، وقدرتهم على المحاجة والمجادلة، إلا أن السلامة لا يعدلها شيء، والقلوب ضعيفة، والشبه خطافة، والشياطين حاضرة تمد أصحابها بزخرف القول الذي قال الله عنه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].

قال إبراهيم النخعي رحمه الله: "لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البِغْضَة في قلوب المؤمنين"

(1)

.

وذكر الذهبي رحمه الله: "عن سفيان الثوري عليه رحمة الله: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه.

وعنه: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم.

قلت

(2)

: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة"

(3)

.

ومعنى كلام الإمام الذهبي رحمه الله: أن السلف يحذرون من سماع كلام أهل البدع؛ لأن القلوب ضعيفة سريعة التأثر بما تسمع، والشبه تخطف القلوب، وتميل بها عن طريق الهدى، ويزينها الشيطان فتزل القدم بعد ثبوتها.

(1)

الإبانة الكبرى (2/ 439).

والبِغْضَة أي: لا تحبه قلوب المؤمنين. ينظر: الصحاح (3/ 1066 - 1067) مادة (بغض).

(2)

القائل الإمام الذهبي رحمه الله.

(3)

سير أعلام النبلاء (7/ 261).

ص: 79

وذكر العلماء رحمهم الله

(1)

آثارًا عن السلف في التحذير من مجالسة أهل الأهواء لخطورتها على القلوب، ومن ذلك: "قال أبو قلابة رحمه الله: لا تجالسوا أهل الأهواء -أو قال: أصحاب الخصومات-؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.

ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا، لتقومان عني، أو لأقومنَّهْ، فقاما. فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟!

وقال: خشيت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي.

وقال رجل من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر، أسألك عن كلمة؟ فولى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة.

وكان الحسن يقول: شر داء خالط قلبًا -يعني: الأهواء-.

وقال حذيفة: اتقوا الله، وخذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا -أو قال: مبينًا-"

(2)

.

قال رجل لابن سيرين: "إن فلانًا يريد أن يأتيك، ولا يتكلم بشيء، قال: قل لفلان: لا، ما يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة، فلا يرجع قلبي إلى ما كان"

(3)

.

ويروي الآجري بسنده عن مهدي بن ميمون قال: "سمعت محمدًا -يعني ابن سيرين- وماراه

(4)

رجل في شيء، فقال محمد: إني أعلم ما تريد، وأنا أعلم بالمراء منك، ولكني لا أماريك"

(5)

.

وانظر إلى هذا الإمام العظيم من أكابر أهل السنة علماً وعملاً، ومع هذا العلم

(1)

ينظر: الشريعة (1/ 435 - 440)، الإبانة الكبرى (5/ 2544 - 2546)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 101، 150 - 151).

(2)

كل هذه الآثار عن السلف ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 285).

(3)

الإبانة الكبرى (2/ 446).

(4)

أي جادله.

(5)

الشريعة للآجري (1/ 453).

ص: 80

العظيم والقدرة على المجادلة خاف على قلبه من أن تنفذ إليه شبهة فلا يعود كما كان، وتذهب رقته وخشوعه وتلذذه بالعبادة بسبب سماع كلام أهل الباطل، فإنه يمرض القلوب ولو كانت صحيحة، ويفسدها ولو كانت سليمة فالحذر الحذر فإن سماع أو رؤية أهل الباطل تعد عقوبة عند أهل القلوب الحية، فقد دعت أم جريج الراهب على ابنها -لما بصلاة النافلة عنها- بأن يعاقبه الله برؤية وجوه العصاة من المومسات أي الزانيات، وقد عاقبه الله بذلك لأن رؤية الوجوه المظلمة يسري أثرها على القلب بشيء من الغبش في رؤية الحق، فمن سرح طرفه في تلك الوجوه وسمع لكلامها أصابت بقدر القرب ظلمة في قلبه ينعكس أثرها على نفوره من القرآن وأصحابه، وتؤثر كذلك على صفاء القلب، فتصيبه الكدورة التي تضعف فهمه للقرآن ويعجز عن تدبره، ويضيق الصدر بتلاوته، فلا يجد لذة في تدبره وفهمه، ولا ينتفع بمواعظه وزواجره ووعده ووعيده، وقد يصل الحال بقلبه أن يتلذذ بالشهوة الحرام من سماع المعازف ما لا يجده عند تلاوته أو سماعه، نسأل الله العافية والسلامة.

‌المطلب التاسع: ذنوب الخلوات

.

للذنوب أثر عظيم على عمى القلب فلا يرى حقائق القرآن، ولا يبصر نوره قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، ويأتي بسبب النوب غلاف على القلب يسمى الران الذي ذكرته الآية وكما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]» ، ومن أشد الذنوب خطراً على القلب ذنوب الخلوات، فهي تفسد القلب وتهلك العمل الصالح في يوم القيامة، حتى يكون صاحبها من المفلسين، ودونك هذا الحديث العظيم الذي يبين خطورة الذنوب في حالة الخلوة مع الله وعدم الحياء، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ

ص: 81

مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»

(1)

.

وبناء على هذا فإن القلوب التي أصيبت بمثل هذا الداء لا تنتفع بالقرآن وهي بمنأى عن التأثر به، وقد حيل بينها وبين تدبره والانتفاع به، فهي قلوب قاسية وقد ضربت الغفلة في أنحائها وأجلب عليها الشيطان بخيله ورجله، فانتهكت محارم في حال خلوتها وغفلت عن علم الله بها وسماعه ورؤيته لها، فأطلقت لنفسها العنان في الشهوات المحرمة، وهذا مثال على ذلك، فإذا خلى أحدهم بشاشة جهازه نظر حين لا يراه رقيب البشر، نظر إلى ما حرم الله مما يعرضه جهاز جواله أو حاسبوه أو القناة الفضائية متع ناظريه وسمع بأذنيه الحرام، ولو كان أحد من البشر يراقبه لما فعل ذلك خوفاً وحياء منهم، نسأل الله العافية والسلامة.

‌المطلب العاشر: التعلق بشهوات النفس المحرمة من سماع الحرام والنظر إليه وأكل الحرام

.

وقد سبق الكلام عن الذنوب مراراً، ولكني هنا أقصد نوعاً من الذنوب له أثره الكبير على نفور صاحبه من القرآن وعدم الانتفاع به، وعدم القدرة على تدبره كما يحب الله ويرضى، ومنها:

1 -

سماع المعازف.

2 -

النظر بشهوة إلى ما حرم الله من النساء والمردان

(2)

.

3 -

أكل الحرام وشربه.

وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد عبد الله ورسوله

(1)

أخرجه ابن ماجه (2/ 1418) ح (4245)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 170) ح (3534):"رواه ابن ماجه ورواته ثقات"، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (4/ 246) ح (1525):"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 591) ح (2346)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 317) ح (4245).

(2)

المردان جمع أمرد، وهو الفتى الذي لم تنبت لحيته لصغره.

ينظر: مقاييس اللغة (5/ 317) مادة (مرد).

ص: 82