المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تابع النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١١

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌تابع النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم

‌المجلد الحادي عشر

‌تابع المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم

‌تابع النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الرابع: في صلاته صلى الله عليه وسلم الوتر

قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن. لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقًا.

واحتج بعض الحنفية لما ذهبوا إليه -من تعيين الوصل، والاقتصار على ثلاث- بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد أو نقص، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه.

وتعقبه محمد بن نصر المروزي، بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا "لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب" وقد صححه

الباب الرابع: في صلاته صلى الله عليه وسلم الوتر

أي فيما يتعلق به من عدد وغيره.

قال ابن التين: اختلف فيه في سبعة أشياء في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله، وفي آخر وقته وصلاته في السفر على الدابة.

زاد غيره: وفي أول وقته، وفي قضائه، والقنوت فيه، ومحل القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووصله وهل يسن ركعتان بعده، وفي صلاته من قعود لكن هذا على أنه سنة، وفي أنه أفضل صلاة التطوع، أو الرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر.

"قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن" أي: صلاهن بتشهد واحد "لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا" إذ هو الذي رواه أكثر الحفاظ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وتلك الرواية انفرد بها بعض أهل العراق عن هشام، وقد أنكرها مالك وقال: منذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف، وقال ابن عبد البر: ما حدث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عند أهل الحديث.

"واحتج بعض الحنفية لما ذهبوا إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث، بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد" عليها "أو نقص" عنها "قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه" لأن الأول أقوى.

"وتعقبه محمد بن نصر المروزي بما رواه من طريق عراك بن مالك" الغفاري الكناني المدني الثقة "عن أبي هريرة مرفوعا" إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق "وموقوفا" على أبي هريرة من

ص: 3

الحاكم، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر وقال: لا يشبه التطوع بالفريضة. انتهى.

لكن قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن، وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه، ولفظه: يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولا يسلم إلا في آخرهن وبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات.

والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبيه بصلاة المغرب، أن

طريق أخرى: "لا توتروا بثلاث تشبهوا" في فعلها "بصلاة المغرب" وهو بدل من لا توتروا المجزوم بلا الناهية، فلذا حذف النون فلم يقل: تشبهون، وقد صححه الحاكم، وبما رواه ابن نصر من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة، والأعرج عن أبي هريرة، مرفوعا نحوه وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ورواه الدارقطني، برواة ثقات، بلفظ:"لا توتروا بثلاث ولا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب"، وتعقبه ابن نصر أيضا بما رواه من طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهة الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي أيضا "وعن سليمان بن يسار" أحد الفقهاء "أنه كره الثلاث في الوتر وقال: لا يشبه التطوع الفريضة، انتهى".

فهذا كله يقدح في الإجماع الذي زعمه "لكن" قول محمد بن نصر لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا ثابتا صريحا أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أو مفصولة. انتهى.

يرد عليه أنه "قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن" فيصليهن بتشهد واحد، وقد علم موقع الاستدراك الذي لم يعلم من اختصار المصنف لما في فتح الباري، ثم ظهر لي أن المصنف جعله استداركًا على ما فهم من النهي عن الوتر بثلاث من المنع، فأفاد بالاستدراك أن النهي للتنزيه لفعله صلى الله عليه وسلم خلافه وليس استدراكًا على كراهة سليمان الوتر بثلاث؛ لأن دليله الحديث إذ الكراهة أقل مراتب النهي والمصطفى يفعل المكروه لغيره لبيان الجواز.

"وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه، ولفظه: يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في الأولى "و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} " [الكافرون: 1] الآية في الثانية "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " [الإخلاص: 1] ، في الثالثة "ولا يسلم إلا في آخرهن، وبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات".

قال الحافظ: ويجاب عنه، أي ابن نصر، باحتمال أنهما لم يثبتا عنده "والجمع بين هذا

ص: 4

يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضًا.

فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهص في الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن.

وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين في الوتر. حتى يأمر ببعض حاجته، وهذا ظاهر أنه كان يصلي الوتر موصولًا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بني على ما مضى. وفي هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا مفصولًا.

وأصرح من ذلك ما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله،

وبين ما تقدم من النهي عن التشبيه بصلاة المغرب أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضا، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن: أن عمر" بن الخطاب "كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير" يعني إذا قام من سجوده الركعة الثانية قام مكبرا من غير جلوس للتشهد "ومن طريق المسور" بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو "ابن مخرمة" بفتح الميم وإسكان المعجمة وفتح الراء "أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق" عبد الله "بن طاوس عن أبيه: أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن".

زاد في الفتح: ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد، عن أيوب مثله.

وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية: أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور "وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته" رواه مالك عن نافع عنه، وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به موقوفا عقب حديثه المرفوع صلاة الليل مثنى مثنى، فأخطأ من ظنه مرفوعا، ونسبه لمالك والبخاري، فالذي في الموطأ والبخاري إنما هو ما ذكرته "وهذا ظاهر أنه" أي: بن عمر "كان يصلي الوتر موصولا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى، وفي هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا مفصولا" كذا قال تبعا للحافظ، ودعوى أن ظاهره ذلك فيها نظر، إذ المتبادر أنه كان عادته فصله؛ لأنه عبر بكان وحرف المضارعة وحتى الغائية. نعم لو عبر "بحين" بدل "حتى" لكان ظاهره ذلك.

"وأصرح من ذلك ما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمه" لا صراحة في هذا على الوصل، فضلًا عن كونه أصرح

ص: 5

وإسناده قوي.

وقد استدل بعضه على فضل الفصل بأنه صلى الله عليه وسلم أمر به وفعله، وأما الوصل فورد من فعله فقط.

وقد حمل المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرًا من الأحاديث ظاهر في الفصل، كحديث عائشة "يسلم من كل ركعتين" فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع.

من سابقه، لأنه نص في الفصل، ولكن المصنف سقط منه أو من نساخه ما قال في الفتح أنه أصرح، ولفظه: وأصرح من ذلك ما روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني، قال: صلى ابن عمر ركعتين، ثم قال: يا غلام ارحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة.

وروى الطحاوي من طريق سالم، فذكره مريدًا معارضته لما قبله من الوصل، بأن ابنه سالمًا روى عنه الفصل، ويصرح بذلك قوله: ولم يعتذر الطحاوي إلى آخر ما يأتي عنه.

نعم قد ينازع الحافظ في أن رواية بكر المزني أصرح في الوصل بأنه لا صراحة فيها أيضا، إذ هي محتملة له وللفصل، فبان من رواية نافع أن المراد الثاني على المتبادر منها كما بينا، وصرح به في رواية سالم فيحمل عليه؛ لأن الروايات يفسر بعضها بعضا.

"وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله وإسناده قوي". زاد الحافظ ولم يعتذر عنه الطحاوي إلا باحتمال أن المراد بقوله تسليمة، أي التسليمة التي في التشهد، ولا يخفى بعد هذا التأويل. انتهى، وصريحه أن الوتر واحدة، فتأويله بأن المعنى كان يفصل بين ما يصليه شفعا من الوتر وبين الركعة الواحدة منه ليوافق مذهب من قال: الثلاثة وتر، خلاف الظاهر المتبادر.

وقد استدل بعضهم على فضل الفصل بأنه صلى الله عليه وسلم أمر به في حديث الموطأ والصحيحين: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى".

وفي الصحيحين أيضا: فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة "وفعله" كما في حديث ابن عباس وعائشة عند الشيخين "وأما الوصل فورد من فعله فقط" لبيان الجواز "وقد حمل ابن المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل مع أن كثيرًا من الأحاديث ظاهر في الفصل" فلا يصح هذا الحمل "كحديث عائشة" عند أبي داود ومحمد بن نصر بإسناد على شرط الشيخين: كان صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة

ص: 6

وحمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن توتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل.

وقد اختلف السلف في أمرين:

أحدهما: في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس.

والثاني: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي بوتره الأول ويتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟

فأما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس. وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا الأمر

"يسلم من كل ركعتين، فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع" فيقطعه.

"وحمل الطحاوي هذا" الحديث "ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء" بضم الموحدة ففوقية مصغر، وهو حديث ضعيف "مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن توتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل" فلا دلالة فيه لما ادعاه، وهذا الاحتمال ورد في نفس حديث البتيراء.

أخرج ابن عبد البر عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها، وللبيهقي في المعرفة عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص، قال: سألت ابن عمر عن وتر الليل، فقال: يا بني هل تعرف وتر النهار؟ قلت: هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل واحدة، بذلك أمر صلى الله عليه وسلم قلت: إن الناس يقولون هي البتيراء، قال: يا بني ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل ركعة يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم إلى الأخرى فلا يتم لها ركوعًا ولا سجودًا ولا قيامًا، فتلك البتيراء.

"وقد اختلف السلف في أمرين، أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر" كائنتين "عن جلوس" اتباعا للوارد "والثاني فيمن أوتر، ثم أراد أن ينتفل في الليل هل يكتفي بوتره الأول، ويتنفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل" وهذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة نقض

ص: 7

في قوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" مختصا بمن أوتر آخر الليل.

وأجاب من لم يقل بذلك بأن بالركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسا.

وأما الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره، عملا بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا وتران في ليلة" وهو حديث حسن أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث طلق بن علي، وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر.

الوتر "ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟، فأما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف "عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس" وقد أنكر مالك.

وقال أحمد: لا أفعلهما ولا أمنعهما "وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعلوا الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا".

رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر "مختصا بمن أوتر آخر الليل" حتى لا يعارض حديث عائشة.

"وأجاب: من لم يقل بذلك" وهم الجمهور "بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر" صلاهما قاعدا لبيان الجواز أو لعذر "وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر" مع الكراهة في حق غيره، وأن الأمر في اجعلوا ليس للوجوب "وجواز التنفل جالسا" وكل أولى من حملهما على ركعتي الفجر؛ لأنه خلاف الظاهر.

"وأما الثاني" وهو نقض الوتر بركعة ثم يتنفل ما شاء، أو يتنفل بلا نقض لا قوله: ثم إذا فعل، إذ هو مرتب على القول بالنقض "فذهب الأكثر إلى أه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره" بركعة، كما قاله الأقل: ثم يتنفل "عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وتران في ليلة"، وهو حديث حسن أخرجه النسائي وابن خزيمة" وغيرهما "من حديث طلق" بفتح فسكون "ابن علي" بن المنذر الحنفي صحابي له وفادة "وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر" تمسكا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل"، صححه ابن حبان، ولكن رد عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة الليل مثنى مثنى"، وبخبر:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يتنفل بركعة إلا الوتر، ولا شاهد فيما تمسكوا به؛ لأن "أل" في الصلاة للعهد والمعهود شرعا أنها لا تنقص عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، فقوله:

ص: 8

واختلف السلف أيضا في مشروعية قضاء الوتر، فنفاه الأكثر، وفي مسلم وغيره عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة.

وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه.

وعن عطاء والأوزاعي: يقضي ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعية حكاه النووي في شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضي من القابلة، وعن الشافعية: يقضي مطلقا.

وقالت عائشة: أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كل الليل، من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

فمن شاء استكثر، أي: زاد على الركعتين فركعتين، وهكذا ومن شاء اقتصر على ركعتين أو أربع أو نحوهما.

"واختلف السلف أيضا في مشروعية قضاء الوتر" إذا فات بصلاة الصبح "فنفاه الأكثر" ومنهم مالك "و" دليله "في مسلم وغيره عن عائشة؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" فلم يقض الوتر، إذا لو قضاه لصلى ثلاث عشرة.

"وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر ولا أمر بقضائه" ومن زعم أنه في ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر فلم يصب هكذا في كلام ابن نصر، كما في الفتح.

"وعن عطاء والأوزاعي: يقضي ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعية، حكاه النووي في شرح مسلم".

"وعن سعيد بن جبير: يقضي من" الليلة "القابلة، وعن الشافعية: يقضي مطلقا" وهو المعتمد عندهم تمسكا بعموم ما رواه أبو داود عن أبي سعيد مرفوعًا: "من نسي الوتر أو نام عنه فليصله إذا ذكره"، وخصه مالك والأكثر بما إذا لم يصل الصبح لأدلة أخرى "وقالت عائشة: أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل الليل، من أوله" بعد صلاة العشاء "وأوسطه وآخره" بحسب ما تيسر له من القيام.

قال الطيبي: يجوز أن "من" في قوله: من كل الليل، تبعيضية منصوبة بأوتر، ومن الثانية بدل منها؛ لأن الليل إذا قسم ثلاثة أقسام يكون لكل قسم منها أجزاء، ويجو أن "من" الثانية بيان

ص: 9

والمراد بأوله: بعد صلاة العشاء.

ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر في وسطه لعله كان مسافرًا، وأما وتره في آخره فكان غالب أحواله لما عرف من مواظبته عليه الصلاة والسلام على الصلاة آخر الليل والسحر قبيل الصبح. وحكى الماوردي أنه السدس الأخير، وقيل: أوله الفجر الأول.

وفي رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس، عند ابن خزيمة: فلما انفجر الفجر قام صلى الله عليه وسلم فأوتر بركعة. قال ابن خزيمة: والمراد به: الفجر الأول.

وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: "زادني ربي صلاة وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر". وفي إسناده ضعف، وكذا في حديث خارجة بن

لمعنى البعضية، ويجوز أن الأولى ابتدائية والثانية بيان لكل، وهذا أوجه، ويعتبر في الكل الإفراد بمنزلة لام الاستغراق، والثانية بدل أو بيان "وانتهى وتره إلى السحر".

زاد أبو داود والترمذي حتى مات "رواه البخاري ومسلم" واللفظ له، فأما البخاري فلفظه: قالت كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهى وتره إلى السحر. وهو في مسلم أيضا، إلا أنه قال: إلى آخر الليل بدل قوله: إلى السحر.

قال الحافظ: بنصب "كل" على الظرفية، وبالرفع على أنه مبتدأ والجملة خبره والتقدير أوتر فيه "وأبو داود والترمذي والنسائي، والمراد بأوله بعد صلاة العشاء" عند الجمهور سواء صلى بينه وبين العشاء نافلة أم لا، فلو أوتر قبل صلاة العشاء لم يصح سواء تعمد أو نسي، وقيل: يدخل وقته بدخول وقت العشاء، فله أن يصليه قبلها أو بعدها سواء تعمد أو سها.

"ويحتمل أن يكون اخلتلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا" بكسر الجيم "وحيث أوتر في وسطه لعله كان مسافرًا، وأما وتره في آخره فكان" لفظ الفتح، فكأنه كان "غالب أحواله لما عرف من مواظبته عليه الصلاة والسلام على الصلاة آخر الليل" قد أمر بجعل الوتر آخرها "والسحر قبيل الصبح" بضم القاف.

"وحكى الماوردي أنه السدس الأخير" من الليل "وقيل: أوله" أي: السحر "الفجر الأول".

"وفي رواية طلحة بن نافع" الواسطي نزيل مكة "عن ابن عباس" عند بن خزيمة: "فلما انفجر" انشق "الفجر قام صلى الله عليه وسلم فأوتر بركعة. قال ابن خزيمة: والمراد به الفجر الأول" فهو أداء

ص: 10

حذافة في السنن، وهو الذي احتج به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا في الوجوب.

وأما حديث بريدة: "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا"، وأعاد ذلك ثلاثا. ففي سنده أبو المنيب، وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظة "حق" بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ "واجب" بمعنى ما ثبت من طريق الأحاد.

وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فتوتر، كما في البخاري.

وهذا يدل على استحباب جعل الوتر آخر الليل، سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره.

لوقوعه في وقته.

"وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: "زادني ربي صلاة وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر"، وفي إسناده ضعف، وكذا في حديث خارجة بن حذافة" بن غانم القرشي، السهمي، الصحابي "في السنن وهو الذي احتج به من قال بوجوب الوتر" كالحنفية "وليس صريحا في الوجوب" إذ لا يلزم كون المزيد من جنس الواحب، فيحتمل أنه زيادة في النفل:

"وأما حديث بريدة: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا" أي: على طريقتنا وسنتنا "وأعاد ذلك" المذكور كله على المتبادر "ثلاثا" للتأكيد "ففي سنده أبو المنيب" بضم الميم وكسر النن فتحتية فموحدة اسمه عبيد الله -بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها- العتكي بفتح المهملة والفوقية "وفيه ضعف؛" لأنه يخطئ وإن كان صدوقا كما في التقريب في الأسماء والشارح قصر اطلاعه على الكنى فتحير "وعلى تقدير قبوله" لكونه صدوقا وإن كان يخطئ "فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظه "حق" بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ "واجب" بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد" وأتى له بالأمرين "وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها" فتقوم فتوضأ "فتوتر كما في البخاري" ومسلم وغيرهما "وهذا يدل على استحباب جعل الوتر آخر الليل سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره" له، وإلا فالأفضل تعجيله، وعليه حمل وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وأبي ذر وأبي الدرداء؛ أن لا ينام أحد منهم حتى يوتر،

ص: 11

واستدل به على وجوب الوتر، لكونه عليه الصلاة والسلام سلك به مسلك الواجب، حيث لم يدعها نائمة للوتر، وأبقاها للتهجد.

وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكيد الوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية.

وفيه: استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة، ولا يختص ذلك بالمفروضة ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع إيقاظه لإدراك الجماعة، وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات. قال القرطبي: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب في الواجب، مندوب في المندوب؛ لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال فهو كالغافل، وتنبيه الغافل واجب، والله أعلم.

قاله أبو عمر، فلا معارضة بين وصيته لهؤلاء وبين قول عائشة: وانتهى وتره إلى السحر؛ لأن الأول للاحتياط والآخر لمن علم من نفسه قوة بالانتباه، كما جاء عن عمر وعلي وغيرهما أنه الأفضل، وإليه ذهب الجمهور لما في مسلم عن جابر، مرفوعا:"من طمع منكم أن يوتر آخر الليل فليوتر من آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل، ومن خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله".

"واستدل به على وجوب الوتر لكونه عليه الصلاة والسلام سلك به مسلك الواجب حيث لم يدعها نائمة للوتر وأبقاها للتهجد" أي: لانقضائه نائمة "وتعقب بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب".

"نعم يدل على تأكيد أمر الوتر وأنه فوق غيره من النوافل الليلية" بل قال مالك: إنه أفضلها مطلقا "وفيه استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة ولا يختص ذلك بالمفروضة"؛ لأنه أيقظها للوتر وليس بفرض "ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع إيقاظه لإدراك الجماعة وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات" صلوات كالتهجد، أو غيرها كالتسحر، أو نام وقت الوقوف بعرفة؛ لأنه وقت طلب وتضرع، أو نام أمام المصلين، أو في الصف الأول، أو محراب المسجد، أو على سطح لا حاجز له، أو بعد طلع الفجر قبل طلوع الشمس؛ لأن الأرض تعج إلى الله من نومه حينئذ، أو بعد صلاة العصر، أو خاليا في بيت وحده فإنه مكروه، أو نامت امرأة مستلقية ووجها إلى السماء، أو رجل منبطحا على وجهه، فإنها ضجعة يبغضها الله.

"قال القرطبي: ولا يبعد أن يقال: إنه" أي: الإيقاظ "واجب في الواجب" كما إذا علم بأنه تام بعد دخول الوقت ولم يوكل من يوقظه، وأنه يخرج الوقت وهو نائم "مندوب في المندوب؛ لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال؛" لأنه إذا نبه انتبه "فهو كالغافل وتنبيه الغافل واجب، والله أعلم" بالحكم.

ص: 12

وعن علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . رواه الترمذي.

وعن ابن عباس: كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة.

وعن عائشة: كان يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و"المعوذتين". رواه أبو داود والترمذي ولأبي داود: وكان إذا سلم قال: سبحان الملك القدوس.

وعند النسائي، ثلاثًا يطيل في آخرهن وفي رواية: ويرفع صوته بالثالثة وعن

"وعن علي" كرم الله وجهه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "رواه الترمذي".

قال سود بن سعيد الكوفي التابعي: يقرأ في الركعة الأولى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1]، و {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] ، وفي الثانية:{وَالْعَصْرِ} [العصر: 1]، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 11] ، وفي الركعة الثالثة:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، ولعله لبيان الجواز وإلا فالأفضل خلافه.

"وعن ابن عباس: كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة" لبيان الجواز، وإن كان المستحب خلافه "و" هو ما جاء "عن عائشة: كان يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي: السورة كلها "وفي الثانية: بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} " كلها "وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين" الفلق والناس "رواه أبو داود والترمذي" وعليه الجمهور ولو لمن له حزب فلا يقرأ منه خلافا لابن العربي ومن تبعه "ولأبي داود: وكان إذا سلم قال: سبحان الملك القدوس" المنزه، المطهر عما لا يليق به سبحانه.

"وعند النسائي" قال: سبحان الملك القدوس "ثلاثا" من المرات "يطيل في آخرهن" أي:

ص: 13

علي: كان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

قال ابن تيمية: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد، فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص، ونفي

يمد صوته بالثالثة؛ "وفي رواية: ويرفع صوته بالثالثة" مع مده على مفاد الروايتين.

"وعن علي: كان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر وتره" قبل السلام على ظاهره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" أي: بما يرضيك عما يسخطك، فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه، فهذا لله تعالى، ثم الذي لنفسه قوله:"وبمعافاتك من عقوبتك" عقبها لاستعاذته برضاه، لاحتمال أنه يرضى من جهة حقه ويعاقب على حق غيره "وأعوذ بك منك" ترق من الأفعال إلى منشئها مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة، لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف، فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعاذة وغيرها "لا أحصي" لا أحصل "ثناء" بمثلثة ومد، وصفا بجميل "عليك" لعجزي عنه، إذ هو نعمة تستدعي شكرا إلى غير نهاية.

قال الإمام مالك: معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك "أنت" مبتدأ خبره "كما أثنيت" أي: الثناء عليك هو المماثل لثنائك "على نفسك" ولا قدرة لأحد عليه، ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل "رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه" وفيه أنه لا يبلغ وصفه، وإنما يوصف بما وصف به نفسه.

"قال ابن تيمية: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل" لكونه أول النهار "والوتر خاتمته"؛ لأنه آخر الليل "وقد كان عليه الصلاة والسلام يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص" هما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] الآية و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]"وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل وتوحيد المعرفة والإرادة وتوحيد الاعتقاد، فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة وما يجب إثباته للرب

ص: 14

الولد والوالد والكفؤ، المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفي كل نقص عنه، ونفي كل شبيه، وهذه هي مجامع التوحيد العملي والاعتقادي، فلذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهي وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها ن الشرك العلمي، كما خلصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} من الشرك العملي. قاله ابن القيم.

وأما القنوت في الركعة الأخيرة من الوتر، في النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووي في "الأذكار" باستحبابه، ولم يذكر لذلك دليلا. وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفي الآخر راو لم يسم:

تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال" نعت للصمدية "الذي لا يلحقه نقص" نعت للكمال، وإنما كانت مثبتة لذلك؛ لأن الصمد السيد المصمود إليه في الحوائج من صمد إذا قصد، وهو المقصود على الإطلاق لاستغنائه عن غيره مطلقا، وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته "ونفي" بالنصب عطف على جميع، أي المثبتة له نفي "الولد والوالد والكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفي كل نقص عنه ونفي كل شبيه، وهذه هي مجامع التوحيد العملي" بتقديم الميم على اللام "والاعتقادي، فلذلك كانت" سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "تعدل ثلث القرآن" كما صح في الأحاديث "فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة أمر ونهي وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر" اللام زائدة أو متعلقة بمفعول أخلصت المحذوف، أي: أحكاما ثابتة للخبر "عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي" بلام قبل الميم "كما خلصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] "من الشرك العلمي" بتقديم الميم على اللام "قاله ابن القيم" في الهدى.

"وأما القنوت في الركعة الأخيرة من الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووي في الأذكار باستحبابه ولم يذكر لذلك دليلا" وأنا أذكره إذ لا بد للاستجباب من دليل.

"وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفي الآخر راو لم

ص: 15

أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان.

وعن الحسن بن علي قال: علمني جدي كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت". وهذا لفظ رواية شريك رواه الطبراني وغيره.

يسم" فكل منهما معلول؛ "أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان" في الوتر.

"وعن الحسن بن علي" خاتم خلافة النبوة "قال: علمني جدي" صلى الله عليه وسلم "كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت" لطاعتك "وعافني فيمن عافيت" من البلايا والفتن والأسقام "وتولني فيمن توليت" نصره وتأديبه "وبارك لي فيما أعطيت" أي في الذي أعطيته لي "وقني شر ما قضيت".

قال العلامة الشهاب القرافي: معناه أن الله تعالى يقدر المكروه بعد دعاء العبد المستجاب، فإذا استجاب دعاءه لم يقع المقضي لفوات شرطه، وليس هو ردا للقضاء المبرم:"إنك تقضي" بما تريد "ولا يقضى عليك؛ وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت" بكسر العين مع فتح الياء، بلا خلاف بين علماء الحديث واللغة والتصريف، قاله الحافظ السيوطي، وله أبيات آخرها:

وقل إذا كنت في ذكر القنوت ولا

يعز يا رب من عاديت مكسورا

"تباركت ربنا وتعاليت"، وهذا لفظ رواية شريك، رواه الطبراني وغيره" كالبيهقي، ورواه أصحاب السنن كما مر بزيادة.

ص: 16

الباب الخامس: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى

اختلفت الرواة، هل صلاها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فمنهم المثبت ومنهم النافي.

فمن العلماء من رجح رواية المثبت على النافي، جريا على القاعدة المعروفة؛ لأنها تتضمن زيادة علم خفيت على النافين، قالوا: وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس. ويوجد عند الأقل، ومنهم من رجح رواية النافي بقرينه، ولم يعتد برواية المثبت إما لضعفها أو صرفها كما سيأتي عن صلاة الضحى.

قال الحاكم: وفي الباب عن أبي سعيد، وأبي ذر، وزيد بن أرقم، وأبي هريرة، وبريدة الأسلمي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن أبي أوفى، وعتبان بن مالك، وعتبة بن عبد السلمي، ونعيم بن همار الغطفاني، وأبي أمامة الباهلي، وعائشة بنت أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى. انتهى.

الباب الخامس: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى:

أي فيما جاء فيها ثبوتا أو نفيا "اختلفت الرواة هل صلاها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟، فمنهم المثبت" صلاته لها "ومنهم النافي" لها "فمن العلماء من رجح رواية المثبت على النافي جريا على القاعدة المعروفة؛ لأنها تتضمن زيادة علم خفيت على النافين، قالوا" أي: المرجحون للإثبات: "وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس" فينفونه لعدم علمهم به "ويوجد عند الأقل" لاطلاعه عليه بسبب اقتضى علمه به كخلوه "ومنهم من رجح رواية النافي بقرينه" اقتضت ترجيحها "ولم يعتد برواية المثبت إما لضعفها أو صرفها كما سيأتي عن صلاة الضحى..

قال الحاكم: وفي الباب" أي: باب صلاة الضحى "عن أبي سعيد" سعد بن مالك "وأبي ذر" جندب بن جنادة "وزيد بن أرقم وأبي هريرة وبريدة الأسلمي وأبي الدرداء" عويمر "وعبد الله بن أبي أوفى" بفتح فسكون "وعتبان" بكسر العين "ابن مالك وعتبة" بضمن فسكون "ابن عبد" بلا إضافة "السلمي ونعيم بن همار" بتشديد الميم آخره راء، أو هبار، أو هدار، أو خمار بالمعجمة أو المهملة "الغطفاني" صحابي، رجح الأكثر أن اسم أبيه همار كما في التقريب. "وأبي أمامة الباهلي" صدي ابن عجلان "وعائشة بنت أبي بكر وأم هانئ" فاختة "وأم سلمة" هند "كلهم" بالرفع محكي مع ما بعده، يعني أن الحاكم بعد أن عدد هؤلاء، قال: كلهم "شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، انتهى".

وفي فتح الباري: بعد أن ذكر في الضحى أقوالا ما نصه: قد جمع الحاكم الأحاديث

ص: 17

فأما حديث أبي سعيد فأخرجه الحاكم والترمذي عن عطية بن سعد العوفي عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها. وقال الترمذي: حسن غريب، لكن قال النووي: عطية ضعيف، فلعله اعتضد.

وأما حديث أبي ذر الغفاري، فرواه البزار في مسنده.

وأما حديث زيد بن أرقم، فرواه مسلم بلفظ:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الضحى" الحديث.

وأما حديث أبي هريرة فرواه البزار في مسنده بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك صلاة الضحى في سفر ولا في غيره. وإسناده ضعيف، فيه يوسف بن خالد السمتي ضعيف جدا. وأما حديث بريدة الأسلمي فرواه

".

وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني.

الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، وذكر لغالب هذه الأقوال مستندا، وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفسا من الصحابة. انتهى.

"فأما حديث أبي سعيد، فأخرجه الحاكم والترمذي عن عطية بن سعد العوفي" بمهملة وفاء أبي الحسن الكوفي، مات سنة إحدى عشرة ومائة "عنه" أي: أبي سعيد "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها ويدعها" أي: يتركها "حتى نقول: لا يصليها" وبه تمسك من قال: يستحب فعلها تارة وتركها تارة، بحيث لا يواظب عليها وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

"وقال الترمذي: حسن غريب" لكن "قال النووي: عطية ضعيف، فلعله اعتضد" حتى حسنه الترمذي، وأما تصحيح الحاكم فعلى عادته في التساهل، وفي التقريب أن عطية صدوق يخطئ كثيرا وكان شيعيا مدلسا.

"وأما حديث أبي ذر الغفاري فرواه البزار في مسنده، وأما حديث زيد بن أرقم فرواه مسلم بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الضحى الحديث، وأما حديث أبي هريرة فرواه البزار في مسنده، بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك صلاة الضحى في سفر ولا غيره وإسناده ضعيف، فيه يوسف بن خالد" بن عمير البصري "السمتي" بفتح السين المهملة وسكون الميم بعدها فوقية، سمى به يوسف المذكور لسمته وهيئته، كما في اللب "ضعيف جدا" قال في التقريب: تركوه، وكذا به ابن معين وكان من فقهاء الحنفية، مات سنة تسع وثمانين

ص: 18

وأما حديث ابن أبي أوفى، فرواه ابن عدي والحاكم بلفظ: قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل. قال بعض العلماء النافين لرواية المثبتين: هذا الحديث إن كان صحيحا فهو صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشكره يوم فتح مكة.

وأما حديث عتبان بن مالك، فرواه أحمد من رواية محمود بن الربيع عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى.

وأما حديث عتبة بن عبد فرواه

وأما حديث نعيم بن همار فرواه

وأما حديث أبي أمامة فرواه.

وأما حديث عائشة فرواه مسلم وأحمد وابن ماجه، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله.

ومائة.

"وأما حديث بريدة الأسلمي فرواه

" ببض له المصنف "وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني، وأما حديث ابن أبي أوفى فرواه ابن عدي والحاكم، بلفظ: قال" عبد الله بن أبي أوفى: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل" عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة المقتول في غزوة بدر.

"قال بعض العلماء النافين لرواية المثبتين" صلاة الضحى "هذا الحديث إن كان صحيحا فهو صلاة شكر وقعت وقت الضحى كشكره يوم فتح مكة" فلا دلالة فيها على أنه نوى بها الضحى.

"وأما حديث عتبان" بكسر المهملة وإسكان الفوقية فموحدة "ابن مالك، فرواه أحمد من رواية محمود بن الربيع" الخزرجي المدني، صحابي صغير جل روايته عن الصحابة "عنه" أي: عتبان؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة" بضم فسكون، أي صلاة "الضحى" وقال النافون لذلك: صلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى، فاختصره الراوي، فقال: صلى في بيته الضحى، ولذا قال أنس: ما رأيته صلى الضحى إلا يومئذ.

"وأما حديث عتبة بن عبد فرواه" بيض له المصنف "وأما حديث نعيم بن همار فرواه" بيض له المصنف، وقد رواه النسائي "وأما حديث أبي أمامة فرواه" بيض له المصنف، وقد رواه

ص: 19

وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه.

وأما حديث أم هانئ، فرواه البخاري ومسلم، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها،

ابن جرير الطبري.

"وأما حديث عائشة فرواه مسلم وأحمد وابن ماجه" عنها "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا" لفظ مسلم أربع ركعات "ويزيد ما شاء الله".

وفي رواية لمسلم بإسقاط الجلالة، أي من غير حصر، لكن لم ينقل أنه صلى أكثر من اثنتي عشرة ركعة.

"و" في مسلم وغيره "عن عبد الله بن شقيق" العقيلي البصري "قال: سألت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟، قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه" بفتح الميم وكسر الغين المعجمة، أي من سفره، وحمله النافون على أنه كان ينهي عن الطروق ليلا، فيقدم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد فيصلي وقت الضحى.

ولأحمد وأبي يعلى عن أنس أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى إلا أن يخرج إلى سفر أو يقدم من سفر، وهذا يدل على أنه كان يصلي الضحى إذا قدم، فهو شهادة على نفي الرؤية لا على نفي الصلاة، فإن قيل: ليست شهادة على النفي بل على الثبوت؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، أجاب الأبي بأنه استثناء منقطع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يصلي عند مجيئه صلاة القدوم لا صلاة الضحى.

"وأما حديث أم هانئ" فأخته على الأشهر، وقيل: هند شقيقة علي بن أبي طالب "فرواه البخاري" في مواضع "ومسلم" أنها "قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة" في رمضان سنة ثمان "فاغتسل" في بيتها على ظاهر التعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، لكن في الموطأ، وأخرجه البخاري ومسلم من طريق مالك عن أبي النضر، عن أبي مرة أنه سمع أم هانئ تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب الحديث.

زاد في رواية لمسلم وهو بأعلى مكة، وجمع الحافظ بأن ذلك تكرر منه، وأيده بما رواه ابن خزيمة عن مجاهد عن أم هانئ؛ أن أبا ذر ستره لما اغتسل.

وفي هذه الرواية أن فاطمة سترته، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل، فيصح القولان، وأما الستر فيحتمل أن أحدهما

ص: 20

غير أنه يتم الركوع والسجود. قالت في رواية أخرى: وذلك ضحى. ولمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها عام الفتح في ثوب واحد، قد خالف بين طرفيه. وللنسائي: أنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة بنته تستره بثوب. فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. ولأبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين.

ستره في ابتداء الغسل والآخر في أثنائه، انتهى، وهو حسن إلا أن قوله أولا -ظاهره أنه اغتسل في بيتها، ووقع في الموطأ ومسلم من طريق أبي مرة، عنها أنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل -عجيب، فإنه في البخاري في الغسل والصلاة وأواخر الجزية من طريق مالك كما علم، وليس في المواضع الثلاث ولا الموطأ قوله: وهو بأعلى مكة، وإنما هو في إحدى روايات مسلم "وصلى ثمان ركعات" بدون ياء بعد النون، وفي رواية: ثماني بالياء.

زاد كريب عن أم هانئ: يسلم من كل ركعتين، أخرجه ابن خزيمة وفيه رد على من تمسك به في صلاتها موصولة سواء صلى ثمانيا أو أقل، وللطبراني عن ابن أبي أوفى أنه صلى الضحى ركعتين فسألته امراته، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين، وهو محمول على أنه رأى من صلاته ركعتين، ورأت أم هانئ بقية الثامن وهذا يقوي أنه صلاها مفصولة "فلم أر صلاة قط أخف منها" أي من صلاته صلى الله عليه وسلم وللبخاري: فما رأيته صلى صلاة أخف منها "غير أنه يتم الركوع والسجود" ولمسلم عن عبد الله بن الحارث، عن أم هانئ: لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده، كل ذلك متقارب.

"قالت في رواية أخرى" عند الشيخين: "وذلك ضحى" أي صلاة ضحى "ولمسلم" من طريق أبي مرة عن أم هانئ؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها عام الفتح في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه" هو الاضطباع المعروف، وهذا اللفظ يؤيد الجمع المتقدم عن الحافظ:

"وللنسائي أنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل" تنظيفا لما عليه من الغبار، كما جاء في الحديث: فجاء وعلى وجهه وهج الغبار، فأمر فاطمة، أو كان غسلا شرعيا "وفاطمة بنته تستره بثوب" جملتان حاليتان، وفيه ستر المحارم عند الاغتسال وذلك حسن "فسلمت عليه، فقال:" بعد رد السلام ولم ينكره للعلم به "من هذه؟ " يدل على أن الستر كان كثيفا وعلم أنها امرأة؛ لأن ذلك الموضع لا يدخل عليه فيه الرجال "فقلت: أنا أم هانئ" بنت أبي طالب "فلما فرغ من غسله" بضم الغين "قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد" وعجب من عزو المصنف، ذلك للنسائي فقط مع أنه في الصحيحين بهذا اللفظ "ولأبي

ص: 21

وقد استدل بحديث البخاري ومسلم على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الضحى فطول فيها، أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة.

وأما حديث أم سلمة فرواه الحاكم من طريق إسحاق بن بشر المحاربي، قالت: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة.

قلت: وروي عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ست ركعات. رواه الحاكم أيضا.

وعن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في السفر سبحة الضحى ثماني ركعات. رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة والحاكم.

داود" عن كريب عن أم هانئ؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى سبحة الضحى" بالإضافة، أي صلى نافلتها "ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين" فصلاها مفصولة.

"وقد استدل بحديث البخاري ومسلم" المذكور أولا "على استحباب تخفيف صلاة الضحى وفيه نظر" كما قال الحافظ "لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الضحى فطول فيها، أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة" بن اليمان. "وأما حديث أم سلمة فرواه الحاكم من طريق إسحاق بن بشر المحاربي" عنها "قالت: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة" ليس صريحًا أن الجميع منوي به الضحى لجواز أن ما زاد على الثمان من النفل المطلق كما أومأ إليه الحافظ بقوله: استدل بحديث أم هانئ على أن أكثر الضحى ثمان ركعات، ثم ذكر ما نقله المصنف بعد قليل بقوله: واستبعده السبكي، إلى قوله: ففرق بين الأكثر والأفضل، ثم قال: ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى الإثني عشرة بتسليمة واحدة، فأما من فصل فما زاد على الثمان يكون نفلا مطلقا وتأتي عبارته.

"قلت: وروي" زياد علي من عد الحاكم من الصحابة خمسة وهم: جبير وأنس وعلي وأبو بكرة وجابر، فروي "عن ابن جبير بن مطعم" بن عدي النوفلي "عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى" زاد في نسخ "ست ركعات، رواه الحاكم أيضا" ففاته عده مع كونه رواه. "وعن أنس بن مالك قال: رأيت رسول اله صلى الله عليه وسلم صلى في السفر سبحة" أي:

ص: 22

وعن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الضحى، وراه النسائي في سننه الكبرى وأحمد وأبو يعلى، وإسناده جيد.

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي من الضحى إلا يومين، يوم يقدم مكة ويوم يقدم المدينة.

وعن أبي بكرة عند ابن عدي في الكامل من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى، فجاء الحسن وهو غلام فلما سجد ركب الحسن على ظهره. الحديث، وعمرو بن عبيد متروك.

وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات رواه الحاكم.

قال الشيخ ولي الدين العراقي: وقد ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال محمد بن جرير الطبري: أنها بلغت حد التواتر. قال ابن العربي:

صلاة "الضحى ثماني" بفتح الياء "ركعات رواه أحمد وصححه ابن خزيمة والحاكم، وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الضحى" من للتبعيض باعتبار الوقت، أي بعض الضحى، أي وقته، أو أنها بمعنى في "رواه النسائي في سننه الكبرى" وليست هي إحدى الكتب الستة. "وأحمد وأبو يعلى وإسناده جيد" أي مقبول.

"وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي من الضحى إلا يومين، يوم يقدم مكة، ويوم يقدم المدينة" فليست صلاة الضحى إنما هي صلاة القدوم من السفر، وكان يقدم ضحى؛ لأنه نهى عن الطروق ليلا.

"وعن أبي بكرة" نفيع بن الحارث "عند ابن عدي في الكامل من رواية عمرو" بفتح العين "ابن عبيد" مصغر التميمي البصري المعتزلي المشهور "عن الحسن" البصري "عن أبي بكرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى فجاء الحسن" بن علي "وهو غلام فلما سجد" المصطفى "ركب الحسن على ظهره" أي ظهر جده "الحديث. وعمرو بن عبيد متروك" قال في التقريب: كان داعيا إلى بدعته اتهمه جماعة مع أنه كان عابدا.

"وعن جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات، رواه الحاكم" والطبراني في الأوسط.

"قال الشيخ ولي الدين العراقي" أحمد الحافظ صاحب التصانيف العديدة المفيدة "وقد ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري: أنها بلغت حد

ص: 23

وهي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى مخبرا عن داود:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} فأبقى الله تعالى من ذلك في دين محمد "العصر" ونسخ صلاة الإشراق.

واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة: أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم -وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، رواه البخاري ومسلم ومالك

التواتر. قال ابن العربي: وهي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى مخبرا عن داود:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص: 18] بتسبيحه "بالعشي" وقت صلاة العصر {وَالْإِشْرَاقِ} [ص:18] وقت صلاة الضحى، وهي أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها "فأبقى الله تعالى من ذلك في دين محمد" صلى الله عليه وسلم "العصر ونسخ صلاة الإشراق" أي وجوبها. وفي نسخ بدل نسخ وتسبيح صلاة الإشراق، أي وأبقى تسبيح. ومعلوم أن الإبقاء في العصر للوجوب، وفي الثاني للاستحباب. أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: طلبت صلاة الضحى في القرآن فوجدتها ههنا يسبحن بالعشي والإشراق.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لم أر صلاة الضحى في موضع من القرآن إلا في قوله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] .

وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس قال: كنت أمر بهذه الآية فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى ثم قال: "يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق".

وروى ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوض عليها إلا غواص في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] .

وروى الأصفهاني في الترغيب عن عوف العقيلي في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]، قال: الذين يصلون الضحى. "واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة: أن" مخففة من الثقيلة أي أنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل" بفتح التحتية. وفي رواية: أن يعمله بالضمير "خشية" بالنصب، أي لأجل خشية "أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" بالنصب عطفا على يعمل، وليس المراد تركه أصلا، وقد فرض عليه، أو استحب، بل ترك أمرهم أن يعملوا معه لما مر أنهم لما اجتمعوا في رمضان للتهجد معه لم يخرج إليهم في الليلة الرابعة، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة. "وما سبح رسول الله" إنما

ص: 24

وأبو داود.

وبحديث مورق العجلي قال: قلت لابن عمر، أتصلي الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر قال: لا، قلت: فالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أخاله. رواه البخاري.

وقوله: "لا أخاله" أي لا أظنه، وهو بكسر الهمزة وتفتح أيضا، والخاء معجمة.

وقول الشعبي: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى.

وروى عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا ابن عمر

قالت عند من عزاه لهم ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي "سبحة الضحى قط" بضم السين، أي نافلته، وأصلها من التسبيح خصت به النافلة؛ لأنه في الفريضة نافلة، فقيل لصلاة النافلة: سبحة؛ لأنها كالتسبيح في الفريضة "وإني لأسبحها" أي لأصليها؛ لأنه بلغها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها. وفي رواية: لأستحبها من الاستحباب، والروايتان لأصحاب الموطأ.

قال الحافظ: ولكل وجه، ولكن الأول يقتضي الفعل، والثاني لا يستلزمه "رواه البخاري" من طريق مالك وابن أبي ذئب "ومسلم" من طريق مالك "ومالك" في الموطأ "وأبو داود" من طريقه، ومالك وابن أبي ذئب عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ. فقد فيه المصنف وأخر وقال: ما سبح مع أن الذي قالته ما رأيته يصلي، وذلك ليس نفيا مطلقا فهذا اختصار مخل. "و" احتجوا أيضا "بحديث مورق" بفتح الواو وكسر الراء الثقيلة وبقاف، ابن مشمرج بضم الميم وفتح المعجمة وسكون الميم وكسر الراء وجيم ابن عبد الله "العجلي" أبي المعتمر البصري، ثقة عابد. مات بعد المائة وما له في البخاري عن ابن عمر سوى هذا الحديث. "قال: قلت لابن عمر: أتصلي الضحى؟ قال: لا" أصليها "قلت: فعمر؟ قال: لا" أي لم يصلها "قلت: أبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أخاله" أي لا أظنه صلاها "رواه البخاري" من إفراده عن مسلم.

"وقوله: لا أخاله، أي لا أظنه وهو بكسر الهمزة وتفتح أيضا والخاء معجمة "و" احتجوا أيضا بـ"قول الشعبي" عامر "سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى" فسماها بدعة.

ص: 25

جالس عند حجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم فقال: بدعة.

وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة ونعمت البدعة.

وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئًا أحب إلي منها.

قلت: وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، بأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على أمته فيعجزوا عنها، وكان يفعلها كما صرحت به عائشة كا تقدم، وكما ذكرته أم هانئ وغيرها.

وقول عائشة: "ما رأيته صلاها" لا يخالف قولها: "كان يصليها"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يكون عندها في وقت الضحى إلا في النادر من الأوقات؛ لأنه قد يكون مسافرا، وقد يكون حاضرا، وفي الحضر قد يكون في المسجد، وقد يكون في

"وروى" عنه سعيد بن منصور بإسناد صحيح "عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى فسألناه عن صلاتهم فقال: بدعة" أي حسنة، بدليل ما قبله وما بعده، ويأتي للمصنف قريبا ثلاث محامل في تسميتها بدعة.

"وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن" عبد الله بن إسحاق بن "الأعرج" فنسب لجد أبيه البصري ثقة من رجال مسلم. "قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة" حسنة لقوله: "ونعمت البدعة"؛ لأنها تجمع المحاسن كلها.

"وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم، عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها" أي يصلي الضحى "وما أحدث الناس شيئا أحب إلي منها"؛ لأنها عبادة "قلت: وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث" بالنفي والإثبات "بأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على أمته فيعجزوا عنها" بكسر الجيم مضارع عجز يفتحها "وكان يفعلها كما صرحت به عائشة كما تقدم، وكما ذكرته أم هانئ" وحديثها أصح شيء ورد في الباب كما نقله الترمذي عن أحمد "وغيرها" من الصحابة الذين عددهم آنفا. "وقول عائشة: ما رأيته صلاها لا يخالف قولها: كان يصليها" أربعا ويزيد ما شاء الله؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يكون عندها في وقت الضحى إلا في النادر من الأوقات؛ لأنه قد يكون مسافرًا، وقد يكون

ص: 26

بيت من بيوت زوجاته، أو غيرها وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة، فقالت: ما رأيته وعلمت بغير رؤية أنه كان يصليها بإخباره صلى الله عليه وسلم أو بإخبار غيره، فروت ذلك.

وقول ابن عمر: "لا أخاله" توقف، وكأن سبب توقفه أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره.

وأما قوله: "إنها بدعة" فمؤول على أنه لم يبلغه الأحاديث المذكورة، أو أنه أراد أنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها، أو أن إظهارها في المساجد ونحوها بدعة، وإنما سنته النافلة في البيوت والله أعلم.

وبالجملة: فليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة كما قدمناه. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوما يصلونها فأنكر عليهم وقال: إن كان ولا بد ففي بيوتكم.

حاضرًا، وفي الحضر قد يكون في المسجد، وقد يكون في بيت من بيوت زوجاته أو غيرها، وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة، فقالت: ما رأيته" فإنما نفت رؤيتها "وعلمت بغير رؤية أنه كان يصليها" إما "بإخباره صلى الله عليه وسلم" لها "أو بإخبار غيره، فروت ذلك" جزما عند مسلم، وحاصله أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. "وقول ابن عمر: لا أخاله توقف" منه؛ لأنه لم يجزم عنه بفعل ولا بترك "وكأن سبب توقفه أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره" وقد جاء عنه الجزم بأنها محدثة. فروى سعيد بن منصور عن مجاهد عن ابن عمر أنها محدثة، وأنها لمن أحسن ما أحدثوا كما في الفتح ناقلا فيه ما قدمه المصنف قبل ذكر الجمع؛ لأنه كله فيه الجزم بأنها محدثة.

"وأما قوله: إنها بدعة، فمؤول على أنه لم يبلغه الأحاديث المذكورة" إذ لو بلغته لم يسعه قول ذلك "أو أنه أراد أنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها" فسمى المداومة عليها بدعة "أو أن إظهارها في المساجد ونحوها بدعة، وإنما سنته النافلة في البيوت، والله أعلم" بما أراد "وبالجملة فليس في أحديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على رؤيته لا على عدم الوقوع في نفس الأمر" فيقدم عليه رواته من أثبت على القاعدة "أو الذي نفاه صفة مخصوصة" من المداومة أو الإظهار "كما قدمناه" قريبا جدا.

"وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوما يصلونها فأنكر عليهم" صلاتها

ص: 27

وذهب آخرون إلى استحباب فعلها غبا، فتصلى في بعض الأيام دون بعض، وكان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام.

وذهب آخرون: إلى أنها إنما تفعل لسبب من الأسباب، وأنه عليه الصلاة والسلام إنما صلاها يوم الفتح من أجل الفتح، وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح. متمسكين بما قاله القاضي عياض وغيره: أن حديث أم هانئ ليس بظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام قصد سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته، قال: وقد قيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها.

وتعقبه النووي: بأن الصواب صحة الاستدلال به، لما رواه أبو داود من طريق كريب عن أم هانئ أنه صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى. ولمسلم: في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عن أم هانئ في قصة اغتساله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ثم صلى

بين الناس "وقال: إن كان ولا بد ففي بيوتكم" صلوها، وهذا يؤيد التأويل المذكور كما في الفتح. "وذهب آخرون إلى استحباب فعلها غبا" بالكسر وقتا بعد وقت كما قال "فتصلى في بعض الأيام دون بعض" بحيث لا يواظب عليها. "وكان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام" الذي في الفتح عن ابن عباس كان يصليها عشرا ويدعها عشرا. وقال الثوري عن منصور: كان يكرهون المحافظة عليها كالمكتوبة. وعن سعيد بن جبير: إني لأدعها وأنا أحبها مخافة أن أراها حتما علي، انتهى. وتجويز أن ابن عباس كان يظهر فعلها يومًا ويترك إظهاره عشرة أيام بعيد.

"وذهب آخرون إلى أنها إنما تفعل لسبب من الأسباب" واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا لسبب فاتفق وقوعها وقت الضحى وتعددت الأسباب فصلاها يوم بشر برأس أبي جهل شكرا. وفي بيت عتبان إجابة لدعوته، وإذا قدم من سفر للقدوم "وأنه عليه الصلاة والسلام إنما لاها يوم الفتح" لمكة "من أجل الفتح" شكرا عليه "وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح" وأن سنة الفتح أن تصلى ثمان ركعات، ونقله الطبري عن فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة "متمسكين بما قاله القاضي عياض وغيره أن حديث أم هانئ ليس بظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام قصد سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته" بقولها: وذلك ضحى.

"قال" عياض: "وقد قيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه" أي ورده الذي كان يصليه "فيها" باشتغاله بالفتح "وتعقبه النووي بأن الصواب صحة الاستدلال به" أي بحديث أم هانئ "لما رواه أبو داود" بإسناد صحيح "من طريق كريب عن أم هانئ أنه صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى" أي نافلته "ولمسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة" بضم

ص: 28

ثمان ركعات سبحة الضحى. وروى ابن عبد البر في "التمهيد" من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فصلى ثماني ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاة الضحى.

واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات.

واستبعده السبكي. ووجه بأن الأصل في العبادة التوقف، وهذا أكثر ما ورد من فعله عليه السلام. وقد ورد من فعله دون ذلك كحديث ابن أبي أوفى: أنه عليه الصلاة والسلام صلى الضحى ركعتين، أخرجه ابن عدي.

وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام مما فيه زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة".

الميم وشد الراء "عن أم هانئ في قصة اغتساله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح" لمكة "ثم صلى ثماني" بفتح الياء "ركعات سبحة الضحى". فالتصريح في هاتين الطريقين بسبحة الضحى، يعين أن قوله في تلك الطريق وذلك ضحى، أي صلاته، لا الإخبار عن الوقت؛ لأن الحديث يفسر بعضه بعضا لا سيما مع اتحاد المخرج وهو حديث واحد.

"وروى ابن عبد البر في التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد "من طريق عكرمة بن خالد" بن العاصي بن هشام المخزومي ثقة من رجال الصحيحين "عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فصلى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: "هذه صلاة الضحى" فهذا نص صريح لا يقبل التأويل. "واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات" وهو المرجح عند الشافعية والمالكية "واستبعده السبكي"؛ لأنه مجرد فعل لا دلالة فيه على أن الثمان أكثرها "و" لكن "وجه بأن الأصل في العبادة التوقف" بأن يقتصر على الوارد ولا يتجاوزه إلى غيره إلا بدليل "وهذا أكثر ما ورد من فعله عليه السلام" فلا يزاد عليه، وما ورد عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة ليس فيه أن الجميع نوى به الضحى، فيجوز أن الزائد نفل مطلق كما مر "وقد ورد من فعله دون ذلك كحديث ابن أبي أوفى أنه عليه الصلاة والسلام صلى الضحى ركعتين أخرجه ابن عدي" ومثله في حديث عتبان، وحديث عائشة: كان يصلي أربعا، وحديث جابر: أنه صلى الضحى ست ركعات. "وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام مما فيه زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة" من ذهب" كما هو بقية الحديث.

ص: 29

أخرجه الترمذي واستغربه وليس في إسناده من أطلق عليه الضعف. ومن ثم قال الروياني: ومن تبعه أكثرها ثنتا عشرة ركعة.

فقال النووي في شرح المهذب: فيه حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس، لكن إذا ضم إليه حديث أبي الدرداء رفعه، وفيه "ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة" رواه الطبراني. وحديث أبي ذر عن البزار، وفي إسناده ضعف أيضا، قوى وصلح للاحتجاج به.

ونقل الترمذي عن أحمد: أن أصح شيء ورد في الباب حديث أم هانئ، وهو كما قال، ولهذا قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة، ففرق بين الأكثر والأفضل.

قال الزين العراقي: يحتمل أن الضحى مفعول "صلى"، وقوله: ثنتي عشرة، بدل، وأن يكون الضحى ظرفًا، أي من صلى وقت الضحى "أخرجه الترمذي" وابن ماجه "واستغربه" الترمذي "و" لكن "ليس في إسناده من أطلق عليه الضعف" فيصلح للحجة وإن كان غريبا؛ لأن الغرابة لا تستلزم الضعف. "ومن ثم قال الروياني ومن تبعه أكثرها اثنتا عشرة" ركعة.

"فقال النووي في شرح المهذب" جواب قوله وأما ما ورد من قوله: "فيه حديث ضعيف" فلا يعارض ما دل عليه الحديث الصحيح أن أكثرها ثمان "كأنه" أي النووي "يشير إلى حديث أنس" المذكور "لكن إذا ضم إليه حديث أبي الدرداء رفعه" أي قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعا كتب من القانتين، ومن صلى ستا كفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانيا كتب من العابدين". "وفيه" عقب هذا "ومن صلى ثنتي عشر ركعة بنى الله له بيتا في الجنة" رواه الطبراني".

قال الحافظ: وفي إسناده ضعف أيضا "و" له شاهد وهو "حديث أبي ذر عن البزار، وفي إسناده ضعف أيضا قوي وصلح للاحتجاج به" جواب "إذا" في قوله لكن إذا ضم ولس جوابها قوله رفعه كما توهمه جاهل؛ لأنه في موضع الصفة الحديث، والجواب أنه وإن صلح للحجية لكن احتمال أن الضحى ظرف قدح في الاستدلال به فمن ثم لم يقل به الجمهور. "ونقل الترمذي عن أحمد إن أصح شيء" أي حديث "ورد في الباب" أي باب صلاة الضحى "حديث أم هانئ وهو كما قال"؛ لأنه متفق عليه. "ولهذا قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان" لصحة حديثه "وأكثرها ثنتا عشرة" عملا بحديث أنس "ففرق بين الأكثر والأفضل".

قال الحافظ: ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى الاثنتي عشرة ركعة بتسليمة واحدة فإنها

ص: 30

وأجاب القائلون بأنها لا تفعل إلا بسبب عن قول أبي هريرة المروي في البخاري أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، لا أدعهن حتى أموت، "صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى" الحديث، بأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس

تقع نفلًا مطلقا عند من يقول: إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات، فأما من فصل فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون نفلا مطلقا، فتكون صلاة اثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان لكونه أتى بالأفضل، وزاد وقد ذهب قوم منهم أبو جعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية أنه لا حد لأكثرها.

وروي عن إبراهيم النخعي قال: سأل رجل الأسود بن يزيد كم أصلي الضحى؟ قال: كم شئت. وحديث عائشة كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله، هذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة. وذهب آخرون إلى أن أفضلها أربع ركعات، حكاه الحاكم في كتابه المفرد في صلاة الضحى عن جماعة من أئمة الحديث لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك كحديث عائشة المذكور. وحديث الترذي عن أبي الدرداء وأبي ذر مرفوعًا عن الله تعالى:"ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره". وحديث نعيم بن همار عند النسائي وأبي أمامة وعبد الله بن عمرو والنواس بن سمعان عند الطبري، وعقبة بن عامر وأبي مرة الطائفي عند أحمد؛ كلهم بنحوه. وحديث أبي موسى رفعه:"من صلى الضحى أربعا بنى الله له بيتا في الجنة"، أخرجه الطبراني في الأوسط. وحديث أبي أمامة مرفوعا:"أتدرون قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} "[النجم: 37]، قال:"وفي عمل يومه بأربع ركعات الضحى"، أخرجه الحاكم. انتهى.

"وأجاب القائلون: بأنها لا تفعل إلا بسبب" كشكر على فتح ونحوه "عن قول أبي هريرة المروي في البخاري" في الصلاة والصوم ومسلم والنسائي في الصلاة "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم" صديقي الخالص الذي تخللت صحبته قلبي فصارت في خلاله، أي باطنه ولا يعارضه حديث:"لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر"؛ لأن الممتنع أن يتخذ هو صلى الله عليه وسلم خليلا لا أن غيره يتخذه خليلا، ولا يقال: المخاللة تكون من الجانبين؛ لأنا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة "بثلاث لا أدعهن حتى أموت" يحتمل أنه من جملة الوصية، أي: وأوصاني أن لا أدعهن، ويحتمل أنه من أخبار الصحابي عن نفسه "صوم ثلاثة أيام" بالخفض، بدل من قوله: بثلاث، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف "من كل شهر" الذي يظهر لي أنها البيض، ويأتي تفسيرها في كتاب الصوم "وصلاة الضحى" زاد أحمد كل يوم، وللبخاري في الصوم، ومسلم هنا وركعتي الضحى.

قال ابن دقيق العيد: ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله، وفيه استحباب صلاة الضحى وإن أقلها ركعتان وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها لا ينافي ندبها؛ لأنه حاصل بدلالة القول

ص: 31

الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا أمره أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا سائر الصحابة. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر: وهذه الوصية لأبي هريرة قد ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم، ولأبي ذر فيما رواه النسائي، قال: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منهما بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع من نقص.

ومن فوائد صلاة الضحى أنها تجزي عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان ثلثمائة وستون مفصلا، كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر، قال فيه: ويجزي من ذلك ركعتا الضحى.

وليس من شرط الحكم أن يتظافر عليه أدلة القول والفعل لكن ما واظب صلى الله عليه وسلم على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه، قاله كله الحافظ "الحديث" تتمته: ونوم على وتر، وللبخاري في الصوم ومسلم هنا: وأن أوتر قبل أن أنام فيه، ندب تقديم الوتر على النوم، وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ، ويتناول من يصلي بين النومين "بأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل" فإنما هو لسبب "ولهذا أمره أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا سائر" أي باقي "الصحابة، انتهى" الجواب.

"قال الحافظ ابن حجر: وهذه الوصية لأبي هريرة قد ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم" قال: "أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن ما عشت بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر""ولأبي ذر فيما رواه النسائي قال" الحافظ: "والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منها بانشراح ولينجبر ما لعله يقع من نقص" لم يعلم به "ون فوائد صلاة الضحى أنها تجزي" بفتح التحتية من جزى وضمها من أجزأ، أي يكفي "عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان ثلاثمائة" كذا في النسخ، ولفظ الفتح وهي ثلاثمائة وهو واضح وعلى سقوطها فهو خبر مبتدأ محذوف، أي هي ويقع في بعض النسخ الثلاثمائة بزيادة أل، وفي جوازه كلام مذكور في النحو "وستون مفصلا كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يصبح على كل سلامى صدقة فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة". "قال فيه" عقب هذا "ويجزي" ضبطه المصنف بفتح الياء وضمها "من ذلك" أي عن تلك الصدقات "ركعتا

ص: 32

وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها في الفضل بين الرواتب والضحى.

وحكى الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي في شرح الترمذي: أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثيرا من الناس يتركها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما مع ما وقع في حديث أبي ذر واقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة في الحديث؛ لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات البدنية، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال فكان يجزيهم ذلك من الصدقة عن السلامى، كما في الحديث والله أعلم.

الضحى" لفظ مسلم ركعتان يركعهما من الضحى، أي لأن الصلاة عمل بجميع أعضاء البدن فإن صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل، وفيه بيان عظيم فضل صلاة الضحى وجسيم أجرها، وفيه أن العبد لم يوجب على الله شيئا من الثواب بعمله؛ لأن أعماله كلها لو قوبلت بإزاء ما وجب عليه من الشكر على عضو واحد لم تف به. "وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها في الفضل بين الرواتب والضحى" وهو المعتمد عندهم.

"وحكى الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي في شرح الترمذي أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى فصار كثير من الناس يتركها أصلا لذلك" لخوف العمى إن قطعها "وليس لما قالوه أصل" في حديث ولا أثر "بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير" الحاصل لمن صلى الضحى "لا سيما مع ما وقع في حديث أبي ذر" من أجزائها عن صدقات المفاصل واستعمل لا سيما بلا واو على قول من أجازه مستدلا بقول الشاعر:

ف بالعقود وبالأيمان لا سيما

عقد وفاء به من أعظم القرب

فخففها وحذف الواو وفي الغنى وغيره عن ثعلب من استعملها على خلاف قوله:

ولا سيما يوم بدارة جلجل

فهو مخطئ "واقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين" أبي هريرة وأبي الدرداء وأبي ذر "على الثلاثة المذكورة في الحديث" الصوم والضحى والوتر قبل النوم؛ "لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات البدنية ولم يكن" الثلاثة "المذكورون من أصحاب الأموال فكان يجزيهم ذلك من الصدقة" فحواه أن الغني لا يجزيه الضحى، وبه صرح بعضهم "عن السلامى" بضم

ص: 33

وروى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي الضحى بسور منها: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ} ومناسبة ذلك ظاهرة جدا والله أعلم.

تنبيه: قال شيخ الإسلام ابن حجر: قول عائشة في الصحيح: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى" يدل على ضعف ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه. وقد عدها جماعة من العلماء من خصائصه صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت ذلك في خبر صحيح.

وقول الماوردي في "الحاوي": إنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات. يعكر عليه ما رواه مسلم في حديث أم هانئ: "أنه لم يصلها قبل ولا بعد" ولا يقال: إن نفي أم هانئ لذلك يلزم منه العدم؛ لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى

المهملة وفتح اللام والميم مخففا، جمع سلامية، وهي الأنامل من أنملة الأصابع، وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على سلاميات وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: هي كل عظم مجوف من صغار العظم، وقيل: هي في الأصل عظام الأصابع والأكف والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد، قاله المصنف في شرح مسلم "كما في الحديث" السابق. زاد الحافظ: وخصت الصلاة بشيئين؛ لأنها تقع ليلا ونهارا بخلاف الصيام "والله أعلم" بمراد رسوله.

"ووى الحاكم من طريق أبي الخير" مرثد، براء ساكنة فمثلثة، ابن عبد الله المصري "عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسو الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي الضحى بسور منها {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ} ومناسبة ذلك ظاهرة جدا والله أعلم".

"تنبيه قال شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ من العلماء "قول عائشة في الصحيح: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى يدل على ضعف ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه و" لذلك "قد عدها جماعة من العلماء من خصائص ولم يثبت ذلك في خبر صحيح" وخبر: "ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع النحر والوتر وركعتا الضحى"، رواه البيهقي وضعفه هو وغيره ويؤخذ منه لو صح أن الواجب عليه أقله ركعتان "وقول الماوردي في الحاوي" كتاب له في الفقه "أنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات يعكر عليه ما رواه مسلم في حديث أم هانئ أنه لم يصلها قبل ولا بعد" لكن لفظ مسلم عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ في آخر الحديث قالت: فلم أره سبحها قبل ولا بعد فإنما نفت رؤيتها "ولا يقال أن نفي أم هانئ لذلك يلزم منه العدم" أي عدم صلاته إياها في غير يوم الفتح؛ "لأنا

ص: 34

دليل، ولو وجد لم يكن حجة؛ لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه. انتهى.

وقال ابن العربي في "عارضة الأحوذي": أنا أبو الحسن الأزدي أنا طاهر، أنا علي، قال: أخبرنا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن العسكري، قال: أنبأنا الحسين الختني، أخبرنا أبو غسان أنبأنا قيس عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كتب علي النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها". رواه الدارقطني.

نقول يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة؛ لأن عائشة ذكرت أنه" صلى الله عليه وسلم "كان إذا عمل عملا أثبته" أي واظب عليه "فلا تستلزم المواظبة" المداومة "على هذا" الذي قالته عائشة "الوجوب علي، انتهى" كلام الحافظ.

"قال ابن العربي" الحافظ أبو بكر محمد "في عارضة الأحوذي" على كتاب الترمذي قال ابن خلكان: العارضة القدرة على الكلام والأحوذي -بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الواو وكسر المعجمة وتحتية مشددة- الخفيف في الشيء لحذقه. وقال الأصمعي: الأحوذي المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عليه منها شيء. "أنا" اختصار لا خبر "أبو الحسن" وفي نسخة أبو الخير "الأزدي": قال "أنا طاهر" قال "أنا علي".

"قال: أخبرنا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن العسكري قال: أنبأنا الحسين الختني" بضم المعجمة وفتح الفوقية خفيفة وبعضهم يشددها، نسبة إلى ختن من بلاد الترك. قال:"أخبرنا أبو غسان" قال: "أنبأنا قيس عن جابر" بن يزيد الجعفي ضعيف رافضي "عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب" أي فرض "علي النحر ولم يكتب عليكم" أي لم يفرض فلا ينافي ندبه "وأمرت بصلاة الضحى" أمر إيجاب بدليل قوله "ولم تؤمروا بها" وجوبا بل استحبابا "ورواه الدارقطني" وأحمد وهو ضعيف من جميع طرقه، وصححه الحاكم فذهل، قاله الحافظ.

ص: 35

القسم الثاني: في صلاته صلى الله عليه وسلم النوافل وأحكامها

وفيه بابان:

الباب الأول: في النوافل المقرونة بالأوقات

وفيه فصلان:

الفصل الأول: في رواتب الصلوات الخمس والجمعة:

وفيه فروع سبعة:

الفرع الأول: في أحاديث جامعة لرواتب مشتركة

عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر، ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي في بيته ركعتين. قال: وأخبرتني حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح، وبدا له

"القسم الثاني في صلاته صلى الله عليه وسلم النوافل وأحكامها" كمواظبة وسر وجهر وتطويل وتخفيف. "وفيه بابان: الأول: في النوافل المقرونة بالأوقات، وفيه فصلان، الفصل الأول: في رواتب الصلوات الخمس والجمعة، وفيه فروع سبعة الأول: في أحاديث جامعة لرواتب مشتركة: عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته" يرجع للمغرب. قال الحافظ: فيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار. وحكى ذلك عن مالك والثوري وفيه نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبا وبالليل يكون في بيته انتهى. "وبعد صلاة العشاء ركعتين" زاد ابن وهب وجماعة من رواة الموطأ في بيته "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي في بيته ركعتين" لفظ البخاري كالموطأ فيصلي ركعتين.

قال المصنف حتى ينصرف من المسجد إلى بيته فيصلي فيه ركعتين. انتهى. نعم رواه يحيى بن بكير في الموطأ في بيته، وإنما النزاع في عزوه للبخاري وإن كان المعنى في بيته.

"قال" ابن عمر "وأخبرتني حفصة" أخته أم المؤمنين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا له الصبح" أي ظهر واستنار "صلى ركعتين خفيفتين"

ص: 36

الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة. رواه البخاري.

فهذه عشر ركعات؛ لأن الركعتين بعد الجمعة لا يجتمعان مع الركعتين بعد الظهر، إلا لعارض، بأن يصلي الجمعة وسنتها التي بعدها، ثم يتبين له فسادها فيصلي الظهر ويصلي بعدها سنتها كما نبه عليه الشيخ ولي الدين العراقي.

واختلف في دلالة لفظ "كان" على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه، قال: وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم يقري الضيف، وصحح الإمام فخر الدين في "المحصول" أنها لا تقتضيه، لا لغة ولا عرفا، وقال النووي في شرح مسلم،

هما ركعتا الفجر "قبل أن تقام الصلاة، رواه البخاري" في الجمعة عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع بدون قوله: وأخبرتني حفصة.. إلخ، فرواه بعد ذلك في أبواب التطوع من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته. وحدثتني حفصة أنه كان يصلي ركعتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل عليه فيها، ورواه أيضا من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها. حدثتني حفصة فذكره باللفظ الذي ساقه المصنف فهو وإن صدق في العزو للبخاري لكنه يوهم أنه ساقه كما ذكره، وليس كذلك كما علم "فهذه عشر ركعات" ولم تكن اثنتي عشرة بركعتي الجمعة؛ "لأن الركعتين بعد الجمعة لا يجتمعان مع الركعتين بعد الظهر إلا لعارض بأن يصلي الجمعة وسنتها التي بعدها ثم يتبين له فسادها" بشيء من المفسدات "فيصلي الظهر ويصلي بعدها سنتها كما نبه عليه" أي على هذا التصوير "الشيخ ولي الدين العراقي" على أن اجتماعهما إنما هو في الصورة إذ المعدوم شرعا كالمعدوم حسا. "واختلف في دلالة لفظ كان على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه" أي تستلزمه فليست موضوعة للدلالة على التكرار، وإنما هي موضوعة لثبوت الفعل في الماضي.

"قال" ابن الحاجب: "وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم" الطائي "يقري الضيف" فإن ذكر ذلك في مقام المدح يقتضي التكرار، إذ المرة الواحدة لا مدح فيها. "وصحح الإمام فخر الدين" الرازي "في المحصول" اسم كتاب له في الأصول "أنها لا تقتضيه لا لغة"؛ لأن مدلولها لغة إنما هو ثبوت الفعل في الماضي والحجة له حديث كان صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة يخرص تمر خيبر، وإنما بعثه مرة واحدة "ولا عرفا".

ص: 37

إنه المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين، وذكر ابن دقيق العيد أنها تقضيه عرفا.

فعلى هذا: ففي الحديث دلالة على تكرار فعل هذه النوافل من النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان هذا دأبه وعادته.

وعن عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس الظهر، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، الحديث، وفي آخره: وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين. رواه مسلم. فهذه ثنتا عشرة ركعة.

وعنها: أنه صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة. وفي رواية: ولم يكن يتركهما سرا ولا علانية، في سفر ولا حضر ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر. رواه البخاري ومسلم.

"وقال النووي في شرح مسلم: إنه المختار الذي عليه الأكثرون المحققون من الأصوليين، وذكر ابن دقيق العيد أنها تقضيه عرفا" وهو الراجح "فعلى هذا ففي الحديث دلالة على تكرار فعل هذه النوافل من النبي صلى الله عليه وسلم أنه" أي الشأن "كان هذا دأبه وعادته" عطف تفسير. "وعن عائشة رضي الله عنها" قالت: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج" إلى المسجد "فيصلي بالناس الظهر ثم يدخل" بيته "فيصلي ركعتين" فيه "وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل" البيت "فيصلي ركعتين" راتبة المغرب "ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، الحديث" ذكر في صلاته بالليل "وفي آخره وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين" قبل الصبح "رواه مسلم" عن عبد الله بن شقيق عنها "فهذه ثنتا عشرة ركعة، وعنها" أي عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع" يترك "أربعا قبل الظهر" يأتي للمصنف قريبا الجمع بينه وبين حديث ابن عمر "وركعتين قبل الغداة" أي الصبح وهما ركعتا الفجر.

"وفي رواية" عن عئشة "و" صلاتان "لم يكن يتركهما سرا ولا علانية في سفر ولا حضر" وأبدلت من صلاتان المقدر وهو ملفوظ به في مسلم قولها "ركعتان قبل الصبح".

وفي رواية بين النداءين أي أذان الصبح وإقامته، وفي أخرى خفيفتان بين النداء والإقامة "وركعتان بعد العصر" هما الركعتان اللتان بعد الظهر كان شغل عنهما لما أتاه ناس من عبد القيس مسلمين فصلاهما بعد العصر، وكان إذا صلى صلاة ثبتها كما في الصحيح عن عائشة، يعني داوم عليها، وهذا من خصائصه "رواه البخاري ومسلم" أي روايا حديث عائشة المذكور

ص: 38

الفرع الثاني: في ركعتي الفجر

قالت عائشة: لم يكن صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.

ولمسلم: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعها".

وكان يصليهما إذا سكت المؤذن بعد أن يستنير الفجر ويخففهما. رواه الشيخان وهذا لفظ النسائي.

واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح في أول

بروايتيه إلا أن لفظ البخاري: ركعتان لم يكن يدعهما، أي يتركهما، ولفظ مسلم في آخر حديث بلفظ وصلاتان.. إلخ، وهما المراد بقولها: ركعتان؛ لأنها فسرتهما بعده بأربع "الثاني في ركعتي الفجر قالت عائشة: لم يكن صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا" أي تفقدا وتحفظا. وعند ابن خزيمة أشد معاهدة "منه على ركعتي الفجر".

وفي رواية لمسلم: ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة ولا إلى غنيمة "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي" وفيه دليل على عظم فضلهما. قال الطيبي على متعلقه بتعاهد، ويجوز تقديم معمول التمييز عليه والتعهد المحافظة على الشيء ورعاية حرمته، قال: والظاهر أن خبر لم يكن على شيء، أي لم يكن يتعاهد وأشد تعاهدا حال أو مفعول مطلق على تأويل أن يكون التعاهد متعاهدًا كقوله تعالى:{يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ} [النساء: 77] ، أو أشد خشية على الوجهين.

"ولمسلم" عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعها" وفي مسلم أيضا عن عائشة مرفوعا: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، أي متاعها الصرف فلا يرد أن من جملة متاعها الفجر، فإن قيل: لا خصوصية للفجر بل تسبيحة أو تكبيرة خير فضلا عن ركعين نافلة فضلا عن ركعتي الفجر، أجاب الأبي بأن الخصوصية مزية النص عليهما دون غيرهما، فإنه يدل على تأكيدهما وكونهما خيرا من الدنيا لا يقتضي ذم الدنيا. انتهى.

وقال الطيبي: إن حملت الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير، أما على زعم من يرى فيها خيرا ويكون من باب، أي الفريقين خير مقاما، وإن حمل على الإنفاق في سبيل الله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثوابا. "وكان يصليهما إذا سكت المؤذن بعد أن يستنير" أي يضيء ويطلع "الفجر ويخففهما" زادت في رواية للشيخين حتى إني أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ "رواه

ص: 39

الوقت، وبه جزم القرطبي، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يصنع في صلاة الليل كما تقدم، ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام.

وقد ذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن الشعبي، وأورد البيهقي فيه حديثا مرفوعا من مرسل سعيد بن جبير، وفي سنده راو لم يسم، وخص بعضهم ذلك بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل، فيستدركها في ركعتي الفجر، وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن البصري.

وكان كثيرًا ما يقرأ في الركعة الأولى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منهما {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] . رواه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية ابن عباس.

الشيخان وهذا لفظ النسائي" وأما لفظ الشيخين فقريب منه. "واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح في أول الوقت وبه جزم القرطبي" في المفهم "وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل كما تقدم ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل" في الجملة وإلا فثواب الفرض يزيد على النفل بسبعين درجة، ويعاقب على ترك الفرض بخلاف النفل "بنشاط واستعداد تام" إذ لو طولهما لربما نقص تمام ذلك، وكان المراد التشريع إذ هو لا يسأم من العبادة ولا يأتي بها بلا نشاط. "وقد ذهب بعضهم إلى" استحباب "إطالة القراءة فيهما وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن الشعبي" من التابعين "وأورد البيهقي فيه" أي تطويل القراءة "حديثا مرفوعا من مرسل سعيد بن جبير، وفي سنده راو لم يسم" فهو ضعيف مع إرساله فلا حجة فيه خصوصا مع معارضة الحديث الصحيح. "وخص بعضهم ذلك بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل فيستدركها في ركعتي الفجر" زاد في الفتح: ونقل ذلك عن أبي حنيفة "وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن البصري" وهو وجيه لولا معارضته المتفق على صحته "وكان كثيرا ما يقرأ في الركعة الأولى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية التي في البقرة وفي" الركعة "الآخرة منهما: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وخص هاتين الآيتين لما فيهما من ذكر الإيمان وإخلاص التوحيد ليفتتح نهاره بذلك "رواه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية" أي حديث

ص: 40

وفي رواية أبي داود، من حديث أبي هريرة {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} في الركعة الأولى، وبهذه الآية {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] أو {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] قال أبو داود: شك الراوي.

وقال أبو هريرة: قرأ في ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

وقد روى ابن ماجه بإسناد قوي، عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت:

"ابن عباس" أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما قولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} التي في سورة البقرة، وفي الآخرة منهما:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] هذا لفظ مسلم، وفي لفظ له كان يقرأ في ركعتي الفجر:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} والتي في آل عمران: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] ، فلم يقل في رواية منهما كان كثيرا ما يقرأ كما فعل المصنف.

"وفي رواية أبي داود من حديث هريرة" كان صلى الله عليه وسلم يقرأ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [المائدة: 59]"في الركعة الأولى، وبهذه الآية: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق "أو: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} بالهدى {بَشِيرًا} من أجاب إليه بالجنة {وَنَذِيرًا} من لم يجب إليه بالنار {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] النار، أي الكفار لم لم يؤمنوا إنما عليك البلاغ: وفي قراءة بجزم تسأل نهيا.

"قال أبو داود: شك الراوي" ولولا حرصه بذلك، لكان الظاهر أن أو للتنويع لا للشك، أي أنه تارة يقرأ بهذه وأخرى بهذه، والمراد أنه يقرأ بإحدى هاتين في الركعة الثانية فوافق أبو هريرة ابن عباس فيما كان يقرأه في الأولى وخالفه فيما يقرؤه في الثانية بحسب ما سمعه كل منهما، وليس المعنى أنه يقرأ إحدى الآيتين مع آية:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] في ركعة؛ لأنه يدفعه تقييده بقوله في الأولى، فأفاد أن إحدى الآيتين في الآخرة.

"وقال أبو هريرة: قرأ" رسول الله صلى الله عليه وسلم "في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما فيهما من التوحيد ففي الأولى نفي الشريك، وفي الثانية إثبات الإلهية "رواه مسلم وأبو داود والترمذي" وهذه الأحاديث تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما تارة بهاتين السورتين وتارة بالآي السابقة. "وقد روى ابن ماجه

ص: 41

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر، يقول: نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

ولابن أبي شيبة من طريق ابن سيرين عن عائشة: كان يقرأ فيهما بهما.

وللترمذي والنسائي من حديث ابن عمر: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا فكان يقرأ بهما.

وقد استدل بعضهم بهذا على الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر، ولا حجة فيه، لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة، ويدل على ذلك أن في رواية ابن سيرين المذكورة:"يسر فيها القراءة" وصححه ابن عبد البر.

واستدل بعضهم أيضا بهذه الأحاديث المذكورة، على أنه لا تتعين الفاتحة؛ لأنه لم يذكرها مع سورتي الإخلاص. وأجيب: بأنه ترك ذكر الفاتحة لوضوح الأمر

بإسناد قوي عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر" أي صلاة الصبح وهما ركعتا الفجر "ويقول: نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} "، لما اشتملتا عليه من التوحيد كما مر بيانه لمصنف فيفتتح بهما صلاة النهار. "ولابن أبي شيبة من طريق ابن سيرين" محمد "عن عائشة" كان صلى الله عليه وسلم "يقرأ فيهما" أي الركعتين "بهما" أي السورتين، ولفظة كان تدل على الكثرة فهو أقوى من قول أبي هريرة قرأ بهما؛ لأن المحقق منه مرة "وللترمذي والنسائي من حديث ابن عمر: رمقت" أي نظرت "النبي صلى الله عليه وسلم" نظر تأمل لا علم فعله في صلاة الفجر "شهرا" وفي رواية: أربعين صباحا، وأخرى خمسا وعشرين مرة "فكان يقرأ بهما" زاد في الفتح وللترمذي عن ابن مسعود مثله بغير تقييد، أي بقوله: شهرًا، وكذا للبزار عن أنس، ولابن حبان عن جابر ما يدل على الترغيب في قراءتهما فيهما.

"وقد استدل بعضهم بهذا على الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر، ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك عرف" للراوي "بقراءته بعض السورة" كما تقدم في صفة الصلاة من حديث أبي قتادة في صلاة الظهر يسمعنا الآية أحيانا "ويدل على ذلك أن في رواية ابن سيرين المذكورة" عن عائشة "يسر فيها القراءة، وصححه ابن عبد البر" وهو نص في الإسرار فيقدم على المحتمل.

"واستدل بعضهم أيضا بهذه الأحاديث المذكورة على أنه لا تتعين" سورة "الفاتحة" أي: قراءتها في الصلاة؛ "لأنه لم يذكرها مع سورتي الإخلاص، وأجيب بأنه ترك ذكر الفاتحة

ص: 42

فيها. انتهى.

وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة.

لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التيمن، وقد قيل: الحكمة فيه أن القلب من جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما؛ لأنه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمن فيكون القلب معلقا فلا يستغرق، وهذا إنما يصح بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى.

وأما ما روي أن ابن عمر رأى رجلا يصلي ركعتي الفجر ثم اضطجع فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن أفصل بين صلاتي فقال له: وأي فصل أفضل من السلام، قال: فإنها سنة، قال: بل بدعة. رواه ابن الأثير في جامعه عن رزين. وكذا ما روي من إنكار ابن مسعود، ومن قول إبراهيم النخعي: إنها ضجعة الشيطان، كما أخرجهما ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهم الأمر

لوضوح الأمر فيها. انتهى".

ويدل عليه أن قول عائشة: لا أدري أقرأ الفاتحة أو لا، يدل على أنه كان مقررًا عندهم أنه لا بد من قراءة الفاتحة "وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع" أي: نام "على شقه الأيمن، رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التيمن، وقد قيل: الحكمة فيه أن القلب من جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما؛ لأنه أبلغ في الراحة بخلاف اليمين، فيكون القلب معلقا فلا يستغرق" إذا نام عليه "وهذا إنما يصح بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى"؛ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه.

"وأما ما روي أن ابن عمر رأى رجلا يصلي ركعتي الفجر ثم اضطجع:" نام "فقال: ما حملك على ما صنعت؟ " بفتح تاء الخطاب "فقال: أردت" بضم تاء المتكلم "أن أفصل بين صلاتي" بفتح الفوقية وشد الياء تثنية، أي صلاة الفجر والصبح "فقال له: وأي فصل أفضل من السلام؟، قال:" الرجل "فإنها" أي الضجعة "سنة، قال" ابن عمر:"بل بدعة، رواه ابن الأثير" المبارك "في جامعه" أي كتابه جامع الأصول "عن رزين" بن معاوية السرقسطي في كتابه تجريد الصحاح "وكذا ما روي من إنكار ابن مسعود" للاضطجاع "ومن قول إبراهيم النخعي: إنها

ص: 43

بفعله.

وأرجح الأقوال مشروعية الفصل، لكن لم يداوم صلى الله عليه وسلم عليه، ولذا احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك عند أبي داود وغيره على الاستحباب.

وفائدة ذلك: النشاط والراحة لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد. وبه جزم ابن العربي. ويشهد لهذا ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح. وفي إسناده راو لم يسم.

وقيل: فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص. ومن ثم قال الشافعي: إن السنة تتأدى بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره، حكاه البيهقي.

ضجعة الشيطان" بكسر المعجمة؛ لأن المراد الهيئة وبفتحها على إرادة المرة، كذا في الفتح "كما أخرجهما" أي أخرجه عنهما "ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهم الأمر بفعله" أي: الاضطجاع "وأرجح الأقوال مشروعية الفصل" أي الاضطجاع له "لكن لم يداوم عليه الصلاة والسلام عليه، ولذا احتج" به "الأئمة" القائلون بمشروعيته "على عدم الوجوب وحملوا الأمر الوارد بذلك عند أبي داود وغيره" الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على جنبه الأيمن "على الاستحباب" إذ لو وجب لداوم عليه.

قال الترمذي: صحيح غريب، وقال في الرياض: أسانيده صحيحة، وقال ابن القيم: هو باطل، إنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر.

"وفائدة ذلك النشاط والراحة لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد، وبه جزم ابن العربي" محمد أبو بكر الحافظ "ويشهد لهذا" الأولى له، وعبر به الفتح "ما أخرجه عبد الرزاق: أن عائشة كانت تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة" أي لفعل سنة. وفي نسخة: لآلام، والمعنى عليها، أي ليجعل الاضطجاع سنة "ولكنه كان يدأب" أي يجتهد ويجد في عمله "ليلته فيستريح" من التعب ليقوم للصبح بنشاط.

"وفي إسناده راو لم يسم، وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة

ص: 44

وقال النووي: المختار أنها سنة لظاهر حديث أبي هريرة، وقد قال أبو هريرة راوي الحديث: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي.

وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل أحد، وجعله شرطا لصحة صلاة الصبح، فرده عليه العلماء بعده، حتى طعن ابن تيمية في صحة الحديث لتفرد عبد الواحد بن زياد به، وفي حفظه مقال، والحق: أنه تقوم به الحجة.

وذهب بعض السلف إلى استحبابها في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر. وقواه بعض شيوخنا، بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد، أخرجه ابن أبي شيبة.

وقال عليه الصلاة والسلام: "من لم يصل ركعتي الفجر، فليصلهما بعدما تطلع الشمس". رواه الترمذي من رواية أبي هريرة.

الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص" لذلك بالمتهجد "ومن ثم قال الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره حكاه البيهقي" عنه.

"وقال النووي المختار: أنها" أي الضجعة بخصوصها "سنة لظاهر حديث أبي هريرة:" إذا صلى أحدكم الفجر فليضطجع.

"وقد قال أبو هريرة راوي الحديث" المذكور؛ "أن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي" فمقتضاه أنه فهم أن السنة الضجعة بخصوصها، ولفهمه مزية "وأفرط" مجاوز الحد "ابن حزم، فقال: يجب" الاضطجاع "على كل أحد وجعله شرطا لصحة صلاة الصبح، فرده عليه العلماء بعده"؛ بأنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها فكيف تكون واجبة فضلا عن كونها شرطا لصحة الصبح "حتى طعن ابن تيمية في صحة الحديث" أي حديث أبي هريرة الذي فيه الأمر بها "لتفرد عبد الواحد بن زياد" العبدي مولاهم البصري "به" أي برواية هذا الحديث، بلفظ الأمر "وفي حفظه مقال" وإن كان ثقة، وروى له الستة، فلعله التبس عليه النعل الوارد في الصحيحين، فنقله بصيغة الأمر "والحق أنه تقوم به الحجة" لكونه ثقة وإن تفرد به.

"وذهب بعض السلف إلى استحبابها في البيت دون المسجد وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا" هذا من الفتح لا من المصنف، فالمراد بعض شيوخ الحافظ؛ "بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله" أي: الاضطجاع "في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب:" يرمي بالحصباء "من يفعله في المسجد".

"أخرجه ابن أبي شيبة" عبد الله بن محمد بن إبراهيم، وهو أبو شيبة "وقال عليه الصلاة

ص: 45

الفرع الثالث: في راتبة الظهر

عن ابن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها. رواه البخاري ومسلم والترمذي.

وعن عائشة: كان عليه الصلاة والسلام لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل صلاة الغداة. رواه البخاري أيضا.

فإما أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعا، وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين، وهذا أظهر. وإما أن يقال: كان يفعل هذا وهذا، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما.

وقال أبو جعفر الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في

والسلام: "من لم يصل ركعتي الفجر" في وقتها قبل صلاة الصبح "فليصلهما بعدما تطلع الشمس" أي: وترتفع، كما دل عليه أخبار أخر "رواه الترمذي" وأحمد "من رواية أبي هريرة" وصححه الحاكم وأقره الذهبي.

"الثالث: في راتبة الظهر، عن ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها" المراد من المعية أنهما اشتركا في أن كلا منهما صلاها لا التجميع، فلا حجة فيه من قال: يجمع في رواتب الفرائض، وفي لفظ للشيخين عن ابن عمر: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، فذكرهما كما مر "رواه البخاري ومسلم والترمذي" بزياد تقدمت قريبًا.

"وعن عائشة: كان عليه الصلاة والسلام" لفظها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان "لا يدع:" لا يترك "أربعا قبل" صلاة "الظهر وركعتين قبل صلاة الغداة" أي: الصبح، يعني ركعتي الفجر "رواه البخاري أيضا" وأبو داود والنسائي "فإما أن يقال" في الجمع بينه وبين حديث ابن عمر؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعا" وهو ما أخبرت به عائشة؛ لأنها في البيت "وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين" تخفيفا على الأمة وهو أخبر به ابن عمر؛ لأنه يكون معه في المسجد "وهذا أظهر" من قول من قال: يحتمل أنه يصلي في بيته ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته، واطلعت عائشة على الأمرين وإنما كان أظهر لا رواه أحمد وأبو داود عن عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج كما في الفتح.

"وإما أن يقال: كان يفعل هذا" تارة "وهذا" أخرى "فحكى كل من عائشة وابن عمر

ص: 46

قليلها. انتهى.

وقد يقال: إن الأربع التي قبل الظهر لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة، كان يصليها بعد الزوال. وروى البزار من حديث ثوبان: إنه صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، فقالت عائشة: يا رسول الله، أراك تستحب الصلاة هذه الساعة، فقال: تفتح فيها أبواب السماء، وينظر الله تعالى إلى خلقه بالرحمة، وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى.

وعن عبد الله بن السائب: كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح. رواه الترمذي.

وروى الترمذي أيضا حديث "أربع قبل الظهر وبعد الزوال تحتسب بمثلهن في السحر وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى تلك الساعة" ثم قرأ {يَتَفَيَّأُ

ما شاهده والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما".

"وقال أبو جعفر" محمد بن جرير "الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها. انتهى".

"وقد يقال: إن الأربع التي قبل الظهر لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، و" دليل ذلك أنه قد "روى البزار من حديث ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم كان يستحب" السين لمجرد التأكيد، أي يحب "أن يصلي بعد نصف النهار، فقال عائشة: يا رسول الله أراك تستحب الصلاة هذه الساعة؟ فقال:" لأنها ساعة "تفتح فيها أبواب السماء وينظر الله تعالى إلى خلقه بالرحمة وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى" أي: يحافظون على التنفل فيها وإن لم تجب عليهم، كما أن المصطفى كان يستحبها ولم تجب عليه "وعن عبد الله بن السائب" القرشي المخزومي المكي، له ولأبيه صحبة وكان قارئ أهل مكة، مات سنة بضع وستين "كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل" صلاة "الظهر، وقال: "إنها ساعة تفتح فيها" وفي نسخ: لها، أي لأجلها "أبواب السماء" حقيقة تبشيرا بقبول الأعمال ينئذ، وقيل: هو كناية عن القبول ورجح الأول "وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح" زائد على الفرض "رواه الترمذي" ورواه ابن ماجه والترمذي أيضا، والنسائي بنحوه عن أبي أيوب.

"وروى الترمذي أيضا حديث" عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع قبل الظهر

ص: 47

ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48] .

فهذه -والله أعلم- هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن. وأما سنة الظهر فالركعتان التي قال ابن عمر. ويوضح هذا أن سائر الصلوات سنتها ركعتان، وعلى هذا فتكون هذه الأربع وردا مستقلا، سببه انتصاف النهار وزوال الشمس.

وسر هذا -والله أعلم- أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد الزوال، ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب رحمة، هذا تفتح فيه أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى عن حركة الأجسام.

الفرع الرابع: في سنة العصر

عن علي: قال كان صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر ركعتين. رواه أبو داود.

وعن علي أيضًا. كان صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمن والمؤمنين. رواه الترمذي.

وبعد الزوال تحتسب" أي تعد "بمثلهن" فيقال: ثواب هذه يعدل ثوابهن "في السحر" قبيل الصبح أو سدس الليل الأخير كما مر "وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى في تلك الساعة، ثم قرأ تنفيأ:" تتميل {ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} : جمع شمال، أي جانبها {سُجَّدًا لِلَّهِ} حال {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون "فهذه والله أعلم هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن، وأما سنة الظهر فالركعتان التي قال ابن عمر" في حديثه السابق "ويوضح هذا" الذي قلته أنها ليست سنة الظهر؛ "أن سائر الصلوات سننها ركعتان" فقط "وعلى هذا فتكون هذه الأربع" وفي نسخة: الأربعة والأولى أحسن "وردا مستقلا سببه انتصاف النهار وزوال الشمس، وسر هذا والله أعلم" بحقية حكمة ذلك "أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل وأبواب السماء تفتح بعد الزوال" كما مر في الحديث "ويحصل النزول الإلهي" النظر بالرحمة "بعد الانتصاف" لليل "هما وقتا قرب رحمة، هذا" أي: بعد الزوال" تفتح فيه أبواب السماء، وهذا" أي: بعد انتصاف الليل "ينزل فيه الرب" تنزلا معنويا "تبارك وتعالى عن حركة الأجسام" التي هي الانتقال من مكان عال إلى آخر سافل.

"الرابع: في سنة العصر، عن علي قال: كان صلى الله عليه وسلم قبل العصر ركعتين" تارة وأخرى أربعا، كما في الحديث بعده "رواه أبو داود" بإسناد صحيح "وعن علي أيضا:

ص: 48

وروى الترمذي مرفوعا أيضا حديث: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا".

عن عائشة: ما كان صلى الله عليه وسلم يأتيني في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين، وفي رواية: ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط. رواه البخاري ومسلم.

ولمسلم: أن أبا سلمة سألها عن السجدتين اللتين كان يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعني داوم عليها.

ولأبي داود، قالت: كان صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العصر ركعتين وينهى عنهما، ويواصل وينهى عن الوصال.

كان صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين، رواه الترمذي" والنسائي.

"وروى الترمذي" وحسنه مرفوعا أيضا، وأحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" خبر أو دعاء، فينبغي فعلهما، فإن خبره حق ودعاؤه مستجاب.

وروى أبو يعلى عن علي قال: ألا يقوم أحدكم فيصلي أربع ركعات قبل العصر، فيقول فيهن ما كان صلى الله عليه وسلم يقول:"تم نورك فهديت، فلك الحمد عظم حلمك فعفوت، فلك الحمد انبسطت يدك فأعطيت، فلك الحمد ربنا وجهك أكرم الوجوه وجاهك أعظم الجاه وعطيتك أفضل العطية وأهنؤها، تطاع ربنا فتشكر -أي تثيب- وتعصى ربنا فتغفر، تجيب المضطر وتكشف الضر وتشفي السقيم، وتغفر الذنب وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد ولا يبلغ موجبك -أي ما يجب لك من الثناء- قول قائل".

"وعن عائشة: م كان صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد" صلاة "العصر إلا صلى ركعتين، وفي رواية" عن عروة عن عائشة أيضا: "ما ترك" صلى الله عليه وسلم "ركعتين بعد العصر عندي قط، رواه" أي المذكور من الروايتين "البخاري ومسلم" فأخرجا الأولى من الأسود ومسروق، والثانية عن عروة "ولمسلم؛ أن أبا سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف "سألها" أي: عائشة "عن السجدتين" أي: الركعتين بأربع سجداتها، فهو من تسمية الكل باسم البعض مجاز "اللتين كان يصليهما بعد العصر" ما حكمهما؟ "فقالت: كان يصليهما قبل العصر ثم إنه شغل عنهما" لما أتاه وفد عبد القيس "أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها" كأنه عطف علة على معلول، أي: لأنه.. إلخ "تعني" عائشة بقبولها: أثبتها "داوم عليها" كما فسره إسماعيل بن جعفر راوي هذا الحديث عن محمد بن أبي حرملة عن أبي سلمة في مسلم "ولأبي

ص: 49

وقال ابن عباس: إنما صلى عليه الصلاة والسلام ركعتين بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه عن الركعتين اللتين بعد الظهر فقضاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما. رواه الترمذي.

وقالت أم سلمة: سمعته صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم سألته عنهما فقال:"إنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام، فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان"، الحديث. وفيه: أن ابن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنهما.

قال ابن القيم: قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي فخاص به عليه السلام قال: وقد عد

داود" عن عائشة "قالت: كان" صلى الله عليه وسلم "يصلي بعد العصر ركعتين وينهى عنهما" غيره؛ لأنهما من خصائصه "ويواصل" في الصيام "وينهى عن الوصال؛" لأنه من خصائصه.

"وقال ابن عباس: إنما صلى عليه الصلاة والسلام ركعتين بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه عن الركعتين" متعلق باشتغل، ولفظ الترمذي: لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين "اللتين بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر ثم لم يعد لهما" أي: لصلاتهما "رواه الترمذي" من طريق جرير عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن.

"وقالت أم سلمة" هند أم المؤمنين: "سمعته صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر" أي: بعدما صلاه ودخل بيتها "ثم سألته عنهما، فقال:""يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر "إنه أتاني أناس"" وفي رواية: "ناس""من عبد القيس بالإسلام" من قومهم كما في الصحيحين "فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان" الركعتان اللتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلت عنهما فصليتهما الآن، وكان من عادته إذا فعل طاعة لا يقطعها أبدا "الحديث" في الصحيحين مطولا "وفيه أن ابن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنهما" أي: عن الركعتين، وفي رواية عنها بالإفراد، أي: عن الصلاة، أي لأجلها.

وفي أخرى عنه، أي: عن الفعل وهو بالضاد المعجمة والموحدة من الضرب في البخاري وأكثر رواة مسلم، ولبعضهم أصرف -بصلة مهملة- وفاء، ومعناه أمنع ولا مناة بين الروايتين، فكان يضربهم في وقت ويصرفهم في آخر بلا ضرب، أو يضرب من بلغه النهي ويصرف من لم يبلغه.

"قال ابن القيم: قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته" عند من قال بقضائها "وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي، فخاص به عليه السلام" خلافًا

ص: 50

هذا من خصائصه. انتهى.

والدليل عليه رواية عائشة: كان يصلي ركعتين بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال. لكن قال البيهقي: الذي اختص به صلى الله عليه وسلم المداومة على ذلك، لا أصل القضاء.

وأما رواية ابن عباس عند الترمذي: أنه إنما صلاهما بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه. فهو من رواية جرير عن عطاء، وقد سمع من عطاء بعد اختلاطه، وإن صح فهو شاهد لحديث أم سلمة، لكن ظاهر قوله:"ثم لم يعد" لهما معارض لحديث عائشة المذكور في هذا الباب، فيحمل النفي على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي.

وكذا ما رواه النسائي من طريق أبي سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة، الحديث، وفي رواية له عنها: لم

لمن تمسك به على جواز التنفل بعد العصر مطلقا لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس "قال: وقد عد هذا من خصائصه. انتهى".

"والدليل عليه" أي: على عده من خصائصه "رواية عائشة" السابقة آنفا: "كان يصلي ركعتين بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال، لكن قال البيهقي" مثل ما قال ابن القيم: "الذي اختص به صلى الله عليه وسلم المداومة على ذلك لا أصل القضاء" فليس من خصائصه عند قوم، وعند آخرين ومنهم مالك من خصائصه أيضا.

"وأما رواية ابن عباس عند الترمذي" السابقة قريبا؛ "أنه إنما صلاهما بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه، فهو" بالتذكير باعتبار المعنى، إذ معنى رواية حديث "من رواية جرير عن عطاء" ابن السائب "وقد سمع" جرير "من عطاء بعد اختلاطه" فلا يحتج بروايته عنه لاحتمال أنها مما سمعه بعد الاختلاط "وإن صح" في نفس الأمر "فهو شاهد لحديث أم سلمة" الظاهر في أنه لم يداوم عليهما وإنما صلاهما مرة "لكن ظاهر قوله" أي: ابن عباس "ثم لم يعد لهما معارض لحديث عائشة المذكور في هذا الباب" السابق قريبا "فيحمل النفي" في حديث ابن عباس "على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك" كأنه قال: ثم لم أعلم أنه عاد لهما "والمثبت" وهو هنا عائشة "مقدم على النافي" وهو ابن عباس هنا على القاعدة؛ لأن المثبت معه زيادة علم، "وكذا ما رواه النسائي من طريق أبي سلمة" بن عبد الرحمن "عن أم سلمة؛

ص: 51

أره يصليهما قبل ولا بعد. فيجمع بين الحديثين بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة في رواية: ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته.

ومراد عائشة بقولها: ما كان في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين، من الوقت الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما. ولم ترد أنه كان يصلي بعد العصر من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى آخر عمره، والله أعلم.

الفرع الخامس: في راتبة المغرب

عن ابن مسعود قال: ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة، الحديث" ذكر في بقيته سؤالها له عن ذلك وجوابه.

"وفي رواية له" أي: النسائي "وعنها" أي: أم سلمة "لم أره يصليهما قبل ولا بعد، فيجمع بين الحديثين" حديثها؛ وحديث عائشة "بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليهما إلا في بيته" الذي لغير عائشة "فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة"؛ لأنه لم يصلهما في بيتها إلا رمة واحدة "ويشير إلى ذلك قول عائشة في رواية" عند البخاري وغيره، قال: والذي ذهب ما تركهما حتى لقي الله، وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة، وكان يصلي كثيرا من صلاته قاعدا، يعني الركعتين بعد العصر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما "ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل" بضم التحتية وكسر القاف المشددة.

وفي رواية: يثقل بفتح التحتية وسكون المثلثة وضم القاف، أي لأجل مخافة التثقيل "على أمته" وكان يحب ما يخفف عنهم، هذا بقية الحديث ويخفف، بضم أوله كسر الفاء الثقيلة مبني للفاعل.

وفي رواية: ما خفف عنهم بصيغة الماضي "ومراد عائشة بقولها: ما كان في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين" وكذا قولها: لم يكن يدعها كما في الفتح "من الوقت" متعلق خبر مراد المحذوف، أي: الصلاة من الوقت ومن بمعنى البدل، أي: بدله، أو بمعنى في أي الوقت المماثل للوقت "الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ولم ترد أنه كان يصلي بعد العصر من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى آخر عمره، والله أعلم؛" لأنه إن داوم عليهما بعد مجيء عبد القيس لا قبله.

"الخامس: في راتبة المغرب: عن ابن مسعود، قال: ما أحصي" ما أعد "ما سمعت"

ص: 52

أَحَدٌ} رواه الترمذي.

وعن ابن عباس: قال كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد، رواه أبو داود.

وكان أصحابه عليه الصلاة والسلام يصلون ركعتين قبل المغرب قبل أن يخرج إليهم عليه السلام. رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث أنس.

وفي رواية أبي داود، قال أنس: رآنا صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا ولم ينهنا.

وقال عقبة: كنا نفعله على عهده، صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ومسلم.

أي: سماعي "رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل" صلاة "الفجر" أي: الصبح، وهما ركعتا الفجر "بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] " أي: السورة كلها في الأولى "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " [الإخلاص: 1] السورة بتمامها في كل منهما "رواه الترمذي".

"وعن ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد" أي أحيانا، فلا يخالف ما قبله، "رواه أبو داود"، ففي هذين الحديثين استحباب النفل بعد المغرب "وكان أصحابه عليه الصلاة والسلام يصلون ركعتين قبل" صلاة "المغرب قبل أن يخرج إليهم عليه "السلام".

"رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث أنس" قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء، هذا لفظ البخاري.

وقال: إن في رواية لم يكن بينهما إلا قليل، ولفظ مسلم عن أنس: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما.

"وفي رواية أبي داود قال أنس: رآنا صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا" بهما "ولم ينهنا" عنهما، فهو إقرار لهم على فعلهما، وهذا بالنسبة للوقت الذي أخبر أنس أن المصطفى رآهم يصلون، وإلا فسيأتي أنه قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، وقصر المصنف في عزوه لأبي داود وحده، ففي مسلم عن المختار بن فلفل: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب بالأيدي على صلاة بعد العصر وكنا نصلي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان صلى الله عليه وسلم صلاهما؟، قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا.

"وقال عقبة" بن عامر الجهني لما قال له مرثد بن عبد الله: ألا أعجبك من أبي تميم يركع

ص: 53

وظاهره: أن الركعتين بعد الغروب وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر أصحابه عليه، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه عليه الصلاة والسلام لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب، وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث.

وعن ابن عمر: ما رأيت أحدا يصليهما على عهده صلى الله عليه وسلم.

وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما.

فادعى بعض المالكية نسخهما، وتعقب: بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، ورواية المثبت -وهو أنس- مقدمة على رواية النافي -وهو ابن عمر.

ركعتين قبل صلاة المغرب، زاد الإسماعيلي: حين يسمع أذان المغرب، فقال عقبة: إنا "كنا نفعله على عهده صلى الله عليه وسلم" قلت: فما يمنعك الآن؟، قال: الشغل "رواه البخاري" هكذا تاما "ومسلم" فيه نظر، فإنه لم يخرج حديث عقبة هذا كما صرح به الحافظ في خاتمة أبواب التطوع "وظاهره" كما قال القرطبي وغيره:"أن الركعتين بعد الغروب" للشمس "وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر" صلى الله عليه وسلم "أصحابه عليه، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه عليه الصلاة والسلام لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب" المؤكدة "وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث".

"وعن ابن عمر: ما رأيت أحدا يصليهما على عهده صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود من طريق طاوس عنه بإسناد حسن.

"وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة؛ أنهم كانوا لا يصلونهما" رواه عنهم محمد بن نصر وغيره من طريق إبراهيم النخعي، عنهم وهو منقطع وهو قول مالك والشافعي "فادعى بعض المالكية نسخهما" فقال: إنما كان ذلك في الأول حيث نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فبين لهم بذلك وقت الجواز ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها لكان ذريعة إلى فوات إدراك أول وقتها.

"وتعقب بأ دعوى النسخ لا دليل عليها، ورواية المثبت وهو أنس مقدمة على رواية النافي وهو ابن عمر؛" لأن مع المثبت علما زائد على النافي، لكن هذا في غاية البعد، إذ ابن عمر لا شك أنه كان يصلي مع المصطفى، فلو واظبوا عليها لرآهم يوما من الدهر، فتعين الجمع بينه وبين إثبات أنس؛ بأنهم فعلوهما مدة فلم يرهم ابن عمر لعذر منعه، ثم تركوهما وابن عمر حاضر فنفى رؤيته، ولا يصح أن ينفيهما مع عدم حضوره؛ لأنه يكون من باب الحائط

ص: 54

وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين. وعن مالك قول آخر باستحبابهما، وهو عند الشافعية وجه رجحه النووي ومن تبعه، وقال في شرح مسلم: قول من قال: إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها، خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما.

وقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين" لمن شاء خشية أن يتخذها الناس سنة. رواه أبو داود.

قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابهما؛ لأنه لا يمكن أن يأمر بما لم

لا يبصر، ومعلوم أنه متى أمكن الجمع تعين المصير إليه.

"وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول حق" أي: أمر ثابت مؤكد: "على كل مؤمن إذا أذن المؤذن" للمغرب "أن يركع ركعتين" وهذا قول مجتهد بما أداه إليه اجتهاده فليس حجة على غيره، وقول بعضهم لو ثبت ما روي عن الخلفاء وغيرهم من تركهما لم يكن دليلا على نسخ ولا كراهة، لاحتمال أنهم منعهم الشغل كما منع عقبة فيه ما فيه؛ لأن الشغل لا يقتضي المواظبة على الترك مع كثرة عبادتهم مع أشغالهم.

"وعن مالك قول آخر" ضعيف في المذهب "باستحبابهما وهو عند الشافعية وجه" أي: قول لغير الشافعي من أهل مذهبه "رجحه النووي ومن تبعه، وقال في شرح مسلم قول من قال: إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها" إلى هنا كلام النووي، وأما قوله:"ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما" كما في ركعتي الفجر، فعزاه الحافظ لنفسه عقب ذكر كلام النووي.

"وقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين" كما في أبي داود "لمن شاء" أي: وهذا الفعل لمن شاء، قال ذلك "خشية أن يتخذها الناس سنة، رواه أبو داود" عن عبد الله بن مغفل المزني، وقصر عزوه لأبي داود بقوله: ركعتين، وإلا فقد أخرجه البخاري في الصلاة والاعتصام عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "صلوا قبل المغرب"، قال في الثالثة: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة، ولم يخرجه مسلم.

قال الحافظ: وأعادها الإسماعيلي في روايته، أي: صلوا قبل المغرب ركعتين ثلاث مرات وهو موافق لقوله في رواية البخاري: قال في الثالثة "لمن شاء"، وفي مستخرج أبي نعيم: صلوا قبل المغرب ركعتين، قالها ثلاثا ثم قال:"لمن شاء".

ص: 55

يستحب، بل هذا الحديث من أدل الأدلة على استحبابهما.

ومعنى قوله: "سنة" أي شريعة وطريقة لازمة.

وكأن المراد انحطاط رتبتهما عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدهما أكثر الشافعية في الرواتب، واستدركهما بعضهم. وتعقب: بأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم واظب عليهما.

وقال صلى الله عليه وسلم في الصلاة بعد المغرب: "هذه صلاة البيوت"، رواه أبو داود والنسائي من حديث كعب بن عجرة.

وعنه صلى الله عليه وسلم من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم رفعت صلاته في عليين. رواه رزين.

"قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابهما؛ لأنه لا يمكن أن يأمر بما لم يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابهما؛" لأن أقل مراتب الأمر الاستحباب.

"ومعنى قوله: سنة، أي شريعة وطريقة لازمة، وكأن المراد انحطاط رتبتهما عن رواتب الفرائض ولهذا لم يعدهما أكثر الشافعية في الرواتب واستدركهما بعضهم" على الأكثرين، ومراده النووي، فإنه صحح أنهما سنة للأمر بهما في هذا الحديث.

"وتعقب بأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم واظب عليهما" بل ولم يثبت أنه فعلهما، كما أفاده جواب أنس للمختار بن فلفل في مسلم كما مر، لكن روى ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين، ولعله لبيان الجواز صلاهما مرة.

"وقال عليه الصلاة والسلام في الصلاة بعد المغرب: "هذه صالة البيوت" " أي أن الأفضل فعلها فيها "رواه أبو داود والنسائي من حديث كعب بن عجرة" بضم المهملة وإسكان الجيم، "وعنه عليه الصلاة والسلام:"من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم" بشيء من أمور الدنيا ويحتمل الإطلاق "رفعت صلاته في عليين" قيل: هو كتاب جامع لأعمال الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة ومؤمنو الثقلين، سمي به؛ لأنه سبب الارتفاع إلى الجنة، وقيل: هو مكان في السماء السابعة تحت العرش "رواه رزين" في تجريد الصحاح، وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن مكحول مرسلا، وأخرج الديلمي عن ابن عباس رفعه:"من صلى أربعا بعد المغرب قبل أن يكلم أحدا رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى".

ص: 56

الفرع السادس: في راتبة العشاء

قالت عائشة: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات. رواه أبو داود.

وفي مسلم قالت عائشة: ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين. وتقدما أول هذا القسم، والله أعلم.

الفرع السابع: في راتبة الجمعة

عن نافع عن عبد لله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين. رواه البخاري ولم يذكر شيئا في الصلاة قبل صلاة الجمعة.

قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، وجاء في فضل الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة.

"السادس: في راتبة العشاء، قالت عائشة: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات" تارة "أو ست ركعات" أخرى، فليست أو للشك "رواه أبو داود" سليمان بن الأشعث.

"وفي مسلم قالت عائشة: ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين وتقدما أول هذا القسم" ومفاد الأحاديث أنه كان يصلي بحسب ما تيسر ركعتين وأربعا وستا إذا دخل بيته بعد العشاء، "والله أعلم".

"الفرع السابع: في راتبة الجمعة" نبه بزيادة الفرع هنا على أن راتبة الجمعة ليست من الرواتب الخمس؛ لأنها بدل الظهر "عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته" عائد على المغرب "وبعد العشاء ركعتين" في بيته، كما زاده بعض الرواة "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف" من المسجد إلى بيته "فيصلي" فيه "ركعتين، رواه البخاري" عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع به، وترجم عليه باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها "ولم يذكر شيئا في الصلاة قبل صلاة الجمعة".

ص: 57

قال ابن المنير -كما حكاه في فتح الباري: كأنه يقول: الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل على خلافه؛ لأن الجمعة بدل الظهر.

وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي لو حذفت. انتهى.

وعلى هذا فينبغي أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى.

وقد روى أبو داود وابن حبان من طريق أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم

"قال" الزين "بن المنير" في الحاشية: "كما حكاه في فتح الباري كأنه" أي: البخاري "يقول: الأصل استواء الظهر والجمعة، حتى يدل دليل على خلافه؛ لأن الجمعة بدل الظهر" قال: وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر، ولذلك قدمه في الترجمة على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد، قال الحافظ: ووجه العناية وورد الخبر في البعد صريحا دون القبل.

"وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر" على قول: "واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي لو حذفت، انتهى" كلام ابن بطال.

قال الحافظ: "وعلى هذا فينبغي أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى" أي: ظن أنها التي حذفت.

وقال ابن التين: لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في الحديث، فلعل البخاري أراد إثباتها قياسا على الظهر، وقواه ابن المنير بأنه قصد التسوية بين الظهر والجمعة في حكم التنفل كما قصد التسوية بين الإمام والمأموم في الحكم، وذلك يقتضي أن النافلة لهما سواء. انتهى.

"وقد روي" عبارة الفتح: والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب وهو ما رواه "أبو داود وابن حبان من طريق أيوب" السختياني "عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل

ص: 58

كان يفعل ذلك، وقد احتج به النووي في "الخلاصة" على إثبات سنة الجمعة التي قبلها.

وتعقب: بأن قوله: "كان يفعل ذلك" عائد على قوله: "ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته"، ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. رواه مسلم.

وأما قوله: "كان يطيل الصلاة قبل الجمعة" فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها، بل هو تنفل مطلق.

وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها، وبالغوا في الإنكار، منهم: الإمام شهاب الدين أبو شامة؛ لأنه لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه عليه

ذلك" الذي فعله.

"وقد احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها؛" لأنه فهم اسم الإشارة وهو ذلك يرجع للأمرين بتأويل المذكور، تعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله: "ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته" لا على ما قبلها حتى يكون حجة له.

"ويدل عليه رواية الليث" بن سعد الإمام "عن نافع عن عبد الله بن عمر؛ أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين" أي: صلى ركعتين من تسمية الكل باسم البعض "في بيته، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، رواه مسلم" وهو حديث واحد يفسر بعضه ببعض.

"وأما قوله: كان" ابن عمر "يطيل الصلاة قبل الجمعة، فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج إذا زالت الشمس، فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة" ولا يتنفل "وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها" التي الكلام فيها "بل هو تنفل مطلق" ورد الترغيب فيه كما في حديث سلمان وغيره، حيث قال: ثم صلى ما كتب له، إلى هنا كلام الحافظ، وزاد المصنف عليه قوله:"وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها وبالغوا في الإنكار" لعدم وروده "ومنهم الإمام شهاب الدين أبو شامة؛ لأنه لم يكن يؤذن

ص: 59

الصلاة والسلام وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة؛ لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة. قال ابن العراقي: ولم أر في كلام الفقهاء من الحنفية والمالكية استحباب سنة الجمعة قبلها. انتهى.

وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة، منها حديث عن أبي هريرة، رواه البزار، ولفظه: كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا.

وأقوى ما يتمسك به في مشروعية الركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان". قاله في فتح الباري.

وعن عطاء قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين

للجمعة إلا بين يديه عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة؛ لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة".

"قال ابن العراقي: ولم أر في كلام الفقهاء من الحنفية والمالكية استحباب سنة الجمعة قبلها. انتهى".

ثم عاد المصنف لكلام الحافظ وهو قوله: "وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة" فلا حجة فيها "منها حديث عن أبي هريرة رواه البزار، ولفظه: كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا".

قال الحافظ، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي: وهو ضعيف عند البخاري وغيره، وقال الأثرم: إنه حديث واه، ومنها عن ابن عباس مثله، وزاد: ولا يفصل في شيء منهن، أخرجه ابن ماجه بسند واه.

قال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل، وعن ابن مسعود عند الطبراني مثله أيضا، وفي إسناده ضعف وانقطاع، ورواه عبد الرزاق عن ابن مسعود موقوفا، وهو الصواب.

وروى ابن سعد عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم موقوفا نحو حديث أبي هريرة، ثم قال الحافظ:"وأقوى ما يتمسك به في مشروعية الركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير، مرفوعا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان"، قاله في فتح الباري" وزاد: ومثله حديث عبد الله بن مغفل: بين كل أذانين صلاة لمن شاء، يعني المتفق

ص: 60

ثم يتقدم فيصلي أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له: فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه أبو داود.

وفي رواية الترمذي: قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعا.

وعن ابن عمر أيضا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد الجمعة ركعتين. رواه النسائي، وفي رواية أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. وفي أخرى: أن ابن عمر كان يصلي بعد الجمعة ركعتين ويطيل فيهما ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

وتقدم حديث دخول سليك المسجد في يوم الجمعة، وهو صلى الله عليه وسلم يخطب، وقوله صلى الله عليه وسلم:"صليت"؟ قال: لا، قال:"قم فاركع ركعتين". مع ما فيه من المباحث في صلاة الجمعة والله أعلم.

عليه.

"وعن عطاء" بن أبي رباح "قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم" إلى محل غير الذي صلى فيه الجمعة "فصلى ركعتين، ثم يتقدم" إلى مكان غيره من المسجد "فيصلي أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له" في ذلك "فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، رواه أبو داود".

"وفي رواية الترمذي" عن عطاء "قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعا" بمكة.

"وعن ابن عمر أيضًا، قال: كان صلى الله عليه وسلم يصلي بعد الجمعة ركعتين، رواه النسائي".

"وفي رواية" له؛ "أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته" وتقدم هذا قريبا في حديثه عند البخاري. "وفي أخرى: أن ابن عمر كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، ويطيل فيهما ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وتقدم حديث دخول سليك المسجد في يوم الجمعة وهو صلى الله عليه وسلم يخطب، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صليت"؟، قال: لا، قال: "قم فاركع ركعتين" مع ما فيه من المباحث في صلاة الجمعة، والله أعلم" بالحكم في ذلك.

ص: 61

الفصل الثاني: في صلاته عليه الصلاة والسلام العيدين

وفيه فروع سبعة:

الأول في عدد الركعات:

عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بخرصها وسخابها. وفي رواية: خرج يوم أضحى أو فطر، وفي أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين. الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود

"الفصل الثاني: في صلاته عليه الصلاة والسلام العيدين" بتقدير مضاف، أي: صلاة العيدين، وثبت هذا المضاف في نسخة ولا بد منه؛ لأن العيد اسم لليوم لا للصلاة "وفيه فروع سبعة".

"الأول: في عدد الركعات عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم عيد" لفظ الصحيح: يوم الفطر، فجزم في هذه الطريق بأنه الفطر كالطريق الثالث، وشك في الثانية، والجازم مقدم على الشاك "فصلى" بالناس "ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما" بالتثنية فيهما، وفي رواية: بإفراد الضمير فيهما نظرا إلى الصلاة "ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة" أي: صدقة التطوع لا صدقة الفطر كما ظن بعضهم أخذا من رواية: وبلال باسط ثوبه المشعر بأن ما يلقى فيه شيء يحتاج إلى ضم فهو لائق بصدقة الفطر المقدرة بالكيل، لكن يرده أن الذي ألقيته في ثوب بلال مما لا يجزئ في صدقة الفطر كما قال هنا "فجعلت المرأة تتصدق بخرصها" بضم الخاء المعجمة، وحكى كسرها وسكون الراء وصاد مهملة، حلقتها الصغيرة من ذهب أو فضة، وقيل: هو القرط إذا كان بحبة واحدة "وسخابها" بكسر المهملة وتخفيف المعجمة فألف فموحدة، قلادة من عنبر، أو قرنفل، أو غيره ولا يكون فيه خرز، وقيل: هو خيط فيه خرز، سمي سخابا لصوت خرزه عند الحكة مأخوذ من السخب، وهو اختلاط الأصوات، يقال بالصاد وبالسين.

"وفي رواية" عن ابن عباس أيضا "خرج لفظه: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم "يوم أضحى أو فطر" شك من الراوي، أو هو من عبد الرحمن بن عابس راويه عن ابن عباس.

"وفي أخرى" عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين" لا أربعا، وما روي عن علي أنها تصلي في الجاع أربعا وفي المصلى ركعتين مخالف

ص: 62

والترمذي والنسائي.

الثاني في عدد التكبير:

عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى، في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية: خمس تكبيرات. زاد في رواية: سوى تكبيرتي الإحرام والركعوع. رواه أبو داود.

وعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيد، في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الأخرى خمسا قبل القراءة. رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي.

لما انعقد عليه الإجماع "الحديث" بقيته لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين في ثوب بلال تلقي المرأة خرصها وسخابها "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي" ضمير، رواه للحديث المذكور برواياته الثلاثة.

"الثاني: في عدد التكبير عن عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في "صلاة عيد "الفطر و" صلاة عيد "الأضحى في" الركعة "الأولى" من كل العيدين "سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات، زاد في رواية: سوى تكبيرتي الإحرام والركوع".

قال بعضهم: حكمة هذا العدد أنه لما كان للوترية أثر عظيم في التذكير بالوتر الصمد الواحد الأحد، وكان للسبعة منها مدخل عظيم في الشرع جعل تكبير صلاته وترًا، وجعل سبعا في الأولى لذلك وتذكيرا بأعمال الحج السبعة من الطواف والسعي والجمار تشويقا إليها؛ لأن النظر إلى العيد الأكبر أكثر أو تذكيرا بخالق هذا الوجود بالتفكر في أفعاله المعروفة من خلق السماوات السبع والأرضين السبع، وما فيها من الأيام السبع؛ لأنه خلقهما في ستة أيام وخلق آدم في السابع يوم الجمعة، ولما جرت عادته صلى الله عليه وسلم بالرفق بأمته، ومنه تخفيف الثانية عن الأولى وكانت الخمسة أقرب وترا إلى السبعة، جعل تكبير الثانية خمسا لذلك.

"رواه أبو داود، وعن كثير" بفتح الكاف ومثلثة "ابن عبد الله" بن عمرو بن عوف المزني المدني ضعيف أفرط من نسبه إلى الكذب كما في التقريب "عن أبيه" عبد الله، تابعي مقبول "عن جده" عمرو بن عوف بن زيد الأنصاري المازني حليف بني عامر بن لؤي البدري، ويقال له: عمير، مات في خلافة عمر؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيد في" الركعة "الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الأخرى" الثانية كبر "خمسا قبل القراءة، رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام أحد الحفاظ، والحديث وإن كان في إسناده ضعف، لكنه

ص: 63

الثالث في الوقت والمكان:

عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة. الحديث رواه البخاري ومسلم.

وفي هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وقال: إنه أفضل من صلاتها في المسجد، لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع فضل مسجده، وعلى هذا عمل الناس في الأمصار. وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول. ولأصحابنا الشافعية وجهان: أحدهما، الصحراء أفضل لهذا الحديث، والثاني: وهو الأصح عند أكثرهم، المسجد أفضل إلا أن يضيق، قالوا: وإنما صلى أهل مكة في المسجد لسعته، وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم لضيق المسجد،

اعتضد بحديث عائشة قبله، وزاد في هذا أن التكبير قبل القراءة، ويوافقه قوله صلى الله عليه وسلم:"التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما"، رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمرو بن العاصي.

قال الترمذي في العلل: سألت عنه محمدًا، يعني البخاري، فقال: صحيح. انتهى، وما في جامع الترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم كبر بعد القراءة فهو ضعيف جدا، بل فيه كذاب، ولذا قال ابن دحية: هو أقبح حديث في جامع الترمذي.

"الثالث: في الوقت والمكان" الذي كان يصليه فيهما "عن أبي سعيد" بكسر العين سعد بسكونها ابن مالك بن سنان "الخدري" الصحابي ابن الصحابي "قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم" عيدي "الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة".

قال المصنف: برفع أول مبتدأ نكرة مخصصة بالإضافة خبره الصلاة، لكن الأولى جعل أول خبر مقدم، والصلاة مبتدأ؛ لأنه معرفة، وإن تخصص ول فلا يخرج عن التنكير، وجملة يبدأ به في محل جر صفة شيء "الحديث" يأتي تمامه قريبا في المتن "رواه البخاري ومسلم، وفي هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى" إظهارا لجمال الإسلام والغلظة على الكفار "وقال: إنه أفضل من صلاتها في المسجد لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك مع فضل مسجده، وعلى هذا عمل الناس في الأمصار" إلا لعذر مطر ونحوه "وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول" لسعته وخصوصية مشاهدة الكعبة.

"ولأصحابنا الشافعية وجهان: أحدهما الصحراء أفضل لهذا الحديث، والثاني وهو الأصح عند أكثرهم المسجد أفضل إلا أن يضيق" فالصحراء أفضل "قالوا: وإنما صلى أهل مكة في المسجد لسعته، وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم لضيق المسجد" أي: مسجده بالمدينة "فدل

ص: 64

فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع.

والمراد بالمصلى المذكور، الذي على باب المدينة الشرقي.

قال ابن القيم: ولم يصل صلى الله عليه وسلم العيد بمسجده إلا مرة واحدة، أصابهم مطر فصلى بهم العيد في المسجد، إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه. انتهى.

ولفظ أبي داود: عن أبي هريرة قال: أصابنا مطر في يوم فطر فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. زاد رزين: ولم يخرج بنا إلى المصلى.

الرابع في الأذان والإقامة:

عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

على أن المسجد أفضل إذا اتسع" ودعوى الحصر في الأمرين ممنوعة، بل مع سعة مسجد مكة فيه معنى آخر هو ملاحظة الكعبة، ومع ضيق مسجد المدينة خرج لمعنى آخر وهو إظهار جمال الإسلام وإغاظة الكفار، فلا دلالة على أن إيقاعها في المسجد المتسع غير الحرم أفضل "والمراد بالمصلى المذكور" في الحديث الموضع "الذي على باب المدينة الشرقي".

قال الحافظ: هو موضوع معروف بينه وبين باب المدينة ألف ذراع، قاله عمر بن شيبة في أخبار المدينة عن أبي غسان الكناني صاحب مالك.

"قال ابن القيم: ولم يصل صلى الله عليه وسلم العيد بمسجده إلا مرة واحدة، أصابهم مطر فصلى بهم العيد في المسجد إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه. انتهى.

"ولفظ أبي داود عن أبي هريرة، قال: أصابنا مطر في يوم فطر "فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد" النبوي لئلا يشق على الناس بالخروج في المطر "زاد رزين" في جامعه: "ولم يخرج بنا إلى المصلى" زيادة إيضاح.

"الرابع: في الأذان والإقامة" أي: حكمها وهو نفيهما "عن جابر بن سمرة" الصحابي ابن الصحابي "قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين" الفطر والأضحى "غير مرة ولا مرتين" حال أي: كثيرًا "بغير أذان ولا إقامة، رواه مسلم وأبو داود والترمذي".

وقال جابر بن عبد الله: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، رواه مسلم أيضًا.

ص: 65

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد بلا أذان ولا إقامة. رواه أبو داود.

الخامس في قراءته صلى الله عليه وسلم في صلاتي العيدين:

عن أبي واقد الليثي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} في الأولى و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} في الثانية. رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي.

وعن النعمان بن بشير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي صلاة الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما. رواه مسلم ومالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

"وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد بلا أذان ولا إقامة، رواه أبو داود" وإسناده صحيح كما في الفتح، ومثله عند النسائي من حديث ابن عمر، وفي مسلم عن جابر بن عبد الله: لا أذان للصلاة ولا إقامة ولا شيء، واحتج به من قال: لا يقال أمام صلاتها شيء.

وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري، قال: كان صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن في العيدين فيقول: "الصلاة جامعة"، وهذا مرسل فيه مبهم، وغاية ما قالوه يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها.

"الخامس: في قراءته صلى الله عليه وسلم في صلاتي العيدين عن أبي واقد" بالقاف "الليثي" واسمه الحارث بن عوف، أو ابن مالك، واسمه عوف بن الحارث بن أسد، المدني الصحابي:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] ، في" الركعة "الأولى، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ، في الثانية، رواه مسلم من طريق مالك وفليح بن سليمان "ومالك" في الموطأ "وأبو داود والترمذي" قيل: والمناسبة في قراءتهما في العيدين لاشتمالهما على المعنى اللائق بذلك من الخروج والصدور، ففي اقتربت يوم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، وفي سورة ق {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] ، فهاتان الآيتان مناسبتان لبروز الناس إلى المصلى، وحالهم في ذلك يشبه حال الخروج من القبور والصدور من المصلى بالمغفرة والسرور بالعيد، شبيه بالصدور من المحشر إلى الجنة، والوصول فيها إلى السرور الدائم.

"عن النعمان بن بشير" رضي الله عنهما "قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في" صلاة "العيدين وفي صلاة الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] ، وربما اجتمعا" أي: الفطر أو الأضحى والجمعة "في يوم واحد

ص: 66

السادس في خطبته صلى الله عليه وسلم وتقديمه صلاة العيدين عليها:

عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة: رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

وعن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.

وفي رواية: قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة.

وفي أخرى، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد، فبدأ بالصلاة قبل

فقرأ بهما" لفظ مسلم: وإذا اجتمعا في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين "رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي" ومر شرحه في الجمعة.

"السادس: في خطبته صلى الله عليه وسلم وتقديمه صلاة العيدين عليها، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة"، رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي" بطرق متعددة.

"وعن جابر" بن عبد الله "أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم" عيد "الفطر" إلى المصلى "فبدأ بالصلاة قبل الخطبة".

وفي رواية" عن جابر أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم "قام" على قدميه "فبدأ بالصلاة" يوم العيد "ثم خطب الناس" بعد كما في الرواية، أي: بعد الصلاة "فلما فرغ" من الخطبة "نزل" فيه إشعار بأنه خطب على مكان مرتفع لما يقتضيه قوله: نزل.

وعند ابن خزيمة: خطب صلى الله عليه وسلم يوم عيد على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن بالمصلى في زمانه منبر، ويدل عليه حديث أبي سعيد كما يأتي.

قال الحافظ: فلعل الراوي ضمن نزل معنى الانتقال، أي: انتقل "فأتى النساء فذكرهن" بشد الكاف، أي: وعظهن "وهو يتوكأ" أي: يعتمد "على يد بلال".

وزعم عياض أن وعظه النساء كان في أثناء الخطبة، وأنه كان في أول الإسلام وأنه من خصائصه، وتعقبه النووي بهذه الرواية المصرحة بأن ذلك كان بعد الخطبة والخصائص لا تثبت بالاحتمال "وبلال باسط ثوبه يلقي" بضم التحتية، أي: يرمي "فيه النساء صدقة"؛ لأنه أمرهن بها.

"وفي" رواية "أخرى" عن جابر أيضا "قال: شهدت" أي: حضرت "مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد، فبدأ" بالهمزة، أي: ابتدأ "بالصلاة قبل الخطبة" بضم الخاء "بلا أذان ولا إقامة، ثم قام

ص: 67

الخطبة، بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله تعالى، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير: قال:

متوكئا" أي: معتمدا مع ثقل وقوة "على بلال" حال من ضمير الفاعل في قام، وثم حرف عطف ومهلة، فيحتمل أن بين الصلاة والخطبة زمنا هو مشيه من مكان الصلاة إلى مكان الخطبة، ويحتمل أن لا مهلة، كقوله:

كهز الرديني تحت العجاج

جرى في الأنابيب ثم اضطرب

فليس المراد تأخر اضطراب الرمح عن زمن جريان الهز في أنابيبه "فأمر" صلى الله عليه وسلم الناس "بتقوى الله تعالى وحث" بمثلثة، أي: حض الناس "على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم" عطف تفسير "ثم" بعد فراغه من الخطبة "مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن" عطف تفسير.

قال الراغب: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.

"فقال: "تصدقن" يا معشر النساء "فإن أكثركن حطب جهنم" مبالغة في تعظيم العقاب، وهو من باب الإغلاظ في النصح لمن يعلم أنه لا يؤثر فيه دون ذلك "فقامت امرأة من وسط النساء" أي: جالسة في وسطهن، ولفظ مسلم: من سطة النساء بكسر السين وفتح الطاء خفيفة وهي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء، كما فسره من زعم أنه تصحيف وأن صوابه من سفلة النساء كما في رواية النسائي، بل المراد جالسة في وسطهن.

قال الجوهري وغيره: يقال: وسطت القوم أسطهم سطة، أي: توسطتهم، وقال بعضهم: الأظهر أن المراد توسطها في القامة ليست بطويلة ولا قصيرة، فرواية مسلم ناظرة إلى قامتها، ورواية النسائي إلى منزلتها، وقوله:"سفعاء الخدين" بفتح السين المهملة وسكون الفاء وعين مهملة ممدودة، أي: في خديها سواد بيان لصورتها فلا تنافي "فقالت: لم يا رسول الله؟ " كن أكثر حطب جهنم "قال: "لأنكن تكثرن" بضم الفوقية وسكون الكاف وكسر المثلثة "الشكاة" بكسر الشين المعجمة والقصر، أي: التشكي من الأزواج، أي: تكتمن الإحسان وتظهرن الشكاية كثيرا "وتكفرن العشير" أي: الزوج، وهذا كالبيان لقوله: "تكثرن الشكاة"؛ لأن كثرة التشكي من الأزواج مع وجود الإحسان منهم كقربهم وستر لحقهم، ففيه ذم من يجحد إحسان ذي الإحسان، وهذه المرأة هي أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء.

ص: 68

فجعلن يتصدقن من حليهن ويلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن". رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري: فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم وينهاهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم نصرف. فقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو

فقد روى الطبراني والبيهقي وغيرهما عنها أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى النساء وأنا معهن، فقال:"يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم"، فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عليه جريئة: لم يا رسول الله؟، قال:"لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير".

"قال" جابر: "فجعلن يتصدقن من حليهن": بضم الحاء وكسر اللام وشد التحتية، جمع حلى بفتح فسكون، أي: من الأشياء التي معهن من الحلي كقرط وخاتم، فالحلي هو المتصدق به لا رأس المال، فلا حجة فيه لمن قال بوجوب زكاة الحلي "ويلقين في ثوب بلال من أقراطهن" جمع قراط، بزنة رماح جمع قرط بضم فسكون فهو جمع الجمع كما قال عياض: والقرط كل ما علق في شحمة الأذن من ذهب أو خرز "وخواتمهن" بغير تحتية بعد الفوقية، جمع خاتم بفتح التاء وكسرها وهذا بيان لقوله: من حليهن "رواه" أي: حديث جابر المذكور برواياته الثلاثة "البخاري ومسلم" واللفظ له في الرواية الثالثة.

"وفي رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري" بلفظه، ومسلم بنحوه، وقد سبق أول هذه الرواية أول الفرع الثالث، وهو كما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى "فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف" منها "فيقوم مقابل الناس" أي: مواجها لهم، ولابن حبان: فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه، ولمسلم: فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس "والناس جلوس على صفوفهم" جملة اسمية حالية "فيعظهم" يخوفهم العواقب "ويوصيهم" بسكون الواو، بما ينبغي الوصية به "ويأمرهم" بالحلال "وينهاهم" عن الحرام، ولمسلم: وكان يقول: "تصدقوا تصدقوا"، وكان أكثر من يتصدق النساء.

"فإن كان يريد أن يقطع بعثا" أي: يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات "قطعه أو يأمر بشيء أمر به".

ولفظ مسلم: فإن كان له حاجة يبعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وتخصيص ذلك بالعيدين لاجتماع الناس هناك فلا يحتاج أن يجمعهم مرة أخرى "ثم ينصرف" إلى المدينة "فقال": وفي رواية قال "أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك" الابتداء

ص: 69

أمير المدينة في فطر أو أضحى فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه، فقلت له: غيرتم والله. الحديث.

بالصلاة والخطبة بعده صلى الله عليه وسلم "حتى خرجت مع مروان" بن الحكم "وهو أمير المدينة" من جهة معاوية "في فطر أو أضحى" شك الراوي: "فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير" بكاف مفتوحة فمثلثة مكسورة "ابن الصلت" بفتح المهملة وسكون اللام وفوقية، ابن معاوية الكندي تابعي كبير، ولد في العهد النبوي وقدم المدينة هو وأخوته بعده، فسكنها وحالف بني جمح بن سعد، وروى بإسناد صحيح إلى نافع، قال: كان اسم كثير بن الصلت قليلا فسماه عمر كثيرا ورواه أبو عوانة فوصله بذكر ابن عمر ورفعه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والأول أصح، وقد صح سماع كثير من عمر فمن بعده وكان له شرف، وذكر وهو ابن أخي جمد، بفتح الجيم وسكون الميم أو فتحها، أحد ملوك كندة الذين قتلوا في الردة، وقد ذكر ابن منده أباه في الصحابة وفي صحة ذلك نظر، وإنما اختض كثير ببناء المنبر بالمصلى؛ لأن داره كانت مجاورة للمصلى كما في حديث ابن عباس عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أتى في يوم العيد إلى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت.

قال ابن سعد: كانت داره قبلة المصلى في العيدين وهي تطل على بطحان الوادي الذي في وسط المدينة. انتهى.

وإنما بنى كثير داره بعده صلى الله عليه وسلم بمدة، لكنها لما اشتهرت في تلك البقعة وصفت المصلى بمجاورتها، اله في فتح الباري "فإذا مروان يريد أن يرتقيه، فقلت له: غيرتم والله

الحديث" لفظ البخاري: فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجذبت بثوبه فجذبني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال أبا سعيد: قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.

وفي مسلم قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم، ثلاث مرات، أي: لأن ما يعلمه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتي مروان بل ولا أحد من العالمين بشيء يكون خيرا من سنته صلى الله عليه وسلم، فزجره أولا بقوله: كلا، ثم بين له خطأ كلامه مؤكدا ذلك بالقسم، وفي هذا إشعار بأن مروان فعل ذلك باجتهاد منه.

وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن الحسن البصري، قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان صلى بالناس، ثم خطبهم، يعني على العادة، فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك، أي: صار يخطب قبل الصلاة، وهذه العلة غير التي اعتل بها مروان؛ لأن عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في

ص: 70

ولابن خزيمة: خطب عليه الصلاة والسلام يوم عيد على رجليه.

وهذا مشعر بأنه لم يكن في المصلى في زمانه منبر، ويدل على ذلك قول أبي سعيد:"فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان"، ومقتضاه أن أول من اتخذه مروان.

ووقع في المدونة للإمام مالك: أن أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان، كلمهم على منبر من طين بناه كثير ابن الصلت، لكنه معضل، وما في الصحيحين أصح، فقد رواه مسلم من طريق داود بن قيس نحو

مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، ويحتمل أن عثمان فعل ذلك أحيانا بخلاف مروان، فواظب عليه، فلذا نسب إليه.

وروي عن عمر مثل فعل عثمان عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بإسناد صحيح، لكن يعارضه حديث ابن عباس وابن عمر في الصحيحين أنه كان يصلي قبل الخطبة، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادرا، وإلا فما في الصحيحين أصح.

وقد أخرج الشافعي نحو حديث ابن عباس عن عبد الله بن يزيد، وزاد حتى قدم معاوية فقدم الخطبة، فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعله تبعا لمعاوية؛ لأنه كان أمير المدينة من جهته، ولعبد الرزاق عن ابن جريج، عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية، ولابن المنذر عن ابن سيرين: أول من فعل ذلك زيادة بالبصرة.

قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان؛ لأن كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية، فيحمل على أنه ابتدأ بفعل ذلك وتبعه عماله.

"ولابن خزيمة" في رواية مختصرة عن أبي سعيد: "خطب عليه الصلاة والسلام يوم عيد على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن في المصلى في زمانه منبر، ويدل على ذلك قول أبي سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، ومقتضاه أن أول من اتخذه مروان، ووقع في المدونة للإمام مالك" أي: عنه؛ لأن مؤلفها سحنون تلميذ تلاميذه، رواه عن ابن القاسم وغيره عنه:"أن أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان كلمهم" بدل من خطب "على منبر من طين".

وفي مسلم من حديث أبي سعيد: من طين ولبن، قال ابن المنبر: اختاروا أن يكون من ذلك لا من الخشب لكونه ترك بالصحراء في غير حرز، فيؤمن عليه النقل بخلاف منبر الجامع "بناه كثير بن الصلت لكنه معضل، وما في الصحيحين أصح، فقد رواه مسلم من طريق

ص: 71

رواية البخاري. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذك مرة ثم تركه ثم أعاده مروان، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد قاله شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله.

السابع في أكله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر قبل خروجه إلى صلاة العيد:

عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. رواه البخاري وقال: قال مرجأ بن رجاء حدثني عبيد الله حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ويأكلهن وترا.

ورواه الحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: ما خرج صلى الله عليه وسلم يوم فطر

داود بن قيس" القرشي، المدني، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري "نحو رواية البخاري" ولفظه، أعني مسلما: حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرا من طين ولبن.

"ويحتمل" في طريق الجمع بين ما في الصحيحين والمدونة؛ "أن يكون عثمان فعل ذلك مرة" لعذر "ثم تركه، ثم أعاده مروان ولم يطلع على ذلك أبو سعيد، قاله شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله".

زاد المصنف في شرح مسلم: وفي المدونة أيضا بناه لقمان وهو أول من أحدثه، وجمع بينهما بأن الباني هو لقمان، والآمر له ومعطيه الأجرة هو كثير؛ لأن المنبر متصل بجداره، فنسب إلى لقمان؛ لأنه المباشر، وإلى كثير؛ لأنه الآمر، والظاهر أن ذلك زمن عثمان، ومقصود أبي سعيد بيان حاله مع مروان في تقديم الخطبة على الصلاة، لا بيان أن المنبر بني في زمانه أو زمان غيره، فذكر أن في المصلى منبرا بناه كثير، وأراد مروان أن يخطب عليه قبل الصلاة، فالمفاجأة بين الإتيان إلى المصلى والوصول إلى المنبر لا بين الإتيان إليه وبناء المنبر. انتهى.

"السابع: في أكله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر قبل خروجه إلى اصلاة العيد: عن أنس" قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم" عيد "الفطر حتى يأكل تمرات، رواه البخاري" من أفراده عن مسلم من طريق هشيم، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس.

"وقال" البخاري تعليقا "قال: مرجأ" بضم الميم وفتح الراء وشد الجيم آخره همزة، كذا في الفرع، وأصله وضبطه في الفتح بغير همز على وزن معلى، قاله المصنف "ابن رجاء" بفتح الراء والجيم الخفيفة والمد السمرقندي البصري، مختلف في الاحتجاج به وليس له في البخاري غير هذا الموضع الواحد:"حدثني عبيد الله" بضم العين ابن أبي بكر بن أنس بن مالك قال: "حدثني أنس" يعني جده "عن النبي صلى الله عليه وسلم:" هذا الحديث ورد "ويأكلهن وترا" وفائدة هذا التعليق تصريح عبيد الله بتحديث أنس له؛ لأن الأولى بالعنعنة "و" قد "رواه الحاكم" وابن حبان

ص: 72

حتى يأكل تمرات، ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا.

قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة، أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة.

وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة.

وقيل: لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر مبادرة إلى السلامة من وسوسته.

والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم؛ ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به في المنام، ويرق القلب، ومن ثم

والإسماعيلي موصولا "من رواية عتبة" بفوقية "ابن حميد" الضبي البصري، صدوق له أوهام "عنه" أي: عن عبيد الله، عن أنس "بلفظ: ما خرج صلى الله عليه وسلم يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك" واحدة "أو أكثر" كتسع بدليل قوله: "وترا" فلم ينفرد به هشيم بل تابعه مرجا وعتبة، وكذا وصله ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق أبي النضر عن مرجا، بلفظ: يخرج بدل يغدو، والباقي مثل لفظ هشيم وفيه الزيادة، وأخرجه أحمد والبخاري في تاريخه عن حرمي بن عمارة عن مرجا، بلفظ: ويأكلهن أفرادا.

"قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة" بذال معجمة، أي: الوسيلة إلى اعتقاد حرمة الفطر قبل الصلاة "وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة" ولا يعارضه ما عند ابن ماجه عن ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة الفطر، لاحتمال أنه فعل ذلك تارة لبيان الجواز، أو أنه كان يغديهم ويقتصر هو على تمرات وترا من غير الصدقة.

"وقيل: لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر مبادرة إلى السلامة من وسوسته".

ويأتي توجيه آخر عن ابن المنير: "والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم؛ ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به في المنام:" فمن رأى فيه أنه يأكل حلوًا عبرت بقوة إيمانه "ويرق القلب".

ص: 73

استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا كالعسل. رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما.

وفي الترمذي والحاكم من حديث بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي، ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة. وروى الطبراني والدارقطني من حديث ابن عباس قال: من السنة أن لا يخرج يوم الفطر حتى يخرج الصدقة ويطعم شيئا قبل أن يخرج. وفي كل من الأسانيد الثلاثة مقال.

وقد أخذ الفقهاء بما دلت عليه. قال ابن المنير: وقع أكله صلى الله عليه وسلم في كل يوم

زاد الحافظ: وهو أيسر من غيره "ومن ثم استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا" تمرا كان أو غيره "كالعسل، رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة" بضم القاف وشد الراء ابن إياس البصري "وابن سيرين" محمد "وغيرهما".

زاد الحافظ: وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سئل عن ذلك، فقال: إنه يحبس البول، هذا كله في حق من يقدر على ذلك، وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما في الإتباع، أشار إليه ابن أبي جمرة، وأما جعلهن وترا، فقال المهلب: للإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعل في جميع أموره تبركا بذلك.

"وفي الترمذي": وقال: غريب وأحمد وابن ماجه "والحاكم" وقال: صحيح "من حديث بريدة" بن الحصيب "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج" لصلاة العيد "يوم" عيد "الفطر حتى يطعم" بفتح الياء والعين، أي يأكل، ويطلق على كل ما يساغ حتى الماء وذوق الشيء "ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي".

وفي رواية: حتى يذبح، وأخرى: حتى يرجع، زاد أحمد والدارقطني: فيأكل من الأضحية.

وفي رواية: من نسيكته "ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة".

"وروى الطبراني والدارقطني من حديث ابن عباس، قال: من السنة أن لا يخرج" إلى الصلاة "يوم" عيد "الفطر حتى يخرج الصدقة" أي: صدقة الفطر "ويطعم" يأكل "شيئا قبل أن يخرج" للصلاة فيجمع بين الأمرين، وقول الصحابي: من السنة حكمه الرفع؛ لأنه إنما يعني سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

"وفي كل من أسانيد" الأحاديث "الثلاثة مقال، وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلت عليه" من استحباب ذلك لاعتضاد بعضها ببعض.

"قال" الزين "بن المنير: وقع أكله صلى الله عليه وسلم في كل يوم من العيدين في" أول "الوقت

ص: 74

من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها، فاجتمعا من جهة، وافترقا من أخرى.

وقال الشافعي في الأم: بلغنا عن الزهري قال: ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيد ولا جنازة قط. وفي الترمذي عن علي قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا، وفي ابن ماجه عن سعد القرظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيدين ماشيا، وفيه أيضا عن أبي رافع نحوه، والأسانيد الثلاثة ضعاف.

وعن أبي هريرة قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره. رواه الترمذي.

المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها، فاجتمعا من جهة" هي أن خروجه للصلاة في كل من العيدين في الوقت الذي يشرع فيه صدقته "وافترقا من أخرى" هي أن الوقت الذي تشرع فيه صدقة الفطر قبل الصلاة والذي يشرع فيه صدقة الأضحى بعد الصلاة.

زاد الحافظ: واختار بعضهم تفصيلا آخر، فقال: من كان له ذبح استحب له أن يبدأ بالأكل يوم النحر منه، ومن لم يكن له ذبح تخير.

"وقال الشافعي في الأم: بلغنا عن الزهري، قال: ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيد ولا جنازة قط" تكثيرا للأجر.

"وفي الترمذي عن علي، قال: من السنة" للنبي صلى الله عليه وسلم "أن يخرج إلى العيد ماشيا" أي: إلى جنسه الشامل للعيدين.

"وفي ابن ماجه عن سعد القرظ:" بفتح القاف والراء وظاء معجمة المؤذن بقباء مولى الأنصار، عاش إلى سنة أربع وسبعين؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيدين ماشيا، وفيه أيضا عن أبي رافع نحوه" ولفظه: كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيدين ماشيا بغير أذان ولا إقامة، ثم يرجع ماشيا من طريق آخر "والأسانيد الثلاثة ضعاف" كما قال الحافظ، وقد رواه ابن ماجه أيضا عن ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيدين ماشيا ويرجع ماشيا، فيعضد بعضها بعضا.

"وعن أبي هريرة قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد" الفطر والأضحى "في طريق رجع في غيره، رواه الترمذي" وصححه الحاكم، وقد أخرجه البخاري بمعناه عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق، أي: رجع في غير طريق الذهاب إلى المصلى، ورواه الإسماعيلي بلفظ: كان إذا خرج العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه.

ص: 75

وقد اختلف في معنى ذلك على أقوال كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: اجتمع لي منها أكثر من عشرين، وقد لخصتها وبينت الواهي منها.

فمن ذلك: أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: له سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروة أو في التبرك به، أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معروفا بذلك. وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها. وهذا يحتاج إلى دليل.

وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل: ليغيظ المنافقين واليهود، وقيل: حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وقيل: ليعمهم بالسرور

"وقد اختلف في معنى" أي: حكمة "ذلك على أقوال كثيرة"؛ لأن كل من ظهرت له حكمة أبداها.

"قال الحافظ ابن حجر: اجتمع لي منها أكثر من عشرين" قولا "وقد لخصتها وبينت الواهي منها".

قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وأكثرها دعاوى فارغة. انتهى.

نقله الحافظ متصلا بقوله: "فمن ذلك أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان" بالسعي في الطاعة "وقيل:" ليشهد "له سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره، أو في التبرك به، أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معرفوا بذلك" أي: بأنه إذا مر بطريق أثر مروره وجود رائحة المسك فيما مر فيه، وتدوم الرائحة بعد مفارقته، حتى إن من مر بعده يستدل بما يجده من رائحة المسك على أنه صلى الله عليه وسلم مر من ذلك المكان.

"وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كان على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها" لحبه التيمن "وهذا يحتاج إلى دليل" أنها كانت على اليمين "وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما" أي: الطريقين "وقيل: لإظهار ذكر الله" في الطريقين "وقيل: ليغيظ المنافقين واليهود" أسقط من الفتح، وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال.

"وقيل: حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما" وفيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لم يكرره، قاله ابن التين، وتعقب بأنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على طريق منها معين، لكن في رواية الشافعي عن المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم يغدو يوم العيد

ص: 76

به والتبرك بمروره والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء، والاسترشاد والسلام عليهم أو غير ذلك، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل: كان يتصدق في ذهابه فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق آخر لئلا يرد من يسأله. وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى دليل.

وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام، وهذا رجحه الشيخ أبو حامد، وقيل: كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من طريقه التي يرجع فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطى في الذهاب، وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله، وهذا اختيار الرافعي. وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطى في الرجوع أيضا، كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره، وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات

إلى المصلى من الطريق الأعظم ويرجع من الطريق الآخر، وهذا لو ثبت لقوى بحث ابن التين، هكذا في الفتح متصلا بقوله:

"وقيل": فعل ذلك "ليعمهم بالسرور به والتبرك بمروره" وبرؤيته كما في الفتح "والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد والسلام عليهم أو غير ذلك".

"وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة" لأمته "والرضا" عنهم من الله "وقيل: كان يتصدق في ذهابه، فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من يسأله، وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى دليل" إذ هو مجرد دعوى.

"وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام وهذا رجحه الشيخ أبو حامد".

زاد الحافظ وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي في حديث ابن عمر، فقال: ليسع الناس، وتعقب بأنه ضعيف، وبأن قوله: ليسع الناس يحتمل أن يفسر بفضله وبركته، وهذا الذي رجحه ابن التين.

"وقيل: كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من طريقه التي يرجع فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطى:" جمع خطوة "في الذهاب، وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله" ليسر أهله "وهذا اختيار الرافعي".

"وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطى" يكتب "في الرجوع أيضا" ولفظ يكتب ثابتة في الفتح، فسقطت من المصنف أو نساخه "كما ثبت في حديث أبي بن كعب

ص: 77

فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقال ابن أبي جمرة: هو في معنى قول يعقوب لبنيه: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين. انتهى.

وكان عليه الصلاة والسلام يخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور والحيض في العيدين، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين. قالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لم يكن لها جلباب، قال: "فلتعرها أختها من

عند الترمذي وغيره" أسقط من الفتح، فلو عكس ما قاله لكان له اتجاه، ويكون سلوك الطريق القريبة للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك فضيلة أول الوقت.

"وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات، فأراد أن يشهد له فريقان منهم، وقال ابن أبي جمرة: هي في معنى قول يعقوب لبنيه: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 65] "فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين" وهي حق، وأسقط من الفتح، وأشار صاحب الهدى إلى أنه فعل ذلك جميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة. "انتهى" كلام الحافظ بن حجر بحروفه بما ذكرت أنه أسقطه منه.

"وكان عليه الصلاة والسلام يخرج الأبكار" أي: يأمر كما في رواية للشيخين عن أم عطية: أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نخرج الأبكار "والعواتق" جمع عاتق البالغة، أو التي قاربت البلوغ، أو التي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنس ما لم تتزوج، والتعنيس طول المقام في بيت أبويها بلا زوج حتى تطعن في السن، سميت عاتقا؛ لأنها عتقت من الخدمة أو من قهر أبويها "وذوات الخدور" بضم الخاء المعجمة والدال المهملة، جمع خدر وهو الستر في ناحية البيت، أو السرير المضروب عليه قبة "والحيض" بضم المهملة وشد التحتية: جمع حائض "في العيدين"، متعلق بيخرج "فأما الحيض فيعتزلن المصلى" فلا يختلطن بالمصليات، ومنعهن منع تنزيه، ولمسلم: وأمر الحيض أن يتعزلن مصلى المسلمين "ويشهدن دعوة المسلمين".

وفي رواية في الصحيحين: ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، أي أن خروجهن لأجل شهود الخير ودعوة المسلمين لا لأجل الصلاة "قالت إحداهن" هي رواية الحديث أم عطية:"يا رسول الله إحدانا إذا لم يكن لها جلباب:" بكسر الجيم وسكون اللام وموحدتين بينهما ألف، ثوب أقصر وأعرض من الخمار، وهو المقنعة تغطي به المرأة رأسها، أو هو الخمار، أو الإزار كالملاءة والملحفة، أو ثوب واسع تغطي به المرأة صدرها وظهرها "قال: فلتعرها أختها" في الإسلام "من جلابيبها" جمع جلباب.

وفي رواية للشيخين: من جلبابها بالإفراد على أن المعنى من جنس جلبابها بدليل رواية

ص: 78

جلابيبها". رواه البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له.

ولا دلالة فيه على وجوب صلاة العيد؛ لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف، فظهر أن القصد منه إظهار شعائر الإسلام بالمبالغة في الاجتماع، وليعم الجميع البركة.

وفيه: استحباب خروج النساء إلى شهود العيد، سواء كن شواب أو لا، أو ذوات هيآت أم لا، ولكن نص الشافعي في الأم يقتضي استثناء ذوات الهيآت. قال: وأحب شهود العجائز وغير ذوات الهيآت الصلاة. وأنا لشهودهن الأعياد أشد

الجمع، أو المراد تشركها معها في ثوبها، ويؤيده رواية أبي داود: تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها، يعني إذا كان واسعا، ويحتمل أن المراد بقوله: ثوبها جنس الثياب، فيرجع إلى الأول ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند الستر.

وقيل: إنه ذكر على سبيل المبالغة، أي: يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب، قاله الحافظ "رواه البخاري" في مواضع "ومسلم" في العيد، كلاهما من طرق "والترمذي واللفظ له" وأبو داود وغيرهم كلهم من حديث أم عطية "ولا دلالة فيه على وجوب صلاة العيد" خلافا لمن استدل به على ذلك "؛لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف" بل من يحرم عليه الصلاة وهو الحيض "ظهر أن القصد منه إظهار شعائر الإسلام بالمبالغة في الاجتماع وليعم الجميع البركة" الحاصلة "وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيد، سواء كن شواب أم لا، أو ذوات هيئات أم لا؟ ".

وقد اختلف فيه السلف، فنقل عياض وجوبه عن أبي بكر وعلي وابن عمر، والذي وقع لنا عن أبي بكر وعلي ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنهما، فالأحق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين، وقد ورد هذا مرفوعا بإسناد لا بأس به، أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن المنذر من طريق امرأة من عبد القيس عن أخت عبد الله بن رواحة، والمرأة لم تسم والأخت اسمها عمرة صحابية، وقوله: حق يحتمل الوجوب، ويحتمل تأكد الاستحباب.

وروى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى العيد من استطاع من أهل وهذا ليس صريحا في الووب أيضا، بل قد روي عن ابن عمر المنع، فيحتمل أن يحمل على حالين، ومنهم من حمله على الندب، وجزم بذلك الجرجاني من الشافعية وابن حامد من الحنابلة.

"ولكن نص الشافعي في الأم يقتضي استثناء ذوات الهيئات، قال: وأحب شهود العجائز غير ذوات الهيئات الصلاة، وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحبابا".

ص: 79

استحبابا.

وادعى بعضهم النسخ فيه، قال الطحاوي: وأمره عليه الصلاة والسلام بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام، والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو. وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك.

وتعب: بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم، وهي شهودهن الخير ودعوة المسلمين، ورجاء بركة ذك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك.

قال الحافظ: وقد سقطت الواو من رواية المزني في المختصر، فصار غير ذوات الهيئات صفة للعجائز، فمشى على ذلك صاحب النهاية ومن تبعه وفيه ما فيه، بل قد روى البيهقي في المعرفة عن الربيع، قال: قال الشافعي: قد روى حديث فيه إن النساء يتركن إلى العيدين، فإن كان ثابتا قلت به.

قال البيهقي: قد ثبت وأخرجه الشيخان، يعني حديث أم عطية هذا، فيلزم الشافعية القول به، ونقله ابن الرقعة عن البندنيجي وقال: إنه ظاهر كلام التنبيه "وادعى بعضهم النسخ فيه".

"قال الطحاوي: وأمره عليه الصلاة والسلام بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد، يحتمل أن يكون في أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك" لكثرة المسلمين "وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال".

"وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهي شهودهن الخير ودعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة" كما في الصحيح عن حفصة بنت سيرين، قالت: كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فجئتها فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وكانت أختها معه الحديث، وفيه قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها فسألتها: أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في كذا؟، قالت نعم، وذكرت لها الحديث، قالت المرأة: فقلت لها: الحيض؟ قالت: نعم، أليست الحائض تشهد عرفات وتشهد كذا وتشهد كذا؟، فقد أفتت به وأكدت فتواها بالقياس على عرفة والمزدلفة ورمي الجمار المعبر عنهما بكذا وكذا "ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك".

ص: 80

وأما قول عائشة: "لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد" فلا يعارض ذلك لندوره، إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه، مع أن الدلالة فيه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة.

وفي قول الطحاوي: "إرهابا للعدو" نظر؛ لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف.

والأولى: أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة، فلا يترتب على حضورها محظور، ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في الجامع -قاله في فتح الباري.

وكان عليه الصلاة والسلام يخرج العنزة يوم الفطر والأضحى فيركزها فيصلي إليها. رواه النسائي وغيره.

وإذا علمت هذا فاعلم أن للمؤمنين في هذه الدار ثلاثة أعياد، عيد يتكرر في كل أسبوع، وعيدان يأتيان في كل عام مرة من غير تكرار في السنة.

فأما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبة فيه فشرع لهم فيه عيدًا.

"وأما قول عائشة" في الصحيحين: "لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد" كما منعت نساء بني إسرائيل "فلا يعارض ذلك لندوره إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها" أي: عائشة "أفتت بخلافه مع أن الدلالة فيه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة؛" لأنها علقته على شيء لم يقع، إذ لم يرو لو رأى لاحتمل أن يزجرهن عما أحدثن ولا يمنعهن المساجد.

"وفي قول الطحاوي: إرهابا للعدو نظر؛ لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف، والأولى أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة، فلا يترتب على حضورها محظور ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في الجامع، قاله في فتح الباري" في العيدين "وكان عليه الصلاة والسلام يخرج العنزة" بفتح المهملة والنون والزاي "يوم" عيد "الفطر والأضحى فيركزها" بضم الكاف، يثبتها "فيصلي إليها، رواه النسائي وغيره".

"وإذا علمت هذا فاعلم أن للمؤمنين في هذه الدار ثلاثة أعياد" هي "عيد يتكرر في كل أسبوع وعيدان يأتيان في كل عام من غير تكرار في السنة، فأما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة وهو عيد الأسبوع وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فيه" أي

ص: 81

وأما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام، وإنما يأتي كل واحد منهما في العام مرة واحدة.

فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مترتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون صيام شهر رمضان المفروض عليهم واستوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار، فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنب، وآخره عتق من النار يعتق الله فيه من النار من استحقها بذنوبه، شرع الله تعالى لهم عقب صيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره، وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز يستوفي فيه الصائمون أجر صيامهم ويرجعون بالمغفرة.

أسبوع "فشرع لهم فيه عيدا" سرورا بإكمال الصلوات.

"وأما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام، وإنما يأتي كل واحد منهما في العام مرة واحدة، فأحدهما عيد الفطر من صوم رمضان وهو مترتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه" بعد الشهادتين في قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج"، فقال رجل: والحج وصيام رمضان، فقال ابن عمر: لا صيام رمضان والحج، هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر.

قال الحافظ: فأقاد أن رواية حنظلة عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر في البخاري بتقديم الحج مروية بالمعنى إما لأنه لم يسمع، زاد ابن عمر: على ارجل لتعدد المجالس أو حضر ذلك ونسيه. انتهى، "فإذا أكمل المسلمون صيام شهر رمضان المفروض عليهم، واستوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار" كما جاء في الحديث "فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنب وآخره عتق من النار يعتق الله فيه من النار من استحقها بذنوبه شرع" جواب "إذا". وفي نسخة: فشرع بالفاء على القليل في جواب إذا "الله تعالى لهم عقب صيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله تعالى، وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة وهو يوم الجوائز يستوفي فيه الصائمون أجر صامهم ويرجعون بالمغفرة" فضلا من الله سبحانه.

ص: 82

والعيد الثاني عيد النحر: وهو أكبر العيدين وأفضلهما، وهو مترتب على إكمال الحج، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم، وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، فإن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهد، لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، وشرع للجميع التقرب إليه تعالى بالنسك بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك اليوم شكرا منهم لهذه النعم، والصلاة والنحر الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة في عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلي لربه وينحر.

وقد ضحى صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى الله تعالى وكبر. رواه البخاري من حديث أنس، قال: ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما،

"والعيد الثاني عيد النحر، وهو أكبر العيدين وأفضلهما وهو مترتب على إكمال الحج، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه" بعد الشهادتين "فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم" كما وعد الله تعالى "وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، فإن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم" الذي يفوت الحج بفواته "ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهد لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، وشرع للجميع التقرب إليه تعالى بالنسك:" العبادة "بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك اليوم شكرا منهم لهذه النعم والصلاة والنحر الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة في عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أمره الله "أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر" نهر في الجنة "أن يصلي لربه" العيد "وينحر" الضحية "وقد ضحى صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين" بحاء مهملة تثنية أملح وهو الذي يخالط سواده بياض، والبياض أكثر، وقال الأصمعي: هو الأغبر، وقال ابن الأعرابي: الأبيض الخالص "أقرنين" تثنية أقرن وهو الكبير القرن "ذبحهما بيده الشريفة؛ لأنه أفضل، إذ الذبح عبادة وأفضلها أن يباشرها بنفسه إن كان يحسن ذلك كالمصطفى "وسمى الله تعالى وكبر، رواه البخاري من حديث أنس".

ص: 83

يقول: "بسم الله والله أكبر".

وعن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بكبش يطأ في سواد، ويبرك في سواد، فأتى به ليضحي به، فقال:"يا عائشة، هلمي المدية"، ثم قال:"اشحذيها بحجر" ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، قال:"بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد"، ثم ضحى به، رواه مسلم.

وعن جابر: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال: "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملة إبراهيم

"قال" أنس أيضا كما رواه البخاري وابن ماجه في الأضاحي، ومسلم والنسائي في الذبائح "ورأيته" صلى الله عليه وسلم حال كونه "واضعا قدمه" الشريفة "على صفاحهما" بكسر الصاد المهملة، وجمع وإن كان وضعه على صفحتيهما إما باعتبار أن الصفحتين من كل واحدة في الحقيقة موضوع عليهما قدمه المباركة؛ لأن إحداهما مما يلي الأخرى مما يلي الرجل، وإما أنه من باب قطعت رؤوس الكبشين.

وقال في الفتح: الصفاح الجوانب، والمراد الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثني إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما، فهو من إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع "يقول: بسم الله والله أكبر" وفيه وضع الرجل على صفحة عنقها الأيمن ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من كمال الذبح أو تؤذيه.

"وعن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بكبش يطأ" يمشي "في سواد" أي: قوائمه سود "ويبرك في سواد" أي أن ملاقي محل بروكه على الأرض من بدنه أسود، زاد في رواية: وينظر في سواد، أي: محاجره سود، وقد قيل: إن هذا هو المراد بالأملح، أي: أن مواضع هذه منه سود وما عدا ذلك أبيض، واختار ذلك لحسن منظره وشحمه وطيب لحمه؛ لأنه نوع يتميز به عن جنسه "فأتى به ليضحي به، فقال: "يا عائشة هلمي المدية" السكين "ثم قال: "اشحذيها" بشين معجمة فحاء مهملة فذال معجمة، سنيها "بحجر"، ففعلت" ما أمر به "ثم أخذها" أي المدية "وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، قال:"بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد، ثم ضحى به" فأشرك آله وأمته معه في الأجر "رواه مسلم".

"وعن جابر" قال: "ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين" بالجيم والهمز أي: مخصيين، ففيه جواز التضحية بالخصي "فلما وجههما قال:"إني وجهت وجهي: "قصدت بعبادتي "للذي فطر" خلق "السماوات والأرض"" أي الله حال كوني "على ملة إبراهيم".

ص: 84

"حنيفا، وما أنا من المشركن، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر"، ثم ذبح. رواه أبو داود وابن ماجه والدارمي.

وفي رواية لأحمد والترمذي: ذبح بيده وقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي".

فهذه أعياد المسلمين في الدنيا، وكلها عند إكمال طاعات مولاهم الملك الوهاب، وحيازتهم لما وعدهم من جزيل الأجر والثواب، فليس العيد من لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، وليس العيد لمن تجمل بالباس والمركوب، وإنما العيد لمن غفرت له الذنوب، في ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شيء فهو سعيد، وإلا فهو مطرود بعيد.

وأما أعياد المؤمنون في الجنة، فهو أيام زيارتهم ربهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة، ويتجلى لهم فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا هو أحب

في أصل التوحيد والدعوة إليه برفق، والمجادلة مع كل أحد بحسب فهمه "حنيفا" مائلا إلى الدين القيم "وما أنا من المشركين" به "إن صلاتي ونسكي": عبادتي "ومحياي": حياتي "ومماتي" موتي "لله رب العالمين لا شريك له" في ذلك "وبذلك" أي: التوحيد "أمرت وأنا أول المسلمين" من هذه الأمة "اللهم منك" هذا المضحى به "ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر"، ثم ذبح، رواه أبو داود وابن ماجه والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن.

"وفي رواية لأحمد والترمذي" عن جابر: "ذبح" صلى الله عليه وسلم "بيده وقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي" شامل للموجودين فمن بعدهم إلى آخر الزمن، وظاهر عمومته ولو لم يضح مع القدرة وهو متجه؛ لأنها سنة لا يعصى بتركها "فهذه أعياد المسلمين في الدنيا، وكلها عند إكمال طاعات مولاهم الملك الوهاب وحيازتهم لما وعدهم من جزيل الأجر والثواب" وهو لا يخلف الميعاد "فليس العيد لمن لبس الجديد" كما يظنه أبناء الدنيا "إنما العيد لمن طاعاته تزيد، وليس العيد لمن تجمل باللباس والمركوب، وإنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد، تفرق خلع": جمع خلعة وهو ما يمنح من الثياب "العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شيء فهو سعيد".

وفي نسخ: فهو له عيد "وإلا فهو مطرود بعيد" عن ذلك والعياذ بالله "وأما المؤمنون في الجنة" أي: أعيادهم "فهو أيام زيارتهم ربهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة

ص: 85

إليهم من ذلك وهو الزيادة، فليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه.

إنه يوما جامعا شملي بهم

ذاك عيدي ليس لي عيد سواه

ويتجلى لهم فينظرون إليه" كما ثبت في الأحاديث الصحاح "فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك، وهو الزيادة" المذكورة في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] ، وزيادة فالحسنى الجنة، والزيادة هي النظر إلى الله تعالى كما في حديث مسلم:"فليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه" له، وأنشد لغيره:

"إن يوما جامعا شملي بهم

ذاك عيدي ليس لي عيد سواه

ص: 86

الباب الثاني: في النوافل المقرونة بالأسباب

وفيه أربعة فصول:

الفصل الأول: في صلاته صلى الله عليه وسلم الكسوف

الكسوف لغة: التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس: إذا اسودت وذهب شعاعها.

الباب الثاني: "في النوافل المقرونة بالأسباب، وفيه أربعة فصول"

"الفصل الأول: في صلاته صلى الله عليه وسلم الكسوف" بالكاف للشمس والقمر، أو بالخاء للقمر، وبالكاف للشمس.

وفي مسلم عن عروة: "لا تقولوا: كسفت الشمس، ولكن قولوا: خسفت"، لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء الكسوف للشمس والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح، وحكى عكسه وغلطه عياض لثبوته بالخاء في القرآن، وقيل: يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف إذ "الكسوف لغة التغير إلى السواد" والخسوف النقصان أو الذل، فإذا قيل: في الشمس كسفت أو خسفت؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك ترادفهما "يقال: كسفت الشمس" بفتح الكاف، وحكي ضمها وهو نادر "إذا اسودت وذهب شعاعها" وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب

ص: 86

عن قبيصة بن المخارق قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، ثم قال:"إنما هذه الآيات يخوف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا". رواه أبو داود والنسائي.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "يخوف الله تعالى بها عباده" رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف.

كل اللون وبالكاف لتغيره "عن قبيصة" بفتح القاف وكسر الموحدة "ابن المخارق" بضم الميم وتخفيف المعجمة ابن عبد الله الهلالي، صحابي سكن البصرة "قال: كسفت الشمس على عهد" أي: زمن "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فزعا يجر ثوبه" زاد في رواية للبخاري: مستعجلا، وللنسائي: من العجلة، ولمسلم عن أسماء: ففزع فأخطأ يدرع حتى أدرك بردائه، يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك، وفيه أن جر الثوب إنما يذم ممن قصد به الخيلاء "وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام ثم انصرف وانجلت" بنون وجيم، أي: صفت، وهذا محتمل أنها انجلت قبل السلام وأنها انجلت بعده، لكن في حديث عائشة في الصحيحين: وانجلت الشمس قبل أن ينصرف وهذه صريحة لا تقبل التأويل، وفي حديث أبي بكرة عند البخاري: فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس.

قال الحافظ: استدل به على إطالة الصلاة حتى تنجلي، وأجاب الطحاوي بأنه قال فيه: وصلوا ودعوا، فدل على أنه سلم من الصلاة قبل الانجلاء ليتشاغل بالدعاء حتى تنجلي، وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين، ولا يلزم منه أه غاية لكل منهما على انفراده، فجاز أن يمتد الدعاء إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة فيصير غاية للمجموع، ولا يلزم منه تطويل الصلاة، أي: عن سنتها ولا تكريرها.

"ثم قال: إنما هذه الآيات" أي: الكسوف والخسوف والزلازل "يخوف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا، رواه أبو داود والنسائي" وهو بنحوه.

وأبسط منه في الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس والبخاري من حديث أبي بكرة.

"وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "يخوف الله تعالى بها عباده" رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي" جرت به العادة "لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان" ذلك "كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف" لزعمهم أنه إذا حصل للشمس أو القمر شيء من الأسباب والعلامات التي زعموها وقع الكسوف للشمس أو القمر، فإذا شاهدوه لم يخافوا؛ لأن نفوسهم

ص: 87

وقد رد عليهم ابن العربي وغيره، بما في حديث أبي موسى عند البخاري، حيث قال فيه: فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة، قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم تكن للأمر بالعتق والصدقة

مطمئنة بوقوعه جازمون بذلك.

"وقد رد عليهم ابن العربي وغيره" لفظ الفتح وغير واحد من أهل العلم "بما في حديث أبي موسى عند البخاري" ومسلم "حيث قال فيه:" أوله كسف الشمس "فقام" النبي صلى الله عليه وسلم "فزعا" بكسر الزاي صفة مشبهة، ويجوز الفتح على أنه مصدر بمعنى الصفة "يخشى أن تكون الساعة" بالضم على أن كان تامة، أي: يخشى أن تحضر الساعة أو ناقصة، والساعة اسمها والخبر محذوف أو العكس، قيل: فيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال؛ لأن سبب الفزع يخفى عن المشاهد لصورة الفزع، يحتمل أن الفزع لغير ما ذكر؛ فعلى هذا يشكل هذا الحديث من حيث إن للساعة مقدمات كثيرة لم تكن وقعت، كفتح البلاد واستخلاف الخلفاء وخروج الخوارج، ثم الأشراط كطلوع الشمس من مغربها والدابة والدجال والدخان وغير ذلك، ويجاب عن هذا باحتمال أن قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العلامات، أو لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات، أو أن الراي ظن أن الخشية لذلك، وكانت لغيره كعقوبة تحدث كما كان يخشى عند هبوب الريح، هذا حاصل ما ذكره النووي تبعا لغيره.

وزاد بعضهم: أن المراد بالساعة غير يوم القيامة، أي: الساعة التي جعلت علامة على أمر من الأمور، كموته صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك، وفي الأول نظر؛ لأن قصة الكسوف متأخرة جدا؛ لأن موت إبراهيم كان في العاشرة باتفاق وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك، وأما الثالث فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلا بتوقيف، وأما الرابع فلا يخفى بعده وأقر بها الثاني، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف والطلوع أشياء مما ذكر، وتقع متوالية بعضها إثر بعض مع استحضار قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 16] ، أو هو أقرب، ثم ظهر لي أنه يحتمل أن يخرج على مسألة دخول النسخ في الأخبار، فإن قيل به جاز ذلك وزال الإشكال، وقيل: لعله قدر وقوع الممكن لولا ما أعلمه الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط تعظيما منه لأمر الكسوف ليبين لمن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى ويفزع، لا سيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثرها، وقيل: لعل حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط، لاحتمال أن تلك الأشراط مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره، فيقع المخوف بلا شرط لفقد الشرط، قاله الحافظ.

"قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع" لعل وجه التبري أنه يجوز أن يكون

ص: 88

والصلاة معنى، يعني حديث أسماء عند البخاري "لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس" وكما عنده أيضا من حديث عائشة مرفوعا:"فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا" فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر يدفع الكسوف.

ومما نقض به ابن العربي وغيره أيضا أنهم يزعمون: أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها، وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين. فقال: "هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الكبير الصغير إذا قابله؟ أم كيف يظلم الكثير بالقليل لا سيما وهو من جنسه؟

علامة عادية على أمر مفزع يحدث في العالم عند حدوثه "ولو كان بالحساب لم تكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة معنى، يعني" الحافظ بهذا "حديث أسماء" بنت أبي بكر "عند البخاري" من أفراده: "لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة" بفتح العين المهملة أمر ندب "في كسوف" بالكاف "الشمس" ليرفع الله به البلاء عن عباده، وهل يقتصر على العتاقة، أو هي من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، الظاهر الثاني لقوله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] الآية، فإذا كان من التخويف فهي داعية إلى التوبة والمسارعة إلى جميع أفعال التوكل على قدر الطاقة، لما كان أشد ما يخوف به النار جاء الندب بأعلى شيء يتقى به النار، لحديث:"من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار"، فمن لم يقدر على ذلك فليعمل على الحديث العام وهو:"اتقوا النار ولو بشق تمرة" ويأخذ من وجوه البر ما أمكنه، قاله ابن أبي جمرة.

"وكما عنده" أي: البخاري "أيضا" وكذا مسلم "من حديث عائشة مرفوعًا: "فإذا رأيتم ذلك" أي: الكسوف "فادعوا الله" ولبعض رواة البخاري: فاذكروا الله " وكبروا وصلوا" صلاة الكسوف "وتصدقوا" بالعتق وغيره "فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف؛" لأن الصدقة تدفع العذاب أو تخففه، والدفع والتخفيف فرع عن وجود، فكأنه بين أن الكسوف يخشى منه عذاب، فأمر بالصدقة ونحوها لدفعه "وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر الكسوف" فكيف زعموا أنه سبب عادي "ومما نقض به ابن العربي وغيره أيضا" دعواهم ذلك "أنهم يزعمون أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها، وبين أهل الأرض عند اجتماعهما" الشمس والقمر "في العقدتين فقال: هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الكبير الصغير" بالرفع فاعل "إذا قابله؟ أم

ص: 89

وكيف يحجب الأرض نور الشمس.

وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، بلفظ:"إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له".

وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة، وقال: إنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأوليها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة.

قال ابن بزيزة: وهذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كروي الشكل، وظاهر الشرع يعطي

كيف يظلم الكثير بالقليل، لا سيما وهو من جنسه، وكيف يحجب الأرض نور الشمس" وهي في زاوية منها؛ لأنهم يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفا، هكذا في الفتح قبل قوله: "وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره: للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ:"إن الشمس والقمر لا ينكسفان" بنون بين الياء والكاف يقال: كسفت وانكسفت، وأنكرها القزاز والجوهري، حيث نسبها للعلامة، والحديث يرد عليه "لموت أحد" قاله لما مات ابنه إبراهيم وقال الناس: إنما كسفت لموته إبطالا لهذا الاعتقاد، وفائدة قوله:"ولا لحياته" مع أن السياق إنما ورد في حق من ظن أنه للموت، دفع توهم أنه لا يلزم من كونه سببا للفقد أن يكون سببا للإيجاد، فعمم الحكم لدفع هذا التوهم "ولكنهما آيتان من آيات الله" الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته، أو على تخويف عباده من سطوته وبأسه "وإن الله تعالى إذا تجلى" ظهر "لشيء من خلقه خشع له" فصرح بأن سبب الكسوف التجلي زيادة على التخويف، وكل منهما خلاف زعم أهل الهيئة أنه عادي.

"وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة" أي: وإن الله.. إلخ "وقال: إنها لم تثبت" إذ الأحاديث في الصحيحين وغيرهما عن جمع من الصحابة بدونها "فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون:" أسهل "من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة.

"قال" محمد "بن بزيزة" بموحدة مفتوحة وزاي مكررة، وزن سفينة الفقيه المالكي المشهور "وهذا عجب منه" أي: الغزالي "كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم

ص: 90

خلاف ذلك والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء، والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتران، والحديث الذي رده الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا؛ لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] . انتهى.

ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت، وقال: هي أخوف لله منا.

وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: "يخوف الله تعالى بهما عباده"، وليس بشيء؛ لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته تعالى حاكمة على كل سبب، يقتطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله

الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كروي الشكل، وظاهر يعطي خلاف ذلك، والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتران" كما زعموا، "والحديث الذي رده الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم" بالحديث وصححوه من حيث السند "وهو ثابت من حيث المعنى أيضا؛ لأن النورية" أي كون الشيء منيرا "والإضاءة" كونه مضيا "من عالم الجمال الحسي" المشاهد بحاة البصر "فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} أي: ظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر كما في حديث صححه الحاكم {لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، أي: مدكوكا مستويا بالأرض. "انتهى" كلام ابن بزيزة.

"ويؤيد هذا الحدث" أي: قوله: وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له "ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت، فبكى حتى كاد أن يموت وقال: هي أخوف لله منا" وخوفها وهي جماد يخلق الإدراك فيها، بل قد يخلق فيها حياة تدرك بها.

"وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله يخوف الله تعالى بهما عباده وليس بشيء؛ لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة" كالشبع والري بالأكل والشرب "وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته تعالى حاكمة على كل سبب يقتطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله تعالى لقوة

ص: 91

تعالى لقوة اعتقادهم في عموم قدرته تعالى على خرق العادة وأنه تعالى يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها.

وحاصله: أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى. قاله في فتح الباري.

وعن ابن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت

اعتقادهم في عموم قدرته تعالى على خرق العادة، وأنه تعالى يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر؛" لأن أصله مبني على تخمين وحدس "لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى، قاله في فتح الباري" رحمه الله تعالى.

"وعن ابن عباس" قال الحافظ: كذا في الموطأ وفي جميع من أخرجه من طريق مالك، ووقع في رواية اللؤلؤي لسنن أبي داود عن أبي هريرة بدل ابن عباس وهو غلط.

"قال: انخسفت" بنون بعد ألف الوصل ثم خاء "الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد الموطأ ومسلم: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه "فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع" من الركوع "فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع" رأسه من اركوع "ثم سجد" سجدتين، فما أطال فيهما نحو الركوع، كما دلت عليه الأحاديث:"ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد" سجدتين طويلتين.

قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقياميها وركوعيها أطول من الثانية بقياميها وركوعيها.

ص: 92

الشمس، فقال:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله"، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال: "إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط

وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأول وركوعه، أو هما سواء؟، قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله، وهو دون القيام الأول: هل المراد به الأول من الثانية ويرجع إلى الجميع، فيكون كل قيام دون ما قبله، ورواية الإسماعيلي تعين الثاني ولفظه الأول، فالأول أطول، ويرجحه أيضا أنه لو كان المراد بقوله: القيام الأول أول قيام من الأولى، لكان القيام الثاني والثالث مسكوتا عن مقدارهما، فالأول أكثر فائدة، قاله الحافظ "ثم انصرف" من الصلاة "و" الحال أنه "قد انجلت الشمس" قبل انصرافه، وذلك بين جلوسه في التشهد والسلام كما في حديث ابن عمر.

وفي الصحيح: ثم جلس ثم جلى عن الشمس "فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يخسفان" بفتح الياء وسكون الخاء وكسر السين، ويجوز ضم أوله وفتح السين.

وحكى ابن اصلاح منعه "لموت أحد ولا لحياته" بل هما مخلوقان لا تأثير لهما في أنفسهما فضلا عن غيرهما "فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت" كذا للأكثر بصيغة الماضي، وللكشميهني تناول بضم اللام بحذف إحدى التاءين وأصله: تتناول "شيئا في مقامك هذا" ولأحمد بإسناد حسن عن جابر: فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب شيئا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه، فذكر نحو حديث ابن عباس إلا أن في حديث جابر أنه كان في الظهر أو العصر، فإن كان محفوظا فهي قصة أخرى كما في الفتح:"ثم رأيناك تكعكعت" بكافين مفتوحتين بعد كل عين مهملة ساكنة، أي تأخرت، يقال: كع الرجل إذا نكص على عقبيه.

قال الخطابي: أصله تكععت، فاستثقلوا اجتماع ثلاث عينات، فأبدلوا من إحداها حرفا مكررًا، وهذا رواية الموطأ ومسلم من طريقه وله من طريق غيره: كففت بفاءين خفيفتين، ولبعض رواة البخاري: كعكعت كالأول لكن بلا تاء أوله.

"قال: "إني رأيت الجنة" رؤية عين أو علم، كما يأتي للمصنف "فتناولت منها عنقودا" أي: وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطعه "ولو أصبته" وفي رواية: ولو أخذته "لأكلتم منه" أي: من العنقود "ما بقيت الدنيا"؛ لأن ثمار الجنة لا

ص: 93

أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء"، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن"، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله

مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطعت خلفت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، والفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه وبين سعيد بن منصور في روايته؛ أن التناول المذكور كان حال قيامه الثاني من الركعة الثانية "ورأيت النار" قبل رؤية الجنة، فلعبد الرزاق: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار فتأخر عن مصلاه حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذا رجع عرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه.

ولمسلم من حديث جابر: "لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها"، وفيه:"ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي هذا"، وزاد فيه:"امن شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه".

وفي حديث سمرة عند ابن خزيمة: "لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم "فلم أر منظرا"" بفتح الظاء "كاليوم" أي: الوقت الذي هو فيه "قط أفظع" أقبح وأشنع وأسوأ صفة للمنصوب، أي: لم أر منظرا مثل منظر رأيته اليوم، فحذف المرئي وأدخل كاف التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه، وبعده عن المنظر المألوف.

وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا "ورأيت أكثر أهلها النساء" هذا يفسر وقت الرؤية في قوله لهن في خطبة العيد: "تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، واستشكل مع حديث أبي هريرة:"إن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا"، فمقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة، وأجيب بحمله على ما بعد خروجهن من النار، أو أنه خرج مخرج التغليظ والتخويف، وعورض بأخباره صلى الله عليه وسلم بالرؤية الحاصلة.

وفي حديث جابر: وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن ائتمن أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن ألحفن، وإن أعطين لم يشكرن، فدل على أن المرئي في النار منهم من اتصف بصفات ذميمة "قالوا: بم" كن أكثر أهل النار "يا رسول الله؟، قال:"بكفرهن" بموحدة، فيه وفي بم للسببية رواية البخاري من طريق مالك ومسلم من طريقه وطريق غيره، ولأكثر رواة الموطأ: لم قال: "لكفرهن"، باللام فيهما، والمعنى واحد "قيل: أيكفرن بالله؟ " بهمزة الاستفهام "قال: "يكفرن العشير" أي: الزوج، أي: إحسانه هذا هو المحفوظ عن مالك بلا واو عند جميع الرواة، عنه: إلا يحيى بن يحيى الأندلسي، فقال: ويكفرن بالواو لم يزدها غيره، قاله ابن عبد البر، فأشار إلى أنها شاذة؛ لأن المحفوظ يقابله الشاذ، وهو ما خالف الراوي فيه الملأ.

وقال الحافظ: اتفقوا على أن الواو غلط منه، فإن كان المراد من تغليطه كونه خالف غيره من الرواة فهو كذلك، وأطلق على الشذوذ غلطا، وإن كان المراد فساد المعنى فليس كذلك،

ص: 94

ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط". رواه البخاري ومسلم.

وقوله: "ورأيت الجنة والنار" قال القاضي عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، بأن كشف الله له عنهما، وأزال الحجب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام:"في عرض هذا الحائط" -كما في رواية: في جهته وناحيته، ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحي

لأن الجواب طابق السؤال، وزاد: وذلك أنه أطلق لفظ النساء، فعم المؤمنة والكافرة، فلما قيل: يكفرن بالله؟ أجاب بقوله: "ويكفرن العشير" إلخ، كأنه قال: نعم يقع منهن الكفر بالله وغيره؛ لأن منهن من يكفرن بالله ومنهن من يكفرن الإحسان.

قال: وقال ابن عبد البر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفرن بالله، لم يحتج إلى جوابه؛ لأن المقصود في الحديث خلافه.

قال الكرماني: لم يعد كفر العشير -بالياء- كما عدى الكفر بالله؛ لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف.

"ويكفرن الإحسان" كأنه بيان لقوله: "يكفرن العشير"؛ لأن المراد كفر إحسانه لا كفر ذاته، فالجملة مع الواو مبنية للأولى، نحو: أعجبني زيد وكرمه، والمراد بكفر الإحسان تغطيته أو جحده، ويدل عليه قوله:"لو أحسنت إلى إحداهن الدهر" نصب على الظرفية "كله" أي: مدة عمرالرجل أو الزمان مبالغة "ثم رأت منك شيئا" قليلا لا يوافق غرضها من أي نوع كان، فلتنوين للتقليل "قالت: ما رأيت منك خيرا قط" بيان للتغطية المذكورة ولو شرطية لا امتناعه.

قال الكرماني: ويحتمل أنها المتناهية بأن يكون الحكم ثابتا على التعيين والمظروف المسكوت عنه أولى من المذكور، وليس المراد خطاب رجل بعينه، بل كل من يتأتي أن يخاطب فهو خاص لفظا عام معنى "رواه البخاري" عن القعنبي "ومسلم" عن إسحاق بن عيسى، كلاهما عن مالك، ومسلم أيضا من طريق حفص بن ميسرة، كلاهما عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس "وقوله:"ورأيت الجنة والنار".

"قال القاضي عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين" بصرية حقيقية "بأن كشف الله له عنهما وأزال الحجب بينه وبينهما" فرآهما على حقيقتهما، وطويت المسافة بينهما "كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه" لقريش "ويكون قوله عليه السلام "في عرض" بضم العين "هذا الحائط كما في رواية في جهته وناحيته" أي أنه انكشف له عنهما من هذه الجهة "ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحي باطلاعه وتعريفه من أمورهما" أمرا "مفصلا ما لم

ص: 95

باطلاعه وتعريفه من أمورهما مفصلا ما لم يعرفه قبل ذلك اليوم. قال القاضي: والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. انتهى.

واستشكل قوله: "ولو أصبته" مع قوله: "تناولت".

وأجيب: بحمل "التناول" على تكلف الأخذ، لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسي ولو أخذته لكم، حكاه الكرماني، قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، وقيل: المراد بقوله تناولت: وضعت يدي عليه، بحيث كنت قادرًا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه، ولو أصبته، أي لو تمكنت من قطفه، ويدل

يعرفه قبل ذلك اليوم".

"قال القاضي" عياض: "والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار" بفتح الالم وسكون الفاء وحاء مهملة، لهبها وتأثيرها. "انتهى".

قال الحافظ: ويؤيد الحقيقة حديث أسماء عند البخاري، بلفظ:"دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها"، ومنهم من حمله على أنها مثلت له في الحائط كما تنطبع الصور في المرآة، فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس عند البخاري في التوحيد:"لقد عرضت علي الجنة آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي". وفي رواية: لقد مثلت، ولمسلم:"لقد صورت"، ولا يرد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة؛ لأنه شرط عادي، فيجوز أن تنخرق العادة خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين، بل مرارا على صور مختلفة، وأبعد من قال: المراد بالرؤية رؤية العلم.

قال القرطبي: لا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه صلى الله عليه وسلم إدراكا خاصا أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما. انتهى.

"واستشكل قوله: ولو أصبته مع قوله: تناولت" إذ التناول إصابة وأخذ "وأجيب بحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسي ولو أخذته لكم، حكاه الكرماني".

"قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد" إذ لا دليل عليه "وقيل: المراد بقوله: تناولت وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه" أي: قطعه مصدر قطف كضرب ونصر "ولو أصبته أي: لو تمكنت من قطفه" بالفاء "ويدل عليه قوله في

ص: 96

عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئا، وفي حديث أسماء عند البخاري:"حتى لو اجترأت عليه" وكأنه لم يؤذن له في ذلك فلم يجترئ عليه. قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود؛ لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى.

وفي حديث أسماء بنت أبي بكر، عند البخاري ومسلم ومالك والنسائي قال: "ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، ولقد

حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئا".

"وفي حديث أسماء" بنت أبي بكر "عند البخاري" في أوائل صفة الصلاة "حتى لو اجترأت عليه، وكأنه لم يؤذن له في ذك فلم يجترئ عليه" بالهمز، وقيل: الإرادة مقدرة، أي: أردت أن أتناول ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم:"ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل"، وللبخاري من حديث عائشة:"حتى لقد رأيتني أريد آخذا قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم"، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة:" أردت أن آخذ منها قطفا أريكموه" فلم يقدر، ولأحمد من حديث جابر:"فحيل بيني وبينه".

"قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود؛ لأنه من طعام" أهل "الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية، لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى".

وقيل: لأنه لو رآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، فيخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفسا. إيمانها، وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة.

وحكى ابن العربي في قانون التأويل عن بعض شيوخه أن معنى قوله: "لأكلتم منه

" إلخ، أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائما، بحيث لا يغير عن ذوقه، وتعقب بأنه رأي فلسفي مبني على أن الدار الآخرة لا حقائق لها، وإنما هي أمثال، والحق أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطعت خلفت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، والفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه. انتهى من الفتح.

"وفي حديث أسماء بنت أبي بكر" الصديق "عند البخاري" من طريق مالك وغيره "ومسلم" من طرق "ومالك" في الموطأ "والنسائي" أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس! فأشارت بيدها نحو السماء، فقلت: آية! فأشارت برأسها أن نعم، قالت: فقمت حتى تجلاني الغشي، وجعلت أصب فوق رأسي ماء، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه، ثم "قال:"ما من شيء" من الأشياء "كنت لم أره إلا قد رأيته" رؤية عين حقيقة "في مقامي" بفتح الميم "هذا" صفة مقامي،

ص: 97

أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم، مثل أو قريبا -لا أدري أي ذلك قالت أسماء- من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم في قبره يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن -لا أدري أي ذلك قالت أسماء- فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، فيقال: نم صالحا، قد

وتعسف من جعله خبر محذوف، أي: هو هذا المشار إليه "حتى الجنة والنار" ضبط بالحركات الثالث فيهما، كما قال الحافظ وغيره، فالرفع على أن حتى ابتدائية والجنة مبتدأ محذوف الخبر، أي: مرئية والنار عطف عليه، والنصب على أنها عاطفة على الضمير المنصوب في رأيته، والجر على أنها جارة أو عاطفة على المجرور السابق، وهو شيء وإن لزم عليه زيادة من مع المعرفة، والصحيح منعه؛ لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع؛ ولأن المقدر ليس كالملفوظ به، ومفاد الأغياء أنه لم يرهما قبل، مع أنه رآهما ليلة المعراج وهو قبل الكسوف بزمان.

وأجيب بأن المراد هنا في الأرض بدليل قوله: في مقامي هذا، أو باختلاف الرؤية "ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون" تمتحنون وتختبرون "في قبوركم مثل" بلا تنوين "أو قريبا" بالتنوين، وقوله:"لا أدري، أي: ذلك" أي: مثل أو قريبا "قالت أسماء" مقول فاطمة بنت المنذر بن الزبير رواية الحديث عن جدتها أسماء "من فتنة المسيح الدجال" الكذاب.

قال الكرماني: وجه الشبه بين الفتنتين الشدة والهول والهموم.

وقال الباجي: شبهها بها لشدتها وعظم المحنة بها وعدم الثبات معها "يؤتى أحدكم في قبره" والآتي ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير، رواه الترمذي وابن حبان، لكن قال منكر ونكير بدون أل، وذكر بعض الفقهاء؛ أن هذا اسم اللذين يسألان المذنب، واسم اللذين يسألان المطيع بشر وبشير "يقال له: ما علمك" مبتدأ خبره "بهذا الرجل"؟ محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: برسول الله لئلا يكون تلقينا للحجة.

قال عياض: قيل: يحتمل أنه مثل للميت في قبره، والأظهر أنه سمي له. انتهى، يعني: لأنه المتبادر من قوله في الصحيحين عن أنس، " فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد"، وكذا في رواية ابن المنكدر عن أسماء عند أحمد.

"فأما المؤمن أو الموقن" أي: المصدق بنبوته "لا أدري أي ذلك، قالت أسماء": شكت فاطمة قال الباجي: والأظهر أنه المؤمن، لقوله: فآمنا دون أيقنا، أو لقوله: لمؤمنا "فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات" المعجزات الدالة على نبوته "والهدى" الدلالة الموصلة إلى البغية "فأجبنا واتبعنا" بحذف ضمير المفعول فيهما للعلم به.

وفي رواية الموطأ والبخاري: فأجبنا وآمنا واتبعنا "هو محمد ثلاثا" هكذا في رواية مسلم،

ص: 98

علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب -لا أدري أي ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته".

وفي رواية: "فرأى امرأة تخدشها هرة، ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا".

وفي رواية: فرأى عمرو بن مالك يجر قصبه في النار، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب.

ولفظه: فيقول: "هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا ثلاث مرات "فيقال"" له: "نم" حال كونك "صالحا" منتفعا بأعمالك، إذ الصلاح كون الشيء في حد الانتفاع "قد علمنا أن كنت لموقنًا" بالقاف، كذا رواه إسماعيل بن أبي أويس في الموطأ، ولباقي رواته لمؤمنا بالميم، وللترمذي من حديث أبي هريرة:"فيقال له نم، فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، ويفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا، وينور له كالقمر ليلة البدر".

وفي حديث البراء: "فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي افرشوه من الجنة وافتحوا له باب من الجنة وألبسوه من الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له مد بصره".

"وأما المنافق" من لم يصدق بقلبه بنبوته "أو المرتاب" الشاك، قالت فاطمة:"لا أدري أي ذلك قالت أسماء: فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته" زاد الشيخان من حديث أنس: "فيقولان: لا دريت ولا تليت"، وفي حديث أبي هريرة:"ويفتح له باب إلى النار فيزداد حسرة وثبورا، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه".

"وفي رواية" عن جابر: "فرأى امرأة" في النار "تخدشها هرة" بضم الدال جزاء لها على فعلها، معها، ولا يكون ذلك تعذيبا للهرة "ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا" ولمسلم من حديث جابر:"وعرضت علي النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض".

وفي رواية له: "ورأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة ولم يقل: من بني إسرائيل"، فإن قيل: هذه الفعلة صغيرة فكيف عذبت عليها بالنار؟، أجيب: بأنها أصرت على فعلها، والإصرار على الصغير يصيرها كبيرة.

"وفي رواية" لمسلم عن جابر: "فرأى" لفظه عقب قوله: خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة "عمرو بن مالك يجر قصبه في النار".

قال الدارقطني: تقدم، أي: في مسلم في حديث يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة، أن الذي رآه في النار عمرو بن لحي الذي سبب السوائب، وهو الصواب "وكان أول من غير دين

ص: 99

قوله: "قصبه" بضم القاف وسكون الصاد، أي أمعاءه.

وفي رواية عائشة: ثم قال: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن

إبراهيم" فنصب الأوثان وبحر البحيرة وأخواتها المذكورة في الآية "ورأى فيها سارق" متاع "الحاج يعذب" كما في حديث جابر عند مسلم: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإذا فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به".

"قوله: قصبه بضم القاف وسكون الصاد" المهملة "أي: أمعاءه" جمع معي، وهي المصارين.

"وفي رواية عائشة" في الموطأ والصحيحين من طريقه: "خسفت الشمس، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحديث في صلاة الخسوف، وفيه: ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعو الله وكبروا وتصدقوا" ثم قال:"يا أمة محمد" فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الواحد ولده إذا أشفق عليه: يا بني، وكان قضية ذلك أن يقول: يا أمتي، لكنه أظهر لحكمة لعلها أن المقام مقام تحذير وتخويف لما في الإضافة إلى المضمر من الإشعار بالكريم، ومثله:"يا فاطمة بنت محمد" إلى أن قال: "لا أغني عنكم من الله شيئا""والله" أتى باليمين لإرادة تأكيد الخبر وإن كان لا ريب فيه "ما من أحد أغير" بالنصب خبر ومن زائدة، ويجوز الرفع على لغة تميم، أو هو بالخفض بالفتحة صفة لأحد والخبر محذوف، أي: موجودا غير "من الله" أفعل تفضيل من الغيرة بفتح المعجمة، وهي لغة ما يحصل من الخمسة ما لا ثقة وأصله في الزوجين والأهلين، وذلك على الله محال؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص، فتعين حمله على المجاز، فثبل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم، أطلق عليه ذلك؛ لأنه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعد عليه، فهو من تسمية الشيء بما يترتب عليه.

وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجرا عن الفواحش من الله، وقال غيره: غيرة الله ما يغير حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما.

وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين إما ساكت وإما مؤول بأن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية فهو من مجاز الملازمة.

وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال هذه بقوله: فاذكروا الله.. إلخ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منه الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك، وقيل: لما كان من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا

ص: 100

يزني عبده أو تزني أمته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا، ألا هل بلغت".

أي لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة، وما بعدها. كما علمت وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيرا، ولقل ضحككم لتفكركم فيما علمتموه.

وفي حديث عائشة عند البخاري: فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبرنا فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال:"سمع الله لمن حمده"، فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة، وهي أدنى من القراءة

في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب العزة؛ "أن يزني عبده أو تزني أمته" متعلق بأغير، وحذف من قبل أن قياس مستمر، وتخصيصهما بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن تتعلق بهم الغيرة غالبا "والله" لفظ الموطأ والصحيحين: يا أمة محمد والله بتكرير النداء تنبيها على ما بينه من الفزع إلى الله "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ألا" بالفتح والتخفيف "هل بلغت" ما أمرت به من الإحذار والإنذار وغير ذلك مما أرسلت به، وهذا أعني: ألا هل بلغت من رواية مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام عن عروة عن عائشة، وليست في رواية البخاري من طريق مالك عن هشام "أي: لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها" أي: الأهوال "كما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيرا ولقل ضحككم لتفكركم فيما علمتموه" قيل: معنى القلة هنا العدم والتقدير لتركتم الضحك، أو لم يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن، وقيل: معناه لو دام علمكم كما دام علمي؛ لأن علمه متواصل بخلاف غيره، وقيل: معناه لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما علم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك.

"وفي حديث عائشة عند البخاري" ومسلم وغيرهما قالت: خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم "فخرج إلى المسجد" لا الصحراء لخوف الفوات بالانجلاء والمبادرة إلى الصلاة مشروعة "فصف الناس" بالرفع، أي: اصطفوا، ويجوز النصب والفاعل محذوف وهو النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الحافظ: فأفاد أن الرواية بالرفع "وراءه" خلفه "فكبرنا" تكبيرة الإحرام "فاقترأ" أي: قرأ "رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة" نحوا من سورة البقرة "ثم كبر فركع ركوعا طويلا" مسبحا فيه قدر مائة آية من البقرة "ثم قال: "سمع الله لمن حمده" أي: أجاب دعاءه "فقام" من الركوع "ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة وهي أدنى" أي: أقل "من القراءة الأولى" وهي نحو من سورة

ص: 101

الأولى، وزاد في رواية:"ربنا ولك الحمد".

واستدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى.

واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه.

والجواب: إن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعا؛ لأنها أصل برأسها. وبهذا رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف أشبه شيء بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، وكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين النص والقياس،

آل عمران. "وزاد في رواية" للبخاري ومسلم "ربنا ولك الحمد". قال المصنف: بالواو.

"واستدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال" وهو سمع الله

إلخ "في أول القيام الثاني من الركعة الأولى، واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه" متعلق باتفاق "وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه" فقال: لا يقرأ الفاتحة "والجواب؛ أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعا؛ لأنها أصل برأسها" لا تقاس بغيرها "وبهذا رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف" عبارة الفتح، وقد أشار الطحاوي إلى أن قول أصحابه أحرى في القياس على صلاة النوافل، لكن اعترض بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف "أشبه شيء بصلاة العيد ونحوها مما يجمع فيه من مطلق النوافل" بيان لما "فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، وكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين النص والقياس" كذا في نسخ بدل من العملين.

ص: 102

بخلاف من لم يعمل به.

وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره، ومن زيادة ركوع في كل ركعة، وقد وردت زيادة في ذلك من طريق أخرى، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس: أن في كل ركعة أربع ركوعات، ولأبي داود من حديث أبي بن كعب، والبزار من حديث علي: أن في كل ركعة خمسة ركوعات ولا يخلو إسناد منها من علة.

ونقل ابن القيم في "الهدي" عن الشافعي وأحمد والبخاري: أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم موت إبراهيم عليه

وفي أخرى بين العمل بالإفراد النص والقياس بدون ياء "بخلاف من لم يعمل به" فقد خالف النص "وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره" كالركوع والسجود "ومن زيادة ركوع في كل ركعة" وذلك مما يوضح أنها أصل برأسها، وقد وافق عائشة على رواية ذلك ابن عباس وابن عمرو في الصحيحين، وأسماء بنت أبي بكر عند البخاري، وجابر عند مسلم، وعلي عند أحمد، وأبو هريرة عند النسائي، وابن عمر عند البزار، وأبو سفيان عند الطبراني، وفي رواياتهم زيادة رواها الحفاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها، وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا: هكذا في الفتح قبل قوله: "وقد وردت زيادة في ذلك من طرق أخرى".

"فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر، أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده" أي: مسلم "من وجه" أي: طريق "آخر عن ابن عباس؛ أن في كل ركعة أربع ركوعات" ولفظه عن طاوس، عن ابن عباس: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات، وعن علي مثله.

"ولأبي داود من حديث أبي بن كعب والبزار من حديث علي: أن في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها عن علة".

قال الحافظ: وقد أوضح ذلك البيهقي وابن عبد البر.

"ونقل ابن القيم في الهدي عن الشافعي، وأحمد والبخاري؛ أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعن في كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم موت إبراهيم ابنه عليه السلام وإذا اتحدت القصة

ص: 103

السلام، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح.

وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووي في شرح مسلم.

وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك.

وتعقبه النووي وغيره: بأن إبطاء الإنجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه، منوي من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح الباري.

تعين الأخذ بالراجح"، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدد الواقعة، فإن الكسوف وقع مرا، فيكون كل من هذه الأوجه جائزا وإلى ذلك نحا إسحاق، لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات.

"وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بما ثبت من ذلك وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووي في شرح مسلم" إعمالا لكل الأحاديث.

"وأبدى بعضهم، أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة" فصلى ركعتين "وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك" وهو خمس ركوعات على ما مر.

"وتعقبه النووي وغيره، بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوي من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح الباري" ظاهر المصنف أنه لم يجب عن هذا التعقب مع أن عقبه في الفتح ما لفظه، وأجيب باحتمال أن يكون الاعتماد على الركعة الأولى، وأما الثانية فهي تبع لها، فمهما اتفق وقوعه في الأولى بسبب بطء الانجلاء يقع مثله في الثانية ليساوي بينهما، ومن ثم قال أصبغ: إذا وقع الانجلاء في أثنائها تصلى الثانية كالعادة، وعلى هذا فيدخل المصلي فيها على نية مطلق الصلاة، ويزيد في الركوع

ص: 104

وعند الإمام أحمد: أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم حمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبده ورسوله، ثم قال:"يا أيها الناس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي لما أخبرتموني ذلك" فقام رجل فقال: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، ثم قال: "وأيم الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور

بحسب الكسوف، ولا مانع من ذلك.

وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع، فحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا؟ فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه، ففعل ذلك مرة أو مرارا، فظنه بعض من رآه يفعل ذلك ركوعا زائدا، وتعقب بالأحاديث الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل، ولا سيما الأخبار الصريحة أنه قال: ذكر الاعتدال، ثم شرع في القراءة، فكل ذلك يرد هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعله صلى الله عليه وسلم عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصاة لا عهد بها، وهو ما فر منه. انتهى.

"وعند الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم" من صلاة الكسوف "حمد الله وأثنى عليه" عطف عام على خاص "وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبده ورسوله" بتقديم العبودية؛ لأن له بها مزيد اختصاص؛ ولأنه كان عبدا قبل أن يكون رسولا "ثم قال: "يا أيها الناس أنشدكم": أسألكم "بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي" لعل المعنى في بيان مجمل ما أرسل به، كالصلاة والزكاة والحج ونحوها مما أجمل في القرآن، وبينه صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] الآية، ما أرسل بتبليغه، وإذا بلغهم لم يكن مقصرا "لما" بالفتح والتشديد، بمعنى ألا "أخبرتموني ذلك فقام رجل: فقال: نشهد" بنون الجماعة إشارة إلى أنه متكلم عن نفسه وعن جميع الحاضرين؛ "أنك قد بلغت رسالات ربك" جميعها ولم تكتم شيئا "ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وأيم الله" قسم "لقد رأيت منذ قمت أصلي" الكسوف "ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم وأنه" أي: الشأن "والله" أقسم للتأكيد "لا تقوم الساعة" القيامة "حتى يخرج ثلاثون كذابا".

زاد في رواية: "كلهم يزعم أنه رسول الله وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"، وليس المراد من ادعى النبوة مطلقا؛ لأنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك من جنون أو سوداء، وإنما

ص: 105

"الدجال، من تبعه لم ينفعه صالح من عمله".

وفي البخاري: قالت عائشة وأسماء: خطب النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد اختلف في الخطبة فيه، فاستحبها الشافعي وإسحاق وأكثر أهل الحديث.

وقال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد ذلك.

وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل.

وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهي ذات كثرة.

والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة لها، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد

المراد من قامت له شوكة، كمسيلمة والأسود "آخرهم الأعور" عينه اليمنى، وروي اليسرى، وجمع بأن إحداهما مطموسة والأخرى معيبة والعور العيب "الدجال" الذي يزعم الإلاهية "من تبعه لم ينفعه صالح من عمله"؛ لأنه كفر.

"وفي البخاري" تعليقا "قالت عائشة وأسماء" بنتا الصديق: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم" في الكسوف، أما حديث عائشة فرواه البخاري ومسلم عنهما بلفظ: ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس، وأما حديث أسماء فأخرجاه عنها بلفظ: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس، فخطب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد".

"وقد اختلف في الخطبة فيه، فاستحبها الشافعي وإسحاق" ابن راهوية "وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد" بن حنبل "ذلك" أي استحبابها.

"وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه" أي: المذكور "لم ينقل، وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه وهي ذات كثرة، والمشهور عند المالكية أن لا خطبة لها مع أن مالكا" في الموطأ "روى الحديث" أي: حديث عائشة "وفيه ذكر الخطبة؛" لأنه حملها على الوعظ، فقال: يستحب الوعظ بعد الصلاة.

قال العلامة بهرام: وإنما لم نقل بالخطبة، وإن سمت عائشة ما ذكره صلى الله عليه وسلم خطبة؛ لأن جماعة من الصحابة منه علي وابن عباس وجابر وأبو هريرة نقلوا صفة صلاة الكسوف، ولم يقل أحد منهم أنه خطب فيها، ولا يجوز أنه خطب، وأغفلوه مع نقل كل واحد ما يتعلق بتلك الحال، فوجب حمل تسمية عائشة خطبة على معنى أنه أتى بكلام منظوم فيه حمد وصلاة وموعظة على سبيل ما يأتي في الخطبة. انتهى.

"وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم

ص: 106

أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس.

وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل. انتهى.

وعن المغيرة بن شعبة عند البخاري: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا الله".

وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة

الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس؛" لأنهم قالوا: كسفت لموت إبراهيم "وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف" لكن يرد على هذا أن القائلين بالخطبة قالوا: المستحب خطبتان كالجمعة، فلا يجزي واحدة، وليس في شيء من الأحاديث تصريح بأنه خطب خطبتين، فتعين حمل الخطبة على الوعظ المستحب بعد الصلاة، كما قال مالك:"والأصل مشروعية الاتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل. انتهى" مثله في الفتح، ولعل ثم من أجاب بأن الخطبة من خصائصه حتى رد عليه بذلك، وإلا فليس لهذا تعلق بما قبله.

"وعن المغيرة بن شعبة عند البخاري" ومسلم قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عله وسلم- يوم مات إبراهيم" آخر أولاده عليه السلام "فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم" بفتح الكاف والسين والفاء "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" الدالة على عظم قدرته "لا ينكسفان" بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فكاف مكسورة "لموت أحد" كما زعموا "ولا لحياته" كما قد يتوهم "فإذا رأيتموهما" بالتثنية لبعض رواة الصحيحين، وكذا رواه الإسماعيلي، أي: إذا رأيتم كسوف كل منهما لاستحالة وقوع ذلك فيهما معا في حالة واحدة عادة وإن جاز في القدرة الإلهية.

وفي رواية: فإذا رأيتموها، أي: الآيات، وفي أخرى: فإذا رأيتم بحذف المفعول، أي: شيئا من ذلك، وللإسماعيلي: فإذا رأيتم ذلك "فصلوا وادعوا الله"، وفي رواية للبخاري:"فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي""وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم" من مارية القبطية.

ص: 107

العاشرة من الهجرة، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه وقيل: في رابع عشره، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكة إذ ذاك في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف.

نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح، وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية فلعل ذلك كان في آخر ذي القعدة حين رجع منها.

وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض. قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض، من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة للدفع عن أنفسهما.

"وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، فقيل: في ربيع الأول" منها "وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشره" وفي هذا رد على زعم أهل الهيئة أنه لا يقع في الأوقات المذكورة، وقد فرض مالك والشافعي اجتماع عيد وكسوف، واعترضه بعض من اعتمد قول أهل الهيئة، وانتدب أهل المذهبين لدفع قول المعترض فأصابوا "ولا يصح شيء منها" أي: هذه الأقوال الثلاثة "على قول" أنه مات في "ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة إذ ذاك في الحج، وقد ثبت أنه شهد" أي: حضر "وفاته" أي: إبراهيم "وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح" أنه كان في ذي الحجة.

"وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية" واستشكل بأنه كان حينئذ بالحديبية وموت إبراهيم بالمدينة، ويجاب بأنه رجع من الحديبية في آخر ذي القعدة "فلعل ذلك كان في آخر ذي القعدة حين رجع منها، وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض".

"قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في لأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة عن أنفسهما" وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته وشدة الخوف من ربه.

ص: 108

وعن عبد الله بن عمرو قال: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي: أن الصلاة جامعة. رواه البخاري.

وقوله: "أن" بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهي المفسرة.

أن له ولمسلم، من حديث عائشة: بعث النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: أن الصلاة جامعة.

قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك.

وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام.

وروى ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم، وأخرجه الدارقطني أيضا.

وفيه: رد على من أطلق -كابن رشيد- أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في كسوف القمر،

"وعن عبد الله بن عمرو" بفتح العين ابن العاصي "قال: لما كسفت" بفتحات "الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي أن الصلاة جامعة".

قال الحافظ، وللكشميهني: نودي بالصلاة جامعة بالنصب فيهما على الحكاية، ونصبت الصلاة في الأصل على الإغراء وجامعة على الحال، أي احضروا الصلاة في حالة كونها جامعة، وبرفعهما على أن الصلاة مبتدأ، وجامعة خبره ومعناه ذات جامعة، وقيل: جامعة صفة والخبر محذوف تقديره احضروها، وعن بعض العلماء: يجوز نصبهما ورفعهما، ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه "رواه البخاري" ومسلم.

"قوله؛ أن بفتح الهمزة وتخفيف النون وهي المفسرة" فالصلاة مبتدأ خبره جامعة، زاد المصنف كالحافظ: وروى بكسر الهمزة وتشديد النون والخبر محذوف تقديره إن الصلاة ذات جامعة، أي: حاضرة "وله" أي: البخاري "ولمسلم من حديث عائشة" أن النبي خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ"بعث صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي إن الصلاة جامعة" وظاهر الحديث أن ذلك كان قبل اجتماع الناس، وليس فيه أنه بعد اجتماعهم نودي الصلاة جامعة حتى يكون ذلك بمنزلة الإقامة التي يعقبها الفرض.

"قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث ججة لمن استحب ذلك، وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام" أي: الكسوف.

"وروى ابن حبان" عن أبي بكرة "أنه صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين بمثل صلاتكم" النوافل المعتادة بدون زيادة قيامين وركوعين "وأخرجه الدارقطني أيضا، وفيه رد

ص: 109

ومنهم من أول قوله: "صلى" أي أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين.

وقال ابن القيم في "الهدي": لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبان في السيرة له: أن القمر خسف في السنة الخامسة، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور. وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة، وتبعه الحافظ زين الدين العراقي في نظمها.

وفي البخاري من حديث عائشة: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته. فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف، أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات.

واستدل به عن الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد؛ لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،

على من أطلق كابن رشيد" بضم الراء مصغرا؛ "أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في كسوف القمر، ومنهم من أول قوله صلى، أي: أمر بالصلاة جمعا بين الروايتين" بالنفي والإثبات.

"وقال ابن القيم في الهدي: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبان في السيرة له أن القمر خسف" بفتحات "في السنة الخامسة" من الهجرة "فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور، وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة" المسماة بالإشارة "وتبعه الحافظ زين الدين العراقي في نظمها" فيفيد قوته.

"وفي البخاري" ومسلم "من حديث عائشة: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف" بالخاء "بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، وإذا رفع" رأسه "من الركعة قال: "سمع الله لمن حده ربنا ولك الحمد" بالواو "ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات".

قال المصنف: ينصب أربع عطفا على أربع السابق "واستدل به عن الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر".

"قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد؛ لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد" بن مسلم الدمشقي راوي هذا الحديث، عن عبد الرحمن بن نمر -بفتح فكسر- عن

ص: 110

وفي مسند أبي داود الطيالسي أنه صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف. وقد ورد الجهر فيها عن علي مرفوعا وموقوفا. أخرجه ابن خزيمة وغيره.

وقال به صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية.

وقال الطبري: يخير بين الجهر والإسرار.

وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر.

واحتج الشافعي بقول ابن عباس: "قرأ نحوا من سورة البقرة؛" لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد روى الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فلم يسمع منه حرفا، ووصله البيهقي من ثلاث طرق

الزهري، عن عروة، عن عائشة "بلفظ: كسفت" بفتحات "الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فصرح بالشمس.

"وفي مسند أبي داود" سليمان بن داود "الطيالسي؛ أنه صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف" لم يذكر الحافظ هذا دليلا على أنه في كسوف الشمس، إذ لا تصريح فيه بذلك، وإنما ذكره بعد ذك في قول البخاري: تابعه سليمان بن كثير في الجهر، فقال: يعني بإسناده المذكور، وهذه المتابعة وصلها أحمد عن عبد الصمد، عن سليمان بلفظ: خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى فكبر، فكبر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة، الحديث.

ورويناه في مسند الطيالسي عن سليمان بهذا الإسناد مختصرا: أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف "وقد ورد الجهر فيها عن علي مرفوعًا" إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفا" على علي "أخرجه ابن خزيمة وغيره، وقال به صاحبا أبي حنيفة" محمد وأبو يوسف "وأحمد وإسحاق" بن راهويه "وبن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية"، ومحدثيهم "وقال الطبري" محمد بن جرير: "يخير بين الجهر والإسرار" لاختلاف الأحاديث.

"وقال الأئمة الثلاثة" أبو حنيفة ومالك والشافعي: "يسر في الشمس ويجهر في القمر، واحتج الشافعي بقول ابن عباس" في الصحيحين: "قرأ نحوا من سورة البقرة؛ لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير" بل كان يصرح بخصوص ما قرأ به، زاد الحافظ وتعقب باحتمال أن يكون بعيدا منه "و" لكن "قد روى الشافعي تعليقا" أي: بغير إسناد "عن ابن عباس أنه صلى إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فلم يسمع منه حرفا" فهذا يدفع ذلك الاحتمال "ووصله

ص: 111

أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى.

قال ابن العربي: الجهر عندي أولى؛ لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى ملخصا والله أعلم.

الفصل الثاني: في صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الاستسقاء

اعلم أن الاستسقاء طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها، كما تقول: استعطى: أي طلب العطاء.

ولم يخالف أحد من العلماء في سنية الصلاة في الاستسقاء إلا أبو حنيفة محتجا بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة.

واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الاستسقاء ركعتين. وأما الأحاديث التي ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على

البيهقي من ثلاث طرق أسانيدها واهية" ضعيفة جدا "وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد، فالأخذ به أولى" أحق لجواز أن عدم سماع ابن عباس وهو بجنبه لمانع قام به حينئذ، زاد الحافظ: وإن ثبت التعدد، فيكون فعل ذلك لبيان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند ابن خزيمة والترمذي لم يسمع له صوتا أنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر.

"قال ابن العربي: الجهر عندي أولى" من السر؛ "لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب" فيه شيء إذ هو استدلال بمختلف فيه، إذا النداء والخطبة مختلف فيهما "فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى". كلام الحافظ ابن حجر "ملخصا، والله أعلم" بحقيقة ما فعل هل جهر أو أسر.

"الفصل الثاني: في صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الاستسقاء"

"اعلم أن الاستسقاء" لغة كما في الفتح: طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعا "طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها" لحصول الجدب "كما تقول: استعطى، أي: طلب العطاء" فالسين للطلب "ولم يخالف أحد من العلماء في سنية الصلاة في الاستقساء" ركعتين "إلا أبو حنيفة" فقال: بدعة "محتجا بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة، واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما" من طرق عديدة "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الاستسقاء ركعتين" فهذا نص صريح في محل النزاع.

"وأما الأحاديث التي ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على نسيان الراوي،

ص: 112

نسيان الراوي، وبعضها كان للخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفي بها، ولو لم يصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف في جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأن فيها زيادة علم، ولا معارضة بينهما.

والاستسقاء أنواع:

الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين، وبتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى.

قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى، فرقى المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل

وبعضها كان للخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة، فاكتفى بها" كما اكتفى بخطبة الجمعة عن خطبة الاستسقاء "ولو لم يصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة ولا خلافه في جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأن فيها زيادة علم" من راويها على من لم يروها "ولا معارضة بينهما" أي: بين الأحاديث التي لا صلاة فيها وبين التي فيها الصلاة "والاستسقاء أنواع" خمسة على ما عد.

"الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين" كالعيد "وبتأهب" استعداد "قبله بصدقة وصيام" استحبابا، ولا يأمر بهما الإمام "وتوبة" ويأمر بها "وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى" رجاء الإجابة، فمبني الاستسقاء الاستغفار والتوجه إلى الله بجوامع الهمة، شكا رجل إلى الحسن البصري الجدب، فقال: استغفر الله، وآخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا قوله تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [هود: 52] .

"قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء مبتذلا" أي: لابسا ثوب البذلة بالكسر، وهو الثوب الخلق وما لا يصان من الثياب "متواضعا" زيادة على عادته "متخشعا متضرعا".

قال القاموس: تخشع تضرع وهو الخضوع والذلة والاستكانة، والخشوع الخضوع أو قريب منه، أو هو في البدن، والخشوع في البصر والصوت والسكون والتذلل.

"حتى أتى المصلى" المكان المعروف بالمدينة "فرقي" بكسر القاف وقد تفتح، أي:

ص: 113

في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد. رواه الترمذي وغيره.

وفي حديث عبد الله بن زيد المازني، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه، ثم صلى. رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية: خرج بالناس إلى المصلى يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة واستقبل يدعو، ورفع يديه وحول رداءه.

صعد "المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد، رواه الترمذي" وقال: حسن صحيح "وغيره" أحمد وباقي الأربعة أصحاب السنن.

"وفي حديث عبد الله بن زيد" بن عاصم بن كعب الأنصاري "المازني" بكسر الزاي صاحب حديث الوضوء لا عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب رؤيا الأذان كما زعم سفيان بن عتبة، وقد وهمه البخاري.

قال الحافظ: وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار، ثم الخزرج والصحبة، والرواية: وافترقا في الجد والبطن الذي من الخزرج؛ لأن فخذ عاصم من مازن وفخذ عبد ربه من الخزرج.

"قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى:" المكان الذي يصلي فيه بالصحراء؛ لأنه أبلغ في التواضع وأوسع للناس، زاد في رواية: بالناس "يستسقي" يطلب من الله السقي بدعائه وتضرعه، فهو حل من النبي صلى الله عليه وسلم، أي: خرج حال كونه مستسقيا، ويحتمل أن يكون يستسقي مقدرا بلام كي محذوفة، أي: خرج لكي يستسقي.

وفي أكثر الروايات: فاستسقى "وقلب" ولبعض الرواة: وحول "رداءه ثم صلى" ركعتين "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، إلا أن لفظ: ثم إنما وقع في رواية لهما، وأكثر الروايات عندهما وعند غيرهما، وصلى ركعتين بالواو وهي لا تقتضي الترتيب، وفي كثير من الأحاديث: التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم خطب بعد الصلاة، فعلم أن لفظه: ثم وهم من الراوي، قاله المصنف على مسلم.

"وفي رواية" لأبي داود عن عبد الله بن زيد: "خرج بالناس إلى المصلى" حال كونه "يستسقي" أي: مستسقيا، أو لكي يستسقي "فصلى بهم ركعتين: جهر فيهما بالقراءة، واستقبل" القبلة "يدعو" الله تعالى، ففي رواية في الصحيح: وجعل ظهره إى الناس واستقبل القبلة "ورفع يديه وحول رداءه" وبين صفة التحويل بقوله: "وجعل عطافه" بكسر العين، أي:

ص: 114

وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله.

قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك ولا على صفته صلى الله عليه وسلم حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد لله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئجار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

جانبه، وفي النهاية: العطاف والعطف الرداء، سمي عطافا لوقوعه على عطفي الرجل وهما ناحيتا عنقه "الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله" تعالى.

"قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد" المذكور "على سبب ذلك ولا على صفته صلى الله عليه وسلم حال الذهاب إلى المصلى ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان، قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط امطر" بفتح القاف وسكون الحاء، أي: احتباسه مصدر قحط كنفع وتعب وعنى كما في القاموس وغيره "فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا" ظهر "حاجب الشمس" أي: ضوءها "فقعد على المنبر" إلى هنا ما نقله الحافظ قائلا: الحديث؛ لأنه لم يتعلق غرضه بباقيه، وذكر ما في غرضه بقوله، وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأصحابه السنن: خرج صلى الله عليه وسلم مبتذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقى المنبر، وفي حديث أبي الدرداء عند البزار والطبراني: قحط المطر، فسألنا نبي الله أن يستسقي لنا، فغدا نبي الله.. الحديث. انتهى، فأفاد أن حديث عائشة بين السبب ووقت الذهاب، كما بين الثاني أيضا حديث أبي الدرداء وصفته حال الذهاب عن ابن عباس، وكأن المصنف أسقطه؛ لأنه قدمه، لكنه أوهم أن الحافظ نقض ما ترجم به وليس كذلك، وأوهم أنه ذكر حديث عائشة بتمامه، ولا كذلك، وإنما المصنف اعتنى بذكره تتميما للفائدة ببيان ما دعا به، فقعد على المنبر "فكبر وحمد الله، ثم قال: "إنكم شكوتم جدب" بالدال المهملة عدم خصب "دياركم واستئخار" أي: تأخر "المطر"، فالسين للتأكيد "عن إبان" بكسر الهمز حين "زمانه" فالإضافة بيانية، وقيل: معنى إبان أول، فالإضافة على بابها "وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم" فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ

ص: 115

الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، الذي لا إله إلا هو، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة -وحول- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابا، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى ذلك وسرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال:"أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله".

وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة فيها بالنهار، أنها نهارية

رَبِّ الْعَالَمينَ} " أي: مالك جميع الخلق من إنس وملائكة وجن ودواب وغيرهم، وكل منها يسمى عالما، وغلب في جمعه بالياء والنون أولو العلم على غيرهم وهو من العلامة؛ لأنه علامة على موجده "{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " أي: ذي الرحمة وهي إرادة الخير لأهله "{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} " الجزاء وهو يوم القيامة، وخص بالذكر؛ لأنه لا ملك ظاهرا فيه لأحد إلا الله تعالى لمن الملك اليوم لله، ومن قرأ مالك، فمعناه مالك الأمر كله في يوم القيامة، أي: هو موصوف بذلك دائما كغافر الذنب، فيصح وقوعه صفة للمعرفة "الذي لا إله" أي: لا معبود بحق في الوجود "إلا هو يفعل ما يريد" لا يعجزه شيء "اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزلنا علينا الغيث" أي: المطر "واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين" تنقضي آجالنا "ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه" لمبالغته في رفعهما "ثم حول إلى الناس ظهره" أي: جعله إليهم "واستقبل القبلة وحول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل" عن المنبر "فصلى ركعتين فأنشأ الله سحابا" أي: غيما جمع سحابة، ويجمع أيضا على سحب وسحائب "فرعدت" أي: السحاب والإسناد مجازي "وبرقت": لمعت "ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول" لكثرة المطر "فلما رأى ذلك وسرعتهم إلى الكن" بالكسر وشد النون "ضحك حتى بدت"" ظهرت "نواجذه" بجيم وذال معجمة "فقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير" ومنه ما شاهدتم في الحال "وأني عبد الله ورسوله" فأجاب دعائي سريعا.

"وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين وهل تصنع بالليل، استنبط

ص: 116

كالعيد، وإلا فلو كانت تصلي بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل.

ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة.

وأفاد ابن حبان أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة.

وذكر الواقدي: أن طول ردائه صلى الله عليه وسلم كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر، كان يلبسهما في الجمعة والعيدين.

وقد روى أبو داود عن عباد: استسقى صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة سوداء فأراد أن

بعضهم من كونه صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة فيها بالنهار أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل، كمطلق النوافل" نازعه شيخنا بأن لا دلالة في صلاتها نهارا على أنها لا تفعل بالليل، بل يدل على أنها لا تختص بالليل، وقد صرح في شرح البهجة بأن جميع الليل والنهار وقت لها كما لا تختص بيوم.

"ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة" ولعل هذا الإجماع قبل حدوث الآراء في مذهب الشافعي، فلا ينافي أنها لا تختص بوقت العيد على الأصح في المنهاج، قال شارحه: ولا بوقت من الأوقات، بل تجوز ولو بوقت كراهة؛ لأنها ذات سبب. انتهى.

ومذهب مالك أن وقتها من حل النافلة للزوال كالعيد، لكن لا تختص بيوم.

"وأفاد ابن حبان أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة".

"وذكر الواقدي" محمد بن عمر بن واقد؛ "أن طول ردائه صلى الله عليه وسلم كان ستة أذرع في" عرض "ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع، وشبرين في" عرض "ذراعين وشبر، كان يلبسهما في الجمعة والعيدين".

زاد الحافظ: ووقع في شرح الأحكام لابن بزيزة ذرع الرداء، كالذي ذكره الواقدي في ذرع الإزار والأول أولى.

"وقد روى أبو داود عن عباد" بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ابن تميم بن زيد بن عاصم الأنصاري راوي الحديث عن عمه عبد الله بن زيد، ووقع في بعض نسخ ابن ماجه عن عباده، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد.

قال الحافظ في الفتح: قوله عن أبيه زيادة وهي وهم، والصواب حذفه كما في النسخ

ص: 117

يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه.

وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به النبي صلى الله عليه وسلم من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبي تبعا لغيره أن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في الأم ما ذكرته.

والجمهور على استحباب التحويل فقط، ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط. وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شيء من ذلك.

واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق عباد في هذا الحديث بلفظ: وحول الناس معه.

وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب في حقهن.

المعتمدة من ابن ماجه.

"استسقى صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة" بفتح المعجمة وكسر الميم وإسكان التحتية وفتح المهملة كساء من صوف "سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه، وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به النبي صلى الله عليه وسلم من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف" بأن يجعل الأسفل الذي على الأيسر على عاتقه الأيمن، وما على الأيمن على عاتقه الأيسر، فيحصل التحويل والتنكيس معًا.

"وزعم القرطبي" في المفهم "تبعا لغيره أن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في الأم ما ذكرته" من استحبابهما "والجمهور على استحباب التحويل فقط" بلا تنكيس لانفراد رواية عمارة بن غزية عن عباد في حديث عبد الله بن زيد بأنه هم بذلك "ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط، وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شيء من ذلك التحويل والتنكيس "واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق عباد" بن تميم عن عمه "في هذا الحديث، بلفظ: وحول الناس معه" صلى الله عليه وسلم أرديتهم.

"وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده، واستثنى" عبد الملك "بن الماجشون النساء، فقال: لا يستحب في حقهن" وهو وجيه؛ لأنهن عورة.

زاد الحافظ: ثم ظاهر قوله: فقلت: رداءه أن التحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء وليس كذلك، بل المعنى فقلب رداءه في أثناء الاستسقاء، وقد بينه مالك في روايته المذكورة، ولفظه:

ص: 118

واختلف في حكمة هذا التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه. وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له: حول رداءك ليتحول حالك. وتعقب بأن الذي يجزم به يحتاج إلى نقل، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر. ورجح الدارقطني إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن.

واستدل بقوله في حديث عائشة: "ثم صلى ركعتين" بعد قوله: "فقعد على المنبر" على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة، وهو مقتضى حديث ابن عباس،

حول رداءه حين استقبل القبلة.

ولمسلم من رواية يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد، وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وأصله للمصنف، أي: البخاري كما سيأتي بعد أبواب، وله من رواية الزهري عن عباد: فقام فدعا الله قائما، ثم توجه قبل القبلة وحول رداءه، فعرف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء.

"واختلف في حكمة هذا التحويل، فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه" من الجدب إلى الخصب "وتعقبه ابن العربي؛ بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة" علامة "بينه وبين ربه، قيل له:" ولو بالإلهام "حول رداءك ليتحول حالك".

"وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر" الصادق "بن محمد بن علي" زين العابدين بن الحسين "عن أبيه" محمد الباقر "عن جابر" بن عبد الله "ورجح الدارقطني إرساله" بحذف جابر "وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن".

زاد الحافظ: وقال بعضهم: إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء، فلا يكون سنة في كل حال، وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق، فالحمل على المعنى الأول أولى، فإن الاتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص.

"واستدل بقوله في حديث عائشة: ثم صلى ركعتين بعد قوله: فقعد على المنبر على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة وهو مقتضى حديث ابن عباس" السابق أيضا لقوله:

ص: 119

لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه، حيث قال: فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة، والمرجح عند الشافعية والمالكية الثاني.

ولم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة وهي ركعتان ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما بـ"سبح" و"هل أتاك". وفي إسناده مقال. لكن أصله في السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيدين. فأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر فيهما.

الثاني: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة.

خرج حتى أتى المصلى فرقي المنبر "لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه، حيث قال: فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة" وكل منهما صريح، فيقدم على المحتمل "والمرجح عند الشافعية والمالكية الثاني" أي: الصلاة قبل الخطبة، وإليه رجع مالك.

قال الحافظ: ويمكن الجمع بين مختلف الروايات؛ بأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين، ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شيء، وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، فلذا وقع الاختلاف، قال: وقال القرطبي: يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها بالعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة "ولم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة، وهي ركعتان" بإجماع من قال بها "ولا ما يقرأ فيها".

"وقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما بـ {سَبِّحِ} و {هَلْ أَتَاكَ} ، وفي إسناده مقال، لكن أصله في السنن" الأربع "بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيدين، فأخذ بظاهره الشافعي، فقال: يكبر فيهما" سبعا وخمسا، ولم يأخذ به غيره كمالك لضعف الرواية المصرحة بالتكبير، ولما يطرق الثانية من احتمال نقص التشبيه.

زد الحافظ: ونقل الفاكهي شيخ شيوخنا عن الشافعي استحباب التكبير حال الخروج إليها كما في العيد وهو غلط منه عليه.

"الثاني: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة: عن أنس أن رجلا" قال

ص: 120

عن أنس: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع

الحافظ: لم أقف على تسميته في حديث، ولأحمد عن كعب بن مرة: ما يمكن أن يفسر هذا المبهم بأنه كعب، وللبيهقي مرسلا: ما يمكن أن يفسر بأنه خارجة بن حصن الفزاري، لكن رواه ابن ماجه عن شرحبيل بن السمط أنه قال لكعب بن مرة: يا كعب حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله استسق الله، فرفع يده، فقال:"اللهم اسقنا".. الحديث، ففي هذا أنه غير كعب، وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب وهم؛ لأنه جاء في واقعة أخرى قبل إسلامه، وينفي زعمه قوله: يا رسول الله، فإن أبا سفيان لا يقولها قبل إسلامه، وفي رواية عن أنس: جاء أعرابي من أهل البادية "دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء" فسرها بعضه بدار الإمارة وليس كذلك، وإنما هي دار عمر بن الخطاب، سميت بذلك؛ لأنها بيعت في قضاء دينه وكان يقال لها: دار قضاء دين عمر، ثم طال ذلك، فقيل: دار القضاء، أخرجه الزبير بن بكار عن ابن عمر.

وروى عمر بن شيبة عن ابن أبي فديك، عن عمه: كانت القضاء لعمر، فأمر عبد الله وحفصة أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه، فباعاها من معاوية، فكانت تسمى دار القضاء، قال: وأخبرني عمي أن الخوخة الشارعة فها غربي المسجد هي خوخة الصديق، وقد صارت بعد ذلك إلى مروان وهو أمير المدينة، فلعلها شبهة من قال: إنها دار الإمارة، وجاء في تسميتها قول آخر، رواه عمر بن شية عن سهلة بنت عاصم، قالت: كانت دار القضاء لعبد الرحمن بن عوف، سميت بذلك؛ لأن عبد الرحمن اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر، فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية. قال عبد العزيز بن عمران: وكانت فيها الدواوين وبيت المال، ثم صيرها السفاح رحبة للمسجد.

"ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب" بالمدينة "فاستقبل" الرجل "رسول الله صلى الله عليه وسلم" حال كونه "قائما، ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال".

وفي رواية: المواشي، وهي المراد بالأموال هنا لا الصامت، وفي أخرى: هلك الكراع بضم الكاف، يطلق على الخيل وغيرها، وفي رواية: هلكت الماشية، هلك العيان هلك الناس، وهو من العام بعد الخاص، والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر "وانقطعت السبل" بضمتين جمع سبيل الطرق؛ لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لأنها لا يجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها، وقيل: المراد نفاد ما عند الناس من

ص: 121

رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا"، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين "سلع" من بيت ولا

الطعام أو قلته، فلا يجدون ما يحملونه إلى الأسواق.

وفي رواية: قحط المطر بفتح القاف والحاء، وحكي بضم فكسر، أي: قل، وفي أخرى: واحمر الشجر كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء أو لانتثاره فيصير أعوادا بلا ورق، وكلها في الصحيح وأمحلت الأرض.

قال الحافظ: وهذه الألفاظ يحتمل أن الرجل قالها كلها، وأن بعض الرواة روى شيئا مما قاله بالمعنى، فإنها متقاربة، فلا يكون غلطا كما قاله صاحب المطالع وغيره.

"فادع الله" فهو "يغيثنا" يجوز ضم أوله من الإغاثة وفتحه من الغيث، ويرجح الأول قوله:"اللهم أغثنا" كذا في الفتح، وقال المصنف على مسلم الرواية بضم أوله من أغاث رباعيا، وهذه رواية الأكثر، ولأبي ذر: أن يغيثنا، وفي رواية: يغثنا بالجزم، وفي رواية: أن يسقينا، وأخرى: فاستسق ربك.

"قال" أنس: "فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه" زاد النسائي: رفع الناس أيديهم معه يدعون، زاد في رواية للبخاري: حذاء وجهه، وابن خزيمة: حتى رأيت بياض إبطيه، وفي أخرى للبخاري: فمد يديه ودعا، وفي أخرى له: فنظر إلى السماء "ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" هكذا في رواية للشيخين: أغثنا، وذكر الجملة ثلاثا.

وفي رواية للبخاري: "اللهم اسقنا"، وذكرها ثلاث مرات، وفي أخرى له:"اللهم اسقنا" مرتين والأخذ بالزائد أولى، ويرجحهما أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا كما في البخاري وغيره، والرواية: أغثنا بالهمزة، قال قاسم بن ثابت: كذا رواه لنا موسى بن هارون، وجائز أنه من الغوث أو الغيث، والمعروف لغة غثنا من الغوث، وقال ابن القطاع: غاث الله عباده غيثا وغياثا، سقاهم المطر وأغاثهم: أجاب دعاءهم، ويقال: أغاث وغاث بمعنى والرباعي أعلى، ويحتمل أن معنى أغثنا أعطنا غوثا وغيثا.

"قال أنس: ولا" بالواو للأكثر، ولأبي ذر: فلا "والله" بالفاء، وفي أخرى: وأيم الله، وحذف الفعل، أي: ولا ترى والله؛ لأنه يدل عليه قوله: "ما نرى في السماء من سحاب" مجتمع "ولا قزعة" بقاف فزاي فعين مهملة مفتوحات، أي: سحاب متفرق.

قال ابن سيده: الفزع قطع من السحاب رقاق، زاد أبو عبيد: وأكثر ما يجيء في الخريف وهو بالنصب على التبعية لسحاب من جهة المحل، وبالجر على التبعية له من جهة اللفظ "وما بيننا وبين سلع" بفتح المهملة وسكون اللام، وحكي فتحها وعين مهملة جبل معروف بالمدينة "من بيت ولا دار" يحجبنا عن رؤيته إشارة إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا

ص: 122

دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب

غيره، وللبخاري: قال أنس: وإن السماء لهي مثل الزجاجة، أي: لشدة صفائها، وذلك مشعر بعدم السحاب أيضا.

"قال" أنس: "فطلعت" أي: ظهرت "من ورائه" أي: سلع "سحابة" وكأنها نشأت من جهة البحر؛ لأن وضع سلع يقتضي ذلك "مثل الترس" أي: مستديرة لا مثله في القدر؛ لأن في رواية أبي عوانة: فنشأت سحابة مثل رجل الطائر وأنا أنظر إليها، وهذا يشعر بأنها كانت صغيرة.

وفي رواية: فهاجت ريح أنشأت سحابا ثم اجتمع، وأخرى: فنشأ السحاب بعضه إلى بعض، وأخرى حتى ثار السحاب أمثال الجبال، أي: لكثرته، وفيه: ثم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته وكلها في الصحيح، وهذا يدل على أن السقف وكف؛ لأنه كان من جريد النخل "فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت" بالهمز رباعيا، وهذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق، فانبسطت حينئذ وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر.

"قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا" بفتح السين وسكون الموحدة وفوقية كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهذا في الغالب، وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية، وقد تحجب الشمس بغير مطر.

قال الحافظ: كذا رواه الأكثر بلفظ: سبتا أحد الأيام، أي: أسبوعان من تسمية الشيء باسم بعضه، كما يقال جمعة، ويقال: أراد قطعة من الزمان، قاله في النهاية.

وقال المحب الطبري: أي: جمعة، وفيه تجوز؛ لأن السبت الأول لم يكن مبتدأ، ولا الثاني منتهي، وعبر أنس بذلك؛ لأنه من الأنصار وكانوا جاوروا اليهود، فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سموا الأسبوع سبتا؛ لأنه أعظم الأيام عند اليهود، كما أن الجمعة كذلك عند المسلمين.

وقال ثابت في الدلائل: الناس يقولون: معناه من سبت إلى سبت، وإنما هو قطعة من الزمان، وصحفه الداودي فرواه: ستا، بكسر السين وشد الفوقية، ورد بأنه لم ينفرد به، فقد رواه الحموي والمستملي هنا ستا، وكذا رواه سعيد بن منصور وأحمد من وجهين آخرين عن أنس، وكان من ادعى التصحيف استبعد اجتمع قوله: ستا مع قوله في رواية للبخاري سبعا وليس بمستبعد؛ لأن من قال ستا أراد ستة أيام تامة، ومن "قال": سبعا أضاف إليها يوما ملفقا من الجمعتين، وقد رواه مالك عن شريك عن أنس، بلفظ: فمطرنا من جمعة إلى جمعة، وللبخاري عن إسحاق عن أنس: فمطرنا يومئذ، ومن الغدو من بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى.

"ثم دخل رجل من ذلك الباب" الذي دخل منه السائل أولا "في الجمعة المقبلة" أي:

ص: 123

في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر"، قال: فانقطعت فخرجنا نمشي في الشمس. قال

الثانية "ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم" حال كونه "يخطب، فاستقبله قائما" نصب على الحال من الضمير المرفوع في استقبله لا من المنصوب "فقال: يا رسول الله هلكت الأموال" أي: المواشي بعدم الرعي، أو عدم ما يكنها لكثر الماء.

وفي رواية النسائي: من كثرة الماء "وانقطعت السبل" لتعذر سلوك الطريق من كثرة الماء، ولابن خزيمة: واحتبس الركبان، وفي رواية: تهدمت البيوت، وأخرى: هدم البناء وغرق المال، فهو بسبب غير السبب الأول "فادع الله يمسكها عنا" بالجزم جواب الأمر والرفع، أي: فهو يمسكها.

وفي رواية: أن يمسكها، أي: الأمطار، أو السحابة، أو السماء، والعرب تطلق على المطر سماء.

وفي رواية: أن يمسك عنا الماء، وأخرى: أن يرفعها عنا، وأخرى: فادع ربك أن يحبسها عنا فضحك، وفي رواية: فتبسم لسرعة ملام ابن آدم.

"قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه" بالتثنية "ثم قال: "اللهم" اجعل، أو أمطر "حوالينا" بفتح اللام "ولا" تنزله "علينا" أي اصرفه عن الأبنية والدور، وهو بيان للمراد بقوله: حوالينا؛ لأنها تشمل الطرق التي حولهم، فأخرجها بقوله: "ولا علينا".

قال الطيبي: في إدخال الواو هنا معنى لطيف؛ لأنه لو أسقطها لكان مستسقيا للأكام وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصود العينة، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو مخلصة للعطف، ولكنها للتعليل، كقولهم: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، فإن الجوع ليس مقصود العينة، ولكن لكونه مانعا من الرضاع بأجرة، إذ كانوا يكرهون ذلك آنفا. انتهى.

"اللهم" أنزله "على الآكام" بزنة الجبال "والظراب" بوزنه، وفي رواية للبخاري: والجبال "وبطون الأودية" أي: ما يتحصل فيه الماء لينتفع به، قيل: لم يسمع أفعلة جمع فاعل إلا أودية جمع واد وفيه نظر "ومنابت الشجر": جمع منبت بكسر الموحدة، أي: ما حولها مما يصلح أن ينبت فيه؛ لأن نفس المنبت لا يقع عليه المطر، وفيه الأدب في الدعاء، حيث لم يدع برفع المطر مطلقا لاحتمال الحاجة إلى استمراره، فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع، ومنه استنبط أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي أن يسخطها لعارض، بل يسأل الله رفع العارض.

ص: 124

شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. رواه مسلم.

وفي رواية له قال: فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة، وسال وادي قناة شهرا. ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود.

"قال" أنس: "فانقطعت" أي: السماء أو السحابة الماطرة، أي: أمسكت عن المطر عن المدينة، وفي رواية مالك: فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، أي: خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه، وفي رواية: فما هو إلا أن تكلم صلى الله عليه وسلم بذلك تمزق السحاب حى ما نرى منه شيئا، أي: في المدينة، وللبخاري: فجعل السحاب يتصدع عن المدينة، يريهم الله كرامة نبيه وإجابة دعوته "فخرجنا نمشي في الشمس".

"قال شريك" بن عبد الله بن أبي نمر: "فسألت أنس بن مالك" لما حدثه بهذا الحديث "أهو" أي: السائل الثاني "الرجل الأول؟ قال: لا أدري" مقتضى هذا أنه لم يجزم بالتغاير مع أنه عبر ثانية عنه بقوله: "رجل"، الظاهر في أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، فالظاهر أن هذه القاعدة أغلبية؛ لأن أنسا من أهل اللسان وقد تعددت.

وللبخاري عن إسحاق وقتادة، وغيرهما عن أنس: فقام ذلك الرجل أو غيره، ومقتضاه أنه كان يشك فيه، وله عن يحيى بن سعيد، عن أنس: فأتى الرجل فقال: يا رسول الله، ولأبي عوانة عن حفص عن أنس: فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى، وأصله في مسلم، ومقتضاه الجزم بأنه واحد، فلعل أنسا كان يتردد تارة ويجزم أخرى باعتبار ما يغلب على ظنه كما أفاده الحافظ.

"رواه مسلم" من طريق إسماعيل بن جعفر عن شريك عن أنس، وكذا رواه البخاري من طريقه ومن طريق مالك، ومن طريق أبي ضمرة، ثلاثتهم عن شريك عن أنس، ول طرق عند البخاري أكثر من مسلم، فما هذا الإيهام من المصنف أنه تفرد به.

"وفي رواية له" لمسلم، وكذا البخاري هنا وفي الجمعة، كلاهما من طريق الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة إذ قام أعرابي، فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، وساق الحديث بمعناه.

وفيه "قال" أنس: "فما يشير" صلى الله عليه وسلم "بيده إلى ناحية" من السماء "إلا تفرجت" بفتح الفوقية والفاء والراء المشددة والجيم، أي: إلا تقطع السحاب وزال عنها امتثالا لأمره "حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة" بجيم وموحدة كما يأتي "وسال وادي قناة" بفتح القاف والنون المخففة: واد من أودية المدينة عليه مزارع، والإضافة بيانية، أي: واد هو قناة، أي: مسمى بهذا

ص: 125

وقوله: "يغيثنا" بفتح أوله، يقال: غاث الله البلاد يغيثها، إذا أرسل عليها المطر.

الاسم.

ذكر محمد بن الحسن المخزومي أن أول من سماه وادي قناة تبع اليماني، وللبخاري في الجمعة من هذا الوجه، وسال الوادي قناة، وأعرب بالضم بدل على أن قناة اسم الوادي.

قال الحافظ: ولعله من تسمية الشيء باسم ما جاوره، وقرأت بخط الرضي الشاطبي: الفقهاء يقولونه بالنصب والتنوين يتوهمونه قناة من القنوات، وليس كذلك، وهذا الذي أنكره جزم به بعض الشراح، وقال: هو على التشبيه، أي: سال مثل القناة "شهرا" هو من أبعد أمد المطر المصلح للأرض المتوعرة الجبلية؛ لأنه يتمكن في تلك الأيام لطولها الري فيها؛ لأنها بارتفاعها لا يثبت الماء عليها فيبقى فيها حرارة، فإذا دام سكب المطر عليها قلت الحرارة وخصبت الأرض "ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود" بفتح الجيم وسكون الواو المطر العزير، وهذا يدل على أن المطر استمر فيما سوى المدينة، فقد يشكل بأنه استلزم أن قول السائل هلكت الأموال وانقطعت السبل لم يرتفع الإهلاك ولا القطع وهو خلاف مطلوبه، ويمكن الجواب بأن المراد أن المطر استمر حول المدينة من الأكام والظراب وبطون الأودية لا في الطريق المسلوكة، ووقوع المطر في بقعة جون بقعة كثير ولو كانت تجاورها، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد لماشية أماكن تكنها وترعى فيها، بحيث لا يضرها ذلك المطر، فيزول الإشكال، أفاده الحافظ.

"وقوله: يغيثنا بفتح أوله" من الغيث "يقال: غاث الله البلاد يغيثها إذا أرسل عليها المطر" كذا اقتصر هنا على الفتح مع أن الحافظ جوز ضمه من الإغاثة، ورجحه بقوله: اللهم أغثنا، وفي شرح مسلم للمصنف الراوية بضم أوله من أغاث رباعيا، وكذا قوله: اللهم أغثنا بالهمزة، والمشهور في كتب اللغة: غاث الله الناس يغيثهم بفتح أوله، وإنما يقال: أغاث في طب المعونة، فقيل: هو طلب المعونة لا الغيث، وقيل: هو طلب الغيث، والمعنى هنا: هب لنا غيثا وارزقنا غيثا، فإن قلت في المحل: ينبغي أن يطلب الغيث لا المعونة، وإدخال الهمزة على المتعدي غير فصيح لعدم الاحتياج إلى الهمزة، نص عليه الزمخشري وغيره، أجيب بأنه لما كان الواجب في كل الأحوال تفويض الأمر إلى الكبير المتعال، وهو عالم بما يصلح لعباده في كل وقت كان طلب المعونة في كشف الضر وعدم تعيين طريق الكشف من طلب غيث ونحوه غاية الأدب ونهاية حسن الطلب.

وأما الوجه الثاني فغير الفصيح، إنما هو إدخال الهمزة على المتعدي واستعماله بمعناه الأول

ص: 126

وقوله: من باب كان نحو دار القضاء، هي دار عمر بن الخطاب وسميت بذلك؛ لأنها بيعت في قضاء دينه.

وقوله: "هلكت الأموال"، وفي رواية كريمة وأبي ذر عن الكشميهني: هلكت المواشي، وهي المراد بالأموال هنا. وفي رواية البخاري: هلك الكراع -بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفي البخاري أيضا: هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص. والمراد بهلاكهم: عدم وجد ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. وانقطعت السبل: لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم

قبل دخول الهمزة؛ لأنه يقع مستغنى عنه، أما لو تغير المعنى بعد الدخول فهو فصيح قطعا، ولا يبعد أن يكون المعنى هنا دلنا على الغيث، أي: على طريق طلبه وكيفية تحصيله، كما قيل في الفرق بين سقيته، وأسقيته أن معنى الثاني دللته على الماء. انتهى.

"وقوله: من باب كان نحو دار القضاء هي دار عمر بن الخطاب، وسميت بذلك؛ لأنها بيعت في قضاء دينه" الذي كان أنفقه من بيت المال، وكان ستة وثمانين ألفا كما في البخاري، وكتبه على نفسه وأوصى ابنه عبد الله أن يبيع فيه ما له، فباع ابنه هذه الدار من معاوية، ومر لذلك مزيد، وقول آخر في سبب تسميتها دار القضاء وأنها لا وجود لها الآن؛ لأن السفاح أول خلفاء بني العباس جعلها رحبة للمسجد.

"وقوله: هلكت الأموال، وفي رواية: كريمة" بنت أحمد المروزية أحد رواة البخاري، عن الكشميهني "وأبي ذر" الحافظ عبد بلا إضافة ابن محمد الهروي، كلاهما "عن الكشميهني" بضم الكاف وإسكان المعجمة وفتح الهاء وكسرها، نسبة إلى قرية بمرو، واسمه محمد بن مكي بن محمد أحد رواة البخاري، عن محمد بن يوسف الفربري:"هلكت المواشي" بدل الأموال "وهي المراد بالأموال هنا" لا الصامت، وأطلق على المواشي الأموال؛ لأنها أعظم أموال العرب، فأطلق وأراد معظمه على أنه يحتمل أن يريد أعم من المواشي، فإن هلاك الزرع والشجر أيضا بعدم المطر، قاله المصنف على مسلم.

"وفي رواية البخاري" في الجمعة: "هلك الكراع -بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفي البخاري أيضا" عن يحيى بن سعيد، عن أنس:"هلكت الماشية هلك" ولبعض الرواة: هلكت بالتأنيث "العيال هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص" الذي هو العيال "والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر" لا الهلاك الحقيقي، وهو معنى قوله: "وانقطعت السبل؛ لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر،

ص: 127

أودها.

و"الآكام" بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع "أكمة" -بفتحات: التراب المجتمع، وقيل: الجبل الصغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض.

و"الظراب" بكسر الظاء المعجمة، جمع "ظرب" -بكسر الراء: الجبل المنبسط ليس بالعالي.

وقوله: "مثل الجوبة" بفتح الجيم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، هي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا: الفرجة في السحاب.

و"الجود": المطر الغزير.

وقوله: "قناة شهرا": أي جرى فيه المطر من الماء شهرا.

أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها" بواو ودال مهملة، أي: أعوجاجها المعنوي بالجوع.

زاد الحافظ، وقيل: المراد نفاذ ما عند الناس من الطعام أو قلته، فلا يجدون ما يحملونه، يجلبونه إلى الأسواق "والآكام - بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد: جمع أكمة، بفتحات" ظاهرة أنها مفردة كل منهما.

وفي المصباح جمع أكمة أكام مثل جبل وجبال، وجمع الآكام أكم بضمتين مثل كتاب وكتب، وجمع أكم الآكام مثل عنق وأعناق "التراب المجتمع" قاله ابن البرقي.

وقال الداودي: هو أكبر من الكدية، وقال القزاز: هي التي من حجر واحد وهو قول الخليل، "وقيل: الجبل الصغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض" وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة، وقال الثعالبي: الأكمة أعلى الرابية "والظراب -بكسر الظاء المعجمة" وآخره موحدة: "جمع ظرب بكسر الراء" زاد الحافظ: وقد تسكن "الجبل المنبسط ليس بالعالي" قاله القزاز.

وقال الجوهري: الرابية الصغيرة "وقوله: مثل الجوبة بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الموحدة -هي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفرجة في السحاب" زاد الحافظ.

وقال الخطابي: المراد بها هنا الترس، وضبطها الزين بن المنير تبعا لغيره بنون بدل الموحدة، ثم فسره بالشمس إذا ظهرت في خلال السحاب، لكن جزم عياض بأن من قاله بالنون فقد صحف "والجود" بفتح الجيم وإسكان الواو "المطر الغزير، وقوله: قناة شهرا، أي: جرى

ص: 128

وفي هذا دليل عظيم على عظم معجزته عليه الصلاة والسلام، وهو أن سخرت السحاب له كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام؛ لأن كلامه عليه الصلاة والسلام مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها بالإطاعة له عليه الصلاة والسلام لما كان ذلك؛ لأنها أيضا -كما جاء- مأمورة حيث تسير، وقدر ما تقيم، وأين تقيم. ويرحم الله الشقراطسي فلقد أحسن حيث قال:

دعوت للخلق عام المحل مبتهلا

أفديك بالخلق من داع ومبتهل

صعدت كفيك إذ كف الغمام فما

صوبت إلا بصوب الواكف الهطل

أوراق بالأرض ثجما صوب ريقه

فيه المطر من الماء شهرا" وهذا كله التقطه المصنف من فتح الباري.

"وفي هذا" الحديث "دليل عظيم على عظم معجزته عليه الصلاة والسلام، وهو أن سخرت السحاب له، كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام؛ لأن كلامه عليه السلام مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها" من الله تعالى "بالإطاعة له عليه السلام لما كان" أي: وجد "ذلك؛ لأنها أيضا كما جاء مأمورة حيث تسير" أي: بالسير في المكان الذي تسير فيه "وقدر" نصب بنزع الخافض، أي: ويقدر "ما تقيم وأين تقيم".

وفي الفتح فيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء، وانتهاء في الاستصحاء وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة، وأن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل وإن كان مقام الأفضل التفويض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بما وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضا لربه، ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه بيانا للجواز وتقرير السنة هذه العبادة الخاصة، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة.

"ويرحم الله الشقراطسي، فلقد أحسن حيث قال: دعوت للخلق عام المحل" بفتح الميم وإسكان المهملة: الجدب "مبتهلا" مجتهد في الدعاء "أفديك بالخلق من داع" في موضع نصب على التمييز "ومبتهل" عطف عليه "صعدت" بالتشديد، أي: رفعت "كفيك" أي: يديك "إذ كف الغمام" أي: ماؤه، وقيل: بضم الكاف، أي منع ماء السحاب "فما صوبت"أي: وضعت كفيك "إلا بصوب" مصدرها المطر إذا نزل إلى الأرض "الواكف" القاطر "الهطل" المنسكب، أي: ما وضعت كفيك إلا ووضعك إياهما ملتبس بالمطر، مصاحب له، مرهون به "أراق بالأرض ثجا" بفتح المثلثة والجيم الثقيلة وصبا شديدا مصدر من معنى أراق:"صوب ريقه" بشد الياء بعدها قاف، أي: الواكف، أي: أفضله أو أوله، وقد يخفف الريق كهين وهين،

ص: 129

فحل بالروض نسجا رائق الحلل

زهر من النور حلت روض أرضهم

زهرا من النور ضافي النبت مكتمل

من كل غصن نضير مورق خضر

وكل نور نضيد مونق خضل

تحية أحيت الأحياء من مضر

بعد الضرورة تروي السبل بالسبل

دامت على الأرض سبعا غير مقلعة

لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل

لكنه هنا بالتثقيل فقط للوزن "فحل" من الحلول، أي: ذلك المطر "بالروض" جمع روضة "نسجًا" مصدر في موضع الحال، أي: ناسجا "رائق" أي: معجب "الحلل" جمع حلة شبه ما يحدث عقب المطر من النبات المختلف ألوانه بالحلل "زهر" بيض مضيئة: جمع أزهر "من النور" أي الضوء، وكأنه إشارة إلى البرق "حلت" من التحلية تلك الزهر "روض أرضهم" مفعول أول، لحلت "زهرا" مفعول ثان لحلت على نزع الخافض، أي: بزهر -بإسكان الهاء وفتحها، ولكن يتعين السكون للوزن "من النور" بفتح النون "ضافي النبت:" واسعه وسابغه: وسكن ياء "ضافي" ضرورة والفتحة مقدرة فيها؛ لأنه صفة زهرا "مكتمل" تام بالجر، وحقه النصب؛ لأنه صفة زهرا باعتباره موضعه؛ لأن بنزع الخافض، فكأنه قال بزهر مكتمل كقول زهير:

بدا لي أني لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان آتيا

كأنه قال: لست بمدرك ولا سابق "من كل غصن نضير" ناعم حسن "مورق خضر، وكل نور نضيد" متراكب، أي: منصود بعضه على بعض "مونق" معجب "خضل" بمعجمتين، ندي مبتل، أي: أنه ريان بذلك المطر، وقيل: الخضل الناعم، وقيل: النعمة وهو يرجع إلى المعنى الأول؛ لأن النبت إذا كان نديا فهو ناعم، وهذا البيت مرصع كله ومجنس تجنيس المضارعة، وهو الجمع بين ألفاظ متفرقة في أكثر حروفها وذلك نضير ونضيد ومورق ومونق وخضر وخضل "تحية" بالرفع على الابتداء، أي هل أوتلك الدعوة تحية من الحيا وهو المطر والنصب على معنى حيا ذلك المطر الأرض تحية جعله لما أسدى إليها من النضارة، كالمسلم عليها، أو أقام وقعه عليها مقام التحية والإحياء "أحيت الأحياء" القبائل جمع حي "من مضر" بن نزار بن معد بن عدنان "بعد الضرورة" الحاصلة لهم من الجدب "تروي السبل" بإسكان الباء للوزن وفيه الضم أيضا، الطرق جمع سبيل "بالسبل" بفتح السين المهملة والموحدة، المطر، أي: تروي تلك التحية الطرق بالمطر، وإذا رويت الطرق كانت المزارع، وأصول الشجر أكثر ريا لقبولها كل ما يرد عليها من الماء "دامت" آثار تلك التحية "على الأرض سبعا" من الأيام؛ لأنها بقيت من الجمعة إلى الجمعة "غير مقلعة" ممسكة عن المطر "لولا دعاؤك بالإقلاع" الإمساك "لم تزل" أي: استمرت ولم تقلع.

ص: 130

وقوله في الحديث "سبتا": أي من السبت إلى السبت.

وقوله: "ثم دخل رجل" الظاهر أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وفي رواية ابن إسحاق: فقام ذلك الرجل أو غيره، وفي رواية لمسلم: فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل -وهو بكسر الهمزة وسكون الكاف: كل شيء دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك

"وقوله في الحديث: سبتا، أي: من السبت إلى السبت" تجوزا؛ لأن السبت الأول لم يكن مبتدأ ولا الثاني منتهي كما مر.

"وقوله: ثم دخل رجل، الظاهر" منه "أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد" كقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"لن يغلب عسر يسرين".

"وفي رواية ابن إسحاق" بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس: "فقام ذلك الرجل أو غيره" رواه البخاري هنا، وله في الأدب عن قتادة عن أنس مثله، وعنده في الجمعة عن أنس مثله، ومر قريبا أنه لما سأله شريك: أهو ذلك الرجل أو غيره؟، قال: لا أدري، وكل ذلك يقتضي أنه كان يشك.

قال الحافظ: فالظاهر أن القاعدة المذكورة محمولة على الغالب؛ لأن أنسا من أهل اللسان، وللبخاري عن يحيى بن سعيد عن أنس: فأتى الرجل فقال: يا رسول الله، ومثله لأبي عوانة عن حفص عن أنس، بفظ: فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الرجل في الجمعة الأخرى، وأصله في مسلم، وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدا، فلعل أنسا كان يتردد تارة، ويجزم أخرى باعتبار ما يغلب على ظنه.

"وفي رواية لمسلم" وكذا البخاري، كلاهما عن ثابت عن أنس إلا أن لفظ مسلم:"فتقشعت" بفتح الفوقية والقاف والشين المعجمة المشددة والعين المهملة، أي: زالت، ولفظ البخاي: فتكشطت بفتح التاء والكاف والشين المعجمة المشددة والطاء المهملة، أي: تكشفت، ولبعض رواته: فكشطت على البناء للمفعول "عن المدينة فجعلت تمطر" بفتح أوله وضم ثالثه، ولأبي ذر، بضم أوله وكسر ثالثه "حواليها وما تمطر بالمدينة" بفتح الفوقية وضم الطاء "قطرة" بالرفع فاعل تمطر، وضبطه النووي بضم أوله ونصب قطرة.

قال أنس: "فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل" ولأحمد من هذا الوجه: فتغور ما فوق رؤوسنا من السحاب حتى كأنا في إكليل "وهو -بكسر الهمزة وسكون الكاف- كل شيء دار من جوانبه، واشتهر لما وضع على الرأس فيحيط به وهو من ملابس الملوك

ص: 131

كالتاج.

وفي رواية له أيضا: فألف الله بين السحاب وملتنا حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله، وفي رواية له أيضا: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى.

والملاء: بضم الميم والقصر وقد يمد جمع ملاءة وهي ثوب معروف.

واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس فيه صلاة. فأما الأول فقال به الشافعي، وأما الثاني فقال به أبو حنيفة، وتعقب: بأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء، لا ينافي مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت في واقعة أخرى كما تقدم، والله أعلم.

كالتاج".

وفي رواية له" لمسلم "أيضا" عن ثابت عن أنس: "فألف الله بين السحاب وملتنا" بفتح الميم واللام المخففة وسكون الفوقية فنون فألف، كذا لبعض رواة مسلم.

قال عياض: لعل معناه أوسعتنا مطرا، وفي بعضها: وملأتنا بالهمزة، وفي أكثرها: ومكثنا بالكاف والمثلثة، أي: على هذه الحالة من مجيء المطر من السحاب المتألف، وفي بعضها: وهلتنا بهاء ولام ثقيلة مفتوحتين، أي: أمطرتنا السماء "حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله".

قال النووي: ضبطنا تهمه بضم التاء مع كسر الهاء وبفتح التاء مع ضم الهاء، يقال: همه الشيء إذا اهتم له.

"وفي رواية له" لمسلم "أيضا" عن ثابت عن أنس: "فألف الله بين السحاب وملتنا" بفتح يتمزق" بشد الزاي "كأنه الملاء حين تطوى" شبه انقشاع السحاب عن المدينة بالملاءة المنشورة إذا طويت "والملا بضم الميم والقصر وقد يمد: جمع ملاءة وهي ثوب معروف" كالملحفة والريطة.

"واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس" لفظ الفتح لا تشرع "فيه صلاة، فأما الأول فقال به الشافعي" وكرهه سفيان الثوري "وأما الثاني فقال به أبو حنيفة، وتعقب بأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء لا ينافي مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت في واقعة أخرى كما تقدم" فلا دلالة فيه على عدم مشروعية الصلاة "والله أعلم".

ص: 132

الثالث: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم على منبر المدينة.

روى البيهقي في الدلائل من طريق يزيد بن عبيد السلمي قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة، بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، وهو أصغرهم، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل عجاف وهم مسنتون، فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم

"الثالث: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم على منبر المدينة. روى البيهقي في الدلائل" النبوية "من طريق يزيد" بتحتية فزاي "ابن عبيد" بضم العين "السلمي" بضم السين ذكره ابن شاهين في الصحابة، وأخرج هذا الحديث ووقع له في سياقه عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السلمي، وأبو وجزة بفتح الواو وسكون الجيم بعدها زاي، وغلطه في الإصابة بأن أبا وجزة تابعي مشهور، سكن المدينة، ومات سنة ثلاثين ومائة، لكنه مشهور بالسعدي.

وقد أخرج هذا الحديث الواقدي من الوجه الذي رواه منه ابن شاهين، فقال في سياقه عن أبي وجزة السعدي، وحكى المرزباني عن المبرد أبا وجزة سلمي الأصل، وإنما قيل له، السعدي؛ لأنه نزل في بني سعد، قلت: والحديث المذكور من مراسيله وهو في السنن عن أبي وجزة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم.

"قال: لما قفل" أي: رجع "رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك" في رمضان سنة تسع "أتاه وفد بني فزارة" بفتح الفاء والزاي فألف فراء فتاء تأنيث قبيلة من قيس عيلان "بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن" بكسر فسكون ابن حذيفة أخو عيينة بن حصن -وهو والد أسماء- بن خارجة الذي كان بالكوفة.

ذكر الواقدي أنه ارتد بعد المصطفى ومنع الصداقة، ثم تاب وقدم على أبي بكر "والحر" بضم المهملة وشد الراء "ابن قيس" بن حصن بن حذيفة الفزاري.

وفي البخاري عن ابن عباس: قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه لحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر

الحديث "وهو أصغرهم، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار" كذا في النسخ.

قال الحافظ: أبوها الحدث بدال بعد الحاء المهملتين لا براء قبلها ألف، كما عند ابن سعد وغيره، والحدث هو ابن ثعلبة بن زيد الأنصارية النجارية الصحابية زوجة معاذ بن عفراء، كانت دارها دار الوفود "وقدموا على إبل عجاف" بكسر المهملة وخفة الجيم، أي: بلغت النهاية في الهزال جمع أعجف على غير قياس حملا على نظيره، وهو ضعاف أو على ضده وهو سمان، والقياس أعجف مثل أحمر وحمر "وهم مسنتون" بميم مضمومة فمهملة ساكنة فنون

ص: 133

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم فقالوا: يا رسول الله أسنت بلادنا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا وهلت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله!! ويلك، أنا شفعت إلى ربي، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد". فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليضحك من

مكسورة، أي مجدبون وإضافته إليهم، تجوز. وروى مشتيون بشين معجمة ففوقية، أي: داخلون في الشتاء وحينئذ قل طعامهم "فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم" أي: عن أحوالها "فقالوا" وفي رواية: فقال أحدهم، قال في النور: لا أعرفه، وقال الحافظ: الظاهر أنه خارجة؛ لأنه كبير الوفد، ولذا سمي من بينهم. انتهى، ولا يلزم من كونه كبيرهم أن يكون هو القائل:"يا رسول الله أسنت" بفتح الهمزة وسكون المهملة ونون فوقية، أي: أجدبت "بلادنا" أصابتها السنة وي الجدب "وأجدب جنابنا" بفتح الجيم وخفة النون فألف فموحدة الفناء وما قرب من محلة القوم، فعطفه بلا تاء على أسنت من عطف الجزء على الكل، إن أريد بجنابنا ما حول بيوتنا ومباين أن أريد به ما يقرب من بلادهم وقراءته جناننا بنونين أو بنون وفوقية تصحيف، فأرض العرب لم يكن بها جنان، وفي تعبيره بأسنت وأجدب تفنن؛ لأنهما متساويان "وغرث" بفتح المعجمة وكسر الراء ومثلثة جاع "عيالنا" لقلة ما يأكلون.

وفي نسخ: وغرثت بزيادة تاء، وتركها أظهر؛ لأن عيال الرجل من يعول ولو ذكورًا فهو مذكر "وهلكت مواشينا" لعدم ما تأكله "فادع ربك أن يغيثنا" بفتح أوله من الغيث، أي: يمطرنا وبضمه من الإغاثة وهي الإجابة "وتشفع:" توسل "لنا إلى ربك" بما بينك وبينه من السر، يقال: شفعت في الأمر شفعا وشفاعة طالبته بوسيلة أو ذمام "ويشفع ربك إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله" تعجبا من ذلك "ويلك" كلمة عذاب خاطبه بها زجرا وتنفيرا عن العود لمثلها، وإن عذر لقرب عهده بالإسلام "أنا شفعت إلى ربي" بفتح الفاء من باب منع كما في اللغة.

قال في النور: وهو بديهي كالشمس إلا أني أخبرت أن بعض الأروام كسرها "فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه" استفهام بمعنى النفي "لا إله إلا هو العلي" فوق خلقه بالقهر "العظيم" الكبير "وسع كرسيه السماوات والأرض".

قال في النور: الصواب أن الكرسي غير العلم خلافا لزاعمه ولزاعم أنه القدرة وأنه موضع قدميه، وإنما هو المحيط بالسماوات والأرض وهو دون العرش كما جاءت به الآثار "وهو" أي: الكرسي "يئط" بفتح التحتية وكسرة الهمزة وشد الطاء يصوت "من عظمته وجلاله كما يئط الرحل" بحاء مهملة "الجديد" بالجيم "فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليضحك" يدر رحمته ويجزل

ص: 134

"شفقكم وقرب غياثكم"، فقال الأعرابي: أويضحك ربنا يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرًا. فضحك صلى الله عليه وسلم من قوله، فقام صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فرفع يديه حتى رئي بياض

مثوبته، فالمراد لازمه أو الضحك فيه وما أشبهه التجلي والظهور حتى يرى بعين البصيرة في الدنيا، وفي الآخرة بعين البصر، يقال: ضحك الشيب إذا ظهر الشاعر:

لا تعجبي يا هند من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

"من شفقكم" بفتح المعجمة والفاء بعدها قاف، أي: خوفكم، يقال: أشفقت من كذا بالألف حذرت، قال الجوهري: أشفقت عليه فأنا مشفق وشفيق، فإذا قلت: شفقت منه، فإنما تعني حذرته وأصلهما واحد.

زاد في رواية: وأزلكم بفتح الهمز وسكون الزاي، يعني ضيقكم "و" من "قرب" بضم فسكون "غياثكم" أي: أن الله تعالى يضحك من حصول الفرج لكم متصلا بشدة الخوف والضيق، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم قبل صعود المنبر والدعاء، فيكون علمه بالوحي فبشرهم به "فقال الأعرابي: أويضحك ربنا يا رسول الله؟، قال:"نعم"، فقال الأعرابي: لن نعدم" بفتح النون وسكون العين وفتح الدال، أي: لن نفقد "يا رسول الله من رب يضحك خيرا" لما جرت العادة به أن العظيم إذا سئل شيئا فضحك، أو نظر إلى السائل نظرة حلوة حصل ما يؤمله منه "فضحك صلى الله عليه وسلم من قوله؛" لأنه رضيه وأعجبه "فقام صلى الله عليه وسلم فصعد" بكسر العين مضارعه يصعد بفتحها "المنبر وتكلم بكلمات" أي: دعا بدعوات لم يحفظها الراوي كلها لقوله بعد كان، مما حفظ من دعائه "ورفع يديه" بالتثنية "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء" مثله في حديث أنس عند الشيخين.

قال الحافظ: ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء، وهي كثيرة جمعها المنذري في جزء مفرد، أورد منها النووي في شرح المهذب قدر ثلاثين حديثا، وأفردها البخاري بترجمة في كتاب الدعوات وساق فيها عدة أحاديث، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، أما الرفيع البليغ ويدل عليه قوله: حتى رئي بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي رويت في رفع البدن في الدعاء، إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد: فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذياه، وبه حينئذ يرى بياض

ص: 135

إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه:

"اللهم اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مربعا طبقا واسعا، عاجلا غير آجل نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا

إبطيه، وأما على صفة اليدين في ذلك لما رواه مسلم عن ثابت عن أنس؛ أنه صلى الله عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء، ولأبي داود عن أنس: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.

قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء، وتحصيله أن يجعل بطون كفيه إلى السماء، وقال غيره: الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقلب الحال ظهر البطن، كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض. انتهى.

"فرفع يديه حتى رئي" براء مكسورة، فهمزة مفتوحة ممدودًا، وبضم الراء وكسر الهمزة "بياض إبطيه" وهو من خصائصه دون غيره.

قال أبو نعيم: بياض إبطيه من علامات نبوته "وكان مما حفظ" بالبناء للمفعول "من دعائه: "اللهم اسق" بوصل الهمزة وقطعها ثلاثي ورباعي "بلدك" أي: أهل بلدك "وبهيمتك" أي: جنسا.

قال المصباح: البهيمة كل ذات أربع من دواب البر والبحر، وكل حيوان لا يميز فهو بهيمة والجمع البهائم "وانشر رحمتك" ابسط مطرك ومنافعه على عبادك تلميح لقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28]"وأحي بلدك الميت" بالتخفيف والتشديد التي لا نبات بها بالمطر تلميحا لقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11] الآية: "اللهم اسقنا غيثا" مطرا "مغيثا" لنا من هذه الشدة "مريئا" محمود العاقبة لا ضرر فيه "مربعا" بضم الميم وإسكان الراء وكسر الموحدة وعين مهملة أو بفوقية بدل الموحدة من رتعت الدابة إذا أكلت ما شاءت، أو هو بفتح الميم وكسر الراء وسكون التحتية ومهملة من المراعة وهي الخصب "طبقا" بفتحتين، أي: مستوعبا للأرض منطبقا عليها "واسعا" كالتأكيد لطبقا "عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار" بزرع ولا مسكن ولا حيوان، آدمي أو بهيمة "اللهم سقيا" بضم السين "رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق" نقص وإذهاب بركة، وأتى بهذا وإن استفيد من نافعا غير ضار؛ لأنه مقام طلب من الجواد والمطلوب فيه الإطناب، والله

ص: 136

على الأعداء".

فقام أبو لبابة ابن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم اسقنا"، فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد، ثلاث مرات، فقال عليه الصلاة والسلام:"اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره".

قال: فلا والله ما في السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وهم ينظرون، ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس سبتا وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.

فقال الرجل: يا رسول الله -يعني الذي سأله أن يستسقي لهم: هلكت

يحب الملحين في الدعاء ولذا قال: "اللهم اسقنا الغيث" المطر بالتعريف إشارة إلا أن المطلوب بالغيث الموصوف بهذه الصفات "وانصرنا على الأعداء" الكفار بإجابة الدعاء وإقامة الحجة والغلبة في قتالهم "فقام أبو لبابة" بشير، وقيل: رفاعة، ووهم من سماه مروان "ابن عبد المنذر" الأنصاري المدني أحد النقباء، عاش إلى خلافة علي "فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد" الموضع الذي يجفف فيه التمر كالجرين فنخشى عليه الغرق "فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقنا، فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد" قال ذلك "ثلاث مرات، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده": ثقبه الذي يسيل منه ماء المطر "بإزاره" من عجلته لكثرة المطر وخوفه على تمره لم يتمكن من تحصيل ما يسده به غير إزاره.

"قال" الراوي: "فلا والله ما في السماء من قزعة" بفتحات سحاب متفرق "ولا سحاب" مجتمع "وما بين المسجد" النبوي الذي دعا على منبره بهذا الدعاء "وسلع" الجبل المعروف بالمدينة "من بناء وا دار" يحجبنا عن رؤيته، إشارة إلى فقد السحاب "فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس" في الاستدارة "فلما توسطت السماء انتشرت، وهم" أي: الحاضرون "ينظرون" ذلك "ثم أمطرت" واستمرت جمعة، كما قال:"فوالله ما رأوا الشمس سبتا" بفتح فموحدة ساكنة ففوقية "وقام أبو لبابة عريانا" إلا من ساتر عورته "يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه" فاستجاب الله دعاء رسوله "فقال الرجل: يا رسول الله، يعني: الذي سأله أن يستسقي لهم" تقدم أن صاحب النور قال: لا أعرفه وأن صاحب الفتح استظهر أنه خارجة بن

ص: 137

الأموال، وانقطعت السبل، فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا ورفع يديه مدا، حتى رئي بياض إبطيه، ثم قال:"اللهم حوالينا ولا علينا، على الأكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر". فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب.

و"الأطيط" صوت الأقتاب، يعني: أن الكرسي ليعجز عن حمله وعظمته عز وجل، إذ كان معلوما أن أطيط الرجل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه، وعجزه عن احتماله، وهذا مثل لعظمة الله تعالى وجلاله، وإن لم يكن أطيط وإنما هو كلام تقريبي، أريد به تقرير عظمته تعالى.

وقوله: "طبقا" بفتح الطاء والموحدة، أي مالئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق أي عام واسع.

حصن؛ لأنه كبيرهم، ولذا سمي دونهم، وأن ذلك ليس بلازم "هلكت الأموال" المواشي "وانقطعت السبل" الطرق "فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر، فدعا ورفع يديه مدا حتى رئي بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم حوالينا" بفتح اللام وفيه حذف تقديره اجعل، أو أمطر، والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور "ولا علينا" بيان للمراد بحوالينا؛ لأنها تشمل الطرق، فأخرجها بقوله: "ولا علينا" "على الآكام" بكسر الهمز "والظراب" بكسر المعجمة وموحدة "وبطون الأودية" التي يتحصل فيها الماء لينتفع به "ومنابت الشجر" أي: ما حولها مما يصلح أن ينبت فيه "فانجابت" بنون فجيم خرجت "السحابة عن المدينة كانجياب الثوب" أي: كخروج الثوب عن لابسه.

قال في الفتح: وقد ذكر بعض هذا الحديث، وأفادت هذه الرواية صفة الدعاء المذكور في حديث أنس والوقت الذي وقع ذلك فيه. انتهى، وفيه بعد؛ لأن الرجل الداخل في حديث أنس دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة، فسأله وهو يخطب، وظاهر هذه الرواية أنهم دخلوا وهو جالس بالمسجد، فكلموه فيه، فقام فصعد المنبر ولا يلزم من شبه هذه القصة بتلك اتحادهما، لا سيما والمخرج مختلف "والأطيط صوت الأقتاب" بقاف: جمع قتب "يعني: أن الكرسي" المحيط بالسماوات والأرض "ليعجز عن مله وعظمته عز وجل، إذ كان معلوما أن أطيط" تصوت "الرجل" بحاء مهملة "بالراكب" عليه "إنما يكون لقوة ما فوقه" في التأثير "وعجزه عن احتماله، وهذا مثل لعظمة اله تعالى وجلاله وإن لم يكن" يوجد "أطيط" والجملة حالية بدليل قوله: "وإنما هو كلام تقريبي" للفهم "أريد به تقرير عظمته تعالى" للعقول "وقوله: طبقا بفتح الطاء" المهملة "والموحدة" والقاف "أي: ملئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق" بفتحتين

ص: 138

و"المربد": موضع يجفف فيه التمر.

و"ثعلبه" ثقبه الذي يسيل منه ماء المطر.

وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبي يغط، ولا بعير يئط -أي مالنا بعير أصلا؛ لأن البعير لا بد أن يئط وأنشد:

أتيناك والعذراء يدمى لبابها

وقد شغلت أم الصبي عن الطفل

وألقى بكفيه الفتى لاستكانة

من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلي

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا

سوى الحنظل العامي والعلهز الغسل

فليس لنا إلا إليك قرارنا

وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقام صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ثم قال:

"أي: عام واسع" فكأنه قيل: مستوعبا للأرض منطبقا عليها "والمربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة "موضع يجفف فيه التمر وثعلبه" بمثلثة ومهملة وموحدة "ثقبه" بمثلثه وقاف "الذي يسيل منه ماء المطر".

وفي القاموس: الثعلب معروف، إلى أن قال: والحجر الذي يخرج منه ماء المطر من الجرين.

"وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبي يغط" بفتح أوله وكسر المعجمة، أي: ينام كناية عن شدة جوعه؛ لأن الغطيط إنما يقع غالبا عند الشبع "ولا بعير يئط" بفتح أوله وكسر الهمزة "أي: ما لنا بعير أصلا؛ لأن البعير لا بد أن يئط" أي: يصوت، فنفى اللازم لنفي الملزوم، لكن في الفتح والصحاح: أنه يئط من ثقل الحمل عليه، فالمعنى: لا يئط لعدم ما يحمله، وهذا أيضا يخالف مقتضى قوله: لا بد أن يئط، أي: مثقلا كان أم لا، ومر للمصنف آنفا أن الأطيط صوت الأقتاب فهو مشترك، وبه صرح الجوهري، فقال: الأطيط صوت الرحل والإبل من ثقل أحمالها ونحوه في القاموس.

"وأنشد" يقول: "أتيناك" بالقصر "والعذراء" بالمد البكر "يدمي لبابها" بموحدتين "وقد شغلت أم الصبي عن الطفل" مع مزيد شفقتها عليه لشدة جوعها "وألقى بكفيه الفتى" أي: الشجاع "لاستكانة" ذل وخضوع "من الجوع ضعفا" أي: لأجل الضعف "ما يمر" ينطق بشر "ولا يحلى" ينطق بخير "ولا شيء مما يأكل الناس عندنا، سوى الحنظل العامي" نسبة إلى العام "والعلهز:" بكسر المهملة والهاء بينهما لام سكنة ثم زاي "الغسل:" بكسر المعجمة وسكون المهملة الرذل "فليس لنا إلا إليك قرارنا، وأين فرار الناس إلا إلى الرسل، فقام -صلى الله عليه وسلم

ص: 139

"اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا غدقا طبقا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها". قال: فما رد صلى الله عليه وسلم يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق، فقال عليه الصلاة والسلام:"حوالينا ولا علينا"، فانجابت السحابة عن المدينة حتى أحدق حولها كالإكليل، وضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال:"لله در أبي طالب، لو كان حيا لقرت عيناه". من ينشدنا قوله؟ فقال علي: يا رسول الله كأنك تريد قوله:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يجر رداءه" من العجلة لما جبل عليه من الرأفة والرحمة "حتى صعد" بكسر العين "المنبر، فرفع يديه" بالتثنية "إلى السماء، ثم قال:"اللهم اسقنا" عمم الطلب فلم يقل: اسقهم "غيثا" مطرا "مغيثا" لنا من هذه الشدة "مربعا غدقا" بمعجمة فمهملة كثير القطر "طبقا" بفتحتين "نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث" بمثلثة، أي: بطيء "تملأ به الضرع" للمواشي "وتنبت به الزرع وتحيي به الأرض" بالنبات "بعد موتها" يبسها تشبيها بالحيوان الذي إذا مات يبس.

"قال" أنس: "فما رد صلى الله عليه وسلم يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها:" جمع برق ما يلمع من السحاب "وجاء أهل البطانة" أي: الساكنون خارج المدينة "يضجون" يصيحون: "الغرق الغرق" بالتكرير "فقال عليه السلام:" أنزل المطر "حوالينا ولا" تنزله "علينا، فانجابت": خرجت "السحابة عن المدينة حتى أحدق" أي: دار "حولها كالإكليل" المحيط بالشيء "وضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه" فرحا بزوال الكرب عن أمته "ثم قال: "لله در أبي طالب، لو كان حيا لقرت عيناه": بردت وسكنت كناية عن السرور "من ينشدنا قوله فقال علي: يا رسول الله كأنك تريد قوله" في قصيدته الطويلة التي قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم: ونفروا عنه من يريد الإسلام يذكرهم يده عليهم وبكرته من صغره، وهي ثلاثة وثمانون بيتا عند ابن إسحاق، وقال المصنف: عدة أبياتها مائة بيت وعشرة أبيات، وسبق منها جملة في أوائل المقصد الأول "وأبيض" بفتح الضاد المعجمة مجرور برب مقدرة أو منصوب بإضمار، أعني: أو أخص، والراجح أنه بالنصب عطفا على سيد المنصوب في البيت الذي قبله وهو:

وما ترك قوم لا أبا لك سيدا

بحوط الذمام غير ذرب مواكل

أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أبيض "يستسقي" مبني للمفعول "الغمام" السحاب "بوجهه" أي: ذاته، أي يتوسل إلى الله به "ثمال" بكسر المثلثة وخفة الميم هو العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي أطلق على كل ذلك، ويصح إرادة الجميع هنا "اليتامى عصمة للأرامل" أي: يمنعهم مما يضرهم والأرامل المساكين من رجال ونساء، ويقال

ص: 140

تطيف به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله نبزي محمدا

ولما نطاعن حوله ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال صلى الله عليه وسلم: "أجل"، رواه البيهقي.

وقوله: "يدمي لبابها" أي يدمي صردها لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللباب من الفرس موضع اللبب ثم استعير للناس.

وقوله: "ما يمر ولا يحلي" أي ما ينطق بخير ولا شر من الجوع والضعف.

للرجال وإن لم يكن فيهم نساء، قاله ابن السكيت بنصب ثمال، وعصمة ورفعهما وجرهما على خرابيض "تطيف".

وعند ابن إسحاق: تلوذ، أي: تلتجئ "به الهلاك:" جمع هالك، أي: المشرفون على الهلاك "من آل هاشم" وإذا طاف أو التجأ به هؤلاء السراة لغيرهم أحرى "فهم عنده في نعمة" يد ومنه بتقدير مضاف، أي: في ذوي نعمة، أي: سعة وخير، أو جعل النعمة ظرفا لهم مبالغة "وفواضل" عطف خاص على عام، ففي القاموس الفواضل: الأيادي الجسيمة أو الجميلة، إذ المراد بالنعمة النعم الشاملة للنعم العظيمة والدقيقة "كذبتم وبيت الله" في قولكم:"نبزي" بضم النون وسكون الموحد وكسر الزاي نقهر وتغلب "محمدًا" كذا ضبطه في سبل الرشاد.

وفي النهاية أنه بتحتية، ورفع محمد نائب فاعل يبزي، ولفظه: يبزي، أي: يقهر ويغلب، أراد لا يبزي، فحذف لا من جواب القسم، وهي مرادة، أي: لا يقهر "ولما نطاعن" مجزوم بلما وحذف المفعول للتعميم، أي: نطاعنكم وغيركم "حوله" وعند ابن إسحاق دنه "ونناضل" بنونين وضاد معجمة، أي: نجادل ونخاصم وندافع عنه، أو نرمي بالسهام "ونسلمه" لكم يا معشر قريش، تفعلون به ما شئتم كما طلبتم لا "حتى نصرع حوله، و" حتى "نذهل عن أبنائنا والحلائل:" الزوجات واحدها حليلة "فقال صلى الله عليه وسلم: "أجل" بفتح الهمزة والجيم حرف جواب بمعنى نعم، أي: أردت هذا "رواه البيهقي" في الدلائل بإسناد فيه ضعف لكنه يصلح للمتابعة، قاله الحافظ.

"وقوله: يدمي لبابها، أي: يدمي صدرها لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من" أي: الذي "يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللباب من الفرس موضع اللبب" بفتحتين "ثم استعير للناس" فأطلق عليها.

"وقوله: ما يمر ولا يحلي، أيك ما ينطق بخير" تفسير ليحلي "ولا شر" تفسير يمر فهو لف

ص: 141

وقوله: "سوى الحنظل العامي" نسبة إلى العام؛ لأنه يتخذ في عام الجدب، كما قالوا للجدب: السنة.

"والعلهز" بالكسر، طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة. قاله الجوهري.

و"الغسل" الرذل.

قال السهيلي: فإن قلت: كيف قال أبو طالب "وأبيض يستسقي الغمام بوجهه" ولم يره قط استسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟

وأجاب بما حاصله: أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه وسلم معه وهو غلام. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من خايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد ذلك.

ونشر غير مرتب، وهو أولى "من الجوع والضعف" لا يستطيع النطق بشيء.

"وقوله: سوى الحنظل العامي نسبة إلى العام؛ لأنه يتخذ في عام الجدب، كما قالوا للجدب السنة" بفتحتين "والعلهز بالكسر" للعين المهملة والهاء بينهما لام ساكنة وآخره زاي "طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة، قاله الجوهري" في الصحاح "والغسل" بكسر المعجمة، وإسكان المهملة "الرذل" بذال معجمة.

"قال السهيلي: فإن قلت كيف قال أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، ولم يره قط استسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة" وأبو طالب مات قبلها "وأجاب بما حاصله: أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه وسلم معه وهو غلام. انتهى.

ولفظه في روضه: روى الخطاب حديثا فيه أن قريشا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب، فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس، فقام عبد المطلب واعتضد النبي صلى الله عليه وسلم، فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع أو قرب، فدعا فسقوا في الحال، فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قاله. انتهى.

"وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه وإن لم يشاهد ذلك" لفظ الحافظ: وإن لم يشاهد وقوعه، وأشار المصنف

ص: 142

قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة، وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي وأجدب العيال وأنت فيهم أما تستسقي؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق السحاب وأغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:

إلى التعقب على هذا الاحتمال بقوله: "قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة" بضم الجيم وتفتح "ابن عرفطة" بضم العين والفاء "قال: قدمت مكة وهم" أي: أهلها "في قحط" بسكون الحاء وتفتح، أي: شدة لاحتباس المطر عنهم "فقالت قريش:" بعد أن تشاوروا، فلفظه عند ابن عساكر عن جلهمة: قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: اعمدوا اللات والعزى، وقائل منهم: اعمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل، قالوا: كأنك عنيت أبا طالب؟، قال: أيها، فقاموا بأجمعهم، فقمت قدققنا عليه الباب، فخرج إلينا فثاروا إليه، فقالوا:"يا أبا طالب أقحط" بالبناء للفاعل والمفعول "الوادي" أصابه القحط "وأجدب العيال وأنت فيهم" من ذرية إسماعيل وإبراهيم "أما تستسقي:" تطلب من الله السقيا "فخرج أبو طالب ومعه غلام" هو النبي صلى الله عليه وسلم "كأنه شمس دجن" بضم المهملة الجيم وشد النون على مفاذ قول المجد كعتل الظلمة، ثم يجوز أنه منون على الوصف، أي: كسبت ظلمة، والإضافة، أي: شمس ليلة ذات ظلمة، أو ذات يوم دجن، أي: مظلم "تجلت عنه سحابة قتماء" بقاف مفتوحة فوقية ساكنة والمد تأنيث أقتم، أي: يعلوها سواد غير شديد، وهذا من بديع التشبيه، فإن شمس يوم الغيم حين ينجلي سحابها الرقيق تكون مضيئة مشرقة مقبولة للناس ليست محرقة "وحوله أغيلمة" تصغير أغلمة، إشارة إلى صغرهم؛ لأن الغلام قد يطلق على البالغ "فأخذه" أي: الغلام "أبو طالب فألصق ظهره" أي: ظهر الغلام "بالكعبة ولاذ" التجأ "الغلام بأصبعه" أي: أصبع نفسه السبابة على الظاهر؛ لأنها التي يشار بها غالبا، ولعل المعنى: أشار به إلى السماء كالمتضرع الملتجئ "وما في السماء قزعة" بفتحات قطعة سحاب "فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا" أي: من جميع الجهات، لا من جهة دون أخرى "وأغدق السحاب" أي: كثرة ماؤه والإسناد مجازي "واغدودق" عطف مرادف "وانفجر له الوادي" بالمطر "وأخصب النادي" بالنون أهل الحضر "والبادي" أهل البادية، أي: أخصبت الأرض للفريقين "وفي ذلك يقول أبو طالب" يذكر قريشا حين تمالؤوا عليه صلى الله عليه وسلم بركته عليهم من صغره لا في هذا الوقت، فلا يخالف قول ابن إسحاق؛ أنه قال: القصيدة لما تمالأت قريش على

ص: 143

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

الرابع: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم بالدعاء من غير صلاة.

عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله، فقرأ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] ، يوم بدر. زاد أسباط عن

النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام، وتجويز أنه قال البيت عقب الاستسقاء "وأبيض يستسقى الغمام بوجهه" أي: يطلب السقي من السحاب بذاته ثمال اليتامى عصمة للأرامل، فهذا صريح في أنه قاله عن مشاهدة، فكيف يقول الحافظ ذلك الاحتمال، ولذا تعجب منه شارح الهمزية، وقال: إنه غفل عن رواية ابن عساكر هذه إذ لو استحضرها لم يبد هذا الاحتمال.

"الرابع: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم بالدعاء من غير صلاة":

"عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا" أي: تأخروا "عن الإسلام" ولم يبادروا إليه فدعا عليهم رسول الله -صلى اله عليه وسلم" فقال: اللهم سبعا كسبع يوسف كما في البخاري، ونصب بفعل تقديره: أسألك، أو سلط وله في تفسير سورة يوسف: "اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف،" وفي تفسير الدخان:"اللهم أعني عليهم".. إلخ "فأخذتهم سنة" بفتحتين، أي: جدب وقحط "حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام".

زاد في رواية: ونظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع "فجاءه أبو سفيان" صخر بن حرب الأموي والد معاوية "فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك" ذوي رحمك "هلكوا" ولبعض الرواة: قد هلكوا، أي: بدعائك عليهم "فادع الله" لهم، فإن كشف عنا نؤمن بك "فقرأ {فَارْتَقِبْ} انتظر لهم {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، ثم عادوا إلى كفرهم" فابتلاهم الله تعالى بالبطشة "فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم بدر" تفسير لها، وقيل: يوم القيامة، والعامل في يوم فعل دل عليه إنا منتقمون؛ لأن أن مانع من عمله فيما قبله، أو بدل من يوم تأتي.

قال الحافظ: ولم يقع في هذا السياق تصريح بأنه عاد لهم، لكن رواه البخاري في تفسير سورة ص، بلفظ: فكشف عنهم ثم عادوا، وفي سورة الدخان من وجه آخر بلفظ: فاستسقى لهم فسقوا، ونحوه في رواية: أسباط المعلقة، يعني قوله:"زاد أسباط:" بفتح الهمزة وسكون المهملة

ص: 144

منصور: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، فشكا الناس كثرة المطر فقال:"اللهم حوالينا ولا علينا"، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم. رواه البخاري.

وأفاد الدمياطي أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بالمدينة في القنوت كما في حديث أبي هريرة عند البخاري، ولا يلزم من ذلك اتخاذ هذه القصص، إذ لا مانع أن يدعو بذلك عليهم مرارا. والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: ثم عادوا فذلك قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ

وموحدة فألف فطاء مهملة.

قال الحافظ: هو ابن نصر، ووهم من زعم أنه أسباط بن محمد "عن منصور" يعني: بإسناده المذكور قبله في البخاري، وهو حدثنا محمد بن كثير عن سفيان، حدثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود: وقد وصله الجوزي والبيهقي من رواية علي بن ثابت عن أسباط بن نصر عن منصور وهو ابن المعتمر، عن أبي ضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم-أدبارًا، فذكر نحو الذي قبله، وزاد: فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة، فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا فادع الله لهم "فدعا" الله "رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا" بضم السين والقاف مبني للمفعول "الغيث" بالنصب مفعوله الثاني "فأطبقت" أي دامت وتواترت "عليهم سبعا" أي: سبعة أيام، وسقطت التام لعدم ذكر المميز، فإنه يجوز فيه الأمران "فشكا الناس كثرة المطر، فقال: "اللهم" أنزل المطر "حوالينا ولا" تنزله "علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم".

قال الحافظ: كا في جميع الروايات في الصحيح فسقوا بضم السين والقاف وهي على لغة بني الحارث.

وفي رواية البيهقي المذكورة: فأسقى الناس حولهم، وزاد المصنف: ويجوز النصب على الاختصاص، أي: أعني الناس "رواه البخاري" هنا، وفي التفسير:"وأفاد الدمياطي أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور" بفتح السين المهملة والقصر "وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بالمدينة في القنوت، كما في حديث أبي هريرة عند البخاري: ولا يلزم من ذلك اتخاذ هذه القصص: إذ لا مانع أن يدعو بذلك عليهم مرارا، والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: ثم عادوا، فذلك قوله:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم بدر، ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة

ص: 145

الْكُبْرَى} يوم بدر ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فقال:"وأبيض يستسقى الغمام بوجهه" لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل.

وفي الدلائل للبيهقي عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع الله لقومك فإنهم قد هلكوا. وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة، ولم يشك، فأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل فقال: استسق الله لمضر، قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك ودعوت

قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فقال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه" البيت عن مشاهدة لذلك "لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل" جدا، وأفاد بيان ما قاله إنه ورد بقوله.

"وفي الدلائل للبيهقي" وقيل: هذا في الفتح، وقد تعقب الداودي وغيره زيادة إسحاق بن نصر ونسبوه إلى الغلط في قوله: وشكا الناس كثرة المطر.. إلخ، وزعموا أنه أدخل حديث في حديث، وأن الحديث الذي فيه شكوى كثرة المطر، وقوله:"اللهم حوالينا ولا علينا"، لم يكن في قصة قريش وإنما هو في القصة التي رواها أنس وليس هذا التعقب عندي بجيد، إذ لا مانع أن يقع ذلك مرتين، والدليل على أن أسباط بن نصر لم يغلط، ما للبخاري في سورة الدخان عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى في هذا الحديث، فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فقال المضر: إنك لجريء، فاستسقى فسقوا، والقائل في: فقيل: يظهر لي أنه أبو سفيان لما ثبت في كثير من طرق هذا الحديث في الصحيحين، فجاءه أبو سفيان، ثم وجدت في الدلائل للبيهقي "عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر، فأتاه أبو سفيان" صخر بن حرب" فقال: ادع الله لقومك فإنهم قد هلكوا، وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة ولم يشك" بل جزم بأن الراوي لا الجائي كعب بن مرة "فأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل، فقال: استسق الله لمضر" اطلب لهم منه السقيا، وإنما قال لمضر: لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز، وكان الدعاء بالقحط على قريش، فسرى القحط إلى من حولهم، ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش، للإشارة إلى أن غير المدعو عليهم قد هلكوا بجريرتهم، ولئلا يذكره بجرمهم، فقال: $"ألمضر لينذر جوافيهم،" كذا قال المصنف، وفيهما نظر، فإن أبا سفيان عبر بقومك وتقدم، ويأتي قريبا أنه عليه السلام دعا على مضر، سقط من قلم المصنف أو نساخه، فقال:"إنك لجريء ألمضر"؟ وهو في الفتح وبه يستقيم قوله.

ص: 146

الله فأجابك، فرفع يديه فقال:"اللهم اسقنا غيثا مغيثا". الحديث فظهر أن الرجل المبهم المقول له: "إنك لجريء" هو أبو سفيان.

لكن يظهر أن فاعل "قال: يا رسول الله استنصرت الله.. إلخ" هو كعب بن مرة راوي هذا الحديث، لما أخرجه أحمد أيضا والحاكم عن كعب بن مرة المذكور قال:"دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا". وعلى هذا: فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشيء، وكلمة كعب بشيء فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله:"إنك لجريء" ومن قوله: "اللهم حوالينا ولا علينا". وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله: "استنصرت الله فنصرك".

ولا يلزم من هذا اتحاد هذا القصة مع قصة أنس السابقة، فهي واقعة أخرى،

"قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك، ودعوت الله فأجابك" فلا عليك أن تدعو لهم بالسقي، وقوله:"ألمضر"، أي: أتطلب أن أستسقي لهم مع ما هم عليه من الكفر والمعاصي "فرفع يديه" بالتثنية "فقال: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا".. الحديث" بقيته كما في الفتح: "مريعا مريئا، طبقا عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار"، قال: فأحيوا، فما لبثوا أن أتوه، فشكوا إليه كثرة المطر، فقالوا: قد تهدمت البيوت، فرفع يديه فقال:"اللهم حوالينا ولا علينا"، فجعل السحاب يتقطع يمينا وشمالا "فظهر" بذلك "أن الرجل المبهم المقول له: إنك لجريء، هو أبو سفيان لكن يظهر" لي "أن فاعل قال: يا رسول الله استنصرت الله

إلخ، هو كعب بن مرة راوي" هذا الحديث المذكور "لما أخرجه أحمد أيضا والحاكم عن كعب بن مرة" المذكور، ويقع في نسخ عن أبي بن كعب وهو غلط، فالذي في الفتح عن كعب "قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، إن الله نصرك وأعطاك واستجاب لك" دعاءك عليهم "وإن قومك قد هلكوا

" الحديث.

"وعلى هذا فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشيء" هو: جئت تأمر صلة الرحم وأن قومك قد هلكوا "وكلمه كعب بشيء" هو: يا رسول الله.. إلخ.. "فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله: "إنك لجريء"، ومن قوله: "اللهم حوالينا ولا علينا".

زاد الحافظ: فظهر بذلك أن أسباط بن نصر لم يغلط في الزيادة المذكورة ولم ينتقل من حديث إلى حديث "وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله: استنصرت الله فنصرك؛" لأن كلا منهما كان بالمدينة بعد الهجرة "و" لكن "لا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة

ص: 147

لأن في رواية أنس "فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا" وفي هذه "فما كان إلا جمعة أو نحوها، والسائل في هذه القصة غير السائل في تلك، فهما قصتان، وقع في كل منهم طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: "استنصرت الله فنصرك" على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. انتهى ملخصًا من فتح الباري.

الخامس: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يدعى باب السلام نحو قذفه بحجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد.

عن عمير، مولى أبي اللحم، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي رافعا يديه قبل

مع قصة أنس السابقة، فهي واقعة أخرى؛ لأن في رواية أنس: فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا، وفي هذه فما كان إلا جمعة أو نحوها، والسائل في هذه القصة غير السائل في تلك" التي رواها أنس؛ لأنه قال: جاء أعرابي "فهما قصتان، وقع في كل منهم طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: "استنصرت الله فنصرك" على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. انتهى ملخصا من فتح الباري" بمعنى أنه ترك منه ما لم يتعلق به غرضه، وفيه بعد هذا: وإني ليكثر تعجبي من إقدام الدمياطي على تغليط ما في الصحيح بمجرد التوهم مع إمكان التصويب مزيد التأمل والتنقيب عن الطرق وجميع ما ورد في الباب، فلله الحمد ما أعلم وأنعم.

"الخامس: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء" بفتح الزاي وإسكان الواو والمد موضع بالسوق بالمدينة "وهي خارجة باب المسجد الذي يدعى باب السلام في" مكان مسافته "نحو قذفه" رمية "بحجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد" النبوي "عن عمير" بضم العين مصغر "مولى أبي اللحم" بالمد الغفاري: كان يأبى اللحم، شهد عمير مع مولاه خيبر كما في السنن الأربعة عنه، قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في، فأعطاني من طرق المتاع ولم يسهم لي، وروى مسلم عنه: كنت مملوكا فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أتصدق من مال مولاي بشيء؟، قال: نعم والأجر بينكما وعاش إلى نحو السبعين من الهجرة "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي رافعا يديه قبل" بكسر ففتح جهة "وجهه لا يجاوزهما

ص: 148

وجهه، لا يجاوزهما رأسه، رواه أبو داود والترمذي.

السادس: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال المنافقون: لو كان نبيا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أوقد قالوها، عسى ربكم أن يسقيكم"، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادي، فشرب الناس وارتووا.

فصل: عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعا: أنه كان إذا استسقى قال: "اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلائق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاد ما لا يكشفه غيرك،

رأسه" رواه أبو داود والترمذي.

"السادس: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال المنافقون: لو كان نبيا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه" بني إسرائيل، والقصة في القرآن:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60] الآية "فبلغ ذلك النبي -صلى اله عليه وسلم، فقال: أوقد، قالوها" أي: هذه المقالة، قال ذلك تعجبا منهم "عسى ربكم أن يسقيكم"، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادي، فشرب الناس وارتووا".

"فصل" هو الثالث من الباب الثاني الذي قال فيه، وفيه أربعة فصول، فذكر الكسوف فصلا والاستسقاء ثانيا وهذا الثالث، ويأتي الرابع بعده "عن سالم بن عبد الله" بن عمر "عن أبيه مرفوعا؛ أنه كان" صلى الله عليه وسلم "إذا استسقى قال:"اللهم اسقنا الغيث" المطر "ولا تجعلنا من القانطين" الآيسين الذين قلت فيهم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] ، "اللهم إن بالعباد والبلاء والبهائم والخلائق من اللأواء" بالمد الشدة "والجهد" بفتح الجيم وضمها المشقة "والضنك" الضيق في كل شيء للذكر والأنثى، قاله القاموس "ما لا نشكوه إلا إليك" إذ لا يكشف الضر غيرك "اللهم أبنت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء" أي: المطر "وأنبت لنا من بركات الأرض" الزرع "اللهم رافع عنا الجهد والجوع

ص: 149

"اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا". رواه الشافعي.

فصل: روى أبو الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق.

وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان، عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر.

"والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت" ولم تزل "غفارا، فأرسل السماء" المطر "علينا مدرارا" كثير الدرور "رواه الشافعي" الإمام رحمه الله.

"فصل: روى أبو الجوزاء" بجيم وزاي أوس بن عبد الله الربعي بفتح الموحدة البصري، تابعي ثقة يرسل كثيرا "قال: قحط" بفتح الحاء وكسرها مع فتح القاف وبضمها وكسر الحاء مبني للمفعول "أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فاجعلوا منه كوى إلى السماء" بضم الكاف مقصور جمع كوة بالضم مثل مدية ومدى الثقبة في الحائط، أي: اجعلوا طاقات من السقف الذي على القبر الشريف، كما يفهم من قولها" حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا" مطرا كثيرا "حتى نبت العشب" بضم فسكون "وسمنت الإبل حتى تفتقت:" اتسعت "من الشحم، فسمي عام الفتق".

"وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح" واسمه ذكوان "السمان" بائع السمن "عن مالك الدار" وكان خازن عمر، وهو مالك بن عياض مولى عمر، له إدراك، ورواية عن الشيخين ومعاذ وأبي عبيد، وعنه ابناه عبد الله وعوف وأبو صالح وعبد الرحمن بن سعيد المخزومي قال أبو عبيدة: ولاه عمر كيلة عمر، فلما كان عثمان ولاه القسم فسمي مالك الدار.

"قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل" هو بلال بن الحارث المزني الصحابي كما عند سيف في كتاب الفتوح "إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل" بلال بن الحارث "في المنام، فقيل له: ائت عمر" وفي رواية ابن خيثمة من هذا الوجه، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: ائت عمر فقل له:

ص: 150

وفي رواية عبد الرزاق: أن عمرا استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق.

وذكر الزبير بن بكار أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة -بفتح الراء وتخفيف الميم- وسمي به لما حصل من شدة الجدب، فأغبرت الأرض جدا من عدم المطر.

وذكر ابن عساكر في كتاب الاستسقاء أن العباس لما استسقى ذلك اليوم قال: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل وأطل به الفرع وأدر به الضرع. اللهم تشفعنا إليك بمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا، الله اسقنا سقيى وادعة بالغة طبقا، اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك، لا شريك لك، اللهم نشكو إليك سغب كل ساغب، وعدم كل

إنكم مسقون فعليك، فبكى عمر وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه.

"وفي رواية عبد الرزاق" عن ابن عباس: "أن عمرا استسقى بالمصلى، فقال للعباس" بن عبد المطلب: "قم فاستسق" فاستسقى، فذكر الحديث، وثبت بهذا أن العباس كان مسئولا وأنه ينزل منزلة الإمام إذا أمره الإمام بذلك كما في الفتح.

"وذكر الزبير بن بكار" عن زيد بن أسلم عن ابن عمر "أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس" بن عبد المطلب "عام الرمادة" ذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة، وكان ابتداؤه مصدره الحاج منها، ودام تسعة أشهر، والرمادة "بفتح الراء وتخفيف الميم، وسمي به" العام "لما حصل من شدة الجدب" بمهملة "فاغبرت الأرض جدا من عدم المطر" فصارت كالرماد.

"وذكر ابن عساكر في كتاب الاستسقاء أن العباس لما استسقى ذلك اليوم قال: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء ثم أنزله علينا" والجواد الكريم يجود بما عنده، وأنت الجواد الرحيم الكريم، وما عندك لا يفنى ولا ينفد "واشدد به الأصل" للنبات وهو الأرض "وأطل به الفرع" النبات "وأدر به الضرع، اللهم تشفعنا إليك بمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا" وفي ذلك مزيد الطالب بالذلة والخضوع الذي هو المطلوب؛ لأن البهائم ترحم.

وفي ابن ماجه مرفوعا: "لولا البهائم لم تمطروا""اللهم اسقنا سقيى وادعة" أي مسمرة بقدر الحاجة "بالغة طبقا" متسعة "اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك لا شريك لك" تأكيد "اللهم

ص: 151

عادم، وجوع كل جائع، وعري كل عار، وخوف كل خائف.

وفي رواية الزبير بن بكار: أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. وعنده أيضا: قحط الناس فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا يا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس، فاتخذوه وسيلة إلى الله. وفيه فما برحوا حتى سقوا، وفي ذلك يقول العباس بن عتبة بن أبي لهب:

نشكو إليك سغب" بفتح المهملة والمعجمة وموحدة جوع "كل ساغب" جائع مع التعب، أو أراد العطش؛ لأنه قد يسمى سغبا "وعدم كل عادم وجوع كل جائع" وإن لم يكن مع تعب فلا تكرار؛ لأن السغب أخص أو أريد بالسغب العطش كما رأيت "وعري كل عار وخوف كل خائف".

"وفي رواية الزبير بن بكار" في كتاب الأنساب: "أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني" قربي "من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث" المطر "فأرخت السماء" مطرا "مثل الجبال" من كثرته "حتى أخصبت الأرض وعاش الناس وعنده" أي الزبير بن بكار "أيضا" عن ابن عمرة، قال:"قحط الناس:" بفتحات أصابهم القحط.

"فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد" من التعظيم البالغ، وعند ابن حبان والحاكم عن عمر زيادة يعظمه ويفخمه ويبر قسمه "فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس فاتخذوه وسيلة إلى الله، وفيه" أي: الحديث "فما برحوا حتى سقوا" لفظ الرواية: حتى سقاهم الله.

قال الحافظ: ويستفاد من هذه القصة استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه.

وفي البخاري عن أنس: أن مر كان إذا قحطوا استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون "وفي ذلك يقول العباس بن عتبة" بضم المهملة وإسكان الفوقية وموحدة "ابن أبي لهب" الهاشمي وأبوه صحابي:

ص: 152

بعمي سقى الله الحجاز وأهله

عشية يستسقي بشيبته عمرا

توجه بالعباس في الجدب راغبا

إليه فما إن رام حتى أتى المطر

ومنا رسول الله فينا تراثه

فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر

"بعمي سقى الله الحجاز وأهله

"عشية يستسقي بشيبته عمرا

توجه بالعباس في الجدب راغبا

إليه فما إن رام حتى أتى المطر

ومنا رسول الله فينا تراثه

فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر

التراث بضم الفوقية ومثلثة، ولعل المراد به هنا ما ورثوه عنه من العلوم والمعارف والشرف، إذ الأنبياء لا تورث، والله أعلم.

ص: 153

القسم الثالث: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم في السفر

وفي فصول:

الفصل الأول: في قصره صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه وأحكامه

وفيه فرعان:

الفرع الأول: في كم كان عليه الصلاة والسلام يقصر الصلاة

تقدم هل القصر رخصة أو عزيمة، وما استدل به لكل من القولين، في أوائل

"القسم الثالث": من الأقسام الخمسة التي تقدم تقسيم النوع الأول من الصلاة إليها أول المقصد "في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم في السفر، وفيه فصول:

الأول: في قصره صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه" أي: السفر "وأحكامه" أي: القصر من جواز ووجوب "وفيه فرعان:

الأول: في" جواب قول السائل "كم" أي: قدر "كان عليه الصلاة والسلام يقصر الصلاة؟ " بفتح أوله وضم الضاد من باب نصر، وبضم أوله وشد الصاد من قصر وتخفيفها من أقصر.

قال الحافظ: يقال: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا وقصرتها بالتشديد تقصيرا وأقصرتها إقصارا، والأشهر في الاستعمال الأول، والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في الصبح ولا في المغرب "تقدم هل القصر رخصة

ص: 153

هذا المقصد.

وعن أنس بن مالك قال: صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا، وخرج يريد مكة فصلى بذي الحليفة العصر ركعتين. رواه البخاري ومسلم.

وهذا الحديث مما احتج به أهل الظاهر في جواز القصر في طويل السفر وقصيره، فإن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، ويقال: سبعة.

وقال الجمهور: لا يجوز القصر إلا في سفر يبلغ مرحلتين، وقال أبو حنيفة وطائفة شرطه ثلاث مراحل، واعتمدوا في ذلك آثارا عن الصحابة.

وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه لأهل الظاهر؛ لأن المراد أنه صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى مكة في حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعا ثم سافر، فأدركته العصر وهو مسافر بذي الحليفة، فصلاها ركعتين. وليس المراد أن ذا الحليفة غاية سفره، فلا

أو عزيمة، وما استدل به لكل من القولين في أوائل هذا المقصد" فأغنى عن إعادته.

"وعن أنس بن مالك قال: صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا" أي: أربع ركعات "وخرج يريد مكة فصلى بذي الحليفة" بضم المهملة وفتح اللام "العصر ركعتين، رواه البخاري ومسلم".

وفي رواية لهما عن أنس: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين "وهذا الحديث ما احتج به أهل الظاهر في" أي: على "جواز القصر في طويل السفر وقصيره، فإن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، ويقال: سبعة" بسين فموحدة.

"وقال الجمهور: لا يجوز القصر إلا في سفر يبلغ مرحلتين، وقال أبو حنيفة: وطائفة شرطه ثلاث مراحل واعتمدوا في ذلك آثارا عن الصحابة"، وأقوى ما تملكوا به حديث ابن عمر: لا تسافر المرأة ثلاث أميال إلا مع ذي محرم، قالوا: فما نقص عنها ليس بسفر، وتعقب بأن الحديث لم يسق لبيان مسافة القصر، بل لنهي المرأة عن الخروج وحدها، ولذلك اختلفت ألفاظه، وأقل ما ورد منها لفظ بريد، وبأن قاعدة الحنفية الاعتبار بما رأى الصحابي لا بما روى وابن عمر قصر في مسيرة يوم تام كما في الموطأ، فلو كان الحديث عنده لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه.

"وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه لأهل الظاهر؛ لأن المراد أنه صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى مكة في حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعا، ثم سافر فأدركته العصر وهو مسافر بذي

ص: 154

دلالة فيه قطعا. والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدان على جواز القصر من حين يخرج من البلد، فإنه حينئذ يسمى مسافرا.

وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهي ستة عشر فرسخا، وهي أربعة برد. والميل من الأرض منتهى مد البصر؛ لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه. وبذلك جزم الجوهري. وقيل: حده أن تنظر إلى الشخص في أرض مصطحبة فلا تدري أهو رجل أو امرأة. أو آت.

قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، وقد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن بمصر والحجاز في هذه

الحليفة فصلاها ركعتين، وليس المراد أن ذا الحليفة غاية سفره فلا دلالة فيه قطعا" ولعل وجه تمسكهم بالحديث أنه قصر قبل سير أربعة برد وإلا فكيف يسوغ الاستدلال مع تصريحه بأنه خرج يريد مكة.

"والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدان على جواز القصر من حين يخرج من البلد، فإنه حينئذ يسمى مسافرا" فسفره صلى الله عليه وسلم انعقد بمجاوزته المدينة لقصده مكة وبينهما أيام عديدة "وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلا هاشمية" نسبة لبني هاشم، لتقديرهم لها وقت خلافتهم لا لهاشم نفسه، كما وقع للرافعي قاله شارح البهجة "وهي ستة عشر فرسخا" فارسي معرب، قاله الفراء وهو ثلاثة أميال "وهي أربعة برد" بضم الموحدة والراء وتسكن "والميل من الأرض منتهى مد البصر" فيه مسامحة؛ لأن هذا غاية الميل، ولذا قال القاموس: الميل قدر مد البصر سمي ميلا؛ "لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى" أي ينتهي "إدراكه، وبذلك جزم الجوهري، وقيل: حده أن تنظر" أي: نطرك، لكن الميل ليس نفس النظر، فإما أنه أطلق الأثر على المؤثر، أو أنه على حذف مضاف، أي: أثر نظرك "إلى الشخص في أرض مصطحبة" مستوية "فلا تدري أهو رجل أو امرأة أو ذاهب أو آت، قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وشرون أصبعا معترضة معتدلة" والأصبع ست شعيرات معترضة معتدلة. انتهى.

قال الحافظ: وهذا الذي قاله هو الأشهر، ومنهم من عبر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان، وقيل: هو أربعة آلاف ذراع، وقيل: ثلاثة آلاف ذراع، ذكره صاحب البيان وقيل: وخمسمائة صححه ابن عبد البر، وقيل: هو ألفا ذراع، ومنهم من عبر عن ذلك بألف خطوة للجمل "و" هذا الذراع الذي حرره النووي "قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن بمصر والحجاز في هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا

ص: 155

الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن. فعلى هذا فالميل بذراع الحديد خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا، وهذه فائدة جليلة قل من تنبه لها.

وروى البيهقي عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين، أي يقصران في أربعة برد فما فوقها. وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم. ورواه بعضهم في صحيح ابن خزيمة مرفوعا من رواية ابن عباس.

وقد كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر عليه الصلاة والسلام فرضت أربعا.. رواه البخاري من حديث عائشة، لكن يعارضه حديث ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. رواه مسلم. وجمع بينهما بما يطول ذكره.

فالميل بذراع الحديد" زاد الحافظ على القول المشهور: "خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا، وهذه فائدة جليلة قل من تنبه لها" وفي الفتح: نفيسة قل من نبه عليها.

"وروى البيهقي عن عطاء" بن أبي رباح "أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين، أي: يقصران في أربعة فما فوقها، وذكره البخاري في صحيح تعليقا" بلا إسناد "بصيغة الجزم" فيكون صحيحا، فقال: وكان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد "ورواه بعضهم في صحيح ابن خزيمة مرفوعا من رواية ابن عباس" الذي في الفتح، وقد روي عن ابن عباس مرفوعا، أخرجه الدارقطني وابن شيبة من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان"، وهذا إسناد ضعيف من أجل عبد الوهاب "وقد كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين" بالتكرار "فلما هاجر عليه الصلاة والسلام فرضت أربعا، رواه البخاري" هكذا في الهجرة وأخرجه في مواضع بنحوه، وكذا مسلم بنحوه، كلاهما "من حديث عائشة لكن يعارضه حديث ابن عباس" قال:"فرضت الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، رواه مسلم" بلفظ: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم -صلى الله عليه وسل- في الحضر أربعا، وفي السفر: ركعتين، وفي الخوف: ركعة، وله أيضا أن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعا والخوف ركعة "وجمع بينهما بما يطول ذكره" ومن جملته أن هذا إخبار بما استقر عليه الفرضان، وحديث عائشة في بدء الأمر، وقوله في الخوف ركعة، أي: مع الإمام، وسكت عن الأخرى للعلم بأنه يتمها لنفسه وحده.

ص: 156

ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ويؤيده ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية. ذكره الدولابي، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما.

الفرع الثاني: في القصر مع الإقامة

عن أنس قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي

وقال الحافظ: الذي يظهر لي وبه يجمع بينهما أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح، كما روي ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة، قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار، وعقب الحافظ هذا بقوله:"ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ويؤيده ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند" للإمام الشافعي: "أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة".

قال الحافظ: وهو مأخوذ من قول غيره أن نزول آية الخوف كان فيها "وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية" بالنون "ذكره الدولابي" بفتح الدال أفصح من ضمها، زاد الحافظ وأورده السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو نحوه "وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما".

قال الحافظ: فعلى هذا، فقول عائشة: فأقرت صلاة السفر، أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف؛ لأنها استمرت منذ فرضت، فلا يزم من ذلك أن القصر عزيمة، قال: وأما قول الخطابي وغيره أن قول عائشة غير مرفوع وأنها لم تشهد فرض الصلاة ففيه نظر، أما أولا فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع، وأما ثانيا فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي، وهو حجة لاحتمال أنها أخذته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي أدرك ذلك، وقول إمام الحرمين: لو ثبت لنقل متواترا فيه نظر؛ لأن التواتر في مثل هذا غير لازم. انتهى.

"الفرع الثاني: في القصر مع الإقامة: عن أنس قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة" أي: إلى الحج، كما في رواية مسلم "فكان يصلي ركعتين ركعتين"

ص: 157

ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا. رواه البخاري، ومسلم مختصرا قال: أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة يقصر الصلاة.

وعن ابن عباس قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر الصلاة. فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتمنا. رواه البخاري.

وفي رواية أبي داود: أنه صلى الله عليه وسلم أقام سبعة عشر بمكة يقصر الصلاة. قال ابن عباس: فلو أقام أكثر أتم. والرواية الأولى بتقديم التاء على السين، والثانية بتقديم السين على الموحدة.

ولأبي داود، من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين. وله طريق ابن إسحاق عن

بالتكرار لإفادة عموم التثنية، زاد في رواية البيهقي إلا المغرب "حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له:" القائل يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي راوي الحديث عنه، ففي الصحيحين، قلت:"أقمتم بمكة شيئا، قال: أقمنا بها عشرا" لفظ البخاري، ولفظ مسلم: قلت: كم أقام بمكة؟، قال: عشرا "رواه البخاري ومسلم" هكذا مطولا هنا، ورواه البخاري في فتح مكة "مختصرا" بلفظ.

"قال" أنس: "أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة" من الأيام رواية أبي ذر ولغيره عشرا "يقصر الصلاة" بضم الصاد "وعن ابن عباس قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم" زاد البخاري في المغازي: بمكة "تسعة عشر" يوما بليلته "يقصر الصلاة" الرباعية بضم الصاد وضبطه المنذر بضم الياء وشد الصاد من التقصير، قاله المصنف:"فنحن إذا سافرنا" فأقمنا "تسعة عشر" بفوقية فسين "قصرنا، وإن زدنا أتممنا".

قال الحافظ: ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى في روايته بالمراد، ولفظه: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر، ويؤيده قوله صدر الحديث: أقام، وللترمذي: فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا "رواه البخاري" هنا، وفي المغازي من إفراده عن مسلم، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه في الصلاة.

"وفي رواية أبي داود" عن ابن عباس؛ "أنه صلى الله عليه وسلم أقام سبعة عشر بمكة يقصر الصلاة، قال ابن عباس: فلو أقام أكثر أتم والرواية الأولى" أي: رواية البخاري "بتقديم التاء" الفوقية "على السين، والثانية" رواية أبي داود "بتقديم السين على الموحدة، ولأبي داود من حديث عمران بن حصين، غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا

ص: 158

الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يوما يقصر الصلاة.

وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف: بأن من قال: "تسعة عشر" عد يومي الدخول والخروج، ومن قال:"سبعة عشر" حذفهما، وأما رواية "خمسة عشر" فضعفها النووي في "الخلاصة" وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، فإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبعة عشر، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية "تسعة عشر" أرجح الروايات.

وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في

ركعتين؛" لأنه لم ينو الإقامة "وله من طريق" محمد "بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله" بضم العين ابن عبد الله، بفتحها ابن عتبة، بضمها ففوقية "عن ابن عباس: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يوما يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسعة عشر عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبعة عشر حذفهما" ومن قال: ثمانية عشر عد أحدهما كما هو باقي جمع البيهقي في فتح الباري.

"وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس" تضعيفه "بجيد؛ لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك" بكسر العين ابن مالك عن عبيد الله كذلك، أي: بلفظ خمسة عشر "وإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبعة عشر" بسين فموحدة "فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر" بفوقية فسين "أرجح الروايات.

زاد الحافظ: وبهذا أخذ إسحاق بن راهوية، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا "وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين" ثمانية عشر "لكن محله عنده فيمن لم يزمع" بضم التحتية وسكون الزاي وكسر الميم وعين مهملة، أي: يجمع ويثبت "الإقامة" أي: ينوها "فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع" نوى "الإقامة في

ص: 159

أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها، أو: لا.

ولا معارضة بين حديث ابن عباس وحديث أنس؛ لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس كان في حجة الوداع. وفي حديث ابن عباس: قدم صلى الله عليه وسلم وأصحابه -يعني مكة- لصبح رابعه، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة، بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قاله أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه قدم في اليوم الرابع وخرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر في منى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا، متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: لما كان الأصل في المقيم الإتمام فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حالة السفر أكثر من تلك المدة

أول الحال على أربعة أيام أتم على خلاف بين أصحابه" أي: الشافعي، ويقع في نسخ الصحابة وهو تحريف فالذي في الفتح أصحابه "في دخول يومي الدخول والخروج فيها أو لا" أي: وعدم دخولهما وهو المعتمد فلا يحسبان عندهم "ولا معارضة بين حديث ابن عباس وحديث أنس" المذكورين؛ "لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس كان في حجة الوداع" كما في مسلم.

"وفي حديث ابن عباس" عند البخاري ومسلم: "قدم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعني مكة، لصبح رابعة" يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي "ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام" بلياليها "كما قاله أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه قدم في اليوم الرابع وخرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر في منى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام" ثم يتم "فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا، متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس" هي أن يقال: "لما كان الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم

ص: 160

جعلها غاية للقصر. والله أعلم.

الفصل الثاني: في الجمع

وفيه فرعان أيضا:

الفرع الأول: في جمعه صلى الله عليه وسلم

عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر في وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.

وفي رواية: أنه كان إذا أراد أن يجمع بين صلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر.

وفي أخرى: كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع

يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حالة السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر، والله أعلم" وهذا كله اغترفه المصنف من الفتح بلا عزو، قال: وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة.

"الفصل الثاني: في الجمع: وفيه فرعان أيضا" كالذي قبله.

"الأول: في جمعه صلى الله عليه وسلم" بين الظهرين وبين العشاءين "عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ" بزاي وغين معجمة، أي: تميل "الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما" في وقت العصر "فإن زاغت" مالت "الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب" مقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلا في وقت الثانية منهما، وبه احتج من أبى جمع التقديم، لكن روى هذا الحديث إسحاق بن راهوية، فقال: صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل، وكذا أخرجه الإسماعيلي والحاكم في الأربعين، وفي زيادة والعصر: قدح لا يضر.

"وفي رواية" عن أنس "أنه" قال: "كان" النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أراد أن يجمع بين صلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر" ثم يجمع بينهما كما هو بقية الرواية، أي: جمع تأخير بدليل تعبيره بثم.

"وفي أخرى" عن أنس: "كان" النبي صلى الله عليه وسلم "إذا عجل" بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر "به السير" ونسبة الفعل إليه مجاز وتوسع "يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع

ص: 161

بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، رواه البخاري ومسلم وأبو داود.

وفي راية للبخاري: كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر، يعني: المغرب والعشاء.

وفي حديث ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاتي الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء، رواه البخاري.

ولمسلم: جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.

وله ولمالك وأبي داود والنسائي: أنهم خرجوا معه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك،

بينهما" جمع تأخير "ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء" زاد مسلم: حين يغيب الشفق "رواه البخاري ومسلم وأبو داود".

"وفي رواية للبخاري" عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر، يعني المغرب والعشاء" يحتمل جمع التقديم والتأخير لكن يعينه حديث ابن عمر في الصحيحين: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب إلى أن يغيب الشفق حتى يجمع بينها وبين العشاء".

"وفي حديث ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاتي الظهر والعصر" جمع تأخير "إذا كان على ظهر سير" بالإضافة لأكثر الرواة، وللكشميهني على ظهر بالتنوين يسير بلفظ المضارع بتحتية مفتوحة أوله، قال الطيبي: ظهر سير للتأكيد كقوله: "الصدقة عن ظهر غنى"، يقع لفظ ظهر في مثل هذا اتساعا للكلام كأن السير كان مسندا إلى ظهر قوي من المطي مثلا، وقال غيره: جعل للسير ظهرا؛ لأن الراكب ما دام سائرا كأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر وظهر "ويجمع بين المغرب والعشاء، رواه البخاري ولمسلم".

عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك" سنة تسع "فجمع بين لظهر والعصر والمغرب والعشاء".

قال عياض: لم تفسر في شيء من الروايات، أي: عن ابن عباس صورة الجمع، وفسرها في حديث معاذ، فذكر رواية أبي داود الآتية.

"وله" أي: لمسلم في الفضائل، لا في هذا الباب من طريق مالك بن أنس. "ولمالك" في الموطأ "وأبي داود والنسائي" كلهم عن معاذ بن جبل "أنهم" أي: الصحابة "خرجوا مع -صلى الله عليه وسلم

ص: 162

فكان عليه الصلاة والسلام يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخروا الظهر يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ودخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا.

وفي رواية أبي داود والترمذي من حديث معاذ بن جبل: كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، فإن رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك: إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب أخر المغرب حتى ينزل العشاء، ثم يجمع بينهما.

في غزوة تبوك، فكان عليه الصلاة والسلام يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء" أي: جمع تأخير، كذا حمله الباجي "فأخروا الظهر" لفظ الموطأ ومسلم: فأخر الصلاة "يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا" جمع تأخير، وحمله بعضهم على الجمع الصوري، بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوله، ورده الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة، فلو كان صوريا لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة، وصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع "ودخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا".

قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائل؛ لأنه إنما يستعمل غالبا في الدخول إلى الخباء والخروج منه، إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرا، ثم خرج عن الطريق للصلاة، ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض، واستبعده ولا شك في بعده وفيه جمع المسافر نازلا وسائرا وكأنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وأكثر عادته ما يدل عليه حديث أنس السابق، وقد قال المالكية والشافعية: ترك الجمع أفضل للمسافر، وعن مالك رواية بكراهته. وهذه الأحاديث تخصص الأوقات التي بينها جبريل وبينها النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي بقوله في آخرها:"الوقت ما بين هذين".

"وفي رواية أبي داود والترمذي من حديث" شيخهما قتيبة بن سعيد عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة "معاذ بن جبل:" أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر" جمع تقديم "فإن رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر" فيصليهما جميعا كما في الرواية "وفي المغرب" يفعل "مثل ذلك" وأوضحه فقال: "إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب آخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم يجمع بينهما" تأخيرا، وهذا الحديث أعله جماعة من الأئمة بتفرد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري

ص: 163

الفرع الثاني: في جمعه صلى الله عليه وسلم بجمع ومزدلفة

عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. زاد البخاري في رواية: كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما.

ولمسلم: جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين.

أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة، حكاه الحاكم وله طريق آخر عند أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرة بن خالد وغيرهم، فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أباه، وجاء فيه حديث آخر عن ابن عباس مرفوعا بنحوه عند أحمد وفيه راو ضعيف، وله شاهد بنحوه عند البيهقي عن ابن عباس برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، وقد قال أبو داود: ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

"الفرع الثاني: في جمعه صلى الله عليه وسلم بجمع" أي: عرفة، قال المجد: الجمع كالمنع تأليف المتفرق، ثم قال: ويوم جمع يوم عرفة "ومزدلفة" وتسمى جمعا أيضا لاجتماع آدم وحواء بها لما أهبطا أو لغير ذلك، وهي أشهر في التسمية بجميع من عرفه.

"عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا" أي: جمع بينهما جمع تأخير، كما دل على ذلك روايات أخر منها التي تليها، وإن كان ليس في اللفظ من حيث هو ما يدل عليه؛ لأن جميعا تأكيد لصلى بالمزدلفة، فأما جمعهما فلا يدل عليه، وإن كان الواقع أنه جمع بينهما للروايات الأخر؛ ولأنه إنما نفر من عرفة بعد الغروب، فلا يمكن أن يصل المزدلفة قبل العشاء "رواه البخاري" من طريق ابن أبي ذئب "ومسلم" عن يحيى، عن مالك "ومالك" في الموطأ "وأبو داود" عن القعنبي، عن مالك، وهو وابن أبي ذئب عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه.

"زاد البخاري في رواية" لهذا الحديث: "كل واحد منهما بإقامة ولم يسبح بينهما" أي: لم ينتفل لإخلاله بالجمع الذي يجعلهما كصلاة واحدة فوجب الولاء كركعات الصلاة، ولولا اشتراط الولاء لما ترك صلى الله عليه وسلم الرواتب "ولمسلم" أن النبي صلى الله عليه وسلم "جمع بين المغرب والعشاء بجمع" بفتح الجيم وإسكان الميم، أي: المزدلفة "وصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين" قصرا.

ص: 164

وفي حديث أبي أيوب الأنصاري، عند البخاري ومسلم: جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء في المزدلفة.

وفي رواية ابن عباس، عند النسائي: صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة.

وفي رواية جعفر بن محمد عن أبيه عند أبي داود: صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة، ولم يسبح بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما.

الفصل الثالث: في صلاته صلى الله عليه وسلم النوافل في السفر

عن ابن عمر قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا

"وفي حديث أبي أيوب" خالد "الأنصاري عند البخاري ومسلم" أنه صلى الله عليه وسلم "جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء في المزدلفة" جمع تأخير.

"وفي رواية ابن عباس عند النسائي: صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة" وبه قال بعض الأئمة، قال مالك والشافعي وغيرهما بإقامتين لحديث أمامة في الصحيحين، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أقيمت العشاء فصلاها واختلف هل يؤذن لكل منهما وهو قول مالك أولا وهو قول الشافعي.

"وفي رواية جعفر بن محمد عن أبيه عند أبي داود: صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة ولم يسبح" أي: ينتفل "بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع" أي: مزدلفة "بأذان واحد وإقامتين" وبه قال الشافعي في القديم وابن الماجشون واختاره الطحاوي "ولم يسبح بينهما" لئلا يخل بالجمع.

"الفصل الثالث: في صلاته صلى الله عليه وسلم النوافل في السفر" أي: بيان ما كان يفعله من صلاتها تارة وعدمها أخرى.

"عن ابن عمر قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم" عدة أسفار في زمانه "و" سافرت مع "أبي بكر" في خلافته "و" مع "عمر" في خلافته "و" مع "عثمان" في خلافته، فالمراد أنه سافر مع كل في الزمن الذي تنسب إليه المعية بكونه متبوعا، ولا يتوهم أن المراد مجتمعين في سفر واحد؛ لأنهم إذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسب إلى واحد منهم فعل، ولا أنه يكون متبوعا حتى يقول معه، وكذا إذا كان الأمير الصديق، فإنما تنسب المعية إليه، وهكذا والأحاديث صريحة في هذا.

"فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين" بالتكرار، لإفادة عموم التثنية لكل منهما.

ص: 165

يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ولا يصلى قبلها ولا بعدها، وقال ابن عمر: لو كنت مصليا قبلها أو بعدها لأتممتها. رواه الترمذي.

وفي رواية: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر، أي يتنفل للرواتب التي قبل الفرائض وبعدها. وذلك مستفاد من قوله في الرواية الأخرى، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين.

قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل أن يريد به: لا يزيد على عدد

قال الحافظ: وفي ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره يتم، فيحمل على الغالب، أو المراد أنه كان لا ينتفل في أول أمره ولا في آخره، أو أنه إنما كان يتم إذا كان نازلا، وأما إذا كان سائرا فيقصر، وهذا أولى. انتهى. يعني لما في مسلم عن ابن عمر: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] مع أن مسلما روى أيضا عن ابن عمر: أن عثمان صلاها بمنى ركعتين ثمان سنين أو ست سنين، ثم أتمها بعد، وقد جمع أيضا بأنه كان يتم بمنى ويقصر في غيرها "ولا يصلي" بضم الياء وفتح اللام مشددة مبني للمفعول، أي: ما كان أحد منهم يصلي نفلا "قبلها ولا بعدها" بالإفراد، أي: الفريضة، ويقع في نسخ قبلهما: ولا بعدهما بالتثنية، فإن كانت صحيحة فالضمير للظهر والعصر.

"وقال ابن عمر: لو كنت مصليا" أي: مريدا للصلاة "قبلها أو بعدها" نفلا "لأتممتها" لكني لا أريد ذلك؛ لأني لم أره صلى الله عليه وسلم يفعله والخير في اتباعه "رواه الترمذي" بهذا اللفظ وهو في الصحيحين بنحوه.

"وفي رواية" عن ابن عند الشيخين، قال:"صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر" وقد قال اله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، "أي: يتنفل للرواتب التي قبل الفرائض وبعدها" سميت النافلة تسبيحا من تسمية الكل باسم الجزء لاشتمالها عليه، والتسبيح في الفريضة نافلة فناسب تسميتها به "وذلك مستفاد من قوله في الرواية الأخرى" عند البخاري عقب التي قبلها عن ابن عمر: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم "فكان لا يزيد في السفر على ركعتين".

"قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ" الثاني "يحتمل أن يريد به لا يزيد على عدد ركعات

ص: 166

ركعات الفرض، فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القسر، ويحتمل أن يريد: لا يزيد نفلا، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك.

وفي رواية مسلم: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله فجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، فقال: لو كنت مسبحا لأتممت.

قال النووي: وأجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهي إلى خيرة المصلي، فطريق الرفق به أن تكون مشروعة، ويخير فيها. انتهى.

الفرض فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر" للرباعية "ويحتمل أن يريد لا يزيد نفلا، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك" الشامل للقصر وترك التنفل.

"وفي رواية مسلم" ما يدل على الثاني، فإنه أخرجه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه، ولفظه عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه قال:"صحبت ابن عمر" يعني: عمه عبد الله "في طريق مكة فصلى لنا" باللام "الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله" أي: وصل منزله "فجلس وجلسنا معه فحانت" أي: وقعت "منه التفاتة" بلا قصد "فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟، قلت: يسبحون" أي: يتنفلون "فقال: لو كنت مسبحا لأتممت" صلاتي يا ابن أخي ولم أقصر.

قال المازري: وبيان الملازمة أن القصر شرع تخفيفا، فلو شرعت النافلة فيه لكان إتمام الفرض أولى، وحتج ابن عمر لما قال بقوله: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله إلى آخر ما قدمته، وذهب الجمهور إلى استحباب النوافل في السفر للأحاديث المطلقة في ندب الرواتب.

"قال النووي: وأجابوا عن قول ابن عمر هذا" أي: لو كنت.. إلخ "بأن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها" أي: وجب فيعصي بتركه "وأما النافلة فهي إلى خيرة المصلي" إن شاء صلى وأثيب، وإن شاء ترك ولا شيء عليه "فطريق الرفق به أن تكون مشروعة وبخير فيها. انتهى".

ص: 167

وتعقب: بأن مراد ابن عمر بقوله: "لو كنت مسبحا لأتممت" يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم.

وفي البخاري، من حديث ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته، وبوب عليه "باب الوتر في السفر"، وأشار به إلى الرد على من قال:"أنه لا يسن الوتر في السفر"، وهو منقول عن الضحاك، وأما قول ابن عمر:"لو كنت مسبحا في السفر لأتممت" كما أخرجه مسلم، فإنما أراد به راتبة المكتوبة، لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بين من سياق الحديث المذكور عند الترمذي من وجه آخر بلفظ:"لو كنت مصليا قبلها أو بعدها لأتممت" وأما حديث عائشة عند البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها فليس بصريح في فعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء.

"وتعقب بأن مراد ابن عمر بقوله: لو كنت مسبحا لأتممت، يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر" الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا "التخفيف" على المسافر، وهو يتناول ترك الإتمام وترك النوافل "فلذلك كان" ابن عمر "لا يصلي الراتبة ولا يتم" في السفر.

"وفي البخاري" ومسلم "من حديث ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته، وبوب عليه" البخاري "باب الوتر في السفر وأشار به" عبارة الحافظ أشار بهذه الترجمة "إلى الرد على من قال: أنه لا يسن الوتر في السفر وهو منقول عن الضحاك، وأما قول ابن عمر: لو كنت مسبحا في السفر لأتممت" الفريضة "كما أخرجه مسلم" وأبو داود "فإنما أراد به راتبة المكتوبة لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بين من سياق الحديث المذكور عند الترمذي من وجه آخر، بلفظ. لو كنت مصليا قبلها" أي: الفريضة "أو بعدها لأتممت" ومر لفظه قريبا زاد الحافظ: ويحتمل أن تكون التفرقة بين نوافل النهار ونوافل الليل، فإن ابن عمر كان يتنفل على راحلته وعلى دابته في الليل وهو مسافر، وقد قال مع ذلك ما قال، وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف عن ابن عمر بأنه كان يمنع التنفل على الأرض ويقول به على الدابة.

"وأما حديث عائشة عند البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها، فليس بصريح في فعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحوال وهو الإقامة والرجال أعلم بسفره من النساء".

ص: 168

وأجاب النووي -تبعا لغيره- بما لفظه: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، أو لعله تركها في بعض الأوقات لبيان الجواز.. انتهى.

وفي رواية الترمذي من حديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين.

وفي رواية: صليت معه في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين. وصليت معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يصل بعدها شيئا، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص في حضر ولا سفر، وهي وتر النهار وبعدها ركعتين.

وفي حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين قبل الصبح، ثم صلى الصبح كما كان يصلي.

"وأجاب النووي تبعا لغيره بما لفظه: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، أو لعله تركها في بعض الأوقات لبيان الجواز" ولخشية اقتدائهم به، فيشتغلون بالنوافل فيفوتون مصالح السفر. "انتهى".

قال الحافظ: وأظهر من هذا أن نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة، فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، كالتهجد والوتر والضحى، والفرق بين ما قبلها وما بعدها أن التطوع قبلها لا يظن أنه منها؛ لأنه ينفصل عنها بالإقامة وانتظار الإمام غالبا، ونحو ذلك بخلاف ما بعدها، فإن في الغالب يتصل بها، فقد يظن أنه منها.

"وفي رواية الترمذي من حديث ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في السفر ركعتين وبعدها ركعتين" لا ينافي هذا قوله أولا: ولا يصلي قبلها ولا بعدها؛ لأنه سافر معه مرات، ففي بعضها رآه، وفي بعضها لم يره يصلي، فأخبر عنه بما رأى.

"وفي رواية" عنه: "صليت معه" صلى الله عليه وسلم "في الحضر والسفر، فصليت معه الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وصليت معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين والعصر ركعتين، ولم يصل بعدها شيئا؛" لأنه لا يتنفل بعدها "والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص في حضر ولا سفر وهي وتر النهار وبعدها ركعتين".

"وفي حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح، أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين قبل الصبح، ثم صلى الصبح كما كان يصلي" أي: في الأداء، زاد الحافظ ولمسلم من حديث أبي هريرة في هذه القصة أيضا، ثم دعا بماء فتوضأ ثم صلى سجدتين، أي: ركعتين،

ص: 169

وقول صاحب "الهدي" إنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة صلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلا ما كان من سنة الفجر. يرد على إطلاقه ما قدمناه في رواية الترمذي من حديث ابن عمر. وما رواه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا، فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر، وكأنه لم يثبت عنده ذلك، لكن الترمذي استغربه، ونقل عن البخاري أنه رآه حسنا، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر.

الفصل الرابع: في صلاته صلى الله عليه وسلم التطوع في السفر على الدابة

عن ابن عمر: كان رسول الله عليه وسلم يصلي سبحته حيثما توجهت به ناقته.

ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة. وللدارقطني وابن خزيمة عن بلال في هذه القصة، فأمر بلالا فأذن ثم توضأ فصلوا ركعتين ثم صلوا الغداة، ونحوه للدارقطني عن عمران بن حصين.

"وقول صاحب الهدي" ابن القيم؛ "أنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة صلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلا ما كان من سنة الفجر يرد على إطلاقه ما قدمناه" قريبا "في رواية الترمذي من حديث ابن عمر" من قوله وبعدها، أي: الظهر ركعتين وبعد المغرب ركعتين "و" يرد عليه أيضا "ما رواه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب، قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت" بزاي وغين معجمة مالت "الشمس قبل الظهر وكأنه لم يثبت عنده ذلك، لكن الترمذي استغربه" أي: قال: حديث غريب فقط ولم يضعفه.

"ونقل عن" شيخه "البخاري أنه رآه حسنا" والحسن لا ينافي الغرابة؛ لأنها تأتي بمعنى التفرد "وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر" فلا ينافي عدم صلاته الرواتب؛ لأنها ليست منها على هذا الوجه.

"الفصل الرابع: في صلاته صلى الله عليه وسلم التطوع في السفر على الدابة

عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي" في السفر "سبحته" أي: نافلته، والتسبيح حقيقة في قول: سبحان الله، فإذا أطلق على الصلاة فهو من إطلاق اسم البعض على الكل، أو لأن المصلي منزه لله سبحانه بإخلاص العبادة والتسبيح تنزيه فيكون من باب الملازمة، وأما اختصاص ذلك بالنافلة فهو عرف شرعي "حيثما توجهت به ناقته" في جهة سفره لما علم أن

ص: 170

وفي رواية: يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيث كان وجهه وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] .

وفي رواية: رأيته صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو موجه إلى خيبر.

وفي رواية: أنه كان يوتر على البعير، رواه مسلم.

وقد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار، في جواز التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل المصلي القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك ما في حديث أنس عند أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث

الراكب لا يترك مركوبه هملا يسير كيف اتفق فصوب طريقه بدل من القبلة.

"وفي رواية" عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة" على الراحلة "حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقيل: لما حولت القبلة وأنكرت اليهود، وقيل: غير ذلك.

قال الرازي: فإن قيل: أي الأقوال أقرب إلى الصواب، فالجواب أن الآية تشعر بالتخيير وإنما يثبت في صورتين إحدهما في التطوع على الراحلة، والثانية في السفر عند تعذر الاجتهاد في الظلمة أو غيرها، ففي هذين الوجهين المصلي مخير.

"وفي رواية" عن عمرو بن يحيى المازني عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر قال:"رأيته صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو موجه" بكسر الجيم المشددة، أي: متوجه "إلى خيبر" بخاء مجمة آخره راء مهملة، أو قاصد أو مقابل بوجهه إليها.

"وفي رواية" عن سعيد بن يسار عن ابن عمر: "أنه" صلى الله عليه وسلم "كان يوتر" يصلي الوتر "على البعير" في السفر، وإنما يجب الوتر عليه بالحضر وعلى وجوبه عليه مطلقا، فمن خصائصه أيضا فعله على البعير "رواه" أي: المذكور من الروايات الأربع "مسلم" والأخيرة رواها البخاري بلفظها والأولى والثانية عنده بنحوهما، وإنما من أفراده الثالثة.

"وقد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار في جواز التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت" سواء كان إلى القبلة أو غيرها، فصوبها بدل لا يجوز العدول عنه إلا إلى القبلة "إلا أن أحمد وأبا ثور" إبراهيم بن خالد الفقيه "كانا يستحبان أن يستقبل المصلي القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة" كذا خصهما تبعا للفتح مع أن الشافعية اشترطوا الاستقبال في الإحرام إن سهل كما في البهجة وشرحها "والحجة لذلك ما في حديث أنس عند أبي داود" بإسناد حسن؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث

ص: 171

توجهت ركابه.

وذهب الجمهور إلى جواز التنفل على الدابة سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، إلا مالكا فخصه بالسفر الطويل، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك. وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك.

وقوله: "يصلي على حمار"، قال النووي: قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، وإنما المعروف في صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلة أو بعير. والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم. ثم قال: في

توجهت ركابه" أي: إلى جهة قصده الذي وجهها إليه.

"وذهب الجمهور إلى جواز التنفل على الدابة سواء كان السفر طويلا أو قصيرا إلا مالكا فخصه بالسفر الطويل" وهو سفر القصر "وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك" فيقصر على مورد النص ولا يتعداه إلى القصير؛ لأن الأصل استقبال القبلة، خص منه ذلك بالفعل النبوي فبقي ما عداه على الأصل.

"وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك؛" لأنها ليس فيها تحديد سفر ولا تخصيص مسافة، فشملت كل ما يسمى سفرا، لكن حصول الفعل النبوي في الطويل قاض لمالك.

"وقوله: يصلي على حمار، قال النووي: قال الدارقطني وغيره" كالنسائي "هذا غلط من عمرو" بفتح العين "ابن يحيى المازني، وإنما المعروف" في حديث ابن عمر "في صلاته عليه السلام" لفظ "على راحلته" كما في الصحيحين لمسلم على ناقته "أو" على "بعير" كما في رواية أخرى لهما فليست، أو للشك من الراوي كما يوهم "والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره" أي: رواه "مسلم" وكذا البخاري عن أنس.

قال ابن سيرين: تلقينا أنس بن مالك حين قدم من الشام، فرأيته يصلي على حمار ووجهه ذلك الجانب، يعني عن يسار القبلة، فقلت له: رأيتك تصلي لغير القبلة، قال: لولا ني أيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله لم أفعله.

قال الحافظ: هل يؤخذ منه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار، فيه احتمال نازع فيه الإسماعيلي بأنه خبر أنس إنما هو في صلاته صلى الله عليه وسلم راكبا تطوع لغير القبلة، فإفراد البخاري الترجمة في الحمار من جهة السنة لا وجه له عندي. انتهى، أي: بقوله: باب صلاة التطوع على الحمار، وساق حديث أنس المذكور، لكن قال الحافظ: قد روى السراج من طريق يحيى بن سعيد عن

ص: 172

تغليط راويه؛ لأنه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة أو مرات، لكن قد يقال: إنه شاذ مخالف لرواية الجمهور، والشاذ مردود. انتهى.

وعن يعلى بن مرة عن أبيه عن جده، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا، السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فصلى بهم يومئ إيماء، يجعل السجود أخفض من الركوع. رواه الترمذي.

أنس، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو ذاهب إلى خيبر إسناده حسن وله شاهد عند مسلم، فذكر حديثه هذا ثم قال: فهذا يرجح الاحتمال الذي أشار إليه البخاري. "ثم قال" النووي "وفي تغليط راويه نظر؛ لأنه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة أو مرات" فحدث ابن عمر بكل منهما "لكن قد يقال: إنه شاذ مخالف لرواية الجمهور والشاذ مردود" وإن كان راويه ثقة. "انتهى" كلام النووي، لكن أشار الحافظ إلى دفع الشذوذ بأن عمرو بن يحيى تابعه في شيخ شيخه أنس عند السراج بإسناد حسن كما رأيت، وكذا تابعه شقران، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى خيبر على حمار يصلي عليه، أخرجه الطبراني.

"وعن يعلى بن مرة" بن وهب بن جابر الثقفي شهد الحديبية وما بعدها وأبوه مرة يقال: إن له صحبة، فإن ثبت الإسناد كما في التقريب فالصواب حذف قوله "عن أبيه عن جده" إذ لا صحبة لجده قطعا، والحديث إنما هو ليعلى نفسه كما قدمه المصنف في المقصد الأول "أنهم كانوا" أي: الصحابة "مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره، فانتهوا إلى مضيق:" محل ضيق في الطريق "فحضرت الصلاة فمطروا السماء" أي: المطر "من فوقهم والبلة" بكسر الموحدة: البلل "من أسفلهم، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته" ناقته الصالحة؛ لأن يرحل عليها "فصلى بهم يومئ" بالهمز "إيماء يجعل السجود" أي: الإيماء له "أخفض من" إيماء "الركوع" تمييزا بينهما وليكون البلد على وفق الأصل "رواه الترمذي" هكذا في النسخ الصحيحة خلاف ما في نسخ البيهقي، والصواب الترمذي كما مر في المقصد الأول، ومر أن بعض الناس تعلق بقوله: فأذن على أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، وأن الحافظ تبعا للسهيلي رده بأن أحمد رواه من الوجه الذي رواه منه الترمذي، فقال: فأمر بلالا فأذن، فعلم أن في رواية الترمذي اختصارا وأن قوله:"أذن" معناه أمر؛ لأن المفصل يقضي على المجمل لا سيما والمخرج متحد.

ص: 173

القسم الرابع: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الخوف

عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال: "لا"، فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله"، قال: فهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فغمد السيف وعلقه، فأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان. رواه البخاري

"القسم الرابع: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الخوف"

أي: صلاة الفرض فيه "عن جابر" بن عبد الله" قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا" بالموضع الذي سميت غزوتنا إليه "بذات الرقاع" جمع رقعة، سميت الغزوة بذلك؛ لأنهم عصبوا أرجلهم بالخرق لما رقت وقطعت الأرض جلودها من الحفاء أو لغير ذلك، وهي غزوة بني محارب وبني ثعلبة وأنمار، فليس المراد أن ذات الرقاع اسم موضع كما قد يتوهم، وقد مر ذلك موضحا في المغازي "فإذا أتينا" إذا ظرفية لا شرطية، أي: في وقت إتياننا "على شجرة ظليلة" ذا ظل "تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم" لينزل تحتها فيستظل بها.

وفي رواية للبخاري عن جابر أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل قفل معه، فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاء، فنزل صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بظل الشجر، ونزل صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فنمنا نومة "فجاء رجل من المشركين" اسمه غورث، بمعجمة أوله ومثلثة آخره وزن جعفر، وحكي غويرث بالتصغير "وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه" بخاء معجمة ساكنة وطاء مهملة، يعني سله من غمده "فقال: تخافني، فقال:"لا"، فقال: من يمنعك مني؟ " زاد في رواية للبخاري ثلاث مرات، وهو استفهام إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد؟ "قال: "الله" يمنعني منك "قال: فهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فغمد السيف وعلقه" بالشجرة.

قال الحافظ: ظاهره يشعر أنهم حضروا القصة، وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد وليس كذلك، ففي رواية البخاري في الجهاد بعد قوله: قلت: "الله" فشام السيف بفاء ومعجمة، أي: أغمده وهي من الأضداد شامه استله وأغمده، وكان الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه وتحقق صدقه وعلم أنه لا يصل إليه شام السيف، وأمكن من نفسه "فأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين" لفظ البخاري ولفظ مسلم: فصلى بالطائفة، أي: الأولى ركعتين "ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات

ص: 174

ومسلم.

ولمسلم: فصففنا صفين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه -الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى -فقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر

وللقوم ركعتان"، قال النووي: أي: صلى بالطائفة الأولى ركعتين وسلم وسلموا والثانية كذلك، فكان متنفلا وهم مفترضون. انتهى".

وتعقب بأنه لم يسلم من الفرض في حديث جابر المذكور في الصحيح، فالأظهر أن معنى: وللقوم ركعتان، أي: في الجماعة والركعتان أتموهما لأنفسهم، ويكون فعل ذلك لبيان جواز الإتمام في السفر "رواه البخاري" في الجهاد وفي المغازي "ومسلم" في الصلاة "ولمسلم" هنا عن جابر، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف "فصفنا" بشد الفاء، وفي رواية:"فصففنا"، أي: النبي صلى الله عليه وسلم "صفين" صف "خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: وصف مؤخر عنه "والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي -لى الله عليه وسلم- وكبرنا" عقبه "جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا" معه "جميعا" رؤوسنا، وجميعا هنا للتأكيد "ثم انحدر بالسجود" الانحدار يقتضي السرعة في الهوي، وبالسجود يتعلق بانحدار والباء للمصاحبة، أي: ملتبسا بالسجود، أو بمعنى اللام وتسمى لام التعليل "و" كذا "الصف الذي يليه" معه وهو الأقرب "وقام الصف المؤخر في نحر العدو" أي: قبل وجوههم وصدورهم من النحر الذي هو موضع القلادة من الصدر "فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود" أي: انفصل منه، والمراد الجنس فيعم السجدتين "وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا" هذا يقتضي أن الحراسة إنما كانت في السجود لا غير، وأن العدو كان في جهة القبلة "ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى" صفة أخرى للصف، أو للذي، أو بدل منها "فقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف" بالرفع "الذي يليه" موضعه رفع صفة الصف "انحدر الصف

ص: 175

بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا.

ولمسلم والبخاري أيضا من حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى معه صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.

قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.

المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا" عقبه، وهذه صفة غير السابقة، صلاها مقصورة وصلوا جميعا معه، وكان العصر كما في رواية تلي هذه عند مسلم.

"ولمسلم" هنا "والبخاري أيضا" في المغازي، كلاهما "من حديث" مالك عن "يزيد بن رومان" بضم الراء المدني مولى آل الزبير، مات سنة ثلاثين ومائة "عن صالح بن خوات" بفتح الخاء المعجمة والواو المشددة فألف ففوقية ابن جبير بن النعمان الأنصاري المدني، تابعي، ثقة وأبوه صحابي أول مشاهده أحد، وقيل: شهد بدر "عمن صلى معه صلى الله عليه وسلم" قيل: هو سهل بن أبي حثمة.

قال الحافظ: والراجح أنه أبوه كما جزم به النووي في تهذيبه تبعا للغزالي، وذلك لأن أبا أويس رواه عن يزيد شيخ مالك، فقال عن صالح، عن أبيه: ويحتمل أن صالحا سمعه من أبيه ومن سهل فأبهمه تارة، وعينه أخرى، لكن قوله:"يوم ذات الرقاع" يعين أن المبهم أبوه، إذ ليس في روايته عن سهل أنه صلاها معه صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أن سهلا لم يكن في سن من يخرج في الغزاة لصغره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مات وهو ابن ثمان سنين، كما جزم به الطبري وابن حبان وابن السكن وغيرهم، لكن لا يلزم أن لا يرويها، فروايته لها مرسل صحابي، فقوي تفسير المبهم بخوات "صلاة الخوف، أن طائفة صفت" هكذا في أكثر الأصول، وفي بعضها: صلت.

قال النووي: وهما صحيحتان "معه" صلى الله عليه وسلم "و" صفت "طائفة" بالرفع، أي: اصطفوا، يقال: صف القوم إذا صاروا صفا "وجاه" بكسر الواو وضمها، أي: مقابل "العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت" حال كونه "قائما وأتموا" أي: الذين صلوا معه الركعة "لأنفسهم" ركعة أخرى "ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى" التي كانت وجاء العدو "فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا" لم يخرج من صلاته "وأتموا لأنفسهم" الركعة الأخرى "ثم سلم بهم، قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف، وما ذهب إليه

ص: 176

وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد علي ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب.

وعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وسجد سجدتين،

مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة ولكونها أحوط لأمر الحرب" إلا أن مالكا رجع عن إتمامهم لأنفسهم، ثم سلام الإمام بهم إلى ما رواه هو وغيره عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة: أن الطائفة الأولى إذا قام الإمام يتمون لأنفسهم، ثم يسلمون وينصرفون، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الركعة ويسجد بهم، ثم يسلم فيقومون فيركعون الركعة ثم يسلمون.

قال ابن عبد البر: وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن الإمام لا ينتظر المأموم، وأن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام.

"و" في الصحيحين واللفظ للبخاري من طريق الزهري "عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة "نجد" وفي غزوة ذات الرقاع ونجد كل ما ارتفع من بلاد العرب من تهامة إلى العراق "فوازينا" بالزاي قابلنا "العدو" قال الجوهري: يقال: آزيت، يعني بهمزة ممدودة لا بالواو، والذي يظهر أن أصلها الهمز، فقلبت واوا قاله الحافظ:"فصاففنا لهم" باللام، كذا رواه المستملي والسرخسي، ولغيرهما: فصاففناهم "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا" أي: لأجلنا أو بنا "فقامت طائفة معه" زاد في رواية تصلي "وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه وسجد سجدتين" زاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري: مثل نصف صلاة الصبح، وفيه إشارة إلى أنها كانت غيرها فهي رباعية، ويأتي في المغازي ما يدل على أنها كانت العصر، قاله الحافظ:"ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل" فقاموا في مكانهم في وجه العدو "فجاؤوا" أي: الطائفة الأخرى التي كانت تحرس "فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين".

قال الحافظ: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، فظاهره أنهم أتموا في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم ضياع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجحه رواية أبي داود عن ابن مسعود، بلفظ: ثم سلم فقام هؤلاء،

ص: 177

ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين.

وفي حديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوي في شرح السنة.

وعنه: أنه صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطريه، فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة

أي: الطائفة الثانية، فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا أنفسهم ركعة ثم سلموا، قال: ورجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه، وقد جوزها الشافعي وأحمد وغيرهما، وظاهر كلام المالكية امتناعها، ونقل عن الشافعي أنها منسوخة ولم يثبت عنه.

"وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل:" محل بين مكة والمدينة "فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوي في شرح السنة" وكذا البيهقي في المعرفة بسند فيه ضعف وانقطاع، ورواه الدارقطني بنحوه من وجه آخر فيه عنبسة بن سعيد ضعفه غير واحد.

"وعنه" أي: جابر أيضا "أنه صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان" بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف، قال في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلا "وعسفان" زاد في رواية مسلم عن جابر: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم" زاد الدارقطني: ومن أنفسهم "وهي العصر، فاجمعوا أمركم:" اعزموا على أمر تفعلونه "فتميلوا عليهم ميلة واحدة" بأن تحملوا عليهم فتأخذوهم "وأن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطرين" أي: طائفتين "فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم" يحرسون حتى تصلي الطائفة الأولى "وليأخذوا

ص: 178

ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان. رواه الترمذي والنسائي.

قال ابن حزم: وقد صح فيها -يعني صلاة الخوف- أربعة عشر وجها. وبينها في جزء مفرد.

وقال ابن العربي في "القبس": جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، ولم يبينها. وقال النووي نحوه في شرح مسلم ولم يبينها أيضًا.

وقد بينها الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي وزاد وجها آخر، فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل.

وقال صاحب "الهدي": أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى.

وهذا هو المعتمد، وأشار إليه الحافظ العراقي بقوله: يمكن تداخلها.

وقد حكى ابن القصار المالكي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي: أربعا وعشرين، وقال الخطابي: صلاها عليه الصلاة والسلام في أيام

حذرهم وأسلحتهم" معهم إلى أن يصلوا "فتكون لهم ركعة" مع الجماعة والأخرى أتموها لأنفسهم "ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان" كلاهما مع الجماعة "رواه الترمذي والنسائي" وأصله في مسلم.

"قال ابن حزم: وقد صح فيها، يعني: صلاة الخوف أربعة عشر وجها وبينها في جزء مفرد، وقال ابن العربي في القبس" على موطأ مالك بن أنس "جاء فيها" أي: في صفتها "روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها".

"وقال النووي نحوه في شرح مسلم: ولم يبينها أيضا، وقد بينها الحافظ زين الدين" عبد الرحيم "العراقي في شرح الترمذي، وزاد وجها آخر: فصارت سبعة عشر وجها، لكن" قال: "يمكن أن تتداخل، وقال صاحب الهدي: أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى، وهذا هو المعتمد وأشار إليه الحافظ العراقي بقوله: يمكن تداخلها، وقد حكى ابن القصار" أبو الحسن علي "المالكي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي:" صلاها "أربعًا وعشرين" مرة.

"وقال الخطابي: صلاها عليه الصلاة والسلام في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى

ص: 179

مختلفة بأشكال متباينة، يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى.

وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة، وفروع يطول ذكرها. حكاها في فتح الباري.

فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى".

وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة وفروع يطول ذكرها، حكاها في فتح الباري.

وقال السهيلي: اختلف الفقهاء في الترجيح، فقالت طائفة: يعمل منها بما هو أشبه بظاهر القرآن، وقالت طائفة: يجتهد في طلب أخيرها، فإنه الناسخ لما قبله، وطائفة: يؤخذ بأصحها نقلا وأعلاها رواة، وطائفة: يؤخذ بجميعها على حسب اختلاف أحوال الخوف، فإذا اشتد أخذ بأيسرها. انتهى.

ص: 180

القسم الخامس: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم على الجنازة

وفيه فروع أربعة:

الفرع الأول: في عدد التكبيرات

عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه. وخرج بهم إلى المصلى فصفهم وكبر عليه أربع تكبيرات. رواه البخاري ومسلم.

"القسم الخامس: في ذكر" صفة "صلاته صلى الله عليه وسلم على الجنازة" بفتح الجيم وكسرها وهو أفصح، وقيل: بالكسر للنعش، وبالفتح للميت، ولا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت "وفيه فروع أربعة:

الأول: في عدد التكبيرات: عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي" بفتح النون على المشهور، وحكي كسرها وخفة الجيم، وخطئ من شددها وتشديد الياء وحكي تخفيفها، ورجحه الصغاني وهو لقب لكل من ملك الجبشة، أي: أخبر بموته "في اليوم الذي مات فيه" في رجب سنة تسع، ففيه الإعلام ليجتمع الناس للصلاة والنعي المنهي عنه هو ما يكون معه صياح "وخرج بهم إلى المصلى" مكان ببطحان، فقوله في رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع، أي: بقيع بطحان، أو المراد بالمصلى موضع معد للجنائز ببقيع الفرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، قاله الحافظ: "فصفهم" قال جابر: كنت في الصف الثاني، رواه النسائي،

ص: 180

وعند الترمذي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كبر على جنازة فرفع يديه مع أول تكبيرة، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى.

ففيه أن للصفوف تأثيرا ولو كثر الجمع؛ لأن الظاهر أنه خرج معه كثير والمصلى فضاء لا يضيق بهم لو صفوا صفا واحدا، ومع ذلك صفهم، وهذا ما فهمه مالك بن هبيرة الصحابي، فكان يصف من يحضر صلاة الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلوا أو كثروا "وكبر عليه أربع تكبيرات" ففيه أن تكبير صلاة الجنازة أربع، واعترض بأن هذا صلاة على غائب لا على جنازة، وأجيب بأن ذلك يفهم بطريق الأولى "رواه البخاري ومسلم" كلاهما من طريق مالك وغيره عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

"وعند الترمذي من حديث أبي هريرة؛ أنه صلى الله عليه وسلم كبر على جنازة" زاد ابن أبي داود في روايته لهذا الحديث: فكبر أربعا، "فرفع يديه مع أول تكبيرة ووضع يده اليمنى على يده اليسرى".

قال ابن أبي داود: لم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعا إلا في هذا الحديث، وإنما ثبت أنه كبر على النجاشي أربعا وعلى قبر أربعا، وأما على الجنازة هكذا فلا إلا هذا الحديث.

ص: 181

الفرع الثاني: في القراءة والدعاء

نقل ابن المنذر عن ابن مسعود، والحسن بن علي، وابن الزبير، والمسور بن مخرمة، مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.

ونقل عن أبي هريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول مالك والكوفيين.

وروى عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف

"الفرع الثاني: في القراءة والدعاء نقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور"، بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو "ابن مخرمة" بخاء معجمة "مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق" بن راهويه.

"ونقل" ابن المنذر "عن أبي هريرة وابن عمر ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين" ومنهم أبو حنيفة.

"وروى عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف" بضم

ص: 181

قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأولى.

وفي البخاري عن سعد عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة، وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك في حديث جابر عند الشافعي بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي.

وعن ابن عباس قال: صلى الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب. رواه الترمذي وقال: لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: "السنة" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال.

المهملة "قال: السنة" أي: العادة "في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت" أي: لا يشرك غيره معه في الدعاء له "ولا يقرأ إلا في الأولى" أي: عقب التكبيرة الأولى.

"وفي البخاري" من إفراده عن مسلم "عن سعد" بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف "عن طلحة" بن عبد الله بن عوف "قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا" روي بفوقية على الخطاب، وتحتية على الغيبة "أنها سنة" وهذا من الصحابي له حكم الرفع عند الأكثر "وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك في حديث جابر عند الشافعي، بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي" قائلا: إن سنده ضعيف كما نقله عنه تلميذه الحافظ في الفتح، وبه قال أكثر الشافعية، لكن المعتمد عندهم ما جزم به في المنهاج أنها لا تعيين عقب الأولى.

"وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، رواه الترمذي وقال: لا يصح هذا" الحديث "والصحيح ع ابن عباس قوله: "السنة" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين" ولا شك في الفرق بينهما، إذ الأولى صريحة في الرفع باتفاق لو صحت بخلاف السنة فيدخلها الخلاف، هل لها حكم الرفع وهو قول الأكثر أو لا لاحتمال أنه أراد سنة غيره صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه بقوله:"ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال" أي: احتمال أنه أراد سنة الخلفاء، أو سنة الصلاة على الجنائز.

ص: 182

وعن عوف بن مالك: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار". قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.

وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحل جوارك، فقه من فتنة القبر

"وعن عوف" بالفاء "ابن مالك" الأشجعي من مسلمة الفتح وسكن دمشق، مات سنة ثلاث وسبعين:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه" من للتبعيض، فظاهره أنه دعا زيادة على هذا:"اللهم اغفر له وارحمه وعافه": سلمه من العذاب "واعف عنه وأكرم نزله" بضم النون والزاي وقد تسكن وهو ما يعد للنازل وهو الضيافة، أي: أحسن نصيبه من الجنة "ووسع مدخله" أي: قبره ومنزله في الجنة "واغسله بالماء والثلج والبرد".

قال الطيبي: يمكن أن ذكرهما بعد الماء لشمول أنواع الرحمة بعد المغرفة لإطفاء عذاب النار التي هي في غاية الحرارة؛ لأن عذاب النار تقابله الرحمة، فالتركيب من باب قوله: متلقلدا سيفا ورمحا، أي: اغسل خطاياه بالماء، أي: اغفرها وزد على الغفران شمول الرحمة، ثم طلب ما عسى أن يبقى من آثار الخطايا بالتنقية، فقال:"ونقه من الخطايا كما ينقى" بضم أوله مبني للمفعول نائب الفاعل، ويروى كما نقيت "الثوب الأبيض من الدنس" وخصه؛ لأنه أشد في النقاء من غيره "وأبدله": عوضه، وروى وأبدل له هما في مسلم، فما في نسخ وأنزله تصحيف "دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله" خدما وخولا، ولا تدخل الزوجة؛ لأنه خصها بالذكر، فقال:"وزوجا خيرا من زوجه" ومفهومه أن نساء الجنة أفضل من الآدميات وإن دخلن الجنة وفيه خلاف "وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر".

وفي رواية لمسلم أيضا: وقه فتنة القبر، أي: التحير في الجواب عند السؤال "ومن عذاب النار، قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأحصل ثمرة دعائه، فلا يعارضه حديث لا يتمنين أحدكم الموت؛ لأنه كما في بعض طرقه لضر نزل به وهذا عكسه "رواه مسلم" من أفراده.

"وعن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف "قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللهم إن فلان بن فلان" نسي الراوي اسمه، فعبر عنه بهذا "في

ص: 183

"وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم". رواه أبو داود.

وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده". رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

وعنه: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها، هديتها إلى الإسلام، قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها". رواه أبو داود.

"ذمتك وحل" أي: نزل "جوارك" أي فيه "فقه من فتنة القبر" أي: تحيره في الجواب عند سؤال الملكين "وعذاب النار وأنت أهل الوفاء" بالوعد، وقد قلت:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ، أي: في القبر لما يسألهم الملكان عن دينهم وربهم ونبيهم، فيجيبون بالصواب كما في حديث الشيخين "والحق" القول الصدق الواقع لا محالة:"اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم، رواه أبو داود".

"وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا" حاضرنا "وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" لعله غاير تفننا؛ لأن ما صدقهما واحد، وإذ لا يوجد شرعا مسلم إلا وهو مؤمن، وكذا عكسه، ويحتمل وهو أظهر أنه غاير؛ لأن الأعمال بالخواتيم كما قال في حديث آخر، فالنافع عند الوفاة إنما هو التصديق القلبي بخلاف حال الحياة فينفع فيه الانقياد الظاهر.

"اللهم لا تحرمنا أجره" أي: أجر الصلاة عليه وشهود جنازته أو أجر المصيبة بموته، فإن المؤمن مصاب بأخيه المؤمن "ولا تفتنا" بما يشغلنا عنك "بعده" فإن كل شاغل عن الله فتنة "رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وعنه" يعني أبا هريرة، قال:"سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أنت ربها" أي: هذه الذات أو النسمة، ويحتمل أنها كانت امرأة "وأنت خلقتها: هديتها إلى الإسلام قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها"، رواه أبو داود" فحاصل الأحاديث أنه لا يتعين دعاء مخصوص في صلاة الجنازة، والله تعالى أعلم.

ص: 184

الفرع الثالث في صلاته صلى الله عليه وسلم على القبر:

عن أبي هريرة أن امرأة سوداء كان تقم المسجد، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال:"أفلا آذنتموني"؟ قال: فكأنهم صغروا أمرهم، فقال:"دلوني على قبرها"، فدلوه فصلى عليها. رواه البخاري ومسلم.

زاد ابن حبان فقال في رواية حماد بن سلمة عن ثابت: "إن هذه القبور

"الفرع الثالث: في صلاته صلى الله عليه وسلم على القبر":

وقال بمشروعيته الأكثر، ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة، وعنهم: أن دفن بلا صلاة شرع وإلا فلا.

"عن أبي هريرة: أن امرأة سوداء" لفظ البخاري: أن رجلا أسود، أو امرأة سوداء، وفي رواية له: أن أسود رجلا أو امرأة، وفي أخرى له: إن امرأة أو رجلا قال: ولا أراه إلا امرأة، ولفظ مسلم: أن امرأة سوداء أو شابا.

قال الحافظ: الشك فيه من ثابت؛ لأنه رواه عنه جماعة هكذا، أو من أبي رافع لقوله: ولا أراه إلا امرأة، ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة: امرأة سوداء ولم يشك، وللبيهقي بإسناد حسن عن بريدة أنها أم محجن. وذكر ابن منده في الصحابة: خرقاء امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وقع ذكرها في حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، فإن كان محفوظا فهذا اسمها وكنيتها أم محجن "كانت تقم المسجد" بضم القاف، أي: تكنسه، أي: تجمع القمامة وهي الكناسة فتخرجها منه "ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، فقالوا: مات" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري في الجنائز، فمات، فلم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فذكره ذات يوم فقال: ما فعل بذلك الإنسان، قالوا: مات، وله في أحكام المساجد: فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، قالوا: مات، وعند البيهقي عن بريدة أن الذي أجابه عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق "قال:"أفلا آذنتموني" بالمد أعلمتموني "قال" أبو هريرة: "فكأنهم صغروا أمرها" أي: حقروه، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، قال: فحقروا شأنه.

قال المصنف: قصته بالنصب بتقدير نحو ذكروا قصته، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف "فقال:"دلوني على قبرها، فدلوه" عليه "فصلى عليها، رواه البخاري ومسلم" كلاهما من طريق حماد بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة.

"زاد ابن حبان، فقال في رواية حماد بن سلمة عن ثابت" أي: عن أبي رافع عن أبي هريرة: كذا وقع في فتح الباري مع أن هذه الزيادة عند مسلم بلفظها عقب قوله: على قبرها بلفظ: ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم".

ص: 185

"مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم". وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة، على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيه: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا. قال ابن حبان: في ترك إنكاره عليه الصلاة والسلام على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة.

وعن عقبة بن عامر: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف، وفي رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات. رواه أبو داود والنسائي.

قال الطيبي: هذا كالأسلوب الحكيم، يعني ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي منزلة الشفاعة له لينور قبره ويخفف من عذابه.

"وأشار" ابن حبان "إلى أن بعض المخالفين" الذين لا يرون الصلاة على القبر "احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛" لأن تنوير القبور لا يتحقق بصلاة غيره "ثم ساق من طريق خارجة بن زيد" الأنصاري أحد الفقهاء، مات سنة مائة، وقيل: قبلها "عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيه: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليها أربعا".

"قال ابن حبان" ردا على من قال خصوصية: "في ترك إنكاره عليه الصلاة والسلام على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة" فلا يتم استدلاله، زاد الحافظ: واستدل بخبر الباب على رد القول بالتفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه، بأن القصة وردت فيمن صلى عليه، وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك.

"وعن عقبة" بقاف وموحدة "ابن عامر" الجهني "أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد" الذين استشهدوا فيها "صلاته" بالنصب، أي: مثل صلاته "على الميت، ثم انصرف" فصعد المنبر.

"وفي رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين" تجوزا على طريق جبر الكسر، وإلا فهي سبع سنين ودون النصف؛ لأن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث، ومات صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، قاله الحافظ وغيره، ولعله سقط من ناسخ المصنف، ثم صعد المنبر ليلا، ثم قوله:"كالمودع للأحياء والأموات" عائد لصلاته على قتلى أحد، وللأحياء لصعوده المنبر بعد صلاته، وإنما كان كذلك؛ لأنه في آخر عمره "رواه أبو داود والنسائي" في الجنائز

ص: 186

ورواه الشيخان أيضا بلفظ: خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرط لكم". الحديث.

وفيه: الصلاة على الشهداء في حرب الكفار. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور: إلى أن لا يصلى عليهم.

وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزني، وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال.

وحجة الجمهور: أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد -كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر- وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة.

"ورواه الشيخان أيضا" البخاري في الجنائز وعلامات النبوة والمغازي، ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، كلاهما عن عقبة بن عامر "بلفظ" أن النبي صلى الله عليه وسلم "خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر" لفظ البخاري هنا، وله في المغازي كمسلم: ثم صعد المنبر أسقط من حديث الشيخين ما لفظه كالمودع للأحياء والأموات، أي: أن صعوده المنبر كالمودع للأحياء، وخروجه وصلاته على أهل أحد كالمودع للأموات "فقال:"إني فرط"" بفتح الفاء والراء "لكم" أي: سابقكم "الحديث" بقيته عند الشيخين: "وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"، والضمير لخزائن الأرض أو للدنيا المصرح بها عند مسلم والبخاري في المغازي، بلفظ: "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها "وفيه الصلاة على الشهداء في حرب الكفار"".

"وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور إلى أنه لا يصلى عليهم، وذهب أبو حنيفة" والكوفيون "إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزني وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال" بالخاء المعجمة "وحجة الجمهور أنه عيه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر" بن عبد الله "وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة".

قال الشافعي في الأم: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم

ص: 187

قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وأن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم في القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها في الأرض.

ثم إن الشافعية اختلفوا في معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحرم الصلاة عليه، وهو الصحيح عندهم. وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليه، لكن تجوز.

وذكر ابن قدامة: أن كلام أحمد في الرواية التي قال فيها يصلى عليهم: يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة.

قال ابن القاسم صاحب مالك: إنه لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين فيصلى عليهم.

يصلي على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه، قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في بعض طرقه أن ذلك كان بعد ثمان سنين، فكأنه دعا لهم واستغفر حين علم قرب أجله مودعا لهم بذلك، ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت. انتهى.

"قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت، أن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم في القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها في الأول" أي: في أول أمرهم وهو وقت موتهم "ثم إن الشافعية اختلفوا في معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحرم الصلاة عليه وهو الصحيح عندهم، وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليهم، لكن تجوز وذكر ابن قدامة أن كلام أحمد في الرواية التي قال فيها: يصلى عليه يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة" زيادة إيضاح فإن قيل: حديث جابر لا يحتج به؛ لأنه نفي وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات، أجيب بأن شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة، وإلا فتقبل باتفاق وهي قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما، وأما خبر الإثبات فيحتمل وجوها منها أن يكون من خصائصه، ومنها أن يكون المعنى الدعاء كما تقدم وغير ذلك، ثم هي واقعة عين لا عموم فيها، فكيف ينهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد تقرر، والله أعلم.

ص: 188

الفرع الرابع في صلاته صلى الله عليه وسلم على الغائب:

عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه"، قال: فصففنا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن وراءه. رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات. رواه الشيخان أيضا.

وعند البخاري من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: "فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة".

وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت في المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس.

"الفرع الرابع: في صلاته صلى الله عليه وسلم على الغائب:

عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش" بفتح الحاء المهملة والموحدة بعدها معجمة "فهلم" بفتح الميم، أي: تعالوا "فصلوا عليه".

"قال" جابر: "فصففنا" بفاءين "فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن وراءه" وللمستملي: ونحن صفوف "رواه البخاري" واللفظ له من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر "ومسلم" بلفظ:"مات اليوم عبد الله صالح أصحمة"، فقام فأمنا وصلى عليه، أخرجه من طريق يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر.

"وعن أبي هريرة؛ أنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي" للناس "في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات، رواه الشيخان أيضا" ومر في الفرع الأول.

"وعند البخاري" في هجرة الحبشة "من طريق ابن عيينة" سفيان "عن ابن جريج" عطاء، عن ابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: "مات اليوم رجل صالح "فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة"" بوزن أربعة والحاء مهملة، وقيل: معجمة، وقيل: بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بلا ألف، وقيل: ذلك، لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بميم أوله بدل الألف، فتحصل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ لم أرها مجموعة، ومعناه بالعربية عطية، قاله في الإصابة.

"وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت في المسجد" من حيث كونه خرج إلى المصلى "وهو قول الحنفية والمالكية" لكن المنع عندهم كراهة تنزيه "لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس".

ص: 189

قال النووي: ولا حجة فيه؛ لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله.

وقال ابن بزيزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، وهي لاحتمال أن يكون خرج بهم المصلى لأمر غير المذكور، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير، والدارقطني في الإفراد، والبزار، كلاهما عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة؟ فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ

"قال النووي: ولا حجة فيه؛ لأن الممتع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه" فيه "حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله".

"وقال ابن بزيزة" بزاي مكررة "وغيره، استدل به بعض المالكية وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، وهي لاحتمال أن يكون خرج بهم المصلى لأمر غير المذكور، وقد ثبت" في مسلم وغيره عن عائشة "أنه عليه السلام صلى على سهيل" بضم السين مصغر "ابن بيضاء" هي أمه واسمها دعد بيضاء وصف لها وأبوه وهب بن ربيعة القرشي الفهري، مات سنة تسع، اختلف في شهوده بدرا "في المسجد".

وعند مسلم على ابني بيضاء سهيل وأخيه، وعند ابن منده وأخيه سهل بالتكبير، وبه جزم في "الاستيعاب" وزعم الواقدي أن سهلا المكبر مات بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو نعيم: اسم أخي سهيل صفوان، ووهم من سماه سهلا، كذا قال: ولم يزد مالك في روايته على ذكر سهيل المصغر، قاله في الإصابة باختصار "فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذي يصلون عليه ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير" زاد الحافظ من طريق ثابت "والدارقطني في الإفراد" بفتح الهمزة "والبزار" زاد الحافظ من طريق حميد "كلاهما" أي: ثابت وحميد "عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة،

ص: 190

يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] الآية، وله شاهد من حديث أبي سعد عند الطبراني في معجمه الكبير، وزاد فيه: إن الذي طعن بذلك كان منافقا.

وقد قال البخاري: "باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد" وروى حديثا عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل مهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد.

وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوي من ناحية المشرق. انتهى. فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان مهيأ للرجم.

ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في

فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199]، "وله شاهد من حديث أبي سعيد عند الطبراني في معجمه الكبير" لفظ الفتح: وله شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي وآخر عنده في الأوسط من حديث أبي سعيد "وزاد فيه: إن الذي طعن بذلك كان منافقا" فقوله في الأول بعض أصحابه بالنظر إلى الظاهر "وقد قال البخاري: باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، وروى حديثا" عن نافع "عن ابن عمر: أن اليهود" من أهل خيبر "جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم" لم يسم "وامرأة زنيا" قال ابن العربي: اسمها بسرة "فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد" هكذا رواه مختصرا.

"وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوي من ناحية المشرق. انتهى، فإن ثبت ما قال" ابن حبيب فظاهر "وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان مهيأ للرجم" لفظ الفتح: يتهيأ فيه الرجم "ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض أو لبيان الجواز. واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد" كيف الدلالة مع قوله لبيان الجواز "ويقويه حديث عائشة" أنها

ص: 191

المسجد، ويقويه حديث عائشة:"ما صلى صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد" أخرج مسلم، وبه قال الجمهور.

ويحمل المانعون الصلاة على سهيل: بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقا.

وفيه نظر: لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلي عليه. وقد سلم لها الصحابة ذلك، فدل على أنها حفظت ما نسوه.

وقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية: ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك.

أمرت أن يمر عليها بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع الناس "ما صلى" رسول الله "صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، أخرجه مسلم" وله أيضًا: إلا في جوف المسجد "وبه قال الجمهور".

وقال مالك: لا يعجبني، وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت، وأما من قال بطهارته منهم فلخشية التلويث.

"ويحمل المانعون الصلاة على سهيل بأنه كان خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز اتفاقا، وفيه نظر؛ لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد" بن أبي وقاص "على حجرتها لتصلي عليه وقد سلم لها الصحابة ذلك، فدل" تسليمهم لها "على أنها حفظت ما نسوه" لكن في نسبة النسيان إليهم ما فيه وإن جاز لما علم من شدة حرصهم على حفظ ما فعله وقاله صلى الله عليه وسلم، فاللائق أنهم حملوه على بيان الجواز وسلموا لها أدبا معها لكونها أم المؤمنين؛ ولأنها مسألة ذات خلاف، والمختلف فيه لا يجب إنكاره.

"وقد روى ابن أبي شيبة وغيره؛ أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وأن صهيبا" بضم الصاد المهلمة وفتح الهاء وإسكان التحتية وموحدة هو ابن سنان الرومي، وفي نسخة سقيمة: وأن عليا وهي خطأ، فالذي في الفتح صهيبا "صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية: ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك" وهو صادق بالكراهة.

وقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا: "من صلى على جنازة في المسجد

ص: 192

وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشي على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه.

وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك.

وعن بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت أو ما قرب، لا ما إذا ما طالت المدة، حكاه ابن عبد البر.

وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز. قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره.

وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور.

منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه، واستحسنه الروياني من الشافعية.

فلا شيء له" وفي سنده صالح مولى التوأمة وفيه مقال، لكن تقوى بإنكار الصحابة على عائشة، إذ لم ينكروا إلا لعلمهم أنه لا ينبغي وأنها لم تعلم ذلك، وأما جعل اللام في "فلا شيء له" بمعنى "على" كقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، فخلاف الأصل والمتبادر وإن جعلت في الآية بمعنى على لاستحالة أن الإنان يسيء لنفسه ولا استحالة هنا.

"وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشي على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه، وعن الحنفية والمالكية: لا يشرع ذلك" ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء.

"وعن بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت، أو ما قرب لا ما إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر، وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم تجز" الصلاة عليه.

"قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره" أي: ابن حبان، زاد الحافظ: وحجته وحجة الذي قبله الجمود على قصة النجاشي "وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور، منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه واستحسنه" أي: قال إنه حسن "الروياني من الشافعية".

ص: 193

ومنها: قول بعضهم: إنه كشف له صلى الله عليه وسلم عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضي عياض في "الشفاء" بقوله: ورفع له النجاشي حتى يصلي عليه، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأموم، ولا خلاف في جوازها.

قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال.

وتعقبه بعض الحنفية: بأن الاحتمال كاف في مثل هذا، وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدي في أسبابه أي أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس: كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه.

ومن الاعتذارات أيضا: أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت غائب غيره. قاله المهلب، وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي.

زاد الحافظ: وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر، وهذا محتمل إلا أني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد. انتهى وهو مشترك الإلزام، فلم يرو في الأخبار أنه صلى عليه أحد في بلده كما جزم به أبو داود ومحله في اتساع الحفظ معلوم.

"ومنها قول بعضهم: إنه كشف له صلى الله عليه وسلم عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضي عياض في الشفاء بقوله: ورفع له النجاشي حتى يصلى عليه، فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأموم ولا خلاف في جوازها".

"قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال، وتعقبه بعض الحنفية، بأن الاحتمال كاف في مثل هذا" من جهة المانع؛ لأنه لا يطلب بدليل، إذ مادة الجواب يكفي فيها الاحتمال "وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدي في أسبابه" أي: كتابه أسباب نزول القرآن "بغير إسناد عن ابن عباس، قال: كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا ظنون، إلا أن جنازته بين يديه" زاد في الفتح، ولأبي عوانة: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا "ومن الاعتذارات أيضا أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت غائب غيره، قاله المهلب وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي".

وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه، كذا في

ص: 194

واستند من قال بتخصيص النجاشي بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته.

قال النووي: لو فتح هذا الباب لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله.

وقال ابن العربي: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد. قلنا: وما عمل به محمد -صلى لله عليه وسلم- تعمل به أمته، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا: طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا لقادر، وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى إتلاف ما ليس له تلاف.

وقال الكرماني: قولهم: "يرفع الحجاب عنه" ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا

الفتح، وأجيب بما ورد أنه صلى الله عليه وسلم رفعت له الحجب حتى شهد جنازته "واستند من قال بتخصيص النجاشي بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما، أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته".

"قال النووي: لو فتح هذا الباب" لفظه باب هذا الخصوص "لا نسد كثير من ظواهر الشرع مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله" فيه نظر، إذ مثل هذا لا يلزم توفر الدواعي على نقله، والذين جوزوا التخصيص وغيره؛ لأنها قضية عين يتطرق إليها احتمالات كثيرة، إذ لم يصح أنه صلى على غائب سواه ولا ثبت عن الخلفاء الراشدين فعل ذلك بعده.

"وقال ابن العربي:" أحد شيوخ المالكية من حفاظ الحديث "قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد، قلنا: وما عمل به محمد صلى الله عليه وسلم تعمل به أمته، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية" وما أقبح هذا التركيب من مثله بذكر النبي صلى الله عليه وسلم مرتين باسمه بدون صلاة كآحاد الناس حمله عليه العجلة في إبداء اعتراضه الواهي الذي تخيل أنه أبطل به مذهب إمامه "قاوا: طويت له الأرض وأحضرت له الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى تلاقي" أي: تناول "ما ليس له تلاف" أي: ما لا ينبغي تناوله، وجواب هذا الهذيان ما مر أن الاحتمال يكفي في مثل هذا من جهة المانع، لا سيما وقد جاء ما يؤيده بإسنادين صحيحين عن عمران عند أبي عوانة وابن حبان فما حدثنا إلا بالثابتات.

"وقال الكرماني قولهم: يرفع الحجاب عنه ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن

ص: 195

عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم فائدة. انتهى ملخصا من فتح الباري.

النوع الثالث: في ذكر سيرته صلى الله عليه وسلم في الزكاة

وهي لغة: النماء والتطهير.

والمال ينمي بها من حيث لا يرى، وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي أجرها عند الله تعالى. وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها. وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وهي قيد النعمة، وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه.

الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم" جوابه ما مر أنه يصير كالميت الذي يراه الإمام المصلي عليه ودون المأمون وهذا جائز باتفاق.

وفي الفتح عقب كلام الكرماني، قلت: وسبقه إلى ذلك أبو حامد، ويؤيده حديث مجمع بن جارية بجيم وتحتانية في قصة الصلاة على النجاشي، قال: فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا أخرجه الطبراني وأصله ابن ماجه، لكن أجاب بعض الحنفية بما تقدم أنه يصير كالميت الذي يصلي عليه الإمام وهو يراه ولا يراه المأمون فإنه جائز اتفاقا.

"فائدة" أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب أن ذلك يسقط فرض الكفاية إلا ما حكي عن ابن القطان أحد أصحاب الوجوه من الشافعية أنه قال: يجوز ولا يسقط الفرض. انتهى.

قال الزركشي: ووجه أن فيه إزراء وتهاونا بالميت، لكن الأقرب السقوط لحصول الغرض، وظاهر أن محله إذا علم الحاضرين. "انتهى ملخصا من فتح الباري" في مواضع من كتاب الجنائز.

"النوع الثالث: في ذكر سيرته صلى الله عليه وسلم في الزكاة"

من بيان مقدارها ووجوبها وما تجب فيه وهل تجب عليه "وهي لغة النماء" بفتح النون والمد الزيادة "والتطهير والمال ينمي" بكسر الميم: يكثر "بها من حيث لا يرى" لأن المرئي حسا نقصه "وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي" بفتح أوله وكسر ثالثه من باب رمي، وفي لغة من باب قعد، أي: يزيد ويكثر "أجرها عند الله تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها" وهو الزيادة والتطهير "وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه" بما وعد من الثواب عليها في الآخرة "وهي قيد النعمة" أي: مقيدة لها ومانعة من زوالها "وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه، وقد فهم من شرعه صلى الله عليه وسلم أن الزكاة وجبت

ص: 196

وقد فهم من شرعه صلى الله عليه وسلم أن الزكاة وجبت للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال، وهو النصاب.

ثم جعلها صلى الله عليه وسلم في الأموال النامية، وهي أربعة أصناف:

الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم.

والثاني: الزرع والثمار.

والثالث: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.

والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها.

وحدد صلى الله عليه وسلم نصاب كل صنف بما يحتمل المواساة:

فنصاب الفضة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالًا، وأما الزرع فخمسة أوسق، وأما الغنم فأربعون شاة،

للمواساة" أي: الرفق بالغير على وجه الشفقة والإمرام بحيث يجعله كأنه مساو له "وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال" وقع وشأن "وهو النصاب" أي: القدر المعتبر للوجوب "ثم جعلها صلى الله عليه وسلم في الأموال النامية وهي أربعة أصناف: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم" بفتح القاف وكسرها، أي: عماده الذي يقوم به وينتظم "والثاني: الزرع والثمار، والثالث: بهيمة الأنعام" من إضافة الأعم إلى الأخص كشجر أراك "الإبل والبقر والغنم؛" لأن البهيمة كل ذات أربع من ذوات البر والبحر وكل حيوان لا يميز "والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها وحدد صلى الله عليه وسلم نصاب كل صنف" من هذه الأربعة "بما يحتمل المواساة" وإذا أردت بيان ذلك "فنصاب الفضة" فالفاء فصيحة في جواب الشرط المقدر "خمس أواق" جمع أوقية، بضم -الهمزة وشد الياء على الأشهر- "وهي مائتا درهم بنص الحديث" ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، رواه الشيخان.

وقال صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة عن كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمس دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك".... الحديث رواه أحمد وأبو داود عن علي، ونقل الترمذي عن البخاري أنه صحيح "والإجماع" على ذلك.

"وأما الذهب فعشرون مثقالا" وهو درهم وثلاثة أسباع درهم، ولم يختلف فيه في جاهلية ولا إسلام وهو اثنتان وسبعون حبة وهي شعيرة معتدلة لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال كما في شرح الروض.

ص: 197

والبقر ثلاثون بقرة، والإبل خمس.

ورتب صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال:

فأعلاها وأقلها تعبا الركاز، وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ولم يعتبر حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به.

ويليه الزروع والثمار، فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفه.

ويليه الذهب والفضة والتجارة، وفيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه جمع السنة.

ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة.

ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها شاة، فإذا صارت الخمسة خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا، فصار هو الواجب. ثم إنه

قال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نصاب الذهب شيء إلا ما روى الحسن بن عمارة عن علي رفعه: "هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار"، وابن عمارة: وأجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثر خطئه، لكن عليه جمهور العلماء.

"وأما الزرع والثمار فخمسة أوسق" لحديث الصحيحين: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، ولمسلم أيضا:"ليس يما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة".

"وأما الغنم" وهي الضأن والمعز "فأربعون شاة والبقر" حمر وجاموس "ثلاثون بقرة" والتاء فيها، وفي شاة للوحدة ذكورا كانت أو إناثا أو مجمعة منهما "والإبل خمس" بختها وعرابها، ذكورها وإناثها "ورتب صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها" قدرا "وأقلها تعبا الركاز" بكسر الراء وخفة الكاف وآخره زاي منقوطة "وفيه الخمس لعدم التعب فيه" كثيرا "ولم يعتبر له حولا، بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به، ويليه الزرع والثمار، فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر" مما يخرج منه إذا بلغ النصاب "وإلا" بأن سقي بآلة "فنصفه" أي: العشر "ويليه الذهب والفضة والتجارة وفيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه" أي: مال التجارة "جميع السنة ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص:" جمع وقص بفتحتين وقد تسكن القاف ما بين الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شيء فيه "بخلاف الأنواع السابقة" فلا وقص فيها، بل ما زاد فبحسابه "ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها" أي الإبل "شاة، فإذا صارت الخمسة خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا" من جنسها "فصار هو الواجب، ثم إنه قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان

ص: 198

قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها.

وفي كتابه صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة، ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض: في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وفي الغنم

بحسب كثرة الإبل وقلتها، وفي كتابه صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض" لئلا يستغنوا بأخذ الأحكام منه عن مشافهته والأخذ من لفظه الذي هو أعلى من الكتاب، وأما بعده فالرجوع إلى ما في الكتاب أولى من سؤال بعضهم لبعض.

ولفظ الرواية: وقرنه بسيفه حتى قبض فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، والمتبادر أنه لم يزل مقرونا بسيفه حتى قبض فأخذه أبو بكر بعده، ويحتمل كما قال ابن رسلان حتى شارف أن يقبض، كقوله تعالى:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231]، أي: أشرفن على انقضاء العدة وقربن منها، فكان فيه "في خمس من الإبل شاة وفي عشر شاتان وفي خمس" بفتح السين "عشرة" بالفتح أيضا؛ لأن الاسمين يتركبان تركيب بناء قال ابن رسلان "ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه" إلى أربع وعشرين بدليل قوله:"وفي خمس وعشرين بنت مخاض" بمعجمتين أتى عليها حول ودخلت في الثاني والمخاض الحامل، أي: دخل وقت حمل أمها إن لم تحمل "إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة" بالرفع، قاله ابن رسلان، أي: على العدد المذكور، فإن كان الرواية تعين وإلا فيجوز نصبه على معنى زادت الإبل واحدة "ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين" الغاية فيه، وفي نظائره داخلة في المغيا، فلا يتغير الواجب إلا بما زاد عليها كما قال "فإذا زادت واحدة" بالرفع قاله ابن رسلان، أما رواية: أو جريا على قول إن زاد لازم وثانيها متعد لواحد وثالثها لاثنين، فإيمانا في قوله: زادتهم إيمانا حال على الثاني ومفعول ثان على الثالث "ففيها حقه" بكسر المهملة وشد القاف، وهي التي دخلت في السنة الرابعة "إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة" بفتح الجيم والمعجمة وهي الداخلة في الخامسة "إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وفي الغنم" لم يقيدها بالسائمة إشارة إلى أن ذكرها في

ص: 199

في كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة. رواه أبو داود والترمذي من حديث سالم بن عبد الله بن عمر.

وفرض صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج

حديث آخر جرى على الغالب فلا مفهوم له؛ ولأنه مفهوم صفة "في كل أربعين شاة" تمييز "شاة" مبتدأ خبره في الغنم "إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك" بمائة رابعة "ففي كل مائة شاة" بالجر "شاة" بالرفع "ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة" ففي خمسمائة خمس، وهكذا "رواه أبو داود والترمذي من حديث" سفيان بن حسين عن الزهري، عن "سالم بن عبد الله بن عمر" عن أبيه قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله، وقرنه بسيفه حتى قبض، فذكره بزيادة سبقت في الكتب النبوية.

قال الترمذي: حديث حسن ورواه يونس وغير واحد عن الزهري عن سالم ولم يرفعه، وإنما رفعه سفيان بن حسين. انتهى، ومراده بالرفع الوصل.

قال الحافظ: وسفيان ضعيف في الزهري، وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري فأرسله، أخرجه الحاكم من طريق يونس عن الزهري، وقال: إن فيه تقوية لرواية سفيان بن حسين؛ لأنه قال عن الزهري: أقرأنيها سالم بن عبد الله فوعيتها على وجهها، فذكر الحديث، ولم يقل أن ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاري، بل قال: ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى، فتحسين الترمذي له باعتبار شاهده وهو حديث أنس عن أبي بكر الصديق بمعناه عند البخاري، وأبي داود والنسائي وابن ماجه.

"وفرض" ألزم وأوجب عند الجمهور "صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر" وما أوجبه، فبأمر الله وما ينطق عن الهوى "صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد" أخذ بظاهره داود وحده، فأوجبها على العبد وأنه يجب على سيده أن يمكنه من الاكتساب لها كما يجب عليه تمكينه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس لحديث ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر "والحر والذكر والأنثى" ظاهره وجوبه عليها ولو ذات زوج، وقال أبو حنيفة والثوري وقال الجمهور: والثلاثة على زوجها إلحاقا بالنفقة لحديث ممن تمونون "والصغير والكبير من المسلمين" دون الكفار؛ لأنها طهرة وليسوا من أهلها، فلا تجب على كافر عن نفسه، ولا عن مستولدته المسلمة،

ص: 200

الناس إلى الصلاة، رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.

وفي رواية أبي داود من حديث ابن عباس، فرض صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.

وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء. رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي. وهذه الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس:

أحدهما: من يأخذ لحاجته، فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل.

ولا على المسلم إخراجها عن عبده الكفار "وأمر بها" ندبا "أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" أي: صلاة العيد؛ لأن القصد إغناء الفقراء عن الطلب وجاز تأخيرها إلى تمام يوم العيد، وحرم تأخيرها عنه إلا لعذر كغيبة ماله أو المستحقين "رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر" من طرق.

"وفي رواية أبي داود من حديث ابن عباس: فرض صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر" أضيفت له لوجوبها بالفطر من رمضان، لكن هل المراد غروب شمسه؛ لأنه وقت الفطر منه فتجب به أو طلوع فجر العيد؛ لأن الليل ليس محلا للصوم وإنما يظهر الفطر الحقيقي بالأكل بعد الفجر فتجب به خلاف "طهرة" بضم الطاء "للصائم من اللغو والرفث وطعمة" بضم الطاء، أي: أكلة أو رزقا "للمساكين، وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره" من ملك مقرب أو جهبذ مجتهد "في" قسم "الصدقات" على مستحقيها "حتى حكم" هو تعالى "فيها فجزأها ثمانية أجزاء" في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، "رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي" بضم الصاد ودال مهملتين نسبة إلى صداء قبيلة من مذحج له صحبة ووفادة، قال: قال رجل: يا رسول الله أعطني من هذه الصدقة، فذكره ثم قال:"فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك".

وروى ابن سعد عن زياد المذكور مرفوعا: "إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت جزءا منها أعطيتك، وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن""وهذا الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس أحدهما من يأخذ لحاجته فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها وكثرتها وقلتها وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل، والثاني: من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها" من

ص: 201

والثاني: من يأخذ لمنفعته، وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون أو لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة.

واعلم أن الأنبياء لا تجب الزكاة عليهم؛ لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما يجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه في أوان بذله، ويمنعونه في غير محله؛ ولأن الزكاة إنما هي طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، والأنبياء عليهم السلام مبرؤون من الدنس، لوجوب العصمة لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ. وإذا كان أهل المعرفة بالله والمشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء

جاب وقاسم وكاتب وحاشر "والمؤلفة قلوبهم" ليسلموا أو يثبت إسلامهم، أو يسلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقوال "والغارمون" أهل الدين إن استدانوا لغير معصية أو تابوا وليس لهم وفاء "أو لإصلاح ذات البين" ولو أغنياء عندهم "والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة، واعلم أن الأنبياء لا تجب الزكاة عليهم" لا يرد عليه قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] ؛ لأن المراد بها على هذا التطهير من الرذائل؛ "لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما يجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه في أوان بذله ويمنعونه" من صرفه "في غير محله؛ ولأن الزكاة إنما هي طهرة لما" أي: لإنسان، فاستعمل ما للعاقل على القليل.

وفي نسخ: لمن "عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} من الذنوب "والأنبياء عليهم السلام مبرؤون من الدنس لوجوب العصمة لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة" الموجب للتطهير "والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف وذلك بعد البلوغ"، والعقل "وإذا كان أهل المعرفة بالله والمشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء والرسل وأهل التوحيد" بالرفع مبتدأ "والمعرفة" عطف على

ص: 202

والرسل، وأهل التوحيد والمعرفة إنما غرفوا من بحارهم واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب "التنوير" للعارف الكبير أبي الفضل بن عطاء الله الشاذلي، أذاقنا الله حلاوة مشربه.

تنبيه: ما حكي أن الشافعي وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعي، فقال أحمد بن حنبل للشافعي: أريد أن أسأل هذا المشار إليه في هذا الزمن، فقال الشافعي: لا تفعل، فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسي أربع سجدات من أربع ركعات؟ فقال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن الله تعالى، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. قال: فخر أحمد مغشيا عليه، ثم أفاق فقال له: ما تقول فيمن له أربعون شاة، ما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: أوهما مذهبان؟ قال: نعم، أما على مذهبكم ففي الأربعين شاة

التوحيد "إنما غرفوا من بحارهم" خبر المبتدأ "واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب التنوير" في إسقاط التدبير "للعارف الكبير أبي الفضل بن عطاء الله الشاذلي أذاقنا الله حلاوة مشربه".

وفي الأنموذج ذكر مالك من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يملك الأموال إنما كان له التصرف والأخذ بقدر كفايته.

وعند الشافعي وغيره: يملك، ثم نقل بعد قليل كلام ابن عطاء الله هذا، فقال شارحه هذا كما ترى بناه ابن عطاء الله على مذهب إمامه أن الأنبياء لا يملكون ومذهب الشافعي خلافه.

"تنبيه: ما حكي أن الشافعي وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعي" من أكابر العارفين والزهاد العابدين الأمي، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أو الفقه أجاب بجواب متين، وإذا حضرت الجمعة خط على غنمه خطا فلا تتحرك ولا يعرض لها شيء حتى يعود.

"فقال أحمد بن حنبل للشافعي: أريد أن أسأل هذا المشار إليه" بالولاية "في هذا الزمن" لأعلم ما عنده "فقال الشافعي: لا تفعل" خشي أن يجيبه بخلاف ظاهر الشرع فيسوء اعتقاده فيه "فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسي أربع سجدات من أرب ركعات، فقال: يا أحمد هذا قلب غافل عن الله تعالى يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك" فأجابه بخلاف ظاهر الشرع، لكن حصل منه اعتبار لأحمد "قال: فخري أحمد مغشيا عليه، ثم أفاق فقال له: ما تقول فيمن له أربعون شاة ما زكاتها؟، فقال: على مذهبنا" معاشر الصوفية "أو على مذهبكم" أيها الفقهاء؟ "فقال: أوهما مذهبان؟، قال: نعم، أما على مذهبكم ففي

ص: 203

شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا.

فقد نقل شيخنا في "المقاصد الحسنة" عن ابن تيمية أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة؛ لأن الشافعي وأحمد لم يدركا شيبان الراعي والله أعلم. انتهى.

وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: "اللهم صل على آل فلان"، فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال:"اللهم صل على آل أبي أوفى". وراه البخاري ومسلم.

واختلف في أول وقت فرض الزكاة. فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في باب السير من الروضة.

وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك كان في التاسعة، وفيه نظر: لما في حديث ضمام بن ثعلبة، وحديث وفد عبد القيس، ومخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكان في أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.

الأربعين شاة شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا في المقاصد الحسنة عن ابن تيمية" الحافظ أحمد "أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة؛ لأن الشافعي وأحمد لم يدركا شيبان الراعي، والله أعلم. انتهى".

"وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة" أي: الزكاة "قال: "اللهم صل على آل فلان" ولأبي ذر على فلان بدون آل كما في الفتح: "فأتاه" بالقصر "أبو أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة اسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة "بصدقته، فقال:"اللهم صل على آل أبي أوفى" يريد أبا أوفى نفسه؛ لأن الآل يطلق على ذات الشيء، كقوله في قصة أبي موسى:"لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"، وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر "رواه البخاري" في الزكاة وغيرها "ومسلم" عن عبد الله بن أبي أوفى، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة سنة سبع وثمانين.

"واختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثرون إل أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في باب السير من الروضة، وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك" أي: فرضها "كان في التاسعة وفيه نظر لما في حديث ضمام" بكسر المعجمة مخففا "ابن ثعلبة" بمثلثة.

"وفي حديث وفد عبد القيس" أسقط من الفتح وفي عدة أحاديث ذكر الزكاة "ومخاطبة أبي سفيان" صخر بن حرب "مع هرقل وكان في أول السابعة وقال فيها: يأمرنا

ص: 204

وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاملا: فقال: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية، والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله.

وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها: أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن الرجل: الذي يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى.

وفي الاستدلال بذلك نظر؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: يأمرنا، بمعنى يأمر أمته، وهو بعيد جدا. وأولى ما

بالزكاة" أسقط من الفتح، لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام "وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة، ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاملا" يجبي الصدقات، فمر بثعلبة وسأله الصدقة وأقرأه الكتاب الذي فيه الفرائض "فقال" ثعلبة: "ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية" أي: شبيهتها "والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة" وهو استدلال قوي لو صح الحديث، "لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله" إذ لا حجة في ضعيف "وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرض كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث" سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق بسنده إلى "أم سلمة" هند "في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب" الهاشمي "قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن الرجل الذي يأمرنا" لفظ الحافظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأمرنا "بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى.

"وفي الاستدلال بذلك نظر؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد" أي: في ذلك الوقت "ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها اذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا، فقال: يأمرنا بمعنى يأمر أمته وهو بعيد جدا" إذ الأصل عدم التقدير "وأولى

ص: 205

حمل عليه حديث أم سلمة هذا -إن سلم من قدح في إسناده- أن المراد بقول جعفر: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" أي في الجملة، ولا يلزم ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام شهر رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.

ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة وقوله: "أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ " وكان قدوم ضمام سنة خمس، وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعي تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك.

ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحكام من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت

ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا إن سلم من قدح في إسناده؛" لأن سلمة بن الفضل فيه مقال، وفي التقريب أنه صدوق كثير الخطأ. انتهى.

وقد رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق فلم يذكر الزكاة "أن المراد بقول جعفر يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، أي: في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس" بل مطلق صلاة "ولا بالصيام شهر رمضان" بل مطلق صيام "ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول" بل أراد مطلق صدقة أو التطهير من الرذائل والله أعلم.

"ومما يدل على أن فرض الزكاة كل قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام" بالكسر مخففا "ابن ثعلبة" بمثلثة "وقوله: أنشدك الله آلله" بالمد "أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟، وكان قدوم ضمام سنة خمس" من الهجرة "وإنما الذي وقع في" السنة "التاسعة بعث العمال": جمع عامل "لأخذ الصدقات وذلك يستدعي تقديم فريضة الزكاة قبل ذلك، ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان، إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته" وهي {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]"مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة" الخزرجي الصحابي ابن الصحابي "قال: أمرنا

ص: 206

فرضية الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله، إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار، الراوي عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان. قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر.

وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها. رواه البخاري من حديث عائشة.

وإذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة؟، فإن قيل: صدقة قال لأصحابه:

رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فرضية الزكاة" للأموال "فلم يأمرنا" بصدقة الفطر "ولم ينهنا" عنها "ونحن نفعله" وبهذا احتج لإبراهيم بن علية وأبي بكر الأصم لقولهما: إن صدقة الفطر منسوخة، والكافة على أن وجوبها لم ينسخ، وأجابوا بأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول "إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا أبا عمار" الكوفي اسمه عريب بفتح المهملة ابن حميد كما في الفتح "الراوي عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان".

زاد في الفتح وذلك بعد الهجرة وهو المطلوب "قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر" وزاد: ووقع في تاريخ الإسلام في السنة الأولى فرضية الزكاة، وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث أم سلمة المذكور من طريق المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من طريق ابن إسحاق، لكن من طريق سلمة بن الفضل عنه، وفي سلمة مقال.

"وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية" إلا لعذر كما رد على الصعب بن جثامة الحمار الوحشي، وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم "ويثيب" أي: يجازي، وأصل الإثابة تكون في الخير والشر، لكن العرف خصها بالخير "عليها" بأن يعطي بدلها فيندب التأسي به، وظاهره أنه كان يقبلها من المؤمن والكافر، وقد جاء أنه قبل هدية القوقس وغيره من أهل الكتاب "رواه البخاري" في الهبة "من حديث عائشة" وكذا رواه أحمد وأبو داود في البيوع، وزاد فيه الغزالي: ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب.

قال الحافظ العراقي: وفي الصحيحين ما هو بمعناه "و" كان "إذا أتي بطعام" زاد في رواية أحمد: من غير أهله "سأله عنه" من أتى به؟ "أهدية؟ " بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أهذا، وبالنصب بتقدير أجئتم به هدية "أم صدقة؟ " بالرفع والنصب "فإن قيل:" هو "صدقة" أو جئنا

ص: 207

"كلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: "هل عندكم شيء"؟. فقالت: لا، إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التي بعثت بها إليها من الصدقة، قال:"إنها بلغت محلها". رواه البخاري ومسلم.

وقوله: "محلها" بكسر الحاء، أي زال عنها حكم الصدقة وصارت حلا لنا.

وأتى بلحم قد تصدق به على بريرة فقال: "هو عليها صدقة، ولنا هدية"، رواه البخاري مسلم وأبو داود والنسائي.

به صدقة "قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل" هو معهم لحرمتها عليه "وإن قيل: هدية ضرب بيده" أي: مدها "فأكل معهم" دون تحاش عنه تشبيها للمد بالذهاب سريعا في الأرض فعداه بالياء، وذلك لأن الصدقة منحة لثواب الآخرة، ففيها نوه ذلك بخلاف الهدية فهي تمليك للغير إكراما، فلذا حلت له دون الصدقة "رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة" وكذا رواه النسائي.

"وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة:" لفظ الحديث عن أم عطية الأنصاري، قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة: فقال: "هل عندكم شيء"؟ من الطعام "فقالت: لا" شيء منه عندنا "إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة" بنون وسين مهملة وموحدة مصغرة اسم أم عطية "من الشاة التي بعثت" بفتح التاء، أي: أنت "بها إليها".

ففي رواية لمسلم عن أم عطية، قالت: بعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم بشاة من الصدقة، فبعثت إلى عائشة منها بشيء "من الصدقة، قال: "إنها بلغت محلها"، رواه البخاري" في الزكاة في موضعين، وفي الهبة "ومسلم" في الزكاة "وقوله:"محلها" بكسر الحاء، أي: زال عنها حكم الصدقة وصارت حلا لنا" كذا جزم بالكسر هنا، وفي شرحه للبخاري مع أن الحافظ قال: أي: أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها انتقلت عن حكم الصدقة، فحلت محل الهدية، وكانت تحل له صلى الله عليه وسلم بخلاف الصدقة، وهذا تقرير ابن بطال بعد أن ضبطها محلها بفتح الحاء، وضبطها بعضهم بكسرها من الحلول، أي: بلغت مستقرها والأول أولى، وعليه عول البخاري في الترجمة يعني بقوله باب إذا تحولت الصدقة. انتهى.

"وأتي" بضم الهمزة النبي صلى الله عليه وسلم "بلحم" في رواية مسلم: بلحم بقر "تصدق" بضم أوله "به على بريرة" بفتح الموحدة وكسرها الراء الأولى "فقال: "هو" أي: اللحم "عليها صدقة ولنا هدية" قدم لفظ عليها على المبتدأ لإفادة الاختصاص، أي: لا علينا الزوال وصف الصدقة وحكمها؛ لأنها صارت ملكا لبريرة ثم صارت هدية، فالتحريم ليس لذات اللحم "رواه البخاري

ص: 208

وفي حديث عائشة عند البخاري ومسلم: دخل صلى الله عليه وسلم وعلى النار برمة تقور، فدعا بالغداء، فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال:"ألم أر برمة على النار تفور"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، لكنه لحم تصدق به على بريرة، وأهدت إلينا منه، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال:"هو صدقة عليها، وهدية لنا".

النوع الرابع: في ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم

اعلم أن المقصود من الصيام إمساك النفس عن حبس عاداتها، وحبسها عن

ومسلم وأبو داود والنسائي" مختصرًا هكذا عن أنس.

"وفي حديث عائشة عند البخاري ومسلم: دخل صلى الله عليه وسلم" حجرة عائشة "وعلى النار برمة" بضم الموحدة وإسكان الراء.

قال ابن الأثير: هي القدر مطلقا وجمعها برم، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز "تفور" بالفاء "فدعا بالغداء فأتي بخبز وأدم من أدم البيت" بضم الهمزة وإسكان المهملة: جمع أدام وهو ما يؤكل مع الخبز، أي: شيء كان، والإضافة للتخصيص "فال:"ألم أر برمة" بهمزة الاستفهام التقريري "على النار تفور؟ " زاد في رواية: فيها لحم "قالوا: بلى يا رسول الله لكنه لحم تصدق به" بالبناء للمفعول "على بريرة وأهدت إلينا منه وأنت لا تأكل الصدقة" لحرمتها عليك، فلذا لم نأتك به "فقال:"هو صدقة عليها وهدية لنا" منها؛ لأنه يسوغ للفقير التصرف في الصدقة بالإهداء والبيع وغير ذلك، كتصرف المالك في ملكه، فيجوز للغني ولو هاشميا أكلها وشراؤها؛ لأن التحريم إنما هو على الصفة لا على العين، فإذا تغيرت صفة الصدقة تغير حكمها.

قال الأبي: لا يقال: كونها أوساخ الناس ومطهرة للمال هو وصف لا تزيله الهدية بها؛ لأنا نقول: ليس وصفا ذاتيا حتى يقال: إنه لا يزول، وإنما هو وصف حكمي جعل بالشرع، وهو قد حكم بزواله. انتهى.

واستدل به على جواز صدقة التطوع لأزواجه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم فرقوا بينه وبين أنفسهم ولم ينكره عليهم، بل أخبرهم أن تلك الهدية بعينها خرجت عن كونها صدقة بتصرف المتصدق عليه.

"النوع الرابع: في ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم

اعلم أن المقصود من الصيام إمساك" أي: منع "النفس عن حبس" أي: دنيء "عاداتها" من إضافة الصفة للموصوف، أي: عاداتها الخسيسة،

ص: 209

شهواتها، وفطامها عن مألوفاتها، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العاملين، كما قال الله تعالى في الحديث الإلهي الذي رواه مسلم:"كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به". فأضافه تعالى له إضافي تشريف وتكريم، كما قال تعالى:{نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 3] مع أن العالم كله له سبحانه.

وقيل: لأنه لم يعبد غيره به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرهما.

ففيه أن عادات النفس التي تألفها كلها خسيسة، فعلى الصائم المحافظة على مخالفتها بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات والاشتغال بالذكر والقرآن وأنواع القربات "وحبسها" أي: كفها "عن شهواتها" ولو مباحة "وفطامها" أي: منعها "عن مألوفاتها" من مستلذاتها "فهو لجام المتقين" المانع لهم تشبيها بلجام الدابة "وجنة" بضم الجيم مشددا وقاية "المحاربين"، لأنفسهم والشياطين "ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العالمين، كما قال الله تعالى في الحديث الإلهي الذي رواه مسلم:" لا وجه لقصر عزوه له فقد رواه البخاري، كلاهما في الصوم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له"" أي: له فيه حظ ومدخل لاطلاع الناس عليه فهو يتعجل به ثوابا من الناس، ويجوز به حظا من الدنيا.

وفي رواية: كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف "إلا الصيام فهو" خالص "لي" لا يعلم ثوابه غيري "وأنا أجزي" بفتح الهمزة "به" صاحبه بلا عدد ولا حساب، وهذا كقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] الآية، والصابرون الصائمون في قول الأكثر؛ لأنهم يصبرون أنفسهم عن الشهوات وعند سمويه إلا الصوم فإن لا يدري أحد ما فيه.

وقد اختلف في معناه مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها، فقيل في معناه عشرة أوجه ذكر بعضها بقوله:"فأضافه الله تعالى له إضافة تشريف وتكريم، كما قل تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ} وأن المساجد لله "مع أن العالم كله له سبحانه".

قال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التشريف والتعظيم.

"وقيل:" وجه ذلك؛ "لأنه لم يعبد غيره" تعالى "به" بالصوم "فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرهما"

ص: 210

قال في شرح تقريب الأسانيد: واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات فإنهم يتعبدون لها بالصيام.

وأجيب: بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها.

وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو، وغير ذلك من العبادات الظاهرات، قال في فتح الباري. معنى النفي في قولهم:"لا رياء فيه" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها. انتهى.

كالطواف والصدقة والذبح.

"قال" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد" للنووي: "واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام، وأجيب بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها" الذي في الفتح بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب، وإنما يعتقدون أنها فعالة بنفسها وليس هذا الجواب بطائل؛ لأنهم طائفتان إحداهما تعتقد إليهة الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام وبقي ممنهم من بقي على كفره، والأخرى من دخل في الإسلام، وبقي على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم. انتهى.

"وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو وغير ذلك من العبادات الظاهرات" حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد، ويؤيده حديث الصيام لا رياء فيه، قال الله عز وجل:"هو لي وأنا أجزي به"، رواه البيهقي عن أبي هريرة بإسناد ضعيف ولو صح لرفع النزاع.

"قال في فتح الباري: معنى النفي في قولهم: لا رياء فيه أنه لا يدخله الرياء بفعله وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ويخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار" به رياء "بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها" على وجه الرياء. "انتهى" كلام الفتح وزاد فيه: وقد حول بعض الأئمة إلحاق شيء من العبادات البدنية بالصوم، فقال: إن الذكر بلا إله إلا الله يمكن أن لا يدخله الرياء؛ لأنه بحركة اللسان خاصة دون غيرها من أعضاء الفم، فمكن أن الذاكر يقولها بحضرة الناس ولا يشعرون منه بذلك.

ص: 211

وعن شداد أوس مرفوعا: "من صام يرائي فقد أشرك". رواه البيهقي.

وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه منه حظ.

وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، قال القرطبي معناه: أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي. أو لكون ذلك من صفات الملائكة، أو لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، بخلاف غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها،

"وعن شداد بن أوس مرفوعًا: "من صام يرائي" بأن أظهره لمن يراه من الناس وذلك إنما يكون بإخباره لهم كما علم "فقد أشرك" أي: جعل لله شريكا "رواه البيهقي" والمراد به وما شابهه أنه فعل كفعل من أشرك.

"وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه" أي: مع نفسه "منه حظ" نصيب، قاله الخطابي وعياض وغيرهما، فإن أراد بالحظ الثناء عليه بالعبادة رجع لمعنى ما قبله، وبه أفصح ابن الجوزي فقال: لاحظ فيه للصائم بخلاف غيره، فله فيه حظ لثناء الناس عليه قاله الحافظ، أي: وإن أريد عدم انبساط نفسه به أصلا غالبا بخلاف غيره من العبادات فيوجد للنفس فيها حظ، كالغسل فله حظ التبرد أو التدفي، وكالحج فله حظ التنقل والتفرج على الأمكنة، وهكذا فلا يرجع إليه، بل يكون غيره وهذا هو الظاهر.

"وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه" وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء.

"قال القرطبي: معناه" أي: هذا القول "أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول: إن الصائم يتقرب إلي بمر هو يتعلق بصفة من صفاتي" فلذا توليت جزاءه "أو" يعني: وقيل: "لكون ذلك" صفة "من صفات الملائكة؛" لأنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يشتهون "أو" يعني: وقيل في معناه؛ "لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته بخلاف غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها" وهذا تعقبه القرطبي بأن صوم اليوم بعشرة، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كما في الأحاديث، وهي نصوص في إظهار التضعيف، فضعف هذا الوجه، بل بطل، ورد بأنه يكتب كذلك، وأما قدر ثوابه فلا يعلمه إلا الله.

ص: 212

ولذا قال في بقية الحديث: "وأنا أجزي به" وقد علم أن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء، وإنما جوزي الصائم هذا الجزاء؛ لأنه ترك

"ولذا قال في بقية الحديث: "وأنا أجزي به"، وقد علم" عادة "أن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء" ولا أكرم من الله سبحانه، وقول البيضاوي: الاستثناء في قوله: "إلا الصيام" من كلام غير محكي دل عليه ما قبله، والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة إلا الصيام فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله، ولذا تولى جزاءه بنفسه ولم يكله إلى غيره تعقبه الطيبي بأنه مستثنى من كل عمل ابن آدم له وهو مروي عن الله تعالى يدل عليه قوله: قال الله. انتهى.

فهذه سبعة أقوال حكاها الصنف في معناه.

والثامن: أن معناه أحب العبادات إلي والمقدم عندي، ولذا قال أبو عمر: كفى به فضلا للصيام على سائر العبادات.

وروى النسائي: عليك بالصوم فإنه لا مثل له، لكن يعكر عليه الحديث الصحيح:"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة".

والتاسع: أن جميع العبادات يوفى منها مظالم العباد إلا الصيام.

قال سفيان بن عيينة: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيحتمل الله ما بقي من المظالم ويدخله بالصوم الجنة، أسنده البيهقي عنه، ورده القرطبي بأن ظاهر حديث المقاصد أنه يؤخذ كبقية الأعمال، ففيه "المفلس: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام ويأتي وقد شتم هذا، وضب هذا وأخذ مال هذا فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتضي ما عليه طرحت عليه سيئاتهم ثم طرح في النار".

قال الحافظ: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، ويدل له حديث أحمد عن أبي هريرة رفعه:"كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به"، ورواه أبو داود بلفظ:"قال ربكم: كل العمل كفارة إلا الصوم"، لكن يعارضه حديث حذيفة في الصحيحين:"فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة"، ويجاب بحمل الإثبات على كفارة شيء مخصوص والنفي على كفارة شيء آخر، فإنه مقيد بفتنة المال وما ذكر معها، لكن حمله البخاري على تكفير مطلق الخطيئة، فيكون المعنى إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة ثواب على الكفارة بشرط خلوصه من الرياء والشوائب.

العاشر: أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما لا تكتب سائر أعمال القلوب، استند قائله

ص: 213

شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده.

والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص، لكن وقع في رواية عند ابن خزيمة:"يدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي"، وأصرح منه ما روي " من الطعام والشراب والجماع من أجلي".

وللصيام تأثير عجيب في حفظ الأعضاء الظاهرة، وقوى الجوارح الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له

إلى حديث واه جدا، أورده ابن العربي في المسلسلات، ولفظه:"قال الله تعالى: الإخلاص سر من أسراري استودعته قلب من أحب لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده"، ويكفي في رده الحديث الصحيح في كتابة الحسنة لمن هم بها ولم يعملها، فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة، وأقربها إلى الصواب أنه لا رياء فيه وأنه المنفرد بعلم قدر ثوابه، ويقرب منهما أنه لم يعبد به غير الله وأنه لا يؤخذ في المظالم. انتهى ملخصًا.

"وإنما جوزي الصائم هذا الجزاء؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده" كما قال في الحديث الصحيح في الموطأ: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي.

"والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب" في رواية البخاري بلفظ: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الصيام لي" فيكون عطف مغاير "ويحتمل أن يكون من" عطف "العام بعد الخاص" إن جعلت الشهوة عامة "لكن وقع في رواية عند ابن خزيمة: "يدع لذته" بالطعام والشراب "من أجلي ويدع زوجته من أجلي"، فهذا صريح في الأولى "وأصرح منه ما روي" عند الحافظ سموية: "يترك شهو ته "من الطعام والشراب والجماع من أجلي"" امتثالا لشرعي ذلك.

قال الحافظ: قد يفهم الحصر التنبيه على الجهة التي يستحق بها الصائم ذلك وهو الإخلاص الخاص به حتى لو صام لغرض آخر كتخمة لا يحصل له ذلك الفضل، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القوي الذي يدور معه الفعل وجودا وعدما، ولا شك أن من لم يعرض له في خاطره شهوة شيء طول نهاره ليس في الفضل، لكن عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه "وللصيام" هكذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى: وللصائم، أي: ولصوم الصائم أو للصوم من حيث صومه "تأثير عجيب في حفظ الأعضاء الظاهرة "وقوى الجوارح الباطنة وحميتها" بكسر الحاء منعها "عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة

ص: 214

من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وقال عليه الصلاة والسلام -كما في البخاري: "الصوم جنة" هي بضم الجيم، الوقاية والستر، أي: ستر من النار. وبه جزم ابن عبد البر، وفي النهاية: أي يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، وقال القاضي عياض: من الآثام. وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صاحبه من المعاصي قولا وفعلا.

المانعة له من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله:" يا أيها الذين آمنو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: الأنبياء والأمم من لدن آدم وفيه توكيد للحكم وترغيب للفعل وتطبيق للنفس {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] الآية" المعاصي، فإن الصوم يكثر الشهوة التي هي مبدؤها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

"وقال عليه السلام كما في البخاري" ومسلم، كلاهما من حديث أبي هريرة:"الصوم جنة وهي، بضم الجيم" وشد النون "الوقاية" بكسر الواو "والستر، أي: ستر من النار، وبه جزم ابن عبد البر؛" لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها، وقد رواه الترمذي بلفظ:"جنة من النار"، وأحمد بلفظ: جنة وحصن حصين من النار.

"وفي النهاية" لابن الأثير جنة "أي: يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات؛" لأنه يكسرها ويضعفها.

"وقال القاضي عياض": جنة "من الآثام" أو من النار، أو من جميع ذلك، هذا بقية كلام القاضي، وبالأخير جزم النووي، والتفسيران متلزمان؛ لأنه إذا كف عن المعاصي كان سترا له من النار "وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا" في قوله:"إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به""صيام من سلم صاحبه من المعاصي قولا وفعلا".

ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد تخصيصه بصوم خواص الخواص، فإنه أربعة أنواع: صيام العوام وهو الصوم عن المفطرات وصيام خواص العوام وهو مع اجتناب المحرمات قولا وفعلا، وصيام الخواص وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته، وصيام خواص الخواص وهو الصوم من غير الله فلا فطر له إلى يوم لقائه.

قال الحافظ: وهذا مقام عال، لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى. انتهى.

ص: 215

واختلف: هل الصوم أفضل أم الصلاة؟ فقيل: الصوم أفضل الأعمال البدنية، لحديث النسائي عن أبي أمامة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك قال:"عليك بالصوم فإنه لا عدل له"، والمشهور تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعي وغيره، لقوله عليه الصلاة والسلام:"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة" رواه داود وغيره.

ثم إن الكلام في صيامه صلى الله عليه وسلم على قسمين:

القسم الأول: في صيامه صلى الله عليه وسلم شهر رمضان

وفيه فصول: الأول

فيما كان صلى الله عليه وسلم يخص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده عليه الصلاة والسلام فيه:

اعلم أن "رمضان" مشتق من الرمض، وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا

"واختلف هل الصوم أفضل أم الصلاة، فقيل: الصوم أفضل الأعمال البدنية" وإليه أومأ أبو عمر "لحديث النسائي" بإسناد صحيح "عن أبي أمامة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله مرني" بالنون في النسخ الصحيحة وهو الذي في النسائي، فما في نسخ: مر لي بلام بدل النون تحريف "بأمر آخذه عنك، قال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل" بكسر العين، أي: لا مثل "له" في الأعمال.

وفي رواية للنسائي أيضا: "فإنه لا مثل له".

"والمشهور" عند الجمهور "تفضيل الصلاة" على الصيام وغيره "وهو مذهب الشافعي وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، رواه أبو داود وغيره" وصححاه وهو نص صريح لا يقبل التأويل بخلاف خبر أبي أمامة "ثم إن الكلام في صيامه صلى الله عليه وسلم على قسمين:

"القسم الأول: في صيامه صلى الله عليه وسلم شهر رمضان وفيه فصول

الأول: فيما كان صلى الله عليه وسلم يخص به رمضان من العبادات، وتضاعف" زيادة "جوده عليه الصلاة والسلام فيه اعلم أن" لفظ ""رمضان" مشتق من الرمض" بفتح الميم، قال المصباح: يقال

ص: 216

أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك، كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع، أو لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وهو ضعيف لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع.

ورمضان أفضل الأشهر، كما حكاه الأسنوي، عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام.

قال النووي: وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح. انتهى.

وقد اختلف السلف: هل فرض صيام قبل صيام رمضان أم لا؟ فالجمهور -وهو المشهور عند الشافعية- أنه لم يجب صوم قط قبل رمضان، وفيه وجه -وهو قول الحنفية- أول ما فرض عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. وسيأتي أدلة الفريقين

رمض يومنا يرمض رمضا من باب تعب "وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك" لموافقة الوضع الأزمنة، فقالوا: رمضان ثم كثر حتى استعملوها في الأهلة وإن لم توافق ذلك الزمن "كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع" وذلك حين أربعت الأرض، "أو لأنه يرمض" بفتح الميم "الذنوب، أي: يحرقها وهو ضعيف؛ لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع" الذي عرف منه أنه يرمض الذنوب "ورمضان أفضل الأشهر كما حكاه الأسنوي عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام".

"قال النووي: وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح وإن كان قد جاء فيه أثر" أي: حديث مرفوع "ضعيف" وهو: لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان. أخرجه ابن عدي وضعفه.

"وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح" زاد بعضهم: أو حسن. "انتهى" كلام النووي، وزاد: ولو ثبت أنه اسم لم يلزم كراهة، والصواب ما ذهب إليه المحققون أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبلا قرينة. انتهى، وسبقه إلى نحو ذلك الباجي، فقال: إنه الصواب لقد جاء ذلك في أحاديث صحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء

" الحديث.

"وقد اختلف السلف هل فرض صيام قبل صيام رمضان أو لا، فالجمهور وهو المشهور عند الشافعية أنه لم يجب صوم قط قبل رمضان، وفيه وجه" أي: قول لبعض الشافعية "وهو قول الحنفية: أول ما فرض عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ" وجوبه وبقي ندبه "وسيأتي

ص: 217

في الكلام على صوم عاشوراء إن شاء الله تعالى.

وقد كان فرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة -كما تقدم- فتوفي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات.

ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع الجود والبركات؛ لأن نعم الله تعالى فيه تزيد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات، من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غير من الشهور، وكان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة.

وفي حديث ابن عباس عند الشيخين قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس،

أدلة الفريقين في الكلام على صوم عاشوراء إن شاء الله تعالى، وقد كان فرض رمضان" لليلتين خلتا من شعبان "في السنة الثانية من الهجرة كما تقدم، فتوفي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات".

قال ابن مسعود: صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين. رواه أبو داود والترمذي ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد.

قال في التحفة: وثوابهما واحد، ومحله في الفضل المرتب على رمضان من غير نظر لأيامه، أما ما يترتب على يوم الثلاثين من ثواب واجبه ومندوبه عند سحوره وفطره فهو زيادة يفوق بها الناقص، وكان حكمه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكمل له رمضان إلا سنة واحدة، والبقية ناقصة زيادة تطمين نفوسهم على مساواة الناقص للكامل فيما قدمناه. انتهى.

"ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع" بفتح الميم والباء "الجود" أي: المحل الذي يخرج منه بكثرة تشبيها بمنبع الماء، أي: مخرجه "و" منبع "البركات؛ لأن نعم الله تعالى فيه تزد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غيره من الشهور، وكان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة".

"وفي حديث ابن عباس عند الشيخين" البخاري في بدء الوحي والصوم والصفة النبوية

ص: 218

وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.

فبمجموع ما ذكر في هذا الحديث من الوقت وهو شهر رمضان، والمنزل وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل، والمذاكرة وهي مدارسة القرآن، حصل له عليه الصلاة والسلام المزيد في الجود.

وبدء الخلق وفضائل القرآن، ومسلم في الفضائل "قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس:" أسخاهم على الإطلاق وهو من الصفات الحميدة.

وفي الترمذي مرفوعا: "إن الله جواد يحب الجود"، وقدم هذه الجملة على ما بعدها وإن كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها "وأجود" بدون كان رواية البخاري في الصوم وهي ترجح الرفع في روايته في بدء الوحي، بلفظ: وكان أجود "ما يكون" ما مصدرية، أي: أجود أكوانه يكون "في رمضان حين يلقاه جبريل" أفضل الملائكة وأكرمهم، كذا جزم به المصنف، زاد في رواية: وكان يلقاه كل ليلة من رمضان، يعني: منذ أنزل عليه، أو من فترة الوحي إلى آخر رمضان الذي توفي بعده "فيدارسه القرآن" بعضه أو معظمه.

وفي الصحيحين من وجه آخر عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا نطق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأ "فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" أي المطلقة شبه المعنوي بالمحسوس تقريبا لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ منها؛ لأنها قد تسكن، واستعمل أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي؛ لأن الجود منه صلى الله عليه وسلم حقيقي، ومن الريح مجازي وكأنه استعار للريح جودا باعتبار مجيئها بالخير فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة لطيفة هي أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية إلا أنه تفوت به المبالغة؛ لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح مطلقا.

"فبمجموع ما ذكر في هذا الحديث من الوقت، وهو شهر رمضان والمنزل وهو القرآن والنازل به وهو جيريل والمذاكرة، وهي مدارسة القرآن حصل له عليه الصلاة والسلام المزيد في الجود" وهو الكرم، وفي شرح البخاري للمصنف يحتمل أن زيادة الجود بمجرد لقاء جبريل ومجالسته، ويحتمل أنها بمدارسته إياه القرآن وهو يحث على مكارم الأخلاق، وقد كان القرآن له صلى الله عليه وسلم خلقا يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه ويمتنع مما زجر عنه، فلذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل

ص: 219

والمرسلة: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، إلى عموم النفع بجوده صلى الله عليه وسلم، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه.

ووقع عند الإمام أحمد في آخر هذا الحديث لا يسأل شيئا إلا أعطاه. وتقدم في ذكر سخائه صلى الله عليه وسلم مزيد لذلك.

وقد كان ابتداء نزول القرآن في شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة، كان في رمضان كما ثبت في حديث ابن عباس فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يتعاهده صلى الله عليه وسلم في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم عارضه به مرتين، كما ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها.

وكثرة مدارسته القرآن، ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالط، لكن إضافة ذلك إلى القرآن كما قال ابن المنير: آكد من إضافتها إلى جبريل عليه السلام بل جبريل، إنما تميز بنزوله بالوحي، فالإضافة إلى الحق أولى من الإضافة إلى الخلق لا سيما النبي صلى الله عليه وسلم على المذهب الحق أفضل من جبريل، فما جالس الأفضل إلا المفضول فلا يقاس على مجالسة الآحاد للعلماء. انتهى.

"والمرسلة: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفع بجوده صلى الله عليه وسلم، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه" وعبر بأفعال؛ لأن الريح قد تسكن "ووقع عند الإمام أحمد في آخر هذا الحديث: "لا يسأل شيئا إلا أعطاه" وليست هذه الزيادة في الصحيح، وفيه عن جابر: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: لا، قاله الحافظ.

وقد روى ابن سعد عن عائشة والبزار والبيهقي عن ابن عباس قالا: كان -صلى الل عليه وسلم- إذا دخل رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل.

"وتقدم في ذكر سخائه صلى الله عليه وسلم مزيد لذلك "من المقصد الثالث "وقد كان ابتداء نزول القرآن في شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت في حديث ابن عباس، فكان جبريل عليه السلام يتعاهده صلى الله عليه وسلم في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها".

قال الحافظ: وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في بدء الوحي.

ص: 220

قال في فتح الباري: وفي معارضة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان حكمتان، إحداهما: تعاهده، والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما.

وفي المسند، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان".

وقد دل الحديث على استحباب مدارسة القرآن في رمضان والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه.

"قال في فتح الباري: وفي معارضة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان حكمتان، إحداهما تعاهده والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه، ورفع ما نسخ، لكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضًا وإحكاما، وفي المسند" للإمام أحمد "عن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف "عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أنزلت صحف إبراهيم" بضمتين: جمع صحيفة، وأصلها كما قال الزمخشري قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه، وفي الصحاح الصحيفة الكتاب "في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان" أسقط من حديث المسند وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان "وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".

قال في فتح الباري: هذا الحديث مطابق لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، ولقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين، أي: صبيحتها إلى الأرض أول اقرأ بسم ربك، قال في الإتقان: لكن يشكل على هذا الحديث ما لابن أبي شيبة عن أبي قلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان. انتهى ولا إشكال؛ لأن المقطوع لا يعارض المرفوع إذ أبو قلابة تابعي، وما قاله التابعي ولم يرفع يقال له: مقطوع وهو من أقسام الضعيف.

"وقد دل الحديث" أي: حديث ابن عباس "على استحباب مدارسة القرآن في رمضان والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه" لعل معناه من حيث إن جبريل علم المنسوخ منه من غيره، فكان أحفظ حتى بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 221

وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه صلى الله عليه وسلم وبين جبريل كانت ليلا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا؛ لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان، كما أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة ولفظه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير الكثير".

"وفي حديث ابن عباس" في قوله في بعض طرقه، وكان، أي: جبريل يلقاه كل ليلة "أن المدارسة بينه صلى الله عليه وسلم وبين جبريل كانت ليلًا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا؛ لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر" وفيه أن القرآن أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعله، فإن قيل: القصد تجويدا لحفظ قلنا: الحفظ كان حاصلا، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس "وقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان" إذاعة لفضله وحثا عليه "كما أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة، ولفظه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب": فرض "الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء" الذي في الفتح عن أحمد والنسائي أبواب الجنة وهو المناسب لقوله: "وتغلق فيه أبواب الجحيم": النار حقيقة فيهما، ففتح الجنة لمن مات فيه أو عمل عملا لا يفسد عليه، وذلك علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته، وكذلك غلق أبواب الجحيم "وتغل فيه" أي: تربط "الشياطين" بالأغلال التي تربط بها اليدان والرجلان وتربط في العنق، وهو حقيقة أيضا منعا لهم من أذى المؤمنين ولا يشكل بوقوع المعاصي في رمضان كغيره؛ لأنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه وهو المغلول بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما في الترمذي: صفدت الشياطين مردة الجن والقصد تقليل الشر فيه، وهو أمر محسوس، فإن وقوعه فيه أقل من غيره بكثير أو لا يلزم من غل الشياطين أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية وقيل غير ذلك.

"فيه ليلة خير من ألف شهر" ليس فيها ليلة قدر "من حرمها" أي: العمل الصالح فيها "فقد حرم الخير الكثير".

ص: 222

قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال:"اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". رواه الطبراني وغيره من

قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان" قال القمولي في الجواهر: لم أر لأحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس، لكن نقل الحافظ المنذري عن الحافظ أبي الحسن المقدسي: أن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه أنه مباح لا سنة ولا بدعة. انتهى.

وأجاب الحافظ بعد اطلاعه على ذلك بأنها مشروعة، فقد عقد البيهقي بذلك بابا، فقال: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد تقبل الله منا ومنك، وساق ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة، لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك، ثم قال: ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة بما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته عن تخلفه عن غزوة تبوك، قال: فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون: تهنيك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يشرق وجهه من البشر: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، وللحافظ السيوطي وريقات سماها وصول الأمان بأصول التهاني، قال في أولها: طال السؤال عما اعتاده الناس من التهنئة بالعيد والعام والشهور والولايات ونحو ذلك هل له أصل في السنة، فجمعت هذا الجزء في ذلك.

"وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال: "اللهم بارك لنا في رجب".

قال المصباح: رجب من الشهور مصروف، وفي حواشي الكشاف للتفتازاني: أن رجبا وصفرا إذا أريدا من سنة بعينها منعا الصرف، أي: للعلمية والعدل عن الرجب والصفر وإلا فهما مصروفان، والظاهر من قوله:"بارك لنا رجب"، أن المراد به الشهر الذي هو فيه "وشعبان" ويستحب صومهما "وبلغنا رمضان".

قال ابن رجب: فيه ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا "رواه الطبراني وغيره" كأبي نعيم والبيهقي وابن عساكر "من

ص: 223

حديث أنس.

وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى هلال رمضان قال: "هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، آمنت بالذي خلقك"، رواه النسائي من حديث أنس.

وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا دخل شهر رمضان: "اللهم سلمني من رمضان، وسلم رمضان لي، وسلمه مني". أي: سلمني منه حتى لا يصيبني فيه ما يحول بيني وبين صومه من مرض أو غيره. وسلمه لي: حتى لا يغم هلاله علي في أوله وآخره، فيلتبس علي الصوم والفطر، وسلمه مني: أن تعصمني من المعاصي فيه. وهذا منه صلى الله عليه وسلم تشريع لأمته.

الفصل الثاني: في صيامه عليه السلام برؤية الهلال

عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم

حديث أنس" وضعفه البيهقي وغيره، وخطئ من قال: لم يصح في فضل رجب غيره.

"وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى هلال رمضان قال: "هلال" بالنصب بتقدير اللهم اجعله هلال "رشد" أي: هاد إلى القيام بعبادة الحق يحدث عن ميقات الصوت والحج وغيرهما {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} "وخير" أي: بركة "هلال رشد وخير" بالتكرار "آمنت بالذي خلقك"؛ لأن أهل الجاهلية كان فيهم من يعبد القمر، فنبه بهذا على أنه مخلوق مسخر لأهل الأرض لا تصح عبادته "رواه النسائي من حديث أنس".

وفي حديث أبي سعيد عن ابن السني أنه كان يقول ذلك لا يفيد هلال رمضان، ولفظه: كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك" ثلاثا، ثم يقول:"الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا".

"وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا دخل شهر رمضان: "اللهم سلمني من رمضان وسلم رمضان لي وسلمه مني"، أي: سلمني مه حتى لا يصيبني فيه ما يحول بيني وبين صومه من مرض أو غيره" تفسير للجملة الأولى "وسلمه لي حتى لا يغم" بالبناء للمفعول، أي: لا يحجب "هلاله علي" بغيم ولا غيره "في أوله وآخره فيلتبس علي الصوم والفطر، وسلمه مني بأن تعصمني من المعاصي فيه، وهذا منه صلى الله عليه وسلم تشريع لأمته" إذ هو معصوم أبدا.

"الفصل الثاني: في صيامه عليه السلام برؤية الهلال، عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يتحفظ

ص: 224

لرؤية رمضان، فإذا غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام. رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له". رواه مسلم.

وقوله: "فإن غم عليكم" أي: حال بينكم وبينه غيم.

"فاقدروا له" من التقدير، أي: قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما، ويؤيده قوله في الرواية السابقة:"فإن غم عليه صلى الله عليه وسلم عد ثلاثين" وهو مفسر لـ "اقدروا له" ولهذا لم يجتمعا في رواية. ويؤيده رواية "فاقدروا له ثلاثين".

قال المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله عليه السلام: "اقدروا" له على أن

من شعبان" أي: يجتهد في الوصول إلى العلم بهلاله خشية عدم العلم برؤيته فيؤدي إلى الشك في هلال رمضان، ومن للتعليل والمعنى يتكلف من أجل هلال شعبان "ما لا يتحفظ من غيره لم يصوم لرؤية رمضان، فإذا غم" بضم الغين وشد الميم، أي: ستر "عليه" بسحاب أو غيره "عد ثلاثين يوما" من رؤية هلال شعبان "ثم صام، رواه أبو دود وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتموه" أي: الهلال ليلة الثلاثين من شعبان "فصوموا" أي: انووا الصيام، أو صوموا إذا دخل وقته وهو من فجر الغد، فالتعقيب في كل شيء بحسبه "وإذا رأيتموه" ليلة الثلاثين من رمضان "فأفطروا" من الغد وليس المراد إباحة الإفطار ليلا؛ لأنه لا يتوقف على رؤية الهلال "فإن غم عليكم" في الليلتين، أي: غطي بغيم أو غيره من غممت الشيء غطيته، وفيه ضمير الهلال، ويجوز أن يسند إلى الجار والمجرور، يعني: إن كنتم مغموما عليكم وترك ذكر الهلال للاستغناء عنه "فاقدروا له" بضم الدال وكسرها كما في المطالع وغيرها، وأنكر المطرزي الضم وليست حقيقة الرؤية شرطا لازما للاتفاق على أن المحبوس في مطمورة إذا علم كمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه، قاله ابن دقيق العيد:"رواه مسلم" من حديث ابن عمر بهذا اللفظ من جملة ألفاظ وهو فيه، وفي البخاري بنحوه.

"وقوله: "فإن غم عليكم، أي: حال بينكم وبينه غيم" أو غيره من غممت الشيء إذا غطيته "فاقدروا له من التقدير، أي: قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما، ويؤيده قوله في الرواية السابقة، فإن غم عليه صلى الله عليه وسلم عد ثلاثين" يوما، وكذا جاء في بعض طرق حديث ابن عمر نفسه عند البخاري، بلفظ في: "كملوا العدة ثلاثين" "وهو مفسر لـ "اقدروا له"؛ لأن أولى ما فسر الحديث بالحديث "ولهذا" أي: كونه تفسيرا له "لم يجتمعا في رواية" واحدة "ويؤيده رواية" لمسلم عن ابن عمر نفسه: "فاقدروا له ثلاثين" أي: أكملوا له ثلاثين يوما.

"قال المازري" في شرح مسلم: "حمل جمهور الفقهاء قوله عليه السلام: "اقدروا له

ص: 225

المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين؛ لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى.

وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة، وجمهور السلف والخلف. وفيه دليل: أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في طائف: أي اقدروا له تحت السحاب، فيجوزون صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه.

وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه: قدروه بحساب المنازل.

على أن المراد إكمال العدة ثلاثين، كما فسره في حديث آخر" كحديث عائشة المذكور وبعض طرق حديث ابن عمر كما رأيت، وحديث أبي هريرة: "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما".

وفي رواية: "فعدوا ثلاثين"، رواهما مسلم، وله وللبخاري عن أبي هريرة:"فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

"قالوا": ليس المراد التبري، بل أراد أن هذا التوجيه للجمهور، أي: أنهم قالوا في بيان وجه ما حملوا عليه الحديث "ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين؛ لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى" كلام المازري، وزاد: ولا حجة لهم في قوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ؛ لأنها محمولة عند الجمهور على الاهتداء في السير في البر والبحر "وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور السلف والخلف، وفيه دليل أنه لا يجوز صوم يوم الشك" هو ما يتحدث الناس أنه من رمضان ولم ير أو شهد به من لا تقبل شهادته "ولا يوم الثلاثين" وإن لم يقع شك بالمعنى المذكور "من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم؛" لأنها من شعبان بنص الحديث، لذا عيب على من فسر الشك بذلك، ويصام يوم الشك عادة وتطوعا ولنذر وقضاء وكفارة.

"وقال الإمام أحمد بن حنبل في" أي: مع "طائفة أي: اقدروا له" أي افرضوه موجودا "تحت السحاب، فيجوزون صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه، وقال" أبو العباس "بن سريج" من الشافعية "وجماعة منهم مطرف بن عبد الله" من التابعين "وابن قتيبة" من المحدثين "وآخرون معناه: قدروه بحساب المنازل" لكن المصنف في عهدة قوله:

ص: 226

الفصل الثالث: في صومه صلى الله عليه وسلم بشهادة العدل الواحد

عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه ابن حبان.

وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال:"أتشهد أن لا إله إلا الله"، قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمدا

وآخرون، وقوله قبله وجماعة منهم، فإن الحافظ بعدما عزاه لهؤلاء الثلاثة فقط، قال: قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا. انتهى، فهو ظاهر في قصر التفسير بذلك على الثلاثة المذكورين، ولذا نقله الباجي عن الداودي، قال: لا يعلم أحد قاله إلا بعض الشافعية، يعني ابن سريج، قال: والإجماع حجة عليه، وسبقه إلى حكاية الإجماع ابن المنذر، فقال: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، ونقل ابن العربي عن ابن سريج؛ أن قوله: فاقدروا له، خطاب لمن خصه الله تعالى بهذا العلم، وأن قوله: فأكملوا العدة، خطاب للعامة.

قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحسب العدد، وهذا بعيد عن النبلاء، انتهى، بل هو تحكم محجوج بالإجماع.

وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هو معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه. انتهى، ونقل ابن الروياني عنه أنه لم يقل بوجوبه بل بجوازه. الله تعالى أعلم.

"الفصل الثالث: في صومه صلى الله عليه وسلم بشهادة العدل الواحد"

أي: عدل الشهادة، إذ هو المراد عند الإطلاق، فلا يكفي عبد ولا امرأة ونحوهما.

"عن ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال" أي: نظروا إليه فلم يروه ورأيته أنا "فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه، رواه أبو داود وصححه ابن حبان".

قال المصنف: والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط في الصوم، وهذا أصح قولي الشافعي.

قال البغوي وغيره: ويجب الصوم أيضا على من أخبره موثوق بالرؤية، وإن لم يذكر عند القاضي "وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله، فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال:"أتشهد أن لا إله إلا الله"، قال: نعم، قال:"أتشهد أن محمدا رسول الله"،

ص: 227

"رسول الله"، قال: نعم، قال:"يا بلال، أذن في الناس فليصوموا"، رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

والمراد في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "إذا رأيتموه" رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدل على الأصح في مذهبنا. وهذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور فجوزه بعدل.

قال الأسنوي: إذا قلنا بالعدل الواحد في الصوم فلا خلاف أنه لا يتعدى إلى غيره، فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان، ولا يحل به الدين المؤجل، لا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعي هنا نقلا عن البغوي، وأقره وتبعه عليه في الروضة. وصورته: فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق فإن الطلاق والعتق يقعان. كذا نقله القاضي حسين في تعليقه عن ابن سريج وقال الرافعي: في الباب

قال: نعم، قال:"يا بلال أذن في الناس فليصوموا"، رواه أبو داود والترمذي والنسائي" وجواب من لم يقل بعدل واحد عن هذين الحديثين؛ أنه يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم علم ذلك فحكم بعلمه وهو من خصائصه، فسقط بها الاستدلال ورجع إلى المعلوم أن الشهادة إنما تكون بعدلين.

"والمراد في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "إذا رأيتموه" رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدل على الأصح في مذهبنا" ورؤية عدلين عند غيرهم "وهذا" الخلاف محله "في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور" بمثلثة "فيجوز" أي: يثبت "بعدل عنده".

"قال الأسنوي: إذا قلنا بالعدل الواحد في الصوم فلا خلاف أنه لا يتعدى إلى غيره" أي: الصيام لغير الرائي، أما هو فيثبت في حقه جميع الأحكام "فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان ولا يحل به الدين المؤجل ولا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعي هنا نقلا عن البغوي، وأقره وتبعه عليه في الروضة، وصورته فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق، فإن الطلاق والعتق يقعان، كذا نقله القاضي حسين في تعليقه عن ابن سريج، وقال الرافعي في الباب الثاني من كتاب الشهادات أنه القياس. ا. هـ".

ص: 228

الثاني من كتاب الشهادات: إنه القياس. انتهى.

الفصل الرابع: فيما كان يفعله صلى الله عليه وسلم وهو صائم

عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.

واعلم أن الجمهور على عدم الفطر بالحجامة مطلقا.

وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور: يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء.

وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا.

وقال بقول أحمد، ومن الشافعية: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان.

ونقل الترمذي عن الزعفراني: أن الشافعي علق القول به على صحة

"الفصل الرابع: فيما كان يفعله صلى الله عليه وسلم وهو صائم"

من أمور قد يتوهم خدشها للصوم، كالحجامة والقبلة والإصباح بجنابة والسواك.

"عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" وذلك في حجة الوداع، كما في بعض طرقه "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي" بطرق متعددة.

"واعلم أن الجمهور على عدم الفطر بالحجامة مطلقا"، أي: للحاجم والمحجوم؛ لأنها إخراج، وقد قال ابن عباس: الفطر مما دخل وليس مما خرج وحمل على الغالب؛ لأنه تعمد إخراج المني يفطر.

"وعن علي" أمير المؤمنين "وعطاء" بن أبي رباح "والأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو "وأحمد" بن حنبل "وإسحاق" بن راهويه "وأبي ثور" إبراهيم بن خالد الفقيه: "يفطر الحاجم والمحجوم وأوجبوا عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا، وقال بقول أحمد ومن وافقه من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان".

"ونقل الترمذي عن الزعفراني" نسبة إلى قرية الزعفرانية بقرب بغداد الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الفقيه الإمام في اللغة قال في التقريب: صدوق فاضل تكلم فيه أحمد لمسألة اللفظ، مات سنة خمس أو ثمان وأربعين ومائتين. ا. هـ، وفي التهذيب: مات في رمضان، وفي

ص: 229

الحديث. قال الترمذي: وكان الشافعي يقول ذلك ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة. انتهى.

وقال الشافعي في "اختلاف الحديث" بعد أن أخرج حديث شداد "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان. فقال -وهو آخذ بيدي: "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم ساق حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ثم قال: وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلي احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس. والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. انتهى.

وأول بعضهم حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" على أن المراد به أنهما

الوفيات في شعبان سنة ستين، وقال ابن السمعاني: سنة تسع وأربعين ومائتين.

"أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، قال الترمذي: وكان الشافعي يقول ذلك ببغداد" وهو ما نقله عنه الزعفراني أثبت رواة القديم "وأما بمصر فمال إلى الرخصة" أي: جواز الاحتجام للصائم وأنه لا يفطر. "انتهى. وقال الشافعي في" كتاب "اختلاف الحديث: بعد أن أخرج حديث شداد" بن أوس، قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان الفتح" لمكة "فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة" بفتح النون بدون ياء، أما معها فبإسكان الياء وفتحها "خلت من "رمضان، فقال" صلى الله عليه وسلم:"وهو آخذ بيدي" أي: بيدي شداد "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم ساق" الشافعي "حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، ثم قال" الشافعي:"وحديث ابن عباس أمثلهما" أي: أصحهما "إسنادا؛" لأنه متفق عليه بخلاف حديث شداد ففيه كلام طويل "فإن توقى أحد" لم يقع في الفتح لفظ أحد "الحجامة: كان أحب إلي احتياطا" لئلا تضعفه فيلجأ إلى الفطر.

"والقياس مع حديث ابن عباس" أي: موافق؛ ولأنها إخراج وللإجماع على أن رجلا لو أطعم رجلا طائعا أو مكرها لم يفطر الفاعل "والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. ا. هـ" فإن احتجم وسلم فلا إثم ولا قضاء عليه.

وفي البخاري: أن ثابتا سأل أنسا: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟، قال: لا إلا من أجل الضعف، وفيه أن ابن عمر كان يحتجم وهو صائم، ثم تركه وكان يحتجم بالليل، أي: لما أسن خيفة الضعف وكان كثير الاحتياط، وجزم ابن عبد البر بأن حديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ؛ لأنه في فتح مكة بحديث ابن عباس؛ لأنه في حجة الوداع ولم يدرك بعد ذلك رمضان معه صلى الله عليه وسلم لوفاته في ربيع الأول، وسبقه لذلك الشافعي، كما رواه عنه البيهقي "وأول بعضهم

ص: 230

سيفطران، كقوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، أي ما يؤول إليه. ولا يخفى بعد هذا التأويل. وقال البغوي في "شرح السنة" معناه: أي تعرضا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن من وصول شيء من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم؛ فلأنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر. وقيل: معنى أفطرا: فعلا فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة.

وقال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد "أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم" وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ

حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" على أن المراد به أنهما سيفطران، كقوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي ما يؤول إليه ولا يخفى بعد هذا التأويل". لأنه لا يلزم وصول الدم ولا ضعف القوة أبدًا.

"وقال البغوي في شرح السنة معناه، أي: تعرضا للإفطار، أما الحاجم؛ فلأنه لا يأمن من وصول شيء من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم؛ فلأنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر" والفارق بين هذا وسابقه أنه قطع بأن مآل أمرهما الفطر والبغوي لم يقطع، بل قال: تعرضا ولا يلزم من التعرض الوقوع.

"وقيل: معنى أفطرا فعلا فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة" أي: الصيام.

وقال ابن عبد البر: معناه ذهب أجرهما لما علمه صلى الله عليه وسلم من ذكر كخير من لغا يوم الجمعة فلا صلاة له، أي: ذهب أجر جمعته، وقد قيل: إنهما كانا مغتابين أو قاذفين فبطل أجرهما لا حكم صومهما. ا. هـ.

"وقال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والحجوم" بلا ريب" فقد رواه النسائي والبيهقي بطرق عن الحسن عن أبي هريرة، وثوبان ومعقل بن يسار وعلي وأسامة والترمذي عن رافع بن خديج، وأبو داود والنسائي وابن ماجه وآخرون عن شداد بن أوس وثوبان، قال أحمد: والبخاري عن ثوبان أصح وصححه ابن راهويه عن شداد وصححهما معا ابن المديني، وفي بعض أسانيدهم مقال لكن باجتماع طرقه وتعدد مخارجه يرتقي إلى الصحة.

"لكن وجدنا من حديث أبي سعيد أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم وإسناده صحيح فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة" غالبا ليخرج المسلم فإنه أبيح

ص: 231

الفطر بالحجامة، سواء كان حاجما أو محجوما. انتهى.

والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني، ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس عند الدارقطني ولفظه:"أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان"، ثم أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم". ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك.

ومن أحسن ما ورد في ذلك، ما رواه عبد الرزاق وأبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة، ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه.

بدون تحريم سابق "فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما. ا. هـ" وسبقه إلى القول بالنسخ شيخه ابن عبد البر وسبقهما الشافعي كما مر.

"والحديث المذكور" أي: حديث أبي سعيد "أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس عند الدارقطني، ولفظه: أول ما كرهت الحجامة للصائم" بالبناء للمفعول لرواية البخاري: أن ثابتا سأل أنسا: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ "إن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أفطر هذان" جعفر والذي حجمه "ثم أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد" بضم الدال "في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم، ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه أن ذلك كان في الفتح" لمكة "وجعفر كان قتل" شهيدا "قبل ذلك" في غزوة مؤتة، وقد تدفع النكارة بأنه لم يصرح في حديث أنس هذا بأنه كان في الفتح، فيحمل على أنه رآه قبله فقال ذل، وقاله أيضا بعده في الفتح كا سبق في حديث شداد.

"ومن أحسن ما ورد في ذلك ما رواه عبد الرزاق وأبو داود" من طريق عبد الرحمن بن عابس "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى" الأنصاري المدني، ثم الكوفي "عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وعن المواصلة" للصائم "ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه" مفعول لأجله متعلق بنهي، أي: خوفا عليهم متعلق بلم يحرمهما

ص: 232

وإسناده صحيح، والجهالة بالصحابي لا تضر، ورواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بلفظ: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف، أي لئلا يضعف. انتهى ملخصا من فتح الباري. والله أعلم.

وقالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. قالت: وكان أملككم لإربه أي لحاجته، نعني أنه كان غالبا هواه.

قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمز والراء، يعنون به الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان: أحدهما أن الحاجة يقال فيها؛ الأرب، والإرب، والإربة والمأربة، والثاني: أرادت به العضو، وعنت به من

"وإسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر؛" لأنهم كلهم عدول "ورواه ابن أبي شيبة عن" شيخه "وكيع" بن الجراح "عن الثوري" سفيان بن سعيد، أي: عن ابن عابس عن ابن أبي ليلى "بلفظ: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" أنهم "قالوا: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف، أي: لئلا يضعف" لا لذاتها. "ا. هـ. ملخصا من فتح الباري. والله أعلم".

"وقالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه" عائشة نفسها كما في مسلم عنها: كان يقبلني وهو صائم، أو حفصة كما في مسلم أيضا، أو أم سلمة كما في البخاري، لكن الظاهر أن كلا منهن إنما أخبرت عن فعله معها "وهو صائم" جملة حالية "ثم ضحكت" تنبيها على أنها صاحبة القصة أو لغير ذلك كما يأتي "رواه البخاري" من طريق مالك ويحيى القطان "ومسلم" من طريق سفيان "ومالك" في الموطأ "وأبو داود" من طريق مالك وهو والقطان، وسفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، و"قالت" كما في الصحيحين وغيرهما أيضا من طرق عنها أنها كانت إذا ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم يقبل هو صائم تقول:"وكان أملككم لإربه، أي: لحاجته، نعني" عائشة "أنه كان غالبا هواه" فيملك نفسه، ويأمن من الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة وهيجان نفس بخلافكم فلا تأمنون ذلك، فاللائق لكم الاحتراز عن القبلة والمباشرة.

"قال ابن الأثير" في النهاية: "أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمزة والراء، يعنون به الحاجة" وقدمه الحافظ وقال: إنه الأشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري "وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء" وعزاه الخطابي وعياض لرواية الأكثر، قال النووي: وهو الأشهر.

"وله تأويلان: أحدهما أنه الحاجة" فهما بمعنى "يقال فيها الأرب" بفتحتين "والإرب"

ص: 233

الأعضاء الذكر خاصة. انتهى.

ومذهب الشافعي رحمه الله والأصحاب: أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا.

وقوله: "فضحكت" قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالفها في هذا، وقيل: تعجبت من نفسها، أن حدثت بمثل هذا مما يستحيا من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ في الثقة بها، أو سرورا بمكانتها من النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته لها.

بكسر فسكون "والإربة والمأربة" كل ذلك بمعنى، وفسر الترمذي أربه بنفسه لرواية الموطأ: وأيكم أملك لنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ العراقي: وهو أولى بالصواب؛ لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث، "والثاني: أردت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة. ا. هـ".

قال التوربشتي: لكن حمل الحديث عليه غير سديد لا يغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب، ورده الطيبي بأنها ذكرت أنواع الشهوة مرتقية من الأدنى إلى الأعلى، فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة ثم ثنت بالمباشرة من نحو المداعبة والمعانقة، وأرادت أن تعبر عن المجامعة فسكنت عنها بالأرب، وأي عبارة أحسن من هذا.

"ومذهب الشافعي رحمه الله والأصحاب أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته" بانتصاب الذكر مع أمن الإنزال "لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته" بأن خاف الإنزال "فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا" وكذا عند غيرهم.

قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا رخص فيها إلا وهو يشترط السلامة مما تولد منها، ومن علم أنه يتولد منها ما يفسد صومه وجب عليه اجتنابها. ا. هـ.

"وقوله: فضحكت" المتقدم، والرواية: ثم ضحكت "قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالفها في هذا" مع أنه صلى الله عليه وسلم فعله "وقيل: تعجبت من نفسها إن حدثت بمثل هذا مما يستحيا من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتا الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك" حذرا من كتمه "وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك"، والخجل غير التعجب "أو" ضحكت "تنبيها" للسامع "على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ في الثقة بها، أو"

ص: 234

وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام عن عروة في هذا الحديث: فضحكت فظننا أنها هي.

وروى النسائي عنها قالت: أهوى إلي النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني فقلت: إني صائمة، فقال:"وأنا صائم" فقبلني.

وقد روى أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ويمص لسانها، يعني وهو صائم. إسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبلع ريقه الذي خالط ريقها.

وكان عليه الصلاة والسلام يكتحل بالإثمد وهو صائم. رواه البيهقي من رواية محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده. ثم قال البيهقي: إن محمدا هذا ليس بالقوي، ووثقه الحاكم وأخرج له في مستدركه.

وقالت أم سلمة: كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع لا حلم، ثم لا يفطر ولا

ضحكت "سرورا بمكانتها من النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته لهها" وملاطفته لها.

"وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام عن" أبيه "عروة في هذا الحديث: فضحكت فظننا أنها هي" قائل ذلك عروة راوي الحديث عنها.

وروى النسائي عنها، قالت: أهوى إلي النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني فقلت: إني صائمة، فقال:"وأنا صائم"، فقبلني" وقد أخذ الظاهر به بظواهر هذه الأحاديث فجعلوا القبلة للصائم سنة، وقربة اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، ورد بأنه كان يملك نفسه فليس غيره مثله.

"وقد روى أبو داود عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ويمص لسانها" بضم الميم وفتحها "يعني وهو صائم وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبلع ريقه الذي خالط ريقها" لئلا يفطر، "وكان عليه الصلاة والسلام يكتحل بالإثمد" بكسر الهمزة والميم بينهما مثلثة ساكنة "وهو صائم"، ولذا جوزه الشافعي، ولو وجد طعم الكمل في حلقه ومنعه مالك وأحمد لضعف الحديث. "رواه البيهقي" والطبراني، كلاهما "من رواية" حبان بن علي عن أبيه "محمد بن عبد اله بن أبي رافع، عن أبيه" عبد الله "عن جده" أبي رافع "ثم قال البيهقي: إن محمدا هذا ليس بالقوي" وكذا ابنه حبان، قاله الذهبي "ووثقه الحاكم وأخرج له في مستدركه" من تساهله المعلوم، فقد قال البخاري وأبو حاتم: محمد منكر الحديث.

وقال ابن معين: ليس محمد بشيء ولا ابنه، ونقل في الميزان تضعيف هذا الحديث عن جمع، وقال في الفتح في سنده مقال، وفي تخريج الهداية سنده ضعيف، وقال أبو حاتم: حديث منكر.

"وقالت أم سلمة: كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع لا حلم" بضم الحاء وسكون اللام.

ص: 235

يقضي. رواه البخاري ومسلم.

قال القرطبي: في هذا الحديث فائدتان، إحداهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز، الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال غيره في قولها:"من غير الاحتلام" إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان لاستثنائه معنى.

ورد: بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وأجيب: بأن الاحتلام يقع على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام. وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر. انتهى.

وقال عامر بن ربيعة: رأيته صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصي. رواه

لامتناعه منه، زاد في رواية: في رمضان، أي: وأولى في غيره "ثم لا يفطر" ذلك اليوم الذي يصبح فيه جنبا بل يغتسل ويصومه "ولا يقضي، رواه البخاري ومسلم" واللفظ له، وروياه من طرق عن أم سلمة وعائشة معا بنحوه وفيه قصة.

"قال القرطبي" في المفهم: "في هذا الحديث فائدتان":

"إحدهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز" وإن كان الأفضل الاغتسال قبل الفجر.

"الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه" وهذا هو الأشهر "وقال غيره في قولها" في الرواية التي لم يسق المصنف لفظها: "من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه وإلا لما كان لاستثنائه معنى؛" لأنه لو لم يدخل فيما قبله ما صح إخراجه، وأجيب عن هذا بأنها صفة لازمة، والمعنى يصبح جنبا من جماع ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه، ويدل عليه رواية لا حلم وهو قرب من قوله:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] ، ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق.

"ورد" على قائل أن فيه دليلا على جواز ذلك "بأن الاحتلام من" تلاعب "الشيطان وهو معصوم منه، وأجيب بن الاحتلام يقع على الإنزال وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام" بل بكثرة امتلاء الجسد بالماء ونحو ذلك.

"وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدًا يفطر. ا. هـ" وهو أبو هريرة، ثم رجع لما بلغه حديث عائشة وأم سلمة.

"وقال عامر بن ربيعة" بن كعب بن مالك العنزي بسكون النون حليف آل الخطاب، أسلم

ص: 236

أبو داود والترمذي.

الفصل الخامس: في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام

عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال:"يا بلال انزل فاجدح لنا" قال: يا رسول الله، إن

قديما وهاجر وشهد بدرا، مات ليالي قتل عثمان:"رأيته صلى الله عليه وسلم وهو صائم يستاك ما لا أعد ولا أحصي، رواه أبو داود والترمذي" وبه وبنحوه كحديث: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، ولم يخص صائما من غيره. احتج من قال: بجواز السواك للصائم بعد الزوال، ورجحه النووي في شرح المهذب خلافا لمن كرهه تعلقا بحديث: لخلوف فم الصائم، وأجيب بأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة خالية، غايته أنه يخف بالسواك.

قال ابن دقيق العيد: يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم عند كل صلاة، وفي رواية: عند كل وضوء، وحديث الخلوف لا يخصصه. انتهى.

"الفصل الخامس: في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام، عن عبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة واسمه علقمة ولهما صحبة "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان" لفتح مكة؛ لأنه إنما سافر في رمضان فيه وفي غزوة بدر، وابن أبي أوفى لم يشهد بدرًا، فتعين أنه سفر، الفتح قاله الحافظ:"فلما غابت الشمس" وفي رواية للشيخين: فلما غربت وهي تفيد معنى أزيد من معنى غابت، قاله الحافظ، أي: لأن غابت يحتمل أن غيبتها بسبب غيم يمنع رؤيتها "قال: "يا بلال" كذا في النسخ والذي في الصيحين: "يا فلان".

قال الحافظ: لم يسم المأمور بذلك، وقد أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه فسماه، ولفظه: فقال: "يا بلال"، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن عبد الواحد بن زياد شيخ مسدد فيه، فاتفقت رواياتهم على قوله:"يا فلان"، فلعلها تصحيف، ولعل هذا سر حذف البخاري لها.

وفي حديث عمر عند ابن خزيمة قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل

" إلخ، فيحتمل أن المخاطب بذلك عمر، فإن الحديث واحد، فلما كان عمر هو المقول له "إذا أقبل الليل" احتمل أنه المقول له، لكن يؤيد أنه بلال رواية أحمد، فدعا صاحب شرابه، فإن بلالا هو المعروف بخدمته صلى الله عليه وسلم. انتهى.

واعتذر شيخنا عن المصنف، فقال: لعل حكمة جزمه بقوله قال: "يا بلال"، التعويل على قوله: فدعا صاحب شرابه. انتهى، وهو اعتذار بارد؛ لأنه عزاه للشيخين وليس عندهما ولا عند

ص: 237

عليك نهارا، قال:"انزل فاجدح لنا"، قال: فنزل فجدح فأتى به فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال بيده: "إذا غابت الشمس من ههنا، وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم" رواه البخاري ومسلم.

والجدح -بجيم ثم حاء مهملة- خلط الشيء بغيره. والمراد: خلط السويق

أحدهما "يا بلال""انزل فاجدح لنا" بهمزة وصل وسكون الجيم وفتح الدال وبحاء مهملتين، أي: اخلط السويق بالماء أو اللبن بالماء لنفطر عليه، هكذا ضبطه الحافظ وغيره، فهو الرواية وإن جاز لغة فتح الهمزة وكسر الدال من أجدح.

"قال: يا رسول الله إن عليك نهارًا" وفي رواية: الشمس، أي: باقية، أو انظر الشمس، وفي رواية أخرى: لو أمسيت "قال: "انزل فاجدح لنا" زاد في رواية للشيخين: قال: "لو أمسيت"، وفي أخرى: "الشمس".

قال الحافظ: يحتمل أنه رأى كثرة الضوء من شدة الصحو، فظن أن الشمس لم تغرب وأنه غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقق غروبها.

قال الزين ابن المنير: يؤخذ منه جواز الاستفسار عن الظواهر لاحتمال أن لا يكون المراد ظاهرها، وكأنه أخذ ذلك من تقريره صلى الله عليه وسلم الصحابي على ترك المبادرة إلى الامتثال، وفيه تذكير العالم بما يخشى أنه نسيه وترك المراجعة له بعد ثلاث، وقد اختلفت الروايات في ذلك، فأكثرها أنها وقعت ثلاثًا، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها مرة واحدة، وهو محمول على أن بعض الرواة اختصر القصة، ومن ذكر الثلاث حافظ فزيادته مقبولة.

"قال" ابن أبي أوفى: "فنزل" فلان "فجدح فأتى" في رواية فأتاه "به" أي: بما جدحه "فشرب النبي صلى الله عليه وسلم" منه "ثم قال:" أي: أشار "بيده" قائلا: "إذا غابت الشمس من ههنا" من جهة المغرب "وجاء الليل من ههنا" أي: من جهة المشرق، والمراد به وجود الظلمة الحسية وغيبوبة الشمس ومجيء الليل متلازمان وجمع بينهما؛ لأنهما قد يكونان في الظاهر غير متلازمين لاحتمال أنها لم تغب، بل استترت بشيء "فقد أفطر الصائم" أي: دخل وقت فطره أو صار مفطرا حكما؛ لأن الليل ليس ظرفا للصوم الشرعي، وفي رواية: فقد حصل الإفطار وهي تؤيد التفسير الأول، ورجحه ابن خزيمة وعلله بأن قوله:"فقد أفطر الصائم" خبر ومعناه الإنشاء، أي: فليفطر الصائم، قال: ولو كان المراد فقد صار مفطرا كان فطر جميع الصوام واحدا، ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنى "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، إلا أن لفظ في شهر رمضان إنما وقع في رواية لمسلم، وباقي الروايات عنده كالبخاري ليس فيه ذلك.

"والجدح بجيم" أوله "ثم حاء مهملة" آخره "خلط الشيء بغيره، والمراد خلط

ص: 238

بالماء وتحريكه حتى يستوي.

ومعنى الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا صياما، فلما غربت الشمس أمره صلى الله عليه وسلم بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي تبقى معه بعد غروب الشمس، وظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه صلى الله عليه وسلم لم يرهما، فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا، لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى:"لو أمسيت" وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم الأكل فيه، مع تجويزه أنه عليه السلام لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء قاله النووي. والله أعلم.

الفصل السادس: فيما كان صلى الله عليه وسلم يفطر عليه

عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يجد رطبات

السويق" القمح، أو الشعير المقلو المطحون "بالماء وتحريكه حتى يستوي" زاد في شرحه للبخاري أو اللبن بالماء، وقول الداودي: معناه أحلب رده عياض.

"ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا صياما فلا غربت الشمس أمره عليه السلام بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي تبقى معه بعد غروب الشمس، وظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه صلى الله عليه وسلم لم يرهما" أي: الضياء والحمرة "فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى" عند الشيخين "لو أمسيت" أي: لو أخرت إلى وقت المساء لكنت متمما للصوم، فحذف جواب لو الشرطية، أو هي للتمني فلا جواب لها "وتكريره المراجعة" ثلاث مرات "لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار" وفي نسخ على أنه كان نهارا "يحرم الأكل فيه مع تجويزه أنه ليه السلام لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء، قاله النووي" في شرح مسلم، زاد غيره: أو كان هناك غيم فلم يتحقق الغروب، إذ لو تحققه ما توقف؛ لأنه حينئذ يكون معاندا، وإنما توقفه احتياطا واستكشافا عن حكم المسألة. "والله أعلم".

"الفصل السادس: فيما كان صلى الله عليه وسلم يفطر عليه، عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يفطر" إذا كان صائما "قبل أن يصلي" المغرب "على رطبات، فإن لم يجد رطبات فتمرات" أي: فعلى تمرات "فإن

ص: 239

فتمرات، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء. رواه أبو داود.

وإنما خص عليه السلام الفطر بما ذكر؛ لأن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به، لا سيما قوة البصر. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده. قاله ابن القيم.

الفصل السابع: فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم عند الإفطار

عن معاذ بن زهرة: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: "اللهم لك

لم يجد تمرات حسا حسوات" بحاء وسين مهملتين: جمع حسوة بالفتح المرة من الشرب "من ماء" ولو قراحا، وقد ترجم البخاري باب يفطر بما تيسر له من الماء وغيره، ولبعض رواته بالماء، وأورد فيه حديث الجدح لاشتماله على الماء وغيره، فإن لم يكن غلا الماء أفطر عليه، ففي الترمذي وغيره صحيحا مرفوعا: إذا كان أحدكم صائما فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإنه طهور والأمر للندب عند الكاف، وشد ابن حزم فحمله على الوجوب "رواه أبو داود" والترمذي وحسنه والنسائي وصححه الحاكم، وصريحه تقديم الرطب على التمر وهو على الماء، والقصد بذلك كما قال المحب الطبري أن لا يدخل جوفه أولا ما مسته نار، ويحتمل أن يريد هذا مع قليل الحلاوة تناولا "وإنما خص عليه السلام الفطر بما ذكر؛ لأن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع الوقى به لاسيما قوة البصر؛" لأن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا يجد الكبد فيها ما يجذبه ويرسله إلى القوى والأعضاء فتضعف، والحلو أسرع شيء وصولا إلى الكبد وأحبه إليها سيما الرطب، فيشتد قبولها فتنتفع به هي والقوى، فإن لم يكن فالتمر لحلاوته وتغذيته "وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده، قاله ابن القيم؛" لأن الماء يطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم فتتنبه بعده للطعام وتتلقاه بشهوة.

"الفصل السابع: فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم عند الإفطار: عن معاذ بن زهرة" ويقال فيه: معاذ أبو زهرة، قال:"بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر" من صومه "قال" عند فطره: "اللهم

ص: 240

"صمت، وعلى رزقك أفطرت". وهو حديث مرسل، ومعاذ هذا ذكره البخاري في التابعين لكن قال: معاذ أبو زهرة -وتبعه ابن أبي حاتم وابن حبان- في الثقات. وذكره يحيى بن يونس الشيرازي في الصحابة، وغلطه جعفر المستغفري.

قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث موصولا، ولو كان معاذ تابعيا، لاحتمال أن يكون الذي بلغه له صحابيا. قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في السنن، وبالاعتبار الآخر أورده في المراسيل.

وخرج ابن السني والطبراني في المعجم الكبير، بسند واه جدا عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم".

لك صمت وعلى رزقك أفطرت".

قال الطيبي: قدم الجار والمجرور فيهما على العامل دلالة على الاختصاص وإظهارا للاختصاص في الافتتاح وإبداء الشكر المختص به في الاختتام "وهو حديث مرسل ومعاذ، هذا ذكره البخاري في التابعين" ناقلا عن يحيى بن معين أن حديثه مرسل "لكن قال معاذ أبو زهرة" وهو هو "وتبعه ابن أبي حاتم وابن حبان في الثقات" فذكراه في التابعين "وذكره يحيى بن يونس الشيرازي في الصحابة وغلطه جعفر المستغفري" في تأليفه في الصحابة، وقد ذكره البغوي فيهم، لكنه قال: لا أدري له صحبة أو لا.

"قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث" المذكور "موصولا ولو كان معاذ تابعيا، لاحتمال أن يكون الذي بلغه له صحابيا، قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في السنن، وبالاعتبار الآخر" وهو أنه تابعي مع احتمال أن الذي بلغه ليس بصاحبي "أورده" أبو داود "في" كتاب "المراسيل" وقد ذكره في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا وجزم بأنه تابعي، وكذا جزم في تقريبه وقال: إنه مقبول من الثالثة، أي: أواسط التابعين.

"وخرج ابن السني" بضم المهملة وشد النون "والطبراني في المعجم الكبير" والدارقطني، كلهم "بسند واه" الأكثر فيه حذف الياء ومع ذلك يقرأ بالتنوين ويحذف الياء لفظا لالتقاء الساكنين "جدا" أي: شديد الضعف من وهي الحائط إذا مال للسقوط.

"عن ابن عباس" قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "اللهم لك" لا لغيرك "صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل مني" في رواية الدارقطني: "أفطرنا فتقبل منا" "إنك أنت السميع" لدعائي "العليم" بإخلاصي، قبل: لعله كان يفرد إذا أفطر وحده ويجمع إذا أفطر مع غيره، وهذا لو صح

ص: 241

وعن ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "ذهب الطمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". رواه أبو داود. وزاد رزين: "الحمد لله" في أول الحديث.

وفي كتاب ابن السني، عن معاذ بن زهرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت".

الفصل الثامن: في وصاله صلى الله عليه وسلم

عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني

كان شاهدا لحديث ابن زهرة الذي قبله.

"وعن ابن عمر" بن الخطاب قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ" مهموز الآخر مقصور العطش، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة: 120] ، وإنما ذكرته وإن كان ظاهرا؛ لأني رأيت من اشتبه علي فتوهمه ممدودا، قاله في الأذكار "وابتلت العروق" لم يقل: وذهب الجوع، أيضا لأن الحجاز حار فكانوا يصبرون على قلة الطعام لا العطش، وكانوا يتمدحون بقلة الأكل لا بقلة الشرب "وثبت الأجر" تحريض على العبادة، يعني: زال التعب وبقي الأجر "إن شاء الله" ثبوته بأن يقبل الصوم ويتولى جزاءه بنفسه كما وعد أنه لا يخلف الميعاد.

وقال الطيبي: قوله: "ثبت الأجر" بعد قوله: "ذهب الظمأ"، استبشار منه؛ لأن من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد اللذة بما أدركه ذكر تلك المشقة ومن ثم كان حمد أهل الجنة في الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن "رواه أبو داود" والنسائي وصححه الحاكم "وزاد رزين" السرقسطي" الحمد الله في أول الحديث" وعهدتها عليه، وينبغي للصائم قول ذلك سواء أفطر على رطب أو تمر أو لحم أو غيرها، إذ لم يقيده في الحديث بما إذا فطر على الماء كذا قيل.

"وفي كتاب السني" وكذا شعب البيهقي "عن معاذ بن زهرة" السابق آنفا "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت" فيندب قول ذلك، قال الحافظ: وهذا محقق الإرسال، يعني: أن معاذا تابعي جزم برفعه ولم يقل: بلغني كالسابق.

"الفصل الثامن: في وصاله صلى الله عليه وسلم:

عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل" لم يسم القائلون، وفي الصحيحين عن أبي هريرة: فقال رجل من المسلمين، وفي

ص: 242

"لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى". رواه البخاري ومسلم.

وللبخاري: أنه صلى الله عليه وسلم واصل، فواصل الناس فشق عليهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال:"لست كهيئتكم، إني أظل أطعم وأسقى".

وفي رواية أنس: واصل صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال:"لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي -أو قال: لست مثلكم- إني أظل يطعمني ربي ويسقيني".

وفي رواية: "لا تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كأحد منكم، إني

لفظ فقال: رجال بالجمع، وكأن القائل واحد، ونسب إلى الجمع لرضاهم به، وفيه استواء المكلفين في الأحكام وأن كل حكم ثبت له صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته إلا ما استثنى فطلبوا الجمع بين نهيه وبين فعله الدال على الإباحة، فأجابهم باختصاصه به، حيث "قال:"إني لست كهيئتكم" أي: ليس حالي كحالكم، أو لفظ هيئة، زاد: و"المراد لست كأحدكم"، وفي رواية للبخاري:"لست مثلكم"، ولمسلم عن أبي هريرة:"لستم في ذلك مثلي"، أي: لستم على صفتي ومنزلتي من ربي "إني أطعم وأسقى" بضم الهمزة فيهما "رواه البخاري ومسلم" من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر "وللبخاري" من طريق جويرية عن نافع عن ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم واصل" الصوم من غير فطر بالليل، زاد عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند مسلم في رمضان "فواصل الناس" أي: جنس الناس، هكذا الرواية في البخاري، وكذا في مسلم من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، فنسخة ناس تحريف "فشق عليهم" الوصال لمشقة الجوع والعطش "فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كهيئتكم إني أظل" بفتح الهمزة والظاء المعجمة المشالة "أطعم وأسقى" بضم الهمزة فيهما مبنيا للمفعول.

"وفي رواية أنس" بن مالك قال: "واصل صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان" على الصواب الموافق لبقية الحديث وهو الذي في البخاري، ووقع في أكثر نسخ مسلم في أول ما يمكن تصحيحها بأنه واصل في أوله يومين وثلاثا وفي آخره كذلك، فحكى الراوي وصاله في أوله وهو لا يدل على أن ناسا تبعوه، لاحتمال أنهم انتظروا وصله ثانيا "فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك فقال: "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم" لعجزهم عن ذلك "إنكم لستم مثلي"، أو قال" إني "لست مثلكم" شك الراوي: "إني أظل يطعمني" بضم الياء "ربي ويسقيني" بفتح الياء من سقى وضمها من أسقى.

"وفي رواية" عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل" لم يسم

ص: 243

"أطعم وأسقى". رواه البخاري ومسلم.

والمتعمقون: هم المتشددون في الأمر، المجاوزون الحد في قول أو فعل.

وفي رواية سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني".

وعن عائشة قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني". رواه البخاري ومسلم إلا أن البخاري قال: "نهى" ولم يقل: نهاهم.

وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر

القائلون "قال: "لست كأحد منكم" ولبعض رواة البخاري: كأحدكم "إني أطعم وأسقى"، رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" الأولى في التمني والثانية في الصيام "ومسلم" في الصيام الأولى بلفظها، والثانية بنحوها.

"والمتعمقون" هم "المتشددون في الأمر المجاوزون الحد في قول أو فعل" وهو المراد هنا، أي: المواصلون.

"وفي رواية سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن" البصري: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فعبر بلفظ: أبيت.

"وعن عائشة قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم" نصب على التعليل، أي: لأجل الرحمة، "فقالوا: إنك تواصل، فقال:"إني لست كهيئتكم إني يطعمني" بضم أوله "ربي ويسقيني" بفتح أوله وبالياء، كقراءة يعقوب الحضرمي في الآية حالة الوصل والوقف مراعاة للأصل، وللحسن البصري في الوصل فقط مراعاة للأصل والرسم بحذف الياء كالمصحف العثماني في الشعراء، قاله المصنف "رواه البخاري ومسلم" في الصوم "إلا أن البخاري قال: نهى" رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولم يقل: نهاهم" وهو لفظ مسلم والمعنى واحد.

"وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم" فرضا ونفلا، أسقط من الحديث في الصحيحين، فقال له رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله، فقال:"وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني""فلما أبوا" امتنعوا "أن ينتهوا عن الوصال" لظنهم أن النهي للشفقة عليهم لا أنه نهي حقيقي "واصل بهم يومًا ثم يومًا" أي: يومين "ثم رأوا الهلال" لشوَّال "فقال: لو تأخر" الشهر "لزدتكم" في الوصال إلى أن تعجزوا فتسألوا التخفيف

ص: 244

"لزدتكم. كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"، رواه البخاري.

والوصال: هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا من غير أكل وشرب بينهما.

قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف في معنى قوله "يطعمني ربي ويسقيني".

فقيل: هو على حقيقته، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه.

وتعقب: بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وبأن قوله:"أظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما.

وأجيب: بأن الراجح من الروايات لفظ "أبيت" دون "أظل" وعلى تقدير

منه بالترك "كالتنكيل" أي: المعاقبة "لهم".

وللبخاري في التمني كالمنكل لهم بضم الميم وفتح النون وكسر الكاف مشددة ولام، أي: المعاقب لهم، ولبعض رواته هناك كالمنكر بالراء وسكون النون من الإنكار، ولآخر كالمنكي بتحتية ساكنة قبلها كاف مكسورة خفيفة من النكاية.

قال الحافظ: والأول هو الذي تظافرت به الروايات خارج هذا الكتاب.

"حين أبوا:" امتنعوا "أن ينتهوا" عنه "رواه البخاري" في الصوم والتعزي والتمني من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ورواه مسلم في الصوم.

"والوصال هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا" فرضا أو نفلا "من غير أكل وشرب بينهما" ولا تناول بالليل مطعوما عمدا بلا عذر قاله في المجموع، وقضيته أن الجماع وغيره من المفطرات لا يخرجه عن الوصال، لكن قال الروياني: هو أن يستديم جميع أوصاف الصائمين.

"قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف في معنى قوله: "يطعمني ربي ويسقيني"، فقيل: هو على حقيقته، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا" إذ الوصال عبارة عن عدم الأكل بالليل "وبأن قوله: "أظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما"؛ لأن أظل لا يكون إلا بالنهار، والأكل فيه ممنوع.

"وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت" دون أظل، وعلى تقدير ثبوتها" أي: لفظة

ص: 245

ثبوتها فهي محمولة على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ؛ لأن المحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو "أبيت" فكأن بعض الرواة عبر عنها بـ"أظل" نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون. يقولون كثيرا: أضحى فلان كذا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58] فإن المراد بذلك مطلق الوقت، ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل، وليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من حمل لفظ "أظل" على المجاز، وعلى التنزل فلا يضر شيء من ذلك؛ لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره الشريف من طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية محرمة.

وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعًا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة.

أظل "فهي محمولة على مطلق الكون" أي: أكون عند ربي ليلا أو نهارا "لا على حقيقة اللفظ؛ لأن المحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو أبيت، فكأن بعض الرواة عبر عنها بأظل نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون يقولون كثيرا: أضحى فلان، كذا ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ} أي: صار {وَجْهُهُ} وقت البشارة {مُسْوَدًّا} ليلا، كانت البشارة أو نهارا كما قل.

"فإن المراد بذلك مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل وليس حمل الطعام والشراب على المجاز" الذي ذهب إليه الجمهور "بأولى من حمل أظل على المجاز" إذ ليس أحد المجازين بأولى من الآخر، أو أن المجاز في أظل أقرب "وعلى التنزل" أنه لا مجاز في أظل وأنه لا يكون إلا نهارا "فلا يضر شيء من ذلك" أي: حمل الأكل على حقيقته وأنه بالنهار؛ "لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه" فتناوله غير مفطر ولو نهارا "كما غسل صدره الشريف من طست الذهب" ليلة المعراج وهو بعد البعثة باتفاق "مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية محرمة" كذا في النسخ، ولفظ الحافظ حرام وهو المناسب؛ لأنه خبر استعمال، وأبعد شيخنا النجعة فحمل غسله بطست الذهب على الواقع له قبل البعثة، فاحتاج إلى الجواب بأن أفعاله قبل البعثة تنبعث، فلم يوجد منها ما يخالف شرعة. انتهى.

نعم، قيل: إن الذهب لم يكن حرم ليلة المعراج.

"وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة

ص: 246

كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة.

وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، وأكله وشربه في الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: إني لست في ذلك كهيئتكم، أي على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني ولا ينقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى.

وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب، ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة.

أو المعنى: أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب، لا يحس بجوع ولا عطش.

كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى وليس تعاطيه من جنس الأعمال" حتى يجري عليه أحكامها "وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة" إذ لو أبطلتها لم تكن كرامة، فلا يبطل بذلك صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره.

"وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، واكله وشربه في الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: "إني لست في ذلك كهيئتكم"، أي: على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني ولا ينقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى" وهذا قريب من كلام ابن المنير، غايته أن هذا خصه بالليل وابن المنير عمم على ظاهره.

"وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي:" يعين "على أنواع الطاعة" أي: العبادة "من غير ضعف في القوة" وحاصله أنه يغطي أزيد من الطاعم الشارب ولا أكل ولا شرب "أو المعنى؛ أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس" بضم أوله وكسر الحاء من أحس على الأشهر، وبفتح الياء وضم الحاء "بجوع ولا عطش، والفرق بينه وبين الأول" أي: الذي قبله "أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا

ص: 247

والفرق بينه وبين الأول: أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري، بل مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني: يعطي القوة مع الشبع والري. ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم الوصال؛ لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله عليه السلام، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجر. انتهى.

ويحتمل -كما قاله ابن القيم في "الهدي" وابن رجب في اللطائف- أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين، وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغني هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها

عن الشراب وتلهيها عن الزاد

ري، بل مع الجوع والظمأ": العطش "وعلى الثاني يعطي القوة مع الشبع والري، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم والوصال؛ لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها" التي هي الصيام.

"قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله عليه السلام، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط" بكسر الباء وضمها "على بطنه الحجر" واحدة الحجارة. "انتهى" كلام الحافظ وفيه بعده: وأنكر ابن حبان ربط الحجر، قال: لأن الله تعالى كان يطعم رسوله ويسقيه إذا واصل فكيف يتركه جائعا حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه، ثم قال: وماذا يغني الحجر من الجوع، ثم ادعى أن ذلك تصحيف ممن رواه وإنما هو الحجز بالزاي: جمع حجزة، وقد أكثر الناس من الرد عليه في جميع ذلك، ومر ذلك مبسوطا في كلام المصنف.

"ويحتمل كما قاله ابن القيم في الهدي وابن رجب في اللطائف أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه" المعنوي "ونعيمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين" بردها وسرورها "وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغني هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل" في وصف النياق:

"لها أحاديث من ذكراك تشغلها

عن الشراب وتلهيها عن الزاد

ص: 248

إذا اشتكت من كلال السير أو عدها

روح القدوم فتحيا عند ميعاد

ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب الروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف محبوبه

مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب، فكيف بالحبيب الذي لا شيء أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه بطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال:"إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني". انتهى.

وحكى النووي في شرح المهذب، كما قاله في شرح تقريب الأسانيد: أن معناه أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب، قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى.

"إذا اشتكت من كلال السير أو عدها

"روح القدوم فتحيا عند ميعاد"

لها، أي: للنياق وكلال تعب وروح بضم الراء والنصب مفعول، أي: أوعدها كلال السير روح القدوم فيحصل لها مزيد قوة على السير حتى كأنها حييت بعد الموت.

"ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح من كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف" بالخفض، أي: وبألطاف "محبوبه" وهو "مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب" استفهام تعجبي "فكيف بالحبيب الذي ل شيء أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني". انتهى".

"وحكى النووي في شرح المهذب كما قاله في شرح تقريب الأسانيد أن معناه أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب، قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى" وهو قريب من حاصل ما بسطه ابنا القيم ورجب، لكن الفارق بينهما أن ملحظ هذا أن الشاغل حبه البالغ صلى الله عليه وسلم لله تعالى، وملحظ ذاك أن الشاغل ما يفيض الله عليه به وإن رجع حاصل معناهما إلى معنى واحد، لكن الفرق بينهما بالاعتبار كما علم، وقد حكى الأبي عن أبي بزيزة أن بعض الصوفية واصل ستين يوما، قال: وواصل غيره أكثر، ومثل هذا كثير يذكر في كتب القوم. انتهى.

ص: 249

فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة في قوله: "يطعمني ربي" دون أن يقول: يطعمني الله؟

أجيب: بأن التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية؛ لأن تجلي عظمة لا طاقة للبشر بها، وتجلي الربوبية تجلي رحمة وشفقة.

وقد اختلف الناس في الوصال لنا، هل هو جائز أو محرم أو مكروه؟

فقالت طائفة: إنه جائز إن قدر عليه، وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي يعمر، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وأبا الجوزاء، كما نقله أبو نعيم في الحلية.

ومن حجتهم أنه عليه الصلاة والسلام واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف.

"فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة في قوله: "يطعمني ربي دون أن يقول: يطعمني الله"، أجيب" عنه "بأن" آثر الرب؛ لأن "التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية؛ لأنه تجلي عظمة لا طاقة" قدرة "للبشر بها. وتجلي الربوبية تجلى رحمة وشفقة" وهي أليق بهذا المقام.

"وقد اختلف الناس في الوصال لنا هل هو جائز" لنا "أو محرم أو مكروه؟، فقالت طائفة: إنه جائز إن قدر عليه" بلا كراهة "وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح" عنه" أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا" في أصل الوصال وإن لم يعلم مقدار ما واصلوا "أخت أبي سعيد" الخدري واسمها الفريعة بضم الفاء مصغر، ويقال لها الفارعة بنت مالك بن سنان صحابية لها حديث قضى به عثمان.

"ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي يعمر وعامر بن عبد الله بن الزبير" ثقة عابد "وإبراهيم بن يزيد التيمي" العابد الثقة "وأبا الجوزاء" بجيم وزاي أوس بن عبد لله الربعي "كما نقله أبو نعيم في الحلية، ومن حجتهم أنه عليه الصلاة والسلام واصل بأصحابه بعد النهي، فو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف

ص: 250

عنهم، كما صرحت به عائشة في حديثها، فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب في تأخيرهم الفطر. ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.

ومن أدلة الجواز أيضا: إقدام الصحابة عليه بعد النهي، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما قدموا عليه.

وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة، ونص الشافعي وأصحابه على كراهته، ولهم في هذه الكراهة وجهان أصحهما أنها كراهة تحريم، والثاني: أنها كراهة تنزيه.

واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق جواز الوصال إلى السحر، لحديث أبي سعيد عند البخاري: عنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تواصلوا" فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة عائشه، إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة،

عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها" السابق "فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب في تأخيرهم الفطر ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال" عند هؤلاء.

"ومن أدلة الجواز أيضا إقدام الصحابة عليه بعد النهي، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما قدموه عليه" إذ لا يليق بهم الإقدام مع فهم التحريم.

"وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة ونص الشافعي، وأصحابه على كراهته ولهم في هذه الكراهة وجهان، أصحهما أنها كراهة تحريم، والثاني أنها كراهة تنزيه" وهو المشهور عند المالكية.

"واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق" بن راهويه "جواز الوصال إلى السحر" قبيل الصبح "لحديث أبي سعيد" الخدري "عند البخاري" من إفراده عن مسلم، ووهم من عزاه له "عنه صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" لفظ البخاري حتى السحر.

قال المصنف: بالجر بحتى التي بمعنى إلى، وبقية هذا الحديث عند البخاري قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال:"إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقين" "وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة عشائه

ص: 251

فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم، وإلا فلا يكون قربة.

وقد صرح في الحديث بأن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لست كهيئتكم". وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم". قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يحيل الوصال شرعا.

إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة".

"وقد صرح في الحديث بأن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني لست كهيئتكم"، فلا معنى للوصال إلى السحر لحديث: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، وقالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم أعجل الناس فطرا، قاله أبو عمر.

"وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب" قال: "قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا" أي: من جهة المشرق "وأدبر النهار" أي: ضوؤه "من ههنا" أي: من جهة المغرب وهما متلازمان ذكرهما؛ لأن أحدهما قد يكون أظهر للعين في بعض الأماكن كما لو كان في جهة المغرب، فانحجب البصر عن إدراك الغروب وكان المشرق ظاهرا بارزا، فيستدل بطلوع الليل على الغروب.

قال الطيبي: وإنما قال: "وغربت الشمس" مع الاستغناء عنه لبيان كمال الغروب لئلا يظن أنه إذا غرب بعضها جاز الإفطار.

وقال المصنف: قيد بالغروب إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار وأنهما بواسطة الغروب لا بسبب آخر، فالأمور الثلاثة وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود شيء يغطي الشمس، وكذلك إدبار النهار، فلذا قيد بالغروب.

"فقد أفطر الصائم، قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر" بالفعل "وذلك يحيل" يمنع "الوصال شرعا" فلا ينتفع المواصل بوصاله؛ لأن الليل ليس موضعا للصوم.

قال الطيبي: ويمكن أن تحمل الأخبار على الإنشاء إظهارا للحرص على وقوع المأمور به، أي: إذا أقبل الليل فليفطر الصائم، وذلك أن الخيرية منوطة بتعجيل الإفطار، فكأنه قد وقع

ص: 252

واحتج الجمهور للتحريم: بعموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا"، وأجابوا عن قوله:"رحمة" بأن لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم، وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، وأما الوصال بهم يوما، فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال، وهي الملل من العبادة، والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين، من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها، وسائر الأذكار المشروعة في نهاره وليله.

وأجابوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم". إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه.

وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك. ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه.

وحصل وهو يخبر عنه.

"واحتج الجمهور للتحريم بعموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا"، وأجابوا عن قوله" أي: الشخص الراوي وهو عائشة نهي صلى الله عليه وسلم عن الوصال "رحمة" لهم؛ "بأنه لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم" فمن رحمته أن حرمه "وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم" وهذا يأتي حتى على القول بالكراهة؛ لأن المكروه لا ثواب في فعله.

"وأما الوصال بهم يوما، فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال وهي الملل من العبادة، والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها وسائر الأذكار المشروعة في نهاره وليله" لكن هذا كله لا ينتج التحريم؛ لأنه الح تعليلا للكراهة أيضا المستفادة من صاله بهم بعد النهي واحتمال فعل الحرام لمصلحة الزجر مما لا ينبغي أن يقال "وأجابوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه" وهذا قدمه بمعناه قريبا.

"وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك"، ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه" وتغني عنه الأحاديث الصحيحة الدالة على الخصوصية.

وقد روى الترمذي وغيره عن أبي سعيد مرفوعا: "إن الله لم يكتب الصيام بالليل، فمن

ص: 253

الفصل التاسع: في سحوره صلى الله عليه وسلم

عن أبي هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال: "إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه". رواه النسائي.

وعن العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان

صام فقد تعنى ولا أجر له"، قال الترمذي: سألت عنه البخاري فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد، وقال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. والله أعلم.

"الفصل التاسع: في سحوره" بفتح السين، أي: ما يؤكل وضمها، أي: نفس الفعل صلى الله عليه وسلم أي: في الأمر به وفعله ووقته وفائدته.

"عن أبي هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال: "إنها" أي: هذه الحالة التي نفعلها وهي التسحر، أو أنث مراعاة للخبر وهو "بركة"، أي: نمو وزيادة "أعطاكم الله إياها فلا تدعوه" أي: التسحر "رواه النسائي" وفيه صحابي عن صحابي، وفي معنى كونه بركة وجوه أن يبارك في القليل منه بحيث يحصل به الإعانة على الصوم، ولابن عدي عن علي مرفوعا: "تسحروا ولو بشربة من ماء"، وللطبراني عن أبي أمامة رفعه: ولو بتمرة ولو بحبات زبيب الحديث، ويكون ذلك بالخاصية كما بورك في الثريد والاجتماع على الطعام، أو المراد بالبركة نفي التبعة.

وفي الفردوس من حديث أبي هريرة: "ثلاثة لا يحاسب عليها العبد: أكلة السحور وما أفطر عليه، وما أكل مع الإخوان"، أو المراد بها التقوي على الصيام وغيره من أعمال النهار.

ولابن ماجه والحاكم ن جابر مرفوعا: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبالقيلولة على قيام الليل"، ويحصل به النشاط ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، أو المراد بها الأمور الأخروية، فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادة.

قال عياض: قد تكون هذه البركة ما يتفق للمتسحر من ذكر أو صلاة أو استغفار وغير ذلك من زيادات الأعمال التي لولا القيام للسحور لكان الإنسان نائما عنها وتاركا، وتجديد النية للصوم ليخرج من خلاف من أوجب تجديدها إذا نام بعدها.

قال ابن دقيق العيد: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب؛ لأنه ممتنع عندهم، وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية.

"وعن العرباض" بكسر العين "ابن سارية، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في

ص: 254

قال: "هلم إلى الغداء المبارك". رواه أبو داود والنسائي.

وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وذلك عند السحور: "يا أنس إني أريد الصيام فأطعمني شيئا"، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال، قال:"يا أنس انظر رجلا يأكل معي"، فدعوت زيد بن ثابت فجاء فقال: إني أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وأنا أريد الصيام"، فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة. رواه النسائي.

وعن زر بن حبيش قال: قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. رواه النسائي أيضا.

رمضان، قال:"هلم" قال الرضي: جاء متعديا ولازما بمعنى أقبل فيتعدى بإلى، وبمعنى أحضر في نحو قوله تعالى:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]، وهو عند الخليل هاء التنبيه ركب معها لم أمر من قولك: لم الله شعثه، أي: اجمع نفسك إلينا، فلما غير معناه عند التركيب؛ لأنه صار بمعنى أقبل أو احضر بعدما كان بمعنى أجمع صار كجميع أسماء الأفعال المنقولة عن أصلها.

"إلى الغذاء المبارك" في الدارين على ما رأيت "رواه أبو داود والنسائي".

"وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند السحور: "يا أنس، إني" بشد النون بعد همزة مكسورة في نسخ صحيحة كثيرة، وفي بعضها إلي بلام بدل النون، فإن صحت فالتقدير ادن إلي، فدنا منه فقال: "أريد الصيام فأطعمني شيئا"، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء وذلك بعد ما أذن بلال؛" لأنه كان يؤذن بالليل.

"قال: "يا أنس انظر رجلا يأكل معي"، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء فقال: إني أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أريد الصيام"، فتسحر معه ثم قام فصلى ركعتين" الفجر "ثم خرج إلى الصلاة" أي: الصبح "رواه النسائي".

"وعن زر" بكسر الزاي وشد الراء "ابن حبيش" بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وشين معجمة ابن حباشة بمهملة مضمومة فموحدة ثم معجمة الأسدي الكوفي، ثقة جليل مخضرم، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة كما في التقريب.

"قال: قلنا لحذيفة" ابن اليمان "أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع" سماه نهارا مجازا لقربه منه جدا بحيث طلع الفجر عقب الفراغ منه "رواه النسائي أيضا".

ص: 255

وعن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس بن مالك: قلت: كما كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

والمراد آية متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة.

قال ابن أبي جمرة: كان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك الصبح، أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر.

وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر،

"وعن زيد بن ثابت: قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: أكلنا السحور بالفتح ما يؤكل وقت السحر، أما بالضم فهو اسم لنفس الفعل "ثم قمنا إلى الصلاة" أي: صلاة الصبح.

"قال أنس بن مال: قلت" لزيد: "كم كان قدر ما بينهما؟، قال:" هو "قدر خمسين آية" برفع قدر خبر المبتدأ، ويجوز النصب خبر كان المقدرة في جواب زيد لا في سؤال أنس لئلا يصير كان واسمها من قائل والخبر من آخر.

قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال، كقولهم: قدر حلب شاة وقدر نحر جزور، فعد زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة ولو كانوا يقدرون بغير العمل لقال مثلا قدر درجة أو ثلث أو خمس ساعة، قاله الحافظ "رواه البخاري" في الصلاة والصيام "ومسلم والترمذي والنسائي" وابن ماجه كلهم في الصيام.

"والمراد آية متوسطة لا طويلة ولا قصيرة، لا سريعة ولا بطيئة" في قراءتها بل هي متوسطة بينهما.

"قال ابن أبي جمرة" بجيم وراء في بيان حكمة تأخير السحور: "كان -صلى الله علي وسلم- ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ أنه لو لم يتسحر لاتبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك صلاة الصبح" في وقتها "أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر" وهو مشقة عظيمة.

"وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر فهو

ص: 256

فهو معارض لقول حذيفة: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. انتهى.

وأجاب في فتح الباري: بأن لا معارضة، بل يحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة.

الفصل العاشر: في إفطاره صلى الله عليه وسلم في رمضان في السفر وصومه

عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان. فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك

معارض لقول حذيفة: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. انتهى".

"وأجاب في فتح الباري: بأن لا معارضة بل يحمل على اختلاف الحال" فتارة لا يصله بالنهار بل يكون بينهما قدر قراءة خمسين آية وهو ما أخبر عنه زيد، وتارة يصله به بأنه يطلع الفجر عقب انتهائه وهو ما أخبر به حذيفة وسماه نهارا مجازا، وأفاد قوله: إلا أن الشمس لم تطلع أن النهار لم يطلع حقيقة "فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة" حتى تأتي المعارضة.

"الفصل العاشر: في إفطاره صلى الله عليه وسلم في رمضان في السفر وصومه"

"عن جابر" بن عبد الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة" يوم الأربعاء بعد العصر "في رمضان" سنة ثمان "فصام حتى بلغ كراع" بضم الكاف وفتح الراي مخففة فألف فعين مهملة "الغميم" بفتح الغين المعجمة وكسر الميم الأولى بعدها تحتية ساكنة: واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع جبل أسود متصل به، والكراع كل أنف سال من جبل أو حرة تشبيها بالكراع وهو ما دون الكربة من الساق "وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه"؛ بأن وضعه على راحته وهو على راحلته "حتى نظر الناس" إليه "ثم شرب" ليقتدى به "فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة" مرتين.

قال عياض: وصفهم بذلك؛ لأنه أمرهم بالفطر لمصلحة التقوي على الفعل فلم يفعلوا حتى عزم عليهم بعد.

قال النووي: أو يحمل على من تضرر بالصوم، قال غيرهما: أو عبر به مبالغة في حثهم على الفطر رفقا بهم.

وقال الطيبي: التعريف في العصاة للجنس، أي: أولئك الكاملون في العصيان المتجاوزون

ص: 257

"العصاة". زاد في رواية: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر. رواه مسلم.

وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس، وافطر حتى قدم مكة. وكان

حده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بالغ في الإفطار حتى رفع قدح الماء بحيث يراه كل الناس لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله، فمن أبى فقد بالغ في العصيان، كذا قال: ولا ينبغي هذا في حق الصحابة وقد أمكن غيره.

"زاد في رواية" بعد قوله: فصام الناس "فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينتظرون" أي: يتأملون، كذا في النسخ من الانتظار والذي في مسلم، وإنما ينظرون بدون مثناة "فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء" لم يختلف في حديث جابر أنه من ماء وهو الصحيح في حديث ابن عباس، وشك بعض رواته فقال: من ماء أو لبن "بعد العصر" فشرب "رواه" أي: حديث جابر بالزيادة "مسلم" من طريقين.

"وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان" في غزوة فتح مكة فهو من مرسلات الصحابة؛ لأن ابن عباس لم يكن معه في الفتح وإنما أخذه من غره كما قاله أبو الحسن القابسي، فما يوجد في بعض نسخ المواهب: سافرنا مع رسول الله خطأ صراح مخالف لما في الصحيحين "فصام حتى بلغ عسفان" بضم العين وإسكان السين وفاء: قرية جامعة على أربعة برد من مكة.

وفي رواية للشيخين عن ابن عباس أيضا حتى بلغ الكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى فتحتية فمهملة، فسر في نفس الحديث عند البخاري في المغازي بلفظ: الكديد الماء الذي بين قديد وعسفان. ومر عن جابر: حتى بلغ كراع الغميم، وهذه أماكن مختلفة، والقصة واحدة، وجمع عياض بأنها أماكن متقاربة وعسفان يصدق عليها؛ لأن الجميع من عملها؛ وبأنه أخبر بحال الناس ومشقتهم بعسفان وكان فطره بالكديد، وجمعه الثاني إنما يستقيم على المشهور المعروف أن عسفان على ثمانية وأربعين ميلا من مكة، والكديد على اثنين وأربعين ميلا منها لا على نقله هو أن عسفان على ستة وثلاثين ميلا من مكة، والأول معناه: أنها لتقاربها لا يضر اختلاف الرواة في تسميتها، لجواز أن كلا من الرواة سمى الموضع الذي أفطر فيه باسم، إما موضوع له حقيقة أو سماه به مجازا لقربه مما سماه به غيره "ثم دعا بإناء من ماء" زاد في رواية للشيخين: فرفعه إلى يديه، وفي أبي داود: إلى فيه، وللبخاري من وجه آخر عن ابن عباس بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته بالشك فيهما فيقدم عليه رواية من جزم بالماء،

ص: 258

ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، رواه البخاري ومسلم.

ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب على من صام ولا على من أفطر، فقط صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر.

قال النووي رحمه الله: اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر:

فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان في السفر، وإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه، لظاهر الآية ولحديث:"ليس من البر الصيام في السفر"، وفي الحديث الآخر:"أولئك العصاة".

لأن القصة واحدة ولا دليل على التعدد كما زعم الداودي قاله الحافظ.

"فشرب نهارا ليراه الناس" فيعلموا جواز الفطر "وأفطر حتى قدم" وفي رواية: دخل "مكة" واحتج به مطرف، ومن وافقه من المحدثين وهو أحد قولي الشافعي أن من بيت الصوم في رمضان في السفر له أن يفطر، ومنعه الجمهور؛ لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه وحملوا الحديث على أنه أفطر للتقوي على العدو والمشقة الحاصلة له ولهم.

"وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر" فيه "فمن شاء صام" فيه "ومن شاء أفطر" لكن الصوم أفضل "رواه البخاري" في الصوم وغيره "ومسلم" في الصوم.

"ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب" لفظ مسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: لا تعب.

قال المصنف: بفتح الفوقية وكسر المهملة "على من صام ولا على من أفطر، فقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر" وهذا الحديث لم يحضره ابن عباس؛ لأنه كان مع المستضعفين بمكة. انتهى، أي: أنه مرسل صحابي.

"قال النووي رحمه الله: اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر، فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان في السفر وإن صامه لم ينعقد" وعزاه ابن عبد البر لعمرو ابنه وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف "ويجب قضاؤه لظاهر الآية:"{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فجعل عليه عدة.

"ولحديث" الصحيحين عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وفي الترمذي في غزوة الفتح: رأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال:"ما هذا"؟، قالوا: صائم، فقال:"ليس من البر الصيام في السفر" لفظ البخاري، ولفظ مسلم:"ليس البر أن تصوموا في السفر"، وزاد بعض الرواة:"عليكم برخصة الله التي رخص لكم" قالوا: ما لم يكن من البر فهو من الإثم "و" يؤيده "في

ص: 259

وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر، وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء؟

فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصومه صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال.

وقال سعيد بن المسيب الأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا، وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي، وهو غريب، واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن صوم فلا جناح عليه" وظاهره ترجيح الفطر.

الحديث الآخر: "أولئك العصاة".

قال ابن عبد البر: ولا حجة فيه؛ لأنه عام خرج على سبب، فإن قصر عليه لم تقم به حجة وإلا حمل على من بلغ حاله مثل حال الرجل، أي: ليس له أن يبلغ هذا بنفسه ولو كان إثما لكان عليه السلام أبعد الناس عنه، ويحتمل أن يريد ليس البر أو ليس هو البر، إذ قد يكون الفطر أبر منه في حج أو غزوة ليتقوى عليه وتكون "من" زائدة، كما يقال: ما جاءني من أحد، وما جاءني أحد.

"وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء" لوقوع الأمرين منه صلى الله عليه وسلم.

"فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل" حيث قل الضرر وإلا وجب الفطر ولو للحاضر "واحتجوا بصومه صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال".

"وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا" حصل ضرر أم لا؟.

"وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي وهو غريب" عنه، والمعروف عنه ما سبق.

"واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر" من الآية والحديثين.

"وبقوله صلى الله عليه وسلم" كما رواه مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟، فقال صلى الله عليه وسلم:"هي" أنث باعتبار الخبر وهو "رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح" أي: لا إثم "عليه" وظاهره ترجيح الفطر"؛ لأنه وصفه بالحسن على الفطر؛ لأنه إنما نفى عنه الجناح.

ص: 260

وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا، أو يجد مشقة، كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري قال: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن. وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة.

وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث.

والصحيح: قول الأكثرين. والله أعلم.

وأجاب عياض بأن قوله: "لا جناح" إنما هو جواب لقوله: فهل علي جناح، فلا يدل على أن الصوم ليس بحسن وقد وصفهما معا بالحسن في الحديث الآخر.

وقال الأبي: إنما لم يدل على أن الصوم ليس بحسن؛ لأن نفي الجناح أعم من الوجوب والندب والكراهة والإباحة.

"وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري" عند مسلم "قال: كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد" بفتح الياء وكسر الجيم، أي: لا يعترض ولا يعيب من وجد عليه غضب "الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا" كذا في نسخ صحيحة وهو الذي في مسلم "فأفطر فإن ذلك حسن" فوصفهما جميعا بالحسن "وهذا" التفصيل هو المعتمد وهو "صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة؛" لأنه نص رافع للنزاع.

"وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث" من الجانبين "والصحيح قول الأكثرين" بالتفصيل "والله أعلم" أيهما أفضل حقيقة. انتهى.

ص: 261

القسم الثاني: في صومه صلى الله عليه وسلم غير شهر رمضان

وفيه فصول:

الأول في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر، وفطره أياما

عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر، ويفطر فيقال: لا يصوم. رواه النسائي.

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته. وفي رواية: ما كنت أحب أن أراه من الشهر.

"القسم الثاني: في صومه صلى الله عليه وسلم غير شهر رمضان": كذا في نسخة وهي ظاهرة، وفي نسخة القسم الثاني من صومه صومه غير

إلخ، فصومه بالرفع خبر القسم، وقوله من صومه، أي: من قسمي صومه الأعم من رمضان وغيره، فالأول رمضان كما مر وهذا الثاني. "وفيه فصول:" الفصل "الأول: في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر وفطره أياما عن أبي أمامة" صدي بن عجلان الباهلي، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسرد" أي: يتابع "الصوم، فيقال: لا يفطر" فيما بقي من الشهر "ويفطر، فيقال: لا يصوم" ما بقي من الشهر "رواه النسائي".

"وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن" بنون الجمع وبتحتية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة على المخاطبة ويؤيده قوله بعد ذلك: إلا رأيته، فإنه روي بالفتح والضم معا قاله الحافظ، ويجوز نصب نظن بأن مضمرة بعد حتى ورفعه على حكاية حال ماضية، وقرئ بهما قوله تعالى:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 214] ، "آن لا يصوم منه" بفتح الهمزة أن ونصب يصوم ورفعه؛ لأن إما ناصبة ولا نافية، وإما مفسرة ولا ناهية، قاله المصنف، وقال شيخنا: النصب على أن "أن" مصدرية والرفع على أنها مخففة من الثقيلة، أي: أنه لا يصوم منه شيئا، وأن على الوجهين بما في حيزها ساد مسد مفعولي نظن.

"ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته" مصليا "ولا" تشاء أن تراه "نائما إلا رأيته" نائما، يعني أنه كان تارة يقوم أو الليل، وتارة وسطه، وتارة آخره كما كان يصوم، كذلك فمن أراد أن يراه في وقت من الليل قائما، أو وقت

ص: 262

صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته، ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته، رواه البخاري.

ولمسلم: كان يصوم حتى يقال: قد صام صام، ويفطر حتى يقال: قد أفطر أفطر.

وعن ابن عباس: قال ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم. رواه البخاري ومسلم والنسائي وزادا: ما صام شهرا متتابعا غير رمضان منذ

من الشهر صائما فراقبه مرة بعد مرة، فلا بد أن يصادفه قام أو صام على وفق ما أراد أن يراه، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم، ولا أنه يستوعب الليل قائما، ولا يشكل عليه قول عائشة: كان إذا صلى صلاة داوم عليها، ولا قولها: كان عمله ديمة؛ لأن المراد ما اتخذه راتبا لا مطلق النافلة، هذا وجه الجمع بينهما، وإلا فظاهرهما التعارض قاله الحافظ.

"وفي رواية" عن حميد قال: سألت أنسا عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما كنت أحب أن أراه" أي: رؤيته "من الشهر" حال كونه "صائما إلا رأيته" صائما "ولا" كنت أحب أن أراه من الشهر "مفطرا إلا رأيته" مفطرا "ولا" كنت أحب أن أراه "من الليل قائما إلا رأيته" قائما يصلي "ولا نائما إلا رأيته" نائما "رواه البخاري" يعني: المذكور من الروايتين من طريقين، وبقية الثانية عنده: ولا مسست خزة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكا ولا عبيرة أطيب رائحة من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك المصنف هذا؛ لأنه ليس من غرضه هنا، وقد قدمه في شمائله.

"ولمسلم" عن ثابت عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يصوم حتى يقال: قد صام صام" مرتين، وبقد في الأولى، وفي رواية بإثبات قد فيهما "ويفطر حتى يقال: قد أفطر أفطر" بقد في الأولى لا الانية، وبإثباتهما فيهما.

"وعن ابن عباس قال: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا" وفي رواية لمسلم: شهرا متتابعا "غير رمضان" وهو موافق لقول عائشة: لم يستكمل صيام شهرا إلا رمضان، ويعارضه قولها أيضا: كان يصوم شعبان كله، فإما أن يحمل على الأكثرية، أو على أنه لم يره يستكل إلا رمضان، فأخبر على حسب اعتقاد، ويأتي بسطه في صومه شعبان.

"وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر" وللطيالسي: حتى يقولوا: ما يريد أن يفطر "ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم، رواه البخاري ومسلم والنسائي" وابن ماجه، كلهم في الصوم "وزادا" بالتثنية، أي: مسلم والنسائي: "ما صام شهرًا متتابعا غير رمضان منذ"

ص: 263

قدم المدينة.

ففي هذا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم الدهر كله، ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام.

الفصل الثاني: في صومه صلى الله عليه وسلم عاشوراء

وهو بالمد على المشهور، واختلف في تعيينه: فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس -وهو متوسد رداءه في زمزم- فقلت له: أخبرني عن صوم عاشواء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم. رواه مسلم.

بالنون، ويروى بدونها "قدم المدينة" وقراءة زاد بالإفراد تعطي أنها ليست في مسلم مع أنها فيه بلفظها "ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم الدهر كله ولا قام الليل كله وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة" وهو بهم رؤوف رحيم "وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر" أي: قدر "عليه لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر وقام ونام" فطوبى لمن اقتدى به في بعض ذلك.

"الفصل الثاني: في صومه صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وهو بالمد على المشهور" وحكي قصره، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية، ورده ابن دحية بقول عائشة: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية.

قال الحافظ: ولا دلالة فيه، أي: لجواز أنها قالته بعد اشتهاره في الإسلام بهذا الاسم، وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا عاشوراء وضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وزاد ابن دحية عن ابن الأعرابي: خابوراء.

"واختلف في تعيينه" هل هو العاشر أو التاسع "فعن الحكم" بفتحتين "ابن الأعرج" واسمه عبد الله البصري "قال: انتهت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء؟، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح" بهمزة قطع وكسر الموحدة "يوم التاسع صائما" قال الحكم: "قلت" له: "هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟، قال: نعم، رواه مسلم" من أفراده.

قال القرطبي: يعني لو عاش لصامه، كذلك لوعده الذي وعد به لا أن صام التاسع بدل

ص: 264

قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من أظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الثالث من أيام الورود ربعا، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرا. انتهى.

لكن قال ابن المنير: قوله: "إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما" يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهي الليلة العاشرة. انتهى.

وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومالك وأحمد وإسحاق، وخلائق. وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس يرد عليه معنى قوله: أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم

العاشر، إذ لم يسمع ذلك عنه ولا روي قط. انتهى، ونقله عنه السيوطي وأقره.

"قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ويتأوله على أنه مأخوذ من أظماء الإبل؛" لأنهم يحسبون في الأظماء يوم الورود "فإن العرب تسمي اليوم الثالث من أيام الورود ربعا" نظرا لكونه صبيحة الليلة الرابعة وهم يؤرخون بالليالي، فإذا أقامت في الرعي يومين ثم وردت في الثالث قالوا: وردت بعلوان رعت ثلاثا، وفي الثالث وردت قالوا: وردت خمسا "وكذا باقي الأيام على هذه النسبة" فإذا رعت ثمانية أيام، وفي التاسع وردت، قالوا: وردت عشرا بكسر العين؛ لأنهم يحسبون في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه وأول اليوم الذي ترد فيه بعده "فيكون التاسع عاشرا. انتهى".

"لكن قال ابن المنير قوله: إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما" لم يتقدم بهذا اللفظ ولا هو به في مسلم، فلعله حمل عليه اللفظ الوارد وهو: وأصبح يوم التاسع صائما "يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهي اللية العاشرة. انتهى".

"وذهب جماهر العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، ومن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق، وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ" من التسمية والاشتقاق.

"وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد؛" لأنه خلاف المتبادر "ثم إن حديث ابن عباس"

ص: 265

عاشوراء فقالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر. قاله النووي.

وقال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشر؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم يضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة. وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر، وهذا قول الخليل وغيره.

قال ابن المنير: والأكثر على أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله

نفسه "يرد عليه معنى قوله" في مسلم "أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشواء" وأمر بصيامه كما في مسلم "فقالوا" أي: الصحابة: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى" فكيف تعظمه أنت؟ "فقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع".

وفي رواية لمسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر، قاله النووي" لأن التاسع لم يبلغه، ولعله لو بلغه صامه مع العاشر كما في حديث: "فصوموا التاسع والعاشر".

قال العلماء: السبب في ذلك أن لا نتشبه باليهود في إفراد العاشرة.

قال القرطبي: ظاهره أنه عزم على صوم التاسع بدل العاشر، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس حتى قال لسائله عن يوم عاشوراء: إذا رأت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم الاسع صائما، وبهذا تمسك من رآه التاسع. انتهى.

"وقال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر" بفتح العين "الذي هو اسم العقد واليوم يضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء، فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية، فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو اليوم العاشر وهذا قول الخليل وغيره" من أئمة اللغة، وقيل: هو تاسع المحرم، هذا بقية كلام القرطبي.

"قال ابن المنير:" فعلى الأول اليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني ضاف لليلة

ص: 266

المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.

وقال ابن القيم: فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس، فإنه لم لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، فاكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي بعده الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعل ذلك وهو الأولى، وأما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل، وهو الذي روى "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر" وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا. انتهى فليتأمل.

وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة.

الآتية، قال:"والأكثر على يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق" من العشر الذي هو العقد على ما هو المتبادر "والتسمية" بعاشوراء يعني وأخذه من إظماء الإبل بعيد.

"وقال ابن القيم: فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال" في قوله: وأصبح يوم التاسع صائما "وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع، بل قال للسائل" عن صيام عاشوراء: "صم اليوم التاسع، فاكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي بعده" يسميه "الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه" ويؤيده أن السائل لم يقل ما يوم عاشوراء، أو أي يوم هو، وإنما سأله عن صيامه "وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك" أي: تاسوعاء وعاشوراء "فإما أن يكون" صلى الله عليه وسلم "فعل ذلك" أي: صامما "وهو الأولى" لظاهر حديث ابن عباس على هذا الحمل "وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل" فأطلق عليه أنه صامه تجوزا، ولعل هذا الأولى مما قبله، وإن قال: إنه الأولى لاحتياجه إلى نقل "وهو" أي: ابن عباس "الذي روى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء يوم العاشر" بالجر بدل "وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا. انتهى" كلام ابن القيم "فليتأمل" إذ مع كونه خلاف المتبادر لا مساعد لحمله على هذا.

"وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية" موافقة لهم كالحج، أو أذن الله تعالى

ص: 267

صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي.

واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذي وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء، وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه عليه الصلاة والسلام كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية قبل فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم يوم عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فوض الأمر في صيامه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة.

وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السابق، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، وقد روي عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب. قاله في فتح الباري.

له "فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه" بفتحتين وبضم الهمزة وكسر الميم، روايتان اقتصر عياض على الثانية.

وقال النووي: الأولى أظهر "فلما فرض رمضان" أي: صيامه في السنة الثانية في شعبان "ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه؛" لأنه ليس حتما "رواه البخاري" من طريق مالك "ومسلم" من طرق "ومالك" في الموطأ "وأبو داود والترمذي" من طريق مالك وغيره "واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذي وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه عليه السلام كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية قبل فرض شهر رمضان؛" لأنه فرض في شعبان منها "فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة" هي الثاني كما علم "ثم فوض الأمر في صيامه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة".

وفي نسخ الاستحباب: إذا نسخ الوجوب خلاف مشهور وعلى أنه كان للاستحباب فهو باق على استحبابه "وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السابق" كشرع إبراهيم "ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، و" لكن "قد روي" عند الباغندي "عن عكرمة أنه سئل عن ذلك، فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب، قاله في فتح الباري".

ص: 268

وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وفي رواية: وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه.

وعن سلمة بن الأكوع: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذن في الناس: من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل رواه مسلم.

قال النووي: اختلفوا في حكم صوم عاشوراء في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان:

فقال أبو حنيفة: كان واجبا.

واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين: أشهرهما عندهم أنه لم يزل

"وعن ابن عمر" بن الخطاب: "أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية مسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض "قال" رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه" ومن شاء تركه "رواه البخاري ومسلم وأبو داود".

"وفي رواية" لمسلم: "وكان عبد الله" بن عمر "لا يصومه إلا أن يوافق صومه؛" لأنه كان يكره قصد صيامه بالتعيين لحديث جاء في ذلك، قاله عياض.

"وعن سلمة بن الأكوع" قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا" هو هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي، كما عند أحمد وغيره:"ومن أسلم" بزنة أحمر قبيلة من العرب معروفة، قال فيها صلى الله عليه وسلم:"أسلم سالمها الله""يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن".

وفي رواية للبخاري: ينادى "في الناس من كان لم يصم فليصم" أي: يمسك، إذ الصوم الحفيقي هو الإمساك من أول النهار إلى آخره "ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل" حرمة لليوم.

وفي رواية البخاري: من كان أكل فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم، وفي لفظ له ومن لم يأكل فلا يأكل "رواه مسلم" في الصيام رباعيا وفيه تقصير، فقد رواه البخاري ثلاثيا في محلين من الصوم وفي خبر واحد.

"قال النووي: اختلفوا في حكم صوم عاشوراء في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا" لظاهر الأحاديث "واختلف أصحاب الشافعي" أي:

ص: 269

سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب، والثاني: كان واجبا كقول أبي حنيفة.

وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه. وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله:"أمر بصيامه" والأمر للوجوب، وبقوله:"فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه". ويحتج الشافعية بقوله: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه"، والشافعية أيضا يقولون: معنى قوله في حديث سلمة: "فأمره أن يؤذن في الناس من كان لم يصم فليصم إلخ". أي من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن كان لم ينو الصوم ولم

أهل مذهبه "فيه على وجهين، أشهرهما عندهم؛ أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان" في القرآن "صار مستحبا دون ذلك الاستحباب" أي: غير متأكد.

"والثاني كان واجبا كقول أبي حنيفة وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه" ورد بأن في أبي داود أنهم أتموا بقية اليوم وقضوه "وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: أمر بصيامه والأمر للوجوب" لكنه إنما يقتضيه إذا كان بصيغة أفعل، أما أمر فإنما يدل على الطلب، وهو يحتمل الوجوب والندب ويأتي رد هذا "وبقوله: فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه" فمقتضاه أنه قبل ذلك كان فرضا.

"ويحتج الشافعية بقوله" صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه" فإن ظاهره أنه لم يفرض قط وأجيب بأن معاوية راويه من مسلمة الفتح، فإن كان سمعه بعد إسلامه فإنما سمعه سنة تسع أو عشر، وذلك بعد نسخه برمضان، فمعنى: لم يكتب لم يفرض بعد إيجاب رمضان، وإن كان سمعه قبل إسلامه جاز أنه قبل افتراضه ونسخه برمضان "والشافعية أيضا يقولون: معنى قوله في حديث سلمة" بن الأكوع "فأمره أن يؤذن في الناس: "من كان لم يصم فليصم إلى آخره". أي: من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن

ص: 270

يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم. واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب بنية في النهار ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث: بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا: أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنقل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل وغير. انتهى.

وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم:"لما فرض رمضان ترك عاشوراء" مع العلم أنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك

"كان لم ينو الصوم ولم يأكل، أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم"، واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب" أي: يتحقق ويوجد "نية في النهار" من وجب الشيء وجوبا ثبت "ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم" وكان عاشوراء فرضا.

"وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنقل أن لا يتقدمها" فعل "مفسد للصوم من أكل وغيره. انتهى" كلام النووي.

"وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه" وكونه مشتركا بين الطلب الشامل للندب، والإيجاب ممنوع ولو سلم، فقولها: فلما فرض رمضان إلى آخره دليل على أن الأمر كان للوجو للقطع بأن التخيير ليس باعتبار الندب؛ لأنه مندوب الآن "ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال" كما روى الطبراني وأبو يعلى: أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم عاشوراء حتى يدعو برضعائه فيتفل في أفواههم ويقول لأمهاتهم: لا ترضعوهم إلى الليل وكان ريقه يجزيهم "وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم" عن علقمة قال: دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل يوم عاشوراء، فقال: إن اليوم عاشوراء، فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان "ولما فرض رمضان ترك عاشوراء

ص: 271

وجوبه، وأما قول بعضهم:"المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه" فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث قال:"لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر السنة، فإن تأكيد أبلغ من هذا. انتهى.

وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: "ما هذا"؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه فقال:"أنا أحق بموسى منكم"، فصامه وأمر بصيامه. وفي رواية: فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟ قالوا: هذا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن

مع العلم أنه ما ترك استحبابه، بل هو باق" إلى الآن "فدل على أن المتروك وجوبه" ويدل عليه قول ابن مسعود للأشعث، فإن كنت مفطرا فأطعم، إذ لم يبق استحبابه لقال: فأطعم بدون شرط.

"وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه" إذ هو دعوى بلا دليل "بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم، حيث قال: لئن عشت" وفي رواية: لئن بقيت، ومعناها عشت "إلى قابل لأصومن التاسع" وقوله:"والعاشر" لم يقع في رواية مسلم ولا ابن ماجه "ولترغيبه في صومه وأنه يكفر اسنة" الماضية "فإن تأكيد أبلغ من هذا. انتهى" كلام الحافظ.

"وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" فأقام إلى يوم عاشوراء من السنة الثانية، "فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال" لهم: "ما هذا"؟ الصوم "قالوا: هذا يوم صالح" ولابن عساكر: هذا يوم صالح مرتين "نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل".

وفي رواية لمسلم: موسى وقومه "من عدوهم" فرعون، زاد مسلم: وغرق فرعون وقومه "فصامه" موسى، زاد مسلم: شكرا لله تعالى فنحن نصومه "فقال" صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم" للاشتراك في الرسالة والأخوة في الدين والقرابة الظاهرة دونهم؛ ولأنه أطوع وأتبع للحق منهم "فصامه وأمر بصيامه" الناس.

"وفي رواية" عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء "فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟، قالوا: هذا يوم عظيم" فضله "نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق" ولبعض الرواة وغرق بلا ألف وشد الراء "فرعون وقومه، فصامه موسى

ص: 272

أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وفي أخرى: فنحن نصومه تعظيما له، رواه البخاري ومسلم وأبو داود.

وقد أجاب صاحب "زاد المعاد" وغيره عما استشكله بعضهم في هذا الحديث -وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قدم المدينة في شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء؟ بأنه ليس في الحديث أن يوم قدومه وجدهم يصومونه، فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول، ثاني عشرة، ولكن أول علمه بذلك ووقوع القصة في اليوم الذي كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة.

وقال في الفتح: غايته أن في الكلام حذفا تقديره: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صيامًا. ويحتمل أن

شكرا" لله تعالى على نجاته وقومه وإغراق عدوهم.

زاد أحمد من حديث أبي هريرة: وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا "فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه" بالوحي أو تواتر النقل عنده لا تقليدا لليهود؛ لأن خبرهم لا يقبل، ويأتي بسطه في المتن.

"وفي" رواية "أخرى" عن ابن عباس: فقالوا، أي اليهود: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون "فنحن نصومه تعظيما له" أي: ليوم عاشوراء "رواه البخاري" في مواضع "ومسلم وأبو داود" والنسائي في الصوم.

"وقد أجاب صاحب زاد المعاد" في هدي خير العباد "وغيره عما استشكله بعضهم في هذا الحديث وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فكيف يقول ابن عباس أنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء" وذلك لا يمكن إذ عاشوراء عاشر المحرم؛ "بأنه ليس في الحديث أنه يوم قدومه وجدهم يصومونه" والتعقيب في كل شيء بحسبه تزوج فولد له "فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول ثني عشرة، ولكن أول علمه بذلك، ووقع القصة في اليوم الذي كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة. وقال في الفتح: غايته أن في الكلام حذفا" دل عليه المقام "تقديره: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع، فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما" والحذف المدلول عليه كالملفوظ به فلا إشكال.

ص: 273

يكون أولئك اليهود كانوا يحسبوه يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه صلى الله عليه وسلم المدنية. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى، لإضلالهم اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الحديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول. انتهى.

وقد استشكل أيضا رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى خبر اليهود، وهو غير مقبول.

وأجاب المازري: بأنه يحتمل بأنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بصدقهم فيما قالواه، أو تواتر عنده بذلك حتى حصل له العلم بذلك.

قال القاضي عياض ردا على المازري: وقد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحصل له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال، فقوله:"صامه" ليس فيه أن ابتداء صومه كان حينئذ، ولو كان فيه لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره، قال: وقد قال بعضهم يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه بمكة ثم ترك

"ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون" بضم السين يعدون "يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه صلى الله عليه وسلم المدينة، وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى لإضلالهم" أي: اليهود "اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الحديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول" أن في الكلام حذفا. "انتهى" كلام الفتح.

"وقد استشكل أيضا رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى خبر اليهود وهو غير مقبول؛" لأنهم كفار.

"وأجاب المازري بأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم بذلك" لا بمجرد إخبار اليهود.

"قال القاضي عياض ردا على المازري: وقد روى مسلم" والبخاري "أن قريشا كانت تصومه" وأنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه "فلما قدم المدينة صامه" وأمر بصيامه "لم يحصل له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه؛" لأنه كان يصومه بمكة "وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، فقوله: صامه ليس فيه أن ابتداء صومه كان حينئذ" أي: حين قدومه المدينة "ولو كان فيه لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره".

ص: 274

صيامه حتى علم ما عند الله الكتاب منه فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث.

قال النووي: المختار قول المازري، ومختصر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه كما تصومه قريش في مكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحي أو تواتر أو اجتهاد، لا بمجرد إخبار أحادهم. انتهى.

وقال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إليه شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه أمر بصيامه احتمل أن يكون ذلك استئلافا للهيود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يجب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما

قال عياض: "وقد قال بعضهم: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه بمكة، ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب منه" أي: من فضل صيامه "فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث.

"قال النووي: المختار قول المازري" أنه يوحي أو تواتر "ومختصر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه كما تصومه قريش بمكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه، فصامه أيضا بوحي أو تواتر أو اجتهاد لا بمجرد إخبار آحادهم" أي: اليهود. "انتهى".

"وقال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم" لكن مر عن عكرمة خلاف هذا "وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير" فلا يحتاج إلى ذلك "فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه، احتمل أن يكون ذلك استئلافا لليهود" ليسلموا "كما استألفهم باستقبال قبلتهم" مدة، واستئلافهم بذلك لا يمنع أنه بوحي.

وقد روي أنه أمر بالاستقبال استئلافا لليهود "ويحتمل غير ذلك، على كل حال فلم يصمه اقتداء بهم؛ فإنه كان يصومه قبل ذلك" بمكة "وكان ذلك في الوقت الذي يجب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه؛" لأنه أقرب إلى الحق "ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا" إظهارا

ص: 275

فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما في حديث ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم:"فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع". رواه مسلم.

وهذا دليل الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صوم التاسع.

قال النووي: قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى. انتهى.

وفي رواية البزار من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -يوم عاشوراء:"صوموه وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوما وبعده يوما". ولأحمد

لعدم اعتبار ما هم عليه "كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام عاشوراء وأمر" الناس "بصيامه قالوا" أي: الصحابة: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى" فكيف تعظمه أنت؟ "فقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم".

"وفي رواية" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت" أي: عشت "إلى قابل لأصومن التاسع"، رواه" أي: المذكور من الروايتين "مسلم" في الصوم من إفراده "وهذا دليل الشافعي وأصحابه" ومالك "وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صوم التاسع" فصار مندوبا، وإن لم يصمه؛ لأنه عزم على صومه.

"قال النووي: قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث" المذكور "إشارة إلى هذا" لأنه جعله جوابا لقولهم: تعظمه اليهود "وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى

انتهى" لإشارة الحديث إليه؛ ولأن الخلاف في أنه العاشر أو التاسع إنما حدث بعده.

"وفي رواية البزار من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم عاشوراء"، بنصب يوم بفعل يفسره قوله:"وصوموه" ويجوز رفعه "وخالفوا فيه اليهود: وصوموا قبله يوما وبعده يوما، لأحمد نحوه" وهو يؤيد أنه كي لا يشتبه باليهود "فمراتب صومه ثلاثة أدناها أن يصام

ص: 276

نحوه. فمراتب صومه ثلاثة: أدناها أن يصام وحده، وأكملها أن يصام يوما قبله ويوما بعده، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.

وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين، إما بنقل العاشر إلى التاسع، وإما بصيامهما معا. والله أعلم.

وفي البخاري من حديث أن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم".

وهذا ظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود، حتى يصام ما يفطرون فيه؛ لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث عليه صيامه موافقته على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى. لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أنهم يصومونه، وقد ورد ذلك صريحا في حديث مسلم كان أهل

وحده وأكملها أن يصام يوما" كذا في جميع النسخ بنصب يومان ويوجه بأن نائب فاعل يصام ضمير يعود إلى يوم عاشوراء، ونصب يوما على الحال بتقدير ضاما إليه يوما "قبله ويوما بعده، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث".

"وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين: إما بنقل العاشر إلى التاسع" على ظاهر حديث: "لأصومن التاسع""وإما بصيامهما معا" وهو المرجح. "والله أعلم".

"وفي البخاري" ومسلم، كلاهما "من حديث" قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، عن "أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا" تعظيما له، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: تعظمه اليهود تتخذه عيدا "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم" مخالفة لهم "وهذا ظاهره أن الباعث" الحامل "على الأمر بصومه مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه؛ لأن يوم العيد لا يصام".

"وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب" في صيامه "وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى" وقومه "لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم أنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أنهم

ص: 277

خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، وهو بالشين المعجمة، أي هيئتهم الحسنة.

ومحصل ما ورد في صيامه صلى الله عليه وسلم عاشوراء أربعة أحوال:

إحداها: أنه كان يصومه بمكة، ولا يأمر الناس بصيامه كما تقدم في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه

الحديث.

الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه، حتى كانوا يصومونه أطفالهم، كما تقدم في حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما.

يصومونه" وبه جزم صاحب الأنموذج فقال: كان اليهود يصومون يوم عيدهم "وقد ورد ذلك صريحا في حديث مسلم" من وجه آخر عن قيس عن طارق عن أبي موسى، قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا ويلبسون" بضم التحتية "نساءهم فيه حليهم وشارتهم" فقال صلى الله عليه وسلم:"فصوموه أنتم"، هذا باقيه "وهو بالشين المعجمة" فألف فراء ففوقية أي:"هيئتهم"، وفي شرحه لمسلم: أي: ثيابهم "الحسنة، ومحصل ما ورد في صيامه صلى الله عليه وسلم عاشوراء أربعة أحوال، إحداها: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بصيامه، كما تقدم في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه

الحديث" من بقيته، وأمر بصيامه، فظاهره أنه لم يأمر بصيامه بمكة.

"الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به" ولم ينه عنه "صامه، وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه" فامتثلوا ذلك "حتى كانوا يصومونه" بضم الياء وفتح الصاد وشد الواو المكسورة، أي: يمنعون "أطفالهم" تناول المفطر "كما تقدم في حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما"؛ أنه صامه وأمر بصيامه، وأما تصويم الأطفال فلم يتقدم ولا هو من حديث ابن عباس، وإنما رواه مسلم عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، قالت: فكنا بعد نصومه ونصومه صبياننا ونذهب إلى المسجد، ونصنع لهم اللعبة من العهن ونذهب بها معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم.

ص: 278

الثالثة: أنه لما فرض صوم شهر رمضان ترك صلى الله عليه وسلم صيامه وقال: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه" ويشهد له حديث عائشة السابق.

الحالة الرابعة: أنه صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر، مخالفة لأهل الكتاب في صيامه، كما قدمناه.

وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعا: "إن صوم عاشوراء يكفر سنة وإن صوم يوم عرفة يكفر سنتين". وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء. وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل. والله أعلم.

"الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك صلى الله عليه وسلم صيامه وقال: إن عاشوراء يوم من أيام الله" الفاضلة "فمن شاء صامه ومن شاء تركه" لأنه مستحب فقط "ويشهد له حديث عائشة السابق".

"الحالة الرابعة: أنه صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر" هو التاسع "مخالفة لأهل الكتاب في صيامه" وحده "كما قدمناه".

"وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة" الحرث أو عمرو أو النعمان الأنصاري "مرفوعا" أثناء حديث "أن صوم عاشوراء يكفر سنة وأن صوم عرفة يكفر سنتين" نقل بالمعنى، ولفظ مسلم عن أبي قتادة: فذكر حديثا فيه وقال صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".

"وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يصوم عاشوراء منسوب إلى موسى" عليه الصلاة والسلام "ويوم عرفة منسوب إل النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل".

وقال العلامة زروق: ذلك لأن يوم عرفة يجمع فضيلة العشر إلى فضيلة اليوم، ويشتركان في كونهما بشهر حرام، "والله أعلم" بحقيقة الحكمة في ذلك، قال في النهاية: الاحتساب في الأعمال الصالحات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بأنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم منها طلبا للثواب فيها.

وقال الطيبي: كان الأصل أن يقال: أرجو من الله أن يكفر، فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلي الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب، وأما تكفير السنة التي بعده، فقيل: إنه تعالى يحفظه عن أن يذنب فيها، وقيل: يعطي من الرحمة والثواب ما يكون كفارة السنة الآتية إن اتفق فيها ذنب، والمراد من الذنوب الصغائر، فإن لم يكن صغائر رجى التخفيف من الكبائر،

ص: 279

وأما ما روي: من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها، فرواه الطبراني والبيهقي في "الشعب" وفي "فضائل الأوقات"، وأبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان فقط عن أبي سعيد، والثاني فقط في الشعب عن جابر وأبي هريرة، وقال: إن أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقي في أماليه: لحديث أبي هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ.

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه، وقال: سليمان مجهول. وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه.

فإن لم يكن رفعت الدرجات.

"وأما ما روي" مرفوعا: "من وسع على عياله" وهم من في نفقته "في يوم عاشوراء" وفي رواية بإسقاط في "وسع الله عليه السنة" وفي رواية: في سنته كلها" دعاء أو خبر، وذلك أن الله سبحانه أغرق الدنيا بالطوفان فلم يبق إلا سفينة نوح بمن فيها، فرد عليهم دنياهم يوم عاشوراء وأمروا بالهبوط للتأهب للعيال في أمر معاشهم بسلام وبركات عليهم وعلى من في أصلابهم، فكان ذلك يوم التوسعة والزيادة في وظائف المعاش، فيسن زيادة ذلك في كل عام ذكره الحكيم الترمذي، وذلك مجرب للبركة والتوسعة.

قال جابر الصحابي: جربناه فوجدناه صحيحا.

وقال سفيان بن عيينة: جربناه خمسين أو ستين سنة "فرواه الطبراني" في الأوسط "والبيهقي في الشعب وفي فضائل الأوقات، و" رواه "أبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان" الطبراني والبيهقي "فقط عن أبي سعيد" الخدري.

"والثاني" البيهقي "فقط في الشعب عن جابر وأبي هريرة، وقال" البيهقي: "إن أسانيده كلها ضعيفة ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقي في أماليه لحديث أبي هريرة" خبر مبتدؤه "طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ" محمد السلامي البغدادي.

"وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه" أي: أبي هريرة "وقال: سليمان مجهول" ورده عليه الحافظ وجزم في تقريبه بأن سليمان مقبول من الثالثة، أي: الطبقة الوسطى من التابعين "وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه" في توثيق من لم يجرح.

ص: 280

قال: وله طريق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر في "الاستذكار" من رواية أبي الزبير عنه، وهي أصح طرقه.

ورواه هو والدارقطني في "الإفراد" بسند جيد عن عمر موقوفا عليه، والبيهقي في "الشعب" من جهة محمد بن المنتشر، قال: كان يقال.... وذكره.

"قال" العراقي: "وله طريق عن جابر على شرط مسلم، أخرجها ابن عبد البر في الاستذكار" اسم شرحه الصغير على الموطأ "من رواية أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي "عنه" أي: جابر "وهي أصح طرقه، ورواه هو" أي: ابن عبد البر "والدارقطني في الإفراد" بفتح الهمزة "بسند جيد" أي: مقبول "عن عمر" بن الخطاب "موقوفا عليه و" رواه "البيهقي في الشعب" للإيمان "من جهة" أي: طريق "محمد بن المنتشر" الهمداني الكوفي "قال: كان يقال وذكره" وهذه كلها عبارة شيخه في المقاصد الحسنة بالحرف، ولعبد الملك بن حبيب في الواضحة:

لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا

واذكره لا زلت في الأخيار مذكورا

قال الرسول صلاة الله تشمله

قولا وجدنا عليه الحق والنورا

من بات في ليل عاشوراء ذا سعة

يكن بعيشته في الحول محبورا

فارغب فديتك فيما فيه رغبنا

خير الورى كلهم حيا ومقبورا

قال الحافظ السيوطي: هذا من هذا الإمام الجليل يدل على أن للحديث أصلا، وما يذكر من فضيلة الاغتسال فيه والخطاب والإدهان والاكتحال ونحو ذلك، فبدعة ابتدعها قتلة السين كما صرح به غير واحد، ونظم بعضهم ذلك فقال:

في يوم عاشوراء عشر تتصل

بها اثنتان ولها فضل نقل

صم صل زرعا لما عد واكتحل

رأس اليتيم امسح تصدق واغتسل

ومع على العيال قلم ظفرا

وسورة الإخلاص قل ألفا تصل

وذيله شيخ شيوخنا النور الأجهوري بقوله:

ولم يرد من ذا سوى الصوم كذا

توسعة وغير هذا نبذا

وكذا لا أصل للحبوب في يومه ويعزي للحافظ:

في يوم عاشوراء سبع تهترس

بر وأرز ثم ماش وعلس

وحمص واللوبيا والفول

هذا هو الصحيح والمنقول

ص: 281

الفصل الثالث: في صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان

عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان. رواه البخاري ومسلم، وفي أخرى لهما: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله.

وفي رواية الترمذي: كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله.

وفي رواية أبي داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه

"الفصل الثالث: في" ذكر أحاديث "صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان" الدالة على فضله واستحباب صيامه، وتقدير هل وجد أم لا؟، وأنه أولى من قول الحافظ في قول البخاري باب صوم شعبان، أي: استحبابه، ومن تقدير المصنف فصل فتعسف؛ لأن موضوع المقصد في عباداته صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها صيامه في شعبان الذي تظاهرت به الأحاديث لا السؤال عن وجوده وعدمه وأولويته على تقدير الشارحين لا تظهر.

"عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط" لئلا يظن وجوبه "إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر" بالنصب ثاني مفعول رأيت "صياما" بالنصب لأكثر الرواة وروي بالخفض.

قال السهيلي: وهو وهم، لعل بعضهم كتب صيام بلا ألف على رأي من يقف على المنصوب بلا ألف فتوهم مخفوضا، أو أن بعض الرواة ظن أنه مضاف؛ لأن صيغة أفعل تضاف كثيرا فتوهمها مضافة وذلك لا يصح هنا قطعا "منه" أي: النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية مسلم: منه صياما بتقديم منه "في شعبان" يتعلق بصياما، والمعنى: كان يصوم في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه "رواه البخاري ومسلم" وأبو داود والنسائي.

"وفي" رواية "أخرى لهما" عن عائشة قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصومه كله" زاد في رواية مسلم متصلا بقوله: كله: كان يصوم شعبان إلا قليلا.

"وفي رواية الترمذي" عن عائشة: "كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله" ببل التي للإضراب.

"وفي رواية أبي داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه" بدل من

ص: 282

شعبان، ثم يصله برمضان.

وللنسائي: كان يصوم شعبان، أو عامة شعبان. وفي أخرى له: كان يصوم شعبان إلا قليلا. وفي أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله.

قال الحافظ ابن حجر: أي يصوم معظمه.

ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله. ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله: أن الرواية الأولى مفسرة للثانية ومخصصة لها، وأن المراد بـ "الكل" الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال.

واستبعده الطيبي وقال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان.

الشهور، ويجوز رفع أحب ونصب "شعبان" خبر كان ويجوز عكسه "ثم يصله برمضان" فهذا أيضا ظاهر في صومه كله "وللنسائي" عنها:"كان يصوم شعبان أو عامة شعبان" تحتمل أو الشك والإضراب "وفي أخرى له" للنسائي، عنها:"كان يصوم شعبان إلا قليلا، وفي أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله".

"قال الحافظ ابن حجر" جمعا بين الروايتين "أي: يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن" عبد الله "بن المبارك؛ أنه قال: جائز في كلام العرب" أي: لغتهم "غذا صام أكثر الشهر أن يقول" القائل في شأنه: "صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره" غير القيام.

"قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك" الذي نقله عن العرب "وحاصله؛ أن الرواية الأولى" وهي قوله: إلا قليلا "مفسرة للثانية:" كان يصوم شعبان كله "ومخصصة لها، وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال، واستبعده الطيبي" فقال: كل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التحوز من احتمال البعض، فتفسيره بالبعض مناف له. انتهى، لكن الاستبعاد لا يمنع الوقوع؛ لأن الحديث يفسر بعضه بعضا لا سيما والمخرج متحد وهو عائشة وهي من الفصحاء، وقد نقله ابن المبارك عن العرب: ومن حفظ حجة.

"وقال" الطيبي: جمعا بينهما "يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان" وتعقب بأن قولها: كان يصومه كله يقتضي تكرار

ص: 283

وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أوائل أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى.

ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب.

واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صيام شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها في شعبان. أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق بن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم

الفعل، وأن ذلك عادة له على المعروف من هذه العبارة، وجزم ابن دقيق العيد بأنها تقتضيه عرفًا، لكن صحيح الرازي والنووي أنها لا تقتضيه لا لغة ولا عرفا، فجوابه مستقيم على هذا القول.

"وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة" كله "على المبالغة، والمراد الأكثر" بدليل قولها: إلا قليلا "وإما أن يجمع بأن قولها الثاني:" كان يصوم شعبان كله "متأخر عن قولها الأول:" كان يصومه إلا قليلا "فأخبرت عن أوائل أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى، ولا يخفى تكلفه" لتوقفه على معرفة الأول والثاني ولا تكلف فيه، إذ هو طريق آخر في الجواب بالاحتمال.

"والأول" أي: حمله على المبالغة "هو الصواب" زاد الحافظ، ويؤيده قول عائشة في مسلم والنسائي: ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان وهو مثل حديث ابن عباس في الصحيحين "واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صيام شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فيجتمع فيقضيها في شعبان".

"وأشار لى ذلك ابن بطال" في شرح البخاري "وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق" محمد بن عبد الرحمن "بن أبي ليلى" فنسبه إلى جده بدليل قوله: "عن أخيه عيسى" بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي ثقة كما في التقريب، روى له أصحاب السنن الأربعة "عن أبيه" عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني، ثم الكوفي ثقة من كبار التابعين ورجال الجميع "عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك" لعارض يمنعه من صيامها كسفر "حتى يجتمع عليه صوم السنة،

ص: 284

شعبان. وابن أبي ليلى ضعيف، وقيل: كان يضع الحديث.

وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: "شعبان لتعظيم رمضان". قال الترمذي: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس القوي.

لكن يعارضه ما روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصيام بعد رمضان صوم المحرم". والأولى في ذلك ما في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد أنه قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر

فيصوم شعبان، و" محمد "بن أبي ليلى ضعيف".

"وقيل: كان يضع الحديث" واقتصر في التقريب على أنه صدوق سيئ الحفظ جدا.

"وقيل:" في حكمة إكثاره: "كان" صلى الله عليه وسلم "يصنع" أي: يفعل "ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى" البصري، صدوق له أوهام "عن ثابت" البناني "عن أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟، قال:"شعبان لتعظيم رمضان".

"قال الترمذي: حديث غريب وصدقة عندهم" أي: المحدثين "ليس بالقوي" لأوهامه "لكن يعارضه ما روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" لفظ سلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم".

وفي رواية له: "صيام شهر الله المحرم"، زاد الحافظ: وقيل: حكمة ذلك أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان، وهذا عكس ما مر في حكمة كونهن يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان؛ لأنه ورد فيه أن ذلك لاشتغالهن به عن الصوم، وقيل: حكمة ذلك أنه يعقبه رمضان وهو فرض، فأكثر في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لا يفوته، أي: فلا يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان.

"والأولى في" حكمة "ذلك ما في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد أنه قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر".

وفي نسخة: شهرا بنصبه بنزع الخافض "الشهور ما تصوم من شعبان؟، قال: "ذاك شهر

ص: 285

"يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". فبين صلى الله عليه وسلم وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: "إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما، فصار مغفولا عنه، وكثيرا من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأنه شهر حرام وليس كذلك.

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها أن تكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها: أنه أشق على النفوس؛ لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بني الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم.

وقد روي في صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال،

يغفل" بضم الفاء "الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين" رفعا خاصا غير الرفع العام بكرة وعشيا "فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" لكونه من أفضل الأعمال، ووعد الله أنه الذي يجزي به "فبين صلى الله عليه وسلم وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: "إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه" أحاط به "شهران عظيمان: الشهر الحرام" رجب "وشهر الصيام اشتغل الناس بهما فصار مغفولا عنه" مع رفع الأعمال فيه إلى الله "وكثيرا من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه" أي: شعبان "لأنه" أي: رجب "شهر حرام وليس كذلك".

فقد روى ابن وهب بسنده عن عائشة قالت: ذكر للنبي -صلى اله عليه وسلم- ناس يصومون شهر رجب، فقال:"فأين هم من شعبان""وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها: أن تكون" أي: الطاعة "أخفى، وإخفاء النوافل وأسرارها" عطف تفسير "أفضل لا سيما الصيام، فإنه سر بين العبد وربه ومنها: أنه أشق على النفوس؛ لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بني الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى" اقتدى "بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم" وأفضل العمل أشقه، ومنها: أن المنفرد بالطاعة بين الغافلين قد يرفع به البلاء عن الناس.

"وقد روي في صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال" أي: تنقل

ص: 286

فروي -بإسناد فيه ضعف- عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك في شعبان؟ قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض، فأنا أحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم. وقد روي مرسلا، وقيل: إنه أصح.

وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.

واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء في النهي عن صوم نصف شعبان الثاني، فإن الجمع بينهما

وتفرد أسماء من يموت في تلك الليلة إلى مثلها من العام القابل، عن أسماء: من لم يمت من أم الكتاب فيكتب في صحيفة ويسلم إلى ملك الموت.

"فروي" عند أبي يعلى والخطيب وغيرهما "بإسناد فيه ضعف، عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان، فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك في شعبان" وفي رواية: أرى أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان "قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض" بالبناء للمفعول، ويجوز للفاعل، أي: ملك الموت روحه من شعبان إلى شعبان "فأحب أن لا ينسخ:" يكتب "اسمي إلا وأنا صائم".

وفي رواية أبي يعلى: إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم، أي يأتيني كتابة أجلي، وفيه: أن كتابته في زمن عبادة يرجى لصاحبها الموت على خير، وإن من أولى تلك العبادة الصوم؛ لأنه يروض النفوس وينور الباطن ويفرغ القلب للحضور مع الله.

"وفي روي مرسلا" عن التابعي بدون ذكر عائشة "وقيل: إنه أصح" من وصله بذكرها "وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر، وهو أن صيامه كالتمرين:" التعويد "على صيام رمضان لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن الصوم واعاده" عطف تفسير "ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته" تفسير لحلاوة "فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين" كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يوم صومه فليتم ذلك اليوم".

"وكذا ما جاء في النهي عن صوم نصف شعبان، الثاني" في أبي داود وغيره مرفوعًا:

ص: 287

ظاهر، بأن يحمل النهي على من لم تدخل تلك الأيام في صيام اعتاده.

وأجاب النووي عن كونه عليه السلام لم يكثر الصوم في المحرم، مع قوله:"إن أفضل الصيام ما يقع فيه" بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم في المحرم.

وأما شهر رجب بخصوصه -وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووي وغيره- فلم يعلم أنه صح أنه صلى الله عليه وسلم صامه، بل روي عنه من حديث ابن عباس، مما صحح وقفه، أنه نهى عن صيامه. ذكره ابن ماجه لكن في سنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها. وفي حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "صم من الأشهر

إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" "فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم تدخل تلك الأيام في صوم اعتاده" كما نص عليه بقوله: إلا رجل.. إلخ.

"وأجاب النووي عن كونه عليه السلام لم يكثر الصوم في المحرم مع قوله" ما معناه: "أن أفضل الصيام ما يقع فيه" وسبق لفظه قريبا "بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم" لا من أصل الصيام "أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم في المحرم" لا من أصل الصوم فيه، فإنه كان يصوم.

"وأما شهر رجب بخصوصه، وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووي وغيره،" جملة معترضة بين أما وجوابها وهو: "فلم يعلم أنه صلى الله عليه وسلم صامه، بل روي عنه من حديث ابن عباس مما صحح وقفه" على ابن عباس "أنه نهى عن صيامه ذكره" أي: رواه "ابن ماجه" عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام رجب كله.

قال الذهبي وغيره: حديث لا يصح فيه راو ضعيف متروك، وقد أخذ به الحنابلة، فقالوا: يكره إفراده بالصوم وهل هو صوم كله، أو أن لا يقرن به شهر آخر وجهان عندهم.

"لكن في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها" فيندب صومه "و" ذلك عنده، أعني أبا داود "في حديث مجيبة" بضم الميم وكسر الجيم بعدها تحتانية ثم موحدة امرأة من الصحابة، ويقال: هو اسم رجل كما في التقريب فيما يوجد في نسخة من المتن جحيفة من تصحيف الكتاب لا عبرة بها "الباهلية" بكسر الهاء

ص: 288

"الحرم واترك"، قالها ثلاثا. وفي رواية مسلم عن عثمان بن حكيم الأنصاري قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب -ونحن يومئذ في رجل- فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم. والظاهر: أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقي الشهور.

وفي "اللطائف": روي عن الكتاني أخبرنا تمام الرازي حدثنا القاضي يوسف

نسبة إلى باهلة، قبيلة "عن أبيها أو عمها" شك الراوي "أنه صلى الله عليه وسلم قال له" أي: لأبيها أو عمها: "صم من الأشهر الحرم" بضمتين جمع حرام "واترك"، قالها" أي: هذه الجملة "ثلاثا" من المرات للتأكيد.

ولفظ أبي داود عن أبي السليل عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حالته وهيئته، فقال: يا رسول الله أما تعرفني؟، قال:"من أنت"؟، قال الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال:"فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة"؟، قال: ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل، فقال صلى الله عليه وسلم:"لم عذبت نفسك"؟، ثم قال:"صم شهر الصبر رمضان ويوما من كل شهر"، قال: زدني فإن بي قوة، قال:"صم يومين"، قال: زدني، قال:"صم ثلاثا"، قال: زدني، قال:"صم من الحرم واترك"، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك،" وقال: بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها.

"وفي رواية مسلم عن عثمان بن حكيم:" بفتح الحاء وكسر الكاف ابن عبادة بن حنيف بمهملة ونون وفاء مصغر "الأنصاري" الأوسي، المدني ثم الكوفي "قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب ونحن يومئذ في رجب، فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى" ينتهي صومه إلى غاية "نقول: لا يفطر ويفطر حتى" ينتهي حاله إلى غاية "نقول: لا يصوم، والظاهر أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقي الشهور" إذ لم يثبت في صومه نهي ولا ندب بعينه، وإن كان أصل الصوم مندوبًا إليه، نعم حديث الباهلي قبله: قد يقتضي ندب الصوم منه.

"وفي اللطائف" لابن رجب الحنبلي: "روي عن الكتاني" بفتح الكاف وشد الفوقية نسبة إلى الكتان عبد العزيز بن أحمد التميمي، الدمشقي، الصوفي، الإمام المحدث المتقن، سمع الكثير وألف وجمع "أنا" اختصار في الكتابة، لقوله: أخبرنا "تمام" بن محمد بن عبد الله بن جعفر "الرازي" الأصل ثم الدمشقي، ولد بها وسمع أباه وخلقا، وعنه جماعة: كان حافظا عالما بالحديث والرجال خيرا، قال تلميذه الكتاني: كان ثقة لم أر أحفظ منه في حديث الشاميين "أنا

ص: 289

حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا يوسف بن موسى السراج حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء أن عروة قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في رجب؟ قال: نعم ويشرفه، قالها ثلاثا، أخرجه أبو داود وغيره.

وعن أبي قلابة قال: إن في الجنة قصرا لصوام رجب. قال البيهقي: أبو قلابة هذا من كبار التابعين لا يقوله إلا عن بلاغ.

الفصل الرابع: في صومه صلى الله عليه وسلم عشر ذي الحجة

والمراد بها الأيام التسعة من أول ذي الحجة.

القاضي يوسف" بن يعقوب إسماعيل بن حماد بن زيد البصري ثم البغدادي الإمام الحافظ الثقة الصالح، العفيف المهاب، الشديد على الحكام، ولي قضاء البصرة وواسط "حدثنا" اختصار لحدثنا في الكتابة "محمد بن إسحاق السراج" بشدة الراء الحافظ، قال: "حدثنا يوسف بن موسى السراج، حدثنا حجاج بن منهال" بكسر الميم السلمي مولاهم البصري من رجال الجميع، قال: "حدثنا حماد بن سلمة" بن دينار من رجال مسلم "حدثنا حبيب المعلم" البصري مولى معقل بن يسار، قيل: اسم أبيه زائدة، وقيل: زيد "عن عطاء" بن أبي رباح "أن عروة" بن الزبير "قال لعبد الله بن عمر" بن الخطاب: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في رجل؟، قال: نعم ويشرفه" أي: يذكر أن فيه فضلا "قالها ثلاثا" أي: ثلاث مرات "أخرجه أبو داود وغيره" من طريق حجاج بن منهال به "وعن أبي قلابة" بكسر القاف وخفة اللام وموحدة عبد الله بن زيد الجرمي بفتح الجيم وإسكان الراء البصري "قال: إن في الجنة قصرا لصوام رجب، قال البيهقي: أبو قلابة هذا من كبار التابعين، لا يقوله إلا عن بلاغ".

قال ابن رجب: وهذا أصح ما ورد فيه، وهذا كما قال غيره لا يقتضي صحته؛ لأنهم يعبرون بمثل ذلك في الضعيف كما يقولون أمثل ما في الباب، وهذا وإن صح عن أبي قلابة فهو مقطوع، إذ المقطوع قول التابعي وفعله.

وعند البيهقي عن أنس مرفوعا: "إن في الجنة نهرا يقال له رجل أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر"، ضعفه ابن الجوزي وغيره، وصرح الحافظ وغيره بأنه لم يثبت في صومه حديث صحيح.

"الفصل الرابع: في صومه صلى الله عليه وسلم عشر ذي الحجة، والمراد بها الأيام التسعة من أول

ص: 290

عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. رواه أبو داود.

وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط. رواه مسلم والترمذي.

وهذا يوهم كراهة صوم العشر، وليس فيها كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه" يعني العشر الأول من ذي الحجة، واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لا ندراج الصوم في

ذي الحجة؛" لأن العاشر العيد وصومه حرام "عن هنيدة" بهاء ونون مصغر "ابن خالد" الخزاعي، ويقال: النخعي ربيب عمر مذكور في الصحابة، وقيل: تابعي كبير، وذكره ابن حبان في الموضعين "عن امرأته:" لم أقف على اسمها وهي صحابية "عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" هي حفصة، قاله الحافظ.

وقال المنذري: اختلف فيه على هنيدة، فمرة قال هكذا، ومرة عن حفصة ومرة عن أم سلمة "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة" ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى، هذا بقية ذا الحديث الذي "رواه أبو داود" والنسائي وأحمد وحسنه بعض الحفاظ، وقال الزيلعي: حديث ضعيف.

"وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط" أي: عشر ذي الحجة، والمراد به التسع كما مر "رواه مسلم والترمذي وهذا يوهم كراهة صوم العشر" أي: التسع "وليس فيها كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا" فقد روى الترمذي وابن ماجه بسند فيه مقال عن أبي هريرة مرفوعا: "ما من أيام أحب إلى الله تعالى أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر""لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة" ولما صح أنه يكفر سنتين "فقد ثبت في صحيح البخاري" في كتاب العيد عن ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه، يعني العشر الأول من ذي الحجة" كذا ساقه المصنف، والذي في البخاري ما العمل في أيام أفضل منها في هذه.

قال الحافظ: كذا الأكثر الرواة بإبهام أيام، وفي رواية كريمة عن الكشميهني: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه، وروايتها شاذة مخالفة لما رواه أبو ذر، وهو من الحفاظ عن

ص: 291

العمل.

واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد؟ وأجيب: بأنه محمول على الغالب.

ويتأول قولها -يعني عائشة: "لم يصم العشر" على أنه لم يصمه لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل عليه حديث هيندة بن خالد الذي ذكرته.

قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب: ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى. وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي

الكشميهني شيخ كريمة، بلفظ:"ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر"، وكذا أخرجه أحمد وغيره ورواه الطيالسي في مسنده، والدارمي بلفظ:"ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة"، ورواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بلفظ:"ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر"، ولفظ الترمذي:"من هذه الأيام العشر" بدون يعني، وظن بعضهم أن قوله يعني تفسير من بعض رواته، لكن ما ذكرناه من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس الخبر. انتهى فلم يعز اللفظ الذي ساقه المصنف إلا لغير البخاري.

"واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل" لشموله له وللصلاة والذكر والصدقة وغير ذلك "واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد وأجيب بأنه محمول على الغالب" أي: الأكثر من الأيام العشرة "ويتأول" أي: يحمل "قولها، يعني عائشة: لم يصم العشر على أنه لم يصمه" حينا "لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر؛" لأنها إنما نفت رؤيتها.

"ويدل عليه حديث هنيدة بن خالد الذي ذكرته" أولا: كان يصوم تسع ذي الحجة والمثبت متقدم على النافي، وقد يقسم لتسع فلم يصمها عند عائشة وصام عند غيرها، ورد بأنه يبعد كل البعد أن يلازم عدة سنين على عدم صومه في نوبتها دون غيرها، فالجواب الأول أسد.

"قال الحافظ بن حجر: وقد وقع" عند الدارمي وأبي عوانة "في رواية القاسم بن أبي أيوب" عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله" العامل "في عشر الأضحى".

"وفي حديث جابر" بن عبد الله المروي "في صحيحي" بالتثنية "أبي عوانة وابن حبان" مرفوعا: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة، فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر

ص: 292

الحجة" فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك: فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعا بين الحديث السابق وبين حديث أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة" رواه مسلم. أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه، وقال الداودي: لم يرد عليه السلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد يكون منها يوم الجمعة، يعني: فيلزم تفضيل الشيء على نفسه، وتعقب: بأن المراد: كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة في غيره لاجتماع الفضيلتين فيه، والذي يظهر أن السبب في امتياز

ذي الحجة على غيرها من أيام السنة" وظهر بذلك أيضا أن المراد بالأيام في حديث ابن عباس: أيام عشر ذي الحجة، لكنه يشكل على ترجمة البخاري عليه باب فضل العلم في أيام التشريق، وأجيب بأن الشيء يشرف بمجاورة الشريف وأيام التشريق تلو أيام العشر الثابت لها الفضيلة بهذا الحديث فثبتت لأيام التشريق، وبأن شرف العشر إنما هو لوقوع أعمال الحج فيه، وباقي أعماله تقع في أيام التشريق، كرمي وطواف وغيرهما من تتماته فاشتركت معها في أصل الفضل، وبأن ختام العشر مفتتح أيام التشريق، فمهما ثبت للعشر من الفضل شاركتها فيه؛ لأنه يوم العيد بعضها، بل هو رأس كل منهما وشريفه وهو يوم الحج الأكبر.

"وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة جمعا بين الحديث السابق، وبين حديث أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة"، رواه مسلم" ومر شرحه "أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه" على مسلم.

"وقال الداودي" أحمد بن نصر في شرح البخاري: "لم يرد عليه السلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد" للتحقيق "يكون منها يوم الجمعة، يعني: فيلزم تفضيل الشيء على نفسه" وهو باطل "وتعقب بأن المراد كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة سواء كان يوم الجمعة أم لا ويوم الجمعة فيه" أي: في العشر "أفضل من يوم الجمعة في غيره لاجتماع الفضيلتين فيه" أي: كونه من أيام العشر وكونه يوم الجمعة "والذي يظهر

ص: 293

عشر ذي الحجة إمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها. وعلى هذا: يخص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال. انتهى.

وقال أبو أمامة ابن النقاش: فإن قلت: أيما أفضل، عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان؟ فالجواب: أن أيام عشر ذي الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذي ما رئي الشيطان في يوم غير يوم بدر أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه فيه، وهو يوم عرفة، ولكون صيامه يكفر سنتين، ولاشتمالها على أعظم الأيام عند الله حرمة وهو يوم النحر الذي سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر، وليالي عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل في قوله:"ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" الحديث، فتأمل قوله:"ما من أيام" دون

أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة" بالفضل على غيره "إمكان اجتماع أمهات" أي: أصول "العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها، وعلى هذا هل يخص الفضل بالحاج" لأنه الذي تميزت به "أو يعم المقيم فيه احتمال" والثاني ظاهر الحديث لاسيما على رواية:"ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى"، فإن المتبادر منه تفضيل عمل، أي: عامل وإن لم يكن حاجا. "انتهى" كلام الحافظ.

"وقال أبو أمامة ابن النقاش: فإن قلت: أيما أفضل عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان، فالجواب أن أيام عشر ذي الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذي ما رئي" بالبناء للمفعول "الشيطان في يوم غير يوم بدر أدحر" بفتح الهمزة وإسكان الدال وفتح الحاء وراء مهملات، أي: أبعد من الخير.

قال تعالى: {مَدْحُورًا} [الأعراف: 18]، أي: مبعدا من رحمة الله تعالى "ولا أغيظ" أشد غيظا محيطا بكبده وهو أشد الحنق "ولا أحقر" أذل وأهون عند نفسه؛ لأنه عند الناس حقر أبدا "منه فيه وهو يوم عرفة" قال صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام"، خرجه مالك "ولكون صيامه يكفر سنتين" الماضية والآتية "ولاشتمالها" أي: العشر "على أعظم الأيام حرمة عند الله وهو يوم النحر الذي سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر وليالي عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل" صلى الله عليه وسلم "في قوله: "ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" الحديث، فتأمل قوله: "ما

ص: 294

أن يقول: ما من عشر ونحوه. ومن أجاب بغير هذا التفضيل لم يدل بحجة صحيحة صريحا.

الفصل الخامس: في صومه صلى الله عليه وسلم أيام الأسبوع

عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس. رواه الترمذي والنسائي.

من أيام دون أن يقول ما من عشر ونحوه" يرد عليه رواية في عشر الأضحى السابقة قريبا، وليس فيها لفظ أيام "ومن أجاب بغير هذا التفضيل. لم يدل" أي: لم يبين ما ذهب إليه "بحجة صحيحة" وهذا قد تعقب بأن الأيام إذا أطلقت دخل فيها الليالي تبعا.

وفي البزار وغيره عن جابر مرفوعا: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر"، وقد أقسم الله بها في قوله:{وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1] ، ولو صح حديث أبي هريرة عند الترمذي قيام ليلة منها بقيام ليلة القدر لكان "صريحًا" في تفضيل لياليه على ليالي عشر رمضان، فإن عشر رمضان فضل بليلة واحدة، وهذا جميع لياليه متساوية، والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين أن مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها. انتهى، على أن كون ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان غير محقق، إذ في تعيينها أقوال كثيرة مرت قبل هذا الموضع.

"الفصل الخامس: في صومه صلى الله عليه وسلم أيام الأسبوع" أي: ذكر الأحاديث في أيام صومه عليه السلام من الأسبوع.

"عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس" أي: يتعمد صيامهما أو يجتهد في إيقاع الصوم فيهما؛ لأن الأعمال تعرض فيهما كما يأتي؛ ولأنه تعالى يغفر فيهما لكل مسلم إلا المتهاجرين كما رواه أحمد، ولا يشكل استعمال الاثنين بالنون مع تصريحهم بأن المثنى والملحق به يلزم الألف إذا جعل علما ويعرب بالحركات؛ لأن عائشة من أهل اللسان، فدل على أنه لغة "رواه الترمذي والنسائي" وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وأعله ابن القطان برواية عن عائشة: وهو ربيعة الجرشى وهو مجهول.

قال الحافظ: وأخطأ فيه فهو صحابي، وتعقب بأن إطلاقه التخطئة غير صواب، فإنه قال في تقريبه: مختلف في صحبته، وسبقه إلى ذلك شيخه الزين العراقي، فقال في شرح الترمذي: إنه مختلف في صحبته، وذكره ابن سعد في طبقاته الكبرى في الصحابة، وفي الصغرى في

ص: 295

وعن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل علي". رواه مسلم.

وعن أبي هريرة أن صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". رواه الترمذي.

وعن أسامة بن زيد: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال:

التابعين: وكذا ذكره ابن حبان في الصحابة، وفي التابعين، وقال الواقدي: سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حاتم: لا صحبة له، وذكره أبو زرعة الرازي في الطبقة الثالثة من التابعين.

"وعن أبي قتادة" الحارث أو عمرو، أو النعمان الأنصاري "قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين، فقال:"فيه ولدت وفيه أنزل علي"{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ".

قال الطيبي: أي فيه وجود نبيكم ونزول كتابكم وثبوت نبوته، فأي يوم أفضل وأولى للصائم منه فاقتصر على العلة، أي: سلوا عن فضيلته؛ لأنه لا مقال في صيامه فهو من أسلوب الحكيم. انتهى.

والمتبادر أن السؤال عن فضيلته فالجواب طبق السؤال، إذ لا يليق سؤال الصحابي عن جواز صيامه، لا سيما إن رأى أو علم أنه صلى الله عليه وسلم صامه، وحاصل التنزل أنه لا بد من تقدير مضاف وهو إما فضل وإما جواز، إذ لا معنى للسؤال عن نفس الصوم، فدل الجواب على أن التقدير فضل "رواه مسلم" هكذا مختصرًا، ورواه قبله في حديث طويل عن أبي قتادة بلفظ: وسئل عن صوم الاثنين، فقال:"ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه".

قال المصنف في شرحه: يحتمل أن يريد بقوله: بعثت: أنزل القرآن عليه، فإنه ما بعثت حتى أنزل عليه اقرأ، فمعناه ومعنى أنزل علي واحد، والشك من الراوي.

ويحتمل أن يراد بقوله: أنزل علي سورة المدثر؛ لأنها نزلت بعد فترة الوحي. انتهى، لكن إنما يتأتى هذا لو كان، وأنزل علي بالواو، وأما وهو بأو فالمتبادر أنها شك.

"وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الأعمال" أي: يعرضها ملك موكل بجمعها "على الله يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي" على الله تعالى "وأنا صائم" لما فيه من الثواب الذي لا يعلمه غيره "رواه الترمذي".

"وعن أسامة بن زيد" الحب ابن الحب "قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد" تقارب "تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين، إن دخلا في صيامك" صمتهما "وإلا"

ص: 296

"أي يومين"؟ قلت: يوم الاثنين والخميس، قال:"ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". رواه النسائي.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] قال: يكتب كل ما تكلم به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وهذا

يدخله فيه، بل في فطرك "صمتهما؟، قال: "أي يومين"؟، قلت: "يوم الاثنين والخميس"، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"، رواه النسائي".

"وروى علي بن أبي طلحة" سالم مولى بني العباس صدوق وقد يخطئ، أرسل عن ابن عباس ولم يره، قاله في التقريب.

"عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} مراقب {عَتِيدٌ} ، حاضر "قال: يكتب" المتلقيان المذكوران في قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] .

قال ابن عطية: وهما الملكان الموكلان بكل إنسان، ملك اليمين كاتب الحسنات، وملك الشمال كاتب السيئات، فيكتب كاتب الحسنات "كل ما تكلم به" متكلم "من خير و" يكتب كاتب السيئات كل ما تكلم به من "شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت" أي أن كاتب السيئات يكتب حتى المباحات كالمذكورات "حتى إذا كان" وجد "يوم الخميس عرض قوله وعمله" على الله تعالى "فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره" وهو المباح، وهذا نقل نحوه ابن عطية عن الحسن البصري وقتادة وغيرهما، ونقل عن عكرمة أنهما يكتبان الخير والشر، وما خرج عنهما لا يكتب، قال: والأول هو الصواب وهو ظاهر هذه الآية.

وروي أن رجلا قال لجمله: حل، فقال ملك اليمين: لا أكتبها، وقال ملك الشمال: لا أكتبها، فأوحى الله إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك صاحب اليمين، قال: وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه بيعيره، فإن كان في طاعة فحل حسنة، وإن كان في معصية فهي سيئة، والمتوسط بين هذين عسير الوجود، فلا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه. انتهى.

ص: 297

عرض خاص في هذين الوقتين غير العرض العام كل يوم، فإن ذلك عرض خاص دائم بكرة وعشيا. ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" الحديث.

"وهذا عرض خاص في هذين الوقتين غير العرض العام كل يوم، فإن ذلك عرض خاص" بكل يوم فتغايرا، وفي نسخة عرض عام وهي ظاهرة "دائم بكرة وعشيا" وفي جميع ذلك حكم: خفية وإلا فلا يخفى عليه شيء.

"ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم" في الإيمان "عن أبي موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات" أي: جمل "فقال: إن الله تعالى لا ينام" أي لا يقع منه نوم "ولا ينبغي" لا يصح "له أن ينام" لأنه موت وهو الحي الدائم الباقي؛ ولأنه هواه ينزل من أعلى الدماغ يفقد معه الحس تعالى الله عن ذلك، فتعلق نفي الأول الوقوع، والثاني الصحة، فالعطف تأسيس إذ لا يلزم من نفي الوقوع نفي الصحة "يخفض القسط" بكسر القاف "ويرفعه" قيل: هو الميزان لحديث أبي هريرة عند الشيخين، وبيده الميزان يخفض ويرفع، وقيل: هو نصيب كل مخلوق من الرزق وخفضه ورفعه كنايتان عن التقليل والتكثير، وقيل: هو الشريعة يرفعها، أي يظهرها بوجود الأنبياء والعلماء ويخفضها بدرس الحق والرجوع عن اتباعه "يرفع" إلى المحل المضاف "إليه" تعظيما له الذي يقبض فيه أعمال العباد والعله سدرة المنتهى، أو إلى الملائكة الموكلين بقبض ذلك كما يقال: رفع المال إلى الملك، أي إلى زانته، أو إلى من أقامه لقبضه؛ لأنه تعالى لا يجوز تخصيصه بجهة ولا مكان "عمل الليل قبل" الأخذ في عمل "النهار" أي في آخر النهار "وعمل النهار قبل" الأخذ في عمل "الليل" أي في آخره قبل فراغه، فلا خلاف بين هذا وبين الرواية الثانية لمسلم يرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل الليل بالنهار.

هكذا قرره القرطبي فجعله من مجاز الحذف بدليل الرواية الثانية ويشهد له حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر"، فإنه يقتضي أن عمل النهار يرفع بالنهار وعمل الليل بالليل، إذا جعل ما بعد الفجر من الليل، وجمع النووي بأن عمل الليل يرفع بأول النهار الذي يليه، وعمل النهار بأول الليل الذي يليه؛ لأن الملائكة إنما تصعد بعمل الليل قبل انقضائه في أول النهار وتصعد بعمل النهار بعد انقضائه في أول الليل. انتهى، وهو أيضا مجاز وكلاهما حسن "الحديث" تمامه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات

ص: 298

وعن أم سلمة كان صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة، وفي أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه. رواه النسائي.

وعن عائشة: كان يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذي.

وعن كريب، مولى ابن عباس، قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ قالت: السبت والأحد، ويقول:"إنهما عيدا المشركين، وأنا أحب أن أخالفهما". رواه أحمد والنسائي، وفيه محمد بن عمر، ولا يعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد ولا يعرف حاله أيضا.

وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

"وعن أم سلمة" هند أم المؤمنين قالت: "كان صلى الله عليه وسلم يصوم في كل شهر ثلاثة أيام الاثنين والخميس من هذه الجمعة" الأولى من الشهر، فيصوم أول اثنين منه وخميس "والاثنين من" الجمعة "المقبلة، وفي أول اثنين من الشهر، ثم الخميس" التالي له "ثم الخميس الذي يليه" من الجمعة المقبلة، أي أنه كان تارة يفعل هذا، وأخرى هذا، والبداءة بالاثنين فيهما "رواه النسائي".

"وعن عائشة: كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" فبين أن صيام الثلاثة يكون في جميع الأسبوع ولم يوال الستة لئلا يشق على أمته ولم يذكر الجمعة في هذا الحديث، وذكره في حديث ابن مسعود، بلفظ: فلما كان يفطر يوم الجمعة "رواه الترمذي" وقال: حسن.

"وعن كريب" بضم الكاف مصغر "مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟، قالت: السبت والأحد، ويقول:" يبانا لذلك "إنهما عيدا" بالتثنية "المشركين" اليهود والنصارى "وأنا أحب أن أخالفهما"، رواه أحمد والنسائي وفيه محمد بن عمر" بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي "ولا يعرف حاله" أي أنه مجهول "ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد ولا يعرف حاله أيضا" لكونه مجهولا، كذا جزم المصنف بأنهما مجهولان، وهو خلاف قول الحافظ في التقريب أن محمدا صدوق، وعبد الله ابنه مقبول بموحدة، أي: في روايته.

ص: 299

وعن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي.

قال بعضهم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة، فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد. قالوا: ونظير هذا أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن

"وعن عبد الله بن بسر" بضم الموحدة وإسكان المهملة الصحابي "عن أخته الصماء" بنت بسر المازنية يقال: اسمها بهيمة، لها صحبة، وحديث:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" أي لا تقصدوا صومه إلا في فرض كمن أسلم، أو أفاق من جنون أو مرض أو بلغ، ولم يبق من الشهر إلا السبت فيصومه "فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء" بكسر وحاء مهملة والمد والقصر قشر "عنبة أو عود شجرة فليمضغه" في رواية: فليمصه، وفي أخرى: فليفطر عليه.

قال الحافظ العراقي: هذا مبالغة في النهي عنه؛ لأن قشر شجر العنب جاف لا رطوبة فيه البتة، بخلاف قشر غيره من الأشجار والنهي للتنزيه، وعليه الشافعية وبعض الحنفية، وذهب الجمهور ومالك وأحمد إلى أنه لا كراهة "رواه أحمد وأبو داود والترمذي" وقال: حسن "وابن ماجه والدارمي" والنسائي والحاكم وصححه، وأعل بأن له معارضا بسند صحيح، ويقول مالك: هذا الخبر كذب، ويقول النسائي: ضطرب، فقيل: هكذا عن ابن بسر عن أخته، وقيل: عن ابن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وقيل: عنه عن أبيه، وقيل: عن أخته عن أبيه عن عائشة.

قل الحافظ: وبالجملة فهذا التلون، أي الاضطراب في حديث واحد بسند واحد مع اتحاد المخرج يوهن راويه ويضعف ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع الطرق وهنا ليس كذلك. انتهى.

وقال أبو داود: إنه منسوخ، ورجح واعترض.

وقال الإمام أحمد: هذا الحديث على ما فيه يعارضه حديث أم سلمة، يعني الذي قبله، وحديث: نهي عن صوم الجمعة إلا بيوم قبله أو يوم بعده، فالذي بعده السبت وأمر بصوم المحرم وفيه السبت.

"قال بعضهم:" جوابا عن هذا "لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة" السابق "فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم، وحديث: صيامه إنما هو مع يوم الأحد" ورد ذلك الأثر بأن الاستثناء هنا دليل

ص: 300

إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده.

قال النووي: وأما قول مالك في الموطأ: "لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، فقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه. قال الداودي من أصحاب مالك: ولم يبلغ مالكًا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه.

قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة في الجمعة، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتلذذ بها من غير ملل ولا سآمة كالحاج بعرفة.

التناول وهو يقتضي أنه عم صومه على كل وجه، وإلا لما دخل المفترض حتى يستثنى، فإنه لا إفراد فيه "قالوا: ونظير هذا أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده" كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا:"لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده".

"قال النووي: وأما قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه" الاجتهاد "ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن" أي مستحب لحديث ابن مسعود: كان صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة، ورواه الترمذي وحسنه وصححه أبو عمر "وقد رأيت بعض أهل العلم" قيل: إنه محمد بن المنكدر، وقيل: صفوان بن سليم "يصومه وأراه" بضم الهمزة أظنه "كان يتحراه" يقصده.

قال الباجي: أراد به الإخبار لا الاختيار لرواية ابن القاسم عنه كراهة صوم يوم موقت أو شهر "فهذا الذي قاله هو الذي رآه وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة" وهو للتنزيه "فتعين القول به ومالك معذور فإنه لم يبلغه".

"قال الداودي من أصحاب مالك" أي: أهل مذهبه "ولم يبلغ مالكا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه، قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة في الجمعة وأدائها بنشاط، وانشراح لها والتلذذ بها من غير ملل ولا سآمة كالحاج بعرفة" ولا يشكل عليه أن كراهة صوم يوم للحاج لا تزول بصوم يوم قبله؛ لأن

ص: 301

فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه. والله أعلم.

الفصل السادس: في صومه صلى الله عليه وسلم الأيام البيض

وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، وهي: ثلاث عشرة، وأربع عشرة وخمس عشرة، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام؛ لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول من قال: الأيام البيض، على الوصف، واليوم الكامل هو النهار بليلته. وفيه رد لقول الجاليقي: من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ. والله أعلم.

في اليوم الذي قبله اشتغالا بالتروية، والإحرام بالحج لمن لم يكن أحرم ففيه شيء من معنى يوم عرفة.

"فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصيام يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، والجواب أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده، ما يجبر ما قد يحصل له من فتور أو تقصير في وظائف الجمعة بسبب صومه، والله أعلم" وهو جواب لين، والأولى التعليل بالاتباع.

وفي المستدرك مرفوعًا: "يوم الجمعة عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده"، فقيل: علة النهي كونه عيدا لهذا الحديث.

"الفصل السادس: في صومه صلى الله عليه وسلم الأيام البيض، وهي التي كون فيها القمر" أي يوجد أو موجودا "من أول الليل إلى آخره" فسميت بيضا لابيضاضها ليلا بالقمر ونهارا بالشمس، وقيل: لأن الله تاب فيها على آدم وبيض صحيفته "وهي" كما قال البخاري "ثلاث عشرة" أي: اليوم المتمم لها "وأربع عشرة وخمس عشرة" وللكشميهني ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وهذا باعتبار الأيام والأول باعتبار الليالي "وليس في الشهر يوم أبيض كله" بليلته "إلا هذه الأيام؛ لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض، فصح قول من قال: الأيام البيض على الوصف واليوم الكامل هو النهار بليلته، وفيه رد على الجواليقي:" بفتح الجيم نسبة إلى الجواليق جمع جوالق بضم الجيم وكسر اللام وبالقاف "من قال: الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ. والله أعلم".

ص: 302

عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر. رواه النسائي.

وعن حفصة: أربع لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر، رواه أحمد.

وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقالت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: ما

هكذا قاله في فتح الباري وتعقبه العيني بأنه لا يصح قوله: اليوم الكامل هو النهار بليلته؛ لأن اليوم الكامل لغة من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا من طلوع الفجر الصادق ولا دخل لليلة في حد النهار، وقوله: ونهارها أبيض يقتضي أن بياض نهار أيام البيض من بياض الليلة، وليس كذلك؛ لأن بياض الأيام كلها بالذات وأيام الشهر كلها بيض، فسقط قوله: وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام.

قال المصنف: وما قاله في الفتح سبقه إليه ابن المنير، فقال: أنكر بعض اللغويين أن يقال: الأيام البيض، وقال: إنما هي الليالي البيض، وإلا فالأيام كلها بيض وهذا وهم منه، والحديث يرد عليه، أي ما ذكره ابن بطال عن شعبة عن أنس بن سيرين عن عبد الملك بن النهال عن أبيه، قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم بالأيام البيض وقال: "هو صوم الدهر"، قال: واليوم اسم يدخل فيه الليل والنهار وما كل يوم أبيض بجملته إلا هذه الأيام، فإن نهارها أبيض وليلها أبيض، فصارت كلها بيضا، قال: وأظنه سبق إلى وهمه أن اليوم هو النهار خاصة. انتهى.

قال في المصابيح: الظاهر أن مثل هذا ليس يوهم، فإن اليوم وإن كان عبارة عن الليل والنهار جميعا لكنه بالنسبة إلى الصوم إنما هو النهار خاصة، وعليه فكل يوم يصام هو أبيض لعموم الضوء فيه من طلوع الفر إلى غروب الشمس. انتهى.

"عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام" الليالي "البيض في حضر ولا سفر، رواه النسائي".

"وعن حفصة" أم المؤمنين: "أربع لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن" أي: لم يترك شيئا منهن، فالنفي لعموم السلب لا لسلب العموم" صيام عاشوراء والعشر" من ذي الحجة، أي: التسع كا عبرت به حفصة فيما مر قريبا: كان يصوم تسع ذي الحجة "وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر، رواه أحمد" بن حنبل.

"وعن معاذة" بنت عبد الله "العدوية" أم الصهباء البصرية ثقة، روى لها الجميع؛ "أنها سألت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟، قالت: نعم" كان يصومها،

ص: 303

كان يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم.

قال بعضهم: لعله صلى الله عليه وسلم لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها.

قال: وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.

وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر.

وقد تحصل أن صيامه صلى الله عليه وسلم في الشهر على أوجه:

الأول: أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه، رواه النسائي.

الثاني: أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذي.

لأن صومها يعدل صيام الدهر "فقالت لها: من أي شهر كان يصوم؟، قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم، رواه مسلم" وبه جمع البيهقي بين أحاديث غير عائشة المعينة المختلفة التعيين، فقال: كل من رآه فعل نوعا ذكره، ورأت عائشة جميع ذلك فأطلقت: ونحوه قول المصنف.

"قال بعضهم: لعله صلى الله عليه وسلم لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها، قال: وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها" وأصله قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فذلك صيام الدهر"، رواه مسلم.

وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: "وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشرة أمثالها، وذلك مثل صام الدهر".

"وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر" بضم المعجمة وشد الراء، أي: أوله "وقد تحصل" مما سبق "أن صيامه صلى الله عليه وسلم في الشهر على أوجه:".

"الأول أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر ثم الخميس" التالي له "ثم الخميس الذي يليه" من الجمعة الثانية "رواه النسائي" عن أم سلمة.

"الثاني: أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، رواه الترمذي" عن عائشة: "الثالث أيام البيض ثالث عشر ورابع عشر

ص: 304

الثالث: أيام البيض، ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر.

الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم.

الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر، واختاره جماعة منهم: الحسن وهو ما رواه أصحاب السنن عن حديث ابن مسعود.

قال القاضي عياض: واختار النخعي صوم ثلاث أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون: أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس. وقال ابن شعبان من المالكية: أول يوم من الشهر والحادي عشر، والحادي والعشرون، ونقل ذلك عن أبي الدرداء، وهو موافق لما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمر "وصم من كل عشرة أيام يوما" وحكى الأسنوي عن الماوردي أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود وهي السابع والعشرون

وخامس عشر" كما جاء تعيينها بهذه في النسائي بسند صحيح عن جرير، رفعه: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وأيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وفي رواية: أيام البيض بلا واو.

"الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم" واعتمده مالك، فاستحب ثلاثة من كل شهر بلا تعيين.

"الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر واختاره جماعة منهم الحسن، وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود" مبادرة بالعبادة؛ ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له.

"قال القاضي عياض: واختار النخعي" إبراهيم من التابعين: "ثلاثة أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس، وقال ابن شعبان" محمد "من المالكية: أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي والعشرون، ونقل ذلك عن أبي الدرداء" عويمر "وهو موافق لما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو" بن العاصي: "وصم من كل عشرة أيام يومًا" وإنما يوافق أن أريد به اليوم الأول من كل عشر، ولا دلالة في الحديث على ذلك؛ لأنه صادق بصيام يوم من الأول إلى آخر العشر.

"وحكى الأسنوي عن الماوردي أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود، وهي السابع

ص: 305

واليومان بعده.

وتترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشيء أدله؛ ولأن الكسوف غالبا يقع فيها وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها.

ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع. والله أعلم.

النوع الخامس: في ذكر اعتكافه صلى الله عليه وسلم واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر:

اعلم أن الاعتكاف في اللغة: الحبس والمكث واللزوم.

والعشرون واليومان بعده" الذي في شرح المصنف للبخاري.

قال الماوردي: ويسن صوم أيام السود الثامن والعشرين وتالييه، وينبغي أن يصام معها السابع والعشرون احتياطا، وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور، وليالي الثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكرًا والثانية لطلب كشف السواد؛ ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل فناسب تزويده بذلك.

"وتترجح البيض بكونها وسط الشهر ووسط الشيء أعدله؛ ولأن الكسوف غالبا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة بخلاف من لم يصمها، فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها" ولا عند من يجوز صيام التطوع بغير نية من الليل، إلا أن صادف الكسوف من أول النهار، قاله الحافظ.

"ورجح بعضهم صيام الثلاثة من أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع" كمرض وسفر "والله أعلم" بالحق من ذلك.

"النوع الخامس:" من الأنواع السبعة "في ذكر اعتكافه صلى الله عليه وسلم واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه" أي قصده "ليلة القدر" أي بذل وسعه في تحصيلها "اعلم أن الاعتكاف في اللغة الحبس والمكث واللزوم" على الشيء خيرا كان أو شرا، قال تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وقال سبحانه: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ

ص: 306

وفي الشرع: المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة.

ومقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلال عن أنسه بالخلق، ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة في القبر حين لا أنيس له.

وليس بواجب إجماعا، إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم.

واحتلف في اشتراط الصوم له:

ومذهب الشافعي: أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر.

وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم، فلا يصح اعتكاف المفطر.

واحتج الشافعي باعتكافه صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من شوال. رواه البخاري ومسلم، وبحديث عمر: أنه قال: يا رسول الله، إني قد نذرت أن أعتكف ليلة في

يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، "وفي الشرع المكث في المسجد" للعبادة "من شخص مخصوص بنية بصفة مخصوصة ومقصوده وروحه" أي الأمر الذي به قوامه، بحيث إذا فقد كان اعتكافه كعدمه، كما أن الروح إذا فارق الحيوان عدم "عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب" بالتثقيل "منه" التقريب المعنوي "فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة في القبر حين لا أنيس له" سوى الأعمال الصالحة "وليس بواجب إجماعا إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم" كالمالكية.

"واختلف في اشتراط الصوم له ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر، وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم فلا يصح اعتكاف المفطر" ويكفي الصوم ولو نفلا "واحتج الشافعي باعتكافه صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من شوال، رواه البخاري ومسلم" في آخر حديث عن عائشة، وأجيب بأن المعنى كان ابتداؤه في العشر الأول، وهو صادق بما إذا ابتدأ باليوم الثاني فلا دليل فيه.

"وبحديث عمر" بن الخطاب "أنه قال: يا رسول الله إني قد نذرت أن أعتكف ليلة

ص: 307

الجاهلية، فقال:"أوف بنذرك". رواه البخاري ومسلم، والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف.

واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان. وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه. وفيه قول قديم للشافعي.

وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات.

وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد.

وقال الجمهور: بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحبه له

في الجاهلية" فيه أن الاعتكاف من الشرائع القديمة "فقال" صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، رواه البخاري ومسلم والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بصحة الاعتكاف" وأجيب بأن في رواية لمسلم يوما بدل ليلة، وجمع ابن حبان وغيره بينهما؛ بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن قال: ليلة أراد بيومها، ومن قال: يوما أراد بليلته، وقد جاء أمره بالصوم عند أبي داود والنسائي، بلفظ: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتكف وصم"، وهو وإن كان في سنده مقال، لكنه انجبر برواية يوما ودعوى أنها شاذة لا تسمع، فمن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن.

"واتفق العلماء على مشروطية المسجد" أي: كونه شرط صحة "للاعتكاف" لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، والمراد تجامعوهن إجماعًا، حكاه ابن المنذر، فلو صح في غيره لم يختص تحريم المباشر به؛ لأن الجماع مناف للاعتكاف بإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها.

وقد روى ابن جرير وغيره عن قتادة في سبب نزولها: كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامها إن شاء ثم رجع إلى المسجد، فنهوا عن ذلك "إلا محمد بن عمر بن لبابه" بضم اللام وخفة الموحدتين "المالكي" من قدمائهم "فأجازه في كل مكان" وهو ضعيف "وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصلاة فيه، وهو قول قديم للشافعي" وله وجه في النظر؛ لأن المرأة عورة ومسجد بيتها ساتر لها فلا تحرم فضيلة الاعتكاف.

"وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات" الخمس لا المجهورة التي لا تقام فيها "وخصه أبو يوسف بالواجب منه" أي من الاعتكاف النذر "وأما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد" لإطلاق الآية، إذ

ص: 308

الشافعي في الجامع. وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة، ويجب الاعتكاف بالشروع عند مالك.

وخصه طائفة من السلف، كالزهري بالجامع مطلقا، وأومأ إليه الشافعي في القديم.

وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجدي مكة والمدينة. وابن المسيب بمسجد المدينة.

واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم. حكاه ابن قدامة. وعن مالك: يشترط عشرة أيام، وعنه: يوم أو يومان.

ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطبق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود.

واتفقوا على فساده بالجماع.

وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان. رواه

لم تخص مسجدا "إلا لمن تلزمه الجمعة" بأن يجيء زمن اعتكافه "فاستحبه له الشافعي في الجامع وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة" فيجب عليه أن يخرج لها ويبطل اعتكافه على المشهور، فإن لم يخرج لها حرم عليه وفي بطلان اعتكافه قولان "ويجب الاعتكاف بالشروع" فيه "عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقًا" أقيمت فيه الجمعة أم لا، فالمسجد غير الجامع لا يصح الاعتكاف فيه عنده.

"وأومأ إليه الشافعي في القديم وخصه حذيفة بن اليمان" الصحابي ابن الصحابي، مرت ترجمته غير ما مرة "بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجدي مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة، واتفقوا على أنه لا حد لأكثره واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم" بأن يعتكف بعض يوم هو صائم فيه؛ لأن الصيام لا يتبعض "حكاه ابن قدامة" بضم القاف.

"وعن مالك: يشترط عشرة أيام وعنه يوم أو يومان، ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطبق عليه اسم لبث" بضم اللام إقامة في المسجد وهو ما زاد على قدر الطمأنينة في الصلاة "ولا يشترط القعود، واتفقوا على فساده بالجماع، وقد كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم

ص: 309

البخاري ومسلم من حديث عائشة.

وعن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه. رواه البخاري.

وعن أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة -يعني ليلة القدر- ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت

يعتكف العشر الأواخر من رمضان" كلها "رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة" كلاهما من طريق عروة ومسلم من طريق القاسم، كلاهما عنها مختصرا هكذا، وزاد في رواية لهما: حتى توفاه الله، وأخرجاه أيضا من طريق عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة مطولا وفيه قصة فلم يصب من أومأ للاعتراض على المتن به الموهم أن ما ذكره ليس في الصحيحين مختصرا مع أنه فيهما.

"وعن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف كل عام عشرا" لفظ البخاري: يعتكف في كل رمضان عشرة أيام.

وعند النسائي عن أبي هريرة: كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان "فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" لفظ البخاري: فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما، وسقط لأبي ذر لفظ: يوما، أي: لأنه علم بانقضاء أجله فاستكثر من الأعمال الصالحة تشريعا لأمته أن يجتهدوا في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله على خير أعمالهم؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم اعتاد من جبريل أن يعارضه بالقرآن كل عام مرة واحدة، فلما عارضه في العام الأخير مرتين اعتكف فيه مثل ما كان يعتكف، والظاهر من إطلاق العشرين أنها متوالية والأخير منها، فدخل العشر الأوسط فيها "رواه البخاري" من أفراده عن مسلم.

"وعن أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول" بفتح الهمزة وشد الواو، وفي رواية: الأول بض الهمة وخفة الواو "من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ، والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما في أكثر الأحاديث العشر الأواخر وتذكيره أيضا لغة صحيحة باعتبار الأيام، أو باعتبار الوقت أو الزمان، ويكفي في صحبتها ثبوتها في هذا الحديث. "في قبة:" في خيمة "تركية" صغيرة من لبود "ثم أطلع رأسه" بفتح الهمزة وسكون الطاء، زاد في مسلم: فكلم الناس فدنوا منه "فقال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس": أطلب "هذه الليلة، يعني ليلة القدر، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت" بضم

ص: 310

"فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر منه"، قال: فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف

الهمزة "فقيل لي:" وعند البخاري: أن جبريل أتاه في المرتين، فقال: إن الذي تطلب أمامك بفتح الهمزة والميم، أي: قدامك "إنها في العشر الأواخر" وصفها بالجمع؛ لأنه تصور في كل ليلة من ليالي العشر الأخير ليلة القدر ولا كذلك في الأول والأوسط، فلذا وصفهما بالمفرد "فمن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر".

وفي رواية للشيخين: فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وإنما أمرهم بذلك لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف والتحري.

وفي مسلم: "من أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه "فقد رأيت" بضم الهمزة وكسر الراء مبني للمفعول، أي: أعلمت "هذه الليلة" نصب مفعولا به لا ظرفا، أي: أريت ليلة القدر، وجوز الباجي، أن الرؤية بمعنى البصر، أي أنه رأى علامتها التي أعلمت له بها وهي السجود في الماء والطين "ثم أنسيتها" بضم الهمزة، قال القفال: ليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عيانا، ثم نسي في أول ليلة رأى ذلك؛ لأن مثل هذا قل أن ينسى، وإنما معناه أنه قيل له ليلة القدر ليلة كذا وكذا، فنسي كيف قيل له ثم هو هكذا بالجزم عند الشيخين، وفي رواية للبخاري: أنسيتها أو نسيتها.

قال الحافظ: شك من الراوي هل أنساه غيره إياها أو نسيها هو بلا واسطة، ومنهم من ضبط نسيتها بضم أوله والتشديد فهو بمعنى أنسيتها، والمراد أنه أنسي علم تعيينها في تلك السنة.

"وقد رأيتني" بضم التاء وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول وهو المتكلم، وذلك من خصائص أفعال القلوب، أي رأيت نفسي "أسجد في ماء وطين من صبيحتها" من بمعنى في قوله تعالى: من يوم الجمعة أو لابتداء الغاية الزمانية "فالتمسوها في العشر الأواخر" من رمضان "والتمسوها في كل وتر منه"، أي: أوتار لياليه وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين.

"قال" أبو سعيد: "فمطرت" بفتح الميم والطاء "السماء تلك الليلة" يقال: في اللية الماضية الليلة إلى الزوال، فيقال: البارحة، وفي راية للشيخين: وما نرى في السماء فزعة، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد "وكان المسجد على عريش" أي: مثل العريش وإلا فالعريش هو نفس السقف، أي: أنه كان مظللا بالجريد والخوص، ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر.

ص: 311

المسجد، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. رواه الشيخان.

وفي حديث عبادة بن الصامت: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، "وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، رواه البخاري.

وفي رواية: وكان السقف من جريد النخل "فوكف المسجد" أي: سال ماء المطر من سقفه فهو من ذكر المحل وإرادة الحال "فبصرت" بفتح الموحدة وضم المهملة "عيناي" ذكرهما بعد البصر للتأكيد، كقول القائل: أخذت بيدي وإنما يقال ذلك في أمر مستغرب إظهارا للتعجب من حصوله "رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة" ليلة "إحدى وعشرين".

وفي رواية: فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه، وأنفه فيهما الماء والطين تصديق رؤياه "رواه الشيخان" البخاري في الصلاة والاعتكاف ومسلم في الاعتكاف.

"وفي حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم خرج" من بيته "يخبر" استئناف أو حال مقدرة؛ لأن الخبر بعد الخروج على حد فادخولها خالدين، أي مقدرين الخلود "بليلة القدر" أي: بتعيينها "فتلاحى" بفتح الحاء المهملة من التلاحي بكسر، أي: تنازل "فلان وفلان" قيل: هما عبد الله بن أبي حدرد وكعب بن مالك، كان له على عبد الله دين فطلبه وارتفع صوتهما في المسجد، ذكره ابن دحية.

قال الحافظ: ولم يذكر له مستندًا "فرفعت" أي: رفع بيانها أو علم تعيينها من قلبي فنسيتها أو رفعت بركتها تلك السنة، وقيل: المراد رفعت الملائكة لا الليلة.

قال الباجي: قد يذنب البعض فتتعدى عقوبته إلى غيره فيجزى به من لا سبب له فيه في الدنيا، أما الآخرة فلا تزر وازرة وزر أخرى "وعسى أن يكون" رفعها "خيرا لكم؛" لأن إخفاءها يستدعي قيام جميع الشهر بخلاف ما لو علمت بعينها فيقتصر عليها فيقل العلم، وهل أعلم بها بعد هذا النسيان.

قال الحافظ: فيه احتمال.

وقال ابن عبد البر: الأظهر أنه رفع علم تلك الليلة عنه فأنسيها بعد العلم بسبب التلاحي، وقد قيل: المراء والملاحاة شؤم، ومن شؤمها حرموا ليلة القدر تلك الليلة ولم يحرموها بقية الشهر، لقوله:"فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" قيل: المراد تاسعة تبقى فتكون ليلة إحدى وعشرين، وسابعة تبقى فتكون ليلة ثلاث وعشرين، وخامسة تبقى فتكون ليلة خمس

ص: 312

ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين"، قال: فمطرت ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أثر الماء والطين في جبهته وأنفه.

وعشرين على الأغلب أن الشهر ثلاثون، وقيل: تاسعة تمضي فتكون ليلة تسع وسبع وخمس وعشرين.

وجزم الباجي بالأول وهو قول مالك في المدونة؛ لأن في حديث عبادة نفسه عند أبي داود تاسعة تبقى سابعة تبقى خامسة تبقى، ورجح الحافظ الأول لرواية البخاري في الإيمان حديث عبادة، بلفظ:"التمسوها في التسع والسبع والخمس"، أي: تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين.

وفي رواية لأحمد: في تاسعة تبقى، كذا قال: ورواية البخاري محتملة، ورواية أحمد نص في الأول، وقد قال أبو عمر: كلا القولين محتمل إلا أن قوله: تاسعة تبقى.. إلخ، يقتضي الأول.

وقد روى أبو داود، أي ومسلم عن أبي نضرة أنه قال لأبي سعيد الخدري: إنكم أعلم بالعدد منا، قال: أجل، قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة، قال: إذا مضت إحدى وعشرون فالتي تليها التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة. انتهى "رواه البخاري" في الإيمان والصوم والأدب.

"ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس" بالتصغير الجهني، حليف الأنصار: شهد العقبة وأحدا ومات بالشام سنة أربع وخمسين، ووهم من قال: سنة ثمانين؛ "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أريت" بضم الهمزة "ليلة القدر ثم أنسيتها" بضم الهمزة "وأراني" بفتح الهمزة "في صبيحتها" بفتح الصاد وكسر الموحدة ثم تحتية فحاء ففوقية.

وفي رواية: صبحها " أسجد في ماء وطين"، قال" ابن أنيس:"فمطرت" وفي نسخ: فمطرنا "ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسقط من مسلم فانصرف، أي: من الصلاة "وإن أثر الماء والطين في" لفظ مسلم على "جبهته وأنفه".

قال أبو عمر: روى ابن جريج هذا الحديث وقال في آخره: فكان الجهني يمسي تلك الليلة، يعني: ليلة ثلاث وعشرين في المسجد فلا يخرج منه حتى يصبح ولا يشهد شيئا من رمضان قبلها ولا بعدها ولا يوم الفطر.

وفي الموطأ وأبي داود أن ابن أنيس قال: يا رسول الله إني أكون في باديتي وأنا بحمد الله أصلي بها فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها بهذا المسجد أصليها فيه، فقال صلى الله عليه وسلم:"انزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان فصلها فيه".

ص: 313

وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود مرفوعا: "اطلبوها ليلة سبع عشرة".

وأخرج الطبراني مرفوعا من حديث أبي هريرة: "التمسوا ليلة القدر في ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين".

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا، وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر من كلام العلماء في ذلك أكثر من أربعين قولا، كساعة الجمعة.

ومذهب الشافعي: انحصارها في العشر الأخير، كما نص عليه الشافعي، فيما حكاه عنه الأسنوي.

وعن المحاملي في "التجريد": إنها تلتمس في جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" فقال: وتطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان. ثم الغزالي في كتبه.

وتردد صاحب "التقريب" في جواز كونها في النصف الأخير، كذا نقله عنه

"وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود مرفوعا: "اطلبوها" بهمزة وصل مضمومة، أي: ليلة القدر "ليلة سبع وعشرة" من رمضان "وأخرج الطبراني مرفوعا من حديث أبي هريرة: "التمسوها" أي: اطلبوا، فاستعير الالتماس للطلب "ليلة القدر في ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة" بموحدة بعد السين في الأول وبفوقية قبلها في الثاني "أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين" من رمضان.

"وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر" في فتح الباري "من كلام العلماء في ذلك أكثر من أربعين قولا" سردها واحدا واحدا وقال: هذا ما وقفت عليه من الأقوال، وبعضها يمكن رده إلى بعض وإن كان ظاهرها التغاير "كساعة الجمعة" فيها اثنان وأربعون قولا سردها في الفتح.

"ومذهب الشافعي انحصارها في العشر الأخير" من رمضان "كما نص عليه الشافعي فيما حكاه عنه الأسنوي وعن المحاملي" زاد في نسخة في التجريد: وتوقف فيها شيخنا في الدرس بأنه لا يعرف له كتابا يسمى "التجريد"، لا ذكره الإسنوي في الطبقات "أنها تلتمس في جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق" الشيرازي "في التنبيه، فقال: وتطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان، ثم الغزالي في كتبه" تبعه أيضا "وتردد صاحب التقريب في

ص: 314

الإمام وضعفه. وحكاه ابن الملقن في "شرح العمدة".

وفي المفهم للقرطبي حكاية قول: إنها ليلة النصف من شعبان.

ودليل الأول: حديث أبي سعيد الذي قدمناه، قال النووي: وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادي والعشرون فلقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد:"فقد أريت هذه الليلة، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها"، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا. وجزم جماعة من الشافعية: بأنها ليلة الحادي والعشرين، لكن قال السبكي: إنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر، أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير. وعن ابن خزيمة -من أصحابنا- أنها تنتقل

جواز كونها في النصف الأخير، كذا نقله عنه الإمام وضعفه" أي: ضعف تردد ذلك في مذهبه وإلا فهو من جملة الأقوال.

"وحكاه ابن الملقن في شرح العمدة" في الفتح، وحكى ابن الملقن أنها ليلة النصف من رمضان "و" الذي "في المفهم للقرطبي" على مسلم "حكاية قول إنها ليلة النصف من شعبان" وكذا حكاه غيره.

"قال الحافظ: فإن ثبتا فهما قولان "ودليل الأول" أي: انحصارها في العشر الأخير "حديث أبي سعيد الذي قدمناه" أي: قوله فيه: "التمسوها في العشر الأواخر".

"قال النووي: وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادي العشرون فلقوله عليه السلام في حديث أبي سعيد" المتقدم "فقد أريت هذه الليلة وقد رأيتني" أي: رأيت نفسي "أسجد في ماء وطين من صبيحتها"، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا" قريبا.

"وجزم جماعة من الشافعية بأنها ليلة الحادي والعشرين" لصحة الحديث "لكن قال السبكي: إنه ليس مجزوما به عندهم" في نفس الأمر "لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير" في ليلة لا بعينها.

ص: 315

في كل سنة إلى ليلة من ليالي العشر الأخير.

وحاصله: قولان، ووجه، واختار النووي في الفتاوى وشرح المهذب رأي ابن خزيمة.

وجزم ابن حبيب من المالكية، ونقله الجمهور، وحكاه صاحب "العدة" من الشافعية ورجحه: أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة، ولم تكن في الأمم قبلهم.

وهو معترض: بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: "بل هي باقية".

وعمدتهم قول مالك في "الموطأ": بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله تعالى ليلة القدر. وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح من حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن

"وعن ابن خزيمة من أصحابنا أنها تنتقل في كل سنة إلى ليلة من ليالي العشر" الأواخر "وحاصله قولان" للشافعي الحادي أو الثالث والعشرون "ووجه" لابن خزيمة "واختار النووي في الفتاوى وشرح المهذب رأي ابن خزيمة" المذكور وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما في مسلم، وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعا:"ليلة القدر ليلة سبع وعشرين".

"وجزم ابن حبيب" محمد "من المالكية" الأئمة المتقدمين "ونقله الجمهور وحكاه صاحب العدة من الشافعية ورجحه؛ أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم" وكذا جزم به ابن عبد البر، وقال النووي: إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء "وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء، فإذا ماتوا رفعت؟، قال: "بل هي باقية" كذا في نسخ بالإضراب عن السؤال.

وفي نسخ: بلى على أنه رد لمجموع النفي، أي: بلى تكون مع الأنبياء ولا ترفع بموتهم، والذي نقله الحافظ والسيوطي عن النسائي عن أبي ذر: أم هي إلى يوم القيامة، قال: بل هي إلى يوم القيامة "وعمدتهم" أي: الجمهور "قول مالك في الموطأ: بلغني أنه صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية" لفظ الموطأ: أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر "فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر، كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر في فتح الباري" وتعقب ذلك الحافظ

ص: 316

حجر في "فتح الباري".

قال: وقد ظهر لليلة القدر علامات؛ منها: ما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا:"ليلة القدر لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة"، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا:"إنها صافية، كأن فيها قمرا ساطعة، ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد ولا يحل لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ".

السيوطي؛ بأن حديث أبي ذر يقبل التأويل أيضا، وهو أن مراده السؤال هل تختص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ترفع بعده بقرينة مقابلته ذلك بقوله: أم هي إلى يوم القيامة فلا يكون فيه معارضة لأثر الموطأ، وقد ورد ما يعضده، ففي فوائد أبي طالب المزكي من حديث أنس:"إن الله وهب لأمتي ليلة القدر ولم يعطها من كان قبلهم". انتهى.

"قال" أي: صاحب الفتح: "وقد ظهر لليلة القدر علامات" أكثرها لا تقع إلا بعد أن تمضي "منها ما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب" مرفوعا؛ "أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها" يوجد، ولأحمد عنه مثل الطشت بضم الشين الذي يرى كأنه جبال مقبلة على الناظر إليها، أو الذي ينتثر من ضوئها، أو الذي يرى ممتدا كالرماح بعيد الطلوع وما أشبهه كما في القاموس.

"ولابن خزيمة من حديث ابن عباس، مرفوعا: "ليلة القدر" طلقة كما في الفتح، وللطيالسي: سمحة طلقة "لا حارة ولا باردة" أي: معتدلة، يقال: يوم طلق وليلة طلقة إذا لم يكن فيها حر ولا برد يؤذيان، قاله ابن الأثير: "تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة" أي: ضعيفة الضوء.

"ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "إنها صافية كأن فيها قمرا ساطعة ساكنة لا حر فيها ولا برد ولا يحل" أي: لا يتفق "لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج" أي: تطلع "مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" أي: لا يمكن من ذلك أسقط من الفتح، ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر، وله عن جابر بن سمرة مرفوعا:"ليلة القدر ليلة مطر وريح"، ولابن خزيمة عن جابر مرفوعا:"ليلة القدر طلقة بلجة لا حارة ولا بادرة، تضيء كواكبها ولا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها"، وله عن

ص: 317

وروى البيهقي في "فضائل الأوقات" أن المياه المالحة تعذب في تلك الليلة.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأخير من رمضان ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم من حديث عائشة.

وفي البخاري عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.

وجزم عبد الرزاق بأن "شد مئزره" هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري، وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجد في العبادة، كما يقال: شددت لهذا الأمر

أبي هريرة مرفوعا: "إن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى"، ولابن أبي حاتم عن مجاهد: لا يرسل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء، وعن الضحاك: يقبل الله التوبة فيها من كل تائب وهي من غروب الشمس إلى طلوعها، وذكر الطبري عن قوم: أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها، وإن كل شيء يسجد فيها.

"وروى البيهقي في فضائل الأوقات" عن أبي لبابة؛ "أن المياه المالحة تعذب في تلك الله" زاد الفتح: ولابن عبد البر عن زهرة بن معبد نحوه "وقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأخير من رمضان" بأنواع العبادات "ما لا يجتهد في غيره" أي: اجتهادا زائدا عن اجتهاده في غيره "رواه مسلم" من إفراده والترمذي وابن ماجه وأحمد "من حديث عائشة" لكن بلفظ: العشر الأواخر بدون قوله: من رمضان وإن كان هو المراد، فلو قال المصنف: يعني.

"وفي البخاري" ومسلم أيضا: فما هذا الإيهام من المصنف وابن ماجه الثلاثة في الصوم، وأبي داود والنسائي في الصلاة، كلهم "عنها" أي: عائشة، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر" زاد ابن أبي شيبة من حديث علي: الأواخر من رمضان "شد مئزره" بكسر الميم وسكون الهمزة، أي: إزاره "وأحيا ليله وأيقظ أهله" للعبادة.

"وجزم عبد الرزاق بأن شد مئزره هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري" سفيان واستشهد بقول الشاعر:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم

عن النساء ولو باتت بأطهار

وبه فسره السلف والأئمة المتقدمون وهو الصحيح.

"وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجد" بكسر الجيم "في العبادة" زيادة على عادته "كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له" وتفرغت "ويحتمل أن يراد به التشمير

ص: 318

مئزري، أي: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة.

وقوله: "وأحيا ليله" أي: سره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعا؛ لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله:"لا تجعلوا بيوتكم قبورا"، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور.

فقد كان عليه السلام يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها في بقية الشهر: فمنها: إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويشهد له حديث عائشة من وجه ضعيف "وأحيا الليل كله" وفي المسند عنها أيضًا، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر، وفي

والاعتزال معًا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز" بناء على استعمالها في لفظ واحد ومن عموم المجاز "فيكون المراد شد مئزره" ربطه "حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة" وربما يؤيده رواية مسلم: وجد وشد المئزر.

قال الطيبي: قد تقرر عند علماء البيان أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة كما إذا قلت: فلان طويل النجاد، وأردت طول نجاده مع طول قامته، كذلك لا يستبعد أنه صلى الله عليه وسلم شد مئزره ظاهرًا، أي: حقيقة، وتفرغ للعبادة واشتغل بها عن غيرها، أي: عن النساء.

"وقوله: وأحيا ليله، أي: سهره فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأن النوم أخو الموت" فهو استعارة شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام "وأضافه إلى الليل اتساعا؛ لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور" وإلا فالليل لا يوصف بوت ولا حياة، كما أن البيوت ليست قبورا حقيقة.

"فقد كان عليه السلام يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، فمنها إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله ويشهد له حديث عائشة من وجه" أي: طريق "ضعيف وأحيا الليل كله" وكراهة قيام جميعه محمول على الدوام عليه طول العام، أما قيام كالعشر فلا.

"وفي المسند" لأحمد "عنها" أي: عائشة أنها "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين" الأول والثاني من رمضان "بصلاة ونوم، فإذا كان العشر" الأخير "شمر" اجتهد في

ص: 319

حديث ضعيف عن أنس عند أبي نعيم: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان قام ونام فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضًا. ويحتمل أن تريد بإحياء الليل غالبه، وقد قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح في جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظ منها. وروي في حديث مرفوع عن أبي هريرة: "من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر". رواه أبو الشيخ.

العبادة "وشد المئزر" حقيقة ومجازا.

"وفي حديث ضعيف عن أنس عند أبي نعيم: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان قام ونام. فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا" بضم الغين وسكون الميم وضاد معجمتين، أي: نوما.

"ويحتمل أن تريد" عائشة "بإحياء الليل إحياء غالبه" فلا ينافي قولها في الصحيح ما علمته: قام ليلة حتى الصباح.

"وقد قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح في جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظ" أي: نصيب عظيم "منها" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى ليلة القدر العشاء والفجر في جماعة فقد أخذ من ليلة القدر بالنصيب الوافر"، رواه الخطيب عن أنس.

"وروي في حديث مرفوع عن أبي هريرة: "من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر" أي: ثوابها "رواه أبو الشيخ" وكذا البيهقي ورواه الطبراني عن أبي أمامة، رفعه: وخص العشاء؛ لأنها من الليل دون الصبح فليس منه.

وفي مسلم موفوعًا: "من يقم ليلة القدر فيوافقها غفر له ما تقدم من ذنبه"، ولأحمد عن عباة مرفوعا:"فمن قامها إيمانا واحتسابا ثم وقفت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".

قال في شرح التقريب: معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قام فيها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذك، وقول النووي: معنى الموافقة أن يعلم أنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضيه ولا المعنى يساعده.

وقال الحافظ: يترجح في نظري ما قاله النووي: ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغائها وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وقد اختلف هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟، فقيل: يرى كل شيء ساجدا، وقيل: يرى الأنوار ساطعة في كل مكان حتى الظلمة، قيل: يسمع كلاما أو خطابا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وفقت له.

واختار الطبري أن ذلك كله غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه،

ص: 320

ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي.

ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ففي حديث أنس وعائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا، ولفظ حديث عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا، أخرجه ابن أبي عاصم. ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا. وإسناد

واختلف أيضا في حصول الثواب المرتب عليها لمن قامها، وإن لم يظهر له شيء، وقاله الطبري والمهلب وابن العربي وغيرهم: أو يتوفق على كشفها له، وإليه ذهب الأكثر، وفرعوا على اشتراط العلم أنه يختص بها شخص دون آخر وإن كانا في بيت واحد.

قال الزين بن المنير: يجوز أنها كرامة لمن شاء الله، فيختص بها قوم دون قوم النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضر العلامة ولم ينف الكرامة، وكان في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر ونحن نرى كثيرا من السنين ينقضي رمضان بلا مطر مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر، ولا نعتقد أنه لا يراها إلا من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع ورب قائم لم يحصل منها إلا على العبادة دون رؤية خارق، وآخر رأى الخوارق بلا عبادة والعابد أفضل، والعبرة إنما هي بالاستقامة لاستحالة أن تكون إلا كرامة بخلاف الخارق، فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة. انتهى.

"ومنها أنه كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي" قال الأبي: الأظهر في إحيائه صلى الله عليه وسلم أنه كان في البيت، لقوله: وأيقظ أهله، ولحديث:"صلاة أحدكم في بيته أفضل إلا المكتوبة"، وحمله ابن عبد السلام على أنه كان في المسجد.

"ومنها: تأخير الفطور" أي: العشاء "إلى السحور، ففي حديث أنس وعائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر" الأواخر من رمضان "يجعل عشاءه سحورا".

"ولفظ حديث عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا كان" أي: وجد "رمضان قام" تهجد "ونام، فإذا دخل العشر" الأواخر "شد المئزر" حقيقة "واجتنب النساء" فلم يقربهن "واغتسل بن الأذانين" ليلة الحادي والعشرين ليتلقى العشر تام التهيؤ للعبادة لا ليلة عشرين؛ لأنه منابذ لقولها: إذا دخل العشر "وجعل العشاء سحورا" مع فطره برطب أو تمر أو ماء عند الغروب "أخرجه ابن أبي عاصم".

"ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه" الذي ينام عليه "واعتزل النساء" لم يقربهن "وجعل عشاءه سحورا" أي: أخره إلى وقت السحور؛ لأنه أنشط للعبادة "وإسناد الأول مقارب، والثاني" وأخرجه الطبراني "فيه حفص بن غياث" بمعجمة

ص: 321

الأول مقارب، والثاني فيه حفص بن غياث، وقال فيه ابن عدي: إنه من أنكر ما لقيت له. لكن يشهد له حديث الوصال المخرج في الصحيح كما قدمته.

ومنها: اغتساله عليه السلام بين العشاءين: المغرب والعشاء، روي من حديث علي، وفي إسناده ضعف.

النوع السادس: في ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم:

اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلي الرحماني، وإلمام بمعهد العهد الرباني، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد في تلك المواطن فخار وسمو، فإن

مكسورة فتحتية فألف فمثلثة النخعي الكوفي، ثقة، فقيه من رجال الجميع، لكن تغير حفظه قليلا في الآخر.

"وقال فيه ابن عدي: أنه" أي: هذا الحديث: "من أنكره ما لقيت له، لكن يشهد له حديث الوصال المخرج في الصحيح كما قدمته" فيه نظر، إذ الشاهد أن يكون الحديث الشاهد بمعنى الحديث المشهود له وهذا ليس بمعناه، إذ الوصال عبارة عن ترك الأكل يومين فأكثر، وهذا قال: إنه تعشى وقت السحور. نعم يشهد له ويعضده حديث عائشة الذي قبله.

"ومنها: اغتساله عليه السلام بين العشاءين المغرب والعشاء" بالخفض بدل.

"روي من حديث علي وفي إسناده ضعف" لكن يقويه حديث عائشة الذي قال: إسناده مقارب.

"النوع السادس: في ذكر حجه وعمره" بضم ففتح جمع عمرة "صلى الله عليه وسلم".

"اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود" أي: القصد منه التقرب إليه تعالى، فإذا أخلص فيه وعمل بحديث:"أن تعبد الله كأنك تراه" كان بمنزلة من حل في حضرته؛ لأنه حيث صور نفسه كالرائي له اتصف بتلك الصفة "ووقوف بساحة الجود" أي: كرمه سبحانه شبهه بمال كثير بفضاء واسع، من دخله تمكن من أخذ ما شاء منه، والقصد أن المخلص به، فكان حجه مبرورا يصل إلى مراده من شمول الرحمة العامة المقتضية لغفران ذنوبه فضلا منه سبحانه "ومشاهدة لذلك المشهد العلي الرحماني وإلمام بمعهد العهد الرباني، ولا يخفى أن نفس الكون" الوجود والحلول "بتلك الأماكن شرف وعلو" للحال فيها "وأن التردد في تلك المواطن فخار وسمو" ارتفاع، فهو بمعنى علو حسنه اختلاف اللفظ "فإن المحال المحترمة لم تزل تفرغ"

ص: 322

المحال المحترمة لم تزل تفرغ على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك في هذا ما يحكي في أبيات عن مجنون بني عامر حيث قال:

رأى المجنون في البيداء كلبا

فحر عليه للإحسان ذيلا

فلاموه على ما كان منه

وقالوا: لم منحت الكلب نيلا

فقال: دعوا الملام فإن عيني

رأته مرة في حي ليلى

فينبغي للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى في غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة.

أي: تصب بضم أوله من أفرغ "على الحال فيها من سجال" بجيم، أي: إدلاء مملوءة "وصفها بفيض غامر" بغين معجمة وحسبك في هذا ما يحكى في أبيات عن مجنون بني عامر" قيس بن معاذ أو مهدي بن الملوح العامري، شغف بحب ليلى العامرية ومنع أهلها أن يتزوجها ومنع السلطان مروان بن الحكم أن ينزل بمحل تحله ليلى، ونسب إلى الجنون لجعله الحب سبب الجنون في قوله:

جننا على ليلى وجنت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

وهو من الشراء المبرزين وإمام المتيمين، ومن الغريب ما نقله ابن القيم في روضة العاشق عن الجنيد؛ أن مجنون بني عامر كان من أحباء الله تعالى، ستر شأنه بجنونه بليلى "حيث قال:

"رأى المجنون في البيداء كلبا

"فحر عليه للإحسان ذيلا

فلاموه على ما كان منه

وقالوا: لم منحت الكلب نيلا

فقال: دعوا الملام فإن عيني

رأته مرة في حي ليلى"

البيداء المفازة وللإحسان، أي: لأجله "فينبغي للعبد أن يهتم بالحج ويبادر إليه، وينهض" يحرك "فاتر عزمه" أي: عزمه الفاتر "إنهاضا يحثه عليه" بالاجتهاد في أسبابه والسعي إليه وإن بعدت المسافة وناله مشقة "ولا يتوانى" يتكاسل "في غسل أدران" أوساخ "سيئات العمر بصابون المغفرة" بالحج المبرور الذي يغسلها فيزيل أثرها كما يزيل الصابون أثر الأوساخ الحسية "ولا يتكاسل عن البدار فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة" أي: المجازفة من إضافة الصفة للموصوف، أي: بركوب المخاطرة التي هي كالنافة العمياء في أن من تلبس بها وقع في الهلاك، كما أن الراكب للناقة العمياء يقع بواسطة سيرها كيف اتفق في الطرق الصعبة المؤدية إلى هلاكه.

ص: 323

وروى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد الحج فليتعجل". رواه أبو داود.

وفي حديث علي بن أبي طالب، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام، فلا يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". الحديث رواه الترمذي.

وخطب عليه السلام فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا". رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة.

"وروى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد الحج" أي: قدر على أدائه؛ لأن الإرادة مبدأ الفعل وهو مسبوق بالقدرة، فأطلق أحد سببي الفعل وأراد الآخر والعلاقة الملابسة؛ لأن معنى قوله: "فليتعجل:" فليغتنم الفرصة إذا وجد الاستطاعة قبل عروض مانع، والأمر للاستحباب على القول بالتراخي.

قال الكشاف: التفعل بمعنى الاستقبال غير عزيز منه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار "رواه أبو داود" وأحمد والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح، وأبو صفوان مهران راوية عن ابن عباس لم يجرح، لكن قال ابن بطال: إنه مجهول، وتبعه الذهبي في المهذب والحافظ في التقريب.

"وفي حديث علي بن أبي طالب؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام فلا يحج فلا" يبعد "عليه" أي: عنه لتهاونه في الدين مع قدرته أن تسوء خاتمته فيؤديه إلى "أن يموت يهوديا أو نصرانيا" والعياذ بالله "الحديث" بقيته: وذلك أن الله يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] "رواه الترمذي" وفي إسناده ضعف لكن له شواهد.

وقال الأدبي: وهو محمول عند أهل السنة من جحد وجوبه؛ لأن تركه لغير عذر إنما هو معصية، ونحن لا نكفر بالذبن، وكان ابن عرفة يقول: أشد شيء فيه قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، من حيث إنه في مقابلة:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، ولكنه محمول على ما تقدم. انتهى.

"وخطب عليه السلام فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج" في القرآن "فحجوا"، رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة" وبقيته عندهما، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟، فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال: صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

ص: 324

وفي رواية النسائي، من حديث ابن عباس مرفوعا:"إن الله كتب عليكم الحج"، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام يا رسول الله؟ فقال: "لو قلت نعم لوجبت" الحديث.

فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر.

"وفي رواية النسائي من حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله كتب" فرض "عليكم الحج"، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام؟ " بتقدير همز الاستفهام، أي: أكل عام يجب حجة على المستطيع "فقال: "لو قلت نعم لوجبت" حجة كل عام.

قال القاضي عياض: فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرأفة بالأمة، وفيه أن له أن يحكم باجتهاده.

قال النووي: ويجب المانع بأنه لعله كان بوحي

"الحديث" تتمته: "ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ولكنها حجة واحدة".

وفي حديث أنس عند ابن ماجه: "لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها عذبتم".

قال المازري: قيل: الأمر يقتضي التكرار، وقيل: لا يقتضيه، وقيل: بالوقف، فيما زاد على المرة الواحدة؛ لأن السائل تردد في فهم قوله: فحجوا، بين التكرار والمرة الواحدة، ولذا سأل: ولو كان عنده لأحدهما لم يسأل، ولقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا حاجة للسؤال عن هذا، بل أيد سؤاله وبين له، ويحتمل أن التكرار عند السائل من وجه آخر؛ لأن الحج لغة قصد فيه تكرار.

قال النووي: وقد يجيب الآخر بأنه إنما سأل استظهارا أو احتياطا.

قال الأبي: الخلاف المذكور في اقتضاء الأمر التكرار إنما هو في صيغة الأمر في غير الحج، أما قوله: فحجوا فلا خلاف أنه ليس للتكرار، وللإجماع على أن وجوبه مرة في العمر، والقول بالوقف فيما زاد على الواحدة مذهب الباقلاني.

وفي الاحتجاج له بالحديث نظر، والقول بالتكرار إنما هو مع إمكان الفعل، وإلا لزم أن يفعل الفعل دائما. انتهى.

"فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة" فيكفر جاحده "وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر" وجوبه "إلا لعارض كالنذر".

قال ابن العربي: وشذ بعض فأوجبه كل عام لحديث: على كل مسلم في كل سنة أن يأتي بيت الله الحرام وروايته حرام، يعني أنه موضوع، وبعض: فأوجبه كل خمسة أعوام لخبر ابن

ص: 325

واختلفوا: هل هو على الفور، أو التراخي؟ فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي، إلى أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور.

واختلفوا أيضا في وقت ابتداء وجوبه فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف في سنته.

فالجمهور على أنها سنة ست؛ لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 169] ، وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ:"وأقيموا" رواه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم.

وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وقد كان قدومه على ذكره الواقدي سنة خمس، وهذا يدل -إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو

أبي شيبة وابن حبان مرفوعا: "إن الله تعالى يقول: إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في التأكيد في مثل هذه المدة".

"واختلفوا هل هو على الفور" فيجب بأول عام الاستطاعة "أو التراخي، فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي إلى أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها" فيجب فورًا.

"وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور، واختلفوا أيضا في وقت ابتداء وجوبه، فقيل: قبل الهجرة وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست" من الهجرة "لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، "وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض" فمعنى {وَأَتِمُّوا} ائتوا تاما ولو بقي على ظاهره لم يدل على وجوب الشروع فيه، إذ يكون معناه: إذا شرعتم في الحج وأحرمتم به فأتموه، والآية إنما سيقت للدلالة على وجوبه بأن يشرع فيه ويتمه.

"ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: "وأقيموا"، رواه الطبري" محمد بن جرير، ونسخه الطبراني تصحيف "بأسانيد صحيحة عنهم، وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك، وقد وقع في قصة ضمام" بكسر الضاد مخففًا "ذكر الأمر بالحج وقد كان قدومه على ما ذكره الواقدي سنة خمس، وهذا يدل إن

ص: 326

وقوعه فيها.

وقالت طائفة: إنه تأخر نزل فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا: بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية [التوبة: 28] فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآية والمناداة بها إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في موسم الحج، وإردافه بعلي.

وفي الترمذي من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فساق ثلاثا وستين بدنة، ثم جاء

ثبت على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها" قبل قدوم ضمام.

"وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة" عند قوم "والعاشرة" عند آخرين فهو إشارة إلى قولين.

"واحتجوا بأن صدر" أي: أول "سورة آل عمران نزل عام الوفود" وذلك في السنة التاسعة "وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران وناظر أهل الكتاب" أي: أهل نجران "ودعاهم إلى التوحيد".

"ويدل عليه أن أهل مكة" الذين أسلموا "وجدوا في أنفسهم" حرجا ومشقة "بما فاتهم من التجارة مع المشركين" بالامتناع من معاملتهم "لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، الآية فأعاضهم" بفتح الهمزة وعين مهملة، أي: أعطاهم "الله من ذلك" أي: بدل ما فاتهم من الربح الذي كان يحصل لهم بمبايعة المشركين ومعاملتهم "بالجزية" المأخوذة من الكفار وإن لم يكونوا مشركين "ونزول هذه الآية والمناداة بها" بمكة "إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في موسم الحج وإردافه بعلي" بن أبي طالب أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

"وفي الترمذي من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فساق" معه من المدينة "ثلاثا وستين بدنة، ثم جاء علي من اليمن ببقيتها"، أي المائة كما يأتي للمصنف، وفي الصحيحين عن علي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، وفي مسلم وغيره عن جابر: ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى

ص: 327

علي من اليمن ببقيتها، فيها جمل في أنفه برة من فضه فنحرها، الحديث.

وعن ابن عباس: حج صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر ثلاث حجج. أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك.

وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري، أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر حججا.

وقال ابن الجوزي: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان عليه السلام يحج كل سنة قبل أن يهاجر.

وقال جابر في حديثه الطويل -كما في رواية مسلم: مكث صلى الله عليه وسلم تسع

عليا فنحر ما غير "فيها جمل في أنفه برة" بضم الموحدة وفتح الراب الخفيفة وهاء حلقة "من فضة فنحرها، الحديث" وفيه إهداء الذكر.

وحكي عن ابن عمر كراهته في الإبل.

"وعن ابن عباس: حج صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر ثلاث حجج، أخرجه ابن ماجه والحاكم، وهو مبني على عد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج".

زاد الحافظ: فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم ثالثا فبايعوا البيعة الثانية "وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك" فهذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا الله.

"وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري" سفيان بن سعيد؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر حججا:" جمع حجة.

"وقال ابن الجوزي: حج حججًا لا يعلم عددها".

"وقال ابن الأثير: كان عليه السلام يحج كل سنة قبل أن يهاجر".

قال الحافظ: الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يظن أنه صلى الله عليه وسلم يتركه، وقد ثبت أن جبير بن مطعم رآه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية واقفا بعرفة، وأنه من توفيق الله له وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية. انتهى.

"وقال جابر" بن عبد الله "في حديثه الطويل" الذي ساق فيه حجة الوداع تامة سياقا

ص: 328

سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه فأتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي"، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على

حسنا "كما في رواية مسلم" وأبي داود: "مكث صلى الله عليه وسلم" بالمدينة بعد الهجرة "تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة" بضم الهمزة وكسر الذال المشددة، أي: أعلموا بذلك ويجوز أن يكون بفتح الهمزة مبنيا للفاعل، أي: النبي صلى الله عليه وسلم، باعتبار أنه الآمر بالتأذين؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج" يجوز فيه فتح الهمزة وكسرها "فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم:" يقتدي "برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله".

قال عياض: هذا يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم به وهم لا يخالفونه، ولذا قال جابر: وما عمل به من شيء عملنا به، ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إيهم، ومثله تعليق علي وأبي موسى إحرامهما على إحرامه صلى الله عليه وسلم.

"فخرجنا معه فأتينا ذا الحليفة" ميقات أهل المدينة على ستة أميال منها، وقيل: سبعة، حكاهما في المشارق "فولدت أسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر الصحابية الفاضلة "محمد بن أبي بكر" الصديق "فأرسلت" أسماء "إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ " الظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق، ويدل له رواية الموطأ؛ أن أسماء ولدت محمد بن أبي بكر، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم "قال: "اغتسلي واستثفري" بمثلثة بعد الفوقية، أي: احتجزي "بثوب" تشده على موضع الدم ليمنع السيلان، هكذا الرواية في مسلم وأبي داود المثلثة، ولبعض رواة أبي داود بالذال المعجمة بدل المثلثة، أي: استعملي طيبا لإزالة هذا الشيء عنك، أي: رائحة الدم مأخوذ من الدفر بالتحريك، وهو كل ريح ذكية من طيب أو نتن.

قال المنذري: والمشهور بالمثلثة "وأحرمي" وفيه صحة إحرام النفساء والحائض وهو مجمع عليه، وصحة اغتسالهما للإحرام وإن كان الدم جاريا.

قال الخطابي: وإنما أمرها بذلك وإن كان اغتسالها لا يصح للتشبه بالطاهرات، كما أمر من أكل يوم عاشوراء بإمساك بقية النهار، وقال غيره للتنبيه على أن الغسل من سنن الإحرام:"فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد" أي: مسجد ذي الحليفة ركعتين سنة الإحرام عند جميع العلماء إلا أن الحسن البصري استحب كون الإحرام بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، نقله عياض وغيره.

ص: 329

البيداء، نظرت مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به.

قال النووي: والصواب قول الجمهور، وهو ظاهر الحديث، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: هما سنة لو تركها فاتته الفضيلة ولا إثم عليه، فلو أحرم بوقت نهى لم يركعهما على المشهور، وفي وجه: يركعهما فيه، لأن سببهما إرادة الإحرام وقد وجد "ثم ركب" ناقته "القصواء" بفتح القاف والمد، وللعذري في مسلم بالضم والقصر، وهو خطأ قاله عياض.

وقال ابن بري: يقال: بالفتح والمد، ويقال: بالفتح والقصر، ولا يقال في صفة الناقة: بالضم والقصر، وإنما يقال في تأنيث الأقصى، ومر الخلاف في أن القصواء غير الجدعاء والعضباء أو الكل أسماء لناقة واحدة، لقوله هنا: ركب القصواء، وقوله في آخر الحديث: خطب على العضباء.

وفي غير مسلم: خطب على ناقته الجدعاء، وفي حديث آخر: على ناقة خرماء، وفي آخر: مخضرمة، فهذا يدل على أنها ناقة واحدة "حتى إذا استوت به ناقته على البيداء" بالمد، أي: المكان العالي قدام ذي الحليفة بقربها إلى جهة مكة، سميت بيداء؛ لأنها لا بناء بها ولا أثر "نظرت مد بصري" هكذا في جميع الروايات في مسلم وأبي داود مد، أي: منتهى، وذكر بعض اللغويين أن الصواب مدى.

قال النووي: وليس كذلك، بل هما لغتان مدى أشهر.

"بين يديه من راكب وماش" فيه جواز الحج، كذلك وهو إجماع، وإنما الخلاف في الأفضل، فقال الجمهور: الركوب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أعون على القيام بالمناسك؛ ولأنه أكثر نفقة، وبه قال مالك في المشهور: وهو الأصح عند الشافعية، ورجح طائفة من المذهبين المشي.

"و" نظرت "عن يمينه مثل ذلك و" نظرت "عن ياسره مثل ذلك و" نظرت "من خلفه مثل ذلك" فهو بنصب مثل في الثلاث.

قال الولي: ضبطناه بالنصب في الثلاث، ويجوز الرفع على الاستئناف، والمراد أنه حضر معه خلق كثير، وقد قيل: إنهم أربعون ألفا "ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن" بضم أوله كما ضبطناه، ومعناه: الحث على التمسك بما يخبرهم به من فعله في تلك الحجة. انتهى.

"وهو يعرف تأويله" على الحقيقة "وما عمل من شيء عملنا به" زيادة في الحث على التمسك بما يخبرهم به.

ص: 330

وفي رواية عند النسائي: قال جابر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتى أتى ذا الحليفة الحديث.

وكان خروجه عليه السلام من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن كلهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول.

وفي الترمذي، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد صلى الله عليه وسلم لإهلاله واغتسل.

وفي الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة، وفي رواية قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقة عليه السلام وهو محرم، وفي رواية قالت: طيبته عند

"وفي رواية عند النسائي، قال جابر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه حتى أتى الحليفة

الحديث" فزاد في هذه الرواية: تاريخ الخروج "وكان خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة فصلى با العصر ركعتين" قصرًا "ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، وكان نساؤه" التسع "كلهن معه، فطاف عليهن" أي: جامعهن "كلهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه" الذي هو سنة فيه "غير غسل الجماع الأول" أي: جنسه فيشمل الاغتسالات التسع، لما ورد أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يغتسل عند كل واحدة.

"وفي الترمذي عن خارجة بن زيد" الأنصاري المدني الفقيه الثقة "عن أبيه" زيد بن ثابت الصحابي الشهير، قال:"تجرد صلى الله عليه وسلم" من مخيط الثياب "لإهلاله" أي: إحرامه "واغتسل" للإحرام.

"وفي الصحيحين" البخاري في اللباس، ومسلم في الحج "أن عائشة طيبته" صلى الله عليه وسلم "بذريرة" بذل معجمة وراءين بينهما تحتية ساكنة نوع من الطيب مركب يجعل فيه مسك، وقيل: هو فئات طيب يجاء به من الهند وهو مما يذهبه الغسل قاله المصنف على مسلم.

ولفظ الصحيحين عن عائشة، قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام.

"وفي رواية" للشيخين أيضا "قالت" عائشة: "كأني أنظر إلى وبيص" بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة فصاد مهملة، أي: بريق أثر "الطيب" وزعم الإسماعيلي أن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلؤلؤ، قال: وهو يدل على وجود عين باقية لا الريح فقط، وأشارت بقولها: كأني إلى قوة تحققها لذلك بحيث إنها لكثرة استحضارها له كأنها ناظرة إليه "في مفارقة عليه الصلاة والسلام:" جمع مفرق بفتح الميم وكسر الراء وفتحها كما جزم به

ص: 331

إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما، زاد في رواية: ينضخ طيبا. وفي رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم، تعني لا بقاء له.

وهذا يدل على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابي عن

الجوهري، وفي المشارق يقال: بفتح الراء والميم وكسرهما.

قال الولي العراقي: فإن كان كل من فتح الميم وكسرها، يقال مع كل من فتح الراء وكسرها ففيه أربع لغات.

قال الجوهري: هو وسط الرأس الذي يفرق فيه الشعر، وفي المشارق هو مكان فرق الشعر من الجبين إلى دائرة وسط الرأس، قيل: ذكرته بصيغة الجمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر، لكن في رواية لمسلم في الحج، والبخاري في الغسل مفرق بالإفراد "وهو محرم" الواو للحال، وفي رواية لمسلم: بدله وذلك طيب إحرامه.

"وفي رواية" لهما أيضًا "قالت: طيبته عند إحرامه" أي عند إرادته.

"وفي رواية" للشيخين أيضًا "قالت: طيبته عند" إرادة "إحرامه، ثم طاف في نسائه" أي: جامعهن في ليلة واحدة "ثم أصبح محرما، زاد في رواية" لهما أيضا "ينضخ" بالخاء المعجمة أو المهملة روايتان "طيبا" نصب على التمييز، أي: من جهة الطيب، أي: يفور منه الطيب على رواية الإعجام ومنه عينان نضاختان، أي: تعم رائحته وتدرك إدراكا كثيرا، ورواية الإهمال معناها تقارب ذلك، وقيل: بالمعجمة أقل من المهملة، وقيل: بعكسه.

"وفي رواية" للنسائي عن عائشة "طيبته طيبا لا يشبه طيبكم، تعني لا بقاء لا" كما قاله بعض رواته عند النسائي، ورده الحافظ بما لأبي داود عن عائشة: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم فنعرق، فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا، فهذا صريح في بقاء عين الطيب، ولمسلم: بطيب فيه مسك، وله أيضا: كأني أنظر إلى وبيص المسك، وللشيخين: بأطيب ما أجد، وللطحاوي بالغالية الجيدة، فهذا يدل على أن قولها لا يشبه طيبكم، أي: أطيب منه لا كما فهمه القائل. انتهى.

لكن ولو دل على ذلك لا حجة فيه؛ لأنه أذهب الغسل عينه "وهذا يدل على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف" يعقوب "وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابي عن أكثر الصحابة، وحكاه النووي عن جمهور العلماء

ص: 332

أكثر الصحابة، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف.

وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه.

وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، رواه الدارقطني.

وفي حديث أنس عند أبي داود والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل.

من السلف والخلف" أجمع من هذا كله قول الحافظ، وهو قول الجمهور "وذهب مالك" والزهري وجماعة من الصحابة والتابعين "إلى منع التطيب قبل الإحرام بما" أي: بطيب "تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل أساء ولا فدية عليه".

وفي رواية عنه: تجب، وأجابوا عن الحديث بأجوبة، منها: أنه أذهبه الغسل لرواية مسلم طيبته عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا، فقد ظهرت علة تطيبه أنه لمباشرة النساء وغسله بعده لجماعهن ثم للإحرام أذهبه، فإنه كان يتطهر من كل واحدة قبل معاودته للأخرى، وأي طيب يبقى بعد اغتسالات كثيرة، ويكون قولها: ثم أصبح محرما ينضخ طيبا فيه تقديم وتأخير، أي: طاف على نسائه ينضخ طيبا، ثم أصبح بنية الإحرام.

وفي الصحيحين: أن الذي طيبته به ذريرة وهي مما يذهبها الغسل ولا تبقى عينها بعده، وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقه وهو محرم، المراد أثره لا جرمه، قال عياض بمعناه، ورده النووي بأنه تأويل مخالف للظاهر بلا دليل وهو عجيب، فإن عياضا ذكر دليله كما ترى، ومنها: أن الطيب للإحرام من خصائصه صلى الله عليه وسلم للقاء الملائكة؛ ولأن المحرم إنما منع منه؛ لأنه من دواعي النكاح وكان هو أملك اناس لإربه ففعله، والدليل على الخصوصية مخالفة فعله لنهيه عن الطيب، وأما قول عائشة: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب الحديث السابق فلا صراحة فيه ببقاء عينه؛ لأنهن اغتسلن والغسل يذهبه.

"وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي" بكسر الخاء المعجمة أكثر من فتحها والياء مشددة "وأشنان" بضم الهمزة والكسر لغة معرب، ويقال له بالعربية الحرض بضمتين "رواه الدارقطني".

"وفي حديث أنس عند أبي داود والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر" بذي الحليفة "ثم ركب راحلته:" ناقته "فلما علا" ارتفع "على جبل البيداء" بالمد فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد الكبري وغيره.

ص: 333

وفي رواية ابن عمر، عند البخاري ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد، يعني مسجد ذي الحليفة.

وفي رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره.

وفي رواية: حين وضع رجله في الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذي الحليفة.

قال الولي العراقي: ضبطناه قبل في أصلنا من أبي داود بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه والذي في محفوظنا جبل بفتح الجيم والباء وهو معروف "أهل" أي: أحرم، ويعارضه حديث الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي عن أنس: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا وصلى العصر في ذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهل، وجمع بينهما بأنه أهل عند ركوب دابته الإهلال المقترن بالإحرام، ثم أهل ثانيا حين وصل إلى البيداء، ثم لا تخالف بين تصريحه في الرواية التي في المصنف بأن ركوبه بعدما صلى الظهر، وبين ظاهر رواية الجماعة، إذ ليس فيها أنه ارتحل بعد الصبح، وإنما قال: فلما ركب ولم يبين الوقت الذي وقع فيه ركوبه، وقد بينه في الرواية الأخرى فلا تعارض.

"وفي رواية ابن عمر" عبد الله "عند البخاري ومسلم وغيرهما" كأبي داود والترمذي والنسائي، كلهم من طريق مالك وغيره عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: "ما أهل" رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا من عند المسجد، يعني: مسجد ذي الحليفة".

"وفي رواية" لمسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى عن سالم، قال: كان ابن عمر إذا قيل له: الإحرام من البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله "ما أهل" رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا من عند الشجرة" ولا خلف، فالشجرة سمرة عند المسجد "حين قام به بعيره" أي: ناقته.

"وفي رواية" عند مسلم وابن ماجه وأبي عوانة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر:"حين وضع" صلى الله عليه وسلم "رجله في الغرز" بفتح المعجمة وإسكان الراء وزاي منقوطة الركاب للإبل "واستوت به راحلته" أي: استقرت.

قال الجوهري: استوى على ظهر دابته، أي: استقر "قائما" أي: مستويا على ناقته، أو وصفه بالقيام لقيام ناقته.

وفي الصحيحين من طريق صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر: أهل حين استوت به راحلته قائمة "أهل من عند مسجد ذي الحليفة".

ص: 334

وفي رواية جابر -عند أبي داود والترمذي- أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الحج أذن في الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم.

وفي حديث ابن جبير -عند أبي داود- قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب!؟ فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج صلى الله عليه وسلم حاجا فلما صلى بمسجده في ذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم

"وفي رواية جابر عند أبي داود والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الحج أذن" بالبناء للمفعول أو الفاعل "في الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم" وقد كان ابن عمر ينكر على ابن عباس قوله في البخاري: ركب راحلته حتى استوت به على البيداء أهل، قاله الحافظ.

قال: "و" قد أزال الإشكال ما "في حديث" سعيد "بن جبير عند أبي داود" من طريق ابن إسحاق: حدثني خصيف بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير "قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في" محل "إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب" أي: ألزم نفسه ما أحرم به، ومنه قول عمر؛ أنه أوجب بختيا، أي: أهداه في حج أو عمرة، كأنه ألزم نفسه به "فقال: إني لأعلم الناس بذلك أنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة" أي: بعد الهجرة وإلا فقد حج قبلها مرات، ويحتمل أن يريد أن المتنازع فيه حجة واحدة، فهو تقرير لسؤال سعيد بن جبير وتقوية لإشكاله، قاله الشيخ ولي الدين العراقي: "فمن هناك اختلفوا" وبين وجه اختلافهم، وأنه ليس بخلاف حقيقي، بقوله: "خرج صلى الله عليه وسلم حاجا فلما صلى بمسجده في ذي الحليفة ركعتيه" سنة الإحرام "أوجبه" أي: الإحرام "في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته" أي: حملته.

قال ابن الأثير: يقال: استقل الشيء يستقله إذا رفعه وحمله.

قال الولي: فعليه الباء في به زائدة؛ لأنه متعد بنفسه "أهل" أي: رفع صوته بالتلبية "وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا" بفتح الهمزة جمع رسل بفتحتين وأصله من الغنم والإبل عن عشرين إلى خمس وعشرين كما في النهاية، والمراد هنا أفواجا وفرقا منقطعة يتبع بعضهم بعضا "فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل" فظنوا أنه مبدأ إحرامه "فقالوا:

ص: 335

حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء.

قال سعيد بن جبير: فمنأخذ بقول عبد الله بن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه، وهو مذهب أبي حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعي أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته.

قال ابن القيم: ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. انتهى.

قلت: ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يركع بذي الحليفة

إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به راحلته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا" ارتفع "على شرف البيداء:" موضع يقرب ذي الحليفة وهي اسم لكل مفازة لا شيء بها لكنها صارت علما بالغلبة على هذا الموضع والشرف المكان العالي، وفي المشارق: البيداء هي الشرف الذي أمام ذي الحليفة.

قال الولي: فعلى هذا تكون إضافة الشرف للبيداء من إضافة الشيء إلى نفسه "أهل وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء" ظنا أنه ابتداء إحرامه "وأيم الله لقد أوجب في مصلاه" على نفسه الحج "وأهل" أي: لبى رافعا صوته "حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء".

"قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس" وجواب من قوله: "أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه" هذا تمام الحديث في أبي داود "وهو مذهب أبي حنيفة" وهو قول ضعيف للشافعي "والصحيح من مذهب الشافعي" ومالك والجمهور؛ "أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته" وأجابوا عن حديث ابن عباس هذا بأنه ضعيف، كما قال النووي والمنذري: وإن سكت عليه أبو داود؛ لأن فيه خصيف بن عبد الرحمن، ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين وأبو زرعة، وعلى تسليم توثيقه فقد عارضه حديث ابن عمر وأنس في الصحيحين وغيرهما؛ أنه إنما أهل حين استوت به ناقته قائمة، وقد اتفق فهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل.

"قال ابن القيم: ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. انتهى، قلت: ثبت في الصحيحين عن ابن عمر؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان يركع بذي الحليفة ركعتين"

ص: 336

ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.

قال النووي: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث.

وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وهل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروي كل منها في البخاري ومسلم وغيرهما. واختلف الناس في ذلك على ستة أقوال:

أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه.

سنة الإحرام "ثم إذا استوت به الناقة قائمة" قال التوربشتي: أي: رفعته مستويا على ظهرها، وتعقبه الطيبي بأن استوى إنما يعدي بعلى لا بالباء، فقوله: به حال، وكذا قوله قائمة، أي: استوت ناقته قائمة متلبسة به صلى الله عليه وسلم "عند مسجد ذي الحليفة أهل" أي: رفع صوته بالتلبية عند الدخول في الإحرام، والمتبادر أن الركعتين للإحرام لا الظهر المقصورة.

ولذا "قال النووي: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام ويصليهما قبل الإحرام يكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب كافة العلماء إلا ما حكاه القاضي" عياض "وغيره عن الحسن البصري؛ أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانت صلاة الصبح" وتعقب بأن هذا لم يثبت "والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث" فلا يعدل عنه.

"وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وهل" الواو الزائدة، وفي نسخ: إسقاطها "كان مفردا أو قارنا أو متمتعا، وروي كل منها في البخاري ومسلم وغيرهما" فالشيخان عن ابن عمر، وجابر ومسلم عن عائشة وابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، والبخاري من عمر، والشيخان عن أنس، ومسلم عن عمران بن حصين، وأبو داود عن البراء، والنسائي عن علي، وأحمد عن أبي طلحة أنه كان قارنا، والشيخان عن ابن عمر، وعائشة وأبي موسى وابن عباس ومسلم عن ابن عباس أنه كان متمتعا، وثم روايات أخر: لا أطيل بها.

"واختلف الناس في ذلك على ستة أقوال:

أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه" أي: الحج، أي: أنه استمر مفردا حتى حل منه

ص: 337

الثاني: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره.

الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنًا.

الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين.

الخامس: أنه حج حجا مفردا، اعتمر بعده من التنعيم.

السادس: أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدي.

واختلفوا أيضا في إحرامه على ستة أقوال:

أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.

بمنى ولم يعتمر تلك السنة، قال الحافظ: وهو مقتضى من رجح أنه كان مفردا.

"الثاني: حج متمعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كا قال القاضي أبو يعلى وغيره".

"الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن" ابتداء "قارنا" بمعنى أنه لم يحرم بالحج والعمرة معا، إنما أحرم بالعمرة واستمر عليها لأجل الهدي إلى أن أدخل عليها بالحج يوم التروية، كما قاله الطحاوي وابن حبان وغيرهما.

"الرابع: أنه حج قارنا قرانا، طاف له طوافين وسعى له سعيين" وبه استدل الحنفية على أن ذلك يلزم القارن، وأجاب من اكتفى لهما بواحد بأنه لحصول الأفضل إن سلم أنه كان قارنا وسلم أنه طاف طوافين وسعيين، وإنما جاء ذلك في أحاديث ضعيفة جدا لا يقوم بشيء منها حجة والثابت في الموطأ والصحيحين والسنن عن عائشة، وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.

"الخامس: أنه حج حجا مفردا اعتمر بعده" أي: بعدما حل منه "من التنعيم" أو غيره، وزعم ابن تيمية أن هذا غلط كما يجيء.

"السادس: أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحد وساق الهدي".

"واختلفوا أيضا في إحرامه على ستة أقوال" مغايرة، هذا لسابقه أنهه في صفة ما فعله إلى التحلل وما هنا في صفة الإحرام وحده.

"أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها" حتى فرغ منها ثم جج فهو متمتع.

ص: 338

الثاني: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه.

الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة.

الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج.

الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه.

السادس: أنه لبى بالحج والعمرة معا.

وقد أطنب أبو جعفر الطحاوي الحنفي في الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه في زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا، واشار إليه القاضي عياض والنووي في شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا.

"الثاني: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه" حتى فرغ منه.

"الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة" ويأتي الخلاف هل ذلك خاص به وبأصحابه في تلك السنة فقط أو عام.

"الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج" فصار قارنا.

"الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا" ينتظر ما يؤمر به "ثم عينه بعد إحرامه" لما نزل عليه الحكم بذلك وهو على الصفا، كذا في الفتح، لكن قال القاضي عياض وأقره النووي: لا يصح قول من قال: أحرم إحراما مطلقا مبهما؛ لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة مصرحة بخلافه.

"السادس: أنه لبى" ابتداء "بالحج والعمرة معا" فهو قارن من أول إحرامه "وقد أطنب أبو جعفر الطحاوي الحنفي في الكلام على ذلك؛ فإنه تكلم عليه في زيادة على ألف ورقة، كما ذكره عنه جماعة من العلماء" منهم عياض، وزاد وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم أخوه المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط وأبو الحسن بن القصار البغدادي، وابن عبد البر وغيرهم.

"وبينه ابن حزم في حجة الوداع" من كتاب المحلى "بيانا شافيا، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضي عياض والنووي" ناقلا كلام عياض "في شرحيهما لمسلم" جوابا لسؤال: كيف اختلف الصحابة في صفة حجته وهي واحدة، وكل يخبر عن مشاهدة في قضية واحدة "ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثر من مباحثه استيفاء كافيا"

ص: 339

والذي ذهب إليه الشافعي في جماعة: أنه صلى الله عليه وسلم حج حجا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما في الصحيحين أن عائشة قالت:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا أهل بالحج وحده، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج". فهذا التقسيم والتوزيع صريح في إهلاله بالحج وحده.

وفي رواية لمسلم عنها: أنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج وحده.

ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج.

ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، وعن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. رواه البخاري.

قالوا: وهؤلاء لهم قرب في حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو أحسن الصحابة سياقًا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غير وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله

ويأتي قريبا للمصنف ذكر غالبه "والذي ذهب إليه الشافعي في" أي: مع "جماعة" كمالك؛ "أنه صلى الله عليه وسلم حج حجا مفردا" يعني: حجة الوداع "لم يعتمر معه.

"واحتج" من رجح أنه كان مفردا "بما في الصحيحين" والسنن من طريق الموطأ "أن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع" لأنه ودع الناس فيها "فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج وحده، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج"، فهذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده، و" به صرح "في رواية لمسلم عنها" أي: عائشة؛ "أنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج وحده، ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج" وحده على المتبادر.

"ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، وعن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، رواه البخاري، قالوا" أي: الأئمة الذين رجحوا أنه صلى الله عليه وسلم حج مفردا "وهؤلاء" أي: الصحابة الأربع عائشة وابن عباس وجابر وابن عمر "لهم قرب" من المصطفى، وفي خط الولي العراقي عن النووي لهم مزية "في حجة الوداع على غيرهم" وفصل القرب أو المزية بقوله:"فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقا لحديث: حجة الوداع، فإنه ذكرها" أي: أفعالها مفصلة "من حين خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره" وحديثه في مسلم وأبي داود مطولًا.

"وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام" بكسر الخاء المعجمة "ناقته صلى الله عليه وسلم في حجة

ص: 340

وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإني كنت تحت ناقته صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله في خلوته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره، وأخذه إياها من كبار الصحابة.

واحتجوا أيضًا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على "الإفراد" مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن واحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله علي رضي الله عنه لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقرآن.

الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس"؛ أنه كان قارنا "على قوله" نفسه أنه جج مفردا "وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس" إشارة إلى صغر سنه فلم يضبط "وأني كنت تحت ناقته صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج" وحده، فلو كان قارنا لسمعته وقتا ما يلبي بهما لملازمتي له.

"وأما عائشة فقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره، وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فهمها وعظيم فطنتها" فكيف لا يرجح قولها.

"وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين، والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره" أي: مبالغته في حفظها وتحرزه في ضبطها بحيث لا يفوته شيء منها "وأخذه إياها من كبار الصحابة" بعد الوفاة النبوية.

"واحتجوا أيضا بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على الإفراد" بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فأفرد كل من العمرين وعثمان مدة خلافتهم "مع أنهم الأئمة الأعلام وقادة الإسلام" أي: أزمته والحافظون له كحفظ السلطان لجيشه وحمله على ما هو الأصلح له "والمقتدى بهم" في عصرهم وبعدهم "فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل" الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للاستبعاد، أي: لا يليق أن يظن بهم ذلك "وبأنه لم ينقل عن واحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التمتع و" كراهية "الجمع بينها" أي: القرآن "حتى فعله علي رضي الله عنه لبيان الجواز" خوف اعتقاد أحد منعه؛ "وبأن الإفراد لا يجب فيه دم الإجماع" لكماله "بخلاف التمتع والقرآن"

ص: 341

وذهب النووي إلى أن الصواب أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القرآن أفضل من الإفراد والذي لا يعتمر في سنته عندنا، ولم يقل أحد: إن الحج وحده أفضل من القرآن. انتهى.

وقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد، ولو لم يعتمر في تلك السنة.

قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القرآن بأمور.

منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع.

وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، وأشهر من روي عنه

فيجب لفوات الميقات وغيره، فكان ما لا يحتاج إلى جبر أفضل.

قال الحافظ: وهذا ينبني على أن دم القران دم جبران، وقد منعه من رجح القران بأنه دم فضل وثواب كالأضحية، ولو كان دم نقص لما قام الصيام مقامه؛ ولأنه يؤكل منه، ودم النقص لا يؤكل منه كدم الجزاء، قاله الطحاوي.

"وذهب النووي إلى أن الصواب أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذي لا يعتمر في سننه عندنا، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران" وما مر أنه اعتمر بعد حجه من التنعيم غلط كما يأتي عن ابن تيمية. "انتهى" كلام النووي.

"وقد" تعقبه الحافظ بن الخلاف ثابت قديما وحديثا، أما قديما فثبت عن عمر أنه قال: إن أتم لحجكم ولعمرتكم أن تنشؤوا لكل منهما سفرا، وعن ابن مسعود نحوه أخرجه ابن أبي شيبة، وأما حديثا فقد "صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر في تلك السنة" وهو مقتضى مذهب مالك، زاد الحافظ.

وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخلاف بيننا وبين الشافعي مبني على أن القارن يطوف طوافا واحدا وسعيا واحدا، فلذا قال: الإفراد أفضل، وعندنا أن القارن يطوف طوافين وسعيين، فهو أفضل؛ لأنه أكثر عملا.

"قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور، منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع" لأنه حفظ ما لم يحفظه غيره "وبأن روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها؛ أنه -صلى الله عليه وسلم

ص: 342

الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا.

وبأن القران رواه عنه -صلى الله عليه - جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه.

وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال:"لولا أن معي الهدي لأحللت".

وأيضا: فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وبه ينتفي التعارض، ويؤيده: أن من

اعتمر مع حجته" لكن في ترجيحه بهذا وتعبيره بأنه ثبت درك كثير على مثل الحافظ، فإنه نفسه نقل قبل هذا بقليل جدا أن البيهقي أعل حديث أبي إسحاق عن مجاهد عن عائشة: لقد علم ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثًا سوى التي قرنها في حجته، أخرجه أبو داود بأن أبا إسحاق تفرد عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفظ: فقالت: ما اعتمر في رجب قط وهو المحفوظ على أنه اختلف فيه على أبي إسحاق، فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا.

وقال زكريا عن أبي إسحاق عن البراء انتهى، فكيف يعارض ما في أصح الصحيح عنها بحديث معلول.

"وابن عمر: وقد ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج" ويأتي قريبا للمصنف ما يفيد أن هذه رواية شاذة، وأن المصرح به في الأحاديث الكثيرة عكسه.

"وجابر: وقد روي عنه أنه" صلى الله عليه وسلم "اعتمر مع حجته أيضا" ولم يذكر أنه اختلف على ابن عباس.

وفي مسلم وأبي داود والنسائي، عنه: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج "وبأن القرآن رواه عنه صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه" جعله ثالثًا في الترجيح مع أن الحافظ الذي هو ناقل عنه إنما جعله من بقية الجواب الثاني فلم يقل، وبأن إنما قال: والقرآن

إلخ، وهذا هو الواضح.

"وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: "أفردت ولا تمتعت"، بل صح عنه أنه قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت"، وأيضا: فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف" أخذ على غير الطريق؛ بأنه نسب إليه اتساعا؛ لأنه أمر به "بخلاف من روى الإفراد، فإنه محمول على أول الحال و" لا تعسف في ذلك، إذ "به

ص: 343

جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران؛ لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران.

وأيضًا: فإن رواية القرن جاءت عن بضعة عشر صحابيا. انتهى.

وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وجابر، وابن عمر، قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيا، منهم من فعله، ومنهم من

ينتفي التعارض ويؤيده" أي: حمله على ذلك "أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران.

"ومن روي عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين" الحج والعمرة "ويؤيده" أي: حمله على ذلك "أن من جاء عنه التمتع لما وصفه وصفه بصورة القران؛ لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم جميع عمل الحج، وهذه إحدى صور القران:" جمع صورة "وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيا. انتهى" كلام الحافظ.

وزاد بأسانيد جياد "وعدهم ابن القيم سبعة عشر" ففيه بيان البضع "عائشة أم المؤمنين" عند أبي داود "وعبد الله بن عباس" عند مسلم "وعمر بن الخطاب" عند البخاري: أتاني جبريل وقال: صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة "وعلي بن أبي طالب" عند النسائي "وعثمان بن عفان بإقرار لعلي" والقصة في الصحيحين "وعمران بن الحصين" في مسلم، وأنه أنكر على عمر كراهته "والبراء بن عازب" عند أبي داود والنسائي "وحفصة أم المؤمنين" عند الشيخين "وأبو قتادة" الأنصاري عند الدارقطني "وابن أبي أوفى" عند البزار، وهو بفتح الهمزة والفاء عبد الله "وأبو طلحة" عند أحمد "والهرماس" بكسر الهاء وإسكان الراء وآخره معملة "ابن زياد" الباهلي "وأم سلمة" هند أم المؤمنين "وأنس بن مالك" عند الشيخين "وسعد بن أبي وقاص" عند مالك وغيره "وجابر" عند البيهقي "وابن عمر" عند البخاري: أن بدا بالعمرة ثم أهل بالحج، "قال" الحافظ: هي رواية مرجوحة مخالفة لأكثر الأحاديث.

"فهؤلاء سبعة عشر صحابيًّا" وبقي عليه حديث سراقة أنه صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع، رواه أحمد ومثله عن أبي سعيد عند الدارقطني.

ص: 344

روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.

فإن قيل: كيف يجعلون منهم ابن عمر وجابر، أو عائشة، وابن عباس؟ وعائشة تقول: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وفي لفظ: أفرد الحج، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخاري، وهذا ابن عباس يقول: أهل بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه.

قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرت ثم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى.

"منهم من فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه" هذا ينابذه قول الحافظ السابق قريبا؛ أنه لم يرو عنه أنه قال: "أفردت ولا تمتعت"، وقوله:"لولا أني سقت الهدي لأحللت" لا صراحة فيه أنه قارن، لكن سيأتي رواية:"إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى"

إلخ، ويأتي الكلام عليها.

"ومنهم من روى أمره به، فإن قيل: كيف يجعلون منهم ابن عمر وجابر، أو عائشة وابن عباس وعائشة تقول: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وفي لفظ: أفرد الحج، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم، وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخاري" أي: رواه.

"وهذا ابن عباس يقول: أهل بالحج، رواه مسلم وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه، قيل" في الجواب: "إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت" لأجل تعارضها "فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب" أي: إفراض "أن أحاديث من ذكرت، ثم" أي: هناك يعني هؤلاء الأربعة "لا حجة فيها على القران، ولا على الإفراد" لتساقطها بالتعارض "فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا ولا تعارض بينها. انتهى" كلام ابن القيم وكل ذلك لا يدفع رجحانية الإفراد؛ لأن القاعدة أنه إذا تعارضت الأحاديث ينظر لما عمل به خلفاؤه الراشدون، فيترجح به كما قال الإمام مالك: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان، وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به وقال غيره نحوه، فهذا هو الموجب للعدول هذا على فرض تسليم أنه عليه السلام

ص: 345

وهذا يقتضي رفع الشك عنها والمصير إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، ومن المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي، وبحث مع النووي في اختياره بقوله أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه صلى الله عليه وسلم في عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة، وهي عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط -مع أن الأفضل خلافه- لاكتفي في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى.

قال: قرنت وإلا فقد أعلها البيهقي، وأما غيرها فمحمولة على أمره لغيره كما قاله الشافعي وغيره.

"وهذا" كما قال الحافظ عقب قوله: جاءت عن بضعة عشر صحابيا بأسانيد جياد، بخلاف روايتي الإفراد والتمتع "يقتضي رفع الشك عنها" لكثرتها "و" يقتضي "المصير إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني" إسماعيل تلميذ الإمام "وابن المنذر" بناء على أنه شافعي، وقد قيل: إنه مجتهد مطلق "وأبو إسحاق المروزي، ومن المتأخرين الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي، وبحث مع النووي في اختياره بقوله:" الصواب الذي نعتقده "أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل مستندًا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أولا" فأحرم به "ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، لكونهم" أي: العرب "كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور" أي: من أعظم الذنوب والفجور الانبعاث في المعاصي.

قال الحافظ: وهذا ما تحكماتهم الباطلة المأخوذة من غير أصل "وتعقب" لفظ الفتح، وملخص ما تعقب أي: السبكي به كلامه، أي: النووي؛ "بأن البيان قد سبق منه صلى الله عليه وسلم في عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة وهي عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها وعمرة القضية" وتسمى أيضا عمرة القضاء؛ لأنه تقاضى مع قريش عليها "وعمرة الجعرانة" سنة الفتح "ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط، مع أن الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى".

ص: 346

ومذهب الشافعي ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران.

فإن قلت: إذا كان الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووي في شرح المهذب: بأن ترجيح الإفراد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا، فأهل بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج،

وللنووي أن يرد هذا بأنه لم يكتف بالبيان في العمر الثلاث؛ لأنه حضر معه في حجة الوداع خلق كثير لم يحضروا في واحدة من الثلاثة، ولم يكتف بأمره أصحابه؛ لأن نفوسهم لا تطيب إلا بفعله، لا سيما وأكثرهم حديث عهد بجاهلية، ويؤيده حديث ابن عباس في الصحيحين أنه لما أمرهم أن يجعلوها، أي: الحجة عمرة كبر ذلك عندهم.

قال المصنف وغيره: لما كانوا يعتقدوه أولا أن العمرة فيها من أفجر الفجور. انتهى، فكأنه لما عظم عليه أردف العمرة على الحج تطييبا لخواطرهم بأنه اعتمر في أشهر الحج ولم يتحلل لسوقه الهدي.

"ومذهب الشافعي ومالك وكثيرين أن أفضلها" أي: أوجه الإحرام الثلاثة "الإفراد" وهو الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع، وفي غير أشهره أيضا عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء "ثم التمتع" المعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة، قال الله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضا.

قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالتمتع في الآية الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قا: ومن التمتع أيضا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة. انتهى "ثم القران" وهو الإهلال بالحج والعمرة معا، ولا خلاف في جوازه أو الإهلال بالعمرة، ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مختلف فيه، ثم المعتمد من مذهب مالك أن القران أفضل من التمتع وما ذكره المؤلف قول أشهب واختاره عبد الوهاب واللخمي.

"فإن قلت: إذا كان الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عند ذلك النووي في شرح المهذب: بأن ترجيح الإفراد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا، فأهل بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج" ولم يزد هذا على ما فوقه الذي تعقبه السبكي شيئا إلا

ص: 347

وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته.

وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه صلى الله عليه وسلم تمناه، فقال:"لولا أني سقت الهدي لأحللت" ولا يتمنى إلا الأفضل.

وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبًا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واستمر عليه صلى الله عليه وسلم.

وأما القائلون بأنه صلى الله عليه وسلم لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى.

نسبته لشرح المهذب، وإلا بيان المعتقدين بقوله:"وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور" من باب جد جده وشعر شاعر، أي: الانبعاث في المعاصي "كما ذكرته".

روى الشيخان عن ابن عباس، قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، قال الحافظ: بفتح أوله، أي: يعتقدون، والمراد أهل الجاهلية، ولابن حبان من طريق آخر عن ابن عباس، قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون، فذكر نحوه فعرف بهذا تعيين القائلين. انتهى.

"وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل" من الإفراد، ثم القران "وهو مذهب أحمد" في المشهور عنه "لكونه صلى الله عليه وسلم تمناه فقال:"لولا أني سقت الهدي لأحللت، ولا يتمنى إلا الأفضل، وأجيب بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه" الذين لم يكن معهم هدي حيث أمرهم بجعل الحج عمرة يحلون منها، ثم يحرمون بعد بالحج "لحزنهم على فوات موافقته" فتمنوا أن يكون معهم هدي ليوافقوه في البقاء على الإحرام "وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واتمر عليه صلى الله عليه وسلم" لأن التمتع دائما أفضل.

قال القاضي حسين: ولأن ظاهر هذا الحديث غير مراد بإجماع؛ لأن ظاهره أن سوق الهدي منع انعاقد العمرة، وقد انعقد الإجماع على خلافه في حجة الوداع.

"وأما القائلون بأنه صلى الله عليه وسلم لبى بالعمرة واستمر عليها فحجتهم حديث" الصحيحين وأبي داود والنسائي عن "ابن شهاب، عن سالم، عن" أبيه "ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى" وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ صلى الله عليه وسلم فأهل

ص: 348

وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر.

وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها.

وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه.

وأجيب: بأن التمتع عندهم يشمل القران، ويدل عليه ما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى علي ذلك أهل بها جميعا.

بالعمرة ثم أهل بالحج الحديث، ففيه أنه أراد التمتع اللغوي؛ لأن هذا قران لا تمتع نبه عليه عياض وغيره.

قال الحافظ: لكن جزمه بأنه بدأ بالعمرة مخالف لما عليه أكثر الأحاديث فهو مرجوح.

"وقال ابن شهاب عن عروة" بن الزبير "أن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر" المذكور قبله.

"وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها" فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، هذا بقية الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.

قال الأبي: لا يقال فيه أنه أحرم متمتعا؛ لأن الإشارة بهذه إلى عمرة الفسخ، ومعنى استمتعنا استمتعتم، أو يكون أدخل نفسه معهم، ولكن أقام لمانع وهو كون الهدي معه وهو قوي في تأييد جواز الفسخ. انتهى.

"وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه" أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه والنسائي، كلاهما م طريق مالك "وأجيب بأن التمتع عندهم يشمل القران، ويدل عليه ما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان "فكان عثمان ينهى عن المتعة" أي: القران لتمتعه بترك التعب بالسفر مرتين "فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه" لفظ مسلم.

أما البخاري فلفظه: ما تريد لي أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك" لئلا يظن الناس امتناعه "فلما رأى ذلك علي أهل بهما" أي: العمرة والحج "جميعا" وعند النسائي والإسماعيلي، فقال عثمان: تراني أنهى الناس

ص: 349

فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووافقه عثمان على أنه صلى الله عليه وسلم فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟

فقد اتفق علي وعثمان على أنه صلى الله عليه وسلم تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران.

وأيضًا: فإنه صلى الله عليه وسلم قد تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى.

وفي فتح الباري عن أحمد: أن من ساق الهدي فالقران له أفضل ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه.

وأنت تفعله، فقال: ما كنت أدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد "فهذا بين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم" تمتعا لغويا "وأن هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ووافقه عثمان على أنه فعله، لكن النزاع بينهما هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟ " وقد سبق أن فعل علي لبيان الجواز لا ينافي أن الإفراد أفضل.

"فقد اتفق علي وعثمان على أنه عليه الصلاة والسلام تمتع، وأن المراد بالتمتع عندهم القران" إذ الإحرام بهما جميعا قران "وأيضا؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه" أي: عدم تعبه "بترك أحد السفرين. انتهى".

لكن في رواية البخاري عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة.

قال الحافظ: قوله: وأن يجمع بينهما يحتمل أن الواو عاطفة فيكون قد نهى عن التمتع والقران معا، ويحتمل أنه عطف تفسير؛ لأنهم يطلقون على القران تمتعا، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانا أو إيقاعا لهما في سنة واحدة، بتقديم العمرة على الحج.

وقد رواه النسائي عن ابن المسيب: نهى عن التمتع فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان، فقال علي: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟، قال: بلى وفيه إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره ومناظرة ولاة الأمور في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد نصح المسلمين والبيان بالفعل مع القول، وجواز الاستنباط من النص؛ لأن عثمان لم يخف عليه جواز التمتع والقران، وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع ذلك، فكل منهما مجتهد مأجور.

"وفي فتح الباري عن أحمد أن من ساق الهدي فالقران له أفضل ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه" والمشهور عن أحمد: فضل التمتع مطلقا، إلى هنا ما نقله من الفتح.

ص: 350

وأما من قال: إنه صلى الله عليه وسلم حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة والأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قال ابن تيمية.

وأما من قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة، وحديثه في الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع؛ لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح محرمًا، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة لوجهين: أحدهما، أنه في بعض ألفاظ الصحيح "وذلك في حجته"، الثاني: أن في رواية النسائي بإسناد صحيح: "وذلك في أيام العشر" وهذا إنما كان في حجته، ولكن هذا مما أنكره الناس على معاوية

"وأما من قال: إنه صلى الله عليه وسلم حج مفردًا، ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره، فهو غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة ولا أحد من أهل الحديث، قاله ابن تيمية" الحافظ أحمد أبو العباس المشهور.

"وأما من قال: إنه حج متمتعًا حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية" ثامن الحجة "بالحج مع سوق الهدي، فحجته حديث معاوية" بن أبي سفيان "أنه" أي: معاوية "قصر عن رأس النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف فمهملة، قال الجوهري وابن دريد: نصل طويل عريض، وقال عياض: نصل السهم الطويل غير العريض، وكذا قال النووي وابن الأثير "على المروة" بمكة.

"وحديثه في الصحيحين" وأبي داود والنسائي عن ابن عباس أن معاوية بن أبي سفيان أخبره، قال: قصرت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة، أو رأيته يقصر عنه على المروة بمشقص، وفي رواية عن ابن عباس: أن معاوية قال له: أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أعرابي على المروة لحجته، أي: لعمرته، سميت حجا؛ لأن معناها القصد "ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع؛ لأن معاوية أسلم بعد الفتح" لمكة "والنبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح لم يكن محرما، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة" كما ادعاه النووي "لوجهين:"

"أحدهما: أنه في بعض ألفاظ الصحيح وذلك في حجته" وعمرة الجعرانة كانت سنة ثمان بعد انصرافه من قسم غنائم حنين.

"الثاني: أن في رواية النسائي بإسناد صحيح، وذلك في أيام العشر، وهذا إنما كان في

ص: 351

وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه اعتمر في رجب كما سيأتي، وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله:"لولا أن معي الهدي لأحللت" وقوله: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر"، وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله في زاد المعاد.

وأما اختلاف الروايات عنه صلى الله عليه وسلم في إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينهما، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذي قدمته.

قال البغوي: والذي ذكره الشافعي في كتاب "اختلاف الأحاديث" كلاما موجزة: "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، وكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز في لغة الغرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى

حجته" إذ المراد عشر ذي الحجة "ولكن هذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه" صلى الله عليه وسلم "اعتمر في رجب، كما سيأتي" أن عائشة غلطته "وسائر الأحاديث الصحيحة كلها" مبتدأ خبره "تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر" سواء قيل: إنه أفرد أو قرن أو تمتع "وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت"، وقوله: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر" كذا رواه أبو داود والنسائي من حديث البراء وأعله البيهقي بأنه ساقه في قصة علي، وقد رواها أنس في البخاري وجابر في مسلم وليس فيهما لفظ: وقرنت "وهذا خبر عن نفسه لا يدخله الوهم ولا الغلط بخلاف خبر غيره عنه، قاله في زاد المعاد" في هدى خير العباد لابن القيم، وأوله قوله: وأما من قال: إنه حج مفردا ثم اعتمر.

"وأما اختلاف الروايات عنه صلى الله عليه وسلم في إهلاله هل هو بالحج" وحده "أو بالعمرة أو القران والجمع بينهما" عطف على اختلاف "فكل تأول بما يناسب مذهبه الذي قدمته" من الخلاف في أي الأوجه الثلاثة أفضل من الإجماع على جواز كل كما قال غير واحد.

"قال البغوي: والذي ذكره الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاما موجزه" أي: ملخصه "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع" كما قالت عائشة وغيرها: "وكل كان يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها" أي: بالأوجه الثلاثة "وأذن فيها" ليدل على جواز جميعها، إذ لو أمر بواحد لظن أن

ص: 352

الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائه، وكما روي أنه عليه السلام رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه عليه السلام كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابي نحوه.

قال النووي: كان صلى الله عليه وسلم أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعني حمله على ما أهل به أول الحال، ومن روى القران أراد أن ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوي والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد.

غيره لا يجزى "ويجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به" اسم فاعل "كما يجوز إضافته" أي: نسبته "إلى الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد" القائل "أنه" أي: القائل "أمر ببنائه" وضرب الأمير فلانًا إذا أمر بضربه.

"وكما روي أنه عليه السلام رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه" وقطع سارق رداء صفوان، وإنما أمر بذلك ومثله كثير في الكلام كما في كلام الشافعي "ثم احتج" لترجيح الإفراد ولهذا الجمع الحسن "بأنه عليه السلام كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابي نحوه" نقلا عن ملخص الكتاب المذكور للشافعي، ورجح أنه أفرد الحج.

قال الحافظ: وهذا هو المشهور عند المالكية والشافعية، وقد بسط الشافعي القول فيه في اختلاف الحديث وغيره، ورجح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم إحراما مطلقا ينتظر ما يؤمر به، فنزل الحكم بذلك عليه وهو على الصفا. انتهى، وهذا خلاف ما نقله البغي والخطابي وعياض والنووي وغيرهم عن الشافعي؛ أنه رجح أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.

وقال عياض: به تظاهرت الروايات الصحيحة، ومن قال: أحرم إحراما مطلقا لا يصح قوله؛ لأن جابر وغيره من الصحابة مصرحة بخلافه. انتهى.

"وقال النووي" فيما نقله عن عياض: "كان صلى الله عليه وسلم أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج" وذلك خاص به وبأصحابه في تلك الحجة فقط عند الجمهور، وقال أحمد: بل عام لكل المسلمين في كل عام.

"فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعني حمله على ما أهل به أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوي والارتفاق" عطف تفسير "فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد" في الطواف والسعي.

ص: 353

وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره.

قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض.

وقالت طائفة: إنما أحرم صلى الله عليه وسلم قارنا ابتداء بالعمرة والحج، واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس في صحيح مسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما:"لبيك عمرة وحجا" ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلاله بحج وعمرة معا.

"وقال غيره" كعياض: "أراد بالتمتع ما أمر به غيره" لأنه صرح بقوله: "ولولا أن معي الهدي لأحللت"، فصح أنه لم يتحلل. انتهى كلام عياض.

"قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض" قال الحافظ: هو المعتمد، وقد سبق قديما ابن المنذر وبينه ابن حزم بيانا شافيا ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا. انتهى.

والأولى الجمع الأول الذي للشافعي، ومن وافقه من أن إضافة القران والتمتع اتساعا لكونه أمر بهما، وأن الراجح أنه كان مفردا، فإن ظاهر هذا ترجيح أنه بقي على إفراده.

"وقالت طائفة: إنما أحرم صلى الله عليه وسلم قارنا ابتداء بالعمرة والحج" معا "واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس في صحيح مسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما: "لبيك عمرة وحجا"، ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلاله بحج وعمرة معها" لكن في الصحيحين أن ابن عمر أنكر ذلك على أنس.

قال الحافظ: يمكن أن محل إنكاره كونه نقل أنه أهل بهما معا، والمعروف عنده أنه أدخل أحد النسكين على الآخر.

وقال البيهقي: إنه اختلف فيه على أنس، فروي عنه هكذا، وروي أنه سمعهم يصرخون بهما جميعا، قال: فلعله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يعلم غيره كيف يهل بالقران، فظن أنه عن نفسه، ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر مع موافقته على أنه كان قارنا، كالطحاوي وابن حبان وغيرهما، فقالوا: أهل أولا بعمرة، ثم لم يتحلل منها حتى أدخل عليها الحج يوم التروية، لكن الجزم بأنه بدأ بالعمرة مرجوح، ثم قال: والذي يظهر لي أن من أنكر القران من الصحابة نفى أن يكون أهل بهما جميعا أولا، ولا ينفي أنه أهل بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة، فيجتمع القولان كما تقدم. انتهى، وهو مبني على مختاره من ترجيح الجمع الثاني.

ص: 354

وأما من قال: إنه عليه الصلاة والسلام أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما في البخاري من حديث ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج.

وقد تقدم في الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه.

والمشكل في هذا الحديث قوله: بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج.

وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال:"لبيك بعمرة وحج معا".

ومذهب الشافعي: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة؛ لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمي. والضعيف لا يدخل على القوي. انتهى.

"وأما من قال: إنه عليه الصلاة والسلام أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما في البخاري" ومسلم وأبي داود والنسائي "من حديث ابن عمر، قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج" تمتعا لغويا وهو القران "وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة" والدليل على أن المراد اللغوي قوله: "وبدأ صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج" وتمتع الناس معه بالعمرة إلى الحج

الحديث.

"وقد تقدم في الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالإهلال بالحج، ثم أدخل عليه العمرة وهذا عكسه" قال الحافظ: فهو مرجوح "والمشكل في هذا الحديث قوله: فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي: لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما، فقال: "لبيك بعمرة وحج معا" لأن القارن إذا سمى قدم العمرة.

قال الشيخ ولي الدين: وهذا الجواب بعيد من لفظ الحديث.

"ومذهب الشافعي أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح وصار قارنا" زاد المالكية صحته: ولو أردفه بطوافها "ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة، ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة" وهو مذهب مالك "لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمي، والضعيف لا يدخل على القوي. انتهى".

ص: 355

وعن ابن عباس قال: صلى صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعى بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين. رواه مسلم وأبو داود.

وفي رواية الترمذي: قلد نعلين، وأشعر الهدي في الشق الأيمن، بذي الحليفة، وأماط عنه الدم.

وفي رواية لأبي داود بمعناه، وقال: ثم سلت الدم بيده، وفي أخرى بأصبعه.

وعند النسائي: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين.

وأجابوا عن أحاديث إدخالها عليه، وفسخ الحج إلى العمرة؛ بأنه كان خاصا بهم في تلك السنة لضرورة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، كما صح عن بعض الصحابة التصريح بالاختصاص خلافا لأحمد ومن وافقه وقد أجاب البيهقي عن جميع الأحاديث التي فيها أنه كان قارنا أو متمتعا واحدا واحدا، وادعى في الفتح أنه لا يخفى ما في أجوبته من التعسف.

"وعن ابن عباس قال: صلى" رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة:" ميقات المدينة "ثم دعى بناقته" أي: أمر بإحضارها، وفي رواية أبي داود: ببدنته، وفي نسخة منه: ببدنة بلا إضافة "فأشعرها" شق "في صفحة" أي: جانب "سنامها" شقا بالشفرة وهي السكين العريض "الأيمن" صفة صفحة، فذكره لمجاورته لسنام وهو مذكر أو على تأويل صفحة بجانب، وبه جزم النووي، فقال: وصف لمعنى صفحة لا للفظها "وسلت" ولأبي داود: ثم سلت "الدم عنها" أي: مسحه وأزاله، واصل السلت القطع "وقلدها نعلين" من النعال التي تلبس في الإحرام، أي: علقها في عنقهما، فجعلهما كالقلادة لها ليعلم أنها هدي، وفي رواية أبي داود: بنعلين وحده "رواه مسلم" واللفظ له "وأبو داود" بلفظ: بدنة وثم سلت وقال بنعلين كما علم.

"وفي رواية الترمذي" لحديث ابن عباس المذكور، وقال: حسن صحيح "قلد نعلين وأشعر الهدي" مفعول قلد وأشعر "في الشق الأيمن بذي الحليفة وأماط:" أزال "عنه الدم".

"وفي رواية لأبي داود بمعناه: وقال: ثم سلت الدم بيده" فزاد لفظ بيده "وفي أخرى" لأبي داود: "بأصبعه" يحتمل بحائل وبدونه، والنهي عن التضمخ بالنجاسة إذا كان عبثا وهذا لحاجة.

"وعند النسائي: أشعر بدنه" جمع بدنة فإفرادها في السابقة على إرادة الجنس "من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها" إكراما لها؛ لأن إذا لم يمسح بقي حرمه عليها فيكره منظره وقد يؤذيها "وقلدها نعلين" أي: قلد كلا منها نعلين.

ص: 356

وفي أخرى: أمر ببدنه فأشعر في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين.

وكان حجه صلى الله عليه وسلم على رحل رث يساوي أربعة دراهم. رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس.

"وفي أخرى: أمر ببدنة" أي: بإحضارها "فأشعر" صلى الله عليه وسلم "في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين" وفيه أن الإشعار سنة، وبه قال العلماء: إلا أبا حنيفة فقال مثله وخالفه صاحباه ووافقا الكافة.

وحكي عن إبراهيم النخعي مثل قول أبي حنيفة وقد بالغوا في الإنكار عليه وقالوا: كيف يقال مثلة في شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد نهيه عن المثلة بزمان، فإنما المثلة قطع عضو من البهيمة للتعذيب أو للأكل، كما كانوا يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم والبهيمة حية فتعذب بذلك، وإنما الإشعار كالكي والوشم، فكما جاز ذلك ليعلم أنه ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنها هدي، فتتميز عن غيرها وتصان فلان يتعرض لها حتى تبلغ المحل، وفيه أنه في الصفحة اليمنى، وبه قال الشافعي والجمهور.

وقال ابن عمر ومالك: تشعر في الأيسر وجاء عن أحمد كالمذهبين.

قال الأبي، قيل: كان الإشعار والتقليد من عادة الجاهلية ليعلم أنه هدي خارج عن ملك المهدي فلا يتعرض له السراق وأصحاب الغارات، فلما جاء الإسلام رأى في ذلك معنى صحيحا فأقره.

"وكان حجه صلى الله عليه وسلم" راكبا "على رحل" بفتح الراء وسكون المهملة للبعير، كالسرج للفرس "رث" بفتح الراء ومثلثة، أي: بال خلق "يساوي أربعة دراهم" فضة؛ لأنه في أعظم مواطن التواضع، إذ الحج حاله تجرد وإقلاع وخروج من المواطن سفرا إلى الله تعالى، ألا ترى إلى ما فيه من الإحرام، ومعناه إحرام النفس من الملابس تشبيها بالفارين إلى الله والتذكر بموقف القيامة، فكان التواضع في هذا المقام من أعظم المحاسن، هذا مع أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة.

"رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه من حديث أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل رث وقطيفة كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، فلما استوت به راحلته، قال:"لبيك بحجة لا سمعة فيها ولا رياء"، هذا لفظ الشمائل ورواه قبل ذلك عن أنس، حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال:"اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة".

ولفظ ابن ماجه عن أنس قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، وقال:"اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة"، فإنما الكلام في القطيفة التي على

ص: 357

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلست إلى جنب أبي بكر، وكانت زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبي بكر واحدة، مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: "انظروا إلى هذا المحرم ما

الرحل لا الرحل نفسه كما أوهمه المصنف، فهو من الاختصار المخل، والرواية الثانية في الشمائل لا تساوي بحرف النفي.

قال المصنف على الشمائل، فرواية: كنا نرى ثمنها أربعة دراهم تسامع والتحقيق ما سبق أنها لا تساويها، وزعم تعدد القصة ممنوع؛ لأنه لم يحج إلا مرة واحدة، ثم حديث أنس هذا في إسناده ضعف "و" لكن له شاهد رواه "الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس" بإسناد ضعيف أيضا، لكن باجتماعهما تحصل القوة.

"وعن أسماء بنت أبي بكر" الصديق "قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا" في حجة الوداع "حتى إذا كنا بالعرج" بفتح العين وإسكان الراء المهملتين وجيم قرية جامعة علي أيام من المدينة، قاله ابن الأثير وغيره:"نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست" أنا "إلى جنب أبي بكر" فيه أنه لا بأس بجلوس المرأة إلى جنب زوجها بحضور أبيها "وكانت زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبي بكر واحدة" بكسر الزاي، أي: مركوبهما وأداتهما وما كان معهما في السفر، قاله في النهاية.

قال الولي العراقي: وهو مضبوط في أصلنا من سنن أبي داود بضم الزاي، ولم يذكر الجوهري هذه اللفظة أصلا، بل ذكر هو وغيره أن الزاملة بعير يستظهر به الرجل يحمل متاعه وطعامه عليه "مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ " إضافة إليه؛ لأنه القائد له الموكل على حفظه "قال: أضللته" أي أضعته، يقال: ضلل الشيء إذا ضاع وأضله، أي: أضاعه "البارحة" أي: أقرب ليلة مضت من برح إذا زال.

"قال أبو بكر: بعير واحد تضله" تضيعه "فطفق" بكسر الفاء مضارعة بفتحها، أي: شرع "يضربه" تأديبا له، ففيه جواز ضرب السيد عبده للتأديب، والظاهر أن أبا بكر إنما ضربه لأجل تضييعه حوائج النبي صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك منتقما لغيره، قاله الولي "ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم" دون الضحك وهو أوله "ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع وما يزيد على ذلك ويبتسم"

ص: 358

يصنع"، وما يزيد على ذلك ويبتسم. رواه أبو داود.

وخرج معه صلى الله عليه وسلم أصحابه لا يعرفون إلا الحج -كما قالت عائشة- فبين لهم عليه السلام وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج فقال: "من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل". رواه البخاري.

ولأحمد: "من شاء فليهل بعمرة".

ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا

ليخفض أبا بكر ويذهب غيظه "رواه أبو داود" وابن ماجه وفيه ابن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وجاء أن آل فضالة الأسلمي لما بلغهم أن زاملته صلى الله عليه وسلم ضلت حملوا له حقة من حيس، فوضعوها بين يديه، فجعل يقول: هلم يا أبا بكر فقد جاء الله بغداء طيب، وجعل أبو بكر يغتاظ على الغلام، فقال عليه السلام:"هون عليك فإن الأمر ليس لك ولا إلينا معك".

وروي أن سعدا وأبا قيس جاءا ومعهما زاملة تحمل زادا، فقال سعد: يا رسول الله بلغنا أن زاملتك ضلت، فقال: قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله فيكما.

"وخرج معه صلى الله عليه وسلم أصحابه لا يعرفون إلا الحج" على ما عهدوه من ترك الاعتمار في أشهر الحج "كما قالت عائشة" في الصحيح، وعنها أيضًا: لا نرى إلا أنه الحج "فبين لهم عليه السلام وجوه الإحرام" الثلاثة "وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج، فقال: "من أحب" منكم "أن يهل بعمرة" وحدها "فليهل، ومن أحب أن يهل بحج" وحده "فليهل"، رواه البخاري" ولمسلم: ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل.

"ولأحمد: "من شاء فليهل بعمرة" ومن شاء فليهل بحج "ولما بلغ" أي: وصل "صلى الله عليه وسلم الأبواء:" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد جبل بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، سمي بذلك لتبوئ السيول فيه لا لما فيه من الوباء، إذ لو كان كذلك لقيل: الأوباء أو هو مقلوب منه "أو ودان:" بفتح الواو وشد المهملة فألف فنون موضع قرب الجحفة أو قرية جامعة أقرب إلى الجحفة من الأبواء بينهما ثمانية أميال والشك من الراوي، وجزم بعض الرواة بالأبواء وبعضهم بودان "أهدى له الصعب من جثامة" بفتح الجيم والمثلثة الثقيلة ابن قيس بن ربيعة الليثي حليف قريش، وله أحاديث وآخى صلى الله عليه وسلم بينه وبين عوف بن مالك، مات في خلافة عثمان على الأصح، وقيل: في آخر خلافة عمر، وقيل: الصديق، وغلط بأن الصعب شهد فتح إصطخر في خلافه عمر كما رواه ابن السكن وجاء في أربع من أهل العراق يشكون الوليد بن عقبة لعثمان في خلافته، كما رواه ابن إسحاق "حمارا وحشيا" باتفاق الرواة عن مالك وتابعه عليه

ص: 359

فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال:"إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم". رواه البخاري ومسلم. وله في رواية: حمار وحش، وفي أخرى: من لحم حمار وحش، وفي رواية: عجز حمار وحشي يقطر دما، وفي رواية: شق حمار وحش، وفي رواية: عضو من لحم صيد.

تسعة من حفاظ أصحاب ابن شهاب "فرده" أي: الحمار "عليه" أي: الصعب "فلما رأى ما في وجهه" من الكراهة والتغير من الكسر الحاصل له برد هديته.

"قال" صلى الله عليه وسلم تطييبا لقلبه: "إنا" بكسر الهمزة بوقوعها في الابتداء "لم نرده" بفتح الدال، رواه المحدثون وقال محققو النحاة: إنه غلط، والصواب ضم الدال كآخر المضاعف من كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء، فكأن ما قبلها ولي الواو ولا يكون ما قبل الواو إلا مضموما هذا في المذكر، أما في المؤنث مثل ردها فبفتح الدال مراعاة للألف، قاله عياض وغيره:"عليك" لعلة من العلل "إلا" لأجل "أنا" بالفتح "حرم" بضم الحاء والراء جمع حرام والحرام المحرم، أي: محرمون "رواه البخاري" عن عبد الله بن يوسف "ومسلم" عن يحيى النيسابوري، كلاهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب "وله" أي: مسلم من طريق الليث ومعمر وصالح عن الزهري: أهديت له "حمار وحش" كما قال مالك: غايته أنه بالإضافة.

"و" له "في أخرى" عن ابن عيينة عن الزهري: أهديت له "من لحم حمار وحش".

"وفي رواية" لمسلم أيضا عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم "عجز حمار وحشي يقطر دما" كأنه صيد في ذلك الوقت.

"وفي رواية" لمسلم عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، عن ابن عباس: أهدى "شق حمار وحش".

"وفي رواية" لمسلم أيضا عن طاوس، عن ابن عباس قال: قدم زيد بن أرقم، فقال له ابن عباس ليستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حرام، فقال: أهدي له صلى الله عليه وسلم "عضو من لحم الصيد" فرده فقال: "إنا لا نأكله، إنا حرم"، وله أيضا في رواية منصور عن الحكم: رجل حمار، فهذه الروايات صريحة في أنه عقير وأنه إنما أهدي بعضه لا كله، ولا معارضة بين رجل وعجز، وشق لحمله على أنه أهدي رجلا معها الفخذ وبعض جانب الذبيحة وعضو مبهم يرد لما بين، فمنهم من رجح رواية مالك وموافقيه.

قال الشافعي في الأم حديث مالك: إن الصعب أهدى حمارا أثبت من حديث من روى أنه

ص: 360

ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش، وهو بالحجفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقي: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحي وقبل اللحم.

قال في فتح الباري: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رد حيا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعي في "الأم": إن كان الصعب أهدى حمارا حيا

لحم حمار.

وقال الترمذي: روى بعض أصحاب الزهري لحم حمار وحش وهو غير محفوظ ونحوه للبيهقي وزاد، وقد قال ابن جريج: قلت لابن شهاب الحمار عقير، قال: لا أدري، ومنهم من جمع بحمل أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع عكسه؛ لأن إطلاق الرجل على الحيوان له لا يعهد، إذ لا يطلق على زيد أصبع ونحوه، إذ شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم، كالرقبة على الإنسان والرأس، فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وبغير ذلك كما يأتي للمصنف "ورواه أبو داود" والنسائي "وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أهدي إليه عضو صيد فلم يقبله، وقال: "أنا حرم"، قال: نعم، فقوله: "فذكره" أي: بنحو رواية مسلم.

"واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه إلا ما رواه ابن وهب" عبد الله في جامعه "والبيهقي من طريقه" أي: ابن وهب "بإسناد حسن من طريق" أي: حديث "عمرو" بفتح العين "ابن أمية" الضمري الصحيح "أن الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم" منه.

"قال البيهقي: إن كان هذا" الحديث "محفوظا، فلعله رد الحي وقبل اللحم قال في فتح الباري: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رد حيا لكونه صيد لأجله ورد اللحم تارة لذلك" وهو ما في الطرق المتقدمة.

"وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله" وهو ما في حديث عمرو بن أمية.

"وقد قال الشافعي في الأم: إن كان الصعب أهدى حمارا حيا فليس للمحرم أن

ص: 361

فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، ويؤيده: أنه جزم بوقوع ذلك في الجحفة، وهو في غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا لا حيا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكون من أراد حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا، قال: ويحتمل أنه أحفره له حيا فلما رده عليه ذكاه، وأتاه بعضو منه ظنا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل. قال: والجمع مهما

يذبح حمار وحش، وإن كان أهدى له لحما، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه" لأنه لا يجوز للمحرم لحم ما صيد له.

"ونقل الترمذي عن الشافعي أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول" بموحدة بعد القاف "المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، ويؤيده أنه جزم بوقوع ذلك في الجحفة وهو في غيرها من الروايات، قال: بالأبواء أو بودان" فكأنه لما رده؛ لأنه محرم أهدي له بعدما حل فقبله وهذا جمع حسن.

"وقال القرطبي: يحتمل" في طريق الجمع بين الروايات السابقة "أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا" بتمامه "لا حيا، ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقدمه له، فمن قال: أهدي حمارا، أراد بتمامه مذبوحا لا حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي صلى الله عليه وسلم" وهذا جمع متجه، إذ ليس في رواية حمار تصريح بأنه حي إنما هو ظاهر فقط.

"قال: ويحتمل أن يكون من أراد حمارًا أطلق" اسم الكل "وأراد بعضه مجازًا" من إطلاق الكل على البعض وهو سائغ ويمتنع عكسه كما مر "قال: ويحتمل أنه أحضره له حيا، فلما رد عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظنا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه" من قبوله "أن حكم الجزء حكم الكل" في أنه لا يحل للمحرم، وهذا الجمع قريب وفيه إبقاء اللفظ على المتبادر منه الذي ترجم عليه البخاري إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا حيا

ص: 362

أمكن أولى من توهيم بعض الرواة.

وقال النووي: قال الشافعي وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوهما، وفي ملكه إياه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بأذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد به المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه صلى الله عليه وسلم رده وعلل رده عليه بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا.

لم يقبل مع أنه لم يقل في الحديث حيا، فكأنه فهمه من قوله: حمارًا "قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة" كما هو القاعدة عند المحدثين.

"وقال النووي: قال الشافعي وآخرون: ويحرم تملك الصيد" سواء كان ملكا لغير المحرم وأخذه منه "بالبيع" أي: الشراء "والهدية ونحوهما" كالعارية والصدقة، أو كان مباحا أخذه من البادية "وفي ملكه إياه بالإرث خلاف" أرجحه عندهم أنه يملكه ولا يمؤمر بإزالة ملكه عنه؛ لأنه لم يملكه اختيارا ولا قصر بعدم إرساله قبل الإحرام.

"وأما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد به المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه" أو تصدق به عليه "لم يحرم" أكله على المحرم "هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه" لظاهر حديث أبي قتادة: أنه صاده لأجلهم، ورد بأنه يحاج إلى تصريح بذلك.

"وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا سواء صاده أو صاده غيره له قصده أو لم يقصده فيحرم مطلقا، حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] "قالوا: والمراد بالصيد المصيد فلا فرق بين أن يصيده محرم أو حلال.

"ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه صلى الله عليه وسلم رده، وعلل رده عليه بأنه محرم ولم يقل

ص: 363

واحتج الشافعي وموافقوه: بحديث أبي قتادة المذكور في صحيح مسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين:"هو حلال فكلوه". وفي الرواية الأخرى قال: "فهل معكم منه شيء"؟ قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها.

ولما مر صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان قال: "يا أبا بكر، أي وادي هذا"؟ قال: وادي عسفان قال: "لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف،

بأنك صدته لنا" وأجيب بأن تعليله بذلك لا يمنع كونه صيد له؛ لأن الصعب كان عالما بأنه صلى الله عليه وسلم يمر به فحمله على أنه صاده لأجله؛ ولأنه بين الشرط المحرم للصيد على الإنسان إذا صيد له وهو الإحرام، وقبل صلى الله عليه وسلم حمار البهري وفرقه على الرفاق كما في الموطأ؛ لأنه كان يتكسب بالصيد فحمله على عادته في أنه لم يصد لأجله، وعن الآية الكريمة بحملها على الاصطياد وعلى لحم ما صيد لمحرم للأحاديث المبينة للمراد بها كحديث أبي قتادة، وحديث جابر. رفعه: صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم، رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وسكت عليه أبو داود وصححه الحاكم والرواية يصاد بالألف على لغة: ألم يأتيك والأنباء تنمي.

"واحتج الشافعي وموافقوه بحديث أبي قتادة" الحارث بن ربعي "المذكور في صحيح مسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة" وهو حمار وحش "وهو حلال قال:" أعادها الطول الفصل "للمحرمين هو حلال فكلوه" لأنه لم يصده لكم بل لنفسه، ولأحمد الطيالسي وأبي عوانة، فقال:"كلوا وأطعموني".

"وفي الرواية الأخرى" في الصحيحين وغيرهما "قال" صلى الله عليه وسلم: "فهل معكم منه شيء" من لحمه "قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها".

وللبخاري: فناولته العضد فأكلها حتى تعرفها.

وفي رواية: فدفعنا له الذراع فأكل منها، وجمع بأنه أكل من الأمرين.

"ولما مر صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان" بضم العين وإسكان السين المهملتين قرية جامعة قرب مكة "قال: "يا أبا بكر أي واد هذا"؟، قال: وادي عسفان" ظاهر الاستفهام أنه لا يعلم أنه وادي عسفان، ويحتمل أنه استنطاق، ولا يرد أن عادتهم أن يقولون في الاستنطاق: الله ورسوله أعلم؛ لأن ذلك في الأمور العلمية وهذا خبر عن محسوس، ولا يرد أنهم قالوا ذلك حين قال:"أي بلد هذا؟ أي شهر هذا"؟ وهما محسوسان؛ لأن ذلك استجلاب لما عسى أن يخبرهم بما لا يعلمون، أشار إليه الأبي وغيره.

"قال: "لقد مر به هود وصالح" عليهما الصلاة والسلام "على بكرين أحمرين" أي: أن

ص: 364

"وأزرهما العباء وأرديتهما النمار يلبون يحجون البيت العتيق". رواه أحمد.

وفي رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادي الأزرق قال:"كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي، وله جؤار إلى الله بالتلبية".

ووادي الأزرق خلف أمج -بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد.

ولم يعين في رواية البخاري الوادي، ولفظه:"أما موسى كأني انظر إليه إذ انحدر من الوادي يلبي".

كل واحد منهما مر في زمن مروره على بكر أحمر، إذ هو متقدم على صالح بزمان "خطامهما" بكسر المعجمة وفتح المهملة حبلهما المشدود على خطمهما، وهو مقادم أنفهما وفمهما "الليف" تواضعا لله تعالى جبلة جبل عليها الأنبياء، ونسخة خطمهما تحريف "وأزرهما العباء" بمهملة "وأرديتهما النمار": جمع نمرة بردة من صوف تلبسهما الأعراب "يلبون يحجون البيت العتيق" الكعبة "رواه أحمد" في مسنده.

"وفي رواية مسلم" في أواخر كتاب الإيمان "من حديث ابن عباس: لما مر" صلى الله عليه وسلم "بوادي الأزرق" في حجة الوداع، ففي رواية لمسلم أيضا عن ابن عباس قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بواد فقال: أي واد هذا؟، قالوا: وادي الأزرق الحديث، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يسر لمكة بعد فتحها إلا لحجة الوداع، وابن عباس قبل فتحها كان مع أبويه بمكة "قال:"كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية" الطريق في الجبل "واضعا أصبعيه في أذنيه" بالتثنية فيهما "مارا هذا الوادي وله جؤار" بضم الجيم وهمزة مفتوحة ممدودة فراء، أي: صوت مرتفع، قال تعالى:{فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} ، أي: ترفعون أصواتكم، قال أبو نعيم: الجؤار صوت فيه استغاثة "إلى الله بالتلبية" ووادي الأزرق خلف أمج -بفتح الهمزة والميم وبالجيم- قرية ذات مزارع بينه" أي: أمج "وبين مكة ميل واحد ولم يعين في رواية البخاري الوادي، ولفظه:" أما موسى كأني أنظر إليه" جواب أما، والأصل: فكأني، فحذف الفاء وهو حجة على من قال من النحاة: لا يجوز حذفها لا أن يقال: حذفها من الراوي، وقد جوز ابن مالك حذفها في السعة وخصه بعضهم بالضرورة "إذ انحدر" بدون ألف، ولبعض الرواة بإثباتها وأنكرها بعضهم وغلط راويها.

قال عياض: وهو غلط منه، إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا؛ لأنه وصفه حالة انحداره فيما

ص: 365

قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته؛ لأنه لم يأت في أثر ولا خبر أن موسى حي، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:"ليهلن ابن مريم بفج الروحاء". انتهى.

وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخاري الحديث في اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط فزاده؟ وفي رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط فزاد يونس؟

وتعقب أيضًا: بأن توهيم المهلب للراوي وهم منه وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع إلى السماء نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل.

مضى "من الوادي" وادي الأزرق كما علم من رواية مسلم "يلبي" بصوت عال.

"قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته؛ لأنه لم يأت في أثر ولا خبر أن موسى حي وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: "ليهلن ابن مريم بفج" بفاء وجيم، أي: طريق "الروحاء" بالمد. "انتهى، وهو" كما قال الحافظ "تغليط للثقات بمجرد التوهم.

"وقد ذكر البخاري الحديث في" كتاب "اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه" ولفظه عن مجاهد، قال: كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال أنه قال: مكتوب بين عينيه كافر، فقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذلك، ولكنه قال: أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل مخطوط بخلبة بضم الخاء المعجمة ولام ساكنة وموحدة، أي: ليف كأني أنظر

إلخ، وكذا رواه مسلم من هذا الوجه بلفظه "أفيقال: إن الراوي قد غلط فزاده" بهمزة الاستفهام الإنكار.

"وفي رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس" ولفظه: ثم أتى على ثنية هرشاء، فقال: أي ثنية هذه؟، قالوا: ثنية هرشاء، قال: كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعداء عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة وهو يلبي "أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط، فزاد يونس" لأنه إذا قيل ذلك ارتفع الوثوق بالروايات الصحيحة بلا مستند بل مجرد التوهم.

"وتعقب أيضا" والمتعقب الزين بن المنير في الحاشية كما في الفتح "بأن توهيم المهلب للراوي وهم منه وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؛ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع إلى السماء نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل، وأجيب:" والمجيب الحافظ "بأن

ص: 366

وأجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال:"كأني أنظر إليه" ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلن ابن مريم بالحج".

وقد اختلف في معنى قوله: "كأني أنظر إليه".

فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي.

وقيل: هو على الحقيقة؛ لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون. فلا مانع أن يحجوا في هذه الحالة، كما في صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى قائما في قبره يصلي.

قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دوعي أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الآية.

المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: كأني أنظر إليه، ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه:"ليهلن ابن مريم بالحج" يعني: وإن كان هذا الذي أراده ليس بشيء؛ لأنه مجرد توهم.

"وقد اختلف في معنى قوله: كأني أنظر إليه، فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له، فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك ورؤيا الأنبياء وحي" قال الحافظ: وهذا هو المعتمد عندي لما سيأتي في أحاديث الأنبياء من التصريح بنحو ذلك في أحاديث أخر، وكون ذلك كان في المنام والذي قبله ليس ببعيد.

"وقيل: هو على الحقيقة؛ لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون" بالأولى من الشهداء "فلا مانع أن يحجوا في هذه الحالة كما في صحيح مسلم" في المناقب "عن أنس أنه" صلى الله عليه وسلم "رأى موسى قائما في قبره يصلي".

"قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون به" بلام وزاي، فالموت إنما يرفع التكليف لا العمل "كما يلهم أهل الجنة الذكر، ويؤيده؛ أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: طلبهم لما يشتهونه في الجنة أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوه بين أيديهم "الآية، لكن تمام

ص: 367

لكن تمام هذا التوجيه أن يقول: المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له في الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهي في القبور.

قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا، ويرى في اليقظة كما يرى في النوم.

وقيل: كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا، كيف تعبدوا؟، وكيف حجوا؟، وكيف لبوا؟، ولهذا قال:"كأني"..

وقيل: كأنه أخبر بالوحي عن ذلك، فلشدة قطعه به قال:"كأني أنظر إليه". انتهى.

وقد ذكرت في مقصد الإسراء من ذلك ما يكفي والله الموفق.

ولما نزل صلى الله عليه وسلم بسرف خرج إلى أصحابه فقال: "من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا".

هذا التوجيه أن يقول المنظور إليه: هي أرواحهم، فلعلها مثلت له في الدنيا كما مثلت:" صورت بصورة أجسادهم "له ليلة الإسراء" في أحد الوجوه "وأما أجسادهم فهي في القبور".

"قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا ويرى في اليقظة كما يرى في النوم، وقيل: كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا كيف تعبدوا؟ وكيف حجوا؟ وكيف لبوا؟، ولهذا قال: "كأني" والإتيان بالتشبيه يفيد ذلك "وقيل: كأنه أخبر بالوحي عن ذلك فلشدة قطعه به قال: "كأني أنظر إليه" فأخبر عنهم كالمشاهد، قال الأبي: ويؤيد هذا وما قبله قوله: "وعليه جبة صوف"، إذ لا يلبس الصوف في الآخرة. "انتهى".

"وقد ذكرت في مقصد الإسراء من ذلك ما يكفي، والله الموفق" لا غيره "ولما نزل صلى الله عليه وسلم بسرف" بفتح المهملة وكسر الراء وفاء لا ينصرف للعلمية والتأنيث موضع على عشرة أميال، وقيل: أكثر، وقيل: أقل من مكة "خرج إلى أصحابه، فقال: "من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها" أي: حجته "عمرة فليفعل" العمرة "ومن كان معه الهدي فلا" يفعل، أي: لا يجعلها عمرة، فحذف الفعل المجزوم بلا الناهية خيرهم أولا بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناسا بالعمرة في أشهر الحج، ثم حتم عليهم الفسخ بعد ذلك وأمرهم به أمر عزيمة وكره ترددهم في قبوله ثم قبلوه.

ففي مسلم عن عائشة: فدخل علي وهو غضبان، فقلت: من أغضبك أدخله الله النار؟، قال:"أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون"؟.

ص: 368

وحاضت عائشة بسرف فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال:"ما يبكيك يا هنتاه"؟ قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال:"وما شأنك"؟ قالت: لا أصلي، قال:"فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك، فعسى الله أن يرزقكيها". رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.

وفي رواية قالت عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:"ما يبكيك"؟ فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: "ما لك، لعلك

وفي البخاري عن جابر، فقال لهم:"أحلوا من إحرامكم واجعلوا التي قدمتم بها متعة"، قالوا: وقد سمينا الحج، فقال:"افعلوا ما أقول لكم".

"وحاضت عائشة بسرف فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: "ما يبكيك يا هنتاه"؟ بفتح الهاء وقد تسكن ففوقية فألف فهاء ساكنة كناية عن شيء لا يذكر باسمه "قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة" أي: إعمالها من طواف وسعي "قال: "وما شأنك"؟، قالت: لا أصلي" كنت عن الحيض بالحكم الخاص به، وهو امتناع الصلاة أدبا منها لما في التصريح به من الإخلال بالأدب، وقد ظهر أثر ذلك في بناتها المؤمنات، فكلهن يكنين عن الحيض بحرمان الصلاة، أي تحريمها أو غير ذلك "قال: "لا يضرك" بكسر الضاد وخفة التحتية من الضير، وفي رواية: يضرك بضم الضاد وشد الراء من الضرر "إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن" سلاها بهذا وخفف همها، أي: أنك لست مختصة بذلك بل كل بنات آدم يكون ذلك منهن "فكوني في حجتك" أي: اثبتي وداومي عليها "فعسى الله أن يرزقكيها" مفردة بياء متولدة من إشباع كسرة الكاف وهي في لسان المصريين شائعة، قاله في المصابيح، وفي الكرماني: يرزقكها بغير ياء، وفي بعضها: بإشباع كسرة الكاف ياء والضمير للعمرة، قاله المصنف "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي".

"وفي رواية" لهؤلاء الأربعة أيضا "قالت عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج" لفظ مسلم، ولهما: لا نرى إلا أنه الحج، وفي رواية: مهلين بالحج، ولمسلم أيضا: لبينا بالحج "حتى جئنا سرف فطمثت" بمثلثة، أي: حضت "فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: "ما يبكيك"؟، فقلت: والله لوددت" تمنيت "أني لم أكن خرجت" وفي رواية: حججت "العام، فقال: "ما لك لعلك نفست" بفتح النون وقد تضم وكسر الفاء، أي: حضت

ص: 369

"نفست"؟ قلت: نعم، قال:"هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج، غير أن تطوفي بالبيت حتى تطهري". الحديث.

وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، أولا كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل: إنها كانت أحرمت أولًا بالحج، وهو ظاهر هذا الحديث.

وفي حجة الوداع من المغازي عند البخاري، من طريق هشام ابن عروة عن أبيه قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهري: ولم أسق هديا، وفي رواية الأسود عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة.

"قلت: نعم" نفست، وأفادت الروايتان أنها قالت: نعم لا أصلي "قال: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" وأنت واحد منهن، أي: امتحنهن وتعبدهن بالصبر عليه "افعلي ما يفعل الحاج" من المناسك "غير أن لا تطوفي بالبيت" لا زائدة، إذ غير عدم الطواف هو نفس الطواف أو تطوفي مجزوم بلا: لا تطوفي ما دمت حائضا بدليل قوله: "حتى تطهري"، وأن على هذا الوجه الثاني مخففة من الثقيلة وفيها ضمير الشأن

"الحديث".

"وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة أولا كما اختلف هل كانت" أي: صارت "متمتعة أو مفردة؟ وإذا كانت متمتعة، فقيل: إنها كانت أحرمت أولا" بالحج "وهو ظاهر هذا الحديث".

"وفي حجة الوداع من" كتاب "المغازي عند البخاري" وفي أبواب العمرة أيضا "من طريق هشام بن عروة عن أبيه" عنها "قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة، وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهري" عن عروة عنها "ولم أسق هديا، وفي رواية الأسود" بن يزيد النخعي "عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة" أي: بالنطق، بل بالنية فقط أو إحراما مبهما لما روي أنه صلى الله عليه وسلم أحرم مبهما حتى أوحى إليه بالتعيين، والأول أظه لتصريحها أنها أهلت بعمرة، فيبعد فيبعد احتمال الإبهام، قاله المازري.

وقال عياض: هو الذي لا يتأول غيره؛ لأنها صرحت في غير حديث أنهم أهلوا بالحج، ولا يصح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم مبهما؛ لأن رواية جابر وغيره تخالفه. انتهى.

زاد الحافظ: فادعى إسماعيل القاضي وغيره: أن هذا، يعني المروي، أنها أحرمت بعمرة غلط من عروة والصواب رواية القاسم والأسود وعروة، عنها: أنها أهلت بالحج مفردا، وتعقب بأن قول عروة عنها: أهلت بعمرة صريح، وقول الأسود وغيره عنها: لا نرى إلا الحج ليس صريحا

ص: 370

ويحتمل في الجمع أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردة، كما صنع غيرها من الصحابة، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتعة، ثم لما دخلت مكة وهي حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج.

وقال القاضي عياض: واختلف في الكلام على حديث عائشة، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا.

قال ابن عبد البر: يريد ليس العمل به في رفض العمرة وجعلها حجا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة. واختلف في جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك احتمال أن يكون معنى قوله:"ارفضي عمرتك" أي اتركي التحلل منها وأدخلي عليها بالحج، فتصير قارنة، ويؤيده قوله في رواية لمسلم:"وأمسكي عن العمرة" أي عن أعمالها.

في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما أنها ذكرت ما عهدوه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فبين لهم وجوه الإحرام فأحرمت بعمرة كما رواه عروة، وهو أعلم الناس بحديثها، ووافقه جابر عند مسلم، وكذا رواه طاوس ومجاهد عنها، قال:"ويحتمل في الجمع" أيضا "أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردا كما صنع غيرها من الصحابة" وعلى هذا ينزل حديث الأسود ومن وافقه "ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم" أصحابه "أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة" وعلى هذا ينزل حديث عروة: "ثم لما دخلت مكة وهي حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج" فصارت قارنة.

"وقال القاضي عياض" في شرح قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة"، وفي رواية:"ارفضي عمرتك" كما في الصحيحين وغيرهما.

"واختلف في الكلام على حديث عائشة، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا".

"قال ابن عبد البر: يريد" مالك: "ليس العمل به في رفض العمرة وجعلها حجا بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة" بأمره صلى الله عليه وسلم "واختلف في جوازه من بعدهم" ويأتي للمصنف بسطه "لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله: "ارفضي عمرتك"، أي: اتركي التحلل منها وادخلي عليها الحج فتصير قارنة".

"ويؤيده قوله في رواية لمسلم: "وأمسكي عن العمرة"، أي: عن أعمالها" والإمساك

ص: 371

وإنما قالت عائشة: "وأرجع بحج" لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين.

واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها: "وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة" أخرجه أحمد.

وهذا يقوي قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك قوله لها:"دعي عمرتك"، وفي رواية:"اقضي عمرتك" ونحو ذلك.

واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة.

لكن في رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كان بسرف حاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أهلي بالحج" حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال:"قد حللت من حجتك وعمرتك"، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: فأعمرها من التنعيم.

ليس برفض "وإنما قالت عائشة:" يرجع الناس بحج وعمرة "وأرجع بحج لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين".

"واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء" بن أبي رباح "عنها: وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة، أخرجه أحمد؛" فإنه ظاهر في أنها حجة مفردة "وهذا يقوي قول الكوفيين" الحنفية ومن وافقهم؛ "أن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك بقوله" صلى الله عليه وسلم "لها: "دعي عمرتك"، وفي رواية: "ارفضي عمرتك"، ونحو ذلك" كقوله: "انقضي رأسك وامتشطي".

"واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة" أي: وحدها "فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة، لكن في رواية عطاء عنها ضعف" فلا ينهض الاستدلال "والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث ابر: أن عائشة أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم" يوم التروية حين دخل وهي تبكي: "أهلي بالحج حتى إذا طهرت" بفتح الهاء وضمها والتاء ساكنة، فلفظ جابر: ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت "طافت بالكعبة وسعت، فقال" صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجتك وعمرتك" جميعا كما في الرواية، فهذا صريح في أن عمرتها لم تبطل ولم تخرج منها "فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت"

ص: 372

ولمسلم من طريق طاوس عنها: فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "طوفك يسعك لحجك وعمرتك" فهذا صريح في أنها كانت قارنة لقوله: "قد حللت من حجك وعمرتك"، وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع في رواية لمسلم: وكان صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه.

ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا".

وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج، وفي منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف، كما جاء في رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت كما جاء في

فأتيت بطواف واحد، قال:"فاذهب بها يا عبد الرحمن" كما في مسلم "فأعمرها" بهمزة قطع والجزم أمرا "من التنعيم، ولمسلم من طريق طاوس، عنها: فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "طوافك يسعك لحجك وعمرتك" أي يكفيك بمعنى يجزئك لهما.

وفي رواية مجاهد عنها عند مسلم: فقال لها صلى الله عليه وسلم: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك".

"فهذا صريح في أنها كانت قارنة" ولم ترفض العمرة، وإنما تركت إتمام عملها "لقوله: قد حللت من حجك وعمرتك" ولقوله: "طوافك يسعك" إلى آخره "وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة" كما قالت: إني أجد في نفسي

إلخ.

"وقد وقع في رواية لمسلم" في حديث جابر الإشارة إلى ذلك، حيث قال:"وكان صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا" خلقه كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى ُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، "إذا هويت" بفتح الهاء وكسر الواو وفتح التحتية أحبت "الشيء" ولا نقص فيه من جهة الدين كطلبها الاعتمار "تابعها" أي: وافقها "عليه" حسن عشرة، إذ هو أولى من امتثل وعاشروهن بالمعروف "ثم قال" كما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأهللنا بعمرة، ثم قال "صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"من كان معه هدي" بإسكان الدال على الأفصح اسم لما يهدى إلى الحرم من النعم "فليهل بالحج مع العمرة" أي: يضيفه إليها فيصير قارنا "ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" بضم التحتية وفتحها وكسر الحاء؛ لأن القارن يعمل عملا واحدا "وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج في منتهى سفرهم ودنوهم" أي: قربهم "من مكة بسرف كما جاء في رواية عائشة أو بعد طوافه بالبيت كما جاء في رواية جابر" عند

ص: 373

رواية جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك في الموضعين. وإن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.

وفي رواية قالت عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة فقال صلى الله عليه وسلم:"من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أحرم بحج فليتم حجه".

وهذا الحديث ظاهر في الدلالة لأبي حنيفة وأحمد وموافقيهما، في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر.

ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال، سواء أكان ساق هديا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء، كما لو تحلل المحرم بالحج.

مسلم "ويحتمل" كما قال عياض في الجمع بينهما "تكرار الأمر بذلك في الموضوعين، وأن العزيمة" التصميم عليهم بذلك "كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة" ففعلوا.

"وفي رواية" لمسلم وغيره "قالت عائشة:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع "فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج" فقولها في الرواية السابقة: فأهللنا بعمرة ليس إخبارا عن فعل جميع الناس، بل عن حالها وحال من كان مثلها في الإحرام بعمرة "حتى قدمنا مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بعمرة ولم يهد" بضم الياء، أي: لم يسق هديا إلى الحرم من الأنعام "فليحلل" بسكون اللام الأولى وكسر الثانية وفتح التحتية وضمها "ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أحرم بحج" وحده "فليتم حجه، وهذا الحديث ظاهر في الدلالة لأبي حنيفة وأحمد وموافقيهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر".

"ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما؛ أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال، سواء كان ساق هديا أم لا؟، واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي" فإنه يحل باتفاق، والجامع بينهما أن كلا منهما صار حلال بالفراغ من أعمالها؛ "وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء كما لو تحلل المحرم بالحج" وحده، فإنه يحل له كل شيء وهي احتجاجات قوية.

ص: 374

وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التي ذكرها مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا" فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن القصة واحدة، والراوي واحد فتعين الجمع بين الروايتين بما ذكر. والله أعلم.

ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ذا طوى -بضم الطاء وفتحها، وقيدها الأصيلي بالكسر- عند آبار الزاهر، بات بها بي الثنيتين، فلما أصبح صلى الغداة ثم اغتسل. رواه البخاري.

وللنسائي كان صلى الله عليه وسلم ينزل بذي طوى، يبيت به حتى يصلي صلاة الصبح

"وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التي ذكرها" أي: رواها "مسلم" والبخاري وأبو داود والنسائي، كلهم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة "عن عائشة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة" إخبار عن حالها ومن شابهها لا عن جميع الناس، فلا ينافي حديثها الآخر أنهم تنوعوا إلى الأوجه الثلاثة.

"ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل" بلام واحدة في الصحيحين وغيرهما "بالحج مع العمرة، ثم لا يحل" بفتح الياء وضمها وكسر الحاء "حتى يحل منهما جميعا، فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة" ومن وافقه "وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج" يدخله عيها "ولا يحل حتى ينحر هديه" لأنه صار قارنًا "ولا بد من هذا التأويل؛ لأن القصة واحدة، والراوي واحد" وهو عائشة "فتعين الجمع بين الروايتين بما ذكر، والله أعلم" بالحق في ذلك "ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ذا طوى بضم الطاء وفتحها وقيدها الأصيلي بالكسر" فهي مثلة وبه صرح المجد.

وقال الكرماني: الفتح أفصح واد معروف "عند آبار الزاهر" الذي في الفتح يعرف اليوم ببئر الزاهر وهو مقصور منون وقد لا ينون، ونقل الكرماني؛ أن في بعض الروايات حتى إذا حاذى طوى بحاء مهملة بغير همز وفتح الذال، قال: والأول هو الصحيح؛ لأن اسم الموضع ذو طوى لا طوى فقط "بات بها بين الثنيتين" ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة "فلما أصبح صلى الغداة" أي: الصبح "ثم اغتسل" لدخول مكة ثم دخل مكة "رواه البخاري" وكذا مسلم من حديث ابن عمر.

"وللنسائي" عنه: "كان صلى الله عليه وسلم ينزل بذي طوى يبيت به حتى يصلي صلاة الصبح حين

ص: 375

حين يقدم إلى مكة.

ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، على أكمة خشنة غليظة، ليس في المسجد الذي بنى ثم، ولكن من أسفل ذلك على أكمة خشنة غليظة.

وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم دخلها من أعلاها. وفي حديث ابن عمر في الصحيح: كان صلى الله عليه وسلم يدخل مكة من الثنية العليا، يعني أعلى مكة من كداء -بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف- وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة -مقبرة أهل مكة- وهي التي يقال لها: الحجون -بفتح الحاء المهملة وضم الجيم

ولم يقع أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة ليلا إلا في عمرة الجعرانة، فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من

يقدم إلى مكة" ظرف لقوله: ينزل "ومصلى" بضم الميم، أي: مكان صلاة كما في مسلم والنسائي، فحرف من جعلها: فصلى "رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة" بفتحات تل أو ما دون الجبل أو موضع أشد ارتفاعا مما حوله "خشنة غليظة" قيد بها؛ لأنها تكون غليظة وغير غليظة "ليس في المسجد الذي بنى، ثم" أي: هناك "ولكن أسفل من ذلك على أكمة خشنة" ضد ناعمة "غليظة" ضد رقيقة، وهذا رواه مسلم بلفظه من حديث ابن عمر: إلا أنه لم يقل خشنة إنما قال: على أكمة غليظة أولا وثانيا، فلعل هذا عذر المصنف في قصر عزوه للنسائي.

"وفي الصحيحين" عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم" لما جاء إلى مكة "دخلها من أعلاها" وخرج من أسفلها.

"وفي حديث ابن عمر في الصحيح" للبخاري ومسلم: "كان صلى الله عليه وسلم يدخل مكة من الثنية العليا" بضم العين تأنيث الأعلى، زاد في رواية التي بالبطحاء "يعني: أعلى مكة من كداء بفتح الكاف والمد" وإهمال الدال والتنوين و"قال أبو عبيد: لا يصرف" للعلمية والتأنيث على إرادة البقعة "وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها: الحجون بفتح الحاء المهملة وضم الجيم".

قال الحافظ: وكانت صعبة المرتقى، فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سهل في عصرنا هذا سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع منها، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة وكل عقبة في جبل أو طريق تسمى ثنية.

وبقية الحديث: وخرج من الثنية السفلى "ولم يقع أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة ليلا إلا في

ص: 376

الجعرانة، ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت كما رواه أصحاب السنن الثلاثة، من حديث محرش الكعبي.

وعن عطاء قال: إن شئتم فادخلوا مكة ليلا، إنكم لستم كرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان إماما، فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس. رواه النسائي.

ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة لأربع خلون من ذي الحجة.

ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بني عبد مناف، وهو باب بني شيبة، والمعنى فيه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع، كما قال ابن عبد السلام في "القواعد".

وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى البيت قال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا". رواه الثوري عن أبي سعيد الشامي عن مكحول.

عمرة الجعرانة" بعد انصرافه من قسم غنائم حنين؛ "فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى" أي: فعل "أمر العمرة" الطواف والسعي والحق "ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت" أي: كأنه بات بها "كما رواه أصحاب السنن الثلاثة" أبو داود والترمذي والنسائي "من حديث محرش" بضم الميم وفتح المهملة، وقيل: إنها معجمة وكسر الراء فشين معجمة "الكعبي" الخزاعي الصحابي نزيل مكة، وبه تمسك من قال: إن دخولها نهارا وليلا سواء في الفضل، وأجاب القائل بفضل النهار، بأنه دخلها في تلك المرة ليلا لبيان الجواز.

"وعن عطاء" بن أبي رباح أنه "قال: إن شئتم فادخلوا مكة ليلا إنكم لستم كرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان إماما" قدوة للناس "فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس، رواه النسائي".

قال الحافظ: قضيته أن من كان إمامًا يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارًا "ثم دخل عليه الصلاة والسلام مكة لأربع خلون من ذي الحجة" كما في حديث: "ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بني عبد مناف وهو باب بني شيبة، والمعنى" أي: السر والحكمة "فيه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب والبيوت تؤتى من أبابها" كما في التنزيل "وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع كما قاله" العز "بن عبد السلام في القواعد" وهما حكمتان لطيفتان "وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى البيت، قال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا" رواه الثوري" سفيان بن سعيد "عن أبي سعيد الشامي"

ص: 377

وروى الطبراني عن حذيفة بن أسيد قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى البيت قال: "اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما، وتشريفا وبرا ومهابة".

ولم يركع عليه الصلاة والسلام تحية المسجد، إنما بدأ بالطواف؛ لأنه تحية البيت كما صرح به كثير من أصحابنا، وليس بتحية المسجد.

ثم استلم صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود، وفي رواية جابر عند البخاري:"استلم الركن"، والاستلام افتعال من السلام، أي التحية، قاله الأزهري، وقيل: من السلام

مجهول من السابعة كما في التقرير "عن مكحول" الشامي ثقة، فقيه، تابعي، كثير الإرسال.

"وروى الطبراني" في الكبير "عن حذيفة بن أسيد" بفتح الهمزة الغفاري، من أصحاب الشجرة، مات سنة اثنتين وأربعين "قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى البيت قال: "اللهم زد بيتك هذا" أضافه إليه لمزيد التشريف، وأتى باسم الإشارة للتفخيم "تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة:" إجلالا وعظمة "وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وبرا ومهابة".

قال الطبراني: تفرد به عمرو بن يحيى.

قال الحافظ: وفيه مقال وشيخه عاصم بن سليمان وهو الكوزي متهم بالكذب، ونسب للوضع ووهم من ظنه عاصما الأحول. انتهى.

"ولم يركع عليه الصلاة والسلام تحية المسجد إنما بدأ بالطواف؛ لأنه تحية البيت، كما صرح به كثير من أصحابنا" وغيرهم "وليس بتحية المسجد".

وفي المقاصد حديث: تحية البيت الطواف لم أره بهذا اللفظ، وفي الصحيح عن عائشة: أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف.. الحديث، وفيه قول عروة الراوي عنها؛ أنه حج مع أبيه الزبير، فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه "ثم استلم صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود" أي: مسح يده عليه كما رواه الشيخان عن ابن عمر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يضب ثلاثة أطواف من السبع.

"وي رواية جابر عند البخاري: استلم الركن" أي: الحجر الأسود "والاستلام افتعال من السلام" بالفتح "أي: التحية قاله الأزهري" أبو منصور.

"وقيل: من السلام بالكسر" للسين "أي: الحجارة، والمعنى أنه يومئ بعصاه إلى

ص: 378

-بالكسر- أي الحجارة، والمعنى: أنه يومئ بعصاه إلى الركن حتى يصيبه، وكانت عصاه محنية الرأس، وهي المراد بقوله في الحديث بـ"المحجن".

واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثاني: الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منها، فلذلك يقبل الأول، ويستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان.

وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر، فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا. وكان إذا استلم الركن قال:"بسم الله والله أكبر"، وكلما أتى الحجر قال:"الله أكبر" رواه الطبراني.

الركن حتى يصيبه وكانت عصاه محنية" معوجة "الرأس، وهي المراد بقوله في الحديث: بالمحجن" بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم ونون والحجن الاعوجاج وبذلك سمي الحجون.

"واعلم أن للبيت أربعة أركان:

الأول: له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه وكونه على قواعد إبراهيم" أي: أساس بنائه.

"وللثاني:" وهو الركن اليماني "الثانية فقط وليس للآخرين شيء منها، فلذلك يقبل الأول" كما في الصحيحين عن ابن عمر؛ أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود.

وفي البخاري عن ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله "ويستلم الثاني فقط" لما في الصحيح عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني "ولا يقبل الآخران ولا يستلمان" اتباعًا للفعل النبوي؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم هذا على قول الجمهور.

واستحب بعضهم تقبيل اليماني أيضا، وأجاب الشافعي عن قول من قال: كمعاوية، وقد قبل الأربعة ليس شيء من البيت مجهورا، فرد عليه ابن عباس، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت وكيف يهجره وهو يطوف به، لكنا نتبع السنة فعلا أو تركا ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به.

"وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر" الأسود "فاستلمه" أي: مسح يده عليه "ثم وضع شفتيه عليه طويلًا" يقبله، ومفاده استحباب الجمع بينهما "وكان إذا استلم الركن، قال: "بسم الله، الله أكبر"، وكلما أتى الحجر، قال: "الله أكبر"، رواه

ص: 379

وهل كان عليه الصلاة والسلام طائفا على بعيره أم على قدميه؟

ففي مسلم عن عائشة: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعيره.

وفيه عن أبي الطفيل: رأيته صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على بعيره.

الطبراني" واستحب الشافعي والحنابلة وابن حبيب من المالكية أن يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك، واتبعا لسنة محمد صلى الله عليه وسلم.

وروى الشافعي عن ابن أبي نجيح، قال: أخبرت أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا، قال: قولوا: "بسم الله، والله أكبر، إيمانا بالله وتصديقا لإجابة محمد صلى الله عليه وسلم"، ولم يثبت ذلك كما قاله ابن جماعة وصح في أبي داود والنسائي وابن سعد والحاكم وابن حبان عن عبد الله بن السائب، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين اليماني والحجر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".

قال ابن المنذر: لا نعلم خبرا ثابتا عنه صلى الله عليه وسلم يقال في الطواف غير هذا.

وقال غيره: لم يدع صلى الله عليه وسلم عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكرا معينا لا يفعله ولا بتعليمه، ولذا ذهب مالك إلى أنه يسن الدعاء بلا حد، وأنكر قول الناس:"اللهم إيمانا بك"

إلخ.

وروي أنه ليس عليه العمل كما في المدونة، أي: ولم يثبت به حديث كما علم.

"وهل كان عليه الصلاة والسلام طائفا على بعيره أم على قدميه، ففي مسلم عن عائشة: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع" حول الكعبة "على بعيره" يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس، هذا لفظ مسلم بتمامه.

وفي الصحيحين عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن.

"وفيه" أي: مسلم "عن أبي الطفيل" عامر بن واثلة: "رأيته صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على بعيره" لم يقع ذلك في مسلم عن أبي الطفيل، ولفظه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن، وإنما فيه ذلك من حديث عائشة كما مر من حديث جابر، قال: طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف ويسألوه، فإن الناس غشوه. نعم في أبي داود عن أبي الطفيل: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته.

ص: 380

وقد اختلف في علة ذلك: فروى أبو داود من حديث ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، وفي حديث جابر عند مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه. فيحتمل أنه فعل ذلك للأمرين.

قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب.

وتعقب: بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته عليه السلام كانت منوقة، أي مدربة معلمة، فيؤمن معها ما يحذر من التلويث.

"وقد اختلف في علة ذلك" أي: سببه، فإن الطواف راكبا لا يجوز بلا عذر، فمنعه مالك وكرهه الشافعي، وطواف المصطفى راكبا إنما كان لعذر اختلف فيه.

"فروى أبو داود من حديث" يزيد بن أبي زياد عن عكرمة، عن "ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قدم مكة" في حجة الوداع "وهو يشتكي" أي: به مرض "فطاف على راحلته".

"وفي حديث جابر عند مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه" نقل بالمعنى وإلا فلفظ مسلم: ما قد رأيت آنفا، وله في راية تلو السابقة عن جابر: طاف صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس ويشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه بفتح الشين ازدحموا عليه.

"فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين" المرض ومشاهدة الناس له فيسألوه عن أمر دينهم ويأخذوا عنه مناسكهم فلا خلف بين الخبرين.

قال الولي العراقي: لكن لم يصح ذلك عن ابن عباس، فإن يزيد بن أبي زياد لا يحتج به.

قال البيهقي: وقد تفرد بزيادة قوله: وهو يشتكي فلم يوافق عليها.

"قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد" بقياس بقية ما يأكل على البعير "إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن أبوالها لا تنجسه" ولا أرواثها ولا يؤمن ذلك من البعير، فلو كانت نجسه لما عرض المسجد له "بخلاف غيرها م الدواب" التي لا تؤكل.

"وتعقب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة" إذ الفعل إنما دل الجواز للحاجة "بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول" وحيث لا يخشى يجوز "و" لا يراد أن ذلك لا يؤمن من الناقة؛ لأنه "قد قيل: إن ناقته عليه السلام كانت منوقة، أي: مدربة" مذللة "معلمة" مروضة "فيؤمن معها ما يحذر من التلويث" وهي

ص: 381

قال بعضهم: وهذا كان -والله أعلم- في طواف الإفاضة، لا في طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأول، وذلك لا يكون إلا مع المشي، ولم يقل أحد: رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أي بنفسه. وقال الشافعي: أما سعيه الذي طاف لقدومه فعلى قدميه. انتهى.

ولما استلم صلى الله عليه وسلم الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعًا.

وكان ابتداء الرمل في عمرة القضية، لما قدم صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا

سائرة، وتعقب بأن ذلك لم يثبت إنما أبداه الحافظ احتمالا، وللصحيحين أن أم سلمة طافت على البعير لمرضها بأمره صلى الله عليه وسلم فترجى بعض أنه كان منوقا أيضا وليس بشيء.

"قال بعضهم: وهذا" أي: طوافه راكبًا "كان والله أعلم في طواف الإفاضة لا في طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأولى" فقال في سياق حجة الوداع عند مسلم: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، يعني بلا إسراع.

وللشيخين عن ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا.

قال المصنف وغيره: الطواف الأول الذي يعقبه السعي لا طواف الوداع.

"وذلك لا يكون إلا مع المشي، ولم يقل أحد: رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أي: بنفسه" على المتبادر "و" لذا قال الشافعي: أما سعيه الذي طاف لقدومه فعلى قدميه. انتهى، ولما استلم صلى الله عليه وسلم الحجر مضى على يمينه" أي: يمين نفسه فيكون البيت عن يساره "فرمل:" أسرع في مشيه بدون جري "ثلاثًا ومشى أربعًا" كما في مسلم عن جابر: "وكان ابتداء الرمل" بفتح الراء والميم هو الإسراع.

وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة، واصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيته "في عمرة القضية" سنة سبع "لما قدم صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم" بفوقية بعد النون يستعل لازما، كقوله تعالى:{وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] ، ومتعديا كما في الحديث، أي: أضعفتهم "حمى يثرب" بمثلثة ممنوع الصرف علم للمدينة النبوية في الجاهلية والموضوع رفع على الفاعلية "فقال المشركون" من قريش: "إنه يقدم" بفتح الدال مضارع قدم بكسرها، أي: يرد "عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة فجلسوا" أي: قريش "مما يلي الحجر" بكسر فسكون "وأمرهم" أي: الصحابة "النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا" بضم الميم "ثلاثة أشواط" جمع شوط، أي:

ص: 382

ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس.

ولما كان في حجة الوداع رمل صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكان سنة مستقلة.

قال الطبري: فقد ثبت أنه عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها، فلا عليه. انتهى.

قلو ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع؛ لأن هيئتها السكينة فلا تغير، والله أعلم.

الطوفة حول الكعبة "ويمشوا" في كل واحد من الثلاثة "ما بين الركنين" اليمانيين حيث لا يراهم المشركون "ليرى المشركون" بفتح الياء والراء، وفي رواية: ليرى المشركين بضم الياء وكسر الراء "جلدهم" بفتح الجيم واللام قوتهم لهذا الفعل؛ لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم.

"فقال المشركون" بعضهم لبعض: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم:" أضعفتهم "هؤلاء أجلد من كذا وكذا، رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والنسائي "من حديث ابن عباس" واللفظ لمسلم "ولما كان في حجة الوداع رمل صلى الله عليه وسلم وأصحابه" كما جاء في أحاديث صحيحة "فكان سنة مستقلة" وإن زال سببه، ولذا هم عمر بتركه ورجع وفعله اتباعا للفعل النبوي، فقال: إنما كنا رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه كما في الصحيحين، فرجع عما هم به لاحتمال أن له حكمة لم نطلع عليها، ومن جهة المعنى أن الرامل إذا رمل تذكر السبب فيذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله.

"قال الطبري: فقد ثبت أنه عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل" بالإضافة "بل" تاركا "لهيئة" صفة "مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته ولم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها فلا شيء عليه. انتهى" كلام الطبري.

"فلو ترك الرمل في الثلاث" الأول "لم يقضه في الأربع" الباقية "لأن هيئتها السكينة في تغير، والله أعلم" بالحكم، وحقيقة الحكمة فيه "ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من طوافه" في "المقام"

ص: 383

ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من طوافه أتى المقام، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، فقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم رجع إلى الركن الذي فيه الحجر فاستلمه.

ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، أبدأ بما بدأ الله به"، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز

كما رواه مسلم وأبو داود في الحديث الطويل عن جابر، بلفظ: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم "فقرأ واتخذوا" بكسر الخاء أيها الناس، وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الخاء، خبر "من مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه عن بناء البيت "مصلى" مكان صلاة بأن يصلوا خلفه ركعتي الطواف "فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، فقرأ فيهما" بعد الفاتحة "بقل يا أيها الكافرون" في الأولى "وقل هو الله أحد" في الثانية "ثم رجع" بعد الصلاة "إلى الركن الذي فيه الحجر" الأسود "فاستلمه ثم خرج من الباب" المقابل للصفا أثر الركعتين "إلى الصفا، فلما دنا": قرب "من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} جبلان مبكة {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أعلام دينه: جمع شعيرة "أبدأ" بصيغة الخبر على الرواية المشهورة "بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا" اعتبارا بتقدم المبدوء به في التلاوة، الظاهر في أن حكمه مقدم على ما بعده، فلو بدأ الساعي بالمروة لم يعتد به عند الجمهور ومالك والشافعي، وأصرح منه رواية النسائي: "ابدؤوا بما بدأ الله به" بصيغة الأمر للجمع، واحتج به من قال: إن الواو لا ترتب، إذ لو رتبت لم يحتج إلى هذا التوجيه، ومن قال: ترتب لامتثاله صلى الله عليه وسلم ذلك "فرقي" بكسر القاف ويجوز فتحها وهي لغة، أي: صعد "عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة فوحد الله وكبره" أي: قال: الله أكبر، وقوله: "وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد" زاد في رواية أبي يحيى: "يحيي ويميت""وهو على كل شيء قدير".

قال الطيبي: يحتمل أنه قول آخر غير التوحيد والتكبير وأن يكون كالتفسير له والبيان والتكبير وإن لم يكن ملفوظا به، لكن معناه مستفاد من هذا القول، أي: لأن معنى التكبير التعظيم، قال: ووحده حال مؤكدة من الله، كقوله تعالى:{هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31]، وقوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] ، في أحد الوجهين، ويجوز أن تكون مفعولا مطلقا، ولا شريك له كذلك حال أو مصدر. ا. هـ.

ص: 384

"وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،" ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة.

وفي حديث أبي الطفيل عند مسلم وأبي داود، قال: قلت لابن عباس، أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر

"لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده" محمدا صلى الله عليه وسلم على أعدائه "وهزم الأحزاب" الذين تحزبوا عليه يوم الخندق "وحده" من غير قتال من المسلمين ولا سبب من جهتهم "ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات" سقط لفظ مثل في نسخ وهي ثابتة في مسلم وأبي داود.

قال الطيبي: ثم تقتضي التراخي وأن يكون الدعاء بعد الذكر وبين تقتضي التعدد والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 255]، الدعاء فتمحل من قال لما فرغ من قوله:"وهزم الأحزاب وحده"، دعا بما شاء ثم قال مرة أخرى هذا الذكر، ثم دعا حتى فعل ذلك ثلاثًا، فهذا إنما يستقيم على التقديم والتأخير بأن يذكر قوله: ثم دعا بين ذلك بعد قوله: قال مثل هذا ثلاث مرات، وتكون ثم للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر، ويلزم أن يكون الدعاء مرتين. ا. هـ.

"ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت" بشدة الموحدة، قال عياض: الرواية الواصلة علينا من جميع نسخ مسلم بإثبات لفظة إذا وهكذا في جميع أصول شيوخنا، واانصباب مجاز من قولهم: صب الماء فانصب، أي: انحدرت "قدماه في بطن الوادي رمل" بفتحتين وفي الموطأ سعى، أي: مشى بقوة، أي: أسرع في المشي "حتى إذا صعدنا" بكسر العين، أي: ارتفعت قدماه من بطن المسيل إلى المكان العالي "مشى" المشي المعتاد "حتى أتى المروة" ففعل على المروة كما فعل على الصفا كما في مسلم وأبي داود، أي: من الاستقبال والتوجه والتكبير والدعاء.

"وفي حديث أبي الطفيل" عامر بن واثلة بمثلثة الكناني الليثي آخر الصحابة موتًا "عند مسلم وأبي داود، قال" أبو الطفيل: "قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف" أي: السعي "بين الصفا والمروة راكبًا أسنة" بهمزة الاستفهام "هو" أم لا؟ "فإن قومك يزعمون:" يقولون على غير يقين وتحقيق كما في المشارق "أنه" أي: السعي راكبا "سنة، قال: صدقوا" في أنه صلى الله عليه وسلم سعى راكبا "وكذبوا" في أن الركوب سنة "قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا" فإنه تناقض

ص: 385

عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشي السعي أفضل. هذا لفظ رواية. وفي أوله ذكر الرمل في طواف البيت.

وعند أبي داود أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل، فيقيموا ثلاثة

بحسب الظاهر "قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس" في السعي بين الصفا والمروة "يقولون: هذا محمد هذا محمد" بالتكرار مرتين "حتى خرج العواتق من البيوت:" جمع عاتق، وهي البكر البالغ أو المقاربة للبلوغ، أو التي لم تتزوج، سميت بذلك؛ لأنها عتقت من استخدام أبويها فيما تستخدم فيه الصغيرة من الدخول والخروج والتصرف "قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب" بالبناء للمفعول نائبه "الناس بين يديه، فلما كثر عليه" الناس "ركب" للعذر المذكور "والمشي والسعي أفضل" من الركوب "هذا لفظ رواية".

فأما رواية أبي داود فيأتي لفظها: ويستفاد من هذا أنه مشى في ابتداء السعي وركب في بقيته، وهو أحسن ما جمع به بين الأحاديث المختلفة في ذلك.

"وفي أوله" عند مسلم: "ذكر الرمل في طاف البيت" ولفظه عن أبي الطفيل: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمل بالبيت ثلاثة أطواف ومشى أربعة أطواف أسنة هو؟، فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما قولك: صدقوا وكذبوا؟، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة، فقال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال وكانوا يحسدونه، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثا ويمشوا أربعا.

"و" لفظه "عند أبي داود" قلت لابن عباس: يزعم قومك أنه صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وكذبوا؟، قال: صدقوا قد رمل وكذبوا ليس بسنة "أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا" اتركوا "محمد وأصحابه حتى يموتوا موت النغف:" بفتح النون والغين المعجمة وبالفاء دود في أنوف الإبل والغنم واحده نغفة.

قال أبو عبيد: وهو أيضا دود أبيض يكون في النوى إذا أنقع وما سوى ذلك من الدود فليس بنغف، قاله الجوهري.

"فلما صالحوه على أن يجيئوا" هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه للعمرة، وفي نسخة من أبي داود: أن يحجوا.

قال الولي العراقي: والأولى أوجه؛ لأنهم لم يحجوا تلك المرة، وإنما اعتمروا إلا أن يراد بالحج مدلوله اللغوي وهو القصد.

ص: 386

أيام، فقدم صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه:"أرملوا بالبيت"، وفيه: طاف صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعير؛ لأن الناس كانوا لا يدفعون ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، وتناله أيديهم الحديث.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة رقى عليها، واستقبل البيت وكبر الله ووحده، وفعل كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال:"لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة"، فقالم سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله،

"من العام المقبل فيقيموا" بمكة "ثلاثة أيام، فقدم صلى الله عليه وسلم" والمشركون من قبل قعيقعان "فقال لأصحابه: "ارملوا" بضم الميم أمر من رمل بزنة اطلبوا، أي أسرعوا في المشي مع تقارب الخطا "بالبيت" ثلاثا وليس بسنة، كذا في الرواية من قول ابن عباس على مذهبه، وخالفه غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع وقال: "خذوا عني مناسككم".

"وفيه" أي: أبي داود في بقية هذا الحديث عقب قوله: وليس بسنة، قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعير، وإن ذلك سنة، ال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا، قال: صدقوا قد "طاف" رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أي: سعى "بين الصفا والمروة على بعير؛ لأن الناس كانوا" لفظه في أبي داود وكذبوا ليس بسنة، كان الناس "لا يدفعون" بالبناء للمفعول "عنه صلى الله عليه وسلم ولا يصرفون عنه" بصاد وفاء كما رأيته في أبي داود بخط الولي من الصرف وهو ما في النسخ الصحيحة، فقراءته بضاد معجمة وموحدة تصحيف "فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه وتناله أيديهم

الحديث".

كذا في نسخة: مع أنه لم يبق شيء منه، واعلم أن المصنف لو قال عقب قوله: أولا هذا لفظ رواية مسلم، ولفظ أبي داود: فذكره بلفظه لكان أفيد من هذا التقطيع وما كان يزيد به الكتاب "وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة رقي" بكسر القاف وتفتح "عليها واستقبل البيت وكبر الله ووحده وفعل كما فعل على الصفا" كما أفاده قول جابر في حديثه الطويل: حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وعقب ذلك بقوله:"حتى إذا كان آخر طوافه على المروة" كان تامة، وجوابه إذا: قوله "قال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة" أي: لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخرا وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي، أي: لما جعلت علي هديا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي، فإن من ساقه لا يحل حتى ينحره، وإنما ينحره يوم النحر فلا يصح له فسخ الحج بعمرة ومن لا هدي معه يجوز له فسخه، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعا.

ص: 387

ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:"دخلت العمرة في الحج هكذا" -مرتين، "لا بل لأبد أبد".

وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة.

قال النووي: وقد اختلف في هذا الفسخ، هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟

فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصا، بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج، وليس معه هدي أن يقلب إحرامه ويتحلل بأعمالها.

قال الخطابي: إنما قال هذا استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه أمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه، وفيه استعمال لو في القرب وتطيب النفوس "فمن" جواب شرط محذوف، أي: إذا تقرر ما ذكرت من أني أفردت الحج وسقت الهدي فلم أتمكن من الإحلال إلا بعد النحر، فمن "كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها" أي: الحجة "عمرة"، فقام سراقة" بضم السين وراء خفيفة وقاف ابن مالك "بن جعشم" بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة وفتحها، لغة حكاها الجوهري وغيره الكناني المدلجي، تقدم مرارا وهو الذي ساخت قوائم فرسه في قصة الهجرة وأسلم في الفتح.

"فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟، فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة" نصب بعامل مضمر، أي: جاعلا واحدة منها "في الأخرى" والحال مؤكدة "وقال: "دخلت العمرة في الحج هكذا" مرتين" هذا لفظ مسلم وأبي داود في الحديث الطويل عن جابر في الحجة النبوية، وإدخال الأصابع بعضها في بعض وتكريرها مرتين إما بالقول أو بالفعل يستدعي إدخال أحد النسكين في الآخر، ويؤيده حديث ابن عباس فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وقوله:"لا" أي: ليس لعامنا هذا "بل لأبد أبد" أي لآخر والأبد الدهر، وفي رواية: بل لا أبد الأبد "وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة" عند أحمد، والظاهر به.

وقال الجمهور: معنى الحديث جواز فعل العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة، وأن القصد إبطال زعم الجاهلية منع ذلك.

"قال النووي: وقد اختلف في هذا الفسخ هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة" ممنوع حتى للصحابة بعدها "أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة، فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها" فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، حتى بالغ

ص: 388

وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج.

ومما يستدل به الجماهير، حديث أبي ذر في مسلم: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. يعني فسخ الحج إلى العمرة. وفي النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل لنا خاصة".

بعض الحنابلة فقال: نحن نشهد الله لو أحرمنا بحج لزمنا فرضا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي السنن عن البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم خرج وأصحابه فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة، قال: اجعلوها عمرة، فقالوا: قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة، قال:"انظروا ما آمركم به فافعلوا"، فرددوا القول عليه فغضب

الحديث.

"وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج" وأنها من أفجر الفجور، فكسر سورة ما استحبكم في نفوسهم من الجاهلية من إنكاره بحملهم على أنفسهم.

"ومما يستدل به الجماهير حديث أبي ذر في مسلم" قال: "كانت المتعة في الحج" أي: فسخ الحج إلى العمرة "لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" في تلك السنة "خاصة" وهي حجة الوداع، فلا يجوز بعد ذلك لهم ولا لغيرهم. وعند أبي داود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الولي العراقي: وأبو ذر لا يقول هذا إلا عن توقيف.

"وفي النسائي" وأبي داود وابن ماجه من طريق عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة "عن الحارث بن بلال" المزني المدني، قال: قال في التقريب: مقبول.

وقال الولي العراقي: لا نعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد أنه روى عن أبيه، وروى عنه ربيعة وليس له إلا هذا الحديث في الكتب الثلاثة، ولا نعلم أحدا وثقه فهو مجهول عينا وحالا.

وقال المنذري: شبيه المجهول "عن أبيه" بلال بن الحارث المزني أبي عبد الرحمن المدني، صحابي، مات سنة ستين وله ثمانون سنة.

"قال: قلت: يا رسول الله أرأيت" أي: أخبرني" فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل لنا خاصة" وأجاب الحنابلة عن هذا بقول أحمد:

ص: 389

قال: وأما الذي في حديث سراقة: ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال: "لا، بل لأبد أبد" فمعناه: جواز الاعتمار في أشهر الحج، والقران كما سبق تفسيره.

فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث: أن العمرة في أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، والله أعلم. انتهى.

حديث لا يثبت، وقال أيضا: لا أقول به ولا يعرف هذا الرجل، يعني الحارث بن بلال ولم يروه غير الدراوردي، وأما الفسخ فرواه أحد وعشرون صحابيا وأين يقع بلال بن الحارث منهم، وتعقب بأنه لا معارضة بينه وبينهم حتى يرجح؛ لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة وبلال بن الحارث موافقهم، وزاد زيادة لا تخالفهم، وأما تعليله بتفرد الدراوردي به عن ربيعة، وتفرد ربيعة بن الحارث فهذا غير قادح، فإنهما ثقتان وتفرد الثقة لا يضر، ولذا سكت عليه أبو داود فهو عنده صالح، فلم يبق إلا تفرد الحارث به عن أبيه ولم يعلم توثيقه، لكن ينجبر ذلك بحديث أبي ذر، فإنه وإن لم يصرح برفعه لكنه له حكم الرفع، إذ لا يقوله إلا عن توقيف على أن ابن حبان يرى أن من لم يوثق ولم يجرح ثقة.

وقد قال الحافظ في تقريبه: إنه مقبول، أي: في الرواية وهي من ألفاظ التعديل، ولذا لم يتجرأ الحافظ المنذري على أن يقول: مجهول عينا وحالا، بل قال: شبيه المجهول ولو سلم أنه لا يصلح للحجية، فحديث ابن عباس المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض.. الحديث صريح في أن سبب الأمر بالفسخ هو قصد ما استقر في نفوسهم في الجاهلية بتقرير الشرع بخلافه.

وقد قال الخطابي: اتفق عوام أهل العلم على أنه إذا أفسد حجه مضى فيه مع الفساد

ا. هـ، يعني: فإذا لم يجز فسخ الحج الفاسد، فالصحيح أولى بعدم تجويزه.

"قال" النووي: "وأما الذي في حديث سراقة: ألعامنا هذا أم لأبد، فقال: لا بل لأبد أبد، فمعناه جواز الاعتمار في أشهر الحج والقران" أي: وجواز القران "كما سبق تفسيره" في كلام النووي، وأن تفسيره بفسخ الحج إلى العمرة ضعيف، لكن تعقب بأن سياق السؤال يقوي تفسيره بذلك فإنه الظاهر منه.

"فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث؛ أن فعل العمرة في أشهر الحج جائزا إلى يوم القيامة وكذلك القران" باتفاق فيهما "وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة" عند الجمهور، وقيل: وأجمع عليه الصحابة إلا ابن عباس ولم يعلم له موافق من الصحابة "والله أعلم. انتهى" كلام النووي.

ص: 390

وفي رواية للنسائي أيضا: لا تصح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النسائي ومتعة الحج، يعني فسخ الحج إلى العمرة، ومتعة النساء: هي نكاح المرأة إلى أجل، كان ذلك مباحًا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم فتح مكة ثم نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف في العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه.

وكان صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمنزله الذي نزل فيه المسلمين بظاهر مكة، يقصر الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة؛ لأنه قدم في الرابع، وخرج في الثامن، فصلى بها إحدى وعشرين صلاة، من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، ومن يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة وخروجه يوم النفر الثاني من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء.

"وفي رواية للنسائي أيضًا" ومسلم، كلاهما عن أبي ذر، قال:"لا تصح المتعتان إلا لنا" معشر الصحابة في حجة الوداع "خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج، يعني: فسخ الحج إلى العمرة" والتفسير بقوله: يعني إلى آخره وقع في سياق الحديث عن مسلم والنسائي "ومتعة النساء هي نكاح المرأة إلى أجل كان ذلك مباحا ثم نسخ يوم خيبر".

قال عياض: تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه، وقد قال بعضهم: إنها مما تناوله الإباحة والتحريم والفسخ مرتين كالقبلة "ثم أبيح يوم فتح مكة" لطول غيبتهم عن النساء "ثم نسخ في أيام الفتح" لمكة "واستمر تحريمه إلى يوم القيامة، وقد كان فيه خلاف في العصر الأول" قبل آخر خلافة عمر "ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه" في أواخر خلافة عمر.

وفي رواية لأبي داود: أنه نهى عن متعة النساء في حجة الوداع.

قال القاضي عياض: الصحيح أن الواقع فيها إنما هو تجديد النهي لاجتماع الناس، وليبلغ الشاهد الغائب ولإتمام الدين والشريعة كما قرر غير شيء يومئذ

ا. هـ.

"وكان صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمنزلة الذي نزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة يقصر" بضم الصاد "الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة" أي: بظاهرها "قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة؛ لأنه قدم في الرابع" وهو يوم الأحد من ذي الحجة "وخرج في الثامن" يوم الخميس "فصلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن" يعارضه ما يأتي أنه صلى ظهر الثامن بمنى وهو الصحيح "ومن يوم" ابتداء "دخوله عليه الصلاة والسلام مكة وخروجه يوم النفر الثاني من منى إلى الأبطح:" بألف فموحدة فطاء فحاء مهملتين مسيل واسع فيه دقاق

ص: 391

وقدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "بما أهللت"؟ فقال: بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لولا أن معي الهدي لأحللت". رواه الشيخان من حديث أنس.

وفي حديث البراء عند الترمذي والنسائي: دخل علي على فاطمة رضي الله عنهما فوجدها قد نضحت البيت بنضوح فغضب. فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيته فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعت"؟ وقال له: "انحر من البدن سبعا وستين، أو ستا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك من كل بدنة منها بضعة".

وفي رواية جابر عن مسلم: فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثوبا صبيغًا

الحصى "عشرة أيام سواء، وقدم علي" مكة "من اليمن" لأنه كان بعث إليها "على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "بما أهللت"؟ أي: أحرمت، وإثبات ألف ما الاستفهامية مع دخول الجار عليها قليل، ورواه أبو ذر بحذفها على الكثير السائغ نحو: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [عم يتساءلون: 43] "فقال: بما" أي: الذي "أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لولا أن معي الهدي لأحللت" من الإحرام وتمتعت؛ لأن صاحب الهدي لا يتحل حتى يبلغ الهدي محله وهو يوم النحر "رواه الشيخان" والترمذي "من حديث أنس" بن مالك.

"وفي حديث البراء" بن عازب "عند الترمذي والنسائي" وأبي داود "دخل علي على فاطمة رضي الله عنهما فوجدها قد نضحت" بفتح النون والضاد المعجمة، أي: رشت "البيت بنضوح" بفتح النون وضاد معجمة وحاء مهملة ضرب من الطيب تفوح رائحته، قاله الولي العراقي "فغضب" لظنه أنها باقية على الإحرام "فقالت: ما لك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه" أي: "كثيرا منهم "فأحلوا، قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم" أي: بما أهل به "قال: فأتيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعت" في الإهلال، فأخبره بأنه أهل بما أهل به "وقال له: "انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين" شك الراوي: "وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين" شك "وأمسك" لي، كما زاده في رواية أبي داود "من كل بدنة منها بضعة": بفتح الموحدة وتكسر وتضم وسكون المعجمة قطعة لنأكل منها.

"وفي رواية جابر عند مسلم" وأبي داود عقب قوله المتقدم: "لا بل لأبد أبد" وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم "فوجدنا فاطمة ممن حل" وظاهر هذا أن البدن للمصطفى، وفي

ص: 392

واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فقال: صدقت صدقت مرتين، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل. قال جابر: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. فحل: الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي.

النسائي: قدم علي من اليمن بهدي وساق صلى الله عليه وسلم من المدينة هديًا، فظاهره أن الهدي كان لعلي، فيحتمل أن عليا قدم من اليمن بهدي لنفسه وهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر كل راو واحدا منهما "ولبست" بكسر الموحدة "ثيابا صبيغا" أي: مصبوغة غير بيض، فعيل بمعنى: مفعول يستوي فيه المذكر والمؤث "واكتحلت، فأنكر ذلك عليها" لظنه أنها تابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في إحرامه، ورأى أنه باق على إحرامه.

زاد في رواية أبي داود: وقال: من أمرك بهذا؟ "قالت: أبي أمرني بهذا" أي: بالإحلال الذي نشأ عنه اللبس والاكتحال لا بهما، إذ هما من المباح وهو غبر مأمور به، أو أريد بالأمر الإباحة لا طلب الفعل، وحذف المصنف من الحديث في مسلم وأبي داود، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها "فقال:"صدقت" فاطمة "صدق""مرتين" ففاعل قال النبي صلى الله عليه وسلم: وصدقت بسكون التاء خلاف ما يوهمه اختصار المصنف أنه بكسرها وفاعل قال علي ولم يقنع علي بقولها: أبي أمرني، وخبر الواحدة مقبول لجواز أنه فهم أنه أمرها بالإحلال ولا يلزم منه لبس الصبيغ والاكتحال لقرب زمن الإحرام الماضي والذي تنشه، أو جوز أن أمره لعموم الصحابة وأن لها أمرا يخصها؛ لأنها بضعة منه فلا تفعل إلا ما يفعله، أو فهم أنها ليست ممن لم يسق الهدي؛ لأن أباها وزوجها ساقاه هي في حكم من ساقه، وفيه جواز قول الشخص أبي ولو كان معظما وأنه ليس تنقيصا له فيؤخذ منه جواز قول الشريف جدي: يريد النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الولي العراقي ملخصًا ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي:"ماذا قلت حين فرضت الحج"؟ " أي: ألزمت نفسك بالإحرام "قال: قلت: "اللهم إني أهل بما أهل به رسولك" ففيه جواز الإحرام بما أحرم به غيره "قال: "فإن معي الهدي لا تحل".

"قال جابر: فكان جماعة" أي: جملة "الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم" من المدينة "مائة" من البدن "فحل الناس كلهم" أي: أكثرهم ومعظمهم، فهو عام أريد به الخصوص؛ لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي "وقصروا كلهم" مع أن الحلق أفضل لأجل أن تبقى لهم بقية تحلق في الحج "إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي" فلم

ص: 393

فلما كان يوم التروية، وكان يوم الخميس ضحى، ركب صلى الله عليه وسلم وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم، وصلى صلى الله عليه وسلم بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فسار على طريق ضب، ولا يشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، وكانت "الحمس" وهم قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن قطين الله، أي

يحلوا "فلما كان يوم التروية" ثامن الحجة، وقوله:"وكان يوم الخميس ضحى ركب صلى الله عليه وسلم وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم" لم يقع ذلك في مسلم.

ولأبي داود ولفظهما: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب رسول الله "فصلى صلى الله عليه وسلم بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر" أي: الصبح كل صلاة لوقتها، وفيه ندب التوجه إلى منى يوم التروية، وكره مالك التقدم إليها قبله.

وقال الشافعي: إنه خلاف السنة "ثم مكث قليلا" بمنى "حتى طلعت الشمس وأمر بقبة:" خيمة "من شعر فضربت له بنمرة:" بفتح النون وكسر الميم جبل عن يمين الخارج من مأزمي عرفة، وقوله: فضربت بالفاء والبناء للمفعول، هكذا رواه مسلم وأبو داود، وفي رواية لمسلم: تضرب.

قال المصنف في شرحه صفة لقبة أو حال والتقدير أمر بضرب قبة بنمرة قبل قدومه إليها، فحذف المضاف وجعل الصفة دليلا عليه "فسار على طريق ضب" بفتح الضاد المعجمة وشد الموحدة قرية على يمين الناس اليوم، وليس في مسلم ولا في أبي داود على طريق ضب إنما فيهما: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا يشك قريش، إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية" ظاهره أنه ليس لقريش شك في شيء إلا في وقوفه عند المشعر، فإنهم يشكون فيه وليس المراد ذلك بل عكسه، وهو أنهم لا يشكون في أنه صلى الله عليه وسلم سيقف عند المشهر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به ويقف سائر الناس بعرفة، فقال الأبي: الأظهر في إلا أنها زائدة وأن في موضع نصب على إسقاط الجار، أي: ولا يشك قريش في أنه واقف عند المشهر، ثم انفصل المصنف عن حديث جابر دون بيان إلى حديث آخر، فقال:"وكانت الحمس" بضم الحاء المهملة وسكون الميم وسين مهملة "وهم قريش ومن ودان دينها" أي: اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه واتخذ له دينا وعبادة.

روى إبراهيم الحربي عن مجاهد، قال: الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل، كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وعدوان وبني عامر بن صعصعة، وبني كنانة إلا بني بكر

ص: 394

جيران بيته فلا نخرج من حرمه، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وذلك قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] .

والأحمس لغة: الشديد في دينه لما شددوا على أنفسهم، كانوا إذا أهلوا بالحج لا يأكلون لحما ولا يضربون بيتا من وبر ولا شعر، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم.

وعند الحربي أيضا عن عبد العزيز بن عمران المدني، قال: سموا حمسا؛ لأنهم حمسا بالكعبة؛ لأن حجرها أبيض يضرب إلى سواد.

قال الحافظ: والأول أشهر وأكثر، وذكر الحربي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب، اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، فدخل في الحمس ثقيف وخزاعة وغيرهم، فعلم منه أن المراد من أمهاته قرشية لا جميع القبائل "يقفون بالمزدلة ويقولون: نحن قطين الله:" بقاف وطاء جمع قاطن "أي: جيران بيته فلا نخرج من حرمه".

قال سفيان بن عيينة: وكان الشيطان قد استهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون منه، رواه الحميدي في مسنده "وكان الناس كلهم يبلغون عرفات" يقفون بها "وذلك قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ، رواه بهذا السياق الإسماعيلي عن سفيان بن عيينة من قوله، وظاهره أن المرد الإفاضة من عرفة، وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة؛ لأنها ذكرت بثم بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عنده بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر تنبيها على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كانت الحمس يفيضون، أو التقدير: فإذا أفضتم من عرفان إلى المشعر الحرام فذاكروا الله عنده ولتكن من المكان الذي يفيض فيه الناس، ذكره الحافظ وأصل الحديث في الصحيحين، واللفظ لمسلم عن عائشة: كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، ولهما أيضًا عن عائشة: الحمس هم الذي أنزل الله فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}

الحديث.

قال الحافظ: عرف برواية عائشة أن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بالناس هنا إبراهيم الخليل، وعنه المراد به الإمام وعن غيره آدم وقرئ شاذا الناسي بكسر السين بوزن العاصي، أي: أن الإفاضة من عرفات كانت في شريعتهما، قال: والأول أصح.

نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره عن يزيد بن شيبان، قال:

ص: 395

وعن جبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لي في الجاهلية، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت عرفت أن الله وفقه لذلك.

وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا.

كنا وقوفا بعرفة أتانا ابن مربع، فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، يقول لكم:"كونوا على مشاعركم فإنكم من إرث إبراهيم"

الحديث، ولا يلزم من ذلك أن المراد خاصة، بل ما هو أعم من ذلك وسببه ما حكته عائشة، وأما ثم في الآية فقيل بمعنى الواو، واختاره الطحاوي، وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا إفاضتكم التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون.

قال الزمخشري: وموقع ثم هنا موقعها من قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم فتأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة، فقال: ثم أفيضوا التفاوت ما بين الإفاضتين، وإن إحداهما صواب والآخر خطأ.

قال الخطابي: تضمنت الآية الأمر بالوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة إنما تكون عن اجتماع قبلها، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبدأ الوقوف ومنتهاه

ا. هـ.

"وعن جبير بن مطعم" القرشي النوفلي الصحابي العالم بالأنساب "قال: أضللت حمارًا لي" أي: أضعته، أو ذهب هو، وفي الصحيحين، عنه: بعيرا لي، فيحتمل التعدد "في الجاهلية" قبل إسلامه، فتطلبته "فوجدته بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت" يوم الفتح "عرفت أن الله وفقه" صلى الله عليه وسلم "لذلك" أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ إسحاق بن راهويه في مسنده.

"وفي رواية" له أيضا ولابن خزيمة عن جبير: "كان رسول الله" لفظه: رأيت رسول الله "صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له" زاد محمد بن إسحاق في مغازيه: قبل أن ينزل عليه الوحي "ثم يصبح مع قومه" قريش "بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا" زاد ابن إسحاق توفيقا له من الله.

وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة، فقلت: هذا والله من الحمس، فما شأنه ههنا، وعلم من الروايتين اللتين ساقهما المصنف أن هذا كان قبل إسلام جبير، فلذا أنكر عليه مخالفته لقومه لا كما ظن

ص: 396

ولما بلغ صلى الله عليه وسلم وجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بـ"القصواء" فرحلت له، فركب فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء

السهيلي أن رؤية جبير لذلك كانت في حجة الوداع فاستشكله، ثم عاد المصنف إلى حديث جابر، فقال:"ولما بلغ صلى الله عليه وسلم عرفة" أي: قربها لقوله: "وجد القبة" ولفظه عقب قوله: كما كانت تصنع قريش في الجاهلية، فأجاز، أي: جاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: المزدلفة حتى أتى عرفة فوجد القبة "قد ضربت له بنمرة" وليست من عرفة "فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس" بغين معجمة مالت للزوال "أمر" صلى الله عليه وسلم "بالقصواء" بفتح القاف والمد تقدم الكلام فيها غير مرة "فرحلت" بضم الراء وكسر المهملة مخففة "له" أي: شد الرحل على ظهرها "فركب فأتى بطن الوادي" وهو عرنة بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدها نون "فخطب الناس" ففيه أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع، وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية وهو المشهور، فقول النووي: خالف فيها المالكية فيه نظر، إنما هو قول العراقيين منهم والمشهور خلافه، واتفق الشافعية أيضا على استحبابها خلافا لما توهمه عياض والقرطبي.

"وقال: "إن دماءكم وأموالكم" زاد في بعض طرق هذا الحديث: وأعراضكم "حرام عليكم" معناه: أن دماء بعضكم على بعض حرام وأموال بعضكم على بعض حرام، وإن كان ظاهر اللفظ أن دم كل واحد حرام عليه نفسه ومال كل واحد حرام عليه نفسه، فليس بمراد؛ لأن الخطاب للمجموع، والمعنى: فيه مفهوم ولا تبعد إرادة المعنى الثاني، أما الدم فواضح، وأما المال فمعنى تحريمه عليه تحريم تصرفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعًا، قاله الولي العراقي.

قال عياض: فيه أن تحريم الدماء والأموال على حد واحد ونهاية من التحريم، وفيه ضرب الأمثال وقياس ما لم يعلم على ما علم لقوله:"كحرمة يومكم هذا" يوم عرفة "في شهركم هذا" ذي الحجة "في بلدكم هذا" مكة لاتفاقهم على تحريم ذلك وتعظيمه

ا. هـ.

وفي تقديم اليوم على الشهر وهو على البلد الترقي، فالشهر أقوى من اليوم وهو ظاهر في الشهر لاشتماله على اليوم فاحترامه أقوى من احترام جزئه، وأما زيادة حرمة البلد؛ فلأنه محرم في جميع الشهور لا في هذا الشهر وحده، فحرمته لا تختص به فهو أقوى منه.

قال التوربشتي: أراد أموال بعضكم على بعض، وإنما ذكره مختصرا اكتفاء بعلم المخاطبين حيث جعل أموالكم قرينة دمائكم، وإنما شبه تحريم ذلك باليوم والشهر والبلد؛ لأنهم يعتقدون أنها

ص: 397

الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا،

محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفيه مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها الدماء والأموال.

وقال الطيبي: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به؛ لأنهم عالمون بحرمة الثلاث، كما في قوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر الحرم ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبدا كحرمة الثلاث، ثم أتبعه بما يؤكده، فقال:"ألا" بالفتح والتخفيف "إن كل شيء من أمر الجاهلية" الذي أحدثوه والشرائع التي شرعوها في الحج وغيره، قاله في المفهم:"تحت قدمي" بشد الياء مثنى "موضوع" أي: مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين "ودماء" بكسر الدال وبالهمز والمد "الجاهلية موضوعة".

قال الولي: يمكن أنه عطف خاص على عام لاندراج دمائها في أمورها، ويمكن أنه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه، وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك؛ لأن منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، وما يثبت وما لا يثبت "فإن أول دم أضع من دمائنا" أهل الإسلام، أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحق المسلمون ولايتها بأهل بيتي "دم ابن ربيعة بن الحارث" بن عبد المطلب واسم هذا الابن إياس، قاله الجمهور والمحققون، وقيل: حارثة، وقيل: تمام، وقيل: آدم.

قال الدارقطني: وهو تصحيف، ولبعض رواة مسلم وأبي داود دم ربيعة، وهو وهم؛ لأن ربيعة عاش حتى توفي زمن عمر سنة ثلاث وعشرين، وتأوله أبو عبيد بأنه نسبه إليه؛ لأنه ولي دم ابنه وهو حسن ظاهر به تتفق الروايتان.

"كان" هذا الابن طفلا "مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل" بهاء مضمومة معجمة مفتوحة، قال الولي العراقي: ظاهره أنها تعمدت قتله، وذكر الزبير بن بكار أنه كان صغيرا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد، وبين ليث بن بكر، كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه وهو مناف لقوله: فقتلته هذيل؛ لأنهم غير بني ليث، إذ هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة كما بينه أبو عبيد القاسم بن سلام في أنسابه. انتهى.

"وربا الجاهلية موضوع" أي: الزائد على رأس المال، كما قال تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وهذا إيضاح، إذ المقصود مفهوم من لفظ ربا، فإذا وضع الربا

ص: 398

ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة من الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن

فمعناه وضع الزيادة، قاله النووي.

قال الولي: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من الخاص على العام؛ لأنه من إحداثاتهم وشرعهم الفاسد "وأول ربا أضع" مبتدأ خبره "ربانا ربا العباس" بدل منه، أو خبر محذوف، أي: هو ربا العباس "بن عبد المطلب" وهكذا الرواية في مسلم وأبي داود، فما في نسخة: أضع من ربانا بزيادة من تحريف لم يوجد في الأصول "فإنه موضوع كله" يحتمل عود ضمير أنه لربا العباس تأكيدًا لوضعه، ويحتمل لجميع الربا، أي: ربا العباس موضوع؛ لأن الربا موضوع كله، قاله الولي: وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها من أهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لأبواب الطمع في الترخيص "فاتفقوا الله في النساء".

قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على دماءكم وأموالكم، أي: فاتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال، وفي النساء: وهو من عطف الطلب على الخبر بالتأويل، كما عطف {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [البقرة: 179] ، على قوله:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [يس: 55] .

وقال الولي العراقي: يحتمل أن الفاء زائدة؛ لأن في رواية بدونها وأنها للسببية؛ لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية وكان من جملتها منع النساء من حقوقهن وترك إنصافهن أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن، فكأنه قيل: فبسبب إبطال أمر الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن، فإذا تركه من أمر الجاهلية، قال: وفي تحتمل السببية نحو فذلكن الذي لمتنني فيه والظرفية مجازا نحو {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، أي: أن النساء ظرف للتقوى المأمور بها "فإنكم أخذتموهن بأمانة الله" أي: بأن الله ائتمنكم عليهن، فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية، قاله في المفهم.

وفي كثير من أصول مسلم بأمان الله بلا هاء، كما قال النووي وهو يقوي أن في قوله: أخذتموهن دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة تحت زوجها وله التصرف فيها والسلطنة عليها، ويوافقه قوله في رواية أخرى: فإنهن عوان عندكم: جمع عانية وهي الأسيرة، لكنها ليست أسيرة خائفة كغيرها من الأسراء، بل هي أسيرة آمنة "واستحللتم فروجهن بكلمة من الله" أي: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .

قال الخطابي: هذا أحسن الوجوه.

قال المازري: ويحتمل بإباحة الله المنزلة في كتابه.

ص: 399

فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده إن اعتصمتم

قال عياض: قيل: هي التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذ لا يحل لغير مسلم أن يتزوج مسلمة، وقيل: كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج. انتهى، أي: الصيغ التي تنعقد بها من إيجاب وقبول، ورجح هذا في المفهوم، قال: فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاتقضاء أو التخيير.

وكذا النووي: فقال: المراد بإباحة الله والكلمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، وهذا هو الصحيح. انتهى، ولما ذكر استحلال الزوج بكلمة الله وعلم منه تأكيد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق، وبدأ بحق الأزواج؛ لأنهم المخاطبون، فقال:"ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" أي: تكرهون دخوله في بيوتكم سواء كرهتم ذاته أم لا، وعبر بفرش؛ لأن الداخل يطأ فراش المنزل الذي يدخل فيه، أي: أنه ليس للزوجة أن تمكن أحدا ولو امرأة أو محرما من دخول بين زوجها إلا إذا علمت عدم كراهية زوجها لذلك.

هكذا حمله القرطبي والنووي على العموم "فإن فعلن ذلك" دون رضاكم بلفظ صريح أو بقرائن، فلو شككن أنهم يكرهونه لم تمكن؛ لأن الأصل المنع "فاضربوهن ضربا غير" بالنصب "مبرح" بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة وحاء مهملة، أي: غير شديد شاق من البرح وهو المشقة.

وقال الخطابي: معنى الحديث أن لا يأذن لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب ولا يعدونه عيبا ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب وصار النساء مقصورات نهى عن محادثتهن والقعود إليهن، وليس المراد بوطء الفرش هنا نفس الزنا؛ لأنه محرم على الوجوه كلها، فلا معنى لاشتراط الكراهية فيه، ولو أريد الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح، وذكر المازري وعياض نحوه، وقال الطيبي: ظاهر قوله: أن لا يوطئن فرشكم أحدا مشعر بالكناية عن الجماع فعبر به عن عدم الإذن مطلقا. انتهى.

"ولهن عليكم" وجوبًا "رزقهن وكسوتهن" بكسر الكاف وضمها لغتان مشهورتان "بالمعروف" على قدر كفايتهن دون سرف ولا تقتير "وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده" يحتمل أن إن زائدة وأنها شرطية حذف شرطها، أي: إن تمسكتم به لا تضلوا، لكن هذا تصحيف من المصنف أو نساخه، فالرواية في مسلم وأبي داود، ولفظها:"ما لن تضلوا بعده""إن اعتصمتم به" أي: بعد التمسك به والعمل بما فيه، وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح وذلك لبيان أن هذا

ص: 400

به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون"؟.

قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.

فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول: "اللهم

الشيء الذي تركه فيهم شيئًا جليلًا عظيما فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية، ثم لما حصل من هذا التشوق التام للسامع وتوجه إلى استماع ما يرد بعده واشتاقت نفسه إلى معرفته، بينه بقوله:"كتاب الله" بالنصب بدل من مفعول تركت جزم به الولي، فإن كان الرواية وإلا فيجوز رفعه خبر محذوف، أي وهو: ولم يذكر السنة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها لاندراجها تحته، فإن الكاب هو المبين للكل بعضها بلا واسطة وبعضها بواسطة، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية "وأنتم تسألون عني".

قال الطيبي: عطف على مقدر، أي: قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعا غير تارك لشيء مما بعثت به وأنتم تسألون عني يوم القيامة هل بلغت بأي شيء تجيبون، ودل على هذا المحذوف الفاء في قوله:"فما أنتم قائلون"؟ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأي شيء تجيبونه، ومن ثم طابق جوابهم السؤال فأتوا بالألفاظ الجامعة، حيث "قالوا: نشهد أنك قد بلغت" الرسالة "وأديت" الأمانة "ونصحت" الأمة.

وقال الولي: تسألون عني في القيامة أو البرزخ فما أنتم قائلون حين سؤالكم على الأظهر أو الآن في جوابي، ويترتب عليهما قولهم نشهد، أي: في القيامة على الأظهر أو الآن، قال: وحذف المعمول في الثلاثة يدل على تبليغ جميع ما أمر به ونصحه لجميع الناس الموجودين والذين سيوجدون "فقال:" أي أشار صلى الله عليه وسلم "بأصبعه السبابة" حال كونه "يرفعها إلى السماء" أي: رافعًا إياها، فالحال من فاعل قال: أو مرفوعة، فالحال من السبابة.

قال القرطبي: هذه الإشارة إما إلى السماء؛ لأنها قبلة لدعاء، وإما لعلو الله تعالى المعنوي؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يختص بجهة، وقد بين ذلك قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]"وينكتها إلى الناس" بفتح التحتية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية.

قال عياض: كذا الرواية في مسلم وهو بعيد المعنى، قيل: صوابه ينكبها بموحدة، وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد في مسلم، ومن طريق ابن الأعرابي عن أبي داود في سنته بموحدة، ومن طريق أبي بكر التمار عنه بفوقية، ومعناه: يرددها ويقبلها إلى الناس مشيرا لهم وهو من نكب كنانته إذا قلبها، هذا كلامه في الإكمال.

وقال القرطبي: روايتي في هذ اللفظية وتقييدي على من اعتمده من الأئمة المقتدين بضم

ص: 401

"اشهد"، ثلاث مرات.

ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا.

وهذا الجمع المذكور يختص بالمسافرين عند الجمهور، وعند مالك والأوزاعي، وهو وجه عند الشافعية: أن الجمع بعرفة وجمع للنسك، فيجوز لكل أحد. قال الأسنوي: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف.

الياء وفتح النون وكسر الكاف مشددة وضم الباء بواحدة، أي: يعدلها إلى الناس وروي ينكبها مخففة الباء والنون وضم الكاف، ومعناه يقلبها وهو قريب من الأول، وروي ينكتها بفوقية وهي أبعدها. انتهى.

وفي البارع قال الأصمعي: ضربه فنكته، أي: بالفوقية، أي: ألقاه على رأسه ووقع متنكتا، وذكره الفارابي في باب قتل: فيحتمل أن يكون الحديث من هذا، والمعنى ينكسها "ويقول:"اللهم اشهد" قالها "ثلاث مرات" كذا رواه مسلم، وفي أبي داود كررها باللفظ ثلاثا ولم يقل: ثلاث مرات وبما رأيته يعلم ما يوجد في بعض نسخ المصنف ينكسها بالسين بعد الكاف تصحيف لم يجئ في رواية، وإنما هو معنى رواية ينكتها بفوقية بعد الكاف، فإن قيل: ليس في هذه الخطبة شيء من المناسك فيرد ذلك على قول الفقهاء يعلمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول؛ لأنه أوضح واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها والخطباء بعده ليست أفعالهم قدوة، ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها، فاستحب لهم البيان بالقول وفيه حجة للمالكية وغيرهم وأن خطبة عرفة فردة، إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين، وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين فضعيف، كما قاله البيهقي وغيره.

"ثم أذن بلال" بعد فراغ الخطبة "ثم أقام" بلال "فصلى" النبي صلى الله عليه وسلم "الظهر ثم أقام" بلال "فصلى" النبي صلى الله عليه وسلم "العصر ولم يصل بينهما" الظهر والعصر "شيئا" فلا يتنفل بينهما، وبه قال الجمهور ومالك والشافعي "وهذا الجمع المذكور" بين الظهرين "يختص المسافرين عند الجمهور" لأن سببه عندهم السفر.

"وعند مالك والأوزاعي وهو وجه عند الشافعية أن الجمع بعرفة وجمع" بفتح الجيم وسكون الميم، أي: مزدلفة "للنسك فيجوز لكل أحد، قال الأسنوي: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف" تفريع على قول الجمهور، أو على قول الكل، والمعنى: لا يجوز حالة كون الجواز بلا خلاف، أي: متفقا عليه إلا للمسافر، أما للنسك ففيه الخلاف.

ص: 402

وقال الشافعي والأصحاب: إذا خرج الحاج يوم التروية، ونووا الذهاب، إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خروجهم.

ولما فرغ من صلاته صلى الله عليه وسلم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، وكان أكثر

"وقال الشافعي والأصحاب: إذا خرج الحاج" أي: جنسه إذ هو مفرد حجاج وحجيج "يوم التروية ونووا الذهاب إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر" للرباعية "من حين خروجهم، ولما فرغ من صلاته" لفظ جابر: ثم "ركب صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف" عرفة "فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات" المفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، وقدر الطيبي منتهيا وتعقبه الأبي، فقال: إن كان الوقوف على الصخرات صح تقديره، والأظهر أنه تجوز بالبطن عن الوجه والتقدير وجعل وجه ناقته، وهذا إن كانت الصخرات في قبلته؛ لأنه إنما وقف مستقبل القبلة.

وقال القرطبي: يعني أنه علا على الصخرات ناحية منها حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته.

قال الولي العراقي: لا حاجة إلى هذا؛ لأن من وقف بحذاء صخرة على ناقة صار بطنها بحذائها، أي: إلى جانبها وليس يشترط في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليا عليها.

"وجعل حبل" بفتح المهملة وسكون الموحدة ولام ما طال من الرمل، وقيل: الضخم منه، أو المراد جعل صف "المشاة:" جمع ماش، ومجتمعهم "بين يديه" وقيل: أراد طريقهم الذي يسلكونه في الرمل والأول أشبه بالحديث، قاله عياض، ومثلا لابن الأثير، لكنه صدر بالقول الثاني وحكى الأول بقيل.

وقال النووي: روي حبل بمهملة وموحدة ساكنة وروي بجيم وفتح الباء.

قال عياض: الأول أشبه بالحديث، وحبل المشاة، أي: مجتمعهم وحبل الرمل ما طال منه وضخم، وأما بالجيم فمعناه طريقهم وحيث يسلك الرجالة، وتعقبه الولي العراقي بأن ما ذكره من رواية هذ اللفظة بوجهين وترتيب ذين المعنيين على هذين الوجهين، لم أره في كلام القاضي لا في الإكمال ولا في المشارق ولا في كلام غيره أيضا. ا. هـ، وفيه استحباب الوقوف عند الصخرات.

قال النووي: وما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقفه صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان "واستقبل القبلة"

ص: 403

دعائه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف: "اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" رواه الترمذي من حديث علي.

وفي رواية ذكرها رزين: كان أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام يوم عرفة بعد قوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له: اللهم لك الحمد كالذي نقول، اللهم لك

فيستحب استقبالها في الوقوف بعرفة للاتباع، ثم فصل المصنف حديث جابر بجمل ويأتي له بقية، فقال:"وكان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف" عشية عرفة "اللهم لك الحمد كالذي نقول" بالنون، أي: كالذي نحمدك به من المحامد "وخيرًا مما نقول" بالنون وهو ما حمدت به نفسك؛ لأنا لا نقدر على الثناء عليك فهو نحو قوله: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "اللهم لك صلاتي ونسكي" الذبح في الحج والعمرة أو نفس الحج، أو عبادتي كلها "ومحياي ومماتي" حياتي وموتي، يعني: جميع طاعتي في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح خالص لك "وإليك" لا إلى غيرك "مآبي" بميم فهمزة مفتوحة فألف فموحدة وبالمد مرجعي "ولك رب تراثي" بفوقية مضمومة ومثلثة، أي: ما أخلفه، فبين بهذا أنه لا يورث كحديث:"لا نورث ما تركناه فهو صدقة" وأن ما يخلفه غيره لورثته من بعده "اللهم إني أعوذ بك من عذاب" أي: عقوبة "القبر" أضيف إليه لوقوعه فيه "ووسوسة الصدر" أي: حديث النفس بما لا ينبغي من أمور الدنيا، فإن قلب ابن آدم بكل واد شعبة "وشتات الأمر" أي: افتراقه "اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح" جمع: ريح "وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" سأل الله خير المجموعة؛ لأنها للرحمة، وتعوذ من شر المفردة؛ لأنها للعذاب على ما جاء في أسلوب الكتاب، نحو:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، ونحو الريح العقيم {رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ} ، وقد ترد للطيبة إذا وصفت بها، نحو:{وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} ، زاد في رواية: ومن شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر بوائق الدهر "رواه الترمذي من حديث علي" أمير المؤمنين، وقال: ليس إسناده بقوي.

"وفي رواية ذكرها رزين" ابن معاوية السرقسطي الأندلسي في جامعه: "كان أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام يوم عرفة بعد قوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وبهذه الزيادة علم أنه لا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: "لا إلا إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء

ص: 404

"صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، وعليك يا رب ثوابي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذي شر".

وفي الترمذي: "أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وله الحمد وهو على كل شيء قدير".

وكان من دعائه في عرفة أيضا -كما في الطبراني الصغير- من حديث ابن عباس: "اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى

قدير".

أخرجه أحمد برجال ثقات: "اللهم لك الحمد كالذي نقول": لم يقل هنا وخيرا مما تقول تقصيرا من بعض رواته "اللهم لك صلاتي ونسكي" عام بعد خاص إن أريد به العبادات كلها ومغاير إن أريد الذبح في الحج والعمرة "ومحياي ومماتي وإليك مآبي وعليك يا رب ثوابي" فضلا منك بوعدك إثابة الطائع وأنت لا تخلف الميعاد "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر" قال ذلك اعترافا بالعبودية وخوصا للألوهية أو تعليما لأمته وإلا فهو عالم بأنه لا يعذب في قبره ولا يوسوس في صدره "ومن شتات الأمر" افتراقه "ومن شر كل ذي شر" من إنس وجن وغيرهما، كالدواب والهوام.

"وفي الترمذي: "أفضل الدعاء" مبتدأ خبره "يوم عرفة".

وفي الموطأ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، أي: أعظمه ثوابا وأقربه إجابة، ويحتمل أن يريد به اليوم وأن يريد به الحاج خاصة، قاله الباجي.

"وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي" وفي حديث علي عند ابن أبي شيبة: أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد" زاد في حديث أبي هريرة عند البيهقي: يحيي ويميت بيده الخير "وهو على كل شيء قدير".

قال ابن عبد البر: يريد أنه أكثر ثوابا، ويحتمل أفضل ما دعا به والأول أظهر؛ لأنه أورده في تفضيل الأذكار بعضها على بعض والنبيون يدعون بأفضل الدعاء.

"وكان من دعائه في عرفة أيضا كما في" معجم "الطبراني الصغير" وكذا الكبير بإسناد ضعيف، كما قال الحافظ الزين العراقي وغيره "من حديث ابن عباس" قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عشية عرفة: "اللهم إنك تسمع كلامي" أي: لا يعزب عنك مسموع وإن خفي بغير جارحة "وترى مكاني" سواء كنت في ملأ أو خلاء، وفيه أن سمعه متعلق بالمسموعات وبصره بالمبصرات، وعليه أهل السنة "وتعلم سري": ما أخفي "وعلانيتي":

ص: 405

عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته وذل

ما أظهر "لا يخفى عليك شيء من أمري" تأكيد لما قبله لدفع توهم المجاز أو التخصيص وفيه دلالة لقول أهل السنة؛ أن علمه يتعلق بالجزئيات والكليات "أنا البائس" بموحدة فهمزة فمهملة اسم فاعل، أي: الذي اشتدت ضرورته "الفقير" المحتاج إليك في جميع أحواله وأموره "المستغيث" المستعين، المستنصر بك فاكشف كربتي وأزل شدتي "المستجير": بالجيم الطالب منك الأمان من عذابك "الوجل" بفتح الواو وكسر الجيم، أي: الخائف "المشفق" أي: الحذر، يقال: أشفق من كذا بالألف حذر كما في المصباح.

وقال الزمخشري: أنا مشفق من هذا، أي: خائف منه خوفا يرق القلب ويبلغ منه مبلغا "المقر المعترف بذنوبه" عطف بيان.

قال الجوهري وغيره: أقر بالحق اعترف.

وقال الزمخشري: أقر على نفسه بالذنب اعترف.

"أسألك مسألة المسكين" أي: الخاضع الضعيف، سمي بذلك لسكونه للناس بكسر الميم عند جميع العرب إلا بني أسد فبفتحها، قال بعضهم: نصب مسألة بنزع الخافض أبلغ في قيام الوصف به لإثبات المسألة لنفسه في الخير، أي: أسألك وأنا كذلك، أفاد نظيره البيضاوي أو مفعول به مضاف إلى المسكين لما فيه من الذل والخضوع الموجب كل العطف عليه، وحذف الفاء من أسألك للمبادرة للمطلوب مع الاشتغال عنه بأسلوب آخر من التذلل وهو النوع الثالث، فإنه بدأ بالرب وما له على الانفراد وثنى بالعبد كذلك صريحا، وثلث بما للرب والعبد على وجه الصراحة والكناية في العبد كنظيره في قوله:"وأبتهل إليك ابتهال المذنب" أي: أتضرع إليك تضرع من أخجلته مقارفة الذنوب.

قال الجوهري وغيره: الابتهال: التضرع.

وقال الزمخشري: أبتهل إلى الله: تضرع واجتهد في الدعاء اجتهاد المبتهلين "الذليل" أي: الضعيف المستهان به "وأدعوك دعاء الخائف الضرير" أي: القائم به الضر.

وفي رواية: المضطر وهما بمعنى: قال بعض: هو من الضرر أو من الوصف الخاص، كالعمى لمن لا يهتدي إلى خلاص وإن اهتدى لا يمكن له ذلك، بين بهذا أن العبد وإن علت منزلته فهو دائم الاضطرار؛ لأن حقيقة العبد تعطي الاضطرار، إذ هو ممكن وكل ممكن مضطر إلى ممد يمده، وكما أن الله هو الغني أبدًا، فالعبد مضطر إليه أبدا ولا يزايله هذا الاضطرار في الدنيا والآخرة حتى لو دخل الجنة، فهو محتاج إليه فيها غير أنه غمس اضطراره في المنة التي

ص: 406

جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين ويا خير المعطين".

وأتاه صلى الله عليه وسلم ناس من أهل نجد -وهو بعرفة- فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادي: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام

أفرغت عليه ملابسها، وهذا هو حكم الحقائق، إذ لا يختلف حكمها لا في العيب ولا في الشهادة ولا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن اتسعت أنواره لم يتوقف اضطراره، وقد عتب الله قوما اضطروا إليه عند وجود أسباب ألجأتهم إلى الاضطرار، فلما زالت زال اضطرارهم ولما لم تقبل عقول العامة إلى تغطية حقيقة وجودهم سلط الحق عليهم الأسباب المثيرة للاضطرار ليعرفوا قهر ربوبيته وعظمة إلهيته "من خضعت لك رقبته" أي: نكس رأسه رضا بالتذلل إليك، وقال بعض الشراح: نعت آخر يجوز عوده لجهتي السؤال والدعاء وللثانية أقرب، وأسنده إلى الرقبة لظهور اختصاصه بها وإن كان الرأس الأصل، إذ لا حياة بدونها "وفاضت": سالت "لك عبرته" بفتح العين، أي: سال لك من الخوف دموعه، قيل: الفيض سيلان لا اختيار فيه "وذل" أي: انقاد لك "جسمه" بجميع أركانه الظاهرة والباطنة "ورغم لك أنفة " بكسر الغين المعجمة، أي: لصق بالرغام بالفتح وهو التراب ذلا وهوانا.

وقال ابن الأعربي: رغم بفتح الغين ذل، قاله المنذري.

وفي المصباح: رغم من باب قتل، وفي لغة من باب تعب كناية عن الذل كأنه لصق بالرغام هو أنا.

"اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا" أي: تعبا خائبا في ذلك ولا في غيره.

قال الزمخشري: من المجاز أشقى من رائض، أي: أتعب منه، ولم يزل في شقاء من أمره في تعب والباء للسببية، أو بمعنى مع والمصدر مضاف إلى مفعوله، أي: بدعائي إياك "وكن بي رؤوفا رحيما" أي: عطوفا شفوقا، أي: أوقع الوصفين بي، أي: اجعلهما ملابسين لي "يا خير المسؤولين" أي: من طلب منه "ويا خير المعطين" أي: من أعطى "وأتاه صلى الله عليه وسلم ناس".

وعند أبي داود: ناس أو نفر.

قال الولي: فيحتمل أنه شك من الراوي في اللفظ الذي قاله الصحابي، ويحتمل أنه تردد في أنهم ناس كثير، أو نفر يسير من ثلاثة إلى عشرة "من أهل نجد وهو بعرفة فسألوه" وعند أبي داود: فأمر رجلا فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف الحج فأمر مناديا ينادي" وعند أبي داود: رجلا فنادى "الحج عرفة" مبتدأ وخبر على تقدير مضاف من الجانبين، أي: معظمه، أو ملاكه الوقوف بها لفوات الحج به، قاله البيضاوي.

ص: 407

منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، رواه الترمذي.

وفي رواية جابر عند أبي داود قال صلى الله عليه وسلم بعرفة: "وقفت ههنا وعرفة كلها موقف وههنا أنزل علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} "[المائدة: 3] الآية كما

قال الطيبي: تعريفه للجنس وخبره معرفة، فيفيد الحصر نحو ذلك الكتاب. انتهى.

وعند أبي داود: "الحج الحج يوم عرفة"، وفي رواية له:"الحج يوم عرفة".

قال الولي: أي: الحج هو الحج الكائن يوم عرفة وهو الوقوف بها، فأطلق اسم الحج على أحد أركانه؛ لأنه معظمها أو لإبطال اعتقاد قريش، ومن دان بدينها أن ليس من أركان الحج؛ لأنهم كانوا يقفون بالمزدلفة كما مر، فيوم عرفة منصوب على أنه مفعول الحج الثاني، وعلى الرواية التي لم يكرر فيها لفظ الحج الظاهر؛ أن يوم عرفة مرفوع "من جاء ليلة جمع" بفتح فسكون، أي: المزدلفة وهي ليلة العيد، أي: من أدرك الوقوف ليلة النحر " قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج" ومفهومه: أن من لم يدرك ذلك فاته الحج فهو حجة لمالك، ومن وافقه أن الوقوف يوم عرفة ليس الركن، فإذا وقف به دون جزء من ليلة جمع فاته الحج، لكن في السنن وصححه الحاكم مرفوعا:"من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه"، ولذا قال الأكثر: مبدأ الوقوف من زوال يوم عرفة ومنتهاه طلوع فجر العيد، فأي جزء وقف فيه أدرك الحج "أيام مني ثلاثة أيام" بعد يوم النحر "فمن تعجل" النفر "في يومين فلا إثم عليه" في تعجيله، وسقط عنه مبيت الليلة الثالثة ورمى اليوم الثالث "ومن تأخر" عن النفر في الثاني حتى نفر في الثالث "فلا إثم عليه" في تأخيره بل هو أفضل، فالتخيير وقع هنا بين الفاضل والأفضل، فإن قيل: الآثم المتعجل فما بال المتأخر، أجيب بأن المتعجل لا إثم عليه في استعمال الرخصة ومن تأخر وترك الرخصة فلا إثم عليه في ترك استعمالها "رواه الترمذي" وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كلهم عن عبد الرحمن بن يعمر بفتح التحتية والميم الديلي بكسر المهملة وإسكان التحتية صحابي نزل الكوفة.

"وفي رواية جابر عند أبي داود" ومسلم، كلاهما مختصر بعد ذكر حديث جابر بطوله في حجة الوداع عن جابر "قال صلى الله عليه وسلم" قد نحرت ههنا ومنى كلها منحر وموقف "بعرفة" فقال:"وقفت ههنا وعرفة كلها موقف" ووقفت هنا وجمع كلها موقف، وفي هذا بيان شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته ورفقه بهم وتنبيه لهم على مصالح دينهم ودنياهم، فذكر لهم الأكمل وهو موضع وقوفه ونحره، والجائز وهو جزء من أجزاء منى وعرفة والمزدلفة "وههنا" أي: وهو واقف بعرفة "أنزل علي" بشد ياء المتكلم صلى الله عليه وسلم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] بالنصر

ص: 408

في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته -وهو محرم- فمات، فأمر رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- أن يكفن في ثوبيه ولا ميس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطي رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبي. رواه البخاري ومسلم. أي يبعث على هيئته التي مات عليها.

واستدل بذلك على بقاء إحرامه، خلافًا للمالكية والحنفية، قال النووي:

والإظهار على الأديان كلها، أو بالنص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد "الآية كما في الصحيحين" البخاري في أربعة مواضع، ومسلم في موضعين.

"عن عمر بن الخطاب:" أن رجلا من اليهود قال له: آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أية آية؟، قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه، أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.

وعند الطبراني وغيره عن كعب الأحبار أنه قال لعمر فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.

"وهناك سقط رجل من المسلمين" لم يعرف اسمه "عن راحلته" أي: ناقته التي صلحت للرحل "وهو محرم" بالحج، وفي رواية للشيخين: فوقصته ناقته وهو محرم "فمات" وهو بالقاف والصاد المهملة، أي: كسرت رقبته "فأمر صلى الله عليه وسلم أن يكفن في ثوبيه" زاد في رواية النسائي: الذين أحرم فيهما، ومعلوم أنهما لا يحيطان بالبدن، فلعلهما كانا إزارا ورداء "ولا يمس بطيب وأن يغسل بماء وسدر" ولفظ الصحيحين: فقال صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب"" ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبي" أي قائلا: لبيك اللهم لبيك "رواه البخاري ومسلم" مستوعبا طرقه، واختلاف ألفاظها كلاهما من حديث ابن عباس "أي: يبعث على هيئته التي مات عليها" من الإحرام.

"واستدل بذلك على بقا إحرامه خلافا للمالكية والحنفية" أنه إذا مات فقد انقضى العمل، فيجوز تطييبه وتغطية رأسه ووجهه، وأجابوا عن هذا الحديث بأنها واقعة عين لا عموم فيها؛ لأنه علل ذلك بأنه يبعث يلبي وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره فهو خاص بذلك الرجل، ولو أريد تعميمه في كل محرم لقال: فإن المحرم كما قال: إن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما، فالتخصيص ظاهر من التعليل، والعدول سلمنا عدم ظهوره، فوقائع الأحوال لا عموم فيها، وذلك كاف في إبطال الاستدلال.

ص: 409

يتأول هذا الحديث على أن النهي عن تعطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه، بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة.

ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا، حين غاب القرص، أفاض صلى الله عليه وسلم من عرفة وأردف أسامة خلفه، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى:"أيها الناس السكينة السكينة"، وكلما أتى حبلا

"قال النووي: يتأول هذا الحديث" لمخالفته مذب الشافعي أن المحرم يجوز له تغطية وجهه "على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه" أي: "يحرم كما قال مالك وموافقوه "بل هو صيانة للرأس" المجمع على حرمة تغطيته "فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى" كلام النووي، وتعقبه الأبي؛ بأن هذا التعليل لا يجري على أصل الشافعي؛ لأنه لا يقول بسد الذرائع.

"قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع" الرجل "المذكور عند الصخرات من عرفة" وبوب عليه البخاري المحرم يموت بعرفة، ثم عاد المصنف إلى حديث جابر، فقال:"ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص أفاض:" دفع "صلى الله عليه وسلم من يوم عرفة" ولفظ مسلم عقب قوله سابقا: واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، كذا فيه بلفظ: حتى بفوقية فتحتية غاية، ولأبي داود حين بتحتية فنون، وقيل: إنه الصواب وهو مفهوم الكلام ولحتى وجه قاله عياض.

قال النووي: باحتمال أنه على ظاهره وتكون الغاية بيانًا لقوله: غربت الشمس وذهبت الصفرة؛ لأن غيابها يطلق مجازا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله: حتى غاب القرص.

"وأردف أسامة" بن زيد "خلفه" ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ الحديث.

قال ابن الأثير: أي ابتدأ السير ودفع نفسه ونحاها، أو دفع ناقته وحملها على الير وحذفه المصنف استغناء عنه بذكر معناه بقوله: أفاض من عرفة "وقد شنق" بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فقاف "للقصواء الزمام" أي: ضمه وضيقه عليها وكفها به، والزمام والخطام ما يشد به رؤوس الإبل من حبل أو سير أو نحوه لتقاد وتساق به، قاله عياض في المشارق، ثم فسر ذلك بقوله:"حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله" بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء فكاف:

ص: 410

من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد. وأفاض من طريق المأزمين.

وفي رواية ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام سمع وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل فأشار بسوطه وقال:"أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع"، يعني بالإسراع.

وفي رواية أبي داود: أفاض من عرفة، وعليه السكينة، ورديفه أسامة، فقال:

قطعة من جلد محشوة شبه المخدة تجعل في مقدم الرحل يضع الراكب رجليه عليها متوركا ليستريح من وضعهما في الركاب، فأراد بذلك أنه بالغ في جذب رأسها إليه ليكفها عن السير ورحله بفتح الراء وحاء مهملة، قال المصنف، وفي نسخة من مسلم: رجله بكسر الراء بعدها جيم.

"ويقول" أي: يشير "بيده اليمنى: "أيها الناس" الزموا "السكينة" الزموا "السكينة" مرتين، الرفق والوقار والطمأنينة وعدم الزحمة بالنصب على الإغراء "وكلما أتى حبلا من الحبال" بحاء مهملة مكسورة: جمع حبل التل اللطيف من الرمل الضخم "أرخى لها" للقصواء الزمام "قليلا حتى تصعد" روي بضم الفوقية رباعيا وفتحها ثلاثيا كما قال عياض، والنووي: وفي أمره بالسكينة الرفق بالناس والدواب والأمن من الإذابة خلاف العجلة، كما أن في إرخائه للقصواء الرفق بالدواب لئلا يجتمع عليها مشقة الصعود، ومشقة الشنق صلوات الله وسلامه عليه ما أرأفه وأرحمه، ثم فصل المصنف حديث جابر بجمل، فقال: "وأفاض من طريق المأزمين" بفتح الميم وإسكان الهمزة وكسر الزاي فميم فتحتية فنون تثنية مأزم: موضع معروف بين عرفة والمشعر وهو في الأصل المضيق في الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض ويتسع ما وراءه والميم زائدة، وكأنه من الأزم وهو القوة والشدة.

"وفي رواية" البخاري من أفراده عن "ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام سمع" لفظ البخاري: دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع صلى الله عليه وسلم "وراءه زجرا" بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي: صياحا "شديدا" لحث الإبل "وضربا للإبل، فاشار بسوطه" إليهم "وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة" في السير برفق وعدم المزاحمة "فإن البر" أي: ما يتقرب به "ليس بالإيضاع" بكسر الهمزة وسكون التحتية المنقلبة عن الواو، وبالضاد المعجمة وآخره عين مهملة "يعني بالإسراع"، أي: السير السريع، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله: لما خطب بعرفة ليس السابق من سبق بعيره وفرسه ولكن السابق من غفر له.

قال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة.

"وفي رواية أبي داود" عن ابن عباس، قال:"أفاض" صلى الله عليه وسلم "من عرفة وعليه السكينة"

ص: 411

"أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل"، فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا.

وفي رواية أسامة بن زيد عند الشيخين: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام: والنص فوق العنق.

الوقار والطمأنينة "ورديفه أسامة" بن زيد "فقال" صلى الله عليه وسلم حين سمع الزجر وضرب الإبل: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر" أي: ما يتقرب به "ليس بإيجاف" إتعاب "الخيل والإبل" بضربها والسير السريع "فما رأيتها رافعة" بالراء، وفي رواية: بالدال وهما في أبي داود "يديها بالتثنية "عادية" بمهملتين من العدو، أي: ماشية بسرعة "حتى أتى جمعا" أي: المزدلفة، ومن قرأ غادية بإعجام الغين وقال: هذا بناء على استعماله في مطلق الذهاب وإلا فأصله الذهاب بعد الصبح وقبل الشم فقد صحفه وتعسف توجيهه، فإنما هو في أبي داود بالمهملة، وبه ضبطه شارحه ومعناه صحيح بلا تكلف، وقد حمله ابن خزيمة على حال الزحام دون غيره.

"و" استدل لذلك بقوله "في رواية أسامة بن زيد" رضي الله عنهما "عند الشيخين" وأبي داود والنسائي وابن ماجه من طريق مالك وغيره عن هشام عن أبيه عروة، قال: سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع؟، قال:"كان يسير العنق" بتفح المهملة والنون سير بين الإبطاء والإسراع.

قال في المشارق: هو سير سهل في سرعة، وقال القزاز: سير سريع، وقيل: المشي الذي يتحرك به عنق الدابة وانتصب العنق على المصدر المؤكد من معنى الفعل "فإذا وجد فجوة" بفتح الفاء وسكون الجيم وفتح الواو، أي: مكانا واسعا، هكذا رواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي والتنيسي وطائفة عن مالك، ورواه يحيى الأندلسي وأبو مصعب ويحيى بن بكير وغيرهم عن مالك، فجوة بضم الفاء وفتحها وسكون الواو وجيم.

قال ابن عبد البر وغيره: هو بمعنى فجوة.

"نص" بفتح النون والصاد المهملة الثقيلة، أي: أسرع.

قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها وأصله غاية الشيء، يقال: نصصت الشيء رفعته، قال الشاعر:

ونص الحديث إلى أهله

فإن الوثيقة في نصه

أي: ارفعه إليهم وانسبه، ثم استعمل في ضرب سريع من السير.

"قال هشام" بن عروة: "والنص فوق العنق" أي: ارفع منه في السرعة.

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو مما

ص: 412

وأخرج الطبراني في المعجم عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفات وهو يقول:

"إليك تعدو قلقا وضينها

مخالف دين النصاري دينها"

قال في النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله.

والقلق: الانزعاج.

والوضين: بالضاد المعجمة، حزام الرحل.

ولما كان صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوءا خفيفا، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله؟ قال: "الصلاة أمامك".

يلزم إثمة الحاج، فمن دونهم فعله لأجله الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين الوقار والسكينة عند الزحمة وبين الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة.

"وأخرج الطبراني في المعجم عن سالم بن عبد الله" بن عمر أحد الفقهاء "عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفات وهو يقول:"

"إليك تعدو قلقا وضينها

مخالف دين النصارى دينها"

تعدو بالعين والدال المهملتين، قال في المصباح: عدا في مشيه عدوا من باب قال: قارب الهرولة وهو دون الجري، وله عدوة شديدة وقلقا بفتح القاف وكسر اللام فقاف.

"قال في النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله: القلق والانزعاج والوضين" بفتح الواو و"بالضاد المعجمة" المكسورة وتحتية ساكنة ونون بمعنى الموضون كقتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة "حزام الرحل" وقال الجوهري: الوضين للهودج بنزلة البطان للقتب والتصدير للرحل والحزام للسرج، وهما كالتسع إلا أنهما من السيور إذا نسج نساجه بعضه على بعض مضاعفا "ولما كان صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق" وهو الشعب الذي دون المزدلفة كما في رواية للشيخين وهو شعب الأذخر بهمزة فمعجمة مفتوحتين فألف فمعجمة مكسورة فراء موضع بين المأزمين على يسار الطريق "نزل" رسول الله صلى الله عليه وسلم "فبال وتوضأ" بماء زمزم، كما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه عن علي بإسناد حسن "وضوءا خفيفا" قيل: معناه توضأ مرة مرة، وقيل: خفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته، وفي رواية: فتوضأ وضوء ليس بالبالغ، وفي أخرى: فلم يسبغ الوضوء "فقال له أسامة: الصلاة" بالنصب على الإغراء أو بتقدير أتذكر، أو تريد.

ويؤيده رواية للشيخين: أتصلي "يا رسول الله" ويجوز الرفع بتقدير حضرت الصلاة مثلا

ص: 413

فركب حتى أتى مزدلفة، وهي المسماة بـ"جمع" بفتح الجيم وسكون الميم، وسميت جمعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أي دنى منها، وعن قتادة: إنما سميت جمعا؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتين، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى الله تعالى، أي يتقربون إليه بالوقوف بها.

فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها المغرب والعشاء، كل واحدة منهما بإقامة، ولا صلى أثر كل واحدة منهما.

وفي رواية: فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام

"فقال: "الصلاة" مبتدأ خبره "أمامك" بفتح الهمزة والنصب ظرف، أي: موضع هذه الصلاة قدامك، وهو المزدلفة فهو من ذكر الحال وإرادة المحل، أو التقدير وقت الصلاة قدامك، فحذف المضاف، إذ الصلاة نفسها لا توجد قبل إيجادها، وإذا وجدت لا تكون أمامه، أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها وفيه تذكير التابع ما تركه متبوعه ليفعله، أو يتعذر عنه أو يبين له وجه صوابه "فركب" القصواء "حتى أتى مزدلفة" موضع بين عرفة ومنى وكلها من الحرم "وهي المسماة بجمع بفتح الجيم وسكون الميم" وعين مهملة "وسميت جميعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أي: دنا" قرب "منها".

"وعن قتادة: إنما سميت جمعا؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتين" المغرب والعشاء "وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها" فسميت جمعا "ويزدلفون إلى الله تعالى، أي: يتقربون إليه بالوقوف بها" فسميت مزدلفة "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها المغرب والعشاء كل واحدة منهما بإقامة" كما في حديث أسامة في الصحيحين، زاد في نسخ:"ولا صلى أثر كل واحدة منهما"، وظاهره أنه لم يؤذن لهما لاقتصاره على الإقامة، وبه قال الشافعي في الجديد وأحمد في رواية.

وفي حديث جابر عند مسلم: بأذان واحد وإقامتين.

وبه قال الشافعي في القديم وابن الماجشون واختاره الطحاوي.

وعند البخاري والنسائي عن ابن مسعود: بأذانين وإقامتين.

وروى الطحاوي بإسناد صحيح؛ أن عمر كان يفعل ذلك، وبه أخذ مالك واختاره البخاري وقواه ابن عبد البر من جهة النظر؛ بأنه صلى الله عليه وسلم جعل الوقت لهما جميعا، وكل صلاة صليت في وقتها يسن الأذان لها، إذ ليست واحدة منهما فائتة تقضي.

"وفي رواية" لمسلم: فركب حتى جئنا المزدلفة "فأقام المغرب ثم أناخ الناس" رواحلهم "في منازلهم ولم يحلوا" بفتح الياء وضمها وكسر الحاء رحالهم من على رواحلهم

ص: 414

العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا.

وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح، لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب، واجتهاده عليه السلام في الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا، ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر بيده الشريف المبارك ثلاثا وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى. كما نبه عليه في شرح تقريب الأسانيد.

وعن عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب:"إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه"، قال:"أي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم"، فلم يجب عشيته، فلما

"حتى أقام العشاء الآخرة فصلى" بالناس "ثم حلوا" رحالهم عن رواحلهم "وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة ونام حتى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب واجتهاده عليه السلام في الدعاء وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا" لها وجمعا لهما جمع تأخير "ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة" من التعب، وقد قال:"إن لجسدك عليك حقا""ولما هو بصدده يوم النحر من كونه نحر بيده الشريفة المباركة ثلاثا وستين بدنة" وباقي المائة نحره علي "وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى كما نبه عليه" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد" للنووي.

"وعن عباس بن مرداس" بكسر الميم وسكون الراء ودال وسين مهملتين السلمي، أسلم بعد يوم الأحزاب، وسكن البصرة بعد ذلك؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة" زاد في رواية ابن أحمد: والرحمة فأكثر الدعاء "فأجيب" في رواية ابن أحمد: فأجابه الله عز وجل "إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه" وفي رواية ابن أحمد: فأجابه الله "أن قد فعلت وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضا".

زاد الطبراني: "فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها""قال: "أي رب" عبر به لاقتضاء المقام لذلك لمزيد الاستعطاف، كما عبر بأي نداء للقريب؛ لأنه سبحانه قريب، كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] "إن شئت أعطيت المظلوم

ص: 415

أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك صلى الله عليه وسلم، أو قال: تبسم، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟، قال:"إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه". رواه ابن ماجه.

"من" بعض "الجنة وغفرت للظالم" فلم يجب عشيته".

وفي رواية عبد الله بن أحمد: فقال: "يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم وتثيب المظلوم خيرا من مظلمته"، فلم يكن تلك العشية إلا ذا "فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب إلى ما سأل".

روى ابن جرير عن ابن عمر: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال:"أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم وأعطى لمحسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله"، فلما كان غداة جمع، قال:"يا أيها الناس قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم والتبعات بينكم عوضها من عنده، أفيضوا على اسم الله تعالى"، فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا، فقال -صلى الله عليه ولم:"إني سألت ربي بالأمس شيئا فلم يجد لي به، سألته التبعة فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل، فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: ضمنت التبعات وضمنتها من عندي "قال: فضحك صلى الله عليه وسلم، أو قال: تبسم" بالشك من الراوي.

وفي رواية ابن أحمد والطبراني: فتبسم بالجزم، وفي أبي داود: ضحك بالجزم، والظاهر أنه زاد على التبسم قليلا، فتارة غلب الراوي قربه من التبسم فأطلقه عليه، وتارة قربه من الضحك فسماه به، وتارة تردد لكونه ليس تبسما صرفا ولا ضكا.

"فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها" أي: في مثلها "فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟ " دعاء له بالفرح والسرور "قال: "إن عدو الله إبليس لما" حين "علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي" ولابن أحمد: قد استجاب لي في أمتي وغفر للظالم "أخذ التراب فجعل يحثوه" بمثلثة: يلقي "على رأسه" غيظا "ويدعو بالويل" حلول الشر به "والثبور" الهلاك "فأضحكني ما رأيت من جزعه".

وفي رواية ابن أحمد: "فتبسمت لما يصنع من جزعه"، وفي أخرى:"فضحكت لما رأيت من جزعه""رواه ابن ماجه ورواه أبو داود من الوجه" أي الطريق "الذي رواه به ابن ماجه ولم

ص: 416

ورواه أبو داود من الوجه الذي رواه به ابن ماجه ولم يضعفه.

وقد جاء في بعض الروايات عن غير العباس بن مرداس: ما يبين أن المراد من "الأمة" من وقف بعرفة.

يضعفه"أي: سكت عليه، فهو عنده صالح للحجة، وقد أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين من طرق.

وقد صنف الحافظ ابن حجر فيه كراسا سماه قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج، قال في أوله: إنه سئل عن حال هذا الحديث هل هو صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منكر، أو موضوع، قال: فأجبت بأنه جاء من طرق أشهرها حديث العباس بن مرداس، فإنه مخرج في مسند أحمد.

وأخرج أبو داود طرقا منه وسكت عليه على رأي ابن الصلاح ومن تبعه حسن، وعلى رأي الجمهور كذلك، لكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه.

ثم قال الحافظ أثناء كلامه حديث العباس بمفرده يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق لطرق ذكرها، قال: وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث ابن مرداس، وقال فيه كنانة: منكر الحديث جدا، ولا أدري التخليط منه أو من ولده، وهذا لا ينهض دليلا على أنه موضوع، فقد اختلف قوله ابن حبان في كنانة، فذكره في الثقات وفي الضعفاء.

وذكر ابن منده: أنه قيل: إن له رؤية منه صلى الله عليه وسلم، وأما ولده عبد الله بن كنانة ففيه كلام ابن حبان أيضا، وكل ذلك لا يقتضي وضعه، بل غايته أن يكون ضعيفا ويعتضد بكثرة طرقه، وأورد حديث ابن عمر في الموضوعات أيضًا وقال فيه عبد العزيز بن أبي رواد، تفرد به عن نافع عن ابن عمر.

قال ابن حبان: كان يحدث على التوهم والحسبان وهو مردود، فإنه لا يقتضي أنه موضوع مع أنه لم ينفرد به، بل له متابع عند ابن حبان في كتاب الضعفاء، هذا كلام الحافظ ملخصًا، وهو كلام متقن إمام في الفن، فلا عليك ممن أطلق عليه اسم الضعيف الذي لا يحتج به.

"وقد جاء في بعض الروايات عن غير العباس بن مرداس: ما بين أن المراد من الأمة من وقف بعرفة" إلى آخر الدهر لا خوص الواقفين معه صلى الله عليه وسلم.

أخرج ابن منيع عن أنس: وقف صلى الله عليه وسلم، فقال:"معاشر الناس أتاني جبريل آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله قد غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات"، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة؟، قال: "هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى

ص: 417

وقال الطبري: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها.

وقد رواه البيهقي بنحو رواية ابن ماجه ثم قال: وله شواهد كثيرة، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى.

وقال الترمذي في الحديث الصحيح: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج

يوم القيامة"، فقال عمر: كثر خير الله وطاب.

قال الحافظ: إن صح سنده إلى ابن المبارك فهو على شرط الصحيح، وقد أخرجه مسدد بن مسرهد في مسنده من وجه مرسل رجاله ثقات لكن ليس بتمامه.

"وقال الطبري" محمد بن جرير بعد روايته حديث ابن عمر. "أنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها" مع العزم على أنه يوفي إذا قدر ما يمكن توفيته "وقد رواه" أي: حديث العباس بن مرداس "البيهقي" في السنن الكبرى "بنحو رواية ابن ماجه" السابقة، وكذا الطبراني في الكبير وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند لأبيه وابن عدي، وصححه الضياء كما مر وقد قالوا: إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم "ثم قال" البيهقي: "وله شواهد كثيرة" فأخرجه عبد الرزاق والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأبو يعلى وابن منيع من حديث أنس وابن جرير، وأبو نعيم وابن حبان من حديث ابن عمر، والدارقطني وابن حبان من حديث أبي هريرة، وابن منده من حديث عبد الله بن زيد، ذكر رواياتهم الحافظ في مؤلفه بنحو حديث عباس بن مرداس.

"فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإن لم يصح" فنحن في غنية عن تصحيحه" فقد قال الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وظلم بعضهم بعضا دون الشرك" فيدخل في الآية. "انتهى" وهو حسن.

"وقال الترمذي في الحديث الصحيح" الذي رواه هو والباري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج" زاد في رواية: "لله"، وفي أخرى:"من حج هذا البيت"، وهما في البخاري، ولمسلم:"من أتى هذا البيت" وهو يشمل الحج والعمرة، وللدارقطني بإسناد فيه مقال:"من حج أو اعتمر""فلم يرفث" بثليث الفاء في المضارع والماضي، لكن الأفصح فيه الفتح، وفي المضارع الضم، والرفث والجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول.

وقال الأزهري: اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وخصه ابن عاس بما خوطب به

ص: 418

من ذنوبه كيوم ولدته أمه".

وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه؛ لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره بعده تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق.

النساء.

وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع.

قال الحافظ: والظاهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي وهو المراد بقوله:"فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث""ولم يفسق" أي: لم يأت بسيئة ولا معصية "رجع كيوم ولدته أمه" أي: صار بلا ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، قاله في فتح الباري "وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد".

قال شيخنا المعتمد: لا فرق بينهما في سقوط الإثم دون الحق "ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة" أو صيام أو زكاة "أو كفارة" ليمين وغيرها "ونحوها:" كنذر "من حقوق الله لا تسقط عنه؛ لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره بعده" أي: الحج "تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق".

قال ابن خالويه: المبرور: المقبول.

وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي.

وقال القرطبي: الأقوال في تفسيره متقاربة، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل وتظهر علامته بآخره، فإن رجع خيرًا مما كان علم أنه مبرور.

ولأحمد والحاكم عن جابر، قالوا: يا رسول الله ما بر الحج؟ قال: "إطعام الطعام وإفشاء السلام".

قال الحافظ: في إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعين دون غيره.

ص: 419

وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق كالصلاة يستتاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعًا. والله أعلم.

واستأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها، فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة.

وفي رواية: فاستأذنته سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها أن تدفع قبل حطمة الناس، قالت عائشة: فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به. رواه البخاري.

"وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق" لله "كالصلاة" أو لخلقه "يستتاب" فإن تاب "وإلا قتل" فجعله مرتدا بهذا الاعتقاد "ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعا، والله أعلم" بالحكم هل تسقط التبعات أم لا؟

"و" عن عائشة قالت: "استأذنت سودة" أم المؤمنين "رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع" أي: المزدلفة عند السحر "وكانت ثقيلة" أي: من عظم جسمها "ثبطة" بفتح المثلثة وكسر الموحدة وطاء مهملة خفيفة، أي: بطيئة الحركة كأنها تثبط الأرض، أي: تثبت "فأذن لها، فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة" أي: كاستئذانها، فما مصدرية، ولم يذكر في هذه الرواية بيان ما استأذنته فيه، ولذا عقبها بقوله.

"وفي رواية" عن عائشة: نزلنا المزدلفة "فاستأذنته" صلى الله عليه وسلم "سودة أن تدفع" أي: تتقدم إلى منى "قبل حطمة الناس" بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين، أي: زحمتهم؛ لأن بعضهم يحطم بعضا من الزحام "وكانت امرأة بطيئة، فأذن" صلى الله عليه وسلم "لها أن تدفع".

لفظ الباري: فدفعت "قبل حطمة الناس" زحمتهم، وحذف من هذه الرواية وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه صلى الله عليه وسلم "قالت عائشة: فلأن" بفتح اللام مبتدأ "أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة" جملة معترضة بين المبتدأ وبين خبره وهو "أحب إلي من مفروح به" أي: ما يفرح به من كل شيء.

قال القرطبي: هو كل شيء معجب له بال بحيث يفرح به كما في الحديث الآخر: أحب إلي من حمر النعم.

وقال الأبي: الشائع من كلام الفخر والأصوليين أن ذكر الحكم عقب الوصف المناسب يشعر بكونه علة فيه، وقول عائشة هذا لا يشعر بأنه علة، إذ لو أشعرته لم ترد ذلك لاختصاص سودة بذلك الوصف إلا أن يقال: إن عائشة لمحت المناط ورأت أن العلة إنما هي لرد الضعف، وهو أعم من كونه لثقل جسم أو غيره، كما قال: أذن لضعفة أهله، ويحتمل أنها قالت ذلك؛ لأنها

ص: 420

وفي رواية أبي داود والنسائي: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. فكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني عندها.

وعند مسلم: بعث أم حبيبة من جمع بليل.

وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة.

شركتها في الوصف لما روي أنها قالت: سابقته صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما ربيت اللحم سبقني "رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" ومسلم وغيرهما.

"وفي رواية أبي داود والنسائي" مخالف لقول الولي العراقي: انفرد به أبو داود من بين الأئمة الستة، وأخرجه الحاكم وقال: على شرطهما ولم يخرجاه عن عائشة أنها قالت: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة" بحذف المفعول، أي: ناسا بأم سلمة، أي: أنها ذهبت مع غيرها، أو الباء زائدة، أي: أرسل أم سلمة، قاله الولي العراقي "ليلة النحر فرمت الجمرة" أي: جمرة العقبة "قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت:" طافت طواف الإفاضة "فكان ذلك اليوم" اسم كان، وخبرها "اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني: عندها" كأن عائشة حذفت ذكر الخبر اعتمادا على العلم به، فاستعان بعض الرواة في إثباته بتعني، ويحتمل أنها ذكرته فسقط من أصله أو خفي عليه لبعده، أو نحو ذلك، قاله الولي.

وفي رواية للبيهقي: كان يومها فأحب أن توافقه أو توافيه، واحتج به الشافعي ومن وافقه على دخول وقت الرمي بنصف الليل؛ لأن في رواية أمرها أن توافي صلاة الصبح بمكة، ولا يمكن ذلك إلا إذا وقع الرمي في أوائل النصف الثاني.

وقال غيره: لا يدخل إلا بطلوع الفجر، وإنما هذا رخصة لأم سلمة خاصة، فلا يجوز لغيرها أن يرمي قبل الفجر، قاله الخطابي، ويؤيده كون ذلك اليوم يوم نوبتها منه صلى الله عليه وسلم، وله: أن يخص من شاء بما شاء.

"وعند مسلم: بعث أم حبيبة" رملة أم المؤمنين، ولفظ مسلم عن شوال: أنه دخل على أم حبيبة، فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها "من جمع" مزدلفة "بليل" ولمسلم أيضا عنها: كنا نغلس من جمع إلى منى.

"وفي رواية البخاري ومسلم" بمعناه "والنسائي" واللفظ له "عن ابن عباس، قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية لمسلم: بسحر "مع ضعفة" جمع ضعيف "أهله" أي:

ص: 421

وفي الموطأ والصحيحين والنسائي عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ فقلت: نعم، قالت: فارتحلوا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن والظعن -بالضم: النساء في الهوادج.

وقد اختلف السلف في ترك المبيت بالمزدلفة؛ فقال علقمة والنخعي والشعبي: من تركه فاته الحج، وقال عطاء والزهري وقتادة والشافعي والكوفيون

النساء والصبيان "فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة".

وعند الطحاوي عن ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة:"اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى ويرموا جمرة العقبة قبل أن يصيبهم دفعة الناس".

"وفي الموطأ" بمعناه "والصحيحين والنسائي" عن عبد الله مولى أسماء "عن أسماء" بنت أبي بكر الصديق "أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة" في حجة حجتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم "فقامت تصلي" فصلت "ساعة" من الليل "ثم قالت: يا بني" تصغير تحبيب لمولاها عبد الله بن كيسان راوي الحديث "هل غاب القمر؟ " قال الأبي: الظاهر أن سؤالها عن مغيبه لطلب الستر؛ لأنه وإن لم يدفع الناس فقد يحضر الموسم من ليس بحاج، ويحتمل أنه لتعلم ما بقي من الليل لتدفع في آخره "قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟، قلت: نعم" غاب "قالت: فارتحلوا" بكسر الحاء أمر من الارتحال.

وفي رواية مسلم: قالت: ارحل بي، وأسقط من الحديث: فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن" كذا رواه البخاري بالظن في قوله: أرانا بضم الهمزة، أي: أظننا، ورواه مسلم: لقد غلسنا بالجزم.

وفي رواية مالك: لقد جئنا منى بغلس، فقالت: قد كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك "والظعن بالضم" للظاء المعجمة والعين المهملة وقد تسكن: جمع ظعينة "النساء في الهوادج" ثم أطلق على المرأة مطلقا قاله الحافظ.

وفي شرح المصنف لمسلم: أصل الظعينة الهودج تكون فيه المرأة على البعير، سميت المرأة به مجازا واشتهر هذا المجاز حتى غلب وخفيت الحقيقة وظعينة الرجل امرأته، وفيه دلالة على أنه لا يجب البيات بالمزدلفة، إذ لو وجب لم يسقط بالعذر كوقوف عرفة.

"وقد اختلف السلف في ترك المبيت بها، فقال علقمة والنخعي" إبراهيم "والشعبي" عامر، والثلاثة من التابعين:"من تركه فاته الحج" قالوا: ويجعل إحرامه عمرة كما في الفتح.

ص: 422

وإسحاق: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف.

وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. انتهى.

ولما طلع الفجر صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة.

وفي سنن البيهقي والنسائي صحيح على شرط مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: التقط لي حصى، فالتقط له حصيات مثل

"وقال عطاء والزهري وقتادة" التابعيون "والشافعي والكوفيون وإسحاق" بن راهويه: "عليه دم ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل" مضي "النصف" الأول من الليل.

"وقال مالك:" البيات بها مستحب، و"إن مر بها فلم ينزل فعليه دم: وإن نزل" ولو بقدر حط الرحل "فلا دم عليه متى دفع. انتهى"، وحجت حديث أسماء كما علم.

"ولما طلع الفجر" صبيحة المزدلفة "صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر" أي: الصبح "حين تبين" أي: ظهر "الصبح" كما في مسلم في حديث جابر، ولفظه: وصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما، ثم اضطجع صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح "بأذان وإقامة" وما في الصحيحين وأبي داود والنسائي عن ابن مسعود: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.

فقال العلماء: معناه قبل وقتها المعتاد في كل يوم مبالغة في التبكير ليتسع الوقت لفعل ما يستقبل من المناسك؛ لأنه كان يؤخرها في غير هذا اليوم حتى يأتيه بلالا، وليس المراد أنه صلاها قبل طلوع الفجر، فإنه لا يجوز بإجماع، ويدل على ذلك رواية للبخاري عقب هذه عن ابن مسعود نفسه، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر.

وله وللنسائي: حين بزغ الفجر، وكذا قوله: إلا بجمع أراد الوقت المعتاد؛ فإنه لما أخر المغرب فصلاها مع العشاء كان وقت العشاء وقتا لها، فلم يصلها إلا بوقتها إلا أنه غير الوقت المعتاد، وقوله: إلا بجمع.

قال الولي: وكذا بعرفات أيضا في الظهرين كما عند النسائي عن ابن مسعود: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع وعرفات، فلم يحفظ راوي هذه الرواية ذكر عرفات وحفظه غيره، والحافظ حجة على الناس. انتهى.

"وفي سنن البيهقي والنسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم" ولذا أخرجه الحاكم في المستدرك، كلهم عن عبد الله بن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم قال للفضل بن عباس" أكبر ولده، وبه

ص: 423

حصى الخذف. -وهو بالمعجمتين- ولم يكسرها كما يفعل من لا علم عنده.

وفي رواية للنسائي قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس، غداة النحر وهو عليه السلام على راحلته:"هات إلقط لي"، فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال:"بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".

قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأي البغوي؛ قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح، ونص عليه الشافعي في

كان يكنى "غداة" ظرف لقال، أي: قال له أول "يوم النحر: التقط لي حصى، فالتقط له حصيات مثل حصى الخذف وهو بالمعجمتين" الأولى وهي الخاء مفتوحة والثانية ساكنة وآخره فاء، وروي بحاء مهملة وهو الرمي بالحصى بالأصابع، كانت العرب ترمي بها في الصغر لعبا تجعلها بين السبابة والإبهام من اليد اليسرى ثم تقذف بسبابة اليمنى.

وقيل: تجعلها بين السبابتين وفي أن قدرها فولة أو نواة أو دون الأنملة طولا وعرضا خلاف "ولم يكسرها" من الجبل "كما يفعل من لا علم عنده" بالسنة "من لقطها".

"وفي رواية النسائي" عن عبد الله بن عباس: "قال عليه السلام لابن عباس" أي: الفضل: "غداة النحر وهو عليه السلام على راحلته" ناقته القصواء "هات" بكسر التاء، أي: أعطني هذا أصله، لكن المراد هنا "ألقط" بضم الهمزة والقاف من باب نصر وناولني ما تلقطه "فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعت في يده" صلى الله عليه وسلم "قال: "بأمثال هؤلاء" فارموا "وإياكم والغلو" بمعجمة مضمومة "في الدين" أي: بالتشديد فيه، ومجاوزة الحد والعبث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها "فإنما هلك من كان قبلكم" من الأمم "بالغلو في الدين" والسعيد من اتعظ بغيره، وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء، أو ذمه على ما يستحقه، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلوا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف وإياهم نهى الله بقوله:{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] ، وسبب هذا النهي رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه بلغ من الصغار، ثم عله بما يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك، قاله بعض العلماء.

"قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأي البغوي قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح" عملا بظاهر هذا الحديث.

ص: 424

"الأم" و"الإملاء" لكن الجمهور كما قال الرافعي: على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه، وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمي به في الحج، وبه جزم في "التنبيه" وأقره عليه النووي في تصحيحه. لكن الأكثرون كما قال الرافعي، على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعي أيضا، قال في شرح "المهذب". والاحتياط أن يزيد فربما سقط منه شيء. انتهى.

ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس.

"ونص عليه الشافعي في الأم والإملاء، لكن الجمهور كما قال الرافعي على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه" أي: عدم شغلهم بشيء "وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمى به في الحج، وبه جزم في التنبيه وأقره النووي في تصحيحه" هو من تتمة السؤال، فحاصله هل هو الراجح أو غيره.

وفي نسخة: به جزم لا واو فهي جواب السؤال "لكن الأكثرون كما قال الرافعي على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعي أيضا، قال في شرح المهذب: والاحتياط أن يزيد" على ما يأخذ ليوم النحر "فربما سقط منه شيء. انتهى".

ثم عاد المصنف لحديث مسلم عن جابر فقال عقب قوله سابقا: حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة. "ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم القصواء" لا يخالف بين هذا وبين قوله سابقا، وهو على راحلته هات؛ لأن ركوبه كان بعد الصبح، فلما ركب قال للفضل: هات

إلخ، فلم يذكره جابر، كما أن ابن عباس لم يذكر وقت ركوبه فذكر كل واحد منهما ما لم يذكر الآخر "حتى أتى المشعر الحرام" بفتح الميم والعين كما في القرآن، وحكى الجوهري كسر الميم، وقيل: إنه لغة جميع العرب، وقال ابن قرقول: كسرها لغة لا رواية قبل لم يقرأ بها شاذا، وقيل: قرئ سمي المشعر؛ لأنه معلم للعبادة والحرام؛ لأنه من الحرم أو لحرمته وهو جبل من جبال المزدلفة "فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده" فهو أحق من يعمل بقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]"فلم يزل واقفا حتى أسفر" الفجر "جدا" حال، أي: مبالغا، أو صفة مصدر محذوف، أي: إسفارا بليغا "فدفع قبل أن تطلع الشمس".

"وفي رواية غير جابر" وهو عمر بن الخطاب: كما رواه ابن جرير الطبري عن عمرو بن

ص: 425

وفي رواية غير جابر: وكان المشركون لا ينفرون حتى يطلع الشمس، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك، فنفر قبل طلوع الشمس.

وفي حديث علي عند الطبري: لما أصبح صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: "هذا الموقف وكل المزدلفة موقف"، حتى إذا أسفر دفع.

وفي رواية جابر: وأردف صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس، قال: وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن،

ميمون، قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم قال:"وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس".

ولابن جرير أيضًا: فدفع بعد صلاة القوم المغلسين بصلاة الغداة، والحديث في البخاري عن عمرو بن ممون: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم، ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس، وعدل عنه المصنف للفظ الذي ذكره لصراحته، فإن قوله: ثم أفاض يحتمل عمر ويحتمل النبي عطفا على خالفهم، وهو المعتمد بدليل روايتي ابن جرير: وأشرق بفتح فسكون أمر من الإشراق وثبير منادى اسم جبل.

"وفي حديث علي عند الطبري: لما أصبح صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة غدا فوقف على قزح" بضم القاف وفتح الزاي وحاء مهملة جبل صغير بالمزدلفة لا ينصرف للعدل والعلمية كعمر، صرح به في النهاية وهو المشعر الحرام "وأردف الفضل" بن عباس "ثم قال: هذا الموقف" الأفضل الذي وقفت فيه "وكل المزدلفة موقف حتى إذا أسرف دفع" من قزح إلى منى، فهذا أيضا صريح في أنه دفع قبل طلوع الشمس، وبهذه الأخبار أخذ الجمهور باستحباب الوقوف إلى الإسفار واستحبه مالك قبله، واحتج له بعض أصحابه بأنه -صلى اله عليه وسلم- لم يعجل الصلاة إلا ليدفع قبل الشمس، فكل من بعد دفعه من طلوعها كان أولى.

"وفي رواية جابر" في حديثه الطويل في الحجة النبوية عند مسلم وغيرها، تلو قوله آنفا: قبل أن تطلع الشمس "وأردف صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس، وكان رجلا" هكذا ثبت لفظ رجلا في مسلم وأبي داود "حسن الشعر أبيض وسيما" بفتح الواو وكسر المهملة حسنا وضيئا، فوصفه بوصف من يفتن به "فلما دفع صلى الله عليه وسلم" من المزدلفة "مرت ظعن" بضمتين نساء "يجرين" قال المصنف: بفتح الياء وضمها وسكون الجيم "فطفق:" شرع "الفضل ينظر إليهن، فوضع

ص: 426

فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر.

وفي رواية: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:"نعم". وذلك في حجة الوداع، رواه الشيخان وغيرهما.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل" ليمنعه من النظر إليهن وخوفا عليه وعليهن من الفتنة "فحول الفضل وجهه إلى الشق" بكسر المعجمة "الآخر ينظر" إليهن "فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر" من غلبة الطبع.

"وفي رواية: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية للبخاري: على عجز راحلته "فجاءته امرأة" قال الحافظ: لم تسم "من خثعم" بفتح المعجمة وسكون المثلثة وفتح المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة "تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر" المرأة "إليه".

قال القرطبي: هذا النظر بمقتضى الطباع فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة.

"فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" الذي ليس فيه المرأة منعا له عن مقتضى الطبع وردا إلى مقتضى الشرع.

قال الأبي: الأظهر أن صرفه ليس للوقوع في المحرم كما يعطيه كلام عياض والنووي، وإنما هو لخوف الوقوع كما يعطيه كلام القرطبي وبين استفتاءها، بقوله:"إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي" لم يسم أيضا "شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة" صفة بعد صفة أو من الأحوال المتداخلة أو شيخا بدل؛ لأنه موصوف، أي: وج عليه الحج وحصل له المال في هذه الحال والأول أوجه، قاله الطيبي:"أفأحج" أي أيصح أن أنوب فأحج "عنه؟، قال: نعم" حجي عنه "وذلك في حجة الوداع".

وفي رواية للبخاري: يوم النحر.

وفي الترمذي وأحمد ما يدل على أن السؤال وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي "رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والنسائي من طرق كلها عن الزهري عن سليمان بن يسار عن

ص: 427

وقد روي أيضا من حديث عبد الله بن عباس، لكن رجح البخاري رواية الفضل؛ لأنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن الفضل حدث أخاه بما شاهد في تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده، ويؤيده ما في الترمذي: أن السؤال المذكور وقع عند المنحر، بعد الفراغ من الرمي، وأن العباس كان شاهدا.

وفيه: أنه عليه السلام لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال:"رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما من الشيطان".

عبد الله بن يسار، ثم اختلف أصحاب الزهري، فقال شعيب عنه، عن سليمان، عن ابن عباس، عن الفضل: أن امرأة.... فذكره، أخرجه الشيخان فجعله شعيب من مسند الفضل تابعه معمر عن الزهري.

"وقد روي" لعله رويا بالتثنية عائدة على الشيخين، وإلا بالتعبير بروي يوهم ضعفه وأنهما لم يروياه لقوله: قبل رواه الشيخان مع أنهما روياه "أيضا" في الصحيحين "من حديث" مالك وابن عيينة وأكثر أصحاب ابن شهاب عنه عن سليمان عن "عبد الله بن عباس" قال: كان الفضل

فذكره فجعلوه من مسند عبد الله.

"لكن رجح البخاري" فيما نقله عنه الترمذي "رواية الفضل" أي: أنه من مسنده "لأنه" ظاهره أن التعليل من الترمذي وليس كذلك، فقد قال الحافظ: وكأنه رجح هذا؛ لأنه "كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان" أخوه "عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن" بالتشديد "الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة" ومن المعلوم أن هذا اختلاف لا يضر، ولذا أخرجه الشيخان من الوجهين، إذ محصله أنه أسنده تارة وأرسله أخرى، ومرسل الصحابي له حكم الوصل.

"و" لكن ليس هذا بمتعين، فإنه "يحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، نقله تارة عن أخيه" الفضل لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده" وهذا أوجه.

"ويؤيده ما في الترمذي" من حديث جابر "أن السؤال المذكور" من الخثعمية "وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي" لجمرة العقبة "وأن العباس" والدهما "كان شاهدًا" حاضرا "وفيه؛ أنه عليه السلام لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك" أي: لم، فهو استفهام حقيقي عن حكمة ذلك "قال: "رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما

ص: 428

وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه.

وفي هذا الحديث دلالة على جواز النيابة في الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا مالك في ذلك، ولمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي. وعن أحمد روايتان. انتهى.

وفي رواية ابن عباس: أن أسامة قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى

الشيطان".

قال النووي: هذا يدل على أن وضع يده الشريفة على وجه الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنها. انتهى.

وبه رد الولي قول النووي نفسه في حديث مسلم السابق وحرمة النظر إلى الأجنبية وتغيير المنكر باليد لمن قدر عليه، فقال: إن أراد عند خوف الفتنة فهو محل وفاق، وإن أراد الأعم من خوفها وأمنها، ففي حالة أمنها خلاف مشهور للعلماء ولا يصح الاستدلال بالحديث على التحريم لاحتماله لكل منهما.

"وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه" فحدث عن مشاهدة لا أنه أرسل الحديث.

"وفي هذا الحديث دلالة على جواز النيابة في الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا لمالك في" كراهة "ذلك".

قال عياض: ولا حجة فيه على الوجوب؛ لأن قولها: إن فريضة الله لا توجب دخول أبيها في ذلك الفرض إنما ظاهر الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج مع الاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع، فسألت: هل لها أن تحج عنه ويكون له في ذلك أجر؟، ولا يخالفه قوله: نعم، وفي رواية: فحجي عنه؛ لأنه ندب وإرشاد ورخصة لها أن تفعل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها "و" خلافا "لمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر" عبد الله.

"ونقل ابن المنذر وغيره: الإجماع على أنه لا يجوز" أي: يحرم "أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي، وعن أحمد روايتان" كالمذهبين.

"وفي رواية ابن عباس" عبد الله "أن أسامة" ابن زيد "قال: كنت ردف" بكسر الراء

ص: 429

المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة. رواه الشيخان وغيرهما.

وفي رواية جابر: فلما أتى صلى الله عليه وسلم بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير قليلا.

قال الأسنوي: سببه أن النصارى كانت تقف فيه، كما قاله الرافعي، أو العرب، كما قاله في الوسيط، فأمرنا بمخالفتهم. قال: وظهر لي فيه معنى آخر، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه

وسكون الدال "النبي صلى الله عليه وسلم" على عجز ناقته "من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف" النبي صلى الله عليه وسلم "الفضل" بن عباس "من المزدلفة إلى منى، فكلاهما" أي: أسامة والفضل "قال: لم يزل" أي: استمر "النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة" أي: أتم رميها، لما رواه ابن خزيمة عن الفضل: أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة.

قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الرواية الأخرى، وأن المراد بقوله: حتى رمى جمرة العقبة، أي: أتم رميها.

وقال أبو حنيفة والشافعي: والأكثر يقطعها عند رمي أول حصاة.

وعن أحمد: روايتان.

وقال مالك: يقطعها إذا راح إلى مصلى عرفة.

قال ابن القاسم: وذلك بعد الرواح، وراح يريد الصلاة، وإليه ذهب علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص، رواه عنهم ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة وقاله الأوزاعي والليث.

قال الحافظ في ذكر أسامة: إشكال لما في مسلم عنه، وانطلقت أنا في سباق قريش على رحلي، فإن مقتضاه أن أسامة سبق إلى رمي الجمرة فيكون إخباره بالتلبية مرسلًا، لكن لا مانع أنه يرجع مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجمرة أو يقيم بها حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأيد ذلك بحديث أم الحصين الآتي "رواه الشيخان وغيرهما".

"وفي رواي جابر" في حديثه الطويل: "فلما" لفظه حتى "أتى بطن محسر" بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين موضع بين مزدلفة ومنى "حرك ناقته وأسرع السير قليلا".

"قال الإسنوي: سببه" أي: الإسراع "أن النصارى كانت تقف فيه كما قاله كما قاله الرافعي، أو العرب كما قاله في الوسيط فأمرنا بمخالفتهم، قال: وظهر ليس فيه معنى آخر" في حكمته "وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت" في قول الأصح

ص: 430

الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك. وقال غيره: وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه، وسمي وادي محسر؛ لأن الفيل حسر فيه، أي أعيى وانقطع عن الذهاب. انتهى.

ثم سلك صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. رمى من بطن الوادي، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وكان رميه صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، كما قاله جابر في رواية مسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي.

خلافه وأنهم لم يدخلوا الحرم، وإنما أهلكوا قرب أوله وأن رجلا اصطاد، ثم فنزلت نار فأحرقته، ولذا تسميه أهل مكة وادي النار، قاله في التحفة:"فاستحب فيه الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك، قال غيره: وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله" تعالى: عذابه ونقمت "بأعدائه" الكافرين "وسمي وادي محسر؛ لأنه الفيل حسر فيه، أي: أعيا" وكل وتعب "وانقطع عن الذهاب. انتهى".

"ثم سلك صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى:" جمرة العقبة، وهذا معنى قول الأصحاب: يذهب إلى عرفات في طريق ضب ويرجع في طريق الملزمين ليخالف الطريق تفاؤلا بتغيير الحال، قاله المصنف:"حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة" هذا يدل على أنه كان هناك شجرة كما في الفتح "فرماها بسبع حصيات:" بسين فموحدة "يكبر مع كل حصاة" أسقط من مسلم منها حصي الخذف.

قال المصنف: كذا في معظم الروايات، ونقله عياض عن أكثر الأصول، لكنه قال: صوابه مثل حصي الخذف، بإثبات لفظة مثل، وكذا رواه غير مسلم وهو الذي في أصل ابن عيسى.

وأجاب النووي بأن حصي الخذف متصل بحصيات، أي: رماا بسبع حصيات حصي الخذف، واعترض بينهما بقوله: يكبر مع كل حصاة منها.

قال الأبي: يريد النووي. إن حصى الخذف بدل من حصيات، والإضافة في حصى الخذف للبيان بمعنى من مثلها في خاتم حديد، وتعقبه الهروي بأن حصى الخذف وقع مشبها به، أي: كحصى أو مثل حصى، وحذف أداة التشبيه سائغ ولم يقل أحد أنه خطأ، أو أنه يحصل منه لبس، بل قال أهل البيان: إنه أبلغ "رمى من بطن الوادي وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة" حين رماها "وكان رميه صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، كما قاله جابر في رواية مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي".

ص: 431

وفي رواية أم الحصين، عند أبي داود: رأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.

وفي رواية النسائي: ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا.

وعن أم جندب: رأيته عليه الصلاة والسلام يرمي الجمرة من بطن الوادي، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل فقالوا: الفضل بن العباس. وازدحم الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف".

"وفي رواية أم الحصين:" بمهملتين مصغر الأحمسية الصحابية لم تسم، وسمى بعض الرواة أباها إسحاق، قال أبو عمر: لم أر لغيره "عند أبي داود" ومسلم، فالعزو له أولى، فإنه رواه من طريق يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته، قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فـ"رأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ" بالمد اسم فاعل "بخطام" بكسر المعجمة:"ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره" صلى الله عليه وسلم "من الحر".

وفي رواية لمسلم: من الشمس "حتى رمى جمرة العقبة".

"وفي رواية النسائي" عنها: "ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه وذكر قولا كثيرا" كأنها لم تحفظه أو لم ترد التحديث به، وهو في مسلم أيضا قبل هذه بلفظ: قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا كثيرا، ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع، حسبتها قالت: أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا.

"وعن أم جندب" الأزدية: لم تسم وهي أم سليمان بن عمرو بن الأحوص.

روى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عنها أنها قالت: "رأيته عليه الصلاة والسلام يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب" ناقته "يكبر مع كل حصاة ورجل:" مبتدأ للوصف بقوله: "من خلفه يستره" خبر، أي: من الحر.

قال الولي: أو من حصاة تقع عليه، أو ممن يزاحمه وهو لا يعرفه لكثرة الناس.

"فسألت عن الرجل، فقالوا: الفضل بن العباس" ووقع في رواي لابن سعد: العباس بن عبد المطلب، والصواب الأول كما في الإصابة.

ولابن سعد عن بعض الصحابة: أن الذي كان يظلله بلال، وجمع باحتمال أنهما كانا يتناوبان.

"وازدحم الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا" بالازدحام، ولم

ص: 432

وفي هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحل ونحوه، وقد مر أنه صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة من شعر بنمرة.

وفي رواية جابر عند مسلم وأبي داود قال: رأيته صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، وهو يقول:"خذوا عني مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".

وفي رواية قدامة عند الترمذي رأيته يرمي الجمار على ناقة له صهباء، ليس

يقصد حقيقة القتل، إذ لم يكونوا ليفعلوه، إنما أراد أذى بعضهم لبعض بالمزاحمة، فسماه قتلا مجازا بقرينة قول الراوي أولا، وازحم الناس، لكن قوله:"وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف" قد يدل على النهي عن القتل الحقيقي، بأن يرموا بحجارة كبار إذا أصابت شخصا قتلته، ولعل المراد الأمر؛ أن بناء على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، قاله الولي وأمرهم مع رميه بمثلها؛ لأنهم كلهم لم يروا رميه لكثرتهم.

"وفي هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، وقد مر أنه صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة:" خيمة "من شعر بنمرة" بفتح النون وكسر الميم الاستظلال بالخيمة والسقف مجمع على جوازه كاستظلاله بيده، إنما الخلاف في تظليله بنحو الثوب على رأسه بلا مماساة فأجازه الشافعي راكبا أو ماشيا.

وقال مالك وأحمد: لا يجوز، وأجابوا عن حديث أم الحصين ونحوه: بأنه استظلال خفيف لا يكاد يدوم.

"وفي رواية جابر عند مسلم وأبي داود، قال: رأيته صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر" ففيه استحباب رميها حين وصوله على الحالة التي وصلها عليها، إن راكبا فراكب، وإن ماشيا فماش، وقاله مالك والشافعي "وهو يقول:"خذوا عني منسككم".

وفي رواية: "لتأخذوا" بلام مكسورة بعدها فوقية، قال النووي: هذه لام الأمر ومعناها: خذوا، وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وهي مناسككم، فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس، فإني "لا أدري" ما يفعل بي "لعلي" مستأنف، أي: أظن أني "لا أحج بعد حجتي هذه" ويحتمل أن لعل للتحقيق كما يقع في كلام الله تعالى كثيرا.

وقال النووي: فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع.

"وفي رواية قدامة" بضم القاف والتخفيف ابن عبد الله بن عمار العامري الكلابي صحابي قليل الحديث، قال البغوي: سكن مكة، وقال ابن السكن: أسلم قديما، ولم يهاجر،

ص: 433

ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.

ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر

وكان يسكن نجدا وشهد حجة الوداع.

"عند الترمذي" قال: "رأيته صلى الله عليه وسلم "يرمي الجمار على ناقة له صهباء" بفتح المهملة وإسكان الهاء فموحدة فألف وبالمد حمراء يعلوها سواد، ولعل هذا لون القصواء التي كان عليها "ليس ضرب" للناس عنده "ولا طرد" للناس ليتنحوا عنه "ولا" قول "إليك إليك" كما يفعل عند المتكبرين "ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر" موضع معروف بمنى وكلها منحر كما في الحديث.

قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الاولى التي تلي المسجد، فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله: هذا المنحر وكل منى منحر.

"فنحر ثلاثا وستين بدنة" واحدة بدن، كذا رواه ابن ماهان في مسلم، ورواه غيره بيده.

قال عياض: وكل صواب وبيده أصوب.

وقال النووي: كل جرى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده الشريفة "ثم أعطى عليا فنحر ما غبر" بفتح المعجمة والموحدة والراء، أي: ما بقي من البدن وكانت مائة.

وفي أبي داود عن علي: لما نحر صلى الله عليه وسلم بدنة نحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها، وفيه أيضا عن غرفة بن الحارث الكندي: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى البدن، فقال:"ادعوا لي أبا حسن"، فدعي له علي، فقال:"خذ بأسفل الحربة"، وأخذ صلى الله عليه وسلم بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغ ركب وأردف عليا، وجمع الحافظ ولي الدين باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم انفرد بنحر ثلاثين بدنة، وهي التي ذكرت في ديث علي، واشترك هو وعلي في نحر ثلاث وثلاثين بدنة وهي المذكورة في حديث غرفة بغين معجمة مفتوحة، وقيل: مهملة، وقول جابر: نحو ثلاثا وستين، مراده: كل ما له دخل في نحره إما منفردا به أو مع مشاركة علي، وجمع الحافظ بين حديثي علي وجابر بأنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين ثم أمر عليا أن ينحر فنحر سبعا وثلاثين، ثم نحر صلى الله عليه وسلم ثلاثا وثلاثين، قال: فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح، أي: مع مشاركة على ليتئم مع حديث غرفة وإن لم يذكره.

وذكر بعضهم أن حكمة نحره ثلاث وستين بدنة بيده أنه قصد بها سني عمره، وهي ثلاث وستون عن كل سنة بدنة، نقله عياض ثم قال: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما رواه الترمذي، وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. انتهى.

وما في الصحيحين عن أنس: نحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبعة بدن، فلعلها التي اطلع هو عليها،

ص: 434

ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.

وفي رواية جابر عند مسلم: نحر عليه السلام عن نسائه بقرة.

وقالت عائشة: نحر صلى الله عليه وسلم عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة. رواه أبو داود.

ووجهت أيضا بأنه أراد سبعة أبعرة، ولذا ألحق بها الهاء، وهذا خبر من احتمال أنه ما نحر بيده إلا سبعا؛ لأن أحاديث جابر وعلي وغرفة مصرحة بخلاف.

"وأشركه" أي: عليا "في هديه" في نفس الهدي، ويحتمل في نحره:"ثم أمر من كل بدنة" من المائة "ببضعة" بفتح الموحدة وتضم وتكسر بقطعة من لحمها "فجعلت في قدر فطبخت فأكلا" أي: النبي وعلي "من لحمها وشربا من مرقها".

قال المظهري: الضمير المؤنث يعود إلى القدر؛ لأنها مؤنث سماعي.

قال الطيبي: ويحتمل عوده إلى الهدايا.

قال النووي: قالوا: لما كان الأكل من كل واحدة سنة، وفي الأكل من جميعها كلفة ومشقة، جعلت في قدر ليكون تناوله من المرق كالأكل من جميعها، واتفقوا على أن الأكل من الهدي والضحية ليس بواجب. انتهى.

ونحرها قائمة، كما يدل عليه ما في الصحيحين عن زياد بن جبير: رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مرفوع لقوله: سنة.

"وفي رواية جابر عند مسلم: نحر عليه السلام عن نسائه بقرة" أي: جنس بقرة لا بعير ولا غنم، فلا يخالف ما رواه النسائي عن عائشة، قالت: ذبح عنا صلى الله عليه وسلم يوم حجنا بقرة بقرة.

"وقالت عائشة: نحر صلى الله عليه وسلم عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، رواه أبو داود" من طريق يونس عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، وأعلها إسماعيل القاضي بأن يونس تفرد بقوله واحدة، وخالفه غيره، وتعقبه الحافظ بأن يونس ثقة حافظ وتابعه معمر عند النسائي، بلفظ: ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة.

وما روي عن النسائي عن عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة: ذبح عنا صلى الله عليه وسلم يوم حجنا بقرة بقرة، فشاذ مخالف لما تقدم. انتهى.

ولا شذوذ فيه، فإن عمار الدهني بضم المهملة وإسكان الهاء ونون ثقة من رجال مسلم

ص: 435

ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله بمنى، ثم قال للحلاق:"خذ"، وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. وفي رواية: أنه قال لحلاق: "ها"، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أم سليم. وفي أخرى: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه

والأربعة فزيادته مقبولة، فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره وزيادته ليست مخالفة لغيره، فإن رواية معمر: ما ذبح إلا بقرة أريد بها الجنس، أي: لا بعير ولا غنم حتى لا تخالف الرواية الصريحة أن عن كل واحدة بقرة، فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع، وقد أمكن فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم القاضي بشذوذها؛ لأنه انفرد بقوله واحدة، وإسماعيل من الحفاظ لا يجهل أن يونس ثقة حافظ، وإنما حكم بشذوذ روايتيه ومخالفة غيره له على القاعدة؛ أن الشاذ ما خالف الثقة فيه الملأ، بل اكتفى الحاكم بالتفرد وإن لم يخالف كما في متن الألفية.

وقد رواه البخاري في الأضاحي ومسلم من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: ضحى صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقرة، ورواه مسلم أيضا عن عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن بسنده، بلفظ: أهدى.

قال الحافظ: والظاهر أن التصرف من الرواة؛ لأنه ثبت في الحديث ذكر النحو فحمله بعضهم على الأضحية، لكن رواية أبي هريرة صريحة في أنه كان عمن اعتمر من نسائه، فقويت رواية من رواه بلفظ: أهدى، وبان أنه للتمتع، فلا حجة فيه على قول: مالك لا ضحايا على أهل منى.

"ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد رمي الجمرة إلى "منزله" الذي نزل فيه "بمنى" ونحر، كما في هذه الرواية:"ثم قال للحلاق: "خذ" وأشار بيده إلى جانبه الأيمن" لأن الحلق هنا عبادة والتيامن فيها مستحب "ثم الأيسر".

وعن أبي حنيفة: يقدم الأيسر، وأن اليمين هنا يمين الحلاق؛ لأنه من باب النزع فيبدأ فيه بالأيسر.

قال الأبي: ولا يخفى عليك أنه ليس من باب النزع بل هو عبادة، وفي بعض الطرق: أضاف اليمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر أحاديث الباب.

"ثم جعل" صلى الله عليه وسلم "يعطيه" أي: شعره "الناس" للتبرك به واستشفاعًا إلى الله بما هو منه وتقربا بذلك إليه.

"وفي رواة: أنه" عليه السلام "قال للحلاق: "ها" بألف بلا همز "وأشار بيده" الكريمة "إلى الجانب الأيمن" فيه حذف تقديره احلق فحلق "فقسم شعره بين من يليه" من الصحابة "ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه" أي: شعره "أم سليم" بنت ملحان

ص: 436

الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، م قال:"ها هنا أبو طلحة"؟ فدفعه إليه. وفي أخرى: رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس، وقال بيده عن رأسه، فحلق الشق الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم قال:"احلق الشق الآخر "، فقال:"أين أبو طلحة"؟ فأعطاه إياه. رواه الشيخان.

وعند الإمام أحمد: أنه استدعى الحلاق فقال له وهو قائم على رأسه

والدة أنس.

"وفي أخرى: فبدأ بالشق الأيمن" فحلقه "فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال: بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: "ههنا" بتقدير همزة الاستفهام "أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "فدفعه" أي: الشعر "إليه".

"وفي أخرى:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن" بضم فسكون "فنحرها والحجام جالس، وقال" أي: أشار "بيده عن رأسه" احلق "فحلق شقه الأيمن، فقسمه بين من يليه" من الناس "ثم قال: احلق الشق الآخر" الأيسر، فحلقه "فقال:"أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه" أي: المحلوق من الشق الأيسر "رواه" أي: المذكور من هذه الروايات "الشيخان" من طرق مدارها على محمد بن سيرين، عن أنس.

وفي مسلم أيضا: تلو هذه الروايات عن أنس، قال: لما رمى صلى الله عليه وسلم الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحالق شقه الأيمن، فحلق ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال:"احلق" فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال:"اقسمه بين الناس"، قال أبو عبد الله الأبي: إعطاؤه لأبي طلحة ليس بمخالف لقوله: "اقسمه بين الناس"، لاحتمال أن يكون أعطاه له ليفرقه ويبقى النظر في اختلاف الروايات في الجانب الأيسر، ففي الأولى؛ أنه فرقه كالأيمن، وفي الثاني؛ أنه أعطاه أم سليم، وفي الثالثة؛ أنه أعطاه أبا طلحة، وفي الرابعة؛ أنه أعطى شعر الشقين لأبي طلحة، فيحتمل أنه أعطاه أم سليم لتعطيه لزوجها أبي طلحة ليفرقه.

ويحتمل أنه أعطى الشعر لأبي طلحة على أن يعطيه أبو طلحة لأم سليم لتفرقه على النساء، وذكر الشعر والشعرتين يدل على كثرة الحاضرين، وفيه التبرك بآثار الصالحين. انتهى.

وليس في جمعه المذكور شفاء وإنما قسم شعره في أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتا إلى هذا المعنى؛ لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن، وفيه تخصيص الإمام الكبير بما يفرقه عليهم من عطاء وهدية ونحوهما.

"وعند الإمام أحمد أنه" صلى الله عليه وسلم "استدعى الحلاق، فقال له وهو قائم على رأسه

ص: 437

بالموسى، ونظر في وجهه، وقال:"يا معمر، أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه وفي يدك الموسى"، قال: فقلت له: أما والله يا رسول الله، إن ذلك لمن نعم الله علي ومنه؟، قال:"أجل".

وقال البخاري: وزعموا أن الذي حلق للنبي صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف. انتهى. وهو عند ابن خزيمة في صحيحه.

وعند الإمام أحمد: وقلم صلى الله عليه وسلم أظفاره وقسمها بين الناس.

وعنده أيضا: من حديث محمد بن زد، أن أباه حدثه، أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي، فلم يصبه شيء ولا صاحبه،

بالموسى ونظر في وجهه" ولفظ أحمد عن معمر: كنت أرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

الحديث، وفيه فلما نحر صلى الله عليه وسلم هديه بمنى أمرني أن أحلقه، فأخذت الموسى فقمت على رأسه فنظر صلى الله عليه وسلم في وجهي "وقال:"يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه وفي يدك الموسى" عبر بالاسم الظاهر تشريفا له بالرسالة والاستفهام تعجبي.

"قال" معمر: "فقلت له" عليه السلام: "أما" بالفتح والتخفيف "والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعم الله علي، ومنه؟ قال: "أجل" أي: نعم، وبقية خبر أحمد، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أقر لك"، قال: ثم حلقت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقر بقاف وشد الراء، أي: أثبت لك حتى تحلق.

"وقال البخاري: وزعموا أن الذي حلق للنبي صلى الله عليه وسلم" وفي نسخة: النبي، أي: شعر رأس النبي، فحذف المضاف وأقم المضاف إليه مقامه "معمر بن عبد الله" بن مالك "بن نضلة" بفتح النون وإسكان المعجمة "ابن عوف" العدوي، صحابي كبير من مهاجرة الحبشة. "انتهى".

"وهو عند ابن خزيمة في صحيحه" وأحمد من حديث معمر كما علم، ورواه الطبراني عن أم سلمة، قالت: حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر معمر بن عبد الله العدوي، وقيل: الذي حلقه خراش بن أمية بن ربيعة الخزاعي، ثم الكلبي بموحدة مصغر نسبة إلى جد له اسمه كليب، والمشهور الأول، فقد قال ابن السكن الخراش بن أمية: حديث واحد، وهو قوله: أنا حلقت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة في عمرة القضية، وقال ابن الكلبي: حلقه فيها أو في الحديبية.

"وعند الإمام أحمد: وقلم صلى الله عليه وسلم أظفاره" بعدما حل "وقسمها بين الناس" للتبرك.

"وعنده أيضا من حديث محمد بن زيد: أن أباه حدثه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر ورجل من قريش وهو" صلى الله عليه وسلم "يقسم أضاحي، فلم يصبه" أي: زيدا "شيء" من

ص: 438

فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه فأعطاه شعره، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره وأعطاه صاحبه، وكان يخضب بالحناء والكتم.

وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين، قال:"اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين، قال:"اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال:"وللمقصرين"، رواه الشيخان.

وليس فيه تعيين: هل قاله صلى الله عليه وسلم في الحديبية أو في حجة الوداع؟

قالوا: ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع؛ لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية.

الأضاحي "ولا صاحبه" القرشي لم يصبه شيء "فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه" وجعل شعره "في ثوبه، فأعطاه" أي: زيدا "شعره" أي: بعضه "فقسم منه على رجال" وبحمله على بعضه لا يخالف الأحاديث قبله، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح "وقلم أظفاره وأعطاه صاحبه" القرشي "وكان يخضب" بكسر الضاد "بالحناء" بالمد "والكتم" بفتحتين نبت فيه حمرة يخلط بالوسمة ويخضب به للسواد، والوسمة بفتح الواو وكسر السين المهملة أفصح من سكونها، نبت يخض بورقه كما في المصباح.

"وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا" أي: اصحابة، قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد "يا رسول الله" قل "و" اغفر "للمقصرين" فالعطف على محذوف يسمى العطف التلقيني، كقوله تعالى:{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، قال: ومن ذريتي؟ "قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟، قال:" بعد الثالثة" "وللمقصرين"؟ فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه، ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر "رواه الشيخان" وروياه أيضا من حديث ابن عمر بطرق، إلا أن لفظه: "اللهم ارحم المحلقين" بدل اغفر، والمعنى واحد "وليس فيه تعيين هل قاله صلى الله عليه وسلم في الحديبية" كما قاله ابن عبد البر "أو في حجة الوداع، قالوا: ولم يقع في شيء من طرقه" أي: حديث أبي هريرة "التصريح" بالموضوع ولا التصريح "بسماعه ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع؛ لأنه شهدها، ولم يشهد الحديبية" لأنه إنما جاء بعدها "وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة" بضم القاف وشد

ص: 439

وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في "السنن" ومن طريقه الطبراني في الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في المغازي.

وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث.

فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا، وأصح إسنادا، ولهذ قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين: هذه أحاديث تدل

الراء "في" كتاب "السنن" له.

"ومن طريقه الطبراني في" معجمه "الأوسط، ومن حديث المسور" بكسر فسكون "ابن مخرمة" بفتح فسكون.

"عند ابن إسحاق" محمد "في المغازي" ومن حديث أبي سعيد عند أحمد وابن أبي شيبة والطيالسي والطحاوي وابن عبد البر، بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه وغيرهما.

"وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم" مالك بن ربيعة "السلولي" بفتح المهملة وضم اللام الخفيفة، صحابي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك له في ولده، فولد له ثمانون ولدا، رواه ابن منده.

"عند أحمد وابن أبي شيبة: ومن حديث أم الحصين" السلولية "عند مسلم" أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة.

"ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة" بضم العين الأنصارية "عند الحارث" بن أبي أسامة.

ومن حديث ابن عمر، قال: حلق صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم فقال: $"اللهم ارحم المحلقين"، الحديث رواه البخاري هكذا في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر.

"فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا" لأنهم خمسة من الذين عينوا الحديبية؛ لأنهم أربعة "وأصح إسنادا" لأن بعضها في الصحيحين بخلاف الحديبية، فليس شيء منها في واحد منهما.

"ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين: هذه الأحاديث

ص: 440

على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع: قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت في الحديبية، وجزم إمام الحرمين في النهاية أن ذلك كان في الحديبية، ثم قال النووي: ولا يبعد أن يكون ذلك وقع في الموضعين. انتهى.

وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب.

قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن، لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعض وقصر بعض،

تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع" لكن الذي يدل منها إنما هو حديث أم الحصين.

أما حديث ابن عمر وأبي هريرة عند مسلم فليس فيهما تصريح بموضع، وقد صرح في فتح الباري؛ بأنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضوع، وعين في بعض طرق حديث ابن عمر عند البخاري ولم يذكر هذه الطريق مسلم.

"قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت في الحديبية، وجزم إمام الحرمين في النهاية" وكذا ابن عبد البر "أن ذلك كان في الحديبية، ثم قال النووي: ولا يبعد أن يكون ذلك وقع في الموضعين. انتهى".

وقال عياض: كان في الموضعين، هكذا في الفتح قبل قوله.

"وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين" وكلها صحيحة وإن كان بعضها أصح وأكثر، فلا يقتضي طرح غيره مع إمكان الجمع بالتعدد "إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك" أي: الوصول إليه بالقتال "فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال" من العمرة "توقفوا، فأشارت أم سلمة" لما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرها بتوقفهم وخوفه عليهم من التوقف "أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم" فقالت: اخرج ولا تكلم أحدا منهم وادع الحلاق يحلق

ص: 441

فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال:"لأنهم لم يشكوا".

وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع، فقال ابن الأثير في "النهاية": كان أكثر من حج معه صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤوسهم، شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجع صلى الله عليه وسلم فعل من لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد؛ لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابي

لك فإنهم يفعلون "ففعل فتبعوه" وحلوا "فحلق بعض وقصر بعض".

في رواية الطيالسي وابن سعد لحديث أبي سعيد: إن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة فقصرا ولم يحلقا.

قال الجلال البلقيني: فيحتمل أنهما اللذان قالا: والمقصرين "فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم" أي: ذكرته ثلاث مرات "قال: "لأنهم لم يشكوا" في أن ما فعلته أحسن مما قام في أنفسهم.

"وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية: كان أكثر من حج معه صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة" لأمره "كان التقصير في أنفسهم أخف من الحق ففعله أكثرهم، فرجح -صلى الله عليه سلم- فعل من لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى".

"قال الحافظ ابن حجر وفيما قاله نظر وإن تاعه" وافقه "عليه غير واحد؛ لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا"

ص: 442

وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن فعل الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى.

وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال:"اذبح ولا حرج"، ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم اشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج". قال: فما سئل عن شيء قدم أو أخر

ليبقى له شعر يحلقه في الحج "وقد كان ذلك في حقهم كذلك" فكان الأولى التقصير "والأولى ما قاله الخطابي وغيره؛ إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من اشهرة ومن فعل" وفي نسخة: زي "الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى" كلام الحافظ.

"وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي" أنه قال: "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم" على ناقته كما في رواية للبخاري، ولمسلم: على راحلته "في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه" وأما رواية: من روى جلس في حجة الوداع فقام رجل، فمحمولة على أنه ركب ناقته وجلس عليها فلا تخالف "فجاء رجل" قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وكانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره: كان الأعراب يسألونه، فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم "فقال: يا رسول الله لم أشعر" بضم العين، أي: أفطن، يقال: شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له، وقيل: الشعور العلم، ولم يفصح في هذه الرواية بمتعلق اشعور، وصرح به في رواية لمسلم، بلفظ: لم أشعر أن الرمي قبل الحلق "فحلقت" شعر رأسي "قبل أن أنحر" والفاء سببية، جعل الحلق مسببا عن عدم الشعور كأنه يعتذر لتقصير "فقال" صلى الله عليه وسلم: "اذبح" وفي رواية: انحر "ولا حرج" أي: لا إثم عليك.

قال عياض: ليس أمرا بالإعادة وإنما هو إباحة لما فعل؛ لأنه سأل عن أمر فرغ منه، فالمعنى افعل ذلك متى شئت، قال: ونفى الحرج بين في نفي الفدية عن العامد والساهي، وفي رفع الإثم عن الساهي، وأما العامد بالأصل أن تارك السنة عمدا لا يأثم إلا أن يتهاون فيأثم للتهاون لا للترك.

"ثم جاء رجل آخر، فقال: يا رسول الله لم أشعر" زاد في رواية لمسلم: أن الرمي قبل النحر "فنحرت" الهدي "قبل أن أرمي" الجمرة "قال: "ارم ولا حرج"، قال" عبد الله بن عمرو:

ص: 443

إلا قال: "فعل ولا حرج". رواه مسلم.

وفي رواية: حلقت قبل أن أرمي، وفي رواية: وقف صلى الله عليه وسلم على راحلته فطفق ناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل الرمي فقال صلى الله عليه وسلم:"فارم ولا حرج"، قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها

"فما سئل" صلى الله عليه وسلم "عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" لا ضيق عليك "رواه مسلم" عن يحيى بن يحيى، والبخاري في العلم عن إسماعيل.

وفي الحج عن عبد الله بن يوسف، الثلاثة عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمر، وبهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم أيضا من وجوه عن ابن شهاب بنحوه، فما هذا الإيهام من المصنف أن البخاري لم يروه مع أنه رواه في مواضع.

"وفي رواية" عند مسلم من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري بإسناده: "حلقت قبل أن أرمي" وقال آخر: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي.

وقال مالك في الأول: الفدية لإلقاء التفث قبل شيء من التحلل، وفي تقديم الإفاضة على الرمي الدم؛ لأنه خلاف الواقع منه صلى الله عليه وسلم، وقد قال:"خذوا عني مناسككم"، فخص هاتين الصورتين من عموم قول الصحابي: فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج"، ولم يثبت عنده زيادتهما في الحديث، فلا يلزم بزيادة غيره لا سيما وهو أثبت الناس في ابن شهاب ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق كما تقرر في علوم الحديث وابن أبي حفصة الذي زادهما وإن كان صدوقا، وروى له الشيخان لكنه يخطئ، بل ضعفه النسائي.

واختلف قول ابن معين في تضعيفه وتكلم فيه يحيى القطان فبطل، تعجب الطبري من مالك في حمل الحرج على نفي الإثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن وجب الترتيب ففي الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج، كذا قال وقد علم وجهه.

"وفي رواية" لمسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن عيسى؛ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: "وقف صلى الله عليه وسلم على راحلته فطفق" بكسر الفاء وفتحها شرع "ناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر" فذكر متعلق الشعور "فنحرت قبل الرمي" للجمرة، والجملة معمولة للقول التقدير نحرت قبل الرمي ولم أشعر، ولكنه قدم ما يدفع عنه اللوم ويقيم له العذر وهو عدم الشعور، ولذا عبر بفاء السببية "فقال صلى الله عليه وسلم:"فارم ولا حرج"، فما سأله سائل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل

ص: 444

إلا قال صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ذلك ولا حرج".

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو قائم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا، وفي رواية: حلقت قبل أنحر، نحرت قبل أن أرمي وأشباه ذلك.

وفي رواية: حلقت قبل أن أذبح، ذبحت قبل أن أرمي.

ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة

بعض وأشباهها إلا قال صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ذلك ولا حرج" ولذا أجمعوا على الإجزاء في جميع الصور كما يأتي.

"وفي رواية" للبخاري ومسلم من طريق ابن جريج عن الزهري، عن عيسى، عن ابن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو قائم يخطب" لفظ مسلم، ولفظ البخاري: أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب "يوم النحر" بمنى على راحلته "فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب" أظن "أن كذا وكذا قبل كذا وكذا" بكاف التشبيه وذا اسم إشارة "حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك" من الأشياء التي ظن أنها على خلاف الأصل.

"وفي رواية" لمسلم من طريق ابن عيينة عن الزهري بسنده، فقال رجل:"حلقت قبل أن أذبح" قال: "اذبح ولا حرج"، قال:"ذبحت قبل أن أرمي" قال: "ارم ولا حرج"، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال من أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، النحر قبل الرمي، الحلق قبل الرمي، الإفاضة قبل الرمي، والأوليان في حديث ابن عباس أيضا في الصحيح.

وللدارقطني من حديثه أيضا: السؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر وأبي سعيد عند الطحاوي.

وفي حديث علي عند أحمد: السؤال عن الإفاضة قبل الحلق.

وفي حديثه عند الطحاوي: السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق.

وفي حديث جابر عند ابن حبان وغيره: السؤال عن الإفاضة قبل الذبح.

وفي حديث أسامة بن شريك: السؤال عن السعي قبل الطواف وهو محمول على من سعى بعد طواف القدوم، ثم طاف طواف الإفاضة؛ فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف، أي: الركن، فهذا ما تحرر من مجموع الأحاديث، وبقيت عدة صور لم يذكرا الرواة إما اختصارا وإما؛ لأنها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة، أفاده الحافظ.

"ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء:

ص: 445

أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعي بعده.

وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق.

وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع.

ومذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث: الجواز وعدم جوب الدم لقوله عليه الصلاة والسلام للسائل: "لا حرج"، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا؛ لأن اسم الضيق يشملهما.

وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله:"لا حرج" أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه

رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعي بعده" لمن لم يكن سعى بعد طواف القدوم.

"وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق" ثم طاف طواف الإفاضة.

"وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب" وإنما اختلفوا هل هو مستحب أو واجب "وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض" أراد بالجواز الإجزاء، وبه عبر في شرحه للبخاري، إذ هو المجمع عليه، أما الجواز فمختلف فيه "إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع".

فقال مالك: يجب في موضع واحد وهو تقديم الإفاضة على الرمي، وأما تقديم الحلق على الرمي، فقال: فيه فدية صيام أو إطعام أو نسك.

وقال أبو حنيفة: الترتيب في الأربع واجب، فمن قدم أو أخر فعليه الدم.

"ومذهب الشافعي" وأحمد في أحد قوليه.

"وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث الجواز" أي: الإباحة "وعدم وجوب الدم لقوله عليه الصلاة والسلام للسائل لا حرج، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا؛ لأن اسم الضيق" الذي هو معنى الحرج المنفي "يشملهما".

"وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: لا حرج، أي: لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن

ص: 446

الفدية.

وتعقب: بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة فلا يحوز تأخير عنه.

وتمسك الإمام أحمد بقوله في الحديث: "لم أشعر" وبما في رواية يونس عند مسلم، وصالح عند أحمد:"فما سمعته يومئذ يساله عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقدم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: "افعل ولا حرج" بأنه إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه وإن كان عالمًا فلا.

قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب ابتاع الرسول في الحج لقوله: "خذوا عني مناسككم" وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل: "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. انتهى.

كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية" مع الإثم.

"وتعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولو كان واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره" عن وقتها، وقد احتج الطحاوي بقول ابن عباس: من قدم شيئا من نسكه، أو أخره، فليهرق لذلك دما، قال: وهو أحد من روي أنه لا حرج، فدل على أن المراد نفي الإثم فقط، وأجيب بأن الطريق إلى ابن عباس رواها ابن أبي شيبة وفيها إبراهيم بن المهاجر وفيه مقال.

"وتمسك الإمام أحمد بقوله في الحديث: لم أشعر، وفي رواية يونس عند مسلم وصالح" بن كيسان "عند أحمد" كلاهما عن الزهري بإسناده: "فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: "افعل ولا حرج" ومر هذا قريبا وأعاده لحكاية تمسك أحمد به لقوله الآخر الذي حكاه صاحب المغني عن الأثرم عنه "أنه إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه" أي: لا لوم "وإن كان عالما فلا" ينتفي عنه اللوم وهو الكراهة كما في الإقناع.

"قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول في الحج، لقوله: "خذوا عني مناسككم"، وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما" أي: شيء من الأربع التي تفعل يوم النحر "وقع عنه" صلى الله عليه وسلم "تأخيره" عما قدمه السائل: "قد قرنت بقول السائل: لم أشعر فيختص الحكم بهذه الحالة" أي: عدم الشعور "وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. انتهى" ما نقله من كلام ابن دقيق العيد، وبقيته كما في

ص: 447

وعن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم،

الفتح، وأيضا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز اطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة وقد علق به الحكم، فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به، إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي فما سئل

إلخ، لإشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي تعلق بما وقع السؤال عنه، وهو مطلق بالنسبة إلى حالة السائل، والملطق لا يدل على أحد الخاصين، فلا يبقى حجة في حالة العمد. انتهى.

"وعن أبي بكرة" نفيع بنون وفاء مصغر ابن الحارث الثقفي "قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر" بمنى عند الجمرة "فقال: "إن الزمان" اسم لقليل الوقت وكثيره، والمراد هنا السنة "قد استدار" استدارة "كهيئته" أي: مثل حالته، فالكاف صفة مصدر محذوف.

قال الحافظ: والمراد باستدارته وقوع تاسع الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار، وفي حديث ابن عمر عند ابن مردويه: أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته "يوم خلق الله السماوات والأرض" وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا يستحلون القتال في محرم لطول مدة التحريم بتوالي ثلاثة أشهر حرام، ثم يحرمون صفر مكانه، فكأنهم يقترضونه ثم يوفونه، وقيل: كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام ويسمونهما صفرين ثم يحرمونهما من عام قابل ويسمونهما محرمين، وقيل: بل كانوا ربما احتاجوا إلى صفر أيضا، فأحلوه وجعلوا مكانه ربيعا، ثم يدور كذلك التحريم والتحليل بالتأخير على السنة كلها إلى أن جاء الإسلام، فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى المحرم الحقيقي، واختص الحج بوقت معين، واستقام حساب السنة ورجع إلى الأصل الموضوع يوم خلق الله السماوات والأرض "السنة" العربية الهلالية "اثنا عشر شهرا".

ذكر الطبري في سبب ذلك عن أبي مالك، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، ومن وجه آخر: كانوا يجعلون السنة اثني عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، فتدور الأيام والشهور لذلك، وإنما جعل الله الاعتبار بالقمر؛ لأن ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو ظاهر مشاهد بالبصر بخلاف سير الشمس فتحتاج معرفته إلى حساب، فلم يحوجنا إلى ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا".

"منها أربعة حرم" لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، أو لتحريم القتال فيها وفسرها بقوله:"ثلاث متواليات" أي: متتابعات.

ص: 448

ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وقال: "أي شهر هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة"؟ قلنا:

قال ابن التين: الصواب ثلاثة متوالية، يعني: لأن المميز الشهر، قال: ولعله أعاد على المعنى، أي: ثلاث مدد متواليات. انتهى، أو باعتبار العدة مع أن الذي لا يذكر التمييز معه جائز فيه التذكير والتأنيث "ذو القعدة وذو الحجة" بفتح القاف والحاء قاله المصنف، ولعله الرواية "والمحرم ورجب مضر" عطف على ثلاث لا على المحرم، وأضافه إلى مضر؛ لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب ولم يكن يستحله أحد من العرب، كذا قال المصنف.

وفي فتح الباري أضافه إليهم؛ لأنهم كانوا يتمسكون بتعظيمه بخلاف غيرهم، فيقال: كانت ربيعة تجعل بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجل وشعبان ما ذكر في المحرم وصفر فيحلون رجبا ويحرمون شعبان، ووصفه بقوله:"الذي بين جمادى وشعبان" تأكيدا وإزاحة للريب الحادث فيه من النسيء، وقيل: الأشبه أنه تأسيس؛ لأنهم كانوا يؤخرون الشهر عن موضعه إلى شهر آخر فينتقل عن وقته الحقيقي، فالمعنى لا رجب الذي هو عندكم وقد أنسأتموه.

قال الحافظ: وذكرها من سنتين لمصلحة توالي الثلاثة، إذ لو بدأ بالمحرم لفات مقصود التوالي، قال: وأبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة حاصلها أن لها مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام ويتوسطه ويختم بها، وإنما ختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع لاشتمالها على عمل مال محض، وهو الزكاة وعمل بدن محض، وذلك تارة بالجوارح وهو الصلاة، وتارة بالقلب وهو الصوم؛ لأنه كف عن المفطرات، وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج، فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منها، فكان له من الأربعة الحرم شهران.

"وقال: "أي شهر هذا"؟ قال البيضاوي: يريد تذكيرهم حرمة الشهر وتقريرها في نفوسهم ليبني عليها ما أراد تقريره، وقولهم: "قلنا: الله ورسوله أعلم" مراعاة للأدب، وتحرز عن التقدم بين دي الله ورسوله، وتوقف فيما لا يعلم الغرض من السؤال عنه، وذلك من حسن أدبهم؛ لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإخبار مما يعرفونه، ولذا قالوا: "فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه" إشارة إلى تفويض الأمور كلها إليه "قال: "أليس ذا الحجة" بالنصب خبر ليس، وفي رواية: ذو بالرفع اسمها والخبر محذوف، أي: أليس ذو الحجة هذا الشهر "قلنا: بلى" هو ذو الحجة "قال: "أي بلد هذا"؟ بالتذكير "قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:"أليس البلد الحرام" مكة.

ص: 449

بلى، قال:"أي بلد هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:"أليس البلد الحرام"؟ قلنا: بلى، قال:"فأي يوم هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:"أليس يوم النحر"؟ قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم

ولفظ البخاري: في الحج، قال:"أليس بالبلدة الحرام"؟، ولفظه في الأضاحي، قال:"أليس البلدة" بالتأنيث، أي: مكة "قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: "أليس" هو "يوم النحر" الذي ينحر فيه الأضاحي في سائر الأقطار والهدايا بمنى، فيوم بالنصب خبر ليس، ويجوز رفعه اسمها وحذف الخبر، أي: هذا اليوم "قلنا: بلى" حرف مختص بالنفي ويفيد إبطاله، وتمسك به من خص النحر بيوم العيد لإضافته اليوم إلى جنس النحر؛ لأن اللام هنا جنسية فتعم، فلا يبقى نحر إلا في ذلك اليوم، وأجاب الجمهور: بأن المراد النحر الكامل المفضل وأل كثيرًا ما تستعمل للكمال نحو، ولكن البر وإنما الشديد الذي يملك نفسه.

قال القرطبي: والتمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، وفي حديث أبي بكرة: هذا أنهم قالوا: الله ورسوله أعلم، وسكتوا حتى أخبرهم.

وفي البخاري عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال:"أي يوم هذا"؟، قالوا: يوم حرام، قال:"أي بلد هذا"؟، قالوا:"بلد حرام" قال: "فأي شهر هذا"؟، قالوا: شهر حرام.. الحديث، وظاهرهما التعارض، وأجيب بأن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس، أجابوا: والذين كان فيهم أبو بكرة ردوا العلم لله ورسوله، وسكتوا حتى أخبر، فقالوا: بلى، وبأن في حديث ابن عباس اختصارا، ورواية بالمعنى، فإن بلى بمعنى يوم حرام بالاستلزام، ونقل أبو بكرة السياق بتمامه، واختصره ابن عباس وكان ذلك بسبب قرب أبي بكرة منه؛ لأنه كان آخذا بخطام الناقة كما في رواية الإسماعيلي، وباحتمال تعدد السؤال في الخطبة مرتين.

ففي حديث أبي بكرة فخامة ليست في حديث ابن عباس لزيادة لفظة: "أتدرون"، فلذا سكتوا وفوضوا إليه، وأجابوا في السؤال الآخر العاري عن قوله:"أتدرون"، وأما احتمال أنه خطب مرتين يوم النحر، فتعقب بأنه إنما خطب مرة واحدة كما دل عليه صريح الأحاديث.

قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهو مهم، وليقبلوا عليه بكليتهم ويستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذا قال بعده:"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم": جمع عرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في

ص: 450

"هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت"؟ قالوا:

نفسه أو سلفه.

وقال التوربشتي: أنفسكم وأحسابكم، فإن العرض يقال للنفس والحسب، يقال: فلان نفى العرض، أي: بريء أن يعاب، ورد بأنه لو أريد النفوس لتكرر مع الدماء، إذ المراد بها النفوس.

وقال الطيبي: الظاهر أن المراد لأخلاق النفسانية، ثم قال: والتحقيق ما في النهاية أن العرض موضع المدح والذم من الإنسان، ولذا قيل: العرض النفس إطلاقًا للمحل على الحال. انتهى، وهو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم، كذا قال الزركشي وتبعه الحافظ وغيره، وتعقبه الدماميني؛ بأن كل ذلك إنما يحرم إذا كان بغير حق، فالإفصاح به متعين والأولى أن يقدر في الثلاثة كلمة واحدة وهي لفظة انتهاك التي موضوعها تناول شيء بغير حق كما نص عليه القاضي، فكأنه قال: فإن انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم ولا حاجة إلى تقدير مع كل واحد من الثلاثة لصحة انسحابه على الجميع، وعدم احتياجه إلى التقييد بغير الحقية. "عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" زاد في بعض روايات البخاري: إلى يوم تلقون ربكم.

قال المصنف: بحر يوم من غير تنوين، ويجوز فتحه وكسره مع التنوين، والأول هو المروي. انتهى، ومناط التشبيه أن تحريم هذه الثلاثة كان ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم عادة لسلفهم، ولذا قدم السؤال عنها مع شهرتها بخلاف الأنفس والأموال والأعرض، فكانا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من البلد والشهر واليوم، فلا يرد أن المشبه أخفض رتبة من المشبه به؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع.

"وستلقون ربكم" يوم القيامة "فيسألكم عن أعمالكم" فيجازيكم عليها "ألا" بالفتح والتخفيف "لا ترجعوا بعدي" بعد فراقي من موقفي هذا، أو بعد حياتي، وفيه استعمال رجع كصار معنى وعملا.

قال ابن مالك: وهو مما خفي على أكثر النحاة، أي: لا تصيروا بعدي "كفارا" أي: كالكفار، أو لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا القتال، أو لا تكن أفعالكم شبيهة أفعال الكفار، وفي رواية:"ضلالا": جمع ضال، والمعنى واحد "يضرب بعضكم رقاب بعض" برفع بضرب جملة مستأنفة مبينة لقوله:"لا ترجعوا بعدي كفارا"، ويجوز الجزم.

قال أبو البقاء على تقدير شرط مضمر، أي: أن ترجعوا بعدي "ألا هل بلغت" وفي رواية:

ص: 451

نعم، قال:"اللهم اشهد" فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع". رواه الشيخان.

وفي رواية للبخاري: "فودع الناس".

ووقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب ووقف بالعقبة

"هل بلغت" مرتين "قالوا: نعم" بلغت "قال: "اللهم اشهد" أني أديت ما فرضته علي من التبليغ "فليبلغ الشاهد" الحاضر هذا المجلس "الغائب" عنه ما ذكر فيه أو جميع الأحكام التي سمعها "فرب مبلغ" بفتح اللام مشددة اسم مفعول بلغه كلامي "أوعى" أفهم لمعنى كلامي "من سامع" له مني.

قال الحافظ: رب للتقليل، وقد ترد للتكثير، ومبلغ بفتح اللام وأوعى نعت له، والذي تتعلق به رب محذوف تقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن يكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير، والمراد رب مبلغ عني أوعى، أي: أفهم من سامع، وصرح بذلك في رواية ابن منده بلفظ:"فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد". انتهى.

وقال المهلب: فيه أنه يأتي في الآخر من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدم إلا أن ذلك قليل؛ لأن رب موضوعة للتقليل. انتهى، أي: عند الأكثرين.

وقال جماعة: موضوعة للتكثير، واختار في المغني أنها ترد للتكثير كثيرا وللتقليل قليلا، لكن الظاهر أنها في الحديث هنا للتقليل بقوله في رواية للبخاري: فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه، ولرواية ابن منده المذكورة "رواه الشيخان" البخاري في مواضع تاما ومختصرا، ومسلم في الديات.

"وفي رواية البخاري" تعليقا، ووصله أبو داود وابن ماجه وغيرهما في آخر حديث عن ابن عمر، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم اشهد""فودع الناس" لأنه علم أنه لا يتفق له ذلك في وقعة أخرى ولا اجتماع آخر مثل ذلك، وبقية الحديث: فقالوا: هذه حجة الوداع.

"ووقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك" الوداع "ولفظه: أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له" وجعل عليها الرحل "فركب ووقف بالعقبة واجتمع

ص: 452

واجتمع إليه الناس فقال: يا أيها الناس فذكر الحديث.

وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه قال الشافعي ومن تبعه.

وخالف ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر بمنى.

ووافقهم الشافعي إلا أنه قال: بدل ثاني النحر ثالثه؛ لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر، قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف.

وتعقبه الطحاوي: بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج؛ لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعلمنا أنها لم تقصد لأجل الحج.

وقال ابن بطال: إنما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه يخطب. قال: وأما ما ذكره الشافعي: أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين؛ لأن

إليه الناس، فقال:"أيها الناس"..... فذكر الحديث" بنحوه "وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه قال الشافعي ومن تبعه، وخالف ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة سابع ذي الحجة" بمكة "ويوم عرفة بها وثاني يوم النحر بمنى، ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه؛ لأنه أول يوم النفر" بفتح النون وإسكان الفاء "وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر" أي: يوم العيد "قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف" للإفاضة.

"وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج؛ لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة ولم ينقل أحد" من رواتها كابن عمر وابن عباس وأبي بكرة؛ "أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعلمناه أنها لم تقصد لأجل الحج".

"وقال ابن بطال: إنما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك" أي: خطبة يوم النحر "من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه يخطب" فأطلق عليها اسم الخطبة "قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة

ص: 453

الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة: انتهى.

وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكره يوم عرفة، يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب. وأما قول الطحاوي: "إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من

فليس بمتعين؛ لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة" في خطبتها، وقد ذكر المالكية الأمور الأربع في جملة ما يخبرهم به في خطبة يوم عرفة. "انتهى".

"وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون" ابن عباس وأبو بكرة وابن عمر "بتسميتها خطبة فلا يلتفت لتأويل غيرهم" هذا واضح في رد قول ابن بطال: ظن الذي رآه أنه يخطب ولك أن تقول: هي خطبة، لكن ليست من خطب الحج المشروعة، إنما هي وصايا وتوديع كما أشار إليه أولا، إذ لا يصلح للخطيب المخبر بمناسك الحج أن يقول شيئًا مما ذكر في هذه الخطبة أتدرون، أي: بلد.... إلخ ونحوه.

"وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكره يوم عرفة يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة" له أن يقول: إن المناسك الأربع التي تفعل يوم النحر استغنى بتعليمهم إياها يوم عرفة؛ لأنه يتعسر خطبة تعلمهم ذلك يوم النحر، إذ المطلوب ساعة الوصول إلى الجمرة رميها عقب وصوله على أي حالة راكبا أو ماشيا، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، وكل ذلك قبل الزوال فهو يوم عمل وسفر لا يمكن بسهولة خطبة لتعليم فعل ذلك على الوجه الأكمل، فاكتفى بتعليم ذلك في يوم عرفة بخلاف ثاني يوم، فيوم قرار بمنى فشرع فيه تجديد التعليم.

"بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن" حكمة ذلك أنه "لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب" بعد هذا في الفتح، وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه؛ أن الخطبة ثاني يوم النحر، نقلت من خطبة يوم النحر وأن ذلك من عمل الأمراء، يعني بني أمية.

قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان هو الثوري، عن ابن جريج، عن الزهري، قال:

ص: 454

أسباب التحلل" فلا ينفي وقوع ذلك أو شيء منه في نفس الأمر، بل قد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عمن يقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق. انتهى.

وقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بنمعاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال

كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فشغل الأمراء فأخروه إلى الغد، وهذا وإن كان مرسلا لكنه يعتضد بما سبق، وبأن به أن السنة يوم النحر لا ثانيه. انتهى.

وكان المصنف تركه؛ لأنه قد لا يسلم له أن المراد بالأمراء بنو أمية كما ذكره بقوله، يعني بني أمية، إذ ليس ذلك في سياق الحديث، فكأنهم تركوه لفهمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد به أنه من خطب الحج المشروعة للتعليم، وإنما هي وصايا؛ ولأنه يعكر على حكمته التي أبداها من شرع تجديد التعليم بتجدد الأسباب، إذ هو لا يقول بخطبة ثاني يوم مع أن فيه تجديدًا.

"وأما قول الطحاوي إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل فلا ينفي وقوع ذلك، أو شيء منه في نفس الأمر" لاحتمال أنه وقع، ولم ينقله الراوي اعتناء بما نقله من أمر الوصية، وغاية ما يفيده هذا الاحتجاج بالاحتمال والطحاوي إنما قال لم ينقل، وإنما يرد عليه بأنه قد نقل "بل" إضراب انتقالي "قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عمن يقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق" مع روايته لحديث ابن عمرو. "انتهى".

والجواب أنه ساغ له ذلك؛ لأنه ليس فيه أنه علمهم ذلك ابتداء في تلك الخطبة، وإنما أجاب السائلين بقوله:"افعل ولا حرج"، وجواب السائل متعين في مثل ذلك.

"وقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن معاذ" بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي "التيمي" نسبة إلى جده تيم المذكور، صحابي شهد فتح مكة، وهو ابن عم طلحة بن عبد الله "قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ففتحت" بالتخفيف، وضبطه بعضهم بالتشديد "أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا" معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم "فطفق" بكسر الفاء وفتحها، أي: أخذ "يعلمهم مناسكهم" جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المعبد ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك "حتى بلغ الجمار" أي: وصل إلى ذكر حكمها، وكأنه ذكر المناسك على ترتيب وقوعها

ص: 455

بحصى الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك.

وفي رواية عن عبد الرحمن بن معاذ عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمنى ونزلهم منازلهم فقال: "لينزل المهاجرون ههنا"، وأشار إلى ميمنة القبلة، "والأنصار ههنا" وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال:"لينزل الناس حولهم".

وعن ابن أبي نجيح عن أبيه عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة

وفعلها والجمار الأحجار الصغار، سميت حمار الحج بذلك للحصى التي يرمي بها "فوضع أصبعيه السبابتين" اليمنى واليسرى "ثم قال:" "ارموا" "بحصى الخذف" أي: الحصى اصغار، أي: مثله، والخذف أن يؤخذ حصاة بين السبابتن ويرمي بها "ثم أمر المهاجرين فنزلوا بمقدم المسجد، وأمر الأنصار أن ينزلوا من" هكذا في أبي داود، لفظ: من "وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك" ففيه تقريب أهل الفضل والعلم على حسب مراتبهم في ذلك.

قال الولي العراقي: قد يسأل عن الجمع بين هذا الحديث وبين قوله عليه الصلاة والسلام: "منى مناخ من سبق"، فإنه دال على استحقاق السابق لبقعة للنزول فيها ولو كان غيره أفضل، وهو مخالف لتعيينه للمهاجرين بقعة وللأنصار بقعة، هكذا سأل وبيض للجواب.

"وفي رواية عبد الرحمن بن معاذ" الصحابي المذكور فيما قبله عند أبي داود أيضا "عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمنى ونزلهم منازلهم، فقال: "لينزل" بلام الأمر، كما في أبي داود "المهاجرون ههنا، وأشار إلى ميمنة القبلة والأنصار ههنا، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال:"لينزل الناس حولهم"" وفي الرواية الأولى: أنزل المهاجرين في مقدم المسجد والأنصار وراء المسجد.

قال الولي العراقي: وظاهرهما التنافي، فيحتاج إلى الجمع إن أمكن وإلا تعين الترجيح، ويمكن الجمع بأنه أنزل المهاجرين في ميمنة القبلة في مقدم المسجد، وأنزل الأنصار في ميسرة القبلة وراء المسجد، ويلزم عليه أن يخلو من المسجد ميسرته بكمالها ومؤخر ميمنته، فيحصل أنه صلى الله عليه وسلم أخلى ذلك لنفسه.

"وعن ابن أبي نجيح" الابن هو عبد الله المكي أبو يسار الثقفي، مولاهم ثقة من رجال الجميع، ورمي بالقدر، وربما دلس "عن أبيه" أبي نجيح، واسمه يسار المكي مولى ثقيف مشهور بكنيته وهو ثقة، روى له مسلم والسنن الثلاثة "عن رجلين من بني بكر، قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق" ظاهره مشكل، فالجمع بين أوسط.

ص: 456

رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى. رواه أبو داود.

وعن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحاء على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود أيضا.

ممتنع، فإما أنه وهم كان في بعض الأصول بين، وفي آخر أوسط، فجمع بينهما بعض الرواة وهما: لكن فيه أن الحكم على الإثبات بالخطأ يحتاج لدليل، وبأنه لا يصح أن يقال بين أيام التشريق لاقتضائه أن زمن الخطبة متخلل بينها لا منها وإنما يكون ذلك ليلا، ولم تقع الخطبة ليلا، وإما أن أوسط بدل من بين فهو نصب ظرفا لا مخفوض بالإضافة، ويرد هذا بالثاني مما رد به مما قبله، وإما أن المراد خطبهم في وسط أوسط أيام التشريق، أي: أن خطبته وقعت في الأوسط من أيام التشريق وكان ذلك بينه، أي: في أثنائه لا في أول النهار ولا في آخره، وفيه نظر؛ لأنه إذا خطب أثناءه صدق أنه خطب في أيام التشريق فلا يقال: خطب بينهما، قاله الولي العراقي.

"ونحن عند راحلته" مثلث العين ومعناه حضرة الشيء "وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى" كأنهما لم يطلعا على خطبته يوم النحر أو اطلعا ولم تكن عندهما خطبة تتعلق بالحج "رواه أبو داود" وسكت عليه فهو عنده صالح، وكذا سكت عليه عبد الحق في الأحكام، وتعقبه ابن القطان ورد تعقبه.

"وعن رافع بن عمرو" بفتح العين ابن هلال "المزني" صحابي ابن صحابي، سكن البصرة وعاش إلى خلافة معاوية "قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحاء" بفتح المعجمة ممدود إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده كما في النهاية، نقله الولي "على بغلة" أنثى البغال "شهباء" أي: بيضاء غلب بياضها على السواد، زاد في رواية لأبي داود في اللباس: وعليه برد أحمر "وعلي" بن أبي طالب "يعبر" بضم أوله وبالتشديد، أي: يبلغ "عنه".

قال الجوهري: عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه واللسان يعبر عما في الضمير، أو المراد يفسر عبارته ويشرحها مأخوذ من عبارة الرؤيا وهو تفسيرها، أو المراد يفهمها للناس من عبرت الكتاب أعبره، والأول هو الظاهر المتعين وفيه منقبة لعلي، ولا يخالف قوله: ففتحت أسماعنا الحديث السابق لاحتمال أن هذه خطبة غير تلك؛ لأنه خطب بمنى غير مرة، أو المعجزة إنما هي في حق من لم يحضر المجلس، فأما من حضره فكان يسمع السمع المعتاد، فربما يخفى عليه كلمة ونحوها لشغل أو ثقل سمع أو جهل بتلك اللغة التي خاطبهم بها صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خلق كثير

ص: 457

وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن قال: حدثتني جدتي سراء بنت نبهان، وكانت ربة بيت في الجاهلية، قالت: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"أليس أوسط أيام التشريق"؟ وفي رواية: خطب أوسط أيام التشريق. رواه أبو داود أيضا.

من قبائل شتى، وهذه الخطبة غير المذكورة قبلها لقوله: على راحلته وهنا على بغلة، قاله الولي العراقي ملخصًا.

"والناس بين قائم وقاعد" لكثرتهم، فكان البعيد يقف ليراه ويسمع كلامه صلى الله عليه وسلم "رواه أبو داود أيضا" ورواه النسائي والبغوي والطبراني وغيرهم عنه مطولًا، قال: أقبلت مع أبي وأنا غلام وصيف أو فوق ذلك في حجة الوداع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على بغلة شهباء، وعلي بن أبي طالب يعبر عنه والناس من بين جالس وقائم، فجلس أبي وتخللت الركاب حتى أتيت البغلة، فأخذت بركاته ووضعت يدي على ركبته، فمسحت حتى الساق حتى بلغت بها القدم، ثم أدخلت كفي بين النعل والقدم فيخيل إلي الساعة أني أجد برد قدمه على كفي.

"وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن" الغنوي بفتح الغين المعجمة والنون، ذكره ابن حبان في الثقات "قال: حدثتني جدتي سراء" بفتح السين المهملة وشد الراء مع المد، وقيل: القصر كما في التقريب، وفي الإصابة بتشديد الراء مقصورة، ويقال: بالمد، قاله ابن الأثير "بنت نبهان" بفتح النون وسكون الموحدة ابن عمرو الغنوية الصحابية، وروت عنها أيضا ساكنة بنت الجعد حديثا آخر، رواه ابن سعد وقال: روت أحاديث بهذا الإسناد "وكانت ربة" أي: صاحبة "بيت" ومنزل "في الجاهلية" ما قبل الإسلام، والمراد أنها كبيرة السن، أدركت الجاهلية منفردة ببيت قاله الولي العراقي.

وقال ابن رسلان: ربة بيت، أي: قائمة على الضيم في الجاهلية. ا. هـ، فإن كان ذلك الواقع وإلا فالصواب ما قال الولي.

"قالت: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس" بضم الراء والهمز، سمي بذلك حادي عشر الحجة؛ لأنهم كانوا يذبحون يوم النحر ثم يطبخون الرؤوس تلك الليلة فيبكرون على أكلها "فقال:"أي يوم هذا"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"أليس أوسط أيام التشريق"؟ وفيه أدب الصحابة معه وسكوتهم عن الجواب فيما يشكل عليهم.

"وفي رواية: خطب أوسط أيام التشريق، رواه أبو داود أيضا" أي: المذكور من الروايتين، وسكت عليه إلا أن الأولى عنده مسندة، وأما الثانية فمعلقة، ولفظه عقب المسند، قال أبو داود: وكذلك عم أبي حرة الرقاشي أنه خطب أوسط أيام التشريق.

ص: 458

ثم ركب صلى الله عليه وسلم قبل الظهر فأفاض إلى البيت فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة والركن والصدر.

وفي البخاري: ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى.

وصله الطبراني من طريق قتادة عن أبي حسان. وقال ابن المديني في "العلل": روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحمد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام. فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه، عن أبيه عن قتادة حدثني أبو حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى الحديث.

قال الولي: أخرجه أحمد عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ودعته الناس، فذكر حديثا طويلا في خطبته وأبو حرة بضم المهملة وشد الراء المفتوحة وتاء تأنيث اسمه حنيفة، ذكره أبو حاتم وغيره، ضعفه ابن معين ووثقه أبو داود وعمه صحابي.

قال البغوي: بلغني أن اسمه خزيم بن حنيفة. ا. هـ، وقيل: عمر بن حمزة، أفاده ابن فتحون. "ثم ركب صلى الله عليه وسلم" من منى "قبل الظهر فأفاض" أي: رجع "إلى البيت فطاف طواف الإفاضة" أي: طواف الرجوع من منى إلى مكة "وهو طواف الزيارة" أي: زيارة الحاج البيت "والركن" الذي لا يجبر تركه بشيء "والصدر" بصاد ودال مهملتين مفتوحتين، قال الرافعي: والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع.

"وفي البخاري يذكر" بضم أوله وفتح ثالثه "عن أبي حسان" بالصرف وعدمه مسلم بن عبد الله العدوي البصري، صدوق، رمي برأي الخوارج، قتل سنة ثلاثين ومائة، روى له مسلم حديثين عن ابن عباس غير هذا، وروى له الأربعة وعلق له البخاري.

"عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى" قال الحافظ: "وصله الطبراني من طريق قتادة عن أبي حسان".

"وقال ابن المديني في العلل: روى قتادة حديثا غريبا لا نعرفه عن أحمد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام ولم أسمعه منه، عن أبيه، عن قتادة: حدثني أبو حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى".

وقال الأثرم: قلت لأحمد: تحفظ عن قتادة هذا "الحديث"، فقال: اكتبوه من كتاب

ص: 459

وأتى صلى الله عليه وسلم زمزم، وبنو عبد المطلب يسقون عليها، فقال:"انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم"، فناولوه دلوا منها فشرب منه.

وفي رواية ابن عباس: فشرب وهو قائم، وفي رواية: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير، لكن لم يعين فيها حجة الوداع ولا غيرها، إنما التعيين في

قلت: فإن هنا إنسانا زعم أنه سمعه من معاذ فأنكر ذلك، وأشار الأثرم بذلك إلى إبراهيم بن محمد بن عرعرة، فإن من طريقه أخرجه الطبراني بهذا الإسناد، ولرواية أبي حسان ليس هو من شرط البخاري شاهد مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة "وأتى صلى الله عليه وسلم" بعد فراغه من طواف الإفاضة "زمزم وبنو عبد المطلب يسقون عليها" أي: يفرقون منها بالدلاء ويصبونه في الحياض ويسقونه الناس "فقال:" لهم "انزعوا" بكسر الزاي، يقال: نزع بالفتح ينزع بالكسر، والأصل في فعل الذي عينه أو لامه حرف حلق فتح مضارعه، ولم يأت الكسر إلا في نزع ينزع والنزع الاستقاء أي: اسقوا "بني عبد المطلب، فلولا" خوفي "أن يغلبكم الناس على سقايتكم" بأن يزدحموا على النزع بحيث يغلبونكم ويدفعونكم لاعتقادهم أن النزع والاستقاء من مناسك الحج "لنزعت معكم" لكثرة فضيلة ذلك.

وقيل: قال ذلك شفقة على أمته من الحرج والمشقة، والأول أظهر وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العباس، كبقاء الحجابة لبني شيبة، إذ لو استعمله الناس معهم لخرج عن اختصاصه بهم "فناولوه" صلى الله عليه وسلم "دلوا منها فشرب منه" يستحب الشرب منها والإكثار، وقد صح مرفوعا ماء زمزم لما شرب له وشربه جماعة من العلماء لمآب فوجدوها.

قال ابن العربي: شربناه للعلم، فليتنا شربناه للورع، وأولى ما يشرب لتحقيق التوحيد والموت عليه.

"وفي رواية ابن عباس" عند البخاري من طريق عاصم عن الشعبي أن ابن عباس حدثه، قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم "فشرب وهو قائم" ففيه جواز الشرب قائما، وقوله:"وفي رواية" حشو موهم أنها رواية أخرى مع أنه من جملة حديث البخاري، عقب قوله: وهو قائم، قال عاصم:"فحلف عكرمة" بالله "ما كان" صلى الله عليه وسلم "يومئذ" أي: يوم سقاه ابن عباس من زمزم "إلا على بعير" فكيف يكون قائما.

وعند ابن ماجه عن عاصم، فذكرت ذلك لعكرمة بالله ما فعل، أي: ما شرب قائما؛ لأنه كان حينئذ راكبا، وإنما حلف؛ لأنه خلاف ما رواه، أعني: عكرمة عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أتى

ص: 460

رواية جابر عند مسلم.

واختلف أين صلى صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ؟، ففي رواية جابر عند مسلم: أنه عليه السلام صلى بمكة، وكذا قالت عائشة.

وفي حديث ابن عمر -في الصحيحين- أنه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى.

فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة؛ لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد؛ ولأن عائشة أخص الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها؛ ولأن سياق الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليست لغيره؛ ولأن سياق جابر لحجته صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها أتم سياق، وأحفظ للقصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتى أقر منها ما لا يتعلق

زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه، رواه البخاري، وأجيب بأنه قد روي أبو داود عن عكرمة نفسه، عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أناخ فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكره لنهيه عنه، لكن في البخاري عن علي أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما "لكن لم يعين فيها" أي: رواية ابن عباس لا من طريق عكرمة ولا من طريق الشعبي "حجة الوداع ولا غيرها" فتح مكة "إنما التعيين في رواية جابر عند مسلم" يعني: فلولاها لأمكن الجمع بأنه في إحداهما شرب وهو على البعير، وفي الأخرى قائما، وقد علم الجمع بإمكان أنه لما نزل وصلى شرب قائما فلا خلاف.

"واختلف أين صلى؟ " النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ" أي: يوم النحر "ففي رواية جابر عند مسلم، أنه عليه السلام صلى بمكة" ولفظه: فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، وكذا قالت عائشة عند أبي داود وغيره.

"وفي حديث ابن عمر في الصحيحين؛ أنه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى" فهذا تعارض "فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له" أي: مؤلة فيها "قول عائشة وجابر وتبعه على ذلك جماعة" بأربعة أوجه "لأنهما اثنان وهما أولى من الواحد، و" ثانيها "لأن عائشة أخص الناس به ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، و" ثالثها: "لأن سياق جابر لحجته صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها أتم سياق و" هو "أحفظ للقصة، وضبطها حتى ضبط جزئياتها حتى أقر" بقاف وراء ثقيلة، أي: أثبت "منها ما لا يتعلق بالمناسك".

ص: 461

بالمناسك، وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوءا خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو لضبط مكان صلاته الظهر يوم النحر أولى، وأيضا: فإن حجة الوداع كانت في "آذار" وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بها بدنة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض، وطاف وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر ممنها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر في فصل آذار.

ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر: بأنه لا يحفظ عنه في حجته صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه بمكة، وبأن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من إفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، فإن رواته أحفظ وأشهر، وبأن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارا، وفي رواية عنها: أن أخر الطواف إلى الليل، وفي رواية عنها: أنه أفاض من آخر يومه، فلم تضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة.

وفي نسخة: حتى أمرا منها، أي: حتى ضبط أمرا لا يتعلق بالمناسك "وهو نزوله في الطريق، فبال عند الشعب وتوضأ وضوءا خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط صلاته الظهر يوم النحر أولى و" رابعها "أيضا، فإن حجة الوداع كانت في آذار وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس ونحر بها بدنة" المائة "وقسمها وطبخ له من لحمها وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب، ثم أفاض وطاف وشرب من ماء زمزم ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى مني بحيث يدرك الظهر في فصل آذار" بهمزتين فذال معجمة فألف فراء.

قال في القاموس: الشهر الادس من الشهور الرومية "ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر" بأمور أربعة: أحدهما: "بأنه لا يحفظ عنه في حجته صلى الله عليه وسلم؛ أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه بمكة، و" الثاني: "بأن حديث ابن عمر متفق عليه" أي: رواه البخاري ومسلم "وحديث جابر من إفراد مسلم" التي انفرد بها عن البخاري فحديث ابن عمر أصح منه: فإن رواته أحفظ وأشهر" ولاتفاق الشيخين عليه. "و" الثالث: "بأن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارا".

"وفي رواية" لأحمد وأبي داود والترمذي "عنها: أنه" صلى الله عليه وسلم "أخر الطواف إلى الليل،

ص: 462

وأيضا: فإن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر. انتهى.

ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى

وفي رواية" عند أبي داود "عنها: أنه" صلى الله عليه وسلم "أفاض" أي: طاف طواف الإفاضة "من آخر يومه" والجمع وإن أمكن بين رواياتها الثلاث بأن قولها إلى الليل، أي: إلى قربه بدليل قولها في الرائية الثانية من آخر يومه وذلك بالنهار، وهو الرواية الأولى " فلم تضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصلاة" فتقدم رواية من ضبط.

"و" الرابع: "أيضا بأن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق" بن يسار "عن عبد الرحمن بن القاسم" بن محمد، عن أبيه، عنها "وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به" أي: بروايته، فمنهم من لم يحتج به وطعن فيه كثير من الأئمة، ومنهم من احتج به بشرط أن يصح بالسماع؛ لأنه مدلس، فهنا لا حجة به اتفاقا "و" ذلك أنه "لم يصرح به بالسماع، بل عنعنه" أي: الحديث، فقال عن عبد الرحمن بن القاسم:"فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر" لأن رواته ثقات حفاظ مشاهير. "انتهى".

وقد جمع النووي بين الحديثين أي: حديث جابر وابن عمر باحتمال أنه صلى الظهر بمكة أول الوقت، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى، كذا قال بناء على مذهبه من صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، ثم ذكر أنه طاف قبل الزوال، قال: وما ورد عن عائشة وغيرها أنه أخر الزيارة إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة، قال: ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث.

وتعقبه الولي بأن ظاهر حديث أبي داود، عنها: أفاض من آخر يومه حين صلى الظهر أنه طاف بعد صلاة الظهر، أي: حين فرغمنها لا حين شرع فيها، إذ لا يجمع بين الصلاة والطواف في زمن واحد.

"ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فمكث" بفتح الكاف وضمها "بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة" أي: جنسها، إذ المراد الثلاث جمرات كما صرح به بعد "إذا زالت الشمس" فورا، زاد ابن ماجه: قدر ما إذا فرغ رميه صلى الظهر.

قال الولي: فذكر مكثه الليالي ورميه الجمرة بالنهار، فكان ينبغي أن يقول ليالي أيام

ص: 463

والثانية، فيطيل القيام فيهما ويتضرع، ويرمي الثالثة فلا يقف عندها. رواه أبو داود من حديث عائشة.

وعن ابن عمر -عند الترمذي: كان صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا.

وفي رواية أبي داود: وكان يستقبل القبلة في الجمرتين الدنيا والوسطى، ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي الحديث.

واستأذنه صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل

التشريق وأيامها، والجواب أنه إنما اقتصر على الليالي؛ لأن بها يقع التاريخ، وأيضا؛ فإنه أتم الليالي الثلاث بخلاف الأيام فلم يتمها، بل ارتحل في أثناء اليوم الثالث "كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة".

وفي الصحيح عن ابن عمر: يكبر على أثر كل حصاة "ويقف عند الأولى" التي تلي مسد الخيف "والثانية: فيطيل القايم فيهما" إلا أنه في الأولى أكثر، ولابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء، قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة "ويتضرع" يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء، وفي الصحيح عن ابن عمر: ويدعو "ويرمي الثالثة" جمرة العقبة "فلا يقف عندها" قيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو الأصح: أن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى الثالثة فرغت العبادة، والدعاء فيها أفضل منه بعد فراغها "رواه أبو داود من حديث عائشة" قالت: أفاض صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فذكره، وفيه ابن إسحاق، لكن المنكر منه إنما هو أوله كما مر، وأما بقيته فله شواهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود وابن عمر.

"وعن ابن عمر عند الترمذي: كان صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمار" الثلاث "مشى إليها ذاهبا وراجعا"، فأما الجمرة الت ترمى وحدها يوم النحر فرماها وهو راكب كما عند أحمد وغيره.

"وفي رواية أبي داود" عن ابن عمر: "وكان يستقبل القبلة في الجمرتين الدنيا" قال الحافظ: بضم الدال وكسرها، أي: القريبة إلى جهة مسجد الخيف وهي أول الجمرات التي ترمى من ثاني يوم النحر "والوسطى ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي".

وكذا رواه ابن مسعود في الصحيحين، ولابن أبي شيبة وغيره عن عطاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلو إذا رمى الجمرة وجمع الحافظ بينهما بإمكان أن التي ترمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة؛ لأنها عند الوادي بخلاف الجمرتين الأخيرتين، ويوضحه قوله في حديث بن مسعود: حين رمى جمرة العقبة استبطن الوادي

"الحديث" وهو في البخاري مطولا.

"واستأذنه صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى" ليلة الحادي عشر

ص: 464

السقاية فأذن له، رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر، وفي رواية الإسماعيلي: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته.

وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بـ"الرخصة" يقتضي أن يقابلها: العزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن وبالوجوب قال الجمهور:

وفي قول للشافعي، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة.

ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف.

ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس؟ الصحيح العموم، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين.

والليلتين بعدها، ووقع عند أحمد أن يبيت تلك الليلة بمنى وكأنه عنى ليلة الحادي عشر؛ لأنها تعقب يوم الإفاضة، قاله الحافظ:"من أجل السقاية" أي: سقايته المعروفة بالمسجد الحرام "فأذن له" ففيه استئذان الأمراء والكبراء في المصالح الطارئة وبدار من استؤذن إلى الإذن عند ظهر المصلحة "رواه البخاري ومسلم" وغيرهما "من حديث ابن عمر" عبد الله.

"وفي رواية الإسماعيلي" عنه: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته" فعبر برخص "وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة" فيدل على الوجوب "وأن الإذن وقع للعلة المذكورة" السقاية "وإذا لم توجد، أو ما في معناها" كالرعاء "لم يحصل الإذن" لأن الحكم يدور مع العلة "وبالوجوب".

"قال الجمهور" ومنهم مالك والشافعي وأحمد في رواية "وفي قول للشافعي وهو رواية عن أحمد" وهي الصحيحة في مذهبه "وهو مذهب الحنفية أنه سنة" واستدلوا بأنه لو كان واجبا لما رخص للعباس وفيه نظر كما علم "ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف" فمن أوجبه أوجب الدم ومن لم يوجبه فلا "ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل" وإنما اكتفى بساعة ليلة المزلفة لكثرة المشقة التي قبلها والتي بعدها، فسومح في التخفيف للمشقة "وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس" فلو عمل غيره سقاية لم يرخص له في المبيت لأجلها كما قيل به وهو جمود، وقيل: يدخل معه آلة، وقيل: فريقه وهم بنو هاشم "الصحيح العموم" فلا يختص بالعباس "والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين" قال الحافظ: وهل يختص ذلك بالماء أو يلحق به ما في معناه من الأكل وغيره محل احتمال.

ص: 465

وجزم الشافعي، بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعهده، بأهل السقاية، كما جزم الجمهور: بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد.

قالوا: ومن ترك المبيت لغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة.

ثم أفاض صلى الله عليه وسلم بعد ظهر يوم الثلاثاء -بعد أن أكمل رمي أيام التشريق، ولم يتعجل في يومين- إلى المحصب، وهو الأبطح، وحده: ما بين الجبلين إلى

"وجزم الشافعي بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعهده بأهل السقاية" فلا دم عليهم في ترك المبيت؛ لأنهم أصحاب أعذار فأشبهوا أهل السقاية "كما جزم الجمهور بإلحاق الرعاء" بكسر الراء والمد: جمع راع "خاصة" دون أولئك، لكنهم لم يجزموا بذلك بالإلحاق، إنما هو بالنص الذي رواه مالك وأصحاب السنن الأربع.

وقال الترمذي: حسن صحيح عن عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر.

وفي لفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما "وهو قول أحمد" واختيار ابن المنذر.

وقال المالكية: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء والسقاية، كما جزم به في الطراز المذهب؛ لأنهما الوارد فيهما الرخصة، وأما الخائف ومن بعده فلا إثم عليهم للعذر، وأما الدم فعليهم كمن حلق رأسه وهو محرم للعذر فلا إثم عليه، وعليه الفدية والعذر إنما يرفع الإثم لا الدم إلا فيما ورد النص فيه.

"قالوا" ضمير للمالكية، فأصل العبارة في فتح الباري.

وقال المالكية: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء.

قالوا: "ومن ترك المبيت لغير عذر" خاص وهو الرعاية والسقاية "وجب عليه دم عن كل ليلة".

وقال الشافعي: عن كل ليلة إطعام مسكين، وقيل: عنه التصدق بدرهم، وعن الثلاث دم وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه.

وعن الحنفية: لا شيء عليه، هذا بقية كلام الفتح "ثم أفاض" دفع "صلى الله عليه وسلم بعد ظهر يوم الثلاثاء بعد أن أكمل رمي أيام التشريق ولم يتعجل في يومين" لأنه الأفضل "إلى المحصب" بضم الميم وفتح الحاء والصاد الثقيلة مهملتين وموحدة "وهو الأبطح" ويقال له: البطحاء أيضا وهو مكان متسع بين مكة ومنى وهو إليها أقرب "وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة وهو

ص: 466

المقبرة، وهو خيف بني كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، قال أبو رافع: لم يأمرني صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكني جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل: رواه مسلم.

وفيه وفي البخاري، عن أنس أنه عليه السلام صلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح.

وفيهما من حديث أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من الغد يوم النحر"، وهو بمنى:"نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة"، حيث تقاسموا على الكفر، يعني بذلك

خيف بني كنانة".

قال عياض: وإلى منى يضاف، ودليله قول الشافعي وهو عالم مكة وأحوازها:

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بقاطن خيفها والناهض

قال الأبي: وإنما يصح الاحتجاج به إذا جعل من منى في موضع الصفة للمحصب، أما إذا علق براكبا فلا حجة فيه، وأبين منه قول مجنون بني عامر:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى

فهيج لوعات الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى طائرا كان في صدري

قال: وظاهر قول مالك في المدونة إذا رحلوا من منى نزلوا بأبطح مكة وصلوا

إلخ، أنه ليس من منى "فوجد" مولاه "أبا رافع" اسمه أسلم في أشهر الأقوال العشرة "قد ضرب قبته" خيمته وكانت من شعر كما مر "وكان" أبو رافع "على ثقله" بفتح المثلثة والقاف، أي: متاعه "قال أبو رافع: لم يأمرني صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكني جئت فضربت فيه قبته" توفيقا من الله "فجاء فنزل، رواه مسل" وأبو داود وغيرهما.

"وفيه" أي: مسلم.

"وفي البخاري عن أنس؛ أنه عليه السلام صلى الظهر والعصر يوم النفر" بفتح النون وإسكان الفاء الانصراف من منى "بالأبطح".

قال الحافظ: لا ينافي أنه لم يرم إلا بعد الزوال؛ لأنه رمى فنفر ونزل المحصب فصلى الظهر به.

"وفيهما" أي: الصحيحين "من حديث" الأوزاعي عن الزهري، عن أبي سلمة، عن "أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من الغد يوم النحر" نصب على الظرفية "وهو بمنى" أي: قال: في غداة يوم النحر حال كونه بمنى، ومقوله:"نحن نازلون غدا خيف".

ص: 467

المحصب. وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن ابن عباس قال: ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ليس التحصيب من أمر المناسك الذي يلزم فعله، لكن لما نزل به صلى الله عليه وسلم كان

وفي رواية: بخيف "بني كنانة" والمراد بالغد هنا ثالث عشر ذي الحجة؛ لأنه يوم النزول بالمحصب فهو مجاز في إطلاقه كما يطلق أمس على الماضي مطلقا، وإلا فثاني العيد هو الغد حقيقة وليس مرادًا، قاله الكرماني "حيث تقاسموا:" تحالفوا "على الكفر" حال من فاعل تقاسموا، أي: في حال كفرهم "يعني بذلك المحصب" بوزن محمد "وذلك أن قريشا وكنانة" فيه إشعار بأن كنانة من ليس قرشيا، إذ العطف يقتضي المغايرة، فيترجع القول بأن قريشًا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم من ولد كنانة.

نعم لم يعقب النضر غير مالك ولا مالك غير فهر، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلذا وقعت المغايرة، قاله الحافظ.

"تحالفت" بحاء مهملة، والقياس تحالفوا، لكن أتى بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة "على بني هاشم وبني المطلب" أخي هاشم؛ "أن لا يناكحوهم" فلا تتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم وأخيه، ولا يزوجوا امرأة من نسائهم لأولاد أحد من الأخوين "ولا يبايعوهم" لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، ولأحمد: ولا يخالطوهم، وللإسماعيلي ولا يكون بينهم وبنه شيء وهي أعم "حتى يسلموا" بضم فسكون فكسر مخففا "إليهم النبي صلى الله عليه وسلم".

قال الحافظ: يختلج في خطري أن قوله، يعني: المحصب، إلى هنا من قول الزهري أدرجه في الخبر، فقد رواه شعيب في هذا الباب، يعني باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة من كتاب الحج وإبراهيم ابن سعد كما للبخاري في السيرة، ويونس عنده في التوحيد، كلهم عن ابن شهاب مقتصرين على المرفوع منه إلى قوله: على الكفر، ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك. ا. هـ، وبه تعلم تسامح المصنف في العزو لهما.

"و" في الصحيحين أيضا "عن ابن عباس، قال: ليس التحصيب" النزول في المحصب "بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ليس التحصيب من أمر المناسك الذي يلزم فعله" إنما هو منزل نزله للاستراحة بعد الزوال، فصلى به الظهرين والعشاءين.

وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة: نزل الأبطح ليس بسنة إنما نزله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج، أي: أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوعب في ذلك البطيء والمتعذر، ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة.

ص: 468

النزول به مستحبا اتباعا له، لتقريره على ذلك. وقد فعله الخلفاء بعده، كما في مسلم.

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به، رواه البخاري.

وهذا هو طواف الوداع، ومذهب الشافعي أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح: وهو قول أكثر العلماء.

وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء بتركه.

واختلف في المرأة إذا حاضت بعدما طافت طواف الإفاضة، هل عليها طواف الوداع أم لا؟ وكان ابن عباس يرخص لها أن تنفر إذا أفاضت وكان ابن

"لكن لما نزل صلى الله عليه وسلم به كان النزول به مستحبا اتباعا له لتقريره" أبا رافع "على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده كما في مسلم" عن ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح، وفيه أيضا عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة.

قال نافع: وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده.

قال الحافظ: فالحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك، فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا الإلزام بذلك.

"وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم -صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب" متعلق بقوله: صلى، وقوله: ثم رقد، عطف عليه "ثم ركب إلى البيت فطاف به" للوداع، فيستحب أن يصلي به الأربع صلوات ثم يرقد بعض الليل وإن لم يكن ذلك من المناسك، إذ لا يخلو شيء من أفعاله صلى الله عليه وسلم عن حكمة "رواه البخاري".

وعنده نحوه من حديث ابن عمر: "وهذا هو طواف الوداع" بفتح الواو ويسمى طواف الصدر بفتح الدال؛ لأنه يصدر عن البيت، أي: يرجع إليه.

"ومذهب الشافعي أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح وهو قول أكثر العلماء، وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء" يلزم "بتركه" لا دم ولا غيره.

"واختلف في المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة" الذي هو الركن "هل عليها طواف الوداع أم لا؟ " وإذا وجب هل يجبر بدم أم لا؟، كما في الفتح.

وفي البخاري ومسلم عن ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف

ص: 469

عمر يقول في أول أمره: إنها لا تنفر، ثم قال في آخر أمره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن. رواه الشيخان.

وعن عائشة: أن صفية بنت حيي حاضت بعد أن أفاضت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم

عن الحائض.

وفي مسلم عن ابن عباس: كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت".

"وكان ابن عباس يرخص لها" لفظ الصحيحين عن طاوس عن ابن عباس، قال: رخص للحائض.

وفي النسائي عنه: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للحائض "أن تنفر" بكسر الفاء "إذا أفاضت:" طافت للإفاضة قبل أن تحيض.

"وكان ابن عمر يقول في أول أمره: أنها لا تنفر" حتى تطهر وتطوف للوداع "ثم قال في آخر أمره" قبل موته بعام، وهذا نقل بالمعنى، فلفظ الصحيح قال، أي طاوس: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعد:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن، رواه الشيخان".

قال الحافظ: هذا من مراسيل الصحابة، فإن ابن عمر لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك ما رواه النسائي والطحاوي عن طاوس؛ أنه سمع ابن عمر يسأل عن النساء إذا حضن قبل النفر وقد أفضن يوم النحر، فقال: إن عائشة كانت تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن وذلك قبل موته بعام.

"وفي رواية الطحاوي: قبل موت ابن عمر بعام".

"ولابن أبي شيبة؛ أن ابن عمر كان يقيم على الحائض سبعة أيام حتى تطوف طواف الوداع".

قال الشافعي: كأن ابن عمر سمع الأمر بالوداع ولم يسمع بالرخصة أولا، ثم سمع الرخصة فعمل بها".

"وعن عائشة: أن صفية بنت حيي" أم المؤمنين "حاضت" في أيام منى ليلة النفر من منى كما في رواية للشيخين عن عائشة، وذلك "بعد أن أفاضت" يوم النحر، كما في رواية البخاري.

"فذكر" كذا في النسخ بالبناء للمفعول، وفي الصحيح: فذكرت بسكون الراء وضم التاء، أي قالت عائشة: فذكرت "ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" ففي رواية للبخاري: فقلت: يا رسول الله إنها حائض "فقال: "أحابستنا هي"؟ بهمزة الاستفهام "فقالوا" ولفظ الموطأ: فقيل: "إنها قد

ص: 470

فقال: "أحابستنا هي"؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال:"فلا إذا".

ومعنى: "أحابستنا هي"؟ أي أمانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه؟ ظنا منه صلى الله عليه وسلم أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان لا يتركها ويتوجه ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني.

وفي رواية: فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض. فقال: "أحابستنا هي"؟ الحديث.

وهذا مشكل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: "أحابستنا هي"؟ 0 وإن كان ما علم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني؟

أفاضت" قائل ذلك نساؤه، كما في رواية للشيخين عن عائشة، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن صفية حاضت، فقال: "لعلها تحبسنا ألم تكن طافت معكن"؟، قلن: بلى، ومنهن صفية كما للشيخين أيضًا عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال لصفية: "إنك لحابستنا أما كنت طفت يوم النحر"؟، قالت: بلى "قال: "فلا" حبس علينا "إذا" بالتنوين، أي: إذا أفاضت؛ لأنها فعلت ما وجب عليها، فهذا نص في أنه ليس على الحائض طواف وداع.

وما في أبي داود والنسائي مرفوعا، أنه عليها، أجاب عنه الطحاو بأنه منسوخ بحديث عائشة هذا وهو في الصحيحين وغيرهما بطرق عديدة.

وبحديث أم سليم في الصحيحين أيضا "ومعنى: "أحابستنا هي"؟، أي: أمانعتنا؟ " لأن الحبس لغة المنع "من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه ظنا منه صلى الله عليه وسلم أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان لا يتركها ويتوجه" للمدينة "ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها" جملة حالية "فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر" بضم الهاء وفتحها "وتطوف وتحل الحل الثاني" بالطواف، ففيه أن أمير الحاج يلزمه تأخير الرحيل لأجل الحائض، وقيده مالك بيومين فقط، وفيه إكرام صفية بالاحتباس لها كما احتبس بالناس على عقد عائشة.

"وفي رواية" للبخاري عن عائشة: حججنا فأفضنا يوم النحر "فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله" أي: الجماع وفيه حسن أدب عائشة في العبارة "فقلت" بضم تاء المتكلم: وهو عائشة: "يا رسول الله إنها حائض، فقال: "أحابستنا هي"؟

الحديث، وهذا مشكل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول:

ص: 471

ويجاب عنه: بأنه صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له: إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن، فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى.

وقالت عائشة: يا رسول الله، أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. رواه الشيخان.

وفي رواية لمسلم أنها وقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال لها -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد حللت من حجك وعمرتك جميعا"، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت

"أحابستنا هي"؟ وقد قال: فلا إذا "وإن كان ما علم فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني" إذ هو لا يجوز "ويجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك" أي: الوقاع "منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن".

وفي نسخة لها: أي لنسائه ومنهن صفية "فكان بانيا على أنها قد حلت" فلذا أراد وقاعها "فلما قيل له: إنها حائض، جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك" من نسائه ومنهن صفية "فأعلمته عائشة أنها طافت معهن، فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى" وهذا من الفتح.

"وقالت عائشة: يا رسول الله أتنطلقون بحج؟ " منفردة عن عمرة "وعمرة" منفردة عن حج "وأنطلق" أنا "بحج" غير مفرد، وإلا فهي كانت قارنة على الأصح كا سبق "فأمر" أخاها "عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم" تطييبا لقلبها "فاعتمرت" منه "بعد الحج" في ذي الحجة "رواه الشيخان" من حديث جابر.

"وفي رواية لمسلم" عن جابر "أنها" أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أهلي بالحج"، ففعلت و"وقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت" فتح الهاء وضمها وسكون التاء "طافت بالكعبة و" سعت بين "الصفا والمروة" أو سماه طوافا مجازا "ثم قال لها، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا" فهذا صريح في أن عمرتها لم تبطل، وأنها لم تخرج منها بل صارت قارنة "فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي" حرجا من أجل "أني لم أطف بالبيت حتى حججت" فأتيت بطواف واحد "قال:

ص: 472

حتى حججت، قال:"فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، وذلك ليلة الحصبة.

زاد في رواية: وكان صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا، إذا خويت شيئا تابعها عليه.

وقد كانت عائشة قارنة؛ لأنها كانت قد أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فأدخلت عليها الحج، وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلتين، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها.

ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى -بضم الكاف مقصورا- وهي عند باب شبيكة، بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان.

"فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، وذلك ليلة الحصبة" بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الموحدة، أي: ليلة المبيت بالمحصب.

"زاد في رواية" لمسلم عن جابر: "وكان صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا" قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]"إذا هويت" بفتح فكسر ففتح أحبت "شيئا" ولا نقض فيه من جهة الدين كطلبها الاعتمار "تابعها" أي: وافقها "عليه" حسن عشرة "وقد كانت" أي: صارت "عائشة قارنة؛ لأنها كانت قد أهلت بعمرة فحاضت" بسرف "فأمرها فأدخلت عليها الحج وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت و" سعيها "بين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها" بقوله: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا""فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها:" ضرائرها "بحج وعمرة مستقلتين" كما قال في بعض طرق الحديث: أيرجع صواحبي بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة؟ "فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها" ليس لها عمل ظاهر "فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها" لا عوضا عن عمرتها "ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى -بضم الكاف مقصورًا- وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان" لجبل المعروف، زاد الفتح: وكان نشأ هذا الباب عليها في القرن السابع، وقد اختلف في ضبط كدي وكداء، فالأكثر على أن العليا التي دخل منها بالفتح والمد، والسفلى التي خرج منها بالضم والقصر، وقيل: بالعكس.

قال النووي: وهو غلط.

ص: 473

واختلف في المعنى الذي لأجله خالف صلى الله عليه وسلم بين طريقيه، فقيل: ليتبرك به كل من في طريقته، وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها. وقيل غير ذلك.

وفي صحيح مسلم وغيره، من حديث ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم لقي ركبا

وحكى الحميد عن أبي العباس العذري أن بمكة موضعا ثالثا يقال له: كدى بالضم والتصغير يخرج منه إلى جهة اليمن.

قال المحب الطبري: حققه العذري عن أهل اليمن بمكة، قال: وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن.

"واختلف في المعنى الذي لأجله خالف صلى الله عليه وسلم بين طريقيه" حيث دخل من العليا التي هي كداء بالفتح والمد، وخرج من السفلى التي هي كدي بالضم والقصر كما في الصحيحين وغيرهما.

"فقيل: ليتبرك به كل من في طريقيه" بالتثنية "وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان" المدخول إليه "وعكسه" في الخروج "الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها، وقيل: غير ذلك" فقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها مختفيا في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظاهرا، وقيل: لأن من جاء منها كان مستقبلا للبيت ويحتمل؛ لأنه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك، وسبب ذلك قول أبي سفيان بن حرب: لا أسلم حتى أرى النخيل تطلع من كداء، قال العباس: فقلت له: ما هذا؟، قال: شيء طلع بقلبي أن الله لا يطلع الخيل هناك أبدا، قال: فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل صلى الله عليه وسلم من كداء، فذكره.

وللبيهقي عن ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "كيف قال حسان؟ "، فأنشد:

عدمت بنيتي إن لم تروها

تثير النقع مطلعها كداء

فتبسم وقال: "أدخلوها من حيث قال حسان"، قاله في الفتح.

"وفي صحيح مسلم وغيره" كأبي داود والنسائي "من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء" بفتح الراء وسكون الواو وحاء مهملة ممدودة.

قال عياض في المشارق: من عمل الفرع بينها وبين المدينة نحو أربعين ميلا، وفي مسلم: ستة وثلاثون، وفي كتاب ابن أبي شيبة: ثلاثون ميلا، زاد في رواية أبي دود: فسلم عليهم قبل

ص: 474

بالروحاء، فقال: من القوم؟ فقالوا: المسلمون فقالوا: من أنت قال: "رسول الله"، فرفعت امراة صبيا لها من محفة فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال:"نعم ولك أجر".

ولما وصل صلى الله عليه وسلم لذي الحليفة بات بها. قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدا، وإنما كان اتفاقيا، حكاه القاضي إسماعيل في أحكامه عن محمد بن الحسن وتعقبه. والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا.

فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا

قوله: "فقال: "من القوم"؟، فقالوا:" نحن "المسلمون، فقالوا: من أنت؟، قال: "رسول الله" هكذا في مسلم وغيره، فما في نسخ: نحن المسلمون يا رسول الله خطأ نشأ عن سقط.

قال عياض: يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلا فلم يعرفوه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل كونه نهارا لكونهم لم يروه قبل ذلك، فأسلموا في بلادهم ولم يهاجروا قبل ذلك "فرفعت امرأة صبيا لها من محفة" بكسر الميم كما جزم به النووي وغيره.

وحكى عياض عن المشارق الكسر والفتح بلا ترجيح شبه الهودج إلا أنه لا قبة عليها.

"فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟، قال: "نعم" له حج، وزادها على السؤال: "ولك أجر" ترغيبا لها.

قال عياض: وأجرها فيما تتكلفه من أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما يجتنب المحرم.

وقال عمر: وكثيرون يثاب الصبي وتكتب حسناته دون السيئات.

"ولما وصل صلى الله عليه وسلم لذي الحليفة بات بها" حتى يصبح فيدخل المدينة كما في الصحيح.

عن ابن عمر: كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحلفة ببطن الوادي وبات حتى يصبح.

"قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدًا، وإنما كان اتفاقيا، حكاه القاضي إسماعيل في أحكامه عن محمد بن الحسن" الشيباني "وتعقبه" بأنه ليس اتفاقيا "والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا" فيفجأ الناس أهاليهم على أهبة، فقد يرى منها ما يقبح عند اطلاعه فيكون سببا إلى بغضها وفراقها، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرقوا النساء ليلا، فطرق رجلان أهلهما فكلاهما وجد ما يكره.

"ولما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله وحده" حال، أي: منفرد "لا شريك له" تأكيد لوحده، إذ المتصف بها لا شريك له "له الملك" السلطان والقدرة وأصناف

ص: 475

"حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".

ثم دخل المدينة نهارًا من طريق المعرس -بفتح الراء المشددة وبالمهملتين- وهو مكان معروف، وكل من المعرس والشجرة التي بات بها صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة. انتهى ملخصا من فتح الباري وغيره، والله أعلم.

وأما عمره صلى الله عليه وسلم والعمرة في اللغة: الزيارة.

ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما: أنها واجبة كالحج، والمشهور عن

المخلوقات "وله الحمد" زاد في رواية للطبراني: "يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير""وهو على كل شيء قدير آيبون" بالرفع خبر محذوف، أي: نحن راجعون إلى الله، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فإنه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة والاتصاف بالأوصاف المذكورة "تائبون" من التوبة وهي الرجوع عما يذم شرعًا، إلى ما يحمد شرعا قاله تواضعا أو تعليما لأمته، نحن "عابدون" نحن "ساجدون لربنا حامدون" كلها رفع بتقدير المبتدأ.

وقوله: لربنا متعلق بساجدون أو بجميع الصفات على طريق التنازع "صدق الله وعده" فيما وعد من إظهار دينه وغير ذلك، وهذا في سفر العزو ومناسبته للحج والعمرة قوله:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]"ونصر عبده" محمدا صلى الله عليه وسلم "وهزم الأحزاب وحده" من غير سب من الآدميين، هذا معنى الحقيقة، فإن العبد وفعله خلق لربه والكل منه وإليه، ولو شاء أن يبيد الكفار بلا قتال لفعل "ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرس -بفتح الراء المشددة وبالمهملتين-" العين والسين "وهو مكان معروف" على طريق من أراد الوصول إلى مكة من المدينة وهو أسفل من ذي الحليفة، فهو أقرب إلى المدينة منها "وكل من المعرس والشجرة التي بات بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة" لكن المعرس أقرب كما في الفتح. "انتهى ملخصًا من فتح الباري".

"وغيره" جميع ما ذكره في مبحث الحج والذي من غيره قليل بالنسبة لما جاء به منه "والله أعلم" بالحق فيما اختلف فيه من أمور الحج.

"وأما عمره" بضم ففتح: جمع عمرة "صلى الله عليه وسلم" فأربع، فترك جواب أما اكتفاء بما بعده "والعمرة" بضم العين مع ضم الميم وإسكانها وبفتح العين، وإسكان الميم "في اللغة الزيارة" وقيل: إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وقيل: هي لغة القصد إلى مكان عامر.

"ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما" من أهل الأثر "أنها واجبة كالحج" مرة في العمر،

ص: 476

المالكية أنها تطوع وهو قول الحنفية.

وقد اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر، ففي الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود عن قتادة قال: سألت أنسا: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة

لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .

قال ابن عباس: إنها لقرينتها في كتاب الله، أي: الفريضة، وكان الأصل قرينته، أي: الحج، وأجيب بأن دلالة الاقتران ضعيفة، وبأن المراد الإتمام بعد الشروع ولا نزاع فيه، وبأن الشعبي قرأ: والعمرة بالرفع، ففصل عطف العمرة على الحج فارتفع الإشكال.

وأما حديث زيد بن ثابت مرفوعا: "الحج والعمرة فريضتان"، راه الدارقطني والحاكم.

وقال الصحيح عن زيد بن ثابت من قوله: فضعيف فيه إسماعيل بن مسلم ضعفوه.

"والمشهور عن المالكية أنها تطوع" أي: سنة مؤكدة "وهو قول الحنفية" لحديث الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟، قال: لا وأن تعتمر فهو أفضل، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وانتقد بأن الحجاج ضعيف، وأجاب الكمال بن الهمام بأنه لا ينزل عن درجة الحسن وهو حجة اتفاقا، وإن قال الدارقطني: لا يحتج بالحجاج، فقد اتفقت الروايات عن الترمذي على تحسين حديثه هذا ولم ينفرد به، فقد رواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر وله طريق آخر عن جابر عند الطبراني في الصغير والدارقطني، وضعفه يحيى بن أيوب، وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا: الحج جهاد والعمرة تطوع، وأخرجه ابن قانع.

وقال ابن مسعود: الحج فريضة والعمرة تطوع، أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى ملخصا.

"وقد اعتمر -صلى الله عليه سلم- أربع عمر" هذا دليل جواب أما، ولو عبر بالفاء كان الجواب.

"ففي الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود عن قتادة، قال: سألت أنسا كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: حجة واحدة" أي: بعد الهجرة، وأما قبلها فحج مرات كما أول الحج "واعتمر أربع عمر عمرة في ذي القعدة" التي تسمى عمرة القضاء "وعمرة الحديبية" التي صد عنها باتفاق، وكان في ذي القعدة أيضا كما في الصحيحين بطرق عن أنس، لفظ بعضها: أربع عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعجبت ممن وقف على هذا، وقال: قوله: عمرة في ذي القعدة هي التي صد عنها فإنه يكون عين قوله بعده وعمرة الحديبية، إذ هي التي صد عنها باتفاق "وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة" بكسر الجيم وسكون المهملة وخفة الراء وبكسر العين وشد الراء "إذ" أي:

ص: 477

الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين، هذا لفظ رواية الترمذي وقال: حسن صحيح.

وفي رواية الصحيحين: اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة الحديبية -أو زمن الحديبية- في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.

وعن محرش الكعبي: أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس

حين "قسم غنيمة" بالنصب معمول قسم من غير تنوين لإضافته إلى "حنين، هذا لفظ رواية الترمذي وقال: حسن صحيح".

"وفي رواية الصحيحين" عن قادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته عمرة الحديبية أو زمن الحديبية" شك بعض الرواة في اللفظ الذي قاله، وإن اتحد المعنى "في ذي القعدة" وهي التي صد عنها، ويأتي وجه تسميتها عمرة للمصنف "وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة" هي عمة القضاء التي بدأ بها في رواية الترمذي "وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة و" الرابعة "عمرة مع حجته" في ذي الحجة، واستشكل قوله: إلا التي مع حجته، بأن الصواب حذفه؛ لأنه عد التي مع حجته فكيف يستثنيها، وأجاب عياض بأن الرواية صواب، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث، والرابعة عمرة في حجته، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته كانت في ذي الحجة.

"وعن محرش" بضم الميم وفتح المهملة، وقيل: إنها معجمة وكسر الراء بعدها معجمة، قال في الإصابة بكسر الراء الثقيلة، وضبطه ابن ماكولا تبعا لهشام بن يوسف ويحيى بن معين، ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوبه ابن السكن تبعا لابن المديني وهو ابن سويد ابن عبد الله بن مرة الخزاعي الكعبي عداده في أهل مكة.

وقال عمرو بن علي الفلاس: أنه لقي شيخا بمكة اسمه سالم، فاكترى منه بعيرا إلى منى، فسمعته يحدث بحديث محرش، فقال: هو جدي وهو محرش بن عبد الله الكعبي، فقلت له ممن سمعته، فقال: حدثني به أبي وأهلنا. انتهى.

وقد تحرر بجمعه الخزاعي "الكعبي" أنه منسوب إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة "أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا معتمرًا" زاد في رواية النسائي: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة "فدخل مكة ليلا فقضى عمرته" أي: فعلها وأتمها نحو: فإذا قضيت الصلاة "ثم خرج من

ص: 478

من الغد، خرج في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق، طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس، رواه الترمذي وقال: حديث غريب.

وعن ابن عمر قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج، رواه أبو داود.

وعن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن، قال: فقلت: يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو

ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد" لليلة المذكورة "خرج في بطن سرف حتى جاء مع الطريق طريق جمع بدل من الطريق "ببطن سرف" بفتح فكسر ففاء "فمن أجل ذلك خفيت عمرته" هذه "على الناس" وكانت سنة فتح مكة "رواه الترمذي وقال: حديث غريب" في الإصابة.

قال الترمذي: حسن غريب ولا يعرف لمحرش عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره وهو عند أبي داود والنسائي وغيرهما بسند حسن.

"وعن ابن عمر قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية أحمد: عمرة كلها "قبل أن يحج، رواه أبو داود" وهو في صحيح البخاري عن عكرمة بن خالد أنه سأل ابن عمر عن العمرة قبل الحج، فقال: لا بأس.

قال عكرمة: قال ابن عمر: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج، ولا خلاف في جواز ذلك، قاله أبو عمر.

"وعن عروة بن الزبير، قال: كنت أنا وابن عمر" زاد في رواية: في المسجد "مستندين إلى حجرة عائشة وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن" تتسوك "قال:" عروة: "فقلت: يا أبا عبد الرحمن" كنية ابن عمر "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟، قال: نعم" اعتمر فيه.

وفي رواية للشيخين أيضا عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة المسجد، فإذا ابن عمر جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلون الضحى في المسجد، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، فقال له عروة: يا أبا عبد الرحمن كم اعتمر صلى الله عليه وسلم؟، فقال: أربع عمر، إحداهن في رجب، فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه، وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، قال عمرة "فقلت لعائشة: أي" نداء للقريب "أمتاه" بضم الهمزة وشد الميم ففوقية فألف فهاء مضمومة وهذا لفظ مسلم.

وفي البخاري: يا أماه، قال الحافظ: كذا للأكثر بسكون الهاء، ولأبي ذر: يا أمه بسكون الهاء أيضا بغير ألف، وهذا بالمعنى الأخص؛ لأنها خالته، وبالمعنى الأعم؛ لأنها أم المؤمنين "ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟، قالت" عائشة: "وما يقول؟، قلت: يقول: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم

ص: 479

عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وأنا معه. قال عروة: وابن عمر يسمع، فما قال: لا ولا نعم، سكت.

وفي رواية أبي داود عن عروة عن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة، وعمرة في شوال.

وفي رواية له عن مجاهد قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قال:

في رجب" وهذا يدل على أن عندهم علمًا، فسؤالهم امتحان ففيه جواز الامتحان، لكنه مذهب صحابي، وفي الاحتجاج به خلاف، وكان مالك إذا عرف أنه سؤال امتحان لا يجيب، ولا يحتج له بحديث أخبروني بشجرة لا يسقط ورقها؛ لأن ذلك من الشارع تعليم لما اشتمل عليه من الأحكام، وترجم عليه أبو نعيم باب إلقاء العالم المسألة على طلبته ليختبر أذهانهم، قاله أبو عبد الله الأبي، لكن في قوله: مذهب صحابي نظر، إذ هو كما رأيت إنما فعله عروة ومجاهد وهما تابعيان اتفاقا فلا حجة فيه بلا خلاف "فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن" ذكرته بكنيته تعظيما له، ودعت له إشارة إلى أنه نسي "لعمري ما اعتمر" صلى الله عليه وسلم "في رجب" بالتنوين.

"وما اعتمر من عمرة إلا وأنه" أي: ابن عمر "لمعه" حاضر.

وفي رواية للبخاري: ما اعتمر إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط، وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان، وإنما أنكرت عليه قوله: إحداهن في رجب "وابن عمر يسمع" كلامها "فما قال: لا، ولا نعم سكت" وسكوته يدل على أنه اشتبه عليه أو نسي أو شك، وبهذا أجيب عما استشكل من تقديم قول عائشة النافي على قول ابن عمر المثبت، وهو خلاف القاعدة المقررة، وهذا الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم.

"وفي رواية أبي داود عن عروة، عن عائشة" أنها "قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة" هما عمرة القضية والتي قبلها "وعمرة في شوال" يعني: عمرة الجعرانة، فهذا مخالف لقول أنس: كلهن في ذي القعدة، وجمع الحافظ بأن ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، قال: ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن مجاهد عن عائشة: لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة.

"وفي رواية له" أي: لأبي داود وكذا لأحمد "عن مجاهد قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟، قال: عمرتين، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع" ففي هذا أن اختلافهما في عدد العمرة وفي السابق

ص: 480

عمرتين، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع.

وقد ذكرت الاختلاف فيما كان عليه السلام محرما به في حجة الوداع. والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك.

والمشهور عن عائشة أنه عليه السلام كان منفردا، وحديثها هذا قد يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه قال: إنه عليه السلام كان قارنا مع أن حديثه هذا المتقدم يدل على أنه كان قارنا؛ لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي.

واحتاج بعضهم إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه صلى الله عليه وسلم اعتمرها بنفسه.

في الشهر.

قال الحافظ: ويمكن تعدد السؤال بأن يكون ابن عمر سئل أولا عن العدد، فأجاب، فردت عليه عائشة فرجع إليها، فسئل مرة ثانية، فأجاب بموافقتها، ثم سئل عن الشهر، فأجاب بما في ظنه.

"وقد ذكرت الاختلاف فيما كان عليه السلام محرما به في حجة الوداع والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك، والمشهور عن عائشة أنه عليه السلام كان مفردا وحديثها هذا قد يشعر بأنه كان قارنا" لا سيما قولها سوى التي قرنها بحجة الوداع، "وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه" بزيادة اللام في المفعول "قال: إنه عليه السلام كان قارنا مع أن حديثه هذا المتقدم" لم يقدم المصنف، ذكر عن ابن عمر صريحا، وقد قدمته عن الصحيحين، بلفظ: اعتمر أربع عمر، والمصنف أخذ هذا من الفتح والإشارة في لامه عائدة لمذكور في البخاري الذي يتكلم عليه.

أما المصنف فلم يذكره وذكر كلام الفتح فأوهم، وإنما دل حديث ابن عمر على أنه قارن "لأنه لم ينقل أنه عليه السلام اعتمر بعد حجته، ولم يكن متمتعا؛ لأنه اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي" فلم يبق إلا أنه قارن "واحتاج بعضهم" هو ابن بطال كما في الفتح "إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا، فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه -صلى الله عليه وسم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه صلى الله عليه وسلم اعتمرها بنفسه" وهذا بناء على الأصح عند مالك

ص: 481

وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة في حجته صلى الله عليه وسلم من الجمع استغنيت عن هذا التأويل المتعسف.

قال بعض العلماء المحققين: وفي عدهم عمرة الحديبية التي صد عنها صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنها عمرة تامة. وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور: أنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى قرشيا فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها، إذ لو كان كذلك لكانتا عمرة واحدة.

وأما حديث أبي داود عن عائشة: أنه اعتمر في شوال، فإن كان محفوظا فلعله يريد عمرة الجعرانة حين خرج في شوال، ولكن إنما أحرم في ذي القعدة.

والشافعي أنه كان مفردًا "وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة في حجته صلى الله عليه وسلم من الجمع" بأن الإفراد إخبار عن أول أمره والقران إخبار عما استقر عليه "استغنيت عن هذا التأويل المتعسف" لأن خلاف الظاهر، لكنه مبني على الأصح عند الشافعية، والمالكية أنه حج مفردا، ومر أن الإمام الشافعي أول ما ورد بخلافه على أمره لغيره كبني الأمير المدينة، فما هنا عن عائشة وابن عمر من ذلك فلا تعسف فيه.

"قال بعض العلماء المحققين" هو ابن التين كما في الفتح "وفي عدهم" أي: الصحابة عائشة وأنس وابن عمر "عمرة الحديبية التي صد عنها صلى الله عليه وسلم" خبر مقدم على المبتدأ، وهو "ما يدل على أنها عمرة تامة" لعل المراد من حيث الثواب؛ لأنه لم يأت من أعمالها بشيء سوى الإحرام، قاله شيخنا "وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور أنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافا للحنفية" زاعمين بأن عمرة القضاء إنما سميت بذلك لكونها قضاء عن التي صد عنها ولا يصح ذلك "فلو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة" والصحابة الفقهاء الفهماء عدوهما ثنتين "وإنما سميت عمر القضية والقضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا فيها" على أن يأتي من العام القابل يعتمر ويقيم ثلاثة أيام "لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها، إذ لو كان كذلك كانتا عمرة واحدة" وقد عدهما الصحابة اثنتين.

"وأما حديث أبي داود عن عائشة أنه اعتمر في شوال" السابق آنفا "فإن كان محفوظا فلعله" أي: الراوي عائشة "يريد عمرة الجعرانة حين خرج في شوال، ولكنه إنما أحرم في ذي

ص: 482

وأنكر ابن القيم أن يكون صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان، نعم قد أخرج الدارقطني من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن زيد عن أبيه عن عائشة قالت: خردت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، وقال: إن إسناده حسن. لكن يمكن حمله على أن قولها: "في رمضان" متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر صلى الله عليه وسلم في تلك السنة من الجعرانة، لكن في ذي القعدة كما تقدم.

وأما قول ابن القيم -في الهدي أيضًا-: ولم يكن في عمره صلى الله عليه وسلم عمرة واحدة خارجًا من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة. وقد أقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أحد أنه

القعدة" حتى لا يخالف ما صح عنها وعن غيرها، أن عمره كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، وقدمت نحو هذا الجمع عن الحافظ.

"وأنكر بن القيم أن يكون صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان. نعم قد أخرج الدارقطني من طريق العلاء بن زهير" بن عبد الله الأزدي الكوفي ثقة، روى له النسائي "عن عبد الرحمن بن الأسود بن زيد" بن قيس النخعي من رجال الجميع "عن أبيه" الأسود الفقيه المخضرم، المكثر، التابعي الكبير، مات سنة أربع أو خمس وسبعين "عن عائشة، قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت وقصر وأتممت" الرباعية، فلم ينهني، فدل على جواز الإتمام والصوم في السفر.

"وقال" الدارقطني: "إن إسناده حسن".

وقال ابن القيم: إنه غلط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعتمر في رمضان، نقله الحافظ وأجاب، وتبعه المصنف بقوله:"لكن يمكن حمله على أن قولها: في رمضان متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر عليه السلام في تلك السنة من الجعرانة" بعد الفتح بعدما غزا حنينا والطائف، ثم قسم غنائم حنين ثم اعتمر "لكن في ذي القعدة كما تقدم" قريبا، زاد الحافظ: وقد رواه الدارقطني بإسناد آخر إلى العلاء بن زهير، فلم يقل في الإسناد عن أبيه ولا قال فيه في رمضان. انتهى.

"وأما قول ابن القيم في الهدي أيضا: لم يكن في عمره صلى الله عليه وسلم عمرة واحدة" حال كونه "خارجا من مكة" إلى الحل، ثم يدخل مكة بعمرة "كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها" حال كونه "داخلا إلى مكة، وقد أقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة

ص: 483

اعتمر خارجا من مكة في تلك المدة أصلا، فالعمرة التي فعلها وشرعها هي عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها، فيخرج إلى الحل ليعتمر. ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها. انتهى.

فيقال عليه: بعد أن فعلته عائشة بأمره، فدل على مشروعيته.

وروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سرين قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم.

ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها، فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها. فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء. والله أعلم.

سنة لم ينقل عنه أحد أنه اعتمر خارجا من مكة" إلى الحل "في تلك المدة أصلا، فالعمرة التي فعلها وشرعها هي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر" أي: يحرم، ثم يدخل مكة فيأتي بأفعال العمرة "ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة. انتهى، فيقال عليه بعد أن فعلته عائشة بأمره، فقد دل على مشروعيته" فلا معنى لهذا الكلام.

"وروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سيرين، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم، ومن طريق عطاء" بن أبي رباح "قال: "من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو الجعرانة فليحرم منها" وأفضل ذلك أن يأتي وقتا، أي: ميقاتا من مواقيت الحج، هذا بقية المروي عن عطاء.

قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكة إلا التنعيم، فلا يجاوز كما لا تجاوز مواقيت الحج، أي: تعلقا بحديث ابن سيرين المذكور، قال: وخالفهم آخرون، فقالوا: ميقات العمرة الحل، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم؛ لأنه أقرب الحل إلى مكة، ثم روي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها، قالت: فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت منه.

قال الطحاوي عقب هذا: "فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء" في جواز الإحرام منه، وإن كان الأفضل التنعيم لأمره لعائشة به بعد الجعرانة لإحرامه صلى الله عليه وسلم منها، "والله" تعالى "أعلم".

ص: 484