الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
أثر عمل القلب على عبادة الحج والعمرة
د. إبراهيم بن حسن الحضريتي
العام: 1442 هـ-2021 م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أما بعد:
فإن لعمل القلب أثره الكبير على العبادات، فإذا حقق العبد عمل القلب، وجاهد نفسه لإصلاح ما في قلبه من أمراض، واستعان بالله على ذلك، وصدق وأخلص، فإن الله وعد بإعانته، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وإذا وفق الله العبد لذلك ظهر أثره على عبادته: إقامة لها مع الاتقان، وإخلاصاً فيها، وحرصاً على الاهتداء بالهدي النبوي في أدائها، وظهر أثر ذلك أيضاً على إقبال القلب وحسن حضوره عند أداء العبادة مع الخشوع والخضوع لله.
وسأذكر -إن شاء الله تعالى- سلسلة بعنوان: (أثر عمل القلب على العبادات) وأركز في ثالث هذه السلسلة على عبادة الحج والعمرة، وقد وفقني الله له الحمد والمنة لإخراج كتابين قبل هذا.
الأول بعنوان: (أثر عمل القلب على عبادة الصلاة)، والثاني بعنوان:(أثر عمل القلب على عبادة الصوم)، وهما منشوران على الشبكة.
ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص والصدق والتوفيق والإعانة في هذا العمل، وأن يتفضل علينا بالقبول، وأن يوفقنا لخير ما يحب ويرضى، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، ورحم الله من أهدى إلي عيوبي، فلا يبخل علي أخ ناصح بملاحظة أو تصويب لخلل في المكتوب على هذا البريد، وفق الله الجميع.
د. إبراهيم بن حسن الحضريتي
مكة المكرمة، إمام وخطيب جامع القناعة بشرائع المجاهدين
وستكون بإذن الله
محاور هذا الموضوع
حول العناصر الآتية:
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.
المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.
المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.
المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.
المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب لها علاقة بعبادة الحج والعمرة، وفيه تمهيد ومطالب.
التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب وعبادة الحج والعمرة.
المطلب الأول: الإخلاص.
المطلب الثاني: اليقين.
المطلب الثالث: الصبر.
المطلب الرابع: المحبة.
المطلب الخامس: الخوف والخشية.
المطلب السادس: الرجاء.
المبحث الثالث: عبادات قلبية لها تعلق بالحج والعمرة، وفيه مطالب.
المطلب الأول: التوبة والاستغفار.
المطلب الثاني: الاهتمام بشرط قبول العمل.
المطلب الثالث: ارتباط الحج بالتوحيد.
المطلب الرابع: ارتباط الحج بالتقوى.
المبحث الرابع: أثر عمل القلب على مناسك الحج والعمرة، وفيه مطالب.
المطلب الأول: أثر عمل القلب على عبادة الإحرام، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن يستحضر بقلبه نية الدخول في عبادة الإحرام.
المسألة الثانية: التلبية شعار التوحيد وعلاقتها بعمل القلب.
المسألة الثالثة: أن يدرك بقلبه خطر التساهل في محظورات الإحرام.
المطلب الثاني: أثر عمل القلب على عبادة الطواف والسعي.
المطلب الثالث: أثر عمل القلب على عبادات يوم التروية.
المطلب الرابع: أثر عمل القلب على عبادة الوقوف بعرفة.
المطلب الخامس: أثر عمل القلب على عبادة المبيت بمزدلفة.
المطلب السادس: أثر عمل القلب على عبادة رمي الجمار.
المطلب السابع: أثر عمل القلب على عبادة الحلق أو التقصير.
المطلب الثامن: أثر عمل القلب على عبادة المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.
المبحث الخامس: ارتباط عمل القلب بالذكر والدعاء في الحج والعمرة، وفيه مطالب.
المطلب الأول: أثر عمل القلب على الذكر في الحج، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: التلبية وأثر عمل القلب عليها.
المسألة الثانية: أذكار دخول المسجد الحرام.
المسألة الثالثة: أذكار الطواف والسعي.
المسألة الرابعة: ذكر يوم عرفة.
المسألة الخامسة: الذكر عند المشعر الحرام.
المسألة السادسة: الذكر عند رمي الجمار.
المسألة السابعة: التكبير يوم النحر وفي أيام التشريق.
المطلب الثاني: أثر عمل القلب على الدعاء في الحج والعمرة، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: الدعاء عند الإحرام وبعده.
المسألة الثانية: دعاء دخول المسجد الحرام.
المسألة الثالثة: أدعية الطواف.
المسألة الرابعة: أدعية السعي.
المسألة الخامسة: دعاء يوم عرفة.
المسألة السادسة: الدعاء عند المشعر الحرام.
المسألة السابعة: الدعاء عند رمي الجمار.
المبحث السادس: أثر عمل القلب على أخلاق المسلم في الحج، وفيه مطالب.
المطلب الأول: مكانة الخلق الحسن في دين الإسلام.
المطلب الثاني: مظاهر حسن الخلق في الحج، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: الحج من أعظم المواقف التي يظهر فيها حسن خلق المسلم.
المسألة الثانية: من مظاهر حسن الخلق في الحج المرتبطة بعمل القلب.
المطلب الثالث: سوء الخلق وخطره على الحاج، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: الرفث والفسوق والجدال في الحج وارتباطها بمرض القلب.
أولاً: ما جاء في نصوص الكتاب والسنة من الترهيب من هذه الآفات.
ثانياً: علاقتها بمرض القلب.
ثالثاً: من مظاهر الرفث والفسوق والجدال في الحج.
المسألة الثانية: وقوع الحاج في الذنوب التي تأكل الحسنات من: الحسد والبغضاء والشحناء وقطيعة الأرحام والعقوق.
المسألة الثالثة: الكبر.
المسألة الرابعة: الغضب للنفس.
المسألة الخامسة: الشح والبخل.
المبحث السابع: من مظاهر مرض القلب في عبادة الحج والعمرة، وفيه مطالب.
المطلب الأول: ضعف تعظيم شعائر الله في الحج.
المطلب الثاني: الآفات المهلكة من الرياء، والسمعة، والعجب، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: خطر الرياء والسمعة والعجب على عبادة المسلم، وبالذات الحج والعمرة.
المسألة الثانية: تلخيص ما يتعلق بهذه الآفات المهلكة
(1)
مع بعض التوسع في الكلام عنها بشكل عام.
المسألة الثالثة: من مظاهر الرياء والسمعة والعجب لدى بعض الحجاج والمعتمرين.
المسألة الرابعة: كيف يحافظ الحاج والمعتمر على عبادته من أن تدخلها الشوائب التي قد تفسدها أو تنقص أجرها.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد
(1)
من العجب والرياء والسمعة وهي آفات قلبية مترابطة بينها تداخل ولهذا آثرت الحديث عنها مع بعضها.
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.
المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.
المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.
المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.
المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.
لقد اعتنى القرآن العظيم والسنة الشريفة بمسألة عمل القلب وأثره اعتناء كبيراً، فقد جاءت آيات كثيرة في إثبات أثر عمل القلب وتأثره بما يعمل صاحبه، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن قلوب المؤمنين يصيبها الوجل، وتطمئن بذكره، وأنها تخشع وتخضع لأمره، وغير ذلك كثير، وإذا تقرر هذا في حق المؤمنين، فإن القرآن الكريم قد ذكر في مقابل ذلك حال الكفار والمنافقين وتأثر قلوبهم بما يعملون، وذكر سبحانه وتعالى كذلك أثر أمراض قلوبهم عليهم؛ من الختم والطبع، وما أصابها من مرض النفاق، والزيغ عن الحق، والقسوة
…
وقد جاءت آيات كثيرة في بيان ذلك. وكذلك جاءت أحاديث كثيرة تثبت أثر عمل القلب، ودونك ملخص لإثبات ذلك:
أولاً: أمثلة على إثبات أثر عمل القلب على المؤمن مع ذكر شواهدها من القرآن العظيم.
1 -
وجل القلب وخوفه من الله، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2]. وفيها إثبات أثر ذكر الله على القلب بحصول الوَجَل، ومعناه: الخوف من الله
(1)
، ولا شك أن الذكر لا يحدث أثره في حصول وجل القلب من الله تعالى إلا إذا تواطأ القلب مع الحواس.
2 -
طمأنينة القلب، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 425).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (16/ 432).
ثانياً: أمثلة على إثبات أثر مرض القلب على صاحبه وردت في آيات الكتاب العزيز.
1 -
عقوبة الله لأصحاب القلوب التي كفرت بالله بالختم عليها، وزيغ القلوب عن الحق، فقال تعالى عنهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].
قال البغوي رحمه الله في تفسيره لمعنى الختم على القلوب: "فقال: {خَتَمَ اللَّهُ}: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيرًا ولا تفهمه"
(1)
.
وهذا الختم على القلوب عقوبة لهم بسبب منهم، قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
ومن آثار مرض النفاق على القلوب تقييدها عن الخير بما يحدث لها من التردد والتذبذب والشك والحيرة والكسل عن الطاعات وكرهها، قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. والريب هو الشك، وهو من أثر أمراض النفاق على القلوب، فيتولد منه أثره على القلب بالتردد والتذبذب والكسل عن الطاعة وكرهها، فقال تعالى في بيان أثر النفاق على القلب: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
(1)
تفسير البغوي (1/ 64 - 65).
3 -
إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143].
وقال تعالى عن المنافقين: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
4 -
وقال تعالى في بيان أثر مرض النفاق على القلب وأن الله سبحانه وتعالى لا يمكِّن صاحبه من العمل، بل يقعده عنه عقوبةً له على ما في قلبه من مرض:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
وإذا وجد العبد أنه يثبَّط عن الطاعات، ويحال بينه وبينها، فليفتِّش عن مرض في قلبه.
5 -
أثر الذنوب على القلب في تغطيته وحجبه عن رؤية الحق، كما في قول الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14].
أثبت الله تعالى أن الذنوب تغطي على القلوب، فتحجبها عن رؤية الحق فلا تقبله، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ
(1)
فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ
(1)
أي نُقِطَ نقطة في قلبه.
ينظر: الصحاح (1/ 269)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114) لابن الأثير، مادة (نكت).
سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ
(1)
قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]»
(2)
.
فإذا غطت الذنوب القلب عمي عن رؤية الحق وانطمست بصيرته، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ثالثاً: وقد ورد في السنة ما يبين مكانة عمل القلب وأثره على صاحبه، ودونك إشارة لذلك:
1 -
أثر عمل القلب على صلاح الجسد أو فساده، ويدل عليه ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .
وفي الحديث إشارة -كما يقول ابن رجب رحمه الله: "إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍ للشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات.
وإن كان القلب فاسدًا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب"
(3)
.
2 -
ارتباط التقوى بعمل القلب، يقول صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ
(1)
وفي أكثر روايات الحديث: "صُقِلَ" بالصاد، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.
ينظر: الصحاح (5/ 1744) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1622)، تحفة الأحوذي (9/ 178) للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.
(2)
أخرجه أحمد (13/ 333) ح (7952)، والترمذي واللفظ له (5/ 434) ح (3334) وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4244)، وابن حبان في صحيحه (3/ 210) ح (930)، الحاكم في مستدركه (2/ 562) ح (3908) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 271) ح (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (13/ 334) ح (7952):"إسناده قوي".
(3)
جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 210).
3 -
مَرَّاتٍ .. الحديث
(1)
وذكر النووي في شرحه للحديث أن التقوى إنما تحصل بما في القلب من الأعمال، فيقول رحمه الله:"إن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته"
(2)
.
4 -
في بيان أثر مرض الكبر على القلب، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
(3)
.
وفي الحديث دليل على أثر آفة الكبر على من تلبس بها، وهو من أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم ما يصد القلوب عن الهدى.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 1986) ح (2564).
(2)
شرح النووي على مسلم (16/ 121).
(3)
أخرجه مسلم (1/ 93) ح (91).
المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.
وتتضح الدلالة على أهمية عمل القلب من خلال الأمور الآتية:
أولاً: كثرة ذكرها في القرآن العظيم، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك.
ثانياً: ويكفي في الدلالة على عظيم مكانة عمل القلب في السنة ماورد في الحديثين الآتيين:
1 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
(1)
، فالقلوب وأعمالها هي محل نظر الرب سبحانه وتعالى،.
2 -
وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»
(2)
، فصلاح الجوارح مرتبط بصلاح القلب، وهذا له أثره الكبير على خشوع المؤمن في صلاته.
ثالثاً: تحدث ابن القيم عن أهمية عمل القلب، فقال رحمه الله: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح
…
ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان"
(3)
.
وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال القلوب، فلا تتم إلا بها
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 1987) ح (2564).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599).
(3)
بدائع الفوائد (3/ 192 - 193).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 184 - 185)، بدائع الفوائد (3/ 187 - 188).
المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات، ونجملها في الآتي:
1 - قبول الله للعمل،
وذلك يكون بشرطين:
أ - مجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى، مما يثمر الحرص على سلامة المقاصد في العبادات من العجب والرياء والسمعة.
ب - مجاهدة النفس على اتباع الهدي النبوي في أداء العبادة والحرص على سلامتها من البدع.
2 - طهارة القلب من التعلق بغير الله يثمر حضور القلب في العبادة وعدم تشتته في أودية الدنيا،
ولايؤدي إلى ضيقه بالعبادة وثقلها عليه؛ لأنه اذا تعلق القلب بالله وحده لا شريك له صفا له قلبه وطهر وصار همه الآخرة، وسلم من التشتت والفتنة التي تضرب بها القلوب المتعلقة بغير الله، فتثبطها عن طاعة الله، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»
(1)
.
3 - الحرص على إتقان العبادة وإتمامها، والاجتهاد في الوصول إلى مقام الإحسان في العبادات،
كما قال صلى الله عليه وسلم عن مقام الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 642) ح (2465)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 266) ح (11690)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (2/ 633) ح (949)، وصححه في صحيح الجامع (2/ 1109) ح (6505).
وأخرجه ابن ماجه (2/ 1375) ح (4105) بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 634) ح (950)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 227) ح (4105).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 19) ح (50)، ومسلم (1/ 36) ح (8).
وهذه المرتبة العظيمة لا تحصل إلا إذا سلم القلب لله تعالى، واستحضر عظمة الله ومراقبته له وعلمه واطلاعه عليه، وجاهد العبد نفسه على إصلاح قلبه، وتنقيته من شوائب العجب والرياء والكبر والحسد، ومن بقية الآفات.
المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب المتعلقة بالحج والعمرة، وفيه تمهيد ومطالب.
التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب وأثره على عبادة الحج والعمرة.
المطلب الأول: الإخلاص.
المطلب الثاني: اليقين.
المطلب الثالث: الصبر.
المطلب الرابع: المحبة.
المطلب الخامس: الخوف والخشية.
المطلب السادس: الرجاء.
المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب المتعلقة بالحج والعمرة، وفيه تمهيد ومطالب.
التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب وأثره على عبادة الحج والعمرة.
هناك ارتباط وثيق بين الحج والعمرة وعمل القلب، لأن عمل الجوارح الظاهر مرتبط بعمل القلب كما سبق، ولا يكون الحج مبروراً يؤثر على من يأتي به إلا إذا صلح عمل القلب وكانت عبادة الحج والعمرة خالصة لله، وعند العبد يقين بموعود الله، وتحلى بالصبر في حجه وعمرته وذلك لكثرة المشاق والمصاعب في هذه العبادة التي جمعت بين العبادة المالية والجسدية والقلبية، ولن يكون هناك دافعاً يجعل العبد يتشوق إلى إتمام مناسك الحج والعمرة إلا حبه لله، وخوفه من عقوبته، ورجاؤه لما عنده من الثواب العظيم، إذن هناك ارتباط وثيق بين عمل القلب وعمل الجوارح في هذه العبادة العظيمة، ودونك شيء من الخبر باختصار عن هذه الأعمال القلبية بصورة عامة، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: الإخلاص.
المطلب الثاني: اليقين.
المطلب الثالث: الصبر.
المطلب الرابع: المحبة.
المطلب الخامس: الخوف والخشية.
المطلب السادس: الرجاء.
المطلب الأول: الإخلاص
(1)
.
تعريفه:
لقد عرف الإخلاص بتعاريف كثيرة متقاربة، ومن أدقها تعريف الغزالي، فيقول رحمه الله عن الإخلاص بأنه:"تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب"
(2)
.
وعرفه ابن القيم رحمه الله بمجموعة من التعريفات من أدقها: "إفراد الحق بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله"
(3)
.
من أدلة الكتاب والسنة على الإخلاص:
لقد جاءت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة على هذا العمل القلبي العظيم، ومنها على سبيل المثال:
• قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية: "أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى، وما جاءوا به عنه من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك"
(4)
.
(1)
سيكون التعريف لهذه الأعمال القلبية التعريف الاصطلاحي حرصاً على الاختصار.
(2)
إحياء علوم الدين (4/ 379).
(3)
مدارج السالكين (2/ 91 - 92).
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 403).
ويقول السعدي رحمه الله: "أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه"
(1)
.
• ومن الأدلة على الإخلاص قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، والإخلاص معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة، حقوق الله وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين يكرهون الإخلاص لله وحده غاية الكراهة، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] "
(2)
.
• ومن الأدلة على وجوب إخلاص النية لله تعالى في جميع العبادات الظاهرة والباطنة
(3)
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
• ومما ورد في السنة عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
(4)
.
(1)
تفسير السعدي (286).
(2)
تفسير السعدي (734).
(3)
ينظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 580)، تفسير السعدي (931).
(4)
أخرجه البخاري (8/ 140) ح (6689)، ومسلم (3/ 1515) ح (1907).
قال ابن رجب رحمه الله: "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:
أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؟ وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين"
(1)
.
• ومما يدل على أن الإخلاص شرط لقبول العمل حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»
(2)
.
• وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أَوْ: «نَفْسِهِ»
(3)
.
ودل الحديث على أمور، منها:
- أن الإخلاص في كلمة التوحيد من أعظم أسباب سعادة المؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
(4)
.
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 65 - 66).
(2)
أخرجه النسائي (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".
(3)
أخرجه البخاري كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (1/ 31) ح (99).
(4)
ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 194).
- وفي عون المعبود: "وفي قوله في حديث أبي هريرة: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله» سر من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا كان أحرى بالشفاعة"
(1)
.
(2)
.
والحديث من أعظم الزواجر عن الرياء والسمعة التي هي من نواقض الإخلاص.
من أقوال العلماء في الإخلاص:
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في معنى قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]: "هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال:"إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"، ثم قرأ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ
(1)
عون المعبود (13/ 56).
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).
وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]
(1)
.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء"
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله ولا ينفعه"
(3)
.
المطلب الثاني: اليقين.
تعريفه:
يوجد ارتباط وثيق بين معناه في اللغة وفي الاصطلاح، فهو العلم الذي لا شك فيه.
وعرفه الجنيد رحمه الله بقوله: "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب"
(4)
.
وعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "أما اليقين فهو: طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه"
(5)
.
من أدلة الكتاب والسنة على اليقين:
لقد اعتنى القرآن الكريم بهذا العمل القلبي العظيم، فذكر اليقين في آيات كثيرة، ومن ذلك:
• جعله الله من صفات عباده المتقين، فقال تعالى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
(1)
ينظر: حلية الأولياء (8/ 95)، مدارج السالكين (2/ 88 - 89) مع بعض التصرف.
(2)
مدارج السالكين (2/ 92)، البداية والنهاية (14/ 150).
(3)
الفوائد (49).
(4)
مدارج السالكين (2/ 375).
(5)
مجموع الفتاوى (3/ 329).
قال السعدي رحمه الله: "والآخرة اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل"
(1)
.
• وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
وفي تفسير السعدي لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} : "أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله؟!
فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية، فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز بإيقانه ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين عقلًا وشرعًا اتباعه. واليقين هو: العلم التام الموجب للعمل"
(2)
.
• وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].
قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره: {فَاصْبِرْ} يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلِّغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض حقّ، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} يقول:
(1)
تفسير السعدي (41).
(2)
تفسير السعدي (235).
ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله، الذين لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات، فيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته"
(1)
.
• وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
ومن هذه الآية استنبط شيخ الإسلام رحمه الله أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين
(2)
.
• وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 2].
قال السعدي رحمه الله: "أي: {هَذَا} القرآن الكريم والذكر الحكيم {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه، ويحصل به الخير والسرور والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي الرحمة؛ فتزكو به نفوسهم، وتزداد به عقولهم، ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند"
(3)
.
• ومما ورد في السنة عن اليقين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» .
دل هذا الحديث على أنَّ من شروط كلمة التوحيد اليقينَ.
• وعن شَدَّاد بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ
(1)
تفسير الطبري (20/ 120).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 358).
(3)
تفسير السعدي (777).
• بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»
(1)
.
دل هذا الحديث على أن من شروط أثر سيد الاستغفار على صاحبه أن يقوله بيقين.
من أقوال العلماء في اليقين:
عن سفيان الثوري رحمه الله قال: "لو أن اليقين، استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحًا وحزنًا وشوقًا إلى الجنة، أو خوفًا من النار"
(2)
.
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: "حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله"
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورًا وانتفى عنه كل ريب وشك، وعوفي من أمراضه القاتلة، وامتلأ شكرًا لله وذكرًا له ومحبة وخوفًا"
(4)
.
ويقول أيضًا: "فالعلم أول درجات اليقين، ولهذا قيل: العلم يستعملك، واليقين يحملك، فاليقين أفضل مواهب الرب لعبده، ولا تثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، قال ابن مسعود رضي الله عنه:(هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيرضى ويسلم)
(5)
، فلهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا بيقينه"
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6306).
(2)
حلية الأولياء (7/ 17).
(3)
مفتاح دار السعادة (1/ 154).
(4)
مفتاح دار السعادة (1/ 154).
(5)
نسبه ابن جرير إلى علقمة، ينظر: تفسير الطبري (23/ 12).
(6)
مفتاح دار السعادة (1/ 155).
المطلب الثالث: الصبر.
تعريفه:
من أدق تعاريفه تعريف الراغب رحمه الله بقوله: "الصَّبْرُ: حبس النّفس على ما يقتضيه العقل والشرع"
(1)
.
والذي يظهر لي أن تعريف الراغب تعريف دقيق؛ لأنه يشمل كل أنواع الصبر، فيكون حبسًا للنفس على الطاعة وترك المعصية، وعلى القدر المؤلم، والله أعلم.
وقيل: هو: "حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش"
(2)
. وهذا التعريف يصلح لنوع من الصبر وهو الصبر على القدر المؤلم
(3)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله عن حقيقة الصبر وفائدته: "خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها"
(4)
.
من أدلة الكتاب والسنة على الصبر:
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا"
(5)
.
وذكر ابن القيم أن الصبر مذكور في القرآن على ستة عشر نوعًا، وذكرها رحمه الله مع ذكر شواهدها، وأذكر منها على سبيل المثال، الآتي
(6)
:
• الأمر به، نحو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
(1)
المفردات في غريب القرآن (474).
(2)
مدارج السالكين (2/ 155).
(3)
ينظر: أعمال القلوب للسبت (2/ 211، 212).
(4)
عدة الصابرين (16).
(5)
نقله ابن القيم عن الإمام أحمد في عدة الصابرين (71)، مدارج السالكين (2/ 151).
(6)
ينظر: مدارج السالكين (2/ 151 - 152).
• النهي عن ضده، كقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقوله:{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة.
• الثناء على أهله، كقوله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وهو كثير في القرآن.
• محبته سبحانه وتعالى لهم، كقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
• معيته سبحانه وتعالى لهم، وهي معية خاصة، تتضمن: حفظهم ونصرهم، وتأييدهم كقوله:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وهي ليست معية عامة، التي تتضمن: معية العلم والإحاطة.
• الجزاء منه سبحانه وتعالى لهم بغير حساب، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وورد الصبر في السنة في عدة أحاديث منها:
• عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» الحديث
(1)
.
قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "والمراد: أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا"
(2)
.
• وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: إِنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا
(1)
أخرجه مسلم (1/ 203) ح (223).
(2)
شرح النووي على مسلم (3/ 101).
• وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»
(1)
.
دل الحديث على فضيلة الصبر ومكانته العظيمة، ومن يعالج نفسه على الصبر ويعودها عليه، فإن الله يمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وأن الصبر أفضل ما يعطاه المرء لكونه غيرَ محدودٍ جزاؤُه، فيوفيه الله أجره بغير حساب
(2)
، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
من أقوال العلماء في الصبر:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"
(3)
.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم"، ثم رفع صوته فقال:"ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وقال: "الصبر مطية لا تكبو
(4)
"
(5)
.
وقال الحسن رحمه الله: "الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده"
(6)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (2/ 122) ح (1469)، ومسلم (2/ 729) ح (1053).
(2)
ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 304).
(3)
الزهد لأحمد بن حنبل (97)، حلية الأولياء (1/ 50).
(4)
أي: دابة لا تعثر ولا تسقط على الوجه أثناء الحركة.
ينظر: الصحاح (6/ 2471)، مقاييس اللغة (5/ 155)، لسان العرب (15/ 213) مادة (كبا).
(5)
ينظر: الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (24)، حلية الأولياء (1/ 76)، وهو بهذا اللفظ في عدة الصابرين (95).
(6)
الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (28).
(7)
مدارج السالكين (2/ 159).
ويقول أيضًا: "وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله"
(1)
.
المطلب الرابع: المحبة.
تعريفها:
عرفها النووي رحمه الله بقوله: "المحبة: مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه، فيحب ما أحب ويكره ما كره"
(2)
.
وخلاصة القول كما قال ابن القيم رحمه الله: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.
وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة"
(3)
.
من أدلة الكتاب والسنة على المحبة:
• ذكر سبحانه وتعالى أنه يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين.
قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
والآيات في ذلك يصعب حصرها لكثرتها.
• وذكر أيضًا سبحانه وتعالى أنه لا يحب الكافرين، ولا يحب المعتدين، ولا يحب المسرفين، والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ
(1)
مدارج السالكين (2/ 155).
(2)
شرح النووي على مسلم (2/ 14).
(3)
مدارج السالكين (3/ 11).
•
…
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقوله تعالى وتبارك:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
• وجعل سبحانه وتعالى علامة على محبته اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
• وذكر سبحانه وتعالى أن المؤمنين أشد حبًّا لله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
• وقال سبحانه وتعالى عن نفسه وعن عباده الصالحين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
(1)
.
دل الحديث على أن محبة الله ورسوله من أعظم أسباب حلاوة الإيمان، وهي جنة معجلة لمن حقق أسبابها.
(1)
أخرجه البخاري (9/ 20) ح (6941)، ومسلم (1/ 66) ح (43).
من أقوال العلماء في المحبة:
وقال ابن القيم رحمه الله: "المحبّة هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذّة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلّا بها.
وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمّه، واللّسان إذا فقد نطقه، بل فساد القلب إذا خلا من محبّة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الرّوح، وهذا الأمر لا يصدّق به إلّا من فيه حياة"
(1)
.
وقال أيضًا: "المحبّ الصّادق لا بدّ أن يقارنه أحيانًا فرح بمحبوبه، ويشتدّ فرحه به، ويرى مواقع لطفه به، وبرّه به، وإحسانه إليه، وحسن دفاعه عنه، والتّلطّف في إيصاله المنافع والمسارّ والمبارّ إليه بكلّ طريق، ودفع المضارّ والمكاره عنه بكلّ طريق"
(2)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: "علامة المحبّة كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التّنعّم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كلّ ما ينقض عليه الخلوة، ومتى غلب الحبّ والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرّة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحبّ والأنس قلبه"
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "فإن المحب الصادق أحب شيء إليه الخبر عن محبوبه وذكره، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:(لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله)
(4)
، وقال بعض العارفين: كيف يشبعون من كلام محبوبهم وهو غاية مطلوبهم؟! "
(5)
.
(1)
الجواب الكافي (1/ 545 - 546).
(2)
مدارج السالكين (2/ 339 - 340).
(3)
مختصر منهاج القاصدين (351) ـ.
(4)
ينظر: حلية الأولياء (7/ 272، 300).
(5)
مدارج السالكين (3/ 291).
المطلب الخامس: الخوف والخشية.
التعريف:
عرفهما الراغب رحمه الله بقوله: "الخَوْف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أنّ الرّجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضادّ الخوف الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية"
(1)
. أما الخشية فقال عنها: "الخَشْيَة: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] "
(2)
.
وقال الجرجاني رحمه الله: "الخوف: توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب"
(3)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله عن معنى الخشية: "والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فهي خوف مقرون بمعرفة"
(4)
.
من أدلة الكتاب والسنة على الخوف والخشية:
تنوعت نصوص القرآن الكريم في ذكر الخوف والخشية، فمن ذلك:
1 -
أمر الله به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]،، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
(1)
المفردات (303).
(2)
المفردات (283).
(3)
التعريفات (101).
(4)
مدارج السالكين (1/ 508).
2 -
وتارة يجعل الله الخوف والخشية من صفات أوليائه وعباده المتقين، كما في قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21].
3 -
ويذكر الله سبحانه وتعالى أنه بسبب خوفهم منه أدخلهم الجنة كما في قوله تعالى: {(45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46]، وكما في قوله تعالى أيضًا:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
4 -
وتارة يذكر أن العاقبة في الدنيا لهم كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» وذكرهم، ومنهم:«رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»
(1)
.
ومن أعظم ما يحجز العبد عن المعصية خوفه من الله؛ لما يترتب على ذلك من العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له (1/ 133) ح (660)، ومسلم (2/ 715) ح (1031).
من أقوال العلماء في الخوف والخشية:
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وقال:"يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل". وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضي الله عنهم
(1)
.
وقال عمر رضي الله عنه: "لو نادى منادي من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو"
(2)
.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: "يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكن شيئًا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسيًا منسيًّا"
(3)
.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: ضع رأسي، قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي"
(4)
.
وقال المسور بن مخرمة رضي الله عنه: لما طعن عمر قال: "لو أن لي طلاع الأرض
(5)
ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه"
(6)
.
وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعدِ سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي"
(7)
.
(1)
ينظر هذه الآثار في: حلية الأولياء (1/ 33، 2/ 236)، إحياء علوم الدين (3/ 111)، مختصر منهاج القاصدين (313)، البداية والنهاية (1/ 95).
(2)
حلية الأولياء (1/ 53).
(3)
شرح السنة (14/ 373)، وينظر أيضًا: سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون/ 83).
(4)
حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).
(5)
قال الأصمعي: "طلاع الأرض: ملؤها". نقله عنه الجوهري في الصحاح (3/ 1254).
(6)
حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).
(7)
حلية الأولياء (1/ 383)، شرح السنة (14/ 373).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار"
(1)
.
وقال الحسن أيضًا: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"
(2)
.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب"
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط"
(4)
.
قال أبو عثمان رحمه الله: "صِدقُ الخوف هو: الورع عن الآثام ظاهرًا وباطنًا"
(5)
.
ويقول ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله"
(6)
.
(1)
البخاري (8/ 68)، والترمذي واللفظ له (4/ 658).
(2)
شرح السنة (14/ 374).
(3)
إحياء علوم الدين (4/ 162)، مدارج السالكين (1/ 509).
(4)
مدارج السالكين (1/ 510).
(5)
مدارج السالكين (1/ 510).
(6)
مدارج السالكين (1/ 511).
المطلب السادس: الرجاء.
تعريفه:
عرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: "هو النظر إلى سعة رحمة الله"
(1)
.
إذن، الرجاء الطمع في رحمة الله والنظر إلى سعتها.
من أدلة الكتاب والسنة على الرجاء:
• أخبر سبحانه وتعالى عن سعة رحمته فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
• وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا من أسرف على نفسه بالمعاصي: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
دلت الآيات على سعة رحمة الله تعالى، مما يفتح باب الرجاء للعبد، ويحدوه إلى التوبة من ذنوبه، وعليه أن يحذر من اليأس والقنوط من رحمة الله.
وعن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ
(2)
خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»
(3)
.
(1)
مدارج السالكين (2/ 37).
(2)
"أي: بما يقارب ملأها" النهاية في غريب الحديث (4/ 34) مادة (قرب).
(3)
أخرجه أحمد (35/ 375) ح (21472) عن أبي ذر رضي الله عنه، والترمذي واللفظ له (5/ 548) ح (3540) من حديث أنس رضي الله عنه وقال:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والحاكم بلفظ مقارب عن أبي ذر رضي الله عنه (4/ 269) ح (7605) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 250) ح (127)، وحسنه محقق المسند (35/ 375) ح (21472).
وعنه رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ- لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللهَ لَغَفَرَ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ-، لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ»
(1)
.
دل الحديثان على رحمة الله الواسعة بعباده المذنبين إذا أقبلوا عليه تائبين مستغفرين.
من أقوال العلماء في الرجاء:
قال الغزالي رحمه الله: "الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود"
(2)
.
وقال ابن القيم عليه رحمة الله: "الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير"
(3)
.
"وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه"
(4)
.
وقال شاه الكرماني رحمه الله: "علامة صحة الرجاء حسن الطاعة"
(5)
.
وقال أبو علي الروذباري عليه رحمة الله: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت"
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (21/ 146) ح (13493)، ومسند أبي يعلى (7/ 226) ح (4226)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 215) ح (17624):"رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجاله ثقات"، وقال محقق المسند (21/ 146) ح (13493):"صحيح لغيره".
(2)
إحياء علوم الدين (4/ 142).
(3)
مدارج السالكين (2/ 36).
(4)
مدارج السالكين (2/ 36).
(5)
مدارج السالكين (2/ 37).
(6)
مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (17/ 89) مدارج السالكين (2/ 37).
المبحث الثالث: عبادات قلبية لها تعلق بالحج، وفيه مطالب.
المطلب الأول: التوبة والاستغفار.
المطلب الثاني: الاهتمام بشرط قبول العمل.
المطلب الثالث: ارتباط الحج بالتوحيد.
المطلب الرابع: ارتباط الحج بالتقوى.
المبحث الثالث: عبادات قلبية لها تعلق بالحج والعمرة، وفيه مطالب.
توطئة:
عبادة الحج والعمرة إلى بيت الله الحرام لها أثر عظيم على حياة المسلم وسلوكه ولا شك أن الحج المبرور من أعظم العبادات كما صلى الله عليه وسلم: وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَالْعُمْرَتَانِ أَوِ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ يُكَفَّرُ مَا بَيْنَهُمَا "
(1)
.
وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ:«لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ» ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ»
(3)
.
فالحج من الأعمال التي تحدث أثراً كبيراً على سلوك المسلم وأخلاقه، وذلك يحدث بسبب ارتباط الحج بعبادات كثيرة متى ما وفق الله الحاج لتحقيق هذه العبادات زاد أثر حجه عليه، وإذا حصل النقص في تلك العبادات المرتبطة بالحج وغيره، وضعف تحقيقها في القلب ضعف أثر الحج على العبد وربما يخرج من حجه لا يتغير فيه شيء، ويبقى على غفلته، وهذه العبادات العظيمة التي إذا صدق الحاج في عملها ظهرت الثمار المباركة لحجه عليه منها: التوبة وكثرة الاستغفار، والاهتمام بشرط قبول العمل، وتحقيق التوحيد وتنقيته وتصفيته من الشرك، وظهور آثار التقوى على صلاح الباطن والظاهر، ودونك تفصيلها في المطالب الآتية:
المطلب الأول: التوبة والاستغفار.
المطلب الثاني: الاهتمام بشرط قبول العمل.
المطلب الثالث: ارتباط الحج بالتوحيد.
المطلب الرابع: ارتباط الحج بالتقوى.
(1)
أخرجه أحمد (12/ 309) ح (7354)، والبزار (15/ 367) ح (8956)، والنسائي (5/ 112) ح (2622)، وأبو يعلى (12/ 13) ح (6660)، وابن حبان (9/ 8) ح (3695)، وحكم الألباني بصحته في تخريجه لسنن النسائي ح (2622)، وصحح إسناده محقق المسند وقال (12/ 309):" إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(2)
أخرجه البخاري (2/ 133) ح (1520).
(3)
أخرجه البخاري (1/ 14) ح (26)، ومسلم واللفظ له (1/ 88) ح (83).
المطلب الأول: التوبة والاستغفار.
لا شك أن للذنوب والمعاصي أثرًا كبيرًا في إفساد القلب، وضررها عظيم عليه، "وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! "
(1)
.
والذنوب لها أثرها العظيم على الحاج والمعتمر، فتعوقه عن الانتفاع بحجه وعمرته، وتكون سبباً لتقصيره في المناسك، وهذا الداء الخطير على القلوب قد جعل الله له علاجًا، وهو الاستغفار والتوبة.
قال تعالى في بيان أثر الاستغفار: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
وقال سبحانه وتعالى في بيان ثمرات الاستغفار والتوبة: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].
وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
والذي يظهر من أقوال المفسرين في زيادة القوة أنها قوة حسية ومعنوية، يجدون أثرها في حياتهم
(2)
.
ولا شك أن الحاج بحاجة ماسة لهذه القوة التي يعينه الله بها على أداء مناسك حجه على الوجه الصحيح الذي يحبه الله ويرضاه، وفي الحج من أنواع المشاق والمصاعب ما يحتاج معه العبد إلى إعانة الله ورعايته، وأن يمده الله بقوة من عنده على هذا العمل الشاق الذي يجد فيه الحاج لذة في مشاقه، وذلك كلما صدق في توبته واستغفاره.
(1)
الجواب الكافي (1/ 98) لابن القيم.
(2)
ينظر: تفسير الطبري (12/ 445)، تفسير البغوي (4/ 183)، تفسير ابن كثير (4/ 329)، فتح القدير للشوكاني (2/ 573)، تفسير السعدي (383).
ولما كان للتوبة مكانة عظيمة عند الله أمر بها جميع عباده المؤمنين، فقال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى: ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ} أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة"
(1)
.
وأنظر أخي الحاج إلى حال القدوة صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يبذل جهدًا عظيمًا في كثرة الاستغفار والتوبة، وذلك ما يجعل المؤمن يسابق وينافس في هذا المضمار لينال ثمرة ذلك في حياته وعلى حجه ليكون حجاً مبروراً.
يقول أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»
(2)
.
ويَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ»
(3)
.
ومن رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة، فعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
(4)
.
(1)
تفسير السعدي (567).
(2)
أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6307).
(3)
أخرجه أحمد في المسند (30/ 226) ح (18294)، والسنن الكبرى للنسائي (9/ 168) ح (10205)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 435) ح (1452)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (30/ 226) ح (18294):"حديث صحيح".
(4)
أخرجه مسلم (4/ 2113) ح (2759).
بل الأمر أعظم من ذلك، فالله يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا قرّبه النبي صلى الله عليه وسلم بمثال؛ ليظهر منه عظيم فرحة الرب سبحانه وتعالى بتوبة عبده.
(1)
.
وحتى يحصل من التوبة والاستغفار أثرهما على التائب، فلا بد من مراعاة أمور، وهي:
1 -
الندم على ما حصل من الذنوب، وهو من أكثر العلامات الدالة على صدق التوبة، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:" النَّدَمُ تَوْبَةٌ "
(2)
، فإذا ندم الحاج على ما حصل منه من ذنوب وتقصير في حق الله، فهذه علامة على صدق التوبة.
والندم هو الأسف والحسرة التي تكون في القلب على ما حصل من الذنب مما يؤدي إلى بقية شروط التوبة من:
2 -
الإقلاع عن الذنب، وهو دليل على صدق الندم في القلب الذي يثمر إقلاع العبد عن الذنب وعدم إصراره عليه، وقال تعالى في صفات عباده المتقين عند توبتهم من الذنب {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
(1)
أخرجه مسلم (4/ 2103) ح (2744).
(2)
أخرجه أحمد (7/ 113) ح (4012)، وابن ماجه (2/ 1420) ح (4252)، وابن حبان (2/ 377) ح (612)، والحاكم (4/ 271) ح (7612) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 1150) ح (6802)، وقال محقق المسند (7/ 113) ح (4012):"حديث صحيح وهذا إسناد قوي".
وقال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه"
(1)
.
3 -
العزم على عدم العودة للذنب، وهذا من ثمرات التوبة الصادقة.
4 -
وإذا كان الذنب في حقوق الآدميين، فلا بد من إرجاعها لهم أو طلب السماح
(2)
.
5 -
حضور القلب عند التوبة والاستغفار، فتكون التوبة والاستغفار باللسان والقلب، فيحدث أثر التوبة في القلب، وهذا الأثر يحدث -والله أعلم- مع كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه مع التكرار يحضر القلب ويحدث الأثر فيه، ولذا جاءت النصوص بالإكثار من التوبة والاستغفار، كما سبق في الأحاديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحثه لأمته.
6 -
ومن علامات صدق التوبة البحث عن جلساء صالحين يعينونه على الخير والبعد عن جلساء السوء، كما في حديث قاتل المائة، فقد حثه العالم على الذهاب إلى قرية الصالحين حتى يجد من يعينونه على توبته
(3)
، فإن من أسباب الانتكاس عن التوبة والرجوع الذنوب الماضية البقاء مع جلسائه السابقين من أهل السوء.
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 125).
(2)
ينظر: رياض الصالحين (33 - 34) للنووي.
(3)
أخرجه مسلم (4/ 2118) ح (2766).
المطلب الثاني: الاهتمام بشرط قبول العمل.
ومن أعظم ما ينبغي أن يحرص عليه المؤمن أشد الحرص علمه بشرط قبول العمل واجتهاده على تحقيق ذلك في كل عبادته، ومن تلك العبادات عبادة الحج والعمرة، فلا تقبل عبادة الحج والعمرة عند الله إلا بشرطين: أولهما: الإخلاص لله تعالى، وثانيهما: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الاقتداء به في أداء مناسك الحج والعمرة، ودونك تفصيل هذين الشرطين:
1 -
الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى في عبادة الحج والعمرة، فيحرص الحاج والمعتمر على سلامة مقصده في عبادته، يقول الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ 5} سجحالبَيِّنَة الآية تمجسحج، ويقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
(1)
، وعليه أن يجتهد أشد الاجتهاد في الحرص على سلامة نيته لله تعالى في كل عباداته فينتبه لمقاصده، ويحذر أشد الحذر من مفسدات النية من الرياء، والسمعة، وحب ثناء الناس عليه، وغير ذلك من مفسدات الإخلاص، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»
(2)
، ويقول صلى الله عليه وسلم:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ:«الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»
(3)
، ويقول صلى الله عليه وسلم:«قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(4)
.
إنه لمن المحزن جداً على أحوال بعض الحجاج والمعتمرين ما أحدثته وسائل التواصل الحديثة من خرق كبير وخلل خطير في المقاصد والنيات حتى تحول الحج والعمرة عند البعض إلى رحلة سياحية
(1)
أخرجه البخاري (1/ 6) ح (1).
(2)
أخرجه النسائي (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".
(3)
أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة (2/ 1406) ح (4204)، والحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق (4/ 365) ح (7936) وصححه ووافقه الذهبي، وحسن إسناده البوصيري في زوائد ابن ماجه (4/ 236) ح (1505)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) ح (30).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (4/ 2289) ح (2985).
ينقل فيها تحركات الحاج والمعتمر من خلال هذه المواقع ليشاهدها الناس، وهذا يخل كثيراً بالمقاصد والنيات؛ لأنه بهذا العمل يفتح عليه أبواب الرياء والسمعة والعجب بالعمل، فقد يفسد حجه وعمرته أو ينقص أجره بسبب ذلك، وسيأتي مزيد بيان لهذا في ثنايا الكتاب بحول الله وقوته.
الشرط الثاني لقبول العمل: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في مناسك الحج والعمرة، والحذر من الوقوع في البدع والمحدثات التي تكون سبباً في رد العمل وعدم قبوله.
وعن جابر رضي الله عنه يَقُولُ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»
(1)
.
وقال النووي رحمه الله في شرح الحديث السابق: " وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ) فهذه اللام لام الأمر ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال، والأفعال، والهيئات، هي أمور الحج وصفته، وهي مناسككم، فخذوها عني واقبلوها، واحفظوها، واعملوا بها، وعلموها الناس.
وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة:"صلوا كما رأيتموني أصلي""
(2)
.
ولهذا يجب على الحاج أن يتعلم مناسك حجه وعمرته قبل الوصول إلى مواقيت الحج حتى يؤدي عبادته كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقع في البدع والمحدثات فيرد عليه عمله، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
(3)
.
وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»
(4)
.
وإنك لتحزن كثيراً على ما خالف به الناس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحدثوه من بدع في مناسك الحج والعمرة فهناك بدع في الإحرام، وبدع في الطواف والسعي، والحلق والتقصير، وبدع في الوقوف بعرفة،
(1)
أخرجه مسلم (2/ 943) ح (1297) وفي صحيح الجامع للألباني (2/ 1304) ح (7882)، عن جابر رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هذا".
(2)
شرح النووي على مسلم (9/ 45).
(3)
أخرجه مسلم (3/ 1343) ح (1718).
(4)
أخرجه مسلم (3/ 1343) ح (1718).
وفي المبيت بمزدلفة، وبدع في رمي الجمار وفي غير ذلك
(1)
، ولذا يجب على المسلم الذي يريد أداء مناسك الحج والعمرة أن يتعلم هذه العبادة قبل المجيء اليها بفترة طويلة، حتى يتقن ذلك وهذا من العلم الفرض على المسلم الذي لا يعذر فيه، قال صلى الله عليه وسلم:"طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"
(2)
.
"وسئل الفضيل بن عياض عن قوله صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"، فقال كل عمل كان عليك فرضاً، فطلب علمه عليك فرض، وما لم يكن العمل به عليك فرضاً، فليس طلب علمه عليك بواجب"
(3)
.
وعلى هذا من العلم الفريضة على المسلم الذي لا يعذره الله بجهله أن يتعلم أحكام حجه وعمرته المفروضة عليه قبل أداء النسك، وأن يسال أهل العلم عما يشكل عليه، حتى يؤدي نسكه على بينة من أمره، فانه يلاحظ تساهل الناس في تعلم فرائض دينهم، مما يوقع المسلم في البدع والمحدثات وهو لا يشعر، فيعرض عبادته للرد وعدم القبول، بسبب تساهله في تعلم عبادته، والله المستعان.
(1)
وهناك كتب اعتنت بعرض هذه البدع لتحذير الناس منها، وهي ولله الحمد كثيرة منهم من أفردها بمؤلف خاص ومنهم من ذكرها ضمن منسكه، ودونك أمثلة على ذلك:
- التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل والعمرة والزيارة، للعلامة ابن باز رحمه الله.
- مناسك الحج والعمرة، للعلامة الألباني رحمه الله.
- مناسك الحج والعمرة والمشروع في الزيارة، للعلامة ابن عثيمين رحمه الله.
- وذكر كثيراً منها ابن عثيمين رحمه الله في كتابه فقه العبادات.
- البدع والمخالفات في الحج، لمجموعة من المؤلفين، طبعته وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1/ 81) ح (224)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 140) ح (72).
(3)
نقله عنه الخطابي في معالم السنن (4/ 186).
المطلب الثالث: ارتباط الحج بالتوحيد.
الحج من أعظم أركان الإسلام ارتباطاً بالتوحيد من بدايته إلى نهايته والعمرة كذلك ومعالم التوحيد ومظاهره هي أبرز ما يكون فيه وسيتضح ذلك جلياً بحول الله قوته في ثنايا الكتاب، ودونك خلاصة في ذلك:
1 -
التلبية شعار التوحيد.
2 -
الطواف والسعي وما يفعله الحاج والمعتمر فيهما وما يقوله من الذكر والدعاء كل ذلك مرتبط بالتوحيد.
3 -
دعاء يوم عرفة كله توحيد.
4 -
وذكر الله عند المشعر الحرام وارتباطه بالتوحيد.
5 -
وعبادات يوم النحر كلها توحيد.
6 -
ورمي الجمار مرتبط بالتوحيد.
وعلى هذا فإن الحج مدرسة عظيمة تربي المسلم على تجريد التوحيد لله تعالى، والحذر من الشرك بكل أنواعه، والتحرز من السبل الموصلة إليه، وهذه بعض المظاهر الشركية التي يقع فيها بعض الحجاج:
ونبدأ أولاً بمسألة تحتاج إلى شيء من التوضيح ويحصل فيها خلط وتلبيس عند أهل البدع وهي مسألة التبرك
(1)
وهو ينقسم إلى قسمين: تبرك مشروع دلت عليه الأدلة، وتبرك ممنوع يؤدي إلى الشرك والخلل في العقيدة ونفصله في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: التبرك المشروع: وهو طلب البركة من الله، وذلك أن يفعل المسلم العبادات المشروعة طلباً للأجر من الله تعالى المترتب على العبادة، وله أمثلة كثيرة، منها:
(1)
من أراد التوسع في هذه المسألة المهمة فلينظر إلى المصادر الآتية:
- رسالة دكتوراه، للدكتور الجديع بعنوان التبرك أنواعه وأحكامه.
- التبرك المشروع والتبرك الممنوع، للدكتور العلياني.
- التبرك المشروع والممنوع، للشيخ محمد صفوت.
أ - التبرك بذكر الله، وتلاوة القرآن الكريم، ويكون ذلك على الوجه المشروع، وهو طلب البركة من الله عز وجل بذكر القلب، واللسان، والعمل بالقرآن والسنة على الوجه المشروع؛ لأن من بركات ذلك اطمئنان القلب، وقوة القلب على الطاعة، والشفاء من الآفات، والسعادة في الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب، ونزول السكينة، وأن القرآن يكون شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، ولا يتبرك بالمصحف كوضعه في البيت أو في السيارة وإنما التبرك يكون بالتلاوة، والعمل به
(1)
.
ب - أن يتبرك بالصلاة في المسجد الحرام طلباً للثواب المترتب على ذلك كما صح به الحديث، قال صلى الله عليه وسلم:" وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ "
(2)
.
ت - أن يتبرك بتقبيل الحجر الأسود أو استلامه أو الإشارة إليه اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم واقتداء به أما الحجر الأسود فليس فيه بركة في ذاته وإنما البركة في الاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في تقبيله أو استلامه أو الإشارة إليه اقتداء، يقول عمر رضي الله عنه:«إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك»
(3)
.
وهكذا استلام الركن اليماني اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم واقتداء به.
ث - أن يتبرك بالطواف بالكعبة طاعة لله واستجابة لأمره تعالى، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} سجحالحَج الآية جمحتحجسحج.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» وطاف صلى الله عليه وسلم لحجه ولعمرته اذن التبرك المشروع هو بطاعة الله تعالى والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم في أداء المناسك، أما التبرك بالكعبة بالتمسح بجدرانها لأجل
(1)
عقيدة المسلم في ضوء الكتاب والسنة (2/ 755) وينظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، (201 – 241).
(2)
أخرجه أحمد (23/ 415) ح (15271)، وابن ماجه (1/ 451) ح (1406)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 714) ح (3838)، وصحح إسناده محقق المسند.
(3)
أخرجه البخاري (2/ 149).
البركة تنتقل إليه منها فهذا تبرك غير مشروع؛ لأنه لم يرد عليه دليل بأن البركة في ذات حجارة الكعبة أو ستارتها، ونحن عبيد لله مطلوب منا الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فما فعل في حجه وعمرته نفعل، وما نهى عنه نجتنبه.
ج - التبرك بالصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام ركعتين طاعة لله واقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} سجحالبَقَرَةِ الآية تمجتحجتحجسحج، وعليه فلا يتمسح بمقام إبراهيم طلباً للبركة لأن ذلك لم يحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، وهذه عبادات مبينة على الدليل فمن أحدث عملاً يريد به التقرب إلى الله والتبرك به ولم يأمر به الله أو نبيه فعمله باطل مردود عليه قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» .
وفي الرواية الأخرى قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
ح -
…
التبرك بشرب ماء زمزم لورود النص بذلك قال صلى الله عليه وسلم: قال: «إنها مباركة، إنها طعام طعم»
(1)
، وفي الرواية الأخرى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، وَهِيَ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ "
(2)
.
خ - التبرك بالسعي بين الصفا والمروة، قال تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} سجحالبَقَرَةِ الآية جمحتمجتحجسحج، وبينّه النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً في سنته.
د - التبرك بأداء المناسك في الزمان والمكان الذي حدده الشرع في كتاب الله كما في سورة البقرة وسورة الحج، وبينّه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله في سنته، فقال صلى الله عليه وسلم: "يَا
(1)
أخرجه مسلم (4/ 1922) ح (2473).
(2)
أخرجه أبو داود الطيالسي (1/ 364) ح (459)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (7/ 356) ح (10320)، وصحح إسناده البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (3/ 246) ح (2663)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 478) ح (2435).
ذ - أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هذا"، فبين صلى الله عليه وسلم صفة الحج والعمرة من الإحرام إلى آخر النسك أعظم بيان وأتمه وأكمله، ومن أحدث شيئاً في نسك الحج والعمرة لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، فقد وقع في الضلال والبدع التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم أعظم التحذير كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، يقول: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "، وفي الرواية الأخرى: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ:«قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (28/ 375) ح (17145)، وأبو داود (4/ 200) ح (4607)، والترمذي (5/ 44) ح (2676) وقال:" هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (1/ 16) ح (43)، وحكم الألباني بصحته في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/ 107) ح (2455)، وصححه محقق المسند (28/ 375) ح (17145).
المسألة الثانية: التبرك الممنوع: وهو ينقسم من حيث حكمه إلى قسمين:
1 -
تبرك شركي: وهو أن يعتقد المتبرِّك أن المتبرَّك به - وهو المخلوق - يهب البركة بنفسه، فيبارك في الأشياء بذاته إستقلالًا، ويعتقد أن موجد البركة هو هذا المخلوق من صاحب قبر أو غار أو نحوه، لأن الله تعالى وحده موجد البركة وواهبها ولا شريك له في ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"البَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ"
(1)
، فطلبها من غيره، أو اعتقاد أن غيره يهبها بذاته شرك أكبر.
2 -
تبرك بدعي: وهو أن يتبرك بما لم يرد دليل شرعي يدل على جواز التبرك به، معتقدًا أن الله جعل فيه بركة أو يتبرك بالشيء الذي ورد التبرك به في غير ما ورد في الشرع التبرك به فيه.
وهذا بلا شك محرم؛ لأن فيه إحداث عبادة لا دليل عليها من كتاب أو سنة، ولأنه جعل ما ليس بسبب سببًا، فهو من الشرك الأصغر؛ ولأنه يؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر.
وهذا القسم من التبرك - وهو التبرك البدعي – له أحوال منها
(2)
:
أ -
…
التبرك بالعلماء والصالحين وآثارهم.
وجه سؤال للعلامة ابن باز رحمه الله يقول السائل: "هناك من يرى جواز التبرك بالعلماء والصالحين وآثارهم مستدلا بما ثبت من تبرك الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. فما حكم ذلك؟ ثم أليس فيه تشبيه لغير النبي صلى الله عليه وسلم بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل يمكن التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؟ وما حكم التوسل إلى الله تعالى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لا يجوز التبرك بأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بوضوئه ولا بشعره ولا بعرقه ولا بشيء من جسده، بل هذا كله خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله في جسده وما مسه من الخير والبركة.
(1)
أخرجه البخاري (7/ 114) ح (5639).
(2)
ينظر: مختصر شرح تسهيل العقيدة الإسلامية (ص 156).
ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بأحد منهم، لا في حياته ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم فدل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه.
وهكذا لا يجوز التوسل إلى الله سبحانه بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو ذاته أو صفته أو بركته لعدم الدليل على ذلك؛ ولأن ذلك من وسائل الشرك به والغلو فيه عليه الصلاة والسلام.
ولأن ذلك أيضا لم يفعله أصحابه رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولأن ذلك خلاف الأدلة الشرعية. فقد قال الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} سجحالأَعْرَاف الآية تجمجمحتحجسحج، ولم يأمر بدعائه سبحانه بجاه أحد أو حق أحد أو بركة أحد.
ويلحق بأسمائه سبحانه التوسل بصفاته كعزته، ورحمته، وكلامه وغير ذلك، ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة من التعوذ بكلمات الله التامات، والتعوذ بعزة الله وقدرته. ويلحق بذلك أيضا: التوسل بمحبة الله سبحانه، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالإيمان بالله وبرسوله والتوسل بالأعمال الصالحات، كما في قصة أصحاب الغار الذين آواهم المبيت والمطر إلى غار فدخلوا فيه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، ولم يستطيعوا دفعها، فتذاكروا بينهم في وسيلة الخلاص منها. واتفقوا بينهم على أنه لن ينجيهم منها إلا أن يدعوا الله بصالح أعمالهم، فتوسل أحدهم إلى الله سبحانه في ذلك: ببر والديه .. فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه
…
ثم توسل الثاني بعفته عن الزنا بعد القدرة عليه، فانفرجت الصخرة بعض الشيء لكنهم لا يستطيعون الخروج من ذلك
…
ثم توسل الثالث بأداء الأمانة فانفرجت الصخرة وخرجوا.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أخبار من قبلنا لما فيه من العظة لنا والتذكير.
وقد صرح العلماء رحمهم الله بما ذكرته في هذا الجواب
…
كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد وغيرهم.
وأما حديث توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم فشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له فرد الله عليه بصره
…
فهذا توسل بدعاء النبي وشفاعته وليس ذلك بجاهه وحقه كما هو واضح في الحديث
…
وكما يتشفع الناس به يوم القيامة في القضاء بينهم.
وكما يتشفع به يوم القيامة أهل الجنة في دخولهم الجنة، وكل هذا توسل به في حياته الدنيوية والأخروية .. وهو توسل بدعائه وشفاعته لا بذاته وحقه كما صرح بذلك أهل العلم، ومنهم من ذكرنا آنفاً"
(1)
.
ب - التبرك بالأمكنة والجمادات.
- من التبرك الممنوع الذي يؤدي بالحاج إلى الوقوع في البدع والمحدثات الذهاب إلى الجبال مثل جبل حراء المسمى بجبل النور بمكة، لأجل التبرك بالغار الذي نزل فيه الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، أو التبرك بالذهاب إلى جبل ثور الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، أو التبرك بجبل عرفة وبالذات العمود الذي في أعلاه فكل هذا لم يدل عليه دليل فعندما حج النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى غراء حراء، ولا جبل ثور، ولم يصعد على جبل عرفات وإنما وقف في أسفله عند الصخرات، وقال صلى الله عليه وسلم: «نَحَرْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ
(2)
كُلُّهَا مَوْقِفٌ»
(3)
.
(1)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (7/ 65 - 67).
(2)
جمع هي مزدلفة.
(3)
أخرجه مسلم (2/ 893) ح (1218).
فلا تشرع زيارة جبل ثور ولا غار حراء ولا يشرع الصعود على جبل عرفات والتمسح بالعمود المبني فوقه في الحج ولا في غيره؛ لأنه لم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبه الكرام من بعده، فالبركة في الاتباع والشر في الابتداع.
- ومن التبرك الممنوع التبرك بزيارة الأماكن التي لم يرد دليل عليها مثل: مكان المولد النبوي ولم يرد دليل صحيح على إثبات مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فرض أنه عرف مكانه، فلا يجوز التبرك بذلك لعدم ورود الدليل، فما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله أو يحث على فعله فهو من البدع المحدثة.
-
…
ومن المحدثات زيارة مساجد في المدينة النبوية والاعتقاد بفضل الصلاة فيها، مثل المساجد السبعة وغيرها، ممن لم يرد دليل على فضل العبادة فيه، وإنما ورد الدليل بفضل الصلاة في المسجد النبوي ومسجد قباء.
ت - التبرك بالمسجد الحرام والكعبة والمقام، والمسجد النبوي.
والتبرك بذلك يكون باتباع الشرع والعمل بما جاء في الكتاب والسنة في هذه الأماكن المباركة، أما عمل أمور فيها لم يرد عليه الدليل، فذلك من التبرك الممنوع مثل:
- تقبيل أعمدة المسجد الحرام والمسجد النبوي والتمسح بها.
- التمسح بجدران الكعبة وستارتها لأنه لم يرد على هذا التمسح دليل وإنما ورد الدليل على مسح الحجر الأسود والركن اليماني كما سبق وكذلك إلزاق الصدر بالملتزم بين باب الكعبة والحجر الأسود فهذا مما دل عليه الدليل أما بقية جدران الكعبة وأركانها فلم يرد دليل على التبرك بذلك، وهكذا ما يسمى بحجر إسماعيل لم يرد دليل على مسحه.
- ومن التبرك الممنوع التمسح بمقام إبراهيم عليه السلام؛ لأنه لم يرد عليه الدليل كما سبق الكلام على ذلك.
ث - التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن التبرك الممنوع التبرك بالقبر النبوي والتمسح به وتقبيله، والاعتقاد في القلب أنه ينفع العبد ويدفع عنه الضرر، وهذا الأمر لم يرد عليه دليل بل جاء الدليل بخلاف ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم محذراً لأمته: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا
(1)
.
وفي الحديث أَنَّ عَائِشَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهم قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ:«لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا
(2)
.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمّ حَبِيبَةَ رضي الله عنهما أَتَتَا أَرْضَ الحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ»
(3)
.
وفي الرواية الأخرى: فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له (2/ 102) ح (1390)، ومسلم (1/ 376) ح (529).
(2)
أخرجه البخاري (7/ 147) ح (5815).
(3)
أخرجه البخاري (2/ 90) ح (1341).
(4)
أخرجه البخاري (5/ 50) ح (3873)، ومسلم (1/ 375) ح (528).
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم الذي أستجابه الله فحمى قبره، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" اللهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ "
(1)
.
وأما التبرك المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته بريقه وشعره وفضلة وضوئه والتمسح بجسده الشريف؛ فكل ذلك دل عليه الدليل وفعله الصحابة بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم، وكذلك من التبرك المشروع التبرك بآثاره التي بقيت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من شعره وملابسه وآنيته فكل من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح لغيره.
ج - التبرك بقبور الصحابة والصالحين.
فإذا كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح التبرك به ولا يجوز فمن باب أولى قبور الصحابة ومن تبعهم من الصالحين، فما يحدث من تبرك شركي بقبور الصالحين من طلب المدد منهم والطواف بقبورهم والنذر لهم والذبح عند قبورهم والصلاة والدعاء عند قبورهم بحجة أنهم أولياء لله يتوسطون لمن يأتي إليهم عند الله، فكل هذا من الشرك الأكبر الذي يشابه كفار مكة حين قالوا عن معبوداتهم، قال تعالى عنهم:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} سجحالزُّمَر الآية تحمسحج.
وتلاحظ انهم يدعون أن هذه المعبودات هم لا يعبدونها في ذاتها بل هي في زعمهم واسطة بينهم وبين الله وأنهم لصلاحهم يقربون إلى الله، وهذا المنهج الضال صار عليه كل من وقع في الشرك بعدهم، تجدهم يقولون نحن نتقرب إلى الله بواسطة هذا الولي ولا نعبده وإننا نعبد الله وهؤلاء لأنهم صالحون يقربونا إلى الله.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فقد قاسوا الخالق العظيم الذي أحاط علماً بكل شيء، على المخلوق الضعيف من الملوك في الدنيا الذين يحتاجون إلى واسطة يبلغونهم حاجات الرعية، لأنهم لا يحيطون علماً بكل شيء، وهذا لا شك من جهل هؤلاء بالله تعالى وعدم تقديرهم له حق قدره،
(1)
أخرجه أحمد (12/ 314) ح (7358)، وقال محقق المسند (12/ 314):" إسناده قوي".
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ 67} سجحالزُّمَر الآية تمختمحسحج.
قال الشيخ السعدي في تفسيره: " قال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} سجحالزُّمَر الآية تحجسحج، أي: أخلص لله تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد الله وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد.
{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله لله في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها، دون الشرك به في شيء من العبادة. فإن الله بريء منه، وليس لله فيه شيء، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء، فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص، نهى عن الشرك به، وأخبر بذم من أشرك به فقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي: يتولونهم بعبادتهم ودعائهم، [معتذرين] (1) عن أنفسهم وقائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي: لترفع حوائجنا لله، وتشفع لنا عنده، وإلا فنحن نعلم أنها، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئا.
أي: فهؤلاء، قد تركوا ما أمر الله به من الإخلاص، وتجرأوا على أعظم المحرمات، وهو الشرك، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء، الملك العظيم، بالملوك، وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء، وشفعاء، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويستعطفونهم عليهم، ويمهدون لهم الأمر في ذلك، أن الله تعالى كذلك.
وهذا القياس من أفسد الأقيسة، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم، عقلاً ونقلاً وفطرة، فإن الملوك، إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم، لأنهم لا يعلمون أحوالهم. فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة، فيحتاج من يعطفهم
عليه [ويسترحمه لهم] ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء، ويخافون منهم، فيقضون حوائج من توسطوا لهم، مراعاة لهم، ومداراة لخواطرهم، وهم أيضا فقراء، قد يمنعون لما يخشون من الفقر.
وأما الرب تعالى، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها، الذي لا يحتاج من يخبره بأحوال رعيته وعباده، وهو تعالى أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحما لعباده، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم، وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم، وهو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى، لم ينقصوا من غناه شيئا، ولم ينقصوا مما عنده، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط.
وجميع الشفعاء يخافونه، فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه، وله الشفاعة كلها.
فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به، وسفههم العظيم، وشدة جراءتهم عليه.
ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك لا يغفره الله تعالى، لأنه يتضمن القدح في الله تعالى، ولهذا قال حاكما بين الفريقين، المخلصين والمشركين، وفي ضمنه التهديد للمشركين-:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم، ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} أي: لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي: وصفه الكذب أو الكفر، بحيث تأتيه المواعظ والآيات، ولا يزول عنه ما اتصف به، ويريه الله الآيات، فيجحدها ويكفر بها ويكذب، فهذا أنَّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب، وعوقب بأن طبع الله على قلبه، فهو لا يؤمن؟ "
(1)
.
وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ 18} سجحيُونُس الآية جمحتحجسحج
(1)
تفسير السعدي (ص 718).
وفي تفسير السعدي: "يقول تعالى: {يَعْبُدُونَ} أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا تدفع عنهم شيئا.
{وَيَقُولُونَ} قولا خاليا من البرهان: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال تعالى -مبطلا لهذا القول-:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} أي: الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه، أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلاً وشرعاً وفطرة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ 62} سجحالحَج الآية تحجتمحسحج "
(1)
.
(1)
تفسير السعدي (360).
المطلب الرابع: ارتباط الحج بالتقوى.
إن المتأمل في آيات الحج يجد الارتباط العظيم بين التقوى والحج؛ لأن عبادة الحج من أبرز مقاصدها تحقيق التقوى في حياة المسلم، وهذه بعض التي ربطت بين عبادة الحج والتقوى.
1 -
قال تعالى عن المواقيت الزمانية للحج: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].
2 -
وقال تعالى في أول آيات الحج من سورة البقرة {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ثم ختمها بقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
3 -
وقال تعالى بعد ذلك في آيات الحج من سورة البقرة: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
4 -
وقال تعالى عن أحكام الصيد للمحرم: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96].
5 -
وقال تعالى في خاتمة آيات الحج في سورة البقرة: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].
6 -
وقال تعالى عن الأضاحي والهدايا المرتبطة بشعائر الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
7 -
وقال تعالى عن تعظيم مناسك الحج ومنها الهدي وغيره من المناسك: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]
(1)
.
وهذه بعض الوقفات تعليقاً على هذه الآيات:
الوقفة الأولى: ماهي التقوى؟
التقوى بعبارة موجزة أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بامتثال الأمر واجتناب النهي.
الوقفة الثانية: التقوى عمل قلبي يظهر أثره على الجوارح.
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
فتعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب، وأضاف التقوى في الآية إلى القلب لأن حقيقة التقوى فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّات
(2)
. والمعظم لشعائر الله يبرهن على تقواه وصدق إيمانه
(3)
، وهذا يدل على أهمية عمل القلوب وأثره على حياة العبد، فإذا حقق العبد التقوى ظهر عليه تعظيمه لشعائر الله تعالى في سره وجهره، ومن أبرز ما يظهر فيه أثر التقوى على العبد مناسك الحج، كما سياتي في الوقفة الآتية:
الوقفة الثالثة: الحج من أعظم العبادات التي تظهر فيها آثار التقوى على سلوك الحاج والمعتمر.
وذلك لأن الحج رحلة شاقة فيها مفارقة للأهل والوطن، وفيها جهد بدني، وبذل مالي، ولا يعين على ذلك إلا التقوى، فحين يقبل الحاج والمعتمر على فعل أمر الله واجتناب نهيه، ابتغاء أن يقيه الله عذاب الدنيا والآخرة، فحينئذ تسهل عليه أداء مناسك حجه وعمرته على أحسن حال يحبه الله ويرضاه.
الوقفة الرابعة: طرق عملية لتفعيل أثر التقوى على الحاج والمعتمر.
وهذه بعض الطرق العملية -على وجه الاختصار- التي تعين الحاج والمعتمر على تحقيق التقوى في حجه وعمرته:
(1)
ينظر: التقوى في آيات الحج، د. إبراهيم الحقيل، موقع الألوكة على الشبكة.
(2)
أخرجه مسلم (4/ 1986) ح (2564).
(3)
ينظر: تفسير القرطبي (12/ 56)، تفسير السعدي (538).
1 -
الإخلاص لله تعالى والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته كما سبق الكلام عن ذلك، وسيأتي كذلك مزيد بيان لذلك في ثنايا الكتاب.
2 -
الحرص على أن تكون نفقته في حجه وعمرته من مكسب حلال لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولأن المال الحرام يمنع إجابة الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51].
وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ "
(1)
.
3 -
أن يحرص على الرفقة الصالحة في حجه وعمرته التي تعينه على طاعة الله وتذكره بالله إذا غفل.
4 -
أن يحرص الحاج والمعتمر على امتثال الأحاديث الآتية سلوكاً عملياً في حجه وعمرته، وفي وسائر أحواله:
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»
(2)
.
- وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"
(3)
.
- وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ "
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (2/ 703) ح (1015).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 11) ح (10) واللفظ له، ومسلم بعضه دون قوله:"والمهاجر .. "(1/ 65) ح (41).
(3)
أخرجه أحمد (35/ 284) ح (21354)، والدارمي (2/ 925) ح (2820)، والترمذي (4/ 355) ح (1987) وقال:" حسن صحيح"، والحاكم (1/ 121) ح (178) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 81) ح (97).
(4)
أخرجه أحمد (3/ 259) ح (1737)، والترمذي (4/ 558) ح (2317) وقال:"حديث غريب"، وابن ماجه (2/ 1315) ح (3976)، وابن حبان (1/ 466) ح (229)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1027) ح (5911) وفي غيره، وقال في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 96) ح (2881):"حسن لغيره"، وحسنه بمجموع شواهده الارناؤوط في تعليقه على سنن ابن ماجه (5/ 119).
- يَقُولُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ "
(1)
.
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ»
(2)
.
- عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
(3)
.
5 -
أن يحرص الحاج والمعتمر على التخلق بالخلق الحسن والبعد عن أخلاق السوء، وسيأتي مزيد بيان لذلك.
6 -
أن يحفظ جوارحه من الوقوع في الحرام.
7 -
أن يجاهد نفسه على الخشوع في صلاته
(4)
.
8 -
أن يحرص الحاج والمعتمر على وقته في أثناء أداء المناسك فلا يضيعه فيما لا فائدة منه، بل يعمر أوقاته بالعبادة من تلاوة وذكر واستغفار وتوبة مع الحرص أداء المناسك في أوقاتها المحددة شرعاً.
(1)
أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599).
(2)
أخرجه أحمد (12/ 149) ح (7215)، والترمذي (4/ 557) ح (2314) وقال:"حسن غريب"، والحاكم (4/ 640) ح (8769) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح (1/ 334) ح (1618)، وصححه محقق مسند أحمد (12/ 149).
(3)
أخرجه البخاري (1/ 12) ح (13)، ومسلم (1/ 67) ح (45).
(4)
ينظر كتاب أثر عمل القلب على عبادة الصلاة للمؤلف على موقع شبكة الألوكة، من تصميم وإخراج مشروع تعظيم قدر الصلاة بمكة المكرمة.
المبحث الرابع: أثر عمل القلب على مناسك الحج، وفيه مطالب.
المطلب الأول: أثر عمل القلب على عبادة الإحرام.
المطلب الثاني: أثر عمل القلب على عبادة الطواف والسعي.
المطلب الثالث: أثر عمل القلب على عبادات يوم التروية.
المطلب الرابع: أثر عمل القلب على عبادة الوقوف بعرفة.
المطلب الخامس: أثر عمل القلب على عبادة المبيت بمزدلفة.
المطلب السادس: أثر عمل القلب على عبادة رمي الجمار.
المطلب السابع: أثر عمل القلب على عبادة الحلق أو التقصير.
المطلب الثامن: أثر عمل القلب على عبادة المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.
المبحث الرابع: أثر عمل القلب على مناسك الحج والعمرة، وفيه مطالب.
المطلب الأول: أثر عمل القلب على عبادة الإحرام، وفيه مسائل.
وحين يصل الحاج والمعتمر إلى المواقيت المكانية أو يحاذيها من الجو أو البحر، فيستعد للدخول في عبادة الإحرام، والتي سيكون الحديث عنها في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: أن يستحضر بقلبه نية الدخول في عبادة الإحرام.
وهنا الحاج والمعتمر عند إحرامه يحرص على سلامة مقصده لله تعالى في هذه العبادة، يتفقد قلبه وهو ينوي الدخول في نسكه، فيحذر المقاصد الفاسدة التي تزينها له نفسه وشيطانه من الرياء والعجب والسمعة، وسيأتي بيان ذلك، وهذا حال القدوة صلى الله عليه وسلم عند إحرامه فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: «حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَةٍ عَلَيْهَا رَحْلٌ رَثٌّ
(1)
، وَقَطِيفَةٌ
(2)
لَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ هَذِهِ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ»
(3)
.
وعبادة الحج والعمرة عبادة عظيمة، ووقعها في قلوب الناس عظيم، فلا بد من الانتباه للمقصد والنية ومجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى في هذه العبادة والتجرد من أسباب الرياء والسمعة التي تفسد على الحاج والمعتمر عبادته، وسيأتي مزيد بيان لذلك.
المسألة الثانية: التلبية شعار التوحيد، وعلاقتها بعمل القلب.
ويبدأ الحاج والمعتمر في التلبية عند استوائه على مركوبه من سيارة ونحوها؛ لورود الأحاديث بذلك، وهنا يحسن التنبيه على بعض الأمور المتعلقة بعمل القلب عند التلبية، ومن ذلك ما يأتي:
1 -
رفع الصوت بالتلبية عبادة عظيمة لها أثر كبير في لذة هذه العبادة إذا توافق القلب مع اللسان.
2 -
أن يستحضر الملبي معنى ما يقول.
(1)
الرث: الشيء البالي القديم.
ينظر: الصحاح (1/ 282) مادة (رثث)، مقاييس اللغة (2/ 384) مادة (رث).
(2)
القطيفة: كساء له أهداب. ينظر: المعجم الوسيط (2/ 747).
(3)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 308)، والترغيب والترهيب لقوام السنة (2/ 16) ح (1056) وأبو الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (5/ 80) ح (1705) بسند صحيح كما قاله الألباني في منسكه (16) ح (13) وصححه في السلسلة الصحيحة بمجموع طرقه (6/ 230) ح (2617).
3 -
المواصلة في هذه العبادة مع رفع الصوت حتى يصل الحاج والمعتمر إلى البيت العتيق.
وسيأتي مزيد بيان للتلبية وما يتعلق بها في مبحث قادم.
المسألة الثالثة: أن يدرك بقلبه خطر التساهل في محظورات الإحرام.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].
وفي هذه الآية دليل على خطورة التساهل في محظورات الإحرام، فإذا تلبس المسلم بنسك الحج والعمرة حرم عليه ما كان حلالاً قبل ذلك ابتلاءً واختباراً، وهنا يظهر أثر الخوف من الله ذلك العمل القلبي العظيم الذي إذا كان حياً في القلب حجز صاحبه عن الوقوع في محظورات الإحرام وغيرها من المحرمات، ويختبر الله عبده بحصول بعض الأشياء المرغوبة لديه مما يحبه ويرغب قلبه فيه، وذلك يكون في حال خلوته لا يراه أحد فهنا يظهر الصادق في خوفه من الله الذي يخشاه بالغيب وينجح في الاختبار أو يضعف خوفه من الله في حال خلوته فيرتكب ما حرم الله عليه لأن لا يراه أحد فيسقط في الاختبار، ولهذا جاء الوعيد الشديد الذي تنخلع منه القلوب، لمن ينتهك محارم الله في حال خلوته، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»
(1)
.
واليوم تيسر سماع الحرام والنظر إليه من خلال أجهزة الجوال والقنوات الفضائية ويمر على المسلم ومن ضمنهم الحاج والمعتمر مناظر محرمة يستطيع أن يراها بدون أن يعلم به أحد من الناس؛ ليختبره الله هل يخاف الله بالغيب فيحذر من السقوط في الاختبار، أو أنه لا يبالي بما حرم الله ما دام لا يراه
(1)
أخرجه ابن ماجه (2/ 1418) ح (4245)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 170) ح (3534):"رواه ابن ماجه ورواته ثقات"، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (4/ 246) ح (1525):"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 591) ح (2346)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 317) ح (4245).
الناس وينسى أن الله يراه، فتزل قدم بعد ثبوتها، ويسقط في الاختبار ويعرض نفسه لعقوبة الله، ويكون ذلك سبباً لخذلانه، نسأل الله السلامة والعافية.
المطلب الثاني: أثر عمل القلب على عبادة الطواف والسعي.
الطواف بالبيت العتيق والسعي بين الصفا والمروة عبادة عظيمة لها ارتباط وثيق بعمل القلب، وذلك أن يستحضر من يقوم بهذه العبادة بقلبه أنه يمتثل أمر الله ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يحرص في طوافه وسعيه على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فيفعل مثله في طوافه وسعيه، ويحذر من الوقوع في البدع والمحدثات التي أدخلها الناس في هذه العبادة وهي ليست منها، ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه وسعيه، مثل إحداث أدعية خاصة لكل شوط من الطواف والسعي لم ترد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما أحدثه الناس في طوافهم وسعيهم من أمور تنافي الإخلاص لله تعالى في هذه العبادة مثل تصوير أنفسهم وهم يؤدون هذه العبادة، وهذا الفعل خطير على المقاصد والنيات ويدخل الشيطان من خلال ذلك، فيوقعهم في الرياء والسمعة، وسيأتي حديث مفصل عن هذه الآفات.
المطلب الثالث: أثر عمل القلب على عبادات يوم التروية.
يشعر بقلبه أنه يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم في أداء مناسك الحج، ففي اليوم الثامن من ذي الحجة يذهب إلى منى ليصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والمبيت بها وصلاة الفجر، ثم الانطلاق إلى عرفات بعد شروق الشمس.
المطلب الرابع: أثر عمل القلب على عبادة الوقوف بعرفة.
هذا اليوم من أيام الله الخالدة في حياة الحاج خاصة، وله وقعه العظيم في قلبه، هذا يوم عرفة قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم:" الْحَجُّ عَرَفَةُ .. "
(1)
الحديث، وهذا الموقف بعرفة من أعظم مواقف الدنيا التي يقفها العبد بين يدي الله، وبالأخص وقت العشي منه، قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللهَ عز وجل يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا "
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ
(1)
أخرجه أحمد (31/ 64) ح (18774)، والترمذي (3/ 228) ح (889)، والنسائي (5/ 264) ح (3044)، وابن ماجه (2/ 1003) ح (3015)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 1331) ح (2822)، والحاكم (2/ 305) ح (3100) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 606) ح (3172)، وصحح إسناده محقق المسند.
(2)
أخرجه أحمد (13/ 415) ح (8047)، وابن في صحيحه (9/ 163) ح (3852)، والحاكم (1/ 636) ح (1708) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 33) ح (1152)، وصححه محقق المسند.
عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ "
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"وَمَا مِنْ يوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عبادي شعثاً غبراً ضاحين جاؤوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا من النار من يوم عرفة"
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم كما في مسند البزار:"وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كِلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرَهَا، أَوْ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ"
(3)
.
وهنا لا بد أن نقف وقفة مع دعاء يوم عرفة بهذا الذكر المخصوص الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
(4)
.
وروى البيهقي بسنده: "عن الحسين بن الحسن المروزي، وكان جاور بمكة حتى مات قال: سألت سفيان بن عيينة، عن تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم" أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" وإنما هو ذكر ليس فيه دعاء.
قال سفيان: سمعت حديث منصور عن مالك بن الحارث
(5)
؟ قلت: نعم قال: ذاك تفسير هذا، ثم قال: أتدري ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى ابن جدعان يطلب نائله ومعروفه؟ قلت: لا قال: لما أتاه قال:
(1)
أخرجه مسلم (2/ 982) ح (1348).
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه (9/ 164) ح (3853)، وقال محققه:"حديث صحيح".
(3)
أخرجه البزار في مسنده (12/ 317) ح (6177) وقال: "وهذا الكلام قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، ولا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق"، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 111) وقال:"وهي طريق لا بأس بها رواتها كلهم موثقون" وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 9) ح (1112).
(4)
أخرجه أحمد (11/ 548) ح (6961)، الترمذي (5/ 572) ح (3585) واللفظ له وقال:"حديث غريب"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 252) ح (5550):"رواه أحمد، ورجاله موثقون"، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 8) ح (1503) وقال بعد أن ذكر شواهده هناك:"وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد والله أعلم".
(5)
ينظر: الزهد والرقائق - لابن المبارك - ت الأعظمي (326) فقد أورده عن كلام مالك بن الحارث رقم الأثر (929)، وقد ورد مرفوعاً من حديث عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: «إِذَا شَغَلَ عَبْدِي ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» أخرجه البزار (1/ 247) ح (137)، ومسند الشهاب القضاعي (1/ 340) ح (584)، وقد ذهب الكثير من المحققين إلى تضعيفه، وذهب البعض إلى تصحيحه، والعلم عند الله تعالى، وله الفاظ أخرى.
ينظر: تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (3/ 220) ح (1133)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (10/ 745) ح (4989).
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي
…
حِبَاؤُكَ إن شِيمَتَكَ الْحِبَاءُ
إذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمَا
…
كفَاهُ مِنْ تَعَرُّضكَ الثَّنَاءُ
قال سفيان: فهذا مخلوق حين ينسب إلى الجود، قيل: يكفينا من تعرضك الثناء عليك حتى تأتي على حاجتنا، فكيف بالخالق؟ "
(1)
.
وهذه بعض الوقفات مع هذا الدعاء والذكر العظيم:
1 -
هذا ذكر وهو في نفس الوقت دعاء، وكما في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:" .. وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ" الحديث
(2)
، وذلك لأن الدعاء ينقسم كما قال أهل العلم إلى نوعين، الأول: دعاء عبادة وثناء وهو ما يقوم به العبد من عبادة وثناء على الله من صلاة وذكر وصدقة ونحو ذلك، وهو لم يطلب ويسال الله لكنه بعبادته وثنائه على الله فهو متعرض إلى دعاء الله والله يعلم ماذا يريد فيعطيه، والنوع الثاني: دعاء مسألة وطلب من الله تعالى، وهذا هو الدعاء المعروف تسأل الله ما تريد من أمور الدنيا والآخرة، ودعاء عرفة يدخل في النوع الأول فهو دعاء عبادة وثناء، وهما متلازمان
(3)
.
2 -
وهذا الذكر والدعاء العظيم هو أفضل وأعلى وأرفع شعب الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
(4)
.
(1)
شعب الإيمان (2/ 96).
(2)
"أخرجه الترمذي (5/ 462) ح (3383) وقال: "حديث حسن غريب"، ابن ماجه (2/ 1249) ح (3800)، وابن حبان (3/ 126) ح (846)، والحاكم (1/ 676) ح (1834) وصححه، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 221) ح (1526)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (4/ 712) ح (3800).
(3)
ينظر: بدائع الفوائد (3/ 2).
(4)
أخرجه مسلم (1/ 63) ح (35).
وفي رواية قَالَ صلى الله عليه وسلم: " الْإِيمَانُ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ بَابًا، أَرْفَعُهَا وَأَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ"
(1)
.
3 -
وفضائل هذه الكلمة العظيمة قد كُتِبَ فيها الكتب، وتعرضوا لما يتعلق بها من معنى وشروط ولوازم في كتب العقائد.
4 -
وإذا كان الذاكر لله بهذه الكلمة العظيمة حاضر القلب يدرك معاني ما يقوله بلسانه في هذا الموقف العظيم، واتفق القلب مع اللسان، فإن لهذا الدعاء والثناء على الله والذكر بكلمة التوحيد أثره العظيم على صلاح ظاهر الإنسان وباطنه، وبراءته من الشرك، ومن كل تعلقات القلب بغير الله، ولو رسخ في قلب المسلم عظمة هذه الكلمة، وفهم معناها، وعمل بمقتضاها؛ لأدى ذلك إلى قلع وخلع جذور الشرك بالله من القلب.
5 -
ولأن كلمة التوحيد تعني إفراد الله بالعبادة والإقرار بتوحيد الألوهية والربوبية لله تعالى، وماله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولهذا كانت دعوة جميع الأنبياء عليهم السلام لأممهم الدعوة إلى تحقيق معاني هذه الكلمة في حياتهم، وإفراد الله بجميع العبادة، ولا يصرف منها شيء لغيره، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وقالها صالح وهود وشعيب وكل نبي لقومه.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وقالها النبي صلى الله عليه وسلم لقومه حتى إنهم عجبوا من هذه الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهي مقتضى كلمة التوحيد: لا إله إلا الله التي بلغها لهم، فقالوا مستعجبين كما ذكر الله عنهم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
(1)
وهي في مسند أحمد (14/ 496) ح (8926) وقال المحقق: " إسناده صحيح على شرط مسلم".
وعَنْ رجل من بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ
(1)
يَتَخَلَّلُهَا يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ تُفْلِحُوا» ، قَالَ: وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ، وَتَتْرُكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، قَالَ: وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. الحديث
(2)
.
وعَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، وَهُوَ يَقُولُ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ تُفْلِحُوا» ، وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَكَعْبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُطِيعُوهُ، فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: هَذَا غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قُلْتُ: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالَ: هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ .. الحديث
(3)
.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه عَلَى اليَمَنِ، قَالَ:«إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»
(4)
، وفسر في الرواية الثانية عبادة الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: «إِنَّكَ
(1)
موضع سوق بالجاهلية لهذيل بالقرب من عرفة في منتصف المسافة بينها وبين ما يسمى اليوم شرائع النخل، من ناحية جبل كبكب.
ينظر: معالم مكة التأريخية والأثرية (243)، معجم معالم الحجاز (1502 - 1503).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (27/ 148) ح (16603)، وقال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 21 - 22) ح (9830):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (27/ 148) ح (16603):"إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين".
(3)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 119) ح (159)، وابن حبان في صحيحه (14/ 517 - 518) ح (6562)، قال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (14/ 519) ح (6562):"إسناده صحيح"، وقال الأعظمي محقق صحيح ابن خزيمة (1/ 119) ح (159):"إسناده صحيح".
(4)
أخرجه البخاري (2/ 119) ح (1458).
سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
…
» الحديث
(1)
.
وفي الرواية الثالثة: أن يوحدوا الله، عن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى
…
» الحديث
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: "ولهذا كان الصحيح: أن أول واجب يجب على المكلف: شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»
(3)
، فهو أول واجب، وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2/ 128) ح (1496).
(2)
أخرجه البخاري (9/ 114) ح (7372).
(3)
أخرجه أبو داود (3/ 190) ح (3116)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1105) ح (6479)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (5/ 34) ح (3116):"حديث صحيح".
(4)
مدارج السالكين (3/ 412).
المطلب الخامس: أثر عمل القلب على عبادة المبيت بمزدلفة.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].
فإذا أفاض الحاج من عرفات ووصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير في أحكام تتعلق بها يرجع فيها إلى كتب المناسك، ونقف هنا مع هذه الآية عدة وقفات:
الوقفة الأولى: العبادة الحاضرة في كل منسك من مناسك الحج ذكر الله وسيأتي الكلام عنه.
الوقفة الثانية: حين يذكر الإنسان بقلبه عظيم نعمة الله عليه بالهداية بعد الضلال، وعلمه ما لم يكن يعلم، فهذه من أكبر النعم، التي يجب شكرها، ومقابلة ذلك بذكر المنعم بها بالقلب واللسان
(1)
، وقال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وقال تعالى:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، فحين تتذكر نعمة الهداية من الله، وأنها محض فضل من الله تفضل بها عليك، وأنعم بها عليك، ولولا فضله ومنته ما عرفت هذا الدين وما اهتديت إليه، فكم من البشر على وجه الأرض لا يعرفون هذا الدين، اجتالتهم شياطين الجن والأنس عنه، فلله الفضل والمنة العظيمة علينا نحن أهل الإسلام، قال تعالى ممتناً على عباده:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
وقال تعالى ممتناً كذلك على عباده: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (92).
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 – 8].
الوقفة الثالثة: فإذا استحضر العبد بقلبه عظيم منته الله عليه بالهداية شعر بفقره وحاجته الملحة لربه في حفظ هذه النعمة عليه، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، فيقبل على شكر الله وذكره وهو يشعر بعظيم نعمة الله عليه وجميله الذي يطوقه ولا يستطيع مهما عمل واجتهد في العمل أن يرد شيئاً يسيراً من جميل الله عليه وعظيم منته عليه بالهداية والتوفيق لها.
المطلب السادس: أثر عمل القلب على عبادة رمي الجمار.
وعبادة رمي الجمرات لها علاقة وثيقة بعمل القلب ويتضح ذلك في النقاط الآتية:
أولاً: التسليم والانقياد لأمر الله في طاعته والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم في كل مناسك الحج من إحرام وطواف وسعي ووقوف في المشاعر ورمي الجمار والحلق والتقصير، وأنت أيها الحاج عبد لله تنفذ أمره لأجل ذكره والتقرب إليه بهذه العبادات، فقلبك يعظم شعائر الله فلا يكون في النفس أي تبرم أو حرج من أمر الله، بل لا يرى الله من قلبك إلا التسليم والانقياد في حجك وعمرتك، وفي سائر أمرك حيثما كنت لا يرى الله منك إلا الاستسلام والانقياد في صغير الأمر وكبيره، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
ثانياً: عبادة رمي الجمرات مرتبطة بالذكر والدعاء، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل "
(1)
.
والذكر والدعاء لا يحدث أثره في حياة العبد إلا إذا كان القلب حاضراً مدركاً لمعنى ما يقوله ويفعله، فإذا اتفق القلب واللسان على الذكر والدعاء خشع القلب وخشعت الجوارح لله رب العالمين، ووجد الذاكر لربه طمأنينة القلب وراحة النفس قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
المطلب السابع: أثر عمل القلب على عبادة الحلق أو التقصير.
ولعمل القلب أثر على عبادة الحلق أو التقصير من كونها من مناسك الحج والعمرة، ويظهر فيها امتثال أمر الله والاقتداء برسول صلى الله عليه وسلم وكل منسك من مناسك الحج والعمرة يربي المسلم على مطلق الامتثال والانقياد لأمر الله دون مدافعة ولا ممانعة بل استسلام تام وانقياد كامل، وقد سبق الكلام في ذلك.
(1)
أخرجه أحمد (41/ 17) ح (24468)، وأبو داود (2/ 179) ح (1888)، والترمذي (3/ 237) ح (902) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 1295) ح (2738)، والحاكم (1/ 630) ح (1685) وصححه وأقره الذهبي، وصحح إسناده محقق صحيح ابن خزيمة ح (2738)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (2/ 170) ح (328) وقال أن الصواب الذي رواه الثقاة وقفه على عائشة رضي الله عنها، ومال إلى هذا محقق المسند ح (24468)، والعلم عند الله.
المطلب الثامن: أثر عمل القلب على عبادة المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.
وكما سبق فأعمال أيام التشريق ولياليه لإقامة ذكر الله وتربية المسلم على أن يكون القلب منقاداً لأمر الله مستسلماً لحكمه حريصاً على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل مناسك حجه.
المبحث الخامس: ارتباط عمل القلب بالذكر والدعاء في الحج والعمرة، وفيه مطلبان.
المطلب الأول: أثر عمل القلب على الذكر في الحج والعمرة.
المطلب الثاني: أثر عمل القلب على الدعاء في الحج والعمرة.
المبحث الخامس: ارتباط عمل القلب بالذكر والدعاء في الحج والعمرة، وفيه مطلبان.
ومن الشعائر الظاهرة جداً في الحج والعمرة وهي أبرز شعائره القولية الأمر بكثرة ذكر الله ودعائه في كل مناسك الحج والعمرة من بادية النسك إلى نهايته: من تلبية، وأذكار وأدعية الطواف والسعي، وأذكار ودعاء يوم عرفة، وذكر الله ودعاؤه عند المشعر الحرام، والذكر الدعاء عند رمي الجمار وأذكار أيام التشريق، ولا شك أن لعمل القلب أثره العظيم على هذه الأذكار والأدعية، إذا جاهد العبد نفسه على حضور القلب وكانت أعمال القلب من محبة وخوف ورجاء حاضرة ومتحققة في القلب ولابد أن يظهر أثرها على جوارح العبد فيكون ذاكراً وداعياً لله بقلبه ولسانه، فحينئذ لا تجد الحاج والمعتمر إلا وهو يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جانبه في حله وترحاله، وفي كل أحواله يلهج لسانه بالذكر والدعاء، ودونك شيء من التفصيل وفق المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: أثر عمل القلب على الذكر في الحج والعمرة.
المطلب الثاني: أثر عمل القلب على الدعاء في الحج والعمرة.
المطلب الأول: أثر عمل القلب على الذكر في الحج والعمرة، وفيه مسائل.
توطئة:
وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200]
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]
أما من السنة، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل ".
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ".
وسيكون إن شاء الله تفصيل في هذا المطلب وفق المسائل الآتية:
المسألة الأولى: التلبية وأثر عمل القلب عليها.
أولاً: النصوص التي جاءت برفع الصوت في التلبية: عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «العَجُّ وَالثَّجُّ»
(1)
.
و (العج) رفع الصوت بالتلبية و (الثج) نحر الهدي والاضاحي لِيَثُجَّ الدم من المنحر
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3/ 180) ح (827)، وابن ماجه (2/ 975) ح (2924)، والدارمي (2/ 1130) ح (1838)، وصحيح ابن خزيمة (2/ 1247) ح (2631)، والحاكم (1/ 620) ح (1655) وصححه، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 486) ح (1500) وحسنه، وأورده محقق المسند في هامش تخريج مسند أحمد (27/ 101) وقال:"ورجاله ثقات".
(2)
ينظر: صحيح ابن خزيمة (2/ 1247).
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ، فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ "
(1)
.
عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ .. »
(2)
.
عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحُّ أَصْوَاتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ تَلْبِيَتِهِمْ»
(3)
.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَرُحْنَا إِلَى مِنًى، أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ»
(4)
.
وفي الحديث دليل على رفع الصوت بالتلبية للرجل كهيئة الصراخ وهو أشد ما يمكن رفع الصوت إليه، ولكن هذا بشرط ألا يتسبب في أذية نفسه، والمتفق عليه بين أهل العلم استحباب رفع الصوت بالتلبية، وذهب بعض أهل الظاهر إلى وجوبه، وأما المرأة إذا كانت بين النساء فإنها ترفع صوتها بقدر ما تسمع جارتها، وإذا كانت بحضرة رجال فتخفض من صوتها
(5)
.
وعَنْ بَكْرٍ المزني قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ «فَلَبَّى حَتَّى أَسْمَعَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ»
(6)
.
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي، إِلَّا لَبَّى، مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ، مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا»
(7)
.
(1)
أخرجه أحمد (36/ 11) ح (21678)، والحاكم (1/ 620) ح (1654) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 74) ح (68)، وصحح إٍسناده محقق المسند ح (21678).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 373) رقم الأثر (15057) وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (3/ 408).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (3/ 372).
(4)
أخرجه مسلم (2/ 914) ح (1247).
(5)
ينظر: شرح النووي على مسلم (8/ 232)، البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (23/ 369).
(6)
مصنف ابن أبي شيبة (3/ 372).
(7)
أخرجه الترمذي (3/ 180) ح (828)، وابن ماجه (2/ 974) ح (2921)، وصحيح ابن خزيمة (2/ 1248) ح (2634)، والحاكم (1/ 620) ح (1656) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 22) ح (1134)، وصححه الأرناؤوط في تعليقه على ابن ماجه (4/ 159) ح (2922).
ثانياً: لفظ تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: " أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ "
(1)
.
الأفضل للحاج والمعتمر أن يلتزم بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم وان زاد عليها فلا بأس لورود الدليل بذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره للصحابة على ما زادوا من تلبية.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه مناسك الحج والعمرة:
" - ويلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم:
أ - "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". وكان لا يزيد عليها.
ب - وكان من تلبيته صلى الله عليه وسلم: "لبيك إله الحق".
- والتزام تلبيته صلى الله عليه وسلم أفضل وإن كانت الزيادة عليها جائزة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم الناس الذين كانوا يزيدون على تلبيته قولهم: "لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل".
وكان ابن عمر يزيد فيها: "لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل""
(2)
.
ثالثاً: قال ابن تيمية رحمه الله: "والتلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته. والمعنى: أنا مجيبوك لدعوتك؛ مستسلمون لحكمتك مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك والتلبية شعار الحج "فأفضل الحج العج والثج"، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة دماء الهدي.
(1)
أخرجه البخاري وهذا لفظه (2/ 138) ح (1549)، ومسلم (2/ 841) ح (1184) ولفظه: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَزِيدُ فِيهَا: " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ". وتلاحظ في هذه الرواية زيادة ابن عمر على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل جواز الزيادة في التلبية كما ذكر أهل العلم.
(2)
مناسك الحج والعمرة (16 - 17).
ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل بحيث لا يجهد نفسه والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال مثل أدبار الصلوات ومثل ما إذا صعد نشزا أو هبط واديا أو سمع ملبيا أو أقبل الليل والنهار أو التقت الرفاق وكذلك إذا فعل ما نهي عنه"
(1)
.
رابعاً: أثر عمل القلب على التلبية، ويكون في النقاط الآتية:
1 -
إن مما يبعث على الإكثار من التلبية محبة العبد لربه وشوقه إلى استجابة نداء الحق الذي دعاه إلى حج بيته، فقال تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
نقل ابن حجر عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج قال: رب وما يبلغ صوتي، قال: أذن وعليّ البلاغ، قال: فنادى إبراهيم يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون.
ومن طريق بن جريج عن عطاء عن بن عباس وفيه: فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ.
قال ابن المنير في الحاشية: وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى "
(2)
.
2 -
…
إن حضور القلب مع اللسان عند التلبية يحُدِثُ أثرها على القلب والجوارح، فيطمئن بها القلب ويتلذذ بها، وتخشع الجوارح لله تعالى.
3 -
ورفع الصوت للرجال بالتلبية اظهار لهذه الشعيرة العظيمة حتى ترتج بها الأفاق ويشعر المسلم بعزته بإسلامه، ويقوى في قلبه حب الله وحب دينه ويشعر، بعظمة هذا الدين، فيسارع ويسابق إلى مرضاة الله في حجه وعمرته، وفي سائر أحواله.
(1)
مجموع الفتاوى (26/ 115).
(2)
فتح الباري (3/ 409).
4 -
وإذا حضر القلب مع اللسان وأدرك الملبي معنى ما يقول رسخت في النفس معاني التوحيد الخالص لله تعالى، وكلما زادت معرفة العبد بربه زاد حبه وإيمانه بالله وخوفه ورجاؤه، وزاد في قلبه بغض الشرك كبيره وصغيره.
5 -
وإذا لبى الحاج والمعتمر أدرك عظيم نعمة الله عليه بتوفيقه لهذه العبادة العظيمة، وشعر بمنة الله عليه العظيمة، فلهج في تلبية بالحمد والثناء على ربه، وكان في ذلك أفضل الدعاء قال صلى الله عليه وسلم:" .. وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ"، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
المسألة الثانية: أذكار دخول المسجد الحرام.
ليس لدخول المسجد الحرام ذكر خاص، وإنما يذكر ما ورد من أذكار في دخول أي مسجد، لكنه يجاهد قلبه ليشعر بعظمة الموقف بين يدي الله وهو يدخل المسجد الحرام الذي تعدل الصلاة فيه مائة ألف صلاة فيما سواه، كما صح بذلك الحديث
(1)
.
المسألة الثالثة: أذكار الطواف والسعي.
ما ثبت من أذكار الطواف والسعي:
1 -
يقطع التلبية حين يشرع في الطواف.
2 -
ويقول عند استلام الحجر الأسود (بسم الله، الله أكبر)، وعند محاذاته في كل مرة -في حال الزحام- (الله أكبر) ويشير إليه.
3 -
يحرص الحاج والمعتمر في طوافه أن يتذكر أموراً منها:
- يجتهد في حضور القلب في هذا الموقف العظيم وهو يؤدي عبادة الطواف ببيت الله الحرام.
- يقبل بقلبه على ربه، ويفرغه من كل تعلق بغير الله.
- يستشعر بقلبه أنه يمتثل أمر ربه {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
(1)
قال صلى الله عليه وسلم: " وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ ". أخرجه أحمد (23/ 415) ح (15271)، وابن ماجه (1/ 451) ح (1406)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 714) ح (3838)، وصحح إسناده محقق المسند.
4 -
ليس للطواف ذكر مخصوص، فله أن يقرأ القرآن ويذكر الله بما شاء، قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل".
وقال صلى الله عليه وسلم: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ، فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلَا يَنْطِقْ إِلَّا بِخَيْرٍ»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، فَأَقِلُّوا مِنَ الْكَلَامِ»
(2)
.
5 -
فعلى الحاج والمعتمر أن يحرص في حال طوافه على الاقبال على الله بقلبه ووجهه، ويستحضر عظمة من يعبده ويطيعه في أداء هذه العبادة ويحرص على الخشوع والبعد عن أذية المسلمين في حال طوافه ويكون عليه سكينة ووقار لأنه في عبادة لله تعالى، ويشغل وقته في طوافه بكثرة ذكر الله والدعاء بما فتح الله عليه، أما ما يحدثه بعض الناس من رفع صوت بالدعاء بطريقة تشوش على الطائفين خشوعهم، ثم يزيد الأمر سوءاً أن بعضهم يرفع صوته ويردد من خلفه ما يقوله من دعاء، وكان الأولى بهم أن يؤمّنوا على دعائه ولا يردده بعده، فليس لهذا أصل والله أعلم، وغالب من يقوم برفع الصوت بالدعاء في الطواف هم من يخصص لكل شوط دعاء، وهذا كما قال أهل العلم من المحدثات، وسيأتي الكلام عنه.
(1)
أخرجه الدارمي (2/ 1165) ح (1889)، الحاكم (2/ 293) ح (3058) وسكت عنه وأقره الذهبي، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 346):"وصححه ابن السكن، وابن خزيمة، وابن حبان"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 733) ح (3954).
(2)
أخرجه النسائي (5/ 222) ح (2922)، وقال عنه ابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 349):"وهذه الرواية صحيحة .. "، وحكم الألباني بصحته في تعليقه على أحاديث سنن النسائي (5/ 222) ح (2922).
المسألة الرابعة: ذكر يوم عرفة.
وقد سبق الكلام عن أذكار يوم عرفة وسيأتي إشارة إلى الدعاء في يوم عرفة.
المسألة الخامسة: الذكر عند المشعر الحرام.
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [الحج: 27].
وفي حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ .. "
(1)
الحديث.
دل هذا الحديث على وقت الذكر بعد صلاة الفجر لمن سيدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس، أما الضعفة ومن في حكمهم فإنهم يذكرون الله قبل مغادرة مزدلفة بعد منتصف الليل، وكَانَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما «يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِاللَّيْلِ، فَيَذْكُرُونَ اللهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
وفي مواطن ذكر الله ينبغي على الحاج عدم العجلة في ذكره، وأن يقبل بقلبه على ربه، فيذكره بقلب حاضر يدرك معنى ما يقول، ويستشعر عظيم توفيق الله له حيث أوقفه هذه المواقف الخالدة وتفضل عليه بأداء هذا النسك فيحمد الله ويكبره ويهلله، ويدعو ربه بما شاء من خير الدنيا والآخرة.
إن مما يبقى أثر الحج على حياة المسلم سيره في أداء مناسكه على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في حجه وعمرته وتتبع سنته في ذلك والحرص على الإخلاص لله تعالى في هذه المواقف
(1)
أخرجه مسلم (2/ 891) ح (1218).
(2)
أخرجه مسلم (2/ 941) ح (1295).
العظيمة، والحذر من إفساد النية بالتصوير بحجة الذكرى ونحو ذلك من الحجج الشيطانية، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.
المسألة السادسة: الذكر عند رمي الجمار.
قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل ".
وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل حصاة عند رمي الجمار
(1)
، جمرة العقبة في يوم العيد، وفي حديث جابر الذي سبق في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم:"حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي"
(2)
.
وعند رمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق
(3)
.
وهنا يتذكر الحاج بقلبه وهو يرمي الجمار ويقول (الله أكبر) مع كل حصاة معنى الله أكبر، وهذا سيكون التفصيل فيه في المسألة الآتية.
ورمي الجمار لإقامة ذكر الله، فعلى الحاج أن يحرص على الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في رميه للجمار، فلا يقع في الغلو في الدين الذي هو من أمراض القلب التي تفسد على الإنسان دينه،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: «هَاتِ، الْقُطْ لِي» فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ:«بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ»
(4)
.
(1)
وفي مسند أبي يعلى (12/ 96 ت حسين أسد) ح (6728) عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ» وقال المحقق: "إسناده صحيح".
(2)
أخرجه مسلم (2/ 891) ح (1218).
(3)
وفي صحيح ابن حبان (9/ 180) ح (3868) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَ يَرْمِي الْجِمَارَ حَتَّى تَزَولَ الشَّمْسُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كُلَّ جَمْرَةٍ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ تَكْبِيرَةً يَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى وَعِنْدَ الْوُسْطَى بِبَطْنِ الْوَادِي، فَيُطِيلُ الْمَقَامَ، وَيَنْصَرِفُ إِذَا رَمَى الْكُبْرَى، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا. وقال المحقق:" إسناده حسن، محمد بن إسحاق: روى له مسلم قي المتابعات، وهو صدوق، وقد صرح بالتحديث، فانتفت شبهة تدليسه، وباقي رجاله رجال الشيخين".
(4)
أخرجه أحمد (3/ 350) ح (1851)، والنسائي (5/ 268) ح (3057)، وأبو يعلى (4/ 316) ح (2427)، وابن خزيمة (2/ 1349) ح (2867)، والحاكم (1/ 637) ح (1711) وصححه وأقره الذهبي، وحكم الألباني بصحته في تعليقه على سنن النسائي ح (3057)، وقال محقق مسند أحمد (3/ 351):"إسناده صحيح على شرط مسلم".
يَقُولُ جابر رضي الله عنه: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ»
(1)
.
وفي الحديث دليل على استحباب أن يكون قدر الحصاة كما ورد في الحديث كحبة الباقلاء
(2)
وهو أكبر قليلاً من حبة الحمص كحبة الفول، أو مثل بعرة الغنم
(3)
.
المسألة السابعة: التكبير يوم النحر وفي أيام التشريق.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].
وذكر ابن كثير في تفسيره: " قال ابن عباس: "الأيام المعدودات" أيام التشريق، و"الأيام المعلومات" أيام العشر. وقال عكرمة: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} يعني: التكبير أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر"
(4)
.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللهِ "
(5)
.
ومن الذكر في أيام التشريق التكبير المطلق في كل وقت من ليل أو نهار في أيام التشريق إلى مغرب آخر يوم من أيامها، والتكبير المقيد في أدبار الصلوات.
والتكبير للحاج يبدأ من رمي حمرة العقبة يوم العيد ويكون المقيد منه في أدبار الصلوات من ظهر يوم العيد إلى فجر اليوم الثالث من أيام التشريق
(6)
.
والتكبير من أكثر الأذكار التي يقولها المسلم في يومه وليلته وفي كل العام يكون في الأذان والإقامة، وفي الصلوات في الانتقال بين أركانها، وبعد الصلوات، وقبل النوم، وفي العيدين، وفي أيام العشر من ذي الحجة، وفي يوم النحر وأيام التشريق، ويقوله المجاهد في سبيل الله في ساحات الوغى، ولهذا ارتباط كبير بعمل القلب يتجلى في النقاط الآتية:
(1)
أخرجه مسلم (2/ 944) ح (1299).
(2)
ينظر: شرح النووي على مسلم (9/ 47).
(3)
ينظر: توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (3/ 468).
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 560).
(5)
أخرجه مسلم (2/ 800) ح (1141).
(6)
ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي (5/ 33)، المغني لابن قدامة (3/ 288).
أولاً: معناه: الله أكبر من كل شيء
(1)
.
ثانياً: ثمراته وآثاره المباركة على حياة المسلم:
1 -
إذا رسخ في قلب العبد اليقين بمعاني التكبير، وكان يقوله بقلب حاضر يدرك ويعلم معاني ما يقول، وجاهد نفسه على الاستمرار والصبر على حضور قلبه؛ ليعقل وليفهم ويعلم ما يقول، أثمر ذلك خشوعه وخضوعه لعظمة الله الكبير.
والسؤال المهم: ما أثر قولنا لهذا التكبير كثيراً في حياتنا على خشوع قلوبنا؟ وعلى خوفنا وخشيتنا من الله وتعظيمه حق التعظيم، فزادت خشيتنا له، وزادت هيبتنا منه، وزادت عظمته في قلوبنا فقدّرناه حق قدره وعظّمناه حق التعظيم، وخشعت قلوبنا من هيبته وجلاله وعظمته، إنه الله جل جلاله أكبر من كل شيء، كل شيء من دونه أصغر، هو الكبير المتعال الذي خضعت لعظمته جميع المخلوقات طوعاً وكرهاً، قال تعالى عن نفسه عزوجل:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15].
وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
هو مالك الملك مدبر الأمر مصرف الكون، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83].
(1)
ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 24).
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} المؤمنون: 88 – 89].
هو وحده الذي يرزق ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يمسك السموات فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، يرفع السماء بغير عمد نراها، أقرأ هذه الآيات بقلب حاضر متدبر يدرك بقلبه عظمة الله وقوته ويقدره حق قدره، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 74].
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66].
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ
خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 2 – 3].
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
2 -
إذا حضر في القلب محبة الله والشعور بعظمته وأنه أكبر من كل شيء، ازداد العبد شوقاً للقاء ربه وسهلت عليه كل المشاق التي يواجهها في طريقه إلى ربه، بل يترقى في سلم المحبة حتى يصل إلى درجة التلذذ بما يلقاه في سبيل الله وسبيل مرضاته، ولا يبالي بمن يصده عن الطريق عن الله لأنهم في نظره أصغر شيء لا حول لهم ولا قوة إلا ما أقدرهم عليه العلي الكبير، فهم يثبتون على الحق الذي يحبه الله ويرضاه ثبات الجبال الراسيات، ودونك هذه الأمثلة التي تبين هذه الحقيقة:
المثال الأول: وهم سحرة فرعون، يعلنون الرضا بما يلقونه في ذات الله، عندما توعدهم فرعون بالعقوبة التي ظن أنها سترهبهم، وتعيدهم إلى ما كانوا عليه من الطاعة والتقرب له، ولكن القوم ذاقوا حلاوة الإيمان، وعرفوا مرارة الكفر والعصيان، فأصبحوا يجدون لذة فيما يصيبهم في ذات الله، وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، يثبت صاحبه على الحق ثبات الجبال الراسخات، فلا تهزه العواصف، ولا يتزحزح عن الحق الذي معه مهما كانت قوة الباطل وصلفه.
ولنعش مع أحداث هذه القصة كما يذكرها ربنا سبحانه وتعالى في أكثر من سياق، فيقول تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 43 - 51].
المثال الثاني: وهذا نموذج آخر على الرضا بما يلقاه في ذات الله: فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ
(1)
سَرِيَّةً عَيْنًا
(2)
، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ جَدَّ
(1)
الرهط في اللغة: يطلق على المجموعة من الثلاثة إلى العشرة.
ينظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 450) مادة (رهط).
(2)
السرية قطعة من الجيش أكثرها أربعمائة، وسموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، مِنْ الشيء السَّرِيِّ النَّفِيس، وقيل: أصلها من السرى لأنها تخرج في الليل حتى لا يعلم بها أحد.
ينظر: غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 227)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 363). مادة (سرى)، والمقصود من إرسال هذه السرية تتبع أخبار العدو.
عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالهَدَأَةِ
(1)
-وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ
(2)
وَأَحَاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ، وَلَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ اليَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالعَهْدِ وَالمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ دَثِنَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ
(3)
فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الغَدْرِ، وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ؛ إِنَّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةً، يُرِيدُ القَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟! مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا
(1)
ويسمى أيضًا بالْهَدَّة، وهو الموقع الذي حصلت فيه مقتلة الصحابة وهو أسفل الهدة ويسمى الرجيع، وهو ماء يعرف باسم «الْوَطِيَّةِ» ، يقع شمال مكة على مسافة سبعين كلم، ويقع في شرق عسفان يسار الخارج من عسفان إلى مكة، وتسمى المنطقة كلها اليوم بهدى الشام.
ينظر: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة (125) لمحمد بن محمد حسن شُراب، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (138)، معجم معالم الحجاز (1825) لعاتق البلادي.
(2)
الفدفد: المكان المرتفع فيه صلابة.
ينظر: تهذيب اللغة (14/ 53) مادة: (فد).
(3)
القسي جمع قوس، وهي آلة رمي النبال.
ينظر: لسان العرب (6/ 185) مادة (قوس)، وينظر أيضاً: غريب الحديث للخطابي (3/ 233).
خَرَجُوا مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا.
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَقَتَلَهُ ابْنُ الحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا
(1)
، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ
(2)
، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا
(3)
.
المطلب الثاني: أثر عمل القلب على الدعاء في الحج والعمرة، وفيه مسائل.
توطئة:
ومن العبادات الحاضرة في مناسك والعمرة كثرة دعاء الله تعالى، فهناك أدعية خاصة جاءت بها النصوص في مواطن محددة في كل منسك من مناسك الحج والعمرة، وهناك مجال رحب واسع للدعاء بما شاء الإنسان من خير الدنيا والآخرة بدون الالتزام بصيغة محددة للدعاء، بل يدعو بما شاء والأكمل والأفضل أن يحرص على الأدعية التي جاءت في القرآن وصحيح السنة.
(1)
القتل صبرًا: كل من قتل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنه مقتول صبرًا.
ينظر: عون المعبود وحاشية ابن القيم (7/ 251).
(2)
أي: مثل السحابة من الزنابير، وقيل: هي ذكور النحل.
ينظر: فتح الباري لابن حجر (7/ 384).
(3)
أخرجه البخاري (4/ 67) ح (3045).
تنبيه مهم جداً:
وهنا تنبيه مهم جداً في مسألة الدعاء في الحج والعمرة، وهو أن الحج والعمرة عبادة مبنية على التوقيف والاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هذا"، والدعاء في الحج أو العمرة أحد هذه المناسك، فلا يصح لأحد أن يحدث دعاء مخصوصاً في أحد هذه المناسك إلا بدليل منه صلى الله عليه وسلم، وهو القائل صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» .
وفي الرواية الأخرى قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
وعلى هذا فمن خص منسكاً من مناسك الحج أو العمرة بدعاء خاص لهذا المنسك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فعمله مردود عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك، ومثال على ما أحدثه الناس من أدعية مخصوصة لكل شوط من الطواف والسعي لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاص بهذه الأشواط، فيكون بذلك قد أحدث عملاً لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت نيته حسنة يريد بذلك وجه الله تعالى، فقد حقق الشرط الأول من شروط قبول العبادة وهو الإخلاص، ولم يحقق الشرط الثاني وهو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبادة الحج والعمرة فقد يرد عمله عليه، لأن هذا العمل الذي عمله هذا الحاج أو المعتمر لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو يرشد إليه أو يعمله في الحج أو العمرة، فمن أحدث دعاء مخصوصاً في الطواف أو السعي أو في أي منسك من مناسك الحج أو العمرة فقد وقع في البدعة؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله؛ ولهذا كان من لم يلتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته على خطر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» .
وفي الرواية الأخرى قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
وهذه الأعمال التي يجعلها الله هباء منثوراً في يوم القيامة، فلا ينتفع أصاحبها بها وهم أحوج ما يكونون إليها، لأنها إما ليست خالصة لله تعالى، وإما أنها على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
أولاً: ما ثبت من أدعية الحج والعمرة:
ودونك هذه المسائل حول هذا الموضوع:
المسألة الأولى: الدعاء عند الإحرام وبعده.
1 -
يقول عند نية الدخول في النسك: اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة،
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: «حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَةٍ عَلَيْهَا رَحْلٌ رَثٌّ
(2)
، وَقَطِيفَةٌ
(3)
لَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ هَذِهِ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ».
2 -
الإهلال بالتوحيد، يقول جابر رضي الله عنه في وصفه لحجة النبي صلى الله عليه وسلم:"فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، .. فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ «لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» ".
المسألة الثانية: دعاء دخول المسجد الحرام.
يقول العلامة ابن باز رحمه الله في منسكه في وصفه لدخول المسجد الحرام: " فإذا وصل إلى المسجد الحرام سن له تقديم رجله اليمنى، ويقول: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم اللهم افتح لي أبواب رحمتك".
(1)
ينظر: مدارج السالكين (2/ 89).
(2)
الرث: الشيء البالي القديم.
ينظر: الصحاح (1/ 282) مادة (رثث)، مقاييس اللغة (2/ 384) مادة (رث).
(3)
القطيفة: كساء له أهداب. ينظر: المعجم الوسيط (2/ 747).
ويقول ذلك عند دخول سائر المساجد، وليس لدخول المسجد الحرام ذكر يخصه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم"
(1)
.
المسألة الثالثة: أدعية الطواف.
لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف دعاء خاص، قال شيخ الإسلام في منسكه:"ويُسْتَحَبُّ له في الطوافِ: أنْ يذكُرَ اللهَ تعالَى ويَدْعُوَهُ بما يُشْرَعُ، وإنْ قرأَ القرآنَ سِرًّا فلا بأسَ، وليسَ فيه ذِكْرٌ محدودٌ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا بأَمْرِهِ، ولا بِقَوْلِهِ، ولا بتعلِيمِهِ، بلْ يدعُو فيه بسائرِ الأدعيةِ الشرعيةِ، ومَا يذكُرُهُ كثيرٌ مِنَ الناسِ مِنْ دعاءٍ معيَّنٍ تحتَ الميزابِ ونحوِ ذلِكَ فلَا أصلَ لَهُ، لكن كان يختِمُ طوافَهُ بين الركنينِ بقولِهِ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»، كمَا كانَ يختِمُ سائِرَ الأدعية بذلِكَ، وليسَ في ذلك ذِكْرٌ وَاجِبٌ باتفاقِ الأئمةِ"
(2)
، ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم يقول: بين الركن اليماني والحجر الأسود
(3)
، ما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»
(4)
.
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في منسكه: "ويستحب له أن يكثر في طوافه من ذكر الله والدعاء وإن قرأ فيه شيئاً من القرآن فحسن.
(1)
التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة (ص 40).
(2)
مناسك الحج لابن تيمية (ص 74 - 75).
(3)
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما كما في مجمع الزوائد (3/ 240) الأثر رقم (5471) عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ. ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
ويكون هذا في ابتداء الطواف، وأشار إلى القول به في بداية الطواف كثير من أهل العلم لوروده عن الصحابة رضي الله عنهم.
ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي (8/ 30)، المغني لابن قدامة (5/ 215)، مناسك الحج لابن تيمية (ص 70)، التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة لابن باز (ص 41).
(4)
أخرجه أحمد (24/ 120) ح (15399)، وأبو داود (2/ 179) ح (1892) واللفظ له، وابن خزيمة (2/ 1288) ح (2721)، وابن حبان (9/ 134) ح (3826)، والحاكم (2/ 304) ح (3098) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (6/ 141) ح (1653)، وقال محقق المسند (24/ 121):"إسناده محتمل للتحسين".
ولا يجب في هذا الطواف ولا غيره من الأطوفة، ولا في السعي ذكر مخصوص ولا دعاء مخصوص.
وأما ما أحدثه بعض الناس من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة أو أدعية مخصوصة فلا أصل له، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كفى، فإذا حاذى الركن اليماني استلمه بيمينه وقال:" بسم الله والله أكبر " ولا يقبله، فإن شق عليه استلامه تركه ومضى في طوافه ولا يشير إليه ولا يكبر عند محاذاته؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، ويستحب له أن يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، وكلما حاذى الحجر الأسود استلمه وقبله وقال:" الله أكبر "، فإن لم يتيسر استلامه وتقبيله أشار إليه كلما حاذاه وكبر"
(1)
.
المسألة الرابعة: أدعية السعي.
قال جابر رضي الله عنه في وصفه لحجة النبي صلى الله عليه وسلم: " .. حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ - وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة: 158]«أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ: مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ، فَقَالَ:«لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» الحديث.
وهذه تنبيهات حول هذا الجزء من الحديث:
(1)
التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة (ص 43 - 45).
1 -
وتلاحظ هنا أنه لم يذكر النبي دعاء مخصوصاً عند مقام إبراهيم عليه السلام ولا بعد الصلاة خلفه، فعليه فلا يصح إحداث دعاء مخصوص لهذه العبادة، ومن فعل فقد ابتدع في دينه وأحدث مالم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
2 -
وفي الحديث صفة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في السعي بين الصفا والمروة، فيقرأ الآية عند قربه من الصفا فيرقى على الصفا حتى يرى الكعبة فيستقبلها ويقول الذكر:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثلاث مرات وبين كل مرة يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة، ويكرر هذا الذكر والدعاء ثلاث مرات، ولم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على دعاء مخصوص في هذا الموقع كما يظهر من حديث جابر رضي الله عنه.
3 -
وقال العلامة ابن باز في منسكه: " ويستحب أن يستقبل القبلة ويحمد الله ويكبره ويقول: " لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم يدعو بما تيسر رافعاً يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء ثلاث مرات، ثم ينزل فيمشي إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأول، فيسرع الرجل في المشي إلى أن يصل إلى العلم الثاني، وأما المرأة فلا يشرع لها الإسراع بين العلمين؛ لأنها عورة وإنما المشروع لها المشي في السعي كله، ثم يمشي فيرقى المروة أو يقف عندها والرقي عليها أفضل إن تيسر ذلك، ويقول ويفعل على المروة كما قال وفعل على الصفا، ما عدا قراءة الآية وهي قوله
(1)
ينظر: شرح حديث جابر في صفة حجة النبي لابن عثيمين (ص 34) وقال الشيخ رحمه الله: " وهل للمقام دعاء؟
الجواب: ليس للمقام دعاء ولا دعاء قبل الركعتين ولا بعدهما، ولكن المشكلة أن مثل هذه البدع صارت كأنها قضايا مسلمة مشروعة حتى إن الحاج ليرى أن حجه ناقص إذا لم يفعل هذا، وكل هذا بسبب تقصير العلماء أو قصورهم، وإلا فمن الممكن أن يعطى هؤلاء الحجاج مناسك من بلادهم توجههم للطريق الصحيح". شرح حديث جابر في صفة حجة النبي لابن عثيمين (ص 34 - 35).
4 -
تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فهذا إنما يشرع عند الصعود إلى الصفا في الشوط الأول فقط؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم "
(1)
.
المسألة الخامسة: دعاء يوم عرفة.
وقال ابن باز في منسكه: " ثم يقف الناس بعرفة، وكلها موقف إلا بطن عُرنَةَ، ويستحب استقبال القبلة وجبل الرحمة إن تيسر ذلك، فإن لم يتيسر استقبالهما استقبل القبلة وإن لم يستقبل الجبل، ويستحب للحاج في هذا الموقف أن يجتهد في ذكر الله سبحانه ودعائه والتضرع إليه، ويرفع يديه حال الدعاء وإن لبى أو قرأ شيئاً من القرآن فحسن، ويسن أن يكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قُلتُ أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر»
فينبغي الإكثار من هذا الذكر وتكراره بخشوع وحضور قلب وينبغي الإكثار أيضاً من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت ولا سيما في هذا الموضع في هذا اليوم العظيم ويختار جوامع الذكر والدعاء"
(2)
.
المسألة السادسة: الدعاء عند المشعر الحرام.
قال جابر رضي الله عنه في وصفه لحجة النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ .. ".
المسألة السابعة: الدعاء عند رمي الجمار.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في منسكه عن المبيت بمنى ليالي التشريق ورمي الجمار بعد طواف الإفاضة في يوم النحر: " رجع إلى منى فيبيت بها ليلتي اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ويرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس في اليومين والأفضل أن يذهب للرمي ماشياً وإن ركب فلا بأس،
(1)
التحقيق والإيضاح (ص 46).
(2)
التحقيق والإيضاح (ص 52 - 53).
فيرمي الجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات عن مكة وهي التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً ويدعو دعاء طويلاً بما أحب، فإن شق عليه طول الوقوف والدعاء دعا بما يسهل عليه ولو قليلاً ليحصل السنة.
ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يأخذ ذات الشمال فيقف مستقبلاً القبلة رافعاً يديه ويدعو دعاء طويلاً إن تيسر عليه، وإلا وقف بقدر ما يتيسر، ولا ينبغي أن يترك الوقوف للدعاء لأنه سنة، وكثير من الناس يهمله إما جهلاً أو تهاوناً، وكلما أضيعت السنة كان فعلها ونشرها بين الناس أؤكد لئلا تترك وتموت.
ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة ثم ينصرف ولا يدعو بعدها. "
(1)
.
تنبيه مهم: هذه الأدعية التي مر ذكرها في المناسك تحتاج إلى أن نقف معها بعض الوقفات حول أثر عمل القلب عليها:
1 -
الحرص على حضور القلب عند الدعاء مع اليقين بأن الله سيستجيب له، وذلك لأن حضور القلب مع اليقين بالإجابة له أثر كبير في استجابة الدعاء، أما غفلة القلب وعدم حضوره ويقينه يؤثر على قبول الله للدعاء يقول: صلى الله عليه وسلم «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»
(2)
.
2 -
الشعور بالافتقار إلى الله في الدعاء، يؤدي إلى انكسار القلب بين يدي الله تعالى، وذلك له أثر عجيب في قرب العبد من ربه وسرعة استجابته لدعوته.
3 -
الإلحاح على الله والتضرع إليه، ومن الأسباب العظيمة لاستجابة الدعوة إلحاح العبد على ربه وشدة طلبه وشدة تضرعه، ولأن ذلك دليل على افتقار العبد واحتياجه إلى ربه، وهذا أدعى للإجابة.
(1)
المنهج لمريد العمرة والحج (ص 24 - 25).
(2)
أخرجه أحمد (11/ 235) ح (6655)، والترمذي واللفظ له (5/ 517) ح (3479) وقال:«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ، والحاكم (1/ 670) ح (1817) وقال:"هذا حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري، وهو أحد زهاد أهل البصرة، ولم يخرجاه "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 148) ح (17203):"رواه أحمد، وإسناده حسن". والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 108) ح (245) وذكره في السلسلة الصحيحة (2/ 141) ح (594).
4 -
رفع اليدين في الدعاء وتكرار يا رب يا رب، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم والثناء على الله مع الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم لها أثر في شعور القلب بقرب الله منك ومعيته الخاصة لك، وذلك من أسباب استجابة الله للداعي.
- وفي الحديث القدسي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي»
(1)
، وكانت أدعية الأنبياء وعباد الله بقولهم: ربنا.
- وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»
(2)
.
- وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ»
(3)
.
ومعنى " أَلِظُّوا ": أي الزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله في دعائكم، وقيل: هو بمعنى الإلحاح على الله بهذه اللفظة
(4)
.
- يقول فَضَالَةُ بْنَ عُبَيْدٍ، صَاحِب رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«عَجِلَ هَذَا» ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 2067) ح (2067).
(2)
أخرجه أبو داود (2/ 78) ح (1488)، وجود إسناده ابن حجر في فتح الباري (11/ 143)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (5/ 226) ح (1337)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تعليقه على سنن أبي داود (2/ 610).
(3)
أخرجه أحمد (29/ 138) ح (17596)، والترمذي (5/ 540) ح (3525)، والحاكم (1/ 676) ح (1836) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 269) ح (1250)، وصحح إسناده محقق المسند (29/ 138).
(4)
ينظر: شرح سنن أبي داود لابن رسلان (17/ 445)، قوت المغتذي على جامع الترمذي (2/ 951).
(5)
أخرجه أحمد (39/ 363) ح (23937)، وأبو داود (2/ 77) ح ()، والترمذي (5/ 517) ح (3477) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والحاكم (1/ 354) ح (840) وصححه ووافقه الذهبي، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود (5/ 221) ح (1331)، وصحح إسناده محقق مسند أحمد (39/ 363).
المبحث السادس: أثر عمل القلب على أخلاق المسلم في الحج، وفيه مطالب.
المطلب الأول: مكانة الخلق الحسن في دين الإسلام.
المطلب الثاني: مظاهر حسن الخلق في الحج.
المطلب الثالث: سوء الخلق وخطره على الحاج.
المبحث السادس: أثر عمل القلب على أخلاق المسلم في الحج، وفيه مطالب.
المطلب الأول: مكانة الخلق الحسن في دين الإسلام.
ودونك طرفًا من الأحاديث في بيان مكانة الخلق الحسن:
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ»
(1)
.
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»
(2)
.
وفي رواية أخرى عن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»
(3)
.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»
(4)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ:«تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ» ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ:«الفَمُ وَالفَرْجُ»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (45/ 537) ح (27555)، وابن حبان (2/ 230) ح (481)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 89) ح (134)، وقال محقق المسند (45/ 537) ح (27555):"حديث صحيح".
(2)
أخرجه البخاري (5/ 28) ح (3759).
(3)
أخرجه البخاري (8/ 14) ح (6035)، ومسلم (4/ 1810) ح (2321)
(4)
أخرجه أحمد في المسند (42/ 346) ح (25537)، وأبو داود (4/ 252) ح (4798)، وابن حبان (2/ 228) ح (480)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 8) ح (2643)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (42/ 346) ح (25537):"حديث صحيح لغيره".
(5)
أخرجه أحمد في المسند (15/ 47) ح (9096)، والترمذي (4/ 363) ح (2004) وقال:"صحيح غريب"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4246)، وابن حبان في صحيحه (2/ 224) ح (476)، والحاكم (4/ 360) ح (7919) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 318) ح (1723).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا»
(1)
.
ومما يدل على مكانة حسن الخلق وأثره العظيم أنه سبب لدخول الجنة مع قلة النوافل، أو العقوبة بالنار لمن ساء خلقه مع كثرة نوافله، لكنها لا تنفعه، بسبب سوء خلقه، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي النَّارِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ»
(2)
.
المطلب الثاني: مظاهر حسن الخلق في الحج، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: الحج من أعظم المواقف التي يظهر فيها حسن خلق المسلم، أو سوء خلقه، ولذلك عدة أسباب منها:
1 -
حصول مشقة السفر، وسمي السفر سفراً، لأنه يسفر عن الأخلاق
(3)
.
2 -
التعامل مع طبائع مختلفة من الناس يجمعهم مكان واحد، فيهم المريض، وفيهم الجاهل الذي يعد الخلق الحسن ضعفاً، وفيهم صاحب الخلق السيء الذي تعود على ذلك حتى صار سجية له.
3 -
تغير مواعيد النوم واليقظة، وقضاء الحاجة.
4 -
التعب والارهاق بسبب كثرة المشاق في الحج.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (11/ 347) ح (6735)، وابن حبان (2/ 235) ح (485)، وقال في مجمع الزوائد (8/ 21) ح (12666):"رواه أحمد بإسناد جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 10) ح (2650).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (29/ 33) ح (9674)، وابن حبان (13/ 76) ح (5764)، والحاكم (4/ 183) ح (7304) وصححه ووافقه الذهبي، ولفظه عند الحاكم: إنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانُهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةٌ، قَالَ:«لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ فِي النَّارِ» وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ، وقال في مجمع الزوائد (8/ 169):"رواه أحمد والبزار، ورجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 682) ح (2560).
(3)
ينظر: معجم لغة الفقهاء (ص 245).
5 -
ضيق المكان وشدة الزحام.
6 -
قلة موارد الماء والطعام في بعض الأزمان.
المسألة الثانية: من مظاهر حسن الخلق المرتبطة بعمل القلب.
1 -
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وهذا خلق المسلم الحقيقي، قال عنه صلى الله عليه وسلم:«المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ .. » الحديث.
فاذا أراد الحاج أن يقيم نفسه هل هو مسلم حقاً وحقيقة، فلينظر إلى حاله مع إخوانه الحجاج هل سلموا من لسانه ويده؟ ومن أعظم العلامات الدالة على تمكن هذا المعنى في القلب الخُلُق الآتي:
2 -
أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
(1)
.
وهذا المعنى العظيم لا يسكن في قلب العبد ولا يستطيع أن يتخلق به إلا إذا طهر قلبه من الشح والبخل والحسد والأنانية وحرص على سلامة قلبه من الشحناء والبغضاء لإخوانه المسلمين، ومن العلامات الدالة على وجود هذا المعنى في القلب الخُلُق الآتي:
3 -
الرحمة والرفق واللين بإخوانه الحجاج، من مظاهر محبة المسلم لأخيه المسلم أن يرحمه فيرفق به ويلين جانبه له، فيبتعد عن غلظة القلب والقسوة على أخيه الحاج بل يرفق به ويشفق عليه ويرحمه قال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وقال تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وقال تعالى في وصف عباده الذين يحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
ولهذا جاءت الأحاديث مرغبة في الرحمة والرفق واللين ومن ذلك:
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له (1/ 12) ح (13)، ومسلم (1/ 67) ح (45).
ما ورد عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ»
(1)
.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»
(3)
.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»
(4)
.
وعَنها رضي الله عنها: أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. قَالَ:«مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ» ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟! رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (9/ 115) ح (7376)، ومسلم (4/ 1809) ح (2319).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (11/ 33) ح (6494)، وأبو داود واللفظ له (4/ 285) ح (4941)، والترمذي (4/ 323) ح (1924) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والحاكم (4/ 175) ح (7274) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 661) ح (3522)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (2/ 549) ح (2256) قال:"حسن لغيره"، وقال محقق المسند الأرناؤوط (11/ 33) ح (6494):"صحيح لغيره".
(3)
أخرجه أحمد (13/ 378) ح (8001)، وأبو داود (4/ 286) ح (4942)، والترمذي (4/ 323) ح (1923) وقال:"هذا حديث حسن"، وابن حبان (2/ 213) ح (466)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 550) ح (2261)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند (13/ 378) ح (8001):"إسناده حسن".
(4)
أخرجه البخاري واللفظ له (8/ 12) ح (6024)، ومسلم (4/ 1706) ح (2165).
(5)
أخرجه البخاري (8/ 12) ح (6030).
وعَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ»
(1)
.
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»
(2)
.
وعَنها رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»
(3)
.
ومن مظاهر الرحمة والشفقة واللين والرفق بإخوانه الحجاج:
أ - المشي مع أخيه الحاج لخدمته في قضاء حاجته له كدلالته على موقع مخيمه.
ب - مساعدة الحاج في حمل متاعه.
ت - مساعدة الحاج المريض باستدعاء الإسعاف له، أو إيصاله إلى المركز الصحي القريب.
ث - الحرص على المشاركة في سقيا الحاج وإطعامه.
ج -
…
الحرص على أخيه الحاج في مواطن الزحام عند الطواف والسعي ورمي الجمار بالتوسعة له ولأهله وعدم مدافعتهم بيده أو أذيتهم بلسانه، وأن يحرص على سلامتهم كما يحرص على نفسه وأهله.
ح -
…
التعاون مع رجال الأمن في تنظيم سير الحجاج وعدم المخالفة لذلك بل الدعاء لهم بالتوفيق والإعانة والثواب والأجر، مع شكرهم على ما يقدمونه وما يتعاملون به من أخلاق عالية مع الحاج، ونصحهم برفق ولين إذا رأى منهم شيء من الغلظة على الحاج.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 2003) ح (2592).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2003) ح (2593).
(3)
أخرجه مسلم (4/ 2004) ح (2594).
4 -
الكلمة الطيبة صدقة.
من الأخلاق العالية التي ينبغي على الحاج أن يتخلق بها الحرص على الكلمة الطيبة والتي تتمثل في الأمور الآتية:
أ -
…
الموعظة الحسنة لإخوانه الحجاج.
فعندما يرى وقوع بعض اخوانه الحجاج في مخالفات شرعية أو بدع محدثة يسارع إلى نصحهم وإرشادهم برفق ولين ووعظهم ونصحهم بالحسنى مع بيان الحق بدليله إذا كان لديه علم في ذلك أو دلالتهم على مواقع التوعية الإسلامية في الحج.
ب - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأحببت أن أفرده بالذكر مع أنه يندرج فيما سبقه لأنه من أعظم شعائر التي ينبغي أن يحرص عليها الحاج ولا يمل من تكرار ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفق ولين ورحمة وموعظة حسنة كما سبق، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
فعلى الحاج ألا يمل من قيامه بهذا الأمر كلما رأى تقصيراً في معروف أو ارتكاباً لمنكر من قبل إخوانه الحجاج، فيسارع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفق ولين وموعظة حسنة، وهذا من أعظم الدلائل على إيمان القلب قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»
(1)
.
ت - الرد بأدب وكلمة طيبة عند حصول تعدي من أحد الحجاج عليه.
كثير ما يحصل تعدي من بعض الحجاج على إخوانه بلسانه أو بيده في بعض الأحيان، فهنا ينبغي على الحاج المعتدى عليه أن يرد عليه أخيه برفق وشفقة ورحمة به، وأن يتجاوز عنه ويعفو ولا يرد السيئة بمثلها، وإنما يملك نفسه عند الغضب كما سيأتي الكلام على ذلك.
5 -
ما دل عليه حديث ابي ذر رضي الله عنه من أخلاق عظيمة ينبغي على عامة المسلمين أن يتخلقوا بها والحجاج خاصة.
(1)
أخرجه مسلم (1/ 69) ح (49).
(1)
.
وهذه الأخلاق العظيمة التي نص عليها هذا الحديث حقيق بكل مسلم يريد الخير لنفسه، وبكل حاج يريد أن يكون حجه مبروراً أن يحرص على امتثال هذه الأخلاق في حجه وعمرته، وكل أحواله وهي عامة للمسلمين في كل مكان وزمان، وبما أن الكلام عن سلوك الحاج مع إخوانه الحجاج فإنه سيكون التركيز على ربط هذه الأخلاق العظيمة بسلوك الحاج، وهي على النحو الآتي:
- تبسمك في وجه أخيك الحاج لك صدقة.
- امرك بالمعروف لإخوانكم الحجاج ونهيك عن المنكر صدقة.
- وأرشادك لأخيك الحاج صدقة.
- دلالة الحاج ضعيف البصر أو الأعمى وايصاله إلى مكانه إذا تاه عنهم من جملة الصدقات.
- إماطة الأذى من حجر أو عائق من أشواك أو مسامير أو اسياخ حديد أو نحو ذلك مما يعوق الحاج في طريقه، ذلك لك من الصدقات.
- مساعدة الحاج في سقيا الماء من الصدقات.
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 340) ح (1956)، والبزار في مسنده (9/ 457) ح (4070)، وابن حبان (2/ 286) ح (529)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 20) ح (2685)، وقال محقق صحيح ابن حبان (2/ 287):"حديث صحيح".
المطلب الثالث: سوء الخلق وخطره على الحاج، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: الرفث والفسوق والجدال في الحج وارتباطها بمرض القلب.
تمهيد:
الرفث والفسوق والجدال من الأخلاق المذمومة التي جاءت النصوص بنهي الحاج عن الوقوع فيها؛ لضررها العظيم على حجه، مما يؤدي إلى نقص أجره وضعف أثر الحج عليه، ودونك تفصيل هذه المسألة في النقاط الآتية:
أولاً: ما جاء في نصوص الكتاب والسنة من الترهيب من هذه الآفات.
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "
(1)
.
ثانياً: معاني هذه الآفات:
1 -
معنى الرفث.
هو الفاحش من القول والفعل، ومنه الجماع ومقدماته القولية والفعلية
(2)
2 -
معنى الفسوق.
هي المعاصي والآثام بترك أمر الله وارتكاب ما نهى عنه، ويدخل فيه محظورات الإحرام
(3)
.
وفي ذخيرة العقبى في شرح المجتبى: "وإنما صرّح بنفي الفسق في الحجّ، مع كونه ممنوعًا في كلّ حال، وفي كلّ حين؛ لزيادة التقبيح، والتشنيع، ولزيادة تأكيد النهي عنه في الحجّ، وللتنبيه على أن الحجّ أبعد الأعمال عن الفسق. واللَّه تعالى أعلم"
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد واللفظ له (12/ 38) ح (7136)، وهو في صحيح مسلم بلفظ مقارب (2/ 983) ح (1350).
(2)
ينظر: شرح النووي على مسلم (9/ 119)، تفسير السعدي (ص 91).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 54)، تفسير السعدي (ص 91).
(4)
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 316).
ولأن المعصية في الحرم وفي الأشهر الحرم أشد منها خارج الحرم كما هو معلوم هذا الأمر عند السلف رحمهم الله.
وقد نقل ابن رجب رحمه الله عن السلف في هذه المسألة نقولات منها:
" قال ابن عمر: الفسوق: ما أُصيبَ مِنْ معاصي الله صيداً كان أو غيره، وعنه قال: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
وكان جماعة من الصحابة يتَّقونَ سُكنى الحرم، خَشيةَ ارتكابِ الذُّنوب فيه منهم: ابنُ عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: الخطيئةُ فيه أعظم.
ورُوي عن عمر بن الخطاب، قال: لأَنْ أُخطئ سبعينَ خطيئةً - يعني: بغيرِ مَكَّةَ - أحبُّ إليَّ مِنْ أن أُخطئ خطيئة واحدةً بمكة.
وعن مجاهد قال: تُضاعف السيِّئات بمكة كما تُضاعف الحسنات.
وقال ابن جريج: بلغني أن الخطيئة بمكة بمئة خطيئة، والحسنة على نحو ذلك.
وقال إسحاق بن منصور: قلتُ لأحمدَ: في شيءٍ من الحديث أنّ السيِّئة
تُكتب بأكثرَ مِنْ واحدة؟ قال: لا، ما سمعنا إلَاّ بمكَّة لِتعظيم البلد "ولو أنَّ رجلاً بعدن أبين همَّ"
…
وقد تُضاعَفُ السيِّئاتُ بشرف فاعلها، وقوَّة معرفته بالله، وقُربِه منه، فإنَّ مَنْ عَصى السُّلطان على بِساطِه أعظمُ جُرماً مِمَّنْ عصاه على بُعد، ولهذا توعَّد الله خاصَّةَ عباده على المعصية بمضاعَفةِ الجزاء، وإن كان قد عصمَهم منها، ليبيِّنَ لهم فضله عليهم بِعصمَتهم مِنْ ذلك، كما قال تعالى:{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} .
وكان عليُّ بن الحسين يتأوَّل في آل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من بني هاشم مثل ذلك لقربهم من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ".
3 -
معنى الجدال المذموم في الحج
(1)
.
وهو الجدال بالباطل لنشر الباطل، وهو كما يقول السعدي رحمه الله في معنى الجدال في الحج:" والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة"
(2)
.
أما الجدال المنهي عنه في الحج فهو الجدال بالباطل والخصام والمنازعة والمماراة لأجل أن ينتصر لنفسه ويغصب صاحبه مما يؤدي إلى رفع الصوت والسب والشتائم والمنازعة والفرقة والاختلاف الذي يدخل بسببه الشيطان بينهم.
وأما الجدال بالحق فليس هو من الجدال المذموم، لكن بشرط أن يكون لأجل توضيح الحق وبيانه لمن يجادل في هذا الأمر جهلاً منه بالحكم الشرعي، وكل منهما يريد الوصول إلى الحق، ويدخل فيه مذاكرة العلم
(3)
.
قال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: "الجدال هنا أن تماري مسلماً حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها"
(4)
.
وقال الشيخ محمد علي آدم الاثيوبي في شرحه لحديث جابر في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم: " على أهل العلم والفضل أن يغتنموا فرصة التقائهم بالحجاج في المسجد الحرام وغيره من المواطن المقدسة، فيعلّموهم ما يلزم من مناسك الحج، وأحكامه على وفق الكتاب والسنّة، وأن لا يشغلهم ذلك عن الدعوة إلى أصل الإسلام الذي من أجله بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، ألا وهو التوحيد، فإن أكثر من لقيناهم حتى ممن ينتمي إلى العلم وجدناهم في جهل بالغ بحقيقة التوحيد، وما ينافيه من الشركيات والوثنيات، كما أنهم في غفلة تامة عن ضرورة رجوع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وكثرة أحزابهم إلى العمل الثابت في الكتاب والسنة في العقائد والأحكام والمعاملات والأخلاق والسياسة والاقتصاد وغير ذلك من شؤون الحياة، وأن أيّ صوت يرتفع،
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 546).
(2)
تفسير السعدي (ص 91).
(3)
ينظر: توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (3/ 629).
(4)
تفسير القرطبي (2/ 410).
وأيّ إصلاح يُزْعَم على غير هذا الأصل القويم، والصراط المستقيم، فسوف لا يجني المسلمون منه إلا ذُلًّا وضُعفًا، والواقع أكبر شاهد على ذلك، والله المستعان.
وقد تتطلب الدعوة إلى ما سبق شيئًا قليلًا أو كثيرًا من الجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله عز وجل:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فلا يصدنّك عن ذلك معارضة الجهلة بقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، فإن الجدال المنهيّ عنه في الحج هو كالفسق المنهيّ عنه في غير الحج أيضًا، وهو الجدال بالباطل، وهو غير الجدال المأمور به في آية الدعوة، قال ابن حزم رحمه الله (7/ 196): والجدال قسمان: قسم في واجب وحقّ، وقسم في باطل، فالذي في الحقّ واجب في الإحرام وغير الإحرام، قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125]، ومن جادل في طلب حقّ له، فقد دعا إلى سبيل ربه تعالى، وسعى في إظهار الحقّ والمنع من الباطل، وهكذا كل من جادل في حقّ لغيره، أو لله تعالى، والجدال بالباطل، وفي الباطل عمدًا ذاكرًا لإحرامه مبطل للإحرام وللحج؛ لقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
وهذا كله على أن (الجدال) في الآية بمعنى المخاصمة والملاحاة، حتى تغضب صاحبك. وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة من السلف، وعزاه ابن قدامة في "المغني"(3/ 296) إلى الجمهور، ورجحه.
وهناك في تفسيره قول آخر: وهو المجادلة في وقت الحج، ومناسكه، واختاره ابن جرير، ثم ابن تيمية في "مجموعة الرسائل الكبرى"(2/ 361)، وعلى هذا فالآية غير واردة فيما نحن فيه أصلًا، والله أعلم.
ومع ذلك فإنه ينبغي أن يلاحِظ الداعية أنه إذا تبيّن له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالفة له لتعصبه لرأيه، وأنه إذا صابره على الجدل فلربما ترتّب عليه ما لا يجوز، فمن الخير له حينئذ أن يدع الجدال معه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان مُحِقًّا"، رواه أبو داود بسند حسن، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وللترمذي نحوه من حديث أنس رضي الله عنه، وحسّنه، وفّقنا الله والمسلمين لمعرفة سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، واتِّباع هديه"
(1)
.
(1)
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (23/ 129 - 130).
ثالثاً: علاقتها بمرض القلب.
وهذه الأعمال المذمومة لها ارتباط بأمراض القلب، وهي علامات ومؤشرات على خلل في القلوب يجعل الحاج يرتكب هذه المناهي وهو قد خرج من بيته لإقامة عبادة عظيمة تقتضي منه أن يطهر قلبه مما علق به من فساد بتوبة صادقة وكثرة استغفار، وشعور بعظمة الموقف وهو يؤدى مناسك الحج يريد أن يكون حجه مبروراً وسعيه مشكوراً، فعليه أن يتحرز من هذه الآفات التي تفسد عليه حجه، ويعود وهو لم يجد للحج أثراً في حياته، وهذا هو الغبن والخسارة نسأل الله العافية والسلامة.
رابعاً: من مظاهر الرفث والفسوق والجدال في الحج.
1 -
مشاهدة الحرام أو سماعه من خلال وسائل الاتصالات الحديثة من قنوات فضائية وأجهزة حاسوبية وكفية.
2 -
عدم غض البصر عند رؤية النساء.
3 -
مزاحمة النساء عند الطواف ورمي الجمار والقرب منهن.
4 -
اللعن والسباب والشتم.
5 -
التساهل في الوقوع في محظورات الإحرام.
6 -
التدخين.
7 -
التفريط في أوقات الصلوات بالنوم.
8 -
الوقوع في الغيبة.
9 -
التساهل في الكلام بمقدمات الجماع القولية والفعلية مع الزوجة.
10 -
تصوير ما يقوم به من مناسك، فيحصل الخلل في المقاصد الذي ربما يفسد عليه حجه وهو لا يشعر.
11 -
تبرج النساء ولبس ملابس الزينة بالذات في يوم العيد، ومزاحمة الرجال.
12 -
تساهل المرأة في السفر للحج من غير محرم.
المسألة الثانية: وقوع الحاج في الذنوب التي تأكل الحسنات من: الحسد والبغضاء والشحناء وقطيعة الأرحام والعقوق.
ودونك الأدلة على خطر هذه الخطايا على المسلم:
قال تعالى عن سبب عداء أهل الكتاب لأمة الإسلام: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 – 23].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].
(1)
.
وترك الحسد وعدم إظهاره إن وجد في القلب، ومجاهدة النفس على السلامة من ذلك، وعدم الغش من أسباب دخول الجنة، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عز وجل وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ
(1)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 29) ح (1412)، والترمذي واللفظ له (4/ 664) ح (2510) وذكر أن الحديث مختلف فيه، وجوّد إسناده كل من المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 285) ح (4084) والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 30) ح (12732)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 23) ح (2695).
عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ:«يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ
(1)
.
الحسد والبغضاء من أمراض القلوب التي تفتك بعبادة العبد، وتقضي على حسناته، وذلك يحتاج إلى مقاومة ما في النفس من هذه الأمراض حتى لا تضر بحج العبد كثيراً، وللشحناء والتباغض بين المسلمين، وقطيعة الرحم خطر عظيم عليهم في الدنيا والآخرة، وخطر كبير على حج العبد، ومن أكثر ما يعيق المسلم عن المنافسة في الخير في هذا هذه الأيام العظيمة وهو يقوم بمناسك أعظم شعيرة، وجود هذه الخطايا والاستمرار عليها وعدم التوبة منها، ومن النصوص التي تبين خطر هذه الذنوب، وأحب أن أنقل لكم الأحاديث التي وردت في كتاب صحيح الترغيب والترهيب للألباني
(2)
عن الترغيب في صلة الرحم، والترهيب من هذه الخطايا وحرصت على نقل أكثرها لأهميتها ولعظيم الحاجة لذلك
(3)
، تحت عدة عناوين:
(1)
أخرجه أحمد (20/ 124) ح (12697)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 348) ح (4384):"رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي، ورواته احتج بهم أيضًا إلا شيخه سويد بن نصر، وهو ثقة"، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1085):"رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين"، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 78 - 79) ح (13048)، وقال:"ورجال أحمد رجال الصحيح"، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (6/ 78) ح (5383):"هذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم"، وقال محقق المسند ح (12697):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(2)
وأصل الكتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمة الله على الجميع، وقام بتخريج أحاديثه العلامة الألباني وقسمه إلى كتابين صحيح الترغيب وضعيف الترغيب، وقد قمت بحذف التخريج في الغالب إلا ما دعت له الحاجة، واختصرت بعض الأحاديث، وأبقيت على حكم الشيخ على الحديث لأنه مقصود.
(3)
وهنا يحسن التنبيه أن التمعن في قراءة هذه الأحاديث والاطلاع عليها كاملة يجعل القارئ أو السامع يخرج بمعلومة كافية عن خطر هذه الذنوب على المسلم في الدنيا والآخرة.
الأول: (الترغيب في صلة الرحم وإنْ قطعت، والترهيب من قطعها)
(1)
.
-[صحيح] وعن أنسٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَنْ أحبَّ أنْ يُبْسطَ له في رِزْقِهِ، ويُنَسَّأَ له في أثَرِهِ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَهُ".
-[صحيح] وعن عائشة رضي الله عنها؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها:
"أنَّه مَنْ أُعْطيَ [حظه من] الرفق؛ فقد أُعطِيَ حظَّهُ مِنْ خير الدنيا والآخِرَةِ، وصِلةُ الرَّحِمِ وحسنُ الجِوارِ -أوْ حُسْنُ الخلُقِ- يُعَمِّرانِ الديارَ، ويَزيدانِ في الأَعْمارِ".
-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تعالى خَلق الخَلْقَ، حتى إذا فَرغَ منهم قامَتِ الرحِمُ فقالَتْ: هذا مقامُ العائِذِ بكَ مِنَ القَطيعَةِ، قال: نعم، أما تَرضينَ أنْ أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وأقْطعَ مَنْ قطَعَكِ؟ قالتْ: بلى. قال: فذاك لَكِ". ثم قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
"اقْرؤوا إنْ شئْتُم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 – 23].
-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! إنَّ لي قرابةً أَصِلُهم وَيقْطَعوني، وأُحْسِنُ إليهم وُيُسيئون إليَّ، وأحْلُم عليهم وَيجْهَلون عليَّ؟ فقال:" [ولئن] كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ [معك] مِنَ الله ظهيرٌ عليهِمْ ما دُمْتَ على ذلك".
-[صحيح] وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ ذَنْبٍ أجدَرُ أنْ يعجلَ الله لِصاحِبِه العقوبةَ في الدنيا -مع ما يُدَّخَرُ له في الآخِرَةِ- مِنَ البَغْيِ وقَطيعَةِ الرحِمِ".
-[حسن لغيره] ورواه الطبراني، فقال فيه:
"مِنْ قَطيعَة الرحِمِ، والخِيانَةِ، والكَذب، وإنَّ أَعْجَلَ البِرِّ ثواباً بالصلة الرحِمُ، حتَّى إن أَهْلَ البَيْتِ ليكونون فَجَرَةً، فتنموا أمْوالُهم، ويكثُر عَدَدُهم إذا تَواصَلُوا".
-[حسن لغيره] ورواه ابن حبان في "صحيحه" ففرَّقه في موضعين، ولم يذكر الخيانة والكذب،
(1)
صحيح الترغيب والترهيب (2/ 666 - 674).
- وزاد في آخره: "وما مِنْ أهلِ بيْتٍ يتَواصَلونَ فَيحْتَاجُونَ".
-
…
[حسن] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعْمالَ بني آدَم تُعْرضُ كلَّ خميسٍ ليلَةَ الجمُعَةِ، فلا يُقْبَل عَمَلُ قاطعِ رَحِمٍ".
-[صحيح] وعن جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه؛ أنَّه سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخُلُ الجنَّة قاطعٌ". قال سفيان: يعني قاطع رحم.
العنوان الثاني: (الترهيب من التهاجر والتشاحن والتدابر)
(1)
.
-[صحيح] عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تَقاطَعوا، ولا تَدابَرُوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَحاسَدُوا، وكونوا عبادَ الله إِخْواناً، ولا يَحِلُّ لمسْلمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فوْقَ ثلاثٍ".
-[صحيح لغيره] والطبراني، وزاد فيه:"يَلْتَقِيانِ فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخيرُهُم الَّذي يَبْدأُ بالسلامِ".
قال مالك: "ولا أَحْسِبُ التدابُرَ إلا الإعْراضَ عنِ المسْلمِ؛ يُدْبِرُ عنه بِوَجْهِهِ".
-
…
[صحيح] وعن أبي أيوبَ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يَهْجُر أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يَلْتَقِيانِ؛ فيُعْرِضُ هذا، ويُعْرِضُ هذا، وخيرُهما الَّذي يَبْدأُ بالسلامِ".
-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يَهْجُر أخاه فوقَ ثلاثٍ، فَمنْ هجَر فوْقَ ثلاثٍ فماتَ؛ دخَل النارَ".
روفي رواية لأبي داود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ لمؤمنٍ أن يهجرَ مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلْقَه فليسلمِ عليه، فإن رَدَّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجرِ، وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّمُ من الهجر".
-
…
[حسن صحيح] وعن عائشةَ رضي الله عنها؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكونُ لمسْلم أنْ يَهْجُر مسلماً فوقَ ثلاثَةِ أيَّامٍ، فإذا لَقِيَهُ سلَّم عليه ثلاثَ مراتٍ؛ كلُّ ذلك لا يَرُدُّ عليه؛ فقد باءَ بإثْمِهِ".
(1)
صحيح الترغيب والترهيب (3/ 49 - 53).
[صحيح] وعن هشام بن عامرٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لمسْلمٍ أنْ يَهْجُرَ مسلِماً فوْقَ ثلاثِ لَيالٍ، فإنَّهُما ناكِبانِ عنِ الحقِّ. ما داما على صِرامِهِما، وأَوَّلُهما فَيْئاً يكونُ سَبْقُه بالْفَيءِ كَفارَةً له، وإنْ سلَّم فلَمْ يَقْبَلْ ورَدَّ عليه سلامَهُ؛ ردَّتِ عليهِ الملائكةُ، وردَّ على الآخَرِ الشيطانُ، فإنْ ماتا على صِرامِهما؛ لَمْ يدخُلا الجنَّة جميعاً أبداً".
رواه أحمد، ورواته محتج بهم في "الصحيح"، وأبو يعلى والطبراني، وابن حبان في "صحيحه"؛ إلا أنه قال:"لم يدخلا الجنة ولم يجتمعا في الجنة".
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة؛ إلا أنَّه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يَحِلُّ أنْ يَصْطَرِما فوقَ ثلاثٍ، فإنِ اصْطَرما فوقَ ثلاثٍ؛ لَمْ يَجْتَمعا في الجنَّةِ أبَداً، وأيما بدأَ صاحِبَه كُفِّرَتْ ذنوبُه، وإنْ هو سلَّم فلَمْ يَرُدَّ عليه ولَمْ يقبَلْ سلامَهُ؛ ردَّ عليه الملَكُ، ورَدَّ على ذلك الشيْطانُ".
-[صحيح لغيره] وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحلُّ الهجرُ فوقَ ثلاثةِ أيَّامٍ، فإنِ الْتَقيا فسلَّم أحدُهما فَردَّ الآخَرُ اشْتَركا في الأَجْرِ، وإنْ لمْ يَرُدَّ بَرِئَ هذا مِنَ الإِثْم، وباءَ به الآخَرُ -وأحسبه قال: - وإنْ ماتا وهُما مُتَهاجِرانِ لا يَجْتَمِعانِ في الجنَّةِ".
-[حسن لغيره] وعن فضالة بن عبيدٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ هَجَر أخاه فوقَ ثلاثٍ فهو في النارِ، إلا أنْ يَتداركَهُ الله برَحْمَتِه".
-[صحيح] وعن أبي حراشٍ حدرد بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه؛ أنَّه سمعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ هَجر أخاه سَنةً؛ فهو كَسَفْكِ دَمِه".
-[صحيح] وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الشيطانَ قد يَئسَ أنْ يَعْبُدَه المصلُّون في جزيرَةِ العَربِ؛ ولكن في التحريشِ بَيْنَهُم".
(التحريش): هو الإغراء وتغيير القلوب والتقاطع.
-[صحيح] وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنّ رجلين دخلا في الإسلامِ فاهتجرا؛ لكان أحدُهما خارجاً من الإسلامِ حتى يرجعَ. يعني الظالم منهما".
-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُفْتَح
- أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثْنَيْنِ والخَميسِ، فيُغْفرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يُشرِكُ بالله
شيْئاً، إلا رجلاً كان بينَهُ وبين أخيه شَحْناءُ، فيقالُ: أَنْظِروا هذَيْنِ حتّى يصْطَلِحا، أنْظِروا هذَيْنِ حتى يَصْطَلِحا، أنْظِروا هذين حتّى يَصْطَلِحا".
قال أبو داود: "إذا كانت الهجرة لله فليس من هذا بشيء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه أربعين يوماً، وابن عمر هجر ابناً له إلى أن مات" انتهى.
-[حسن صحيح] وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يطَّلعُ الله إلى جَميعِ خَلْقهِ ليلةَ النصْفِ مِنْ شَعْبانَ، فيغْفِرُ لجميعِ خَلْقِه إلا لِمُشْرِكٍ أو مُشاحِنِ".
العنوان الثالث: الترهيب من عقوق الوالدين
(1)
.
[صحيح] وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُنبِّئُكم بأكبرِ الكبائِر؟ (ثلاثاً) ". قلنا: بَلى يا رسولَ الله! قال:
"الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالِدينِ -وكان متكئاً فجلَس فقال: ألا وقولُ الزورِ، وشهادَة الزورِ". فما زال يُكرِّرُها حتى قلنا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
[صحيح] وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدَيْنِ، وقتلُ النفسِ، واليمينُ الغموسُ".
[حسن صحيح] وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثَةٌ لا ينظرُ الله إليهم يومَ القِيَامَةِ: العاقٌّ لوالديْهِ، ومدمِنُ الخمْر، والمنَّان عطاءَه. وثلاثَةٌ لا يَدخلونَ الجنَّة: العاقُّ لوالِديْه، والديُّوثُ، والرَّجُلَة"
(الديّوث) بتشديد الياء: هو الذي يقرّ أهله على الزنا مع علمه بهم.
[الرجلة] المرأة تتشبه بالرجال.
[حسن لغيره] وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثَةٌ حرَّم الله تبارك وتعالى عليهِمُ الجنَّةَ: مدمِنُ الخَمْرِ، والعاقُّ، والديُّوثُ؛ الذي يُقِرُّ الخُبْثَ في أهْلِهِ".
(1)
صحيح الترغيب والترهيب (2/ 660 - 665).
[حسن] وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثَةٌ لا يَقبلُ الله عز وجل منهم صَرْفاً ولا عَدْلاً: عاقُّ، ومنَّانٌ، ومُكَذِّب بقَدَرٍ".
[صحيح لغيره] حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"
…
؛ قال: ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ملعونٌ من ذبحَ لغيرِ اللهِ، ملعونٌ من عَقَّ والديه" الحديث.
[صحيح] حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله مَنْ ذبَح لِغَيرِ الله، ولعنَ الله مَنْ غَيرَ تُخومَ الأرضِ، ولعنَ الله مَنْ سبَّ والديه" الحديث.
[حسن موقوف] وعن العوَّام بن حَوْشَبٍ قال: نزلتُ مرَّةً حياً، وإلى جانبِ ذلك الحيِّ مقبرةٌ، فلمَّا كان بعدَ العَصْرِ انشقَّ فيها قبْرٌ، فخَرج رجلٌ رأسُه رأسُ الحِمارِ، وجَسدُه جَسدُ إنسانٍ، فنهَقَ ثلاثَ نَهْقاتٍ ثُمَّ انْطبقَ عليه القبرُ، فإذا عجوزٌ تَغْزِل شَعْراً أوْ صوفاً، فقالتِ امْرأَةٌ: ترى تلكَ العجوزَ؟ قلتُ: ما لَها؟ قالتْ: تلكَ أمُّ هذا. قلتُ: وما كانَ قِصَّتُه؟ قالتْ: كان يشرَبُ الخمرَ، فإذا راحَ تقولُ له أُمُّه: يا بنيَّ اتَّقِ الله إلى متى تَشْرَبُ هذه الخمرَ؟! فيقولُ لها: إنَّما أنْتِ تَنْهَقينَ كما يَنْهَقُ الحِمارُ! قالتْ: فماتَ بعدَ العَصْرِ. قالتْ: فهو يَنْشَقُّ عنه القبرُ بعدَ العَصْرِ، كلُّ يوم فيَنْهَقُ ثلاثَ نَهَقَاتٍ، ثمَّ ينْطَبِق عليه القبرُ.
رواه الأصبهاني وغيره. وقال الأصبهاني: "حدَّث به أبو العباس الأصم إملاءً بنيسابور بمشهد من الحفاظ فلم ينكروه".
المسألة الثالثة: الكبر.
وتعريفه كما في الحديث: رد الحق واحتقار الناس.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ:«إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
(1)
.
ويدل هذا الحديث على أمور، منها:
1 -
الكبر مرض قلبي خطير يدمر من وجد فيه ويورده المهالك.
(1)
أخرجه مسلم (1/ 93) ح (91).
2 -
التحذير من الكبر ودواعيه، وبيان مخاطره على العبد من الأمور التي ينبغي أن يعتني بها الناصحون.
3 -
من مظاهر الكبر رد الحق وعدم قبوله بسبب كرهه للحق وأهله، وذلك من أعظم أسباب دخولهم النار، قال تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 74 - 78].
4 -
من مظاهر الكبر احتقار الناس والتعالي عليهم والنظر لهم بازدراء، فلا يرى لهم حقاً عليه، وينفر من مقاربتهم له، ويضيق بهم إذا كانوا بجواره في المبيت بمزدلفة مثلاً ..
5 -
توعد الله أن يصرف القلوب المتكبرة عن فهم آياته الكونية والمتلوة قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].
6 -
احتقار الناصح والنفور من نصح الناصحين، من دلائل وجود نوع من الكبر في القلب.
7 -
التواضع لله سبب لرفعة العبد في الدنيا والآخرة وقال صلى الله عليه وسلم: "
…
وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ"
(1)
. الحديث، ومن أراد أن يكسر الكبر الذي في نفسه، فليتواضع لإخوانه حجاجاً كانوا، أو غير ذلك.
حكم الكبر: جاءت النصوص بالتحذير والتنفير منه:
• قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ
(1)
أخرجه مسلم (4/ 2001) ح (2588).
• لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
• وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].
• وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40].
• وقال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72].
• وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
• وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
وكل هذه الآيات تبين خطورة هذا الذنب العظيم، وقبحه وعظيم حرمته عند الله، وأثره على من يقع فيه.
• قال القرطبي رحمه الله: " {يَطْبَعُ اللَّهُ} أي: يختم {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق"
(1)
.
• وقال تعالى عن قول قوم صالح لمن آمن منهم: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
(1)
تفسير القرطبي (15/ 313).
• إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 76].
وقال السعدي رحمه الله: "حملهم الكبر أن لا ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء"
(1)
.
• وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» .
• وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ»
(2)
.
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: "فالضمير في «إزاره ورداؤه» يعود إلى الله تعالى للعلم به، وفيه محذوف تقديره: قال الله تعالى: «ومن ينازعني ذلك أعذبه» ومعنى «ينازعني»: يتخلق بذلك، فيصير في معنى المشارك، وهذا وعيد شديد في الكبر مصرح بتحريمه"
(3)
.
• وعن حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»
(4)
.
وقال النووي رحمه الله: "أما العُتُل .. فهو الجافي الشديد الخصومة بالباطل، وقيل: الجافي الفظ الغليظ، وأما الجَوَّاظ .. فهو الجموع المنوع، وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين .. وأما المتكبر والمستكبر فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس"
(5)
.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مفصلًا القول في حكم الكبر: "فالذي في قلبه كبر، إما أن يكون كبرًا عن الحق وكراهة له، فهذا كافر مخلد في النار ولا يدخل الجنة؛ لقول الله تعالى:
(1)
تفسير السعدي (295).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2023) ح (2620).
(3)
شرح النووي على مسلم (16/ 173).
(4)
أخرجه مسلم (4/ 2190) ح (2853).
(5)
شرح النووي على مسلم (17/ 188).
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، ولا يحبط العمل إلا بالكفر كما قال تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
وأما إذا كان كبرًا على الخلق وتعاظمًا على الخلق، لكنه لم يستكبر عن عبادة الله، فهذا لا يدخل الجنة دخولًا كاملًا مطلقًا لم يسبق بعذاب؛ بل لا بد من عذاب على ما حصل من كبره وعلوائه على الخلق، ثم إذا طهر دخل الجنة"
(1)
.
وبهذا يتضح أن منه ما هو كفر أكبر يخلد في النار، ومنه ما هو كبيرة من الكبائر وصاحبه على خطر عظيم.
ثالثًا: صور من الكبر عند من ابتلي به:
1 -
رد الحق وعدم قبوله بحجج واهية ظاهرها شيء قد يقبل عند الناس، وباطنها الكبر، منها بحجة أنهم أقل علمًا منه، أو أصغر سنًّا، ونحو ذلك من الحجج، التي يبرر بها رده للحق.
2 -
احتقار الناس وازدراؤهم، والتعالي عليهم بنسبه أو بمنصبه أو بشهادته العلمية أو بماله ونحو ذلك.
3 -
النفور من مجالسة الفقراء والمساكين وعامة الناس بحجة أن ذلك يسقط هيبته ومكانته العلمية.
رابعًا: خطر الكبر:
1 -
انفضاض الناس من حوله، ونفورهم منه.
2 -
الذل والهوان والخذلان وقلة التوفيق وتسلط الشياطين في الدنيا.
3 -
الذل والهوان في الآخرة ودخول أشد العذاب في النار، كما في الحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ،
(1)
شرح رياض الصالحين (3/ 541 - 542).
4 -
يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ، يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ، فَتَعْلُوَهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ، عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ»
(1)
.
المسألة الرابعة: الغضب للنفس.
ومما يكثر حصوله من بعض الحجاج وغيرهم الغضب لغير الله من أجل الانتقام لنفسه، وهذا يحدث في الحج بسبب الزحام على موارد الماء والطعام، ومكان قضاء الحاجة، وعند زحام الطواف والسعي ورمي الجمار، فتجد من غضب لنفسه وربما يقع في السب واللعن ومد اليد على أخيه الحاج، لأنه بسبب جهل الحاج بحقوق أخيه المسلم فيغضب لنفسه ويظن أن ذلك لا يؤثر على حجه، وهذا الفهم لا شك أنه غلط لورود النصوص في حث المسلم على ترك الغضب لنفسه، وإنما يكون الغضب لله إذا انتهكت محارم الله، ومع هذا يكون الغضب لله برفق ولين، وموعظة حسنة، والحلم على الجاهل.
ولذا جاءت النصوص محذرة من الغضب للنفس؛ لأنه مفتاح للشر عظيم، وباب يترصد عنده الشيطان ليوقع العبد في حفرة من حفر النار بسبب غضبه نسأل الله العافية والسلامة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي، قَالَ:«لَا تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ:«لَا تَغْضَبْ»
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ
(3)
، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد (11/ 260) ح (6677)، والترمذي (4/ 655) ح (2492) وقال:"حديث حسن"، وقال البغوي في شرح السنة (13/ 167) ح (3590):"هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 107) ح (2911) وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند ح (6677).
(2)
أخرجه البخاري (8/ 28) ح (1616).
(3)
وقال في الصحاح (3/ 1243) عن معنى الصرعة: "أي: يصرع الناس كثيرًا".
(4)
أخرجه البخاري (8/ 28) ح (6114)، ومسلم (4/ 2014) ح (2609).
وهذه بعض الفوائد من شرح ابن رجب وابن حجر على حديث" لاتغضب".
1 -
قال ابن رجب: " فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير، ليحفظها عنه خشية ألا يحفظها لكثرتها، فوصاه النبي ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مراراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر، وأن التحرز منه جماع الخير"
(1)
.
2 -
وقال ابن رجب: " والغضب: هو غليان دم القلب طلباً لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلباً للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان؛ وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة بن الأيهم، وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعاً، وكطلاق الزوجة الذي يعقب الندم. والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له، وربما تناولها بنية صالحة، فأثيب عليها، وأن يكون غضبه دفعا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاماً ممن عصى الله ورسوله، كما قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} سجحالتَّوْبَة الآية 14 - 15].
وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء ولم يضرب بيده خادماً ولا امرأة إلا أن
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 361 - 362).
يجاهد في سبيل الله. «وخدمه أنس عشر سنين، فما قال له: " أف " قط، ولا قال له لشيء فعله: " لم فعلت كذا "، ولا لشيء لم يفعله: " ألا فعلت كذا»
(1)
.
3 -
وقال ابن رجب: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا غضبت فاسكت» يدل على أن الغضبان مكلف في حال غضبه بالسكوت، فيكون حينئذ مؤاخذاً بالكلام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عين التكليف له بقطع الغضب، فكيف يقال: إنه غير مكلف في حال غضبه بما يصدر منه. وقال عطاء بن أبي رباح: (ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فتهدم عمر خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحماً ما استقاله). خرجه ابن أبي الدنيا"
(2)
.
4 -
وفي جامع العلوم والحكم: "قال جعفر بن محمد: (الغضب مفتاح كل شر). وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: (ترك الغضب). وكذا فسر الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب"
(3)
.
5 -
قال ابن حجر: "لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكف غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته هذا كله في الظاهر وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه بل أولى شيء يقبح منه باطنه وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه وهذا كله أثره في الجسد وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضاً في الفعل بالضرب أو القتل،
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 369 - 370).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 374).
(3)
جامع العلوم والحكم (1/ 363).
6 -
وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوب نفسه ويلطم خده وربما سقط صريعاً وربما أغمي عليه وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة، ومن تأمل هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم "لا تغضب" من الحكمة واستجلاب المصلحة في درء المفسدة مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته، وهذا كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله"
(1)
.
7 -
وقال ابن حجر: " ويعين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشيطان كما تقدم في حديث سليمان بن صرد، وأن يتوضأ كما تقدمت الإشارة إليه في حديث عطية، والله أعلم.
وقال الطوفي أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي وهو أن لا فاعل إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة له فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه، لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه جل وعلا وهو خلاف العبودية.
قلت: وبهذا يظهر السر في أمره صلى الله عليه وسلم الذي غضب بأن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به من الشيطان، أمكنه استحضار ما ذكر، وإذا استمر الشيطان متلبساً متمكناً من الوسوسة لم يمكنه من استحضار شيء من ذلك، والله أعلم"
(2)
.
المسألة الخامسة: الشح والبخل
(3)
.
(1)
فتح الباري (10/ 520 - 521).
(2)
فتح الباري (10/ 521).
(3)
الشح أشد البخل، فهو بخل مع حرص.
ينظر: مقاييس اللغة (3/ 178)، المفردات في غريب القرآن (446)، لسان العرب (2/ 495) مادة (شح).
وقال الخطابي رحمه الله في التفريق بين البخل والشح: "الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال البخل إنما هو في إفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة. وقال بعضهم: البخل أن يضن بمال، والشح أن يبخل بماله وبمعروفه". معالم السنن (2/ 83 - 84).
ومن أمراض النفوس التي جاءت النصوص محذرة منها ولها خطر على عبادة الحج الشح والبخل وهما خلقان ذميمان ينقصان أجر الحاج ويقع بسببهما في الأثم، ودونك بعض النصوص في التحذير منهما:
قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128].
وقال السعدي في تفسيره: " أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعاً، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر"
(1)
.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].
وقال السعدي عند قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]: " {وَأَنْفِقُوا} من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه، والانقياد لشرعه، والشر كله، في مخالفة ذلك.
(1)
تفسير السعدي (207).
ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس، من النفقة المأمور بها، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس، فإنها تشح بالمال، وتحب وجوده، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة.
فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} لأنهم أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب، بل لعل ذلك شامل لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة، لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما قِبلها، لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه نفسًا سمحة، مطمئنة، منشرحة لشرع الله، طالبة لمرضاة، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مرضٍ لله تعالى، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز"
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» الحديث
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» الحديث
(3)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» الحديث
(4)
.
وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ كثيرًا من مجموعة من الأخلاق السيئة منها البخل، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ: «التَمِسْ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ» ، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي وَأَنَا غُلَامٌ رَاهَقْتُ الحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ
(1)
تفسير السعدي (868).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1996) ح (2578).
(3)
أخرجه أحمد (15/ 433) ح (9693)، والنسائي (6/ 13) ح (3110)، وابن حبان في صحيحه (8/ 43) ح (3251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1262) ح (7616)، وصححه بمجموع طرقه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند ح (9693).
(4)
أخرجه أحمد (11/ 26) ح (6487)، وأبو داود (2/ 133) ح (1698)، وابن حبان في صحيحه (11/ 579) ح (5176)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 701) ح (2604)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند ح (6487).
كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»
(1)
.
والبخل والشح لهما خطر على الحاج ويحصل هذا عند حصول خلل في مناسك الحج فتكون على الحاج فدية لجبر الخلل في النسك فبعض الحجاج بسبب شحه وبخله لا يؤدي الفدية ويبحث عن المخارج منها ولو أدى به الأمر إلى عدم القيام بها أو إذا اضطر إلى الفدية مع قدرته المالية أخذ الضعيفة والهزيلة التي تكون بأرخص الأسعار بسبب بخله وشحه، وتجده يتهرب من نسك التمتع الذي هو أفضل الأنساك إلى الصيام مع قدرته المالية على هدي التمتع، وكل ذلك يرجع إلى المرض القلبي شح النفس والبخل، نسأل الله السلامة والعافية.
(1)
أخرجه البخاري (4/ 36) ح (2893).
المبحث السابع: من مظاهر مرض القلب في عبادة الحج وفيه مطالب.
المطلب الأول: ضعف تعظيم شعائر الله في الحج.
المطلب الثاني: الآفات المهلكة من الرياء، والسمعة، والعجب، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: خطر الرياء والسمعة والعجب على عبادة المسلم، وبالذات الحج والعمرة.
المسألة الثانية: من مظاهر الرياء والسمعة والعجب لدى بعض الحجاج والمعتمرين.
المسألة الثالثة: كيف يحافظ الحاج والمعتمر على عبادته من أن تدخلها الشوائب التي قد تفسدها أو تنقص أجرها.
المبحث السابع: من مظاهر مرض القلب في عبادة الحج والعمرة، وفيه مطالب.
تمهيد:
إن لمرض القلب مظاهر وعلامات تدل على وجوده، وإلا فهو من أعمال السر التي لا يعلمها إلا الله تعالى، لكن هناك دلائل ومظاهر إذا وقعها فيها العبد وتساهل في الوقوع فيها، فإن ذلك مؤشر خطير على فساد النيات والمقاصد، وضعف محبة الله في القلب، وضعف الخوف من الله وخشيته في القلب، فتظهر آثار تلك الأمراض على سلوك العبد، وفي تعامله مع الله أو مع الناس، ومن ذلك بعض هذه المظاهر التي سيكون الحديث عنها في الأمور الآتية:
المطلب الأول: ضعف تعظيم شعائر الله.
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
فتعظيم شعائر الله في الحج وغيره دليل على تقوى القلوب، وأضاف التقوى في الآية إلى القلب لأن حقيقة التقوى فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّات. والمعظم لشعائر الله يبرهن على تقواه وصدق إيمانه
(1)
، وهذا يدل على أهمية عمل القلوب وأثرها على حياة العبد، فإذا حقق العبد التقوى ظهر عليه تعظيمه لشعائر الله تعالى في سره وجهره.
فإذا ضعفت التقوى في القلب، تساهل العبد في تعظيم شعائر الله وبحث عن الحيل والرخص ليستحل تلك المحارم بتلك الحيل والرخص، فحين يرتكب الحاج محظوراً من محظورات الإحرام لا يبالي بذلك، ولا يشعر بخطئه، ويرتكب المحرمات في حرم الله وبجوار بيته المعظم دون أن يشعر بحرج في قلبه، بل أنه ربما يصل به الأمر إلى المجاهرة بالمعصية دون أدنى وازع يردعه عن ذلك، بل وربما إذا نصحه الناصح ثار عليه ورد نصحه عليه بحجة أنه يعرف كل شيء، وكبره الذي سكن في قلبه جعله يرد النصيحة ويزدري الناصح وربما يتهمه بالتشدد والدين يسر، وهو لا يدرك خطورة الكلام الذي يقوله، وقد يستهزئ بالناصح وكل ذلك علامات على عدم تعظيمه لشعائر الله، وسيأتي معنا بعض الأمثلة على ذلك.
(1)
ينظر: تفسير القرطبي (12/ 56)، تفسير السعدي (538).
المطلب الثاني: الآفات المهلكة من الرياء، والسمعة، والعجب، وفيه مسائل.
تمهيد:
ومن الآفات المهلكة التي تفسد العبادة وتذهب بأثرها من حياة العبد وقوعه في الرياء والسمعة والعجب، وهذه أمراض قلبية مهلكة مردية لصاحبها، فكم من أعمال في ظاهرها الصلاح من حج وعمرة وصدقة وتلاوة وذكر ونحوها، غفل أصحابها عن هذه الأمراض فوقعوا فيها، فخسروا أعمالهم وهم لا يشعرون لأن هذه الأمراض تسكن في القلوب وقد لا يعلم بها من وجدت عنده لغفلته عن ذلك، وهذه الأمراض خفية تحتاج إلى مزيد مجاهدة وتفقد ومحاسبة للنفس ودعاء وتضرع إلى الله أن يطهر القلب منها، ولا يحصل ذلك إلا بخوف من خطرها وضررها العظيم على عبادات المسلم.
ولهذا كان السلف عليهم رحمة الله مع اجتهادهم العظيم وشدة محاسبتهم لأنفسهم إلا أنهم كانوا على خوف عظيم من هذه الآفات.
ودونك طرفاً من أخبارهم:
وقيل لسهل رحمه الله: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: "الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب"
(1)
.
وقال يوسف بن الحسين رحمه الله: "أعز شيء في الدنيا: الإخلاص. وكم أجتهدُ في إسقاط الرياء عن قلبي! فكأنه ينبت على لون آخر"
(2)
.
تنبيه: وهذا الكلام -والله أعلم- لأجل حثِّ النفس على الاجتهاد في الإخلاص، إلا أنه قد يصيب من يسمعه باليأس من الإخلاص وأنه غير مقدور عليه، فيضعف الاهتمام به، وهذا ما ينبغي أن ينتبه له المسلم عند سماعه لهذه الأقوال عن الإخلاص ونحوه من أعمال القلوب، بل ينبغي أن يعلم يقيناً أن الله لا يخيِّب من جاهد وبذل الأسباب الموصلة إلي الإخلاص ونحوه، بل قال تعالى في بيان أن الذي يجاهد نفسه على الخير سيجد عون الله له وهدايته تحف به:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
(1)
مدارج السالكين (2/ 92).
(2)
مدارج السالكين (2/ 92).
وقال ابن القيم رحمه الله: "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله ولا ينفعه"
(1)
.
ومن ثمرات مجاهدة النفس على تحقيق الإخلاص التخلص من الرياء وكثرة الوساوس، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله:"إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء"
(2)
.
وسيكون الحديث عن هذه الآفات وفق المحاور الآتية:
المسألة الأولى: خطر الرياء والسمعة والعجب على عبادة المسلم وبالذات الحج والعمرة.
وهذه الآفات القلبية لها خطر عظيم على عبادات المسلم، ومنها عبادة الحج والعمرة، وسيكون الحديث عنها في النقاط الآتية:
خطرها العظيم:
1 -
ذهاب العمل من بين يدي صاحبه وهو أحوج ما يكون له في يوم القيامة،
قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
وهذه الأعمال التي يجعلها الله هباء منثوراً في يوم القيامة، فلا ينتفع أصاحبها بها وهم أحوج ما يكونون إليها، لأنها إما ليست خالصة لله تعالى، وإما أنها على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
2 -
حبوط العمل وعدم قبوله في الآخرة، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16].
3 -
ومن أعظم ما يخيف المؤمن ما يحدث من خطر عظيم على من يقع في هذه الأمراض في يوم القيامة في موقف مخيف تنخلع منه القلوب من شدة هوله، وتأمل معي في هذا الحديث العظيم الذي ينقل هذا المشهد من يوم القيامة، هذا المشهد الذي
(1)
الفوائد (49).
(2)
مدارج السالكين (2/ 92)، البداية والنهاية (14/ 150).
(3)
ينظر: مدارج السالكين (2/ 89).
أبكى الصالحين بكاء عظيماً وهم قد بلغوا في الصلاح مبلغاً عظيماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بكى منه أبو هريرة رضي الله عنه واغمي عليه، وبكى منه معاوية رضي الله عنه بكاء شديداً، فكيف بمن عداهم؟ دَخَلَ شُفيٌ الأصبحي المَدِينَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثْنَا قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ "، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» وَقَالَ الوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ «أَنَّ شُفَيًّا، هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا» قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي العَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: " قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ؟ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ
5 -
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 – 16] "
(1)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ"
(2)
.
6 -
ومن خطر السمعة على من يقع فيها ويحب أن يسمع ثناء الناس عليه ويبحث عن ذلك، أن الله يعاقبه بنقيض قصده ويصغره ويحرقه في الدنيا في الآخرة، والخطر العظيم ما يكون في يوم القيامة، وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَبْدَ
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 591) ح (2382)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"، وابن حبان (2/ 136) ح (408)، والحاكم في المستدرك (1/ 579) ح (1527) وصححه وأقره الذهبي، وابن خزيمة (2/ 1188) ح (2482)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 114) ح (22)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (2/ 137) ح (408).
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).
7 -
اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ
(1)
.
تابع الحديث السابق، وفيه زيادة:"يَوْمَ الْقِيَامَةِ": فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ»
(2)
.
8 -
وقال صلى الله عليه وسلم عن خطر العجب على صاحبه، أنه سبب لهلاكه: من حديث أنس رضي الله عنه: «ثلاث مهلكات .. » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وأمّا المهلكاتُ: فَشُحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، وإعجابُ المرءِ بنفِسِه"
(3)
.
وسيأتي مزيد إضافة لهذا الأمر في المسألة الآتية.
(1)
أخرجه أحمد (11/ 430) ح (6839)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 222) ح (17660):"رجال أحمد، وأحد أسانيد الطبراني في الكبير رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (11/ 430) ح (6839):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(2)
أخرجه أحمد في المسند (11/ 566) ح (6986)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 117) ح (25)، وقال محقق المسند (11/ 566) ح (6986):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
أخرجه البزار في مسنده (13/ 114) ح (6491)، والطبراني في المعجم الأوسط (5/ 328) ح (5452)، وحسنه المنذري بمجموع طرقه في الترغيب والترهيب (1/ 174) ح (654)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 312) ح (453):"حسن لغيره".
المسألة الثانية: تلخيص ما يتعلق بهذه الآفات المهلكة
(1)
مع بعض التوسع في الكلام عنها بشكل عام.
أولاً: الرياء.
حكمه: الرياء من الشرك الأصغر، وهو أيضًا من الشرك الخفي؛ ولذا كان خطره عظيمًا، وشره مستطيرًا، فلا بد من الحذر منه، والانتباه له ولعظيم ضرره.
ومن الأدلة على ذلك:
أ - قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ب - وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
ت - وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38].
والآيات تدل على عظيم خطر الرياء وأن من تلبس به وأنه من الشرك، ومن صفات المنافقين، وصاحبه الشيطان قرين له فساء قريناً.
ث - قال سفيان الثوري رحمه الله عند قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]: "ويل لأهل الرياء! ويل لأهل الرياء! هذه آيتهم وقصتهم"
(2)
.
(1)
من العجب والرياء والسمعة وهي آفات قلبية مترابطة بينها تداخل ولهذا آثرت الحديث عنها مع بعضها.
(2)
تفسير القرطبي (15/ 265).
ج - وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»
(1)
.
• وذكر الخطابي رحمة الله في معني الحديث: أن من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جزاه الله على ذلك بأن يشهره ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه
(2)
.
• وأضاف ابن حجر إلى ما ذكره الخطابي، فقال:"وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة ومعنى «يرائي»: يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه"
(3)
.
ح - وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ:«الرِّيَاءُ؛ إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!»
(4)
.
خ - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(5)
.
• وذكر الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في شرحه على التوحيد أن الرياء على درجتين:
الأولى: رياء المنافقين؛ بأن يظهر الإسلام ويبطن الكفر؛ لأجل رؤية الخلق، وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله، وقد وصف المنافقين بقوله:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، فقوله تعالى:{يُرَاءُونَ النَّاسَ} الرياء الأكبر الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له عن جندب رضي الله عنه (8/ 104) ح (6499)، ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما (4/ 2289) ح (2986).
(2)
ينظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي (3/ 2257).
(3)
فتح الباري (11/ 336).
(4)
أخرجه أحمد (39/ 43 - 44) ح (23636)، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 34) ح (50)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 102) ح (375):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 120) ح (32)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (39/ 44) ح (23636):"إسناده حسن".
(5)
أخرجه مسلم (4/ 2289) ح (2985).
الثانية: وهو أن يرائي المسلم بعمله أو ببعض عمله، فهذا شرك خفي ينافي كمال التوحيد
(1)
.
صور من الرياء عند من ابتلي به
(2)
:
2 -
ينشط في العبادة إذا رآه الناس، ويحسنها ويتقنها من أجل شعوره برؤية الناس له، كما في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ:«الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»
(3)
.
3 -
يحافظ على البعد عن محارم الله إذا كان الناس يرونه، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها؛ لأنه لا ينتهي عن المحارم إلا مخافة من الناس، ولهذا عقوبته عظيمة، كما في الحديث عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» .
وهذا يحصل من البعض، تجده ينتهك محارم الله إذا خلا بجواله أو جهاز حاسبه أو بالقناة الفضائية التي تعرض ما حرم الله.
4 -
يطلب العلم وهمه أن يرى تعظيم الناس له، وقضاء حاجاته، وتقديمه في المجالس.
5 -
الرّياء بالقول، وهو أن يقوم بهذه الأعمال من أجل الناس، ويكون مهتمًّا بالوعظ والتّذكير والنّطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار؛ لإظهار غزارة العلم، ومن ذلك تحريك الشّفتين بالذّكر في محضر النّاس، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أمامهم.
(1)
ينظر: التمهيد (396).
(2)
ينظر: إحياء علوم الدين (3/ 297)، نضرة النعيم (10/ 4553)، الإخلاص حقيقته ونواقضه (336 - 339).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2/ 1406) ح (4204)، والحاكم (4/ 365) ح (7936) وصححه ووافقه الذهبي، وحسن إسناده البوصيري في زوائد ابن ماجه (4/ 236) ح (1505)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) ح (30).
6 -
المراءاة بالأصحاب والزّائرين، كأن يطلب المرائي من عالم أن يزوره ليقال: إنّ فلانًا قد زار فلانًا، ومن ذلك كثرة ذكره للشّيوخ الذين قابلهم وزارهم، ويحرص على إظهار ذلك للناس من خلال الوسائل المتاحة له، لا لأجل الاقتداء ونشر الخير، وإنما لأجل أن يشعر الناس بمكانته.
خطر الرياء
(1)
:
1 -
نفور الناس منه.
2 -
خذلان الله له وقلة توفيقه.
3 -
تسلط الأعداء عليه من شياطين الإنس والجن.
4 -
يحبط أعماله وينزع الله منها البركة.
5 -
لا يسلم المرائي من أن يفضح الله أمره في الدّنيا، ويظهر عيوبه، فيسقط من أعين النّاس وتذهب هيبته، ناهيك عن حسرته يوم القيامة.
6 -
من يرائي بالأعمال الصالحة أول من تسعر به النار، كما في الحديث أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ حَدَّثَ أَنَّ شُفَيًّا الأَصْبَحِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ المَدِينَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثْنَا قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ
(1)
ينظر: نضرة النعيم (10/ 4567).
7 -
أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ»، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . وَقَالَ الوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي العَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا، فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ؟! ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا: قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 591) ح (2382)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"، وابن حبان في صحيحه (2/ 136) ح (408)، والحاكم (1/ 579) ح (1527) وصححه وأقره الذهبي، وابن خزيمة (2/ 1188) ح (2482)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 114) ح (22)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (2/ 137) ح (408).
ثانياً: السمعة.
والفرق بينها وبين الرياء: أن السمعة تتعلق بحاسة السمع
(1)
، والرياء يتعلق بحاسة البصر
(2)
. وكلاهما بمعنى متقارب في نتيجة الحكم عليهما كما سيأتي.
حكم السمعة:
السمعة حكمها كحكم الرياء، فكل ما ورد في الرياء من الأدلة يرد فيها، وقد جاء في السنة ما يبين عظيم خطرها، ومن ذلك:
قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» .
عن جندب رضي الله عنه: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة» الحديث
(3)
.
وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ
(4)
.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ»
(5)
.
وحكمها حكم الرياء، وبالذات حينما تقارن العمل.
قال ابن حجر رحمه الله: "والسمعة .. مشتقة من سمع، والمراد بها نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر"
(6)
.
(1)
أي: الأعمال التي تسمع من تلاوة أو ذكر أو دعاء ونحو ذلك؛ لأجل سماع مدح الناس.
(2)
ينظر: فتح الباري (11/ 336).
(3)
أخرجه البخاري (9/ 64) ح (7152).
(4)
أخرجه أحمد (11/ 430) ح (6839)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 222) ح (17660):"رجال أحمد، وأحد أسانيد الطبراني في الكبير رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (11/ 430) ح (6839):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(5)
أخرجه أحمد في المسند (11/ 566) ح (6986)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 117) ح (25)، وقال محقق المسند (11/ 566) ح (6986):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(6)
فتح الباري (11/ 336)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعد أن ذكر تعريف الرياء: "ويدخل في ذلك من عمل العمل ليسْمَعَه الناس"
(1)
.
ما يستثنى من السمعة:
ويستثنى من السمعة المحرمة ما يعمله الإنسان المقتدى به، فيظهر العمل ليقتدي به الناس، بشرط أن يحرص على سلامة نيته من مقصد السمعة المذمومة، وذلك بحبه لسماع ثناء الناس ومدحهم.
وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث
(2)
استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة، قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به، أو لينتفع به ككتابة العلم
(3)
، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة:«لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي»
(4)
قال الطبري: كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إمامًا يستن بعمله عالمًا بما لله عليه قاهرًا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي؛ لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك، فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف، فمن الأول حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ ويرفع صوته بالذكر، فقال:"إِنَّهُ أَوَّابٌ" قال: فإذا هو المقداد بن الأسود أخرجه الطبري
(5)
.
(1)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 124).
(2)
يقصد ابن حجر رحمه الله حديث: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» .
(3)
لم أجده بهذا اللفظ فيما تيسر لي من كتب العز بن عبد السلام، ووجدت قريباً منه في كتابي: الفوائد ومقاصد الرعاية له رحمه الله.
ينظر: الفوائد في اختصار المقاصد (125 - 127)، مقاصد الرعاية لحقوق الله (98) كلاهما للعز بن عبد السلام.
(4)
وهو في مسلم (1/ 386)(544).
(5)
لم أقف عليه فيما تيسر من مصادر، ولكني وجدت قريبًا منه في مسند أحمد (31/ 306) ح (18971) ولفظه: عَنِ ابْنِ الْأَدْرَعِ قَالَ: كُنْتُ أَحْرُسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَخَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ: فَرَآنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْنَا، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَرَفَضَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالْمُغَالَبَةِ» ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا أَحْرُسُهُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«كَلَّا إِنَّهُ أَوَّابٌ» ، قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْن. وقال في مجمع الزوائد (9/ 369) ح (15982):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وحسن إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 285) ح (1709)، والحديث ضعف إسناده محقق المسند (31/ 306) ح (18971).
ومن الثاني حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قام رجل يصلي، فجهر بالقراءة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسمعني، وأسمع ربك» أخرجه أحمد
(1)
، وابن أبي خيثمة، وسنده حسن"
(2)
من مظاهر السمعة عند من ابتلي بها
(3)
:
1 -
ما ورد من مظاهر في الرياء وما سيرد في العجب كلها متقاربة.
2 -
كثرة إطراء النفس والحديث عنها.
3 -
التمطيط بقراءة القرآن وإخراجها عن الحد المشروع في القراءة، حتى يخيل لك أنه لا يقرأ وإنما ينشد شعرًا، ويتفاعل مع جماهير السامعين ويردد الآية لا للتدبر، وإنما للتمطيط وزيادة التنغيم والدخول من مقام إلى مقام آخر، حتى يشبع رغبة في نفسه بحب ثناء الناس ومدحهم.
4 -
لا يحب الناصح، ويرى أنه ينزل من قدره.
5 -
إذا ألقى درسًا أو موعظة ولم يلق مدحًا ولا ثناء يغضب في داخل نفسه، وربما لا يواصل درسه أو مواعظه في نفس المكان.
6 -
كثير النقد والاعتراض على الآخرين.
7 -
يتصيد الأخطاء ويفرح بها، ويضخمها وهي صغيرة؛ ليشعر من يسمعه أنه عنده غيرة على الدين.
تنبيه:
أما ما يسمعه الإنسان عنه من ثناء حسن من غير قصد لذلك، وتطلع إليه، فلا يدخل في السمعة المذمومة؛ لأن هذا مما استثناه الحديث، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ:«تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»
(4)
.
(1)
مسند أحمد (14/ 72) ح (8326).
(2)
فتح الباري (11/ 337).
(3)
الأخلاص حقيقته ونواقضه (368 - 370).
(4)
أخرجه مسلم (4/ 2034) ح (2642).
نقل النووي كلام العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» فقال رحمه الله: "قال العلماء: معناه: هذه البشرى المعجلة له بالخير وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له، فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث
(1)
، ثم يوضع له القبول في الأرض، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم"
(2)
.
قال السيوطي رحمه الله: "قال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» أي: هذه البشرى المعجلة دليل للبشرى المؤخرة إلى الآخرة"
(3)
.
خطر السمعة:
يقال هنا ما قيل في خطر الرياء لتقارب الآفتين، ويضاف ما ورد في الحديث:«مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة» الحديث.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ الراوي: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ.
ففي هذين الحديثين بيان عقوبة من يقع في السمعة في الدنيا والآخرة.
وذكر أهل العلم
(4)
في شرح هذا الحديث عدة معان تدل على خطورة السمعة، ودونك أهمها:
1 -
أنه إذا عمل يريد سماع ثناء الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا خيره سمع الله به يوم القيامة الناس وفضحه.
2 -
يفضحه الله في الدنيا ويظهر ما كان يبطنه ويخفيه عن الناس.
3 -
وقيل: إذا أراد بالسمعة الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثًا عند الناس
(1)
يشير رحمه الله إلى حديث: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ» ، وحديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟ قَالَ:«تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» . أخرجه أحمد في المسند (35/ 379) ح (21477)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (35/ 379) ح (21477).
(2)
شرح النووي على مسلم (16/ 189).
(3)
شرح السيوطي على مسلم (5/ 556).
(4)
ينظر في ذلك: شرح النووي على مسلم (18/ 116)، فتح الباري لابن حجر (11/ 336 - 337).
4 -
الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة.
5 -
وقيل: المعنى: من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمعه المكروه.
6 -
وقيل: المعنى: من نسب إلى نفسه عملًا صالحًا لم يفعله وادعى خيرًا لم يصنعه، فإن الله يفضحه ويظهر كذبه.
ثالثاً: العُجْبُ.
من أقوال العلماء في معنى العجب:
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله عن العجب: "أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك"
(1)
.
وقال الغزالي رحمه الله عن العجب: "استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم"
(2)
.
وقال أبو العباس القرطبي: "إعجاب الرجل بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال والاستحسان مع نسيان منة الله تعالى"
(3)
.
وقال الجرجاني: "العجب: هو عبارة عن تصور استحقاق الشخص رتبة لا يكون مستحقًّا لها"
(4)
.
ومن خلال ما سبق يتضح أن العجب مرتبط بالنفس، وهو أن يرى بأن عنده ما ليس عند غيره، وملاحظته لنفسه بعين الكمال والاستحسان، مع نسيان أن المنعم عليه هو الله تعالى.
حكم العجب:
دلت نصوص الكتاب والسنة على تحريم العجب، ومن ذلك:
قال تعالى في وصية لقمان لابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي: لا تُمِلْهُ وتعبس بوجهك للناس؛ تكبُّرًا عليهم وتعاظمًا. {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي: بطرًا، فخرًا
(1)
شعب الإيمان (10/ 514).
(2)
إحياء علوم الدين (3/ 371).
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (5/ 406).
(4)
التعريفات (147).
بالنعم، ناسيًا المنعم، معجبًا بنفسك. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} في نفسه وهيئته وتعاظمه، {فَخُورٍ} بقوله"
(1)
.
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه: «ثلاث مهلكات .. » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وأمّا المهلكاتُ: فَشُحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، إعجابُ المرءِ بنفِسِه".
وعَن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ لمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ: الْعُجْبَ»
(3)
.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ -وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ- «إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ، حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ»
(4)
.
ودلت هذه النصوص على أن العجب محرم ومن كبائر الذنوب، بل عده شيخ الإسلام رحمه الله من الشرك، فقال: "وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله: {إِيَّاكَ
(1)
تفسير السعدي (649).
(2)
أخرجه البخاري واللفظ له (7/ 141) ح (5789)، ومسلم (3/ 1654) ح (2088).
(3)
أخرجه البزار في مسنده (13/ 326) ح (6936)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 399) ح (6868)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 269) ح (17948):"رواه البزار، وإسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 938) ح (5303).
(4)
أخرجه أحمد في المسند (20/ 243 - 244) ح (12886)، وأبو يعلى (7/ 116) ح (4066)، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها (4/ 519) ح (1895):"وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (20/ 244) ح (12886):"إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وقال محقق مسند أبي يعلى (7/ 116) ح (4066):"إسناده صحيح".
نَعْبُدُ}، والمعجب لا يحقق قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فمن حقق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} خرج عن الرياء، ومن حقق قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خرج عن الإعجاب"
(1)
.
مما يدل على خطر العجب على الأمة، وأثره العظيم في حصول الهزيمة، ما ذكره الله في تعقيبه على غزوة حنين وهو يربي الأمة على الحذر من هذه المسالك، حينما حصل هزيمة في أول المعركة بسبب العجب بالكثرة وتعلق القلب بها، فقال سبحانه:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، وكان من أسباب الخلل والهزيمة العجب الذي أدى إلى ركون القلب إلى الكثرة والاعتداد بها بأنهم لن يهزموا، وغفلوا عن أن النصر من الله، وليس بالكثرة ولا بالقوة المادية، فأصابهم الخذلان، ولم تغن عنهم الكثرة شيئًا، فحصلت الهزيمة والفرار في أول المعركة من هؤلاء، وثبّت الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ونصرهم في نهاية المعركة، حيث قال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 277).
من أقوال السلف في التحذير من العجب:
- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب"
(1)
.
- وعن كعب رضي الله عنه أنه قال لرجل رآه يتبع الأحاديث: "اتق الله، وارض بالدون من المجلس، ولا تؤذ أحدًا، فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالًا ونقصانًا"
(2)
.
- وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "علامة الجهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه"
(3)
.
- وعن مسروق رحمه الله قال: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعمله"
(4)
.
- وقال أبو وهب المروزي رحمه الله: "سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن، تزدري الناس. فسألته عن العجب، قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئًا شرًّا من العجب"
(5)
.
- وعن خالد بن يزيد بن معاوية رحمه الله قال: "إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا بنفسه، فقد تمت خسارته"
(6)
.
- وكان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول: "إياكم والعجب؛ فإن العجب مهلكة لأهله، وإن العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"
(7)
.
(1)
أدب الدين والدنيا (237).
(2)
حلية الأولياء (5/ 376).
(3)
جامع بيان العلم وفضله (1/ 569).
(4)
جامع بيان العلم وفضله (1/ 569).
(5)
سير أعلام النبلاء (8/ 407).
(6)
مساوئ الأخلاق (263).
(7)
شعب الإيمان (9/ 395).
وقيل لعبد الله بن المبارك: ما الذنب الذي لا يغفر؟ قال: "العجب"
(1)
.
ويقصد ابن المبارك رحمه الله أن العجب من الكبائر التي لا تغفر إلا بالتوبة.
صور من العجب عند المبتلى به
(2)
:
1 -
كثرة الحديث عن نفسه ومنجزاته وأعماله إما تصريحًا أو تلميحًا.
2 -
حبه ونشاطه في الأعمال التي فيها ظهور أمام الجمهور، وفي المقابل البعد أو الكسل عن الأعمال التي لا يراه فيها الناس؛ لأن الظهور أمام الناس يلبي رغبة العجب التي في نفسه.
3 -
يحب من يقدمه ويثني عليه، وينفر من الذين لا يثنون عليه، ولا يحب النشاط في هذه الأماكن التي لا يثنى عليه فيها.
4 -
الضيق والتبرم من النصيحة، والبعد عن الناصحين.
5 -
حبه للتصدر وحرصه عليه قبل أن يتأهل لذلك.
6 -
الفرح بذكر أو سماع عيوب إخوانه؛ مما يؤدي به إلى البحث والتنقيب عن عيوبهم، ونسيان عيوب نفسه، وهو يظن أنه بذلك يظهر قدرته العلمية.
7 -
عدم استشارة أهل العلم، معتدًّا برأيه، ويظن أنه ليس بحاجة إلى استشارة أحد لكمال عقله.
(1)
شعب الإيمان (9/ 396).
(2)
ينظر: مختصر منهاج القاصدين (234)، مقال بعنوان العجب داء القلوب الخفي في موقع المسلم على الشبكة، الإخلاص حقيقته ونواقضه (486 - 487)، نضرة النعيم (11/ 5380).
خطر العجب:
العجب له خطر عظيم عليه في نفسه، وعلى ما يقوم به، ومن ذلك:
1 -
نفور الناس منه.
2 -
سبب للكبر والغرور والتعالي على الناس.
3 -
سبب للرياء والسمعة.
4 -
نسيان الذنوب والتمادي في التقصير، ولا يوفق للتوبة.
5 -
الإصرار على الأخطاء، وعدم سماع العلماء الناصحين اعتدادًا برأيه.
6 -
سبب للخذلان وقلة التوفيق.
المسألة الثالثة: من مظاهر الرياء والسمعة والعجب لدى بعض الحجاج والمعتمرين.
مر في الكلام السابق الحديث عن هذه الآفات بشكل عام، ونأتي إلى بعض صور هذه الآفات فيمن ابتلي بها في حجه وعمرته، لأجل التنبه لذلك والحذر من الوقوع في مثل هذه الصور والمظاهر أو نحوها.
وهذه أمثلة على مظاهر هذه الأمراض القلبية الدالة على وجودها في القلب لدى بعض الحجاج والمعتمرين:
تنبيه مهم: وقبل عرض هذه الأمثلة لا بد من التنبيه على مسألة مهمة:
وهي الحذر من الحكم على الناس المعينين، لأن ذلك يحتاج إلى أن هؤلاء لا يجهلون الحكم وانما تعمدوا ذلك وأصروا عليه مع علمهم أن ذلك قد يبطل العمل أو ينقص أجر العمل، والأمر الآخر الذي يجعل المؤمن الصادق يخاف من الحكم على نوايا الناس ومقاصدهم؛ لأن هذا الأعمال خفية لا يعلمها إلا الله.
وهل أقيمت على هؤلاء الحجة وعلموا حكم الله في ذلك أم لم يحصل ذلك؟
فهم وقعوا في ذلك بسبب جهلهم وقلة الناصحين، وإنما الحكم هنا على العموم وعلى العمل لا على العامل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ومن هذه المظاهر:
1 -
ينشط في العبادة إذا أحس برؤية الناس له ويتمها، وإذا شعر أنه لا يراه أحد ربما نام عن العبادة أو أداها بكسل وفتور وعدم اتقان لها.
2 -
إذا أدى منسكاً من مناسك الحج أو العمرة ومعه أحد أتقنه وأتمه وحرص على تطبيق السنن، وإذا كان وحده لا يفعل ذلك بل يتساهل في أداء العبادة ولا يتقنها كما كان في المرة الأولى؛ لأنه هناك يراه أصحابه فلا يريد أن يظهر أمامهم بمظهر المتساهل المفرط، ولأنه يحب مدح الناس وثناؤهم عليه، فينشط من أجل رؤية الناس له ويريد أن يسمع ثناؤهم عليه.
وهذا من الشرك الخفي الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ:«الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»
(1)
.
3 -
ومن أخطر مظاهر الرياء والسمعة وعجب الإنسان بعمله ما يحدث في وسائل التواصل الحديثة من خلال النقل المباشر لما يقوم به الشخص من مناسك الحج والعمرة، فتجد هؤلاء قد أغرقوا انفسهم في بحر لجي يغشاه الموج من كل مكان بحر الرياء والعجب وحب ثناء الناس عليه انهم ينقل لهم بث مباشر أو مسجل وهو يرتدي ملابس الإحرام وهو يلبي وهو يطوف ويصلي وهو يسعى وفي عرفات ومزدلفة وعند رمي الجمار وهو يكبر ويقرأ القرآن وكأنها رحلة سياحية للترفيه عن النفس، ونسي أو فتن بأصحاب السوء الذين يشجعون على ذلك أن هذه عبادات لا تقبل عند الله إلا إذا أريد بها وجه وحده لا شريك له، اما ما يفعله هؤلاء بعمل ما يسمى ب (السّلْفِي) أمام الكعبة وهو يطوف وأنا في الشوط كذا أو هو خلف
(1)
أخرجه ابن ماجه (2/ 1406) ح (4204)، والحاكم (4/ 365) ح (7936) وصححه ووافقه الذهبي، وحسن إسناده البوصيري في زوائد ابن ماجه (4/ 236) ح (1505)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) ح (30).
4 -
المقام أو نحو ذلك فهذه مظاهر مخيفة ومهلكة وربما تكون مفسدة للعبادة والله المستعان.
(1)
.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (8/ 140) ح (6689)، ومسلم (3/ 1515) ح (1907).
(2)
أخرجه النسائي (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".
المسألة الرابعة: كيف يحافظ الحاج والمعتمر على عبادته من أن تدخلها الشوائب التي قد تفسدها أو تنقص أجرها.
هذه العبادة كنز ثمين يحتاج المسلم للمحافظة عليه من اللصوص الذين يسرقون الأجر والثواب ويزينون له ما يفسد عبادته، ويقول تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "، ومن فعل هذا كان حجه مبروراً الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ:«لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»
(1)
.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَالْعُمْرَتَانِ أَوِ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ يُكَفَّرُ مَا بَيْنَهُمَا "
(2)
.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على صحيح الترغيب والترهيب: "و (الحج المبرور): هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، وقيل: هو المقبول المقابل بالبر وهو الثواب، ولا يكون كذلك إلا إذا صفا من البدع والأمور التي اعتادها الناس، وكان من كسب حلال أراد به صاحبه أداء الفريضة، وامتثال أوامر الرب تبارك وتعالى. نسأل الله العافية"
(3)
.
ولا شك أن من أعظم المآثم الرياء والعجب والسمعة وقد سبق الكلام عن ذلك.
أما كيف يسلم الحاج والمعتمر على عبادته من عوادي الرياء والسمعة والعجب، فهذه بعض الوسائل المعينة على ذلك وفق النقاط الآتية:
(1)
أخرجه البخاري (2/ 133) ح (1520).
(2)
أخرجه أحمد (12/ 309) ح (7354)، والبزار (15/ 367) ح (8956)، والنسائي (5/ 112) ح (2622)، وأبو يعلى (12/ 13) ح (6660)، وابن حبان (9/ 8) ح (3695)، وحكم الألباني بصحته في تخريجه لسنن النسائي ح (2622)، وصحح إسناده محقق المسند وقال (12/ 309):" إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
صحيح الترغيب والترهيب (2/ 7).
أولاً: العلم ثم العلم ثم العلم، لأنه من أكبر العواصم من القواصم فبه يعرف دسائس الرياء وخفيا العجب والسمعة.
ثانياً: مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته، وبالأخص أسماء الله السميع البصير العليم الخبير؛ فإن لها أثرًا عظيمًا في بعد القلب عن مزالق هذه الآفات؛ لأنه يستحي من الله أن يطلع على قلبه وفيه شيء من الآفات، فيمقته:
ودونك هذه الأدلة من كتاب الله تذكر القلوب باطلاع الله عليها وعلمه بها وسمعه وبصره المحيط بكل شيء، وإن المتدبر لهذه الآيات بقلبه، وهو يستحضر معناها وأثرها على قلبه، سيكون لذلك أعظم الأثر في محاسبة نفسه على التخلص من هذه الآفات.
قال تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77].
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99].
وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3].
وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].
وقال تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].
وقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13، 14].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16].
قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
وقال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13].
وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61].
وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، والناظر في هذه الآيات بقلب حاضر يتدبر كلام الله ويؤمن بيقين أن الله مطلع عليه عالم بسره ونجواه يسمعه ويراه، فلا بد أن يحدث في قلبه خوفًا وحياء من الله، وحذرًا من الوقوع في هذه الآفات.
ثالثاً: من أعظم أسباب علاج هذه الآفات الاطلاع على آثارها في الدنيا والآخرة،
وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في خطر هذه الآفات.
رابعاُ: الدعاء والتضرع إلى الله مع الالحاح عليه ومواصلة الدعاء بأن يقيه الله الرياء وهذه الآفات.
خامساً: أن يصطحب في حجه وعمرته من يعينه على الطاعة وعلى اتباع السنة ويذكره إذا غفل وينصحه إذا قصر.
سادساً: أن يقرأ كثيراً ويسمع لأهل العلم في خطر هذه الآفات قبل حجه وعمرته حتى يعرف مخاطرها فيحذر منها أشد الحذر.
سابعاً: محاسبة النفس وتفقدها والمجاهدة لها عندما يجدها ترغب في هذه الأمور فيستغفر الله ويتوب إليه لأن النفس في طبعها تحب هذه الأمور فلا بد من مسايستها حتى تبعد عن مواطن الخطر.
ثامناً: الإكثار من هذا الاستعاذة كما في الحديث عن معقل بن يسار قال: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟» قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ»
(1)
.
وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (377) ح (716) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (265 - 266) ح (554)، وصححه أيضًا في صحيح الجامع (1/ 694) ح (3731)، وحسنه لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 121) ح (36)، وقد قال العلامة ابن باز رحمه الله في برنامج الفتاوى الشهير (نور على الدرب) عن هذا الحديث:"لا أعلم به بأسًا سنده لا أعلم به علة".
ينظر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الإمام ابن باز على الرابط:
https://binbaz.org.sa/fatwas/11434/
وبناء على ما قاله هذان العَلمان في الحكم على الحديث فهو حديث صحيح، والله أعلم.