الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمدُ لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلمْ، وصلى اللهُ على عبدِه ورسولِه، وخيرته من خلقِه، وخاتِم أنبيائه ورسلِه، محمدٍ، وآله، وصحبه، وسلم تسليماً مزيداً، أما بعد:
فإنَّ نعمةَ الهدايةِ للإسلام، والتوفيق لمذهب السنة والجماعة؛ أعظمُ نعمةٍ، فمن وُفِّق لذلك؛ فليكثرْ مِنْ حَمْدِ الله؛ فإنَّ أكثرَ الناسِ يَتخبَّطون في ظلماتِ الكفرِ، وضلالاتِ البدعِ وجهالاتِها، والمُوفَّقُ حقاً؛ مَنْ رُزق التوفيقَ للزوم مذهب أهل السنة والجماعة، والاستقامة على ذلك: علماً، وعملاً.
وقد بُلِيَتْ هذه الأمة بالافتراق والبدع؛ كما حدث في الأمم قبلها، وكان لهذه البدع أئمةٌ مُنظِّرون لَبَسُوا على الناس دينهم، وبثوا من الشبهات ما ضلَّ بها خلقٌ كثيرٌ؛ لم يعتصموا بالكتاب والسنة، واستمعوا لأهل البدع، أو قرأوا كتبهم، أو جلسوا إليهم، وقصَّروا في تَعَلُّمِ العلم النافع، والحُججِ العقلية والنقلية، التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وقرَّرها أهلُ العلم والإيمان وأوضحوها.
وقد كان من نعمةِ الله وفضله؛ أنَّه لم تخلُ هذه الأمة على مرِّ عصورها من قائمٍ لله بالحجة والبيان، يزيِّفُ ما يُحدِثه المُحْدِثون، ويفتريه المُفترون، ويبيِّنُ الحقَّ، وينصحُ الخلقَ.
وقد كتب علماء أهل السنة في ذلك كتباً يتعذَّر على العادِّ حصرها، وكان الإمامُ، أبو العباس، أحمد ابن تيمية رحمه الله له اليد الطولى في ذلك، فقد كتب في نشر العقيدة الصحيحة، والدفاع عنها، وكشف شبهات المخالفين بأنواعهم؛ كتباً كثيرة، كان من أحسنها كتابُ:«تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع»
(1)
، المشهور ب «العقيدة التدمرية» ، أو «الرسالة التدمرية» ، وهو كتاب نفيس، حافلٌ بتقريرِ مذهب أهل السنة والجماعة، والتقعيد له، والرد على أصناف المخالفين من الفلاسفة، والمتكلمين: عقلاً، ونقلاً.
ولما كان في الكتاب ردٌّ على هذه الطوائف، ودخولٌ في محاورات معها؛ كان فيه مواضع كثيرة قد يصعب على طالب العلم فهمها؛ لوجود مصطلحات وتعبيرات لم يسبق له دراستها، ولما كان هذا الكتاب المبارك قد قُرِّر تدريسه في بعض الجامعات في بلادنا؛ أصبح طلاب العلم بحاجة ماسة لشرح يسهِّل فهمه ويكشف عن غامضه، ويُظهر دُرَرَه.
وكان ممن تولَّى شرحه في هذا العصر: فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله فشرحه للطلاب في «كلية الشريعة» و «أصول الدين» بالرياض سنين عدداً، وكان قد سُجِّل الشرح صوتياً، وكُتِب في مذكرات؛ كان الطلاب يتداولونها بينهم، ثم اعتنى به تحقيقاً وتعليقاً الشيخ الدكتور سليمان بن صالح الغصن حفظه الله؛ حسب
(1)
هكذا سماه مؤلفه شيخ الإسلام، كما في «مجموع الفتاوى» 16/ 430.
خطة بيَّنها في صدر عمله، ثم قرأه على الشارح، وطُبع في مجلد عن دار «كنوز أشبيليا» ، في عام 1425 هـ، ففرح به طلبة العلم، وانتفعوا به.
وقد وقع في الكتاب ملحوظات في الإخراج، والتحقيق، وكان الشرح أيضاً في مواضع منه بحاجة إلى زيادةِ بيانٍ، وشرح، وتوضيح.
لذا رأى الشيخ حفظه الله أن يُعاد إخراجه، وعَهِد إليَّ أن أعتني به، ثم أقرأه عليه.
فاستعنتُ بالله على ذلك، وكانت
طريقة العمل في الإخراج
كما يلي:
1 اتَّخذتُ النسخة المطبوعة من الشرح أصلاً.
2 صحَّحتُ ما وقفت عليه فيها من أخطاء: طباعية، وإملائية، ونحوية.
3 قابلتُ متن «التدمرية» في الشرح على الطبعة التي حققها الشيخ الدكتور محمد السعوي حفظه الله، وصححتُ ما وجدت من أخطاء.
وهناك عدة مواضع كان ما أُثْبِتَ في متن «التدمرية» المفرد؛ خلاف الصواب، فأثبتُّ هنا ما رجَّحه الشارح بين معكوفين []، وأشرت في الهامش إلى المرجوح.
وجعلت المتن باللون الأحمر في أعلى الصفحة.
4 جعلتُ توثيق المعلومات حسب ورودها في الشرحِ لا في المتن، إلا ما ورد في المتن ولم يذكر في الشرح؛ فإني أخرجه وأوثقه عند وروده في المتن.
5 اعتنيتُ بربط إحالات الشارح في الكتاب كقوله: «سيأتي» و «تقدم» ، وهي كثيرة، وغيرها ممَّا لم يشر إليه، ولم أترك من ذلك إلا الإحالات القريبة.
6 ربطتُ مسائل الكتاب العلمية بكتب الفنون، فمسائل «التفسير» بكتب «التفسير» ، وهكذا مسائل «أصوله الفقه» ، و «المنطق» ، و «النحو» ، و «البلاغة» ، و «اللغة» ، وغيرها.
7 وثقَّتُ جميع النقول التي في الكتاب ممَّا ورد بنصه أو معناه؛ بل حتى ما أشير إليه إشارة، أو ورد عرضاً وهو موافق لنص؛ وثقته، ولا أذكر اسم المؤلف في الحاشية؛ لأنه مذكور في قائمة المراجع، إلا إذا كان اسم الكتاب متكرراً لأكثر من عالم.
8 ترجمتُ للأعلام الذين ذُكروا في الكتاب، ولم أترك إلا المشاهير جدّاً؛ الذين يغلب على ظني أن أكثر القراء على دراية بتراجمهم.
9 كتبتُ جملة من التعليقات؛ كدليل لقول، أو تعريف بمصطلح، أو تتمة تعريف، أو تقسيم، أو نسبة قول لقائله، أو بيان معنى غريب، ونحوها من الفوائد.
10 ضبطتُ بالحركات الكلمات التي قد تُشْكِل، وأخرى غيرها، واعتنيتُ كثيراً بعلامات الترقيم، وتقسيم فقرات الكتاب؛ لأنها تساعد على الفهم، مع ما فيها من إضافةِ جمالٍ للنص يشرح الصدر لقراءته.
11 كتابة الآيات برسم المصحف، على رواية حفص عن عاصم، وعزوها إلى مواضعها من كتاب الله، وما يرد في المتن لا أعيد عزوه في الشرح مرة أخرى، طلباً للاختصار.
12 خرَّجتُ جميع الأحاديث، والآثار، والطريقة في التخريج ما يلي:
(أ) إذا كان الحديث في الصحيحين، أو أحدهما اقتصرت في العزو عليه، وأكتفي بموضع واحد.
(ب) إذا كان الحديث في غير الصحيحين أُخرِّجه من أشهر المصادر وأهمها من غير استيعاب، وأنقل أهمَّ ما أجده من كلام لأهل العلم عليه تصحيحاً أو تضعيفاً، أو وجود شواهد، وأختصر في ذلك قدر الإمكان؛ إذ ليس هذا موضع استقصاء، وقد أُحيلُ للكتب المتخصصة في التخريج والعلل لمن أراد التوسع.
(ج) أنبه في أثناء ذلك على ما رُوي منها بالمعنى.
13 ربطتُ كثيراً من مباحث الشرح بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وكان الدكتور سليمان الغصن قد أحسن في هذا، فأفدت من عمله، وزدت عليه زيادات كثيرة جداً، والعزو إن كان لكتاب ضمن «مجموع الفتاوى» فسيكون باسمِهِ، ولمعرفة موضعه؛ تراجع قائمة المراجع في آخر هذا الكتاب.
14 قرأتُ الشرح كاملاً على الشيخ حفظه الله فصحَّح مواضع كانت غلطاً، وعدَّل عباراتٍ كثيرة جدّاً، وحذف أخرى، وقدَّم وأخَّر،
وجمع بعض المقاطع من المتن كانت مفرقة، وأضاف إضافات مفيدة تزيد على عشرين موضعاً بلغ بعضها نحو عشرة أسطر.
كما أضاف مقدمة طويلة أثنى فيها على «العقيدة التدمرية» ، ثم لخَّص مقاصدها، بعرض موجز يعطي تصوُّراً واضحاً لعامة مباحثها، ثم ختم المقدمة بذكر أهم القضايا التي تضمنتها «العقيدة التدمرية» .
وأضاف أيضاً عناوين للتوضيح في بداية جملة من المقاطع، وستُجعل في إطارات.
وكنت أقترح على الشيخ زيادة إيضاح في بعض المواضع؛ فكان أحياناً يقول: «دعها للمُدرِّس» ، وكلامه حفظه الله هذا من جنس قول الإمام الخليل بن أحمد:«من الأبواب ما لو شئنا أن نشرحه حتى يستوي فيه القوي، والضعيف؛ لفعلنا، ولكن يجب أن يكون للعالِمِ مزية بعدنا»
(1)
.
15 وضعتُ بين يدي الكتاب ترجمة مختصرة للشارح، وأما ابن تيمية؛ فترجمته ميسورة في مواضع كثيرة؛ مفردة، وضمن كتب التراجم، وفي مقدمات جملة من كتبه.
16 صنعتُ للكتاب عدة فهارس: للآيات، والأحاديث، والآثار، والأشعار، والأعلام المترجَمين، وقائمة بالمراجع التي عزوتُ لها، وفهرساً شاملاً لمسائل الكتاب وفوائده، وفهرساً إجمالياً لموضوعاته.
(1)
«شرح المفصل» 1/ 2.
هذا، وقد بذلتُ وسعي ليخرج الكتاب في أحسن صورة، وأبهى حُلَّة، وأسأل الله أن أكون قد وفقت لذلك، وأن يكتب له القبول، كما أسأله تعالى أن يجزي أخي الدكتور سليمان الغصن خيراً على ما بذله من جهد في إخراج الكتابِ أولاً، وهذا العملُ إتمام لعمله:
وهو بسبقٍ حائزٌ تفضيلاً
…
مستوجبٌ ثنائيَ الجميلا
(1)
كما أسأله عز وجل أن يجزي الشيخ عبد الرحمن البراك خير الجزاء على بذله العلم، ونشره لطلابه، وتقريبه للأمة، وأساله تعالى أن يمدَّ في عمره على طاعته، وأن ينفع بعلمه المسلمين، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه؛ إنه تعالى جواد كريم.
كتبه
عبد الرحمن بن صالح بن عبد الله السديس
الرياض
0508032240
7/ 6/ 1431 هـ
(1)
«ألفية ابن مالك» ص 9.
ترجمة الشارح
الشيخ عبد الرحمن البراك
اسمه ونسبه:
عبد الرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك، ينحدر نسبه من بطن العرينات من قبيلة سبيع.
ميلاده ونشأته:
ولد الشيخ في بلدة «البكيرية» من منطقة «القصيم» في شهر ذي القعدة سنة 1352 هـ.
وتوفي والده وعمره سنة، فنشأ في طفولته في بيت أخواله مع أمه، فتربى خير تربية.
ولما بلغ الخامسة من عمره سافر مع أمه إلى «مكة» ، وكان في كفالة زوج أمه محمد بن حمود البراك.
وفي «مكة» التحق الشيخ بالمدرسة «الرحمانية» ، وهو في السنة الثانية الابتدائية قدَّر الله أن يصاب بمرض في عينيه تسبب في ذهاب بصره، وهو في العاشرة من عمره.
طلبه للعلم ومشايخه:
عاد من «مكة» إلى «البكيرية» مع أسرته، فشرع في حفظ القرآن على عمه عبد الله بن منصور البراك، ثم على الشيخ عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمهم الله، فحفظ القرآن وعمره عشر سنين تقريباً.
وفي حدود عام 1364 - 1365 هـ بدأ في حضور الدروس والقراءة على العلماء، فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السبيل رحمه الله جملة من كتاب «التوحيد» ، و «الآجرومية» ، وقرأ على الشيخ محمد بن مقبل رحمه الله «الأصول الثلاثة» .
ثم سافر إلى «مكة» مرة أخرى في عام 1366 هـ تقريباً، ومكث بها ثلاث سنين، فقرأ في «مكة» على إمام المسجد الحرام الشيخ عبد الله بن محمد الخليفي رحمه الله في «الآجرومية» .
وهناك التقى بعالم فاضل من كبار تلاميذ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله، وهو الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي رحمه الله، وكان من أصدقاء العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله، فجالسه واستفاد منه، ولما عُيِّن الشيخ صالح مديراً للمدرسة «العزيزية» في بلدة «الدلم» أحب الشيخ صالح أن يرافقه الشيخ عبد الرحمن حفاوة به، فصحبه لطلب العلم على الشيخ ابن باز حين كان قاضياً في بلدة «الدلم» ، فرحل معه في ربيع الأول من عام 1369 هـ، والتحق بالمدرسة «العزيزية» بالصف الرابع، وكان من أهم ما استفاده في تلك السنة الإلمام بقواعد «التجويد» الأساسية.
وفي نفس السنة سافر مع جمع من الطلاب مع الشيخ ابن باز إلى الحج، وبعد عودته ترك الدراسة في المدرسة «العزيزية» ، وآثر حفظ المتون مع طلاب الشيخ ابن باز، ولازم دروسه المتنوعة، فقد كان يُقرأ عليه رحمه الله في «الأصول الثلاثة» ، و «كتاب التوحيد» ، و «عمدة
الأحكام»، و «بلوغ المرام» ، و «مسند أحمد» ، و «تفسير ابن كثير» ، و «الرحبية» ، و «الآجرومية» .
ومكث في «الدلم» في رعاية الشيخ صالح العراقي، فقد كان مقيماً معه في بيته، ودَرَس عليه علم «العَروض» .
وحفظ في «الدلم» : «الأصول الثلاثة» ، و «كتاب التوحيد» ، و «الآجرومية» ، و «قطر الندى» ، و «الرحبية» ، وقدراً من «ألفية ابن مالك» في النحو، و «ألفية العراقي» في علوم الحديث.
وبقي في «الدلم» إلى أواخر عام 1370 هـ، وكانت إقامته هناك لها أثر كبير في حياته العلمية.
ولما فتح «المعهد العلمي» في الرياض في محرم 1371 هـ التحق الشيخ به في القسم الثانوي، وكانت مدة الدراسة الثانوية أربع سنوات، فتخرج فيه عام 1374 هـ، ثم التحق ب «كلية الشريعة» بالرياض، وتخرج فيها سنة 1378 هـ.
ودرس في المعهد، والكلية على مشايخ كثيرين من أبرزهم:
العلامة عبد العزيز ابن باز، والعلامة محمد الأمين الشنقيطي، ودرسهم في «المعهد» «التفسير» ، و «أصول الفقه» ، والعلامة عبد الرزاق عفيفي، ودرسهم «التوحيد» ، و «النحو» ، و «أصول الفقه» ، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، وعبد العزيز بن ناصر الرشيد، والشيخ عبد الرحمن الأفريقي، والشيخ عبد اللطيف سرحان في النحو، وغيرهم، رحمهم الله جميعاً.
وكان في تلك المدة يحضر بعض دروس العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في المسجد.
وأكبر مشايخه عنده، وأعظمهم أثراً في نفسه العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله فقد أفاد منه أكثر من خمسين عاماً بدءاً من عام 1369 هـ إلى وفاته في عام 1420 هـ، ثم الشيخ صالح العراقي الذي استفاد منه حب الدليل، ونبذ التقليد، والتدقيق في علوم «اللغة» من «نحو» ، و «صرف» ، و «عَروض» .
الأعمال التي تولاها:
عُيِّن الشيخ مدرساً في «المعهد العلمي» في مدينة الرياض سنة 1379 هـ وبقي فيه ثلاثة أعوام، ثم نُقل إلى «كلية الشريعة» بالرياض، وتولى تدريس العلوم الشرعية، ولما افتتحت «كلية أصول الدين» عام 1396 هـ نقل إليها في قسم «العقيدة والمذاهب المعاصرة» ، وتولى تدريس العقيدة في الكُليتين إلى أن تقاعد عام 1420 هـ، وأشرف خلالها على عدد كبير من الرسائل العلمية.
وبعد التقاعد رغبت «الكلية» التعاقد معه؛ فعمل مدة ثم تركه، كما طلب منه الشيخ ابن باز رحمه الله أن يتولى العمل في الإفتاء مراراً؛ فتمنَّع، ورضي منه شيخه أن ينيبه في «رئاسة الإفتاء» في الرياض في فصل الصيف حين ينتقل المفتون إلى مدينة «الطائف» ، فأجاب الشيخ حياءً؛ إذ تولى العمل مرتين، ثم تركه.
وبعد وفاة العلامة ابن باز رحمه الله طلب منه المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن يكون عضو إفتاء، وألح عليه في ذلك؛ فامتنع، وآثر التفرغ للدعوة والتعليم.
جهوده في نشر العلم:
جلس الشيخ للتعليم في «مسجد الخليفي» بحي الفاروق مع توليه لإمامته، ومعظم دروسه فيه، وقرئ عليه عشرات الكتب في شتى الفنون؛ كالفقه، وأصوله، والتفسير وأصوله، والحديث والمصطلح، والنحو، والعقيدة، وغيرها، كما أن له دروساً في بيته مع بعض خاصة طلابه، وله دروس في مساجد أخرى في «مدينة الرياض» .
وله كذلك مشاركات متعددة في الدورات العلمية المكثفة التي تقام في الصيف، كما ألقى عدة دروس عبر الهاتف لطلاب العلم في «اليمن» ، و «بريطانيا» ، و «أوكرانيا» ، وغيرها، إضافة لإلقائه كثيراً من المحاضرات في موضوعات متنوعة، وكذا الكلمات الدعوية في مختلف المناسبات، كما تُعرَض على الشيخ بعض الأسئلة من عدد من المواقع الإسلامية في الشبكة العالمية، ويجيب عليها.
طلابه:
بدأ الشيخ في تعليم العلم قبل نصف قرن تقريباً، ودرس عليه أمم من طلاب العلم يتعذر على العاد حصرهم، ومنهم أكثر أساتذة جامعاتنا الشرعية، وقضاة المحاكم، والدعاة المعروفين، وبعد أن يسَّر الله جملة من الوسائل الحديثة؛ ك «الشبكة العالمية» ، تمكن كثير من
طلاب العلم في خارج بلادنا من متابعة دروس الشيخ مباشرة عن طريق الشبكة العنكبوتية.
احتسابه:
وللشيخ جهود كبيرة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومناصحة المسؤولين والكتابة لهم، والإصلاح بين الناس، وتحذير الناس من البدع وسائر الانحرافات والمخالفات، وله في ذلك فتاوى ومقالات كثيرة، وله مشاركة مع بعض المشايخ في عدد من البيانات والنصائح الموجهة لعموم المسلمين.
اهتمامه بأمور المسلمين:
للشيخ حفظه الله اهتمام بالغ بأمور المسلمين في جميع أنحاء العالم، فيتابع أخبارهم ويحزن ويتألم لما يحدث لهم من نكبات، وفي أوقات الأزمات يبادر بالدعاء لهم، والدعاء على أعدائهم، ويبذل النصح والتوجيه لهم، وللمسلمين فيما يجب نحوهم.
إنتاجه العلمي:
انصرف الشيخ عن التأليف مع توفر آلته، وبذل معظم وقته في تعليم العلم، والإجابة عن الأسئلة، وقد قرئت عليه عشرات الكتب في مختلف الفنون، وقد سُجل بعضها وما لم يسجل أكثر، ودروسه قائمة اليوم كما كانت سابقاً.
وقد صدر للشيخ من المطبوعات: «شرح الرسالة التدمرية» وهو كتابنا هذا، و «جواب في الإيمان ونواقضه» ، و «موقف المسلم من
الخلاف»، و «التعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري» لابن حجر، و «توضيح مقاصد العقيدة الواسطية» ، و «وشرح العقيدة الطحاوية» ، و «توضيح المقصود بنظم ابن أبي داود» ، «والفوائد المستنبطة من الأربعين النووية» ، «والتعليق على القواعد المثلى» ، و «شرح القصيدة الدالية» ، و «شرح القواعد الأربع، والأصول الثلاثة، ونواقض الإسلام، وكشف الشبهات» ، و «إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد» وهناك كتب أخرى في طريقها إلى الطبع إن شاء الله.
وفي حياة الشيخ جوانب كثيرة مشرقة أعلم أنه يكره لي ذكرها، أسأل الله أن يبارك في عمره، ويمد فيه على طاعته، وينفع بعلمه المسلمين، إنه سميع مجيب.
* * *
مقدمة الشرح، وعرض مضمون «التدمرية»
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فقد قُدِّر لي أن أدرِّس «العقيدة» في «كلية الشريعة» ، و «كلية أصول الدين» سنوات عديدة، وكان ممَّا قمتُ به شرح «العقيدة التدمرية» تأليف الإمام ابن تيمية رحمه الله؛ فوجدتها من بديع مؤلفات الشيخ؛ فإنها وإن كانت تعد من مختصرات مؤلفاته؛ فقد تضمنت أكثر المسائل «الكلامية» ، و «الفلسفية» التي طَرَقَها، وبَسَطَ القول فيها في موسوعات كتبه، وسيأتي التنبيه عليها بعد استعراض ما تضمنته إجمالاً.
فمدارها على الأصلين اللَّذَيْنِ سُئل الكتابةَ فيهما: «التوحيد والصفات» ، و «الشرع والقدر» ، وقد تضمن كلامه في الأصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله، ومنهج الرسل في ذلك نفياً وإثباتاً، ومذهب الحائدين عن سبيلهم من طوائف الكافرين، ومن دخل فيهم من المتفلسفة، والباطنية، والجهمية، وقرر شبهتهم إجمالاً، وأقام الدليل على بطلانها عقلاً، وبسط ذلك بذكر «أصلين» ، و «مَثَلين» ، و «خاتمة» شملت قواعد نافعة؛ وهي: ست، أو سبع قواعد.
فردَّ في «الأصل الأول» ؛ وهو: «القول في بعض الصفات؛ كالقول في بعض» على الأشاعرة، والمعتزلة، والجهمية، والفلاسفة، وبنى هذا الرد على ما في مذاهبهم من التناقض.
وردَّ ب «الأصل الثاني» ؛ وهو: «القول في الصفات؛ كالقول في الذات» على من يُكيِّف صفات الله، وردَّ على الأشاعرة أيضاً بتناقضهم في النفي والإثبات، وفي تأويل ما أوَّلوه من نصوص الصفات التي ينفونها.
وفي «المثَل الأول» ؛ وهو: «أن موجودات الآخرة تُوافِق موجودات الدنيا من وجه وتُبايِنُها من وجه» ، فأوضح ضرب المثل في ذلك في باب صفات الله، واستطرد بذكر مذاهب الناس فيما
أخبر الله به عن نفسه، وفيما أخبر به عن اليوم الآخر، وذكر ما يجب إثباته من «المثل الأعلى» ، وأنه تعالى لا تُضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه.
وأما «المثَل الثاني» ؛ فهو يتعلق ب «الروح» التي فينا؛ فإن الشيخ قَبْلَ توضيح ضرب المثل بها في باب صفات الله؛ مَهَّد بذكر مذاهب الناس في «الروح» واضطرابهم؛ ليبني على ذلك ضربَ المثل بها.
وأما القواعد؛ ف «القاعدة الأولى» ؛ مدارها على «أن الله موصوف بالنفي والإثبات» ، وقد أوضح الشيخ نوع النفي الذي يدخل في صفات الله، وردَّ في هذه القاعدة على الجهمية، وأجاب عن بعض شبهاتهم، ووازن بين الجهمية المحضة الغلاة، وغير الغلاة، وعلى من شارك
الباطنية في شيء من باطلهم؛ كمن قال: «إنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه» هذا مضمون «القاعدة الأولى» .
وأما «القاعدة الثانية» ؛ فمدارها على «ما يُوصف الله به مطلقاً» ؛ وهو: ما ورد في الكتاب والسنة، وما لا يجوز إطلاقه في صفات الله نفياً ولا إثباتاً، مما لم يرد ك «الجهة» ، و «المتحيز» .
وأما «القاعدة الثالثة» ؛ فمدارها على «ظاهر النصوص، وهل هو مراد، أو غير مراد» ؟ وبيَّن ما يجب في هذا المقام، وذكر بعض الأمثلة لما وقع من الغلط في بعض النصوص، وردَّ على من تناقض في الحكم على ظاهر النصوص.
وأما «القاعدة الرابعة» ؛ فمدارها على «بيان ما تَرتَّب من المحاذير على توهُّم التشبيه في نصوص الصفات» ، وضرب المثل بصفتي «العلو» ، و «الاستواء» ، وبيَّن بطلان هذا التوهُّم من وجوه، وأوضح في هذا السياق معنى قوله تعالى:{أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء} [الملك: 16]، وما يقتضيه مثل هذا اللفظ في سائر المواضع، وسياقات الكلام.
وأما «القاعدة الخامسة» ؛ فمدارها على «ما نعلمه وما لا نعلمه من نصوص صفات الله، واليوم الآخر» ، وقصَدَ الشيخ بهذه القاعدة: الردَّ على أهل التفويض الذين يجعلون نصوص الصفاتِ من المتشابه، وعندهم أنَّ الآيات المتشابهات لا يعلم معناها إلا الله؛ فلا يُفهَم منها شيءٌ، ويظنون أنَّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد.
وبيَّن الشيخ ما يُبطل هذا المذهب من دلالة العقل والشرع، وذكر من الدليل على القاعدة؛ آيات الأمر بتدبر القرآن مع قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران: 7]، وبهذه المناسبة ذكر معاني التأويل، وميَّز بينها في الحُكم والحقيقة، وذكر الفَرق بين تأويل نصوص الأخبار، ونصوص الأمر والنهي.
كما تضمنت هذه القاعدة بيان المحكم والمتشابه في القرآن، والفرق بين الإحكام والتشابُه العامِّ، والإحكام والتشابُه الخاصِّ، وبيَّن الشيخ في هذه القاعدة: أنَّ التشابُه هو منشأ ضلال بني آدم؛ فهو منشأ ضلال الاتحادية، والفلاسفة، والجهمية، وبيَّن أن التشابُه يكون في الألفاظ، وفي المعاني، وفي كلِّ شيء؛ لأنه ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق من وجه، واختلاف من وجه، وختم القاعدة بذكر ما في مذهب أهل التفويض من التناقض.
وأما «القاعدة السادسة» ؛ فمدارها على «بيان خطأِ الاعتماد في باب صفات الله، ومعرفة ما يجوز على الله، وما لا يجوز؛ على مطلق الإثبات من غير تشبيه، أو على مجرد نفي التشبيه» ، وذكر الشيخ في هذه القاعدة شبهتي المعتزلة في نفي الصفات، وهما:
1 أنَّ أخص صفات «الإله» ؛ «القِدَم» ؛ فيلزم على إثبات الصفات: تعدد القدماء.
2 أنَّ إثبات الصفات؛ يستلزم التجسيمَ، والأجسامُ متماثلة.
وبيَّن بطلان الشبهتين، وذكر الضابط العقلي الصحيح فيما يجوز على الله، وما لا يجوز؛ وهو:«أنَّ كلَّ كمالٍ فهو أحقُّ به، وكلَّ نقص فهو منزَّه عنه» ، وبيَّن أنَّه لا بدَّ من إثبات قَدْر مشترك بين صفات الخالق والمخلوق، وأن ذلك لا يستلزم محذوراً؛ فلا محذور في إثباته.
ثم عقد في هذه القاعدة فصلين، ذكر في «الأول»: فساد الاعتماد في تنزيه الله على نفي التجسيم، وذكر وجوهاً في ذلك.
وفي «الفصل الثاني» : بيَّن بطلان الاعتماد فيما يجوز إثباته لله على مطلق الإثبات من غير تشبيه، وما يستلزمه ذلك من الإلحاد.
وختم القاعدة ببيان أن طرق تنزيه الله متعددة عقلاً وشرعاً، ولا يُحتاج فيه إلى هذه الطرق المبتدعة، وذكر الدليل العقلي على نفي المثل عن الله، وخلَص إلى أن ما قام الدليل على إثباته أثبتناه، أو على نفيه نفيناه، وما لم يقم على إثباته أو نفيه دليل؛ فلا نثبته ولا ننفيه.
وأما «القاعدة السابعة» ؛ فمدارها على «تقرير أن الأدلة الشرعية نوعان: خبرية محضة، وعقلية سمعية» ، وفي هذه القاعدة بيانُ تقريرِ القرآنِ أصولَ الإيمانِ الثلاثة:«التوحيد» ، و «النبوة» ، و «المعاد» ، والإرشاد على أدلتها العقلية؛ كقوله تعالى عن يوسف عليه السلام:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار (39)} [يوسف]، وقوله تعالى:{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِّثْلِهِ} [البقرة: 23]، وقوله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُون (115)} {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم (116)} [المؤمنون]، ونظائر ذلك كثيرة.
وفي هذا الرد على من يزعم من المتكلمين، والفلاسفة أن القرآن ليس فيه دلالات عقلية؛ بل ما هو إلا أدلة لفظية ظنية.
ثم استطرد الشيخ إلى الردِّ على شبهات المعطلة الكلامية والفلسفية مما يشبه ما سبق في «الأصل الأول» : «القول في بعض الصفات؛ كالقول في بعض» ، و «القاعدة الأولى» .
ثم انتقل الشيخ إلى «الأصل الثاني» ؛ وهو: «الإيمان بالشرع، والقدر» ، وقد عبَّر في هذا الموضع ب «توحيد العبادة المتضمن للإيمان بالشرع والقدر» ، وبيَّن ضرورة الجمع في الإيمان بين الشرع والقدر، وأن أصل الشرع؛ هو: الإيمان بالله وحده لا شريك له، وأن هذا هو دين الرسل كلهم؛ وهو «الإسلام» ، وبيَّن وَحْدَة دين الرسل من وجوه: من حيث وحدة الحقيقة، وتلازم الإيمان بهم، وتبشير أولاهم بآخرهم، وتصديق لاحقهم بسابقهم.
وبيَّن أن التوحيد الذي قامت عليه دعوة الرسل: «توحيد العبادة» ، وأن الشرك الذي كان في الأمم؛ هو: الشرك في العبادة، وأنْ ليس في العالم من يثبت خالقَيْنِ متكافئين، ثم ذكر أنواع التوحيد عن كثير من المتكلمين، وبيَّن ما فيها من حقٍّ وباطل.
ثم عقد موازنات بين الصوفية، وطوائف المتكلمين، وبين الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، والكُلَّابية، والكَرَّامية، ثم ذكر أصْلَي الدِّينِ اللَّذَيْنِ هما مفترق الطوائف؛ وهما:
توحيد الله، وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أي:«الشهادتان» ، وأوضحهما ببيان حقيقتهما، وبيان حقوق الله، وحقوق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم عقد الشيخ فصلاً ذكر فيه فِرَقَ الضلال الخائضين في القدر:
مجوسية، ومشركية، وإبليسية، ومذاهبهم في الشرع، والقدر، ومذهب أهل الهدى والفلاح في ذلك، أي: أهل السنة والجماعة، واستطرد بذكر مذاهب الناس في «الأسباب» ، وضرورة الإنسان في جميع أحواله إلى شرع الله؛ في معرفة ربه، ودينه، وجزائه.
ثم تطرق إلى مسألة «التحسين والتقبيح» ، ومذاهب الناس فيها، ثم ذكر ما يتضمنه مذهب الجبرية من الصوفية، وغيرِهم من الفساد والتناقض، وذكر أنواع «الفناء» ثم ذكر ما يوجبه الإيمان بالشرع، والقدر من فعل المأمور، وترك المحظور، والاستغفار من الذنوب، والصبر، والاستعانة، والتوكل على الله.
ثم ذكر الأصلين اللَّذَيْنِ لا بدَّ منهما في العبادة: «الإخلاص لله» ، و «موافقة الأمر» .
ثم ختم ذلك بذكر أقسام الناس في العبادة، والاستعانة اللَّذَيْنِ هما ثمرة الإيمان بالشرع، والقدر، وخيرُ الأقسام: مَنْ يعبده تعالى ويستعين به؛ فهو به وله، وشرُّ الأقسام: مَنْ لا يعبده ولا يستعين به، نعوذ بالله من الخِذلان ودَرَك الشقاء.
أهم القضايا التي تضمنتها «التدمرية»
وبهذا يتبين لك أيها القارئ عظم شأن هذه العقيدة، وإليك أهم ما اشتملت عليه من القضايا:
1 مسألة «الأسماء والصفات» ، ومذاهب الناس فيها.
2 الدليل العقلي على وجود «واجب الوجود» .
3 الدليل العقلي على أنه لا بدَّ من قَدْر مشترك بين أسماء الله وصفاته، وأسماء العباد وصفاتهم، وأنه لا يلزم من ذلك التشبيه.
4 بيان تناقض المُعطِّلةِ، وكلِّ من نفى شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقرير أصلين في ذلك:
أ «القول في الصفات؛ كالقول في بعض» .
ب «القول في الصفات؛ كالقول في الذات» .
وإبطال شبهاتهم في «التشبيه» ، و «التجسيم» ، و «التركيب» .
5 تقرير مباينة الله لخلقه في: ذاته، وصفاته؛ بضرب المثلين.
6 أقسام الناس فيما أخبر الله به عن نفسه.
7 مذاهب الناس في «الروح» .
8 معاني «الجسم» اللغوية، والاصطلاحية.
9 وصف الله بالإثبات والنفي، وبيان ما يكون من النفي مدحاً ويدخل في صفاته تعالى، وما لا يكون مدحاً ولا يدخل في صفاته.
10 حكم الألفاظ المجملة التي تذكر في «باب الصفات» ؛ ك «الجسم» ، و «الجهة» ، و «المتحيز» .
11 بيان المراد بظاهر نصوص الصفات، وهل هو مراد أو غير مراد؟
12 بيان ما يلزم المعطلة من أنواع الإلحاد في أسماء الله، وآياته.
13 اختلاف دلالات الألفاظ باختلاف تراكيب وسياقات الكلام.
14 أن ما أخبر الله به معلوم لنا من وجه دون وجه، وبيان ذلك.
15 تعدُّد معاني «التأويل» ، والفرق بينها.
16 الإحكام والتشابه في القرآن: العام، والخاص.
17 عامة ضلال بني آدم من قِبَل «التشابُه» ، ومن ذلك ضلال الاتحادية والفلاسفة في مسمى الوجود.
18 حقيقة قول المفوضة، وبيان تناقضهم.
19 الاعتماد فيما يجوز على الله وما لا يجوز عليه على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه؛ ليس بسديد.
20 لفظ «التشابُه» وما يحتمله.
21 أخص أوصاف «الإله» عند المعتزلة «القِدَم» ، وبنوا على ذلك نفي الصفات حذراً من تعدُّد القدماء.
22 شبهة أخرى للمعتزلة، وهي أن إثبات الصفات يستلزم «التجسيمَ» ، والأجسامُ متماثلة، والجوابُ عنها من أربعة أوجه.
23 إثبات قَدْرٍ مشترك لا يستلزم محذوراً.
24 خمس مسائل كلامية:
أ هل وجود الشيء عين ماهيته، أو زائد عليه؟
ب وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد عليه؟
ج هل المعدوم شيء أو لا؟
د هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟
هـ هل الأحوال ثابتة أو لا؟
25 الاعتماد في تنزيه الله عن النقائص على نفي «التجسيم» ، أو «التحيز» ، وبيان فساده من وجوه.
26 الاعتماد فيما يجوز على الله على مطلق الإثبات من غير تشبيه، وما يستلزمه ذلك من الباطل، وأن من سلك ذلك لا يكفيه في الفرق فيما يثبته وما ينفيه على مجرد السمع.
27 طرقُ تنزيه الله تعالى متعددةٌ.
28 الدليل العقلي على نفي المِثل عن الله.
29 اشتمال القرآن على أدلة عقلية، فتكون أدلته نوعين: أدلة خبرية، وأدلة عقلية شرعية.
30 تضمُّنُ «توحيد العبادة» : الإيمانَ بالشرع والقدرِ.
31 وَحْدة دين الرسل، وأنه «الإسلام» .
32 أصل دين الرسل كلهم؛ هو: «توحيد الإلهية» ، وضده الشرك في العبادة.
33 أن التوحيد الذي يقرره أهل الكلام؛ ب: نفي أن يكون للعالم خالقان متكافئان؛ لم يقل أحد من الأمم بخلافه.
34 أنواع التوحيد عند أكثر المتكلمين، والفَرق بينها، وما فيها من حق وباطل.
35 الأصلانِ اللذان عليهما مدار الإسلام؛ هما: «التوحيد» ، و «الرسالة» ، وما يتفرع عنهما من حقوق الله ورسوله.
36 فِرَقُ الناس في الشرع والقدر.
37 مذاهب الناس في الأسباب.
38 إبطال النظرية الفلسفية، وهي:«أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد» ، وبيان أنها لا تصح بالنسبة للخالق ولا المخلوق.
39 ضرورة الإنسان إلى شرع الله وهُداه.
40 مسألة الحُسْن والقُبْح العقليَّيْن والشرعيَّيْن.
41 تناقض الجبرية من الصوفية، وغيرهم.
42 أنواع الفناء.
43 آثار الإيمان بالشرع والقدرِ.
44 ضرورة كل أحد إلى الاستغفار.
45 مِنْ آثار الإيمان بالشرع والقدر؛ عبادةُ الله واستعانته، وأقسام الناس في ذلك، وأن أكملهم من كان لله، وبه.
* * *
شرح خطبة الحاجة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال الشيخ، الإمام، العالم، العلَّامة، شيخ الإسلام، مفتي الأنام، أوحد عصره، وفريد دهره، ناصر السنَّة، وقامع البدعة، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ، الإمام، العلامة، شهاب الدين، عبد الحليم بن الشيخ، الإمام، العلامة، شيخ الإسلام، مجد الدين، أبي البركات، عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله
هذه خُطبة الحاجة افتتح الشيخ بها هذا الكتاب، كما هي عادته في أجوبته، وتارة يختصر، ويقول:«الحمد لله» فقط، وتارة يُنْشِئُ خُطبة ويظهرُ فيها تحري السجع من غير تكلف، وهو قليل.
وهذه الخُطبة تعرف بخُطبة الحاجة، وهي خُطبة مأثورة ليست من إنشاء الشيخ؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، كما ذكر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه.
ويذكر أهل العلم هذه الخُطبة في «باب الجمعة» ، وفي «باب النكاح» تنبيهاً على شرعية هذه الخُطبة عند عقد النكاح
(1)
؛ لأن عقد النكاح ليس كغيره من العقود، فيَسْتحِب العلماء قراءة هذه الخُطبة عند عقد النكاح، وهذه الخُطبة المأثورة رواها الإمام مسلم
(2)
، وأهل «السنن»
(3)
، وألفاظها متقاربة.
(1)
«الحاوي الكبير» 9/ 164، و «المغني» 9/ 465.
(2)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، مختصرة.
(3)
رواه أبو داود (2118)، والترمذي (1105) - وقال: حسن -، والنسائي 3/ 104، وابن ماجه (1892)، وصححه الحاكم 2/ 182، والنووي في «الأذكار» ص 404، والذهبي في «المهذب في اختصار السنن» 3/ 1142، وقال ابن رجب في «فتح الباري» 8/ 265:«صححه جماعة منهم: ابن خراش، وغيره» من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وهذه الخُطبة من جوامع الكلم الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم؛ فمن خصائصه أنه: «أوتي جوامع الكلم»
(1)
، و «اختصر له الكلام اختصاراً»
(2)
؛ فيأتي بالعبارة القصيرة التي تحمل معاني كثيرة.
وخُطبة الحاجة من هذا؛ فإنها قصيرة؛ لكنها اشتملت على أصول الدين؛ فاشتملت على: «التوحيد» بأنواعه الثلاثة، و «إثبات القدر» ، و «إثبات الرسالة» ، وفيها:«تفويض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى» ، و «الالتجاء إليه»
(3)
، ويتضح هذا بما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: (الحمد لله) من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا خطب؛ افتتح خطبته ب «الحمد، والثناء على الله»
(4)
، والله سبحانه قد حَمِد نفسه وعلَّمنا أن نحمده، وافتتح كلامه بالحمد فقال:{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيم (3)} [الفاتحة].
وفي الحديث القدسي: «قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين .. ، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)} قال الله تعالى: حمدني عبدي» الحديثَ
(5)
.
(1)
رواه البخاري (7013)، ومسلم (523) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أبو يعلى - كما في «مجمع الزوائد» 1/ 436، وقال:«فيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي ضعفه أحمد وجماعة» - والضياء في «المختارة» 1/ 215، وانظر:«كشف الخفاء» 1/ 14، من حديث عمر رضي الله عنه.
(3)
«مجموع الفتاوى» 14/ 222، و 18/ 285.
(4)
«زاد المعاد» 1/ 425.
(5)
رواه مسلم (395) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد اختلف أهل العلم من المفسرين، وشُرَّاح الحديث في:«الحمد، والشكر»
(1)
؛ فمنهم من قال: «الحمد والشكر شيء واحد؛ وهو: تعظيم المنعم والثناء عليه: قولاً أو فعلاً» .
وقال آخرون: «بل بينهما فرق، فالحمد؛ هو: الثناء باللسان على الجميل الاختياري، وأما الشكر؛ فهو: تعظيم المنعِم على إنعامه بالقول، أو الفعل» .
وبهذا تكون العَلاقة بين «الحمد، والشكر» العموم والخصوص الوجهي.
فإن العَلاقة بين الكلمات والمعاني؛ تارة تكون:
* العموم والخصوص مطلقاً.
* أو: من وجه.
* وتارة تكون: المماثلة.
* وتارة تكون: المباينة.
فالعَلاقة بين الإنسان والحجر: المباينة.
والعَلاقة بين الإنسان والبشر: المماثلة.
(1)
«تفسير الطبري» 1/ 137، و «غريب الحديث» للخطابي 1/ 346، و «الفائق في غريب الحديث» 1/ 314، و «المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم» 1/ 85، و «مجموع الفتاوى» 11/ 133 - 155، و «عدة الصابرين» ص 293، و «مدارج السالكين» 2/ 236، و «تفسير ابن كثير» 1/ 128.
والعَلاقة بين الإنسان والحيوان: العموم والخصوص المطلق، فالحيوان أعمُّ مطلقاً، والإنسان أخصُّ مطلقاً؛ فتقول:«كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وليس كلُّ حيوانٍ إنساناً» ، فبعض الحيوان إنسان.
ومثل هذا - أيضاً -: العبادة والصلاة؛ فبينهما عموم وخصوص مطلق.
أما العموم والخصوص الوجهي؛ فضابطه: «أن المعْنَيينِ يجتمعان في حال، وينفرد كل منهما في حال» ، ويُمَثِّل أهل «المنطق» لهذا: بالأبيض والإنسان؛ فإنهما يجتمعان في الإنسان الأبيض، وينفرد كل واحد منهما، فالأبيض في الثلج، والأسود في الإنسان الأسود
(1)
.
وهكذا نقول في «الحمد، والشكر» - على القول بالفرق، وهو الصحيح -: بينهما عموم وخصوص وجهي؛ فيجتمعان في الثناء على الله باللسان بما أَنْعَم، فتعظيمه تعالى باللسان لما أنعم به على عباده: حمدٌ، وشكرٌ.
وينفرد «الشكر» في التعظيم بالفعل، وينفرد «الحمد» في الثناء باللسان في غير مقابلِ نعمة، فالله تعالى هو المحمودُ على كلِّ حال، محمودٌ على السراء والضراء، فحمدُه على السراء: حمدٌ، وشكرٌ، وحمدُه على الضراء: حمدٌ.
وعلى هذا يكون «الشكر» أعم من حيث الأداة، ف «الحمد» إنما يكون باللسان، و «الشكر» يكون بالقلب، واللسان، والجوارح، ويستشهد العلماء لهذا بقول الشاعر:
(1)
«شرح الكوكب المنير» 1/ 70، و «آداب البحث والمناظرة» ص 38.
أفادتكُمُ النعماءُ مِنِّي ثلاثةً
…
يدِيْ ولسانِيْ والضَّميرَ المحَجَّبا
(1)
وجاء في القرآن: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور (13)} [سبأ].
و «الحمد» أعم من جهة سببه، فالمقتضي ل «الحمد» أوسع من المقتضي ل «الشكر» ، فالمقتضي ل «الشكر»؛ هو: النِّعم، والمقتضي ل «الحمد»: صفاتُ الكمال مطلقاً، فالثناء على الشجاع بشجاعته، والصبور بصبره؛ حمدٌ، وليس شكراً، لكن الثناء على الشجاع بما قام به من النصر للآخرين ومِن عونه لغيره: حمدٌ وشكرٌ.
و «أل» في «الحمد لله» ل «الاستغراق» .
و «أل» تأتي لمعانٍ كثيرة
(2)
: ل «العهد الذهني» ، و «الحضوري» ، وتأتي ل «الجنس» .
والتي تأتي ل «الجنس» : تارة تأتي للدلالة على «الحقيقة» ، وتارة تأتي ل «الاستغراق»
(3)
، والمراد بها هنا:«الاستغراق» ؛ فيكون معنى «الحمد لله» أي: «كلُّ الحمدِ لله تعالى» .
(1)
البيت مذكور في المصادر التي في الحاشية قبل السابقة عدا «تفسير الطبري» ، ولم يُسم قائله.
(2)
«الجنى الداني في حروف المعاني» ص 194، و «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» ص 61.
(3)
التي ل «الاستغراق» هي التي يصح أن تخلفها «كل» ، والتي ل «الحقيقة» لا يصح أن تخلفها «كل»؛ كقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. المرجع السابق.
والذي يستحق الحمد كله، والثناء كله، والتمجيد كله؛ هو: المتصف بجميع صفات الكمال.
إذاً؛ فإثبات الحمدِ كلِّه لله تعالى؛ يدل على أنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، وليس هذا إلا لله تعالى وحده.
والمخلوق قد يُحمَد، ولكن يحمد على ما عنده من المحامد، وما عنده من المحامد ليس أصيلاً فيه؛ بل هو موهوبٌ له، وفضلٌ من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يُكرِم من يشاء بما شاء من المحامد والفضائل.
وأعظمُ الناس استحقاقاً للحمد؛ أكثرُهم محامدَ وفضائلَ، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يتصل بالكلام على اسمه «محمد» ، فاسمُه هذا صلى الله عليه وسلم عَلَمٌ، وصفة، فهو عَلَمٌ على شخصه صلى الله عليه وسلم، ويدل - أيضاً - على معنى عظيمٍ؛ وهو: اتصافه بالمحامد
(1)
.
أما المستحق للحمد كله على الإطلاق لذاته؛ فهو الله تعالى.
ويلاحظ بهذا: أن إثبات الحمد لله تعالى تضمن نوعاً من أنواع التوحيد، وهو توحيد «الأسماء والصفات» ، فهو سبحانه الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شريك له في ذلك، ولا شبيه، فهذا كله يتضمنه إثبات الحمد، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها عدل، وحكمة، ورحمة.
(1)
«جلاء الأفهام» ص 183، وانظر: ص 404.
قوله: (نحمده) هذا فيه توكيد للحمد الأول، فله الحمد الثابت؛ لأن الجملة الاسمية (الحمد لله) تفيد: الثبات، وله الحمد المتجدد؛ لأن الجملة الفعلية (نحمده) تفيد: التجدد
(1)
.
فهو تعالى المستحق للحمد كله على الإطلاق، وله منَّا أن نحمده حمداً متجدداً في الحاضر، وفي المستقبل، كلٌّ بحسب ما وفقه الله تعالى له، فهو سبحانه كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه عباده.
قال أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»
(2)
.
والعباد لا يستطيعون أن يثنوا على الله تعالى كما يستحق لذاته؛ لأن العباد لا يعلمون كلَّ ما لله من الأسماء والصفات
(3)
حتى الرسول، لا يعلم كنه صفاته سبحانه وتعالى، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:«لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:«فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليَّ من محامده، وحسن الثناء عليه: شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي»
(4)
.
وحمدُ العباد لربهم بحسب علمهم به تعالى، فمن كان أعلم بأسماء الله تعالى وصفاته؛ كان أقدر على حمده ممن ليس كذلك،
(1)
«الإيضاح في علوم البلاغة» ص 99.
(2)
رواه مسلم (486) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
«درء تعارض العقل والنقل» 3/ 332.
(4)
رواه البخاري (4712) - واللفظ له -، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن كان - أيضاً - أعلم بنعمه وأكثر استحضاراً لها؛ كان أقدر على حمده وشكره.
قوله: (نستعينه)«السين والتاء» في اللغة العربية يفيدان الطلب
(1)
، فقول العبد:«أستعين الله» بمعنى: «اللهم أعني» ، و «أستهديه» بمعنى:«اللهم اهدني» ، و «نستغفرك» بمعنى:«اللهم اغفر لنا» ، ف «السين والتاء» للطلب في الغالب
(2)
.
فقوله: (نستعينه) فيه طلب العون من الله تعالى، وطلب العون من الله؛ يتضمن الاعتراف بتفرده تعالى بالملك، وبالعطاء والمنع، والاعتراف بالفقر إليه، قال الله سبحانه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} [الفاتحة].
فعلى العبد: أن يعبد ربه، وعليه مع ذلك: أن يتوكل عليه، وأن يستعين به؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
وكذلك في حمدنا له: لا قدرة لنا ولا قوة على حمده؛ إلا بعون منه تعالى، ولهذا قَرَن ذِكرَ الحمدِ بذِكرِ الاستعانةِ.
قوله: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) هذا يتضمن اللجوء إلى الله تعالى، والاعتصام به سبحانه من شرَّين عظيمين: شر النفس، وسيئات الأعمال، ولا يقي العبد ويحفظه من المخاطر
(1)
«شرح شافية ابن الحاجب» 1/ 110، و «شذا العَرْف» ص 42.
(2)
وتأتي لمعانٍ أخرى؛ ك: «التحول» ، مثل:«استحجر الطين» ، و «اعتقاد صفة الشيء» ، مثل:«استحسنت كذا» ، أي: اعتقدت حسنه. المصدران السابقان.
والشرور؛ إلا الله سبحانه وتعالى؛ فحقيق بكل مؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى مما يُخاف ويُحذر.
قوله: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) المراد بالنفس هنا: النفس الأمَّارة بالسوء؛ فإن النفس لها ثلاثة أحوال: نفس مطمئنة، ونفس أمَّارة بالسوء، ونفس لوَّامة
(1)
.
وشر النفس الأمارة بالسوء: دعوتها وأمرها بالسوء، كما قال تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف: 53]، وما يترتب على ذلك ويتبعه.
قوله: (وسيئات أعمالنا) سيئاتُ الأعمال؛ قيل المراد بها: «الأعمال السيئة» ؛ وهي: «المعاصي» ، فإضافة السيئات إلى الأعمال على هذا؛ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعمال السيئة.
وقيل المراد بسيئات الأعمال: «العقوبات المترتبة على الأعمال» ؛ لأنها تسوء من وقعت عليه، فإضافة السيئات إلى الأعمال على هذا؛ من إضافة المسبَّب إلى السبب، فالأعمال التي هي المعاصي سبب للعقوبات.
فعلى الأول: التعوذ من السبب الذي هو الأعمال السيئة، وعلى الثاني: التعوذ من المسبَّب الذي هو العقوبات
(2)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» 15/ 143، و «الروح» ص 330، و «إغاثة اللهفان» 1/ 91.
(2)
«مجموع الفتاوى» 14/ 28، و 18/ 289، و «إغاثة اللهفان» 1/ 90، و «الداء والدواء» ص 268، و «بدائع الفوائد» 2/ 716، و «طريق الهجرتين» 1/ 200، و «شفاء العليل» 2/ 910.
فمن وقاه الله شر نفسه وسوء عمله؛ فقد أفلح ونجا، وهذان الشرَّان هما مصدرُ كلِّ سوء وشرٍّ يتضرر به العبد، كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
قال ابن القيم في هذا التعوذ:
وسَلِ العياذَ من اثنتين هما اللَّتَ
…
انِ بِهُلْكِ هذا الخلق كافِلَتانِ
شرُّ النفوس وسيِّئُ الأعمالِ ما
…
واللهِ أعظمُ مِنهما شَرَّانِ
ولقد أتى هذا التعوذُ مِنهما
…
في خُطْبةِ المبعوثِ بالقرآنِ
(1)
قوله: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) في هذا اعتراف بتفرد الرب سبحانه وتعالى بالهداية والإضلال، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فلا هادي لمن أضل، ولا مضل لمن هدى.
وهذا المعنى جاء صريحاً في القرآن، قال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُّضِلٍّ} [الزمر: 36 - 37]، وقال سبحانه:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17)} [الكهف]، وقال تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون (178)} [الأعراف]، وقال سبحانه:{مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون (186)} [الأعراف]. فالرب تعالى هو المتفرد بالهدى والإضلال، وهو المتفرد
(1)
«الكافية الشافية» رقم (4596 - 4598).
بالعطاء والمنع كما في الحديث في الذكر بعد الصلاة
(1)
، وفي الذكر بعد الرفع من الركوع
(2)
: «لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ، منك الجَدُّ» ، ففي هذا إقرار بتفرد الرب بالعطاء والمنع.
ومن أنواع هذا العطاء والمنع: الهدى والضلال، ومن أدلة هذا المعنى في القرآن قوله سبحانه وتعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (107)} [يونس].
والهداية نوعان:
«هداية خاصة» ، و «هداية عامة»
(3)
:
أما «الخاصة» ؛ فهي التي يعبر عنها ب: «هداية التوفيق والإلهام» .
(1)
رواه البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (477) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
«مجموع الفتاوى» 18/ 171، و «بدائع الفوائد» 2/ 447، وذكرَ الإمامانِ قسمين آخرين:
1 -
الهداية إلى مصالح الدنيا، وهي مشتركة بين الإنسان والحيوان، قال تعالى:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه].
2 -
والهداية في الآخرة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم (9)} [يونس].
و «الهداية العامة» ؛ هي التي يعبر عنها ب: «هداية الدلالة والإرشاد» .
ومن شواهد «الهداية الخاصة» : قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقوله تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الكهف: 17]، وقوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} [القصص: 56].
ومن شواهد «الهداية العامة» : قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (52)} [الشورى]، وقوله تعالى:} {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان]، وقوله:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، ونحوها من الآيات.
والفرق بين الهدايتين من وجهين:
الوجه الأول: أن «الهداية العامةَ» ؛ عامةٌ للخلق، وأما «الهدايةُ الخاصة» ؛ فهي خاصة بالمؤمنين.
الوجه الثاني: أن «الهداية العامةَ» ؛ تكون من الرسل وأتباعهم، وأما «الهداية الخاصة» ؛ فليست مقدورة لهم؛ بل هي خاصة لله عز وجل.
وفي ضوء ما تقدم تكون الهداية المذكورة في هذه الخُطبة؛ من: «الهداية الخاصة» التي تُفَسَّر ب: التوفيق، والإلهامِ.
والهدى من الله سبحانه يكون بالتوفيقِ والإلهامِ، والإضلالُ يكون بمنع هذا التوفيق، فمن منعه الله التوفيق ولم يمنحه إياه؛ لزم من ذلك أن يَضل، فالعبد بين التوفيق والخذلان، فمن وفقه الله؛ اهتدى، ومن لم يوفقْه؛ ضلَّ، كما قال الله سبحانه في الحديث القدسي، الذي رواه الإمام مسلم في «صحيحه» عن أبي ذر:«يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا مَنْ هديتُه؛ فاستهدُوني أَهْدِكم»
(1)
.
وهذا الإقرار والاعتراف يتضمن توحيد الربوبية؛ فإن كونه تعالى رب كل شيء؛ يقتضي أنه المتفرد بالعطاء والمنع، والهدى والإضلال، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية.
قوله: (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) هاتان الشهادتان؛ هما أصل دين الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»
(2)
الحديثَ، متفق على صحته.
والشهادة؛ هي: العلم بالشيء، والإقرار به، فلا بُدَّ في الشهادة من العلم، كما قال تعالى:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون (86)} [الزخرف].
ولا بدَّ من الإقرار، فقول العبد:«أشهد أن لا إله إلا الله» ، أي: أقِرُّ وأعترف ظاهراً وباطناً بأنه «لا إله إلا الله» .
فتضمنت الشهادتان: الإقرارَ بالتوحيد الذي هو أصل دين الرسل، والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يتحقق إسلام العبد إلا بها
(1)
.
(2)
البخاري (8) - واللفظ له -، ومسلم (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
مع التوحيد، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله»
(1)
الحديثَ.
وكلمةُ التوحيد مركبةٌ من نفي وإثبات، من نفي إلهيةِ كلِّ ما سوى الله تعالى، وإثبات الإلهية له سبحانه.
إذاً؛ فالتوحيد لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، إلا بكفر وإيمان، كفرٍ بالطاغوت، وإيمانٍ بالله تعالى، قال سبحانه:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم (256)} [البقرة].
وقوله: (وحده) حالٌ، وقوله:(لا شريك له) حالٌ أيضاً، فالكلمتان حالان مؤكِدتان، ف (وحده) تأكيدٌ لما تضمنته كلمة الشهادة من الإثبات، و (لا شريك له) تأكيدٌ للنفي.
والمراد ب (الإله) هنا: المستحق للعبادة، أو: المعبود بحق، فلا معبود بحق إلا الله.
وأصل معنى (الإله) في اللغة هو: «المعبود»
(2)
، فكلُّ معبود سوى الله؛ فهو معبود بالباطل، والله وحده هو المستحق للعبادة، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير (62)} [الحج].
(1)
رواه البخاري (5)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
«الصحاح» 6/ 2223، و «القاموس المحيط» ص 1603.
وشهادة أن لا إله إلا الله هي أصل دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، وشهادة أن محمداً رسول الله هي من أصل دين الإسلام الذي بعث الله تعالى به محمداً صلى الله عليه وسلم، فالشهادتان هما أصل دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، وهما متلازمتان من حيث الحكمُ لا تصح إحداهما إلا بالأخرى، ويعبر عن هاتين الشهادتين بالأصلين وهما:«التوحيد» ، و «الرسالة» .
ولا بدَّ في شهادة أن محمداً رسول الله من الإقرار بأنه صلى الله عليه وسلم عبد الله، وأنه رسول الله تعالى إلى الناس كافة، وأنه خاتم النبيين، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في «الصحيحين» مرفوعاً:«من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل»
(1)
، وكما في التشهد:«أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله»
(2)
، وكما قال صلى الله عليه وسلم:«لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبده؛ فقولوا: عبدُ الله ورسولُه»
(3)
.
وهذه الشهادةُ للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه عبدُ الله ورسولُه؛ هي: الصراطُ المستقيم بين طريق الغالين، وطريق الجافين في حقه صلى الله عليه وسلم؛ فإن الناس في حق الرسول صلى الله عليه وسلم طرفان ووسط:
(1)
رواه البخاري (3435) - واللفظ له -، ومسلم (28).
(2)
رواه البخاري (831)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فريق جَفَوْا - وهم الأكثرون -؛ فكذَّبوه، أو قصَّروا في متابعته فيما جاء به، فهؤلاء فرَّطُوا في حقه صلى الله عليه وسلم.
وفريق من الناس غلوا فيه؛ فرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله فيها، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأنه خاتم النبيين، وأنه سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، لكن من الجاهلين من غلا حتى جعل له شيئاً من خصائص الإلهية، والربوبية؛ كالذي يقول:
يا أكرمَ الخلقِ ما ليْ مَنْ ألوذُ به
…
سِواكَ عندَ حلولِ الحادثِ العَمَمِ
وقال:
فإنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنيا وضَرَّتَها
…
ومِن علومِك علمَ اللوحِ والقلمِ
وقال:
إن لم يكنْ في معاديْ آخذاً بيدِي
…
فضلاً، وإلا فقل: يا زلةَ القَدمِ
(1)
وأقوالُ أهل الغلو كثيرة، فمَن نسب للرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً من خصائص الربوبية؛ كتدبيره للعالَم، أو القدرة على كلِّ شيء، أو نسب إليه مغفرة الذنوب والنجاة من النار؛ فقد غلا فيه.
(1)
الأبيات للبوصيري من قصيدة «البردة» ، «شرح البردة البوصيرية» 2/ 756 و 774 و 780.
فهو صلى الله عليه وسلم عبدٌ، ولا يزول عنه هذا الوصف؛ بل إن منزلة العبودية هي أساس الشرف للرسل والمؤمنين؛ ولهذا يذكر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية في أعلى المقامات.
فقال سبحانه وتعالى في مقام «الإسراء» : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1]، وقال في مقام «التحدي»:{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وقال تعالى في مقام «الدعاء»:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، وقال سبحانه وتعالى في مقام «الإنذار»:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان].
إذاً؛ فشهادةُ أن محمداً عبده ورسوله؛ هي: الوسط، وهي: الصراط المستقيم بين طريق الغالين، وطريق الجافين المكذبين والمفرطين في طاعته واتباعه وتحقيق متابعته صلى الله عليه وسلم.
فالشهادة بأن محمداً عبده ورسوله؛ تقتضي: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألَّا يُعبد الله إلا بما شرع.
قوله: (صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً) الصلاةُ على الرسول صلى الله عليه وسلم هي من أفضل الأعمال، وقد أخبر الله تعالى أنه هو وملائكتُه يُصَلُّون على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المؤمنين بذلك فقال:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب].
وأحسن ما قيل في تفسير الصلاة من الله: «أن الصلاة من الله: ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى»
(1)
.
واللهُ تعالى يصلي على المؤمنين، و - أيضاً - الملائكةُ تصلي على المؤمنين، كما قال سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب].
وجاء في الحديث الصحيح أن العبد إذا «خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رُفِعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة»
(2)
.
ولكن لنبينا عليه الصلاة والسلام من صلاة الله تعالى، وصلاة ملائكته؛ ما يليق بمقامه، فله الحظُّ الأوفر، والنصيب الأكبر من صلاة اللهِ سبحانه وملائكتِه.
أما صلاةُ المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم فمعناها: «الدعاء له بأن يصلي الله عليه» ، ولا بد من هذا القيد، فليس كلُّ دعاء يقال: إنه صلاة، فإن الصحابة رضي الله عنهم علَّمهم النبي صلى الله عليه وسلم التشهد، ثم قالوا له:
(1)
رواه البخاري بنحوه عن أبي العالية تعليقاً مجزوماً به قبل حديث (4797)، ووصله إسماعيل بن إسحاق في «فضل الصلاة على النبي» ص 80، وانظر:«جلاء الأفهام» ص 162.
(2)
رواه البخاري (647) - واللفظ له -، ومسلم (649) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
«عَلِمْنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: «اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد» » إلى آخر الحديث بألفاظه المختلفة
(1)
.
إذاً؛ فالصلاة من العباد تكون بسؤال الله تعالى أن يصلي عليه، فهي إذاً؛ دعاء مخصوص، وإن كانت الصلاة في اللغة؛ هي: الدعاء
(2)
في الجملة، لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين تكون بسؤال الله أن يصلي عليه.
وبعد هذا كله، يلاحظ أن هذه الخطبة اشتملت على أصول الدين:
1 -
التوحيد بأنواعه الثلاثة: «توحيد الإلهية» الذي دلت عليه «شهادة أن لا إله إلا الله» ، و «توحيد الربوبية» الذي تضمنته جملة «من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» كما يتضمنه الالتجاء، والتعوذ؛ فإن الاستعانة، والالتجاء، والتعوذ؛ كلُّ ذلك يتضمن «توحيد الربوبية» . و «توحيد الأسماء والصفات» يتضمنه «الحمد» ؛ فإثباتُ الحمدِ كلِّه لله تعالى؛ يتضمن أنه تعالى المتصف بجميع المحامد.
2 -
كما تضمنت هذه الخطبة «إثبات الرسالة» ، وذلك هو مضمون «شهادة أن محمداً رسول الله» .
(1)
رواه البخاري (6357) - واللفظ له -، ومسلم (406) من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.
(2)
«الصحاح» 6/ 2402.
3 -
وتضمنت هذه الخطبة - أيضاً - أصلاً من أصول الإيمان؛ وهو: «الإيمان بالقدر خيره وشره» ، وهذا مستفاد ممّا تضمن «توحيد الربوبية»؛ فقوله:«من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له» ، وكذلك «الاستعانة به» ، و «الالتجاء إليه» ، و «التعوذ»؛ كلُّ ذلك يتضمن: الإيمان بالقدر خيره وشره، وذلك أن «توحيد الربوبية» ، يتضمن: إثبات القدر.
ولهذا كانت الآياتُ المتضمنةُ لأصول الإيمان؛ مشتملةً على خمسة من أصول الإيمان؛ وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؛ كقوله تعالى في سورة البقرة:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [177]، وقوله تعالى في سورة النساء:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا (136)} [136].
ولم يُذكر فيها الأصل السادس؛ وهو: الإيمان بالقدر خيره وشره؛ لأنه يتضمنه الأصل الأول؛ وهو: الإيمان بالله تعالى؛ فإن الإيمان بالله تعالى: رباً وإلهاً، والإيمان بكمال ربوبيته وملكه؛ يتضمن: أن الله على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه الخالق لكل شيء؛ وهذا هو تحقيق الإيمان بالقدر؛ فإن الإيمان بالقدر يتضمن المراتب الأربع المعروفة، ومنها:«عموم المشيئة» ، و «عموم الخلق» .
إذاً؛ فإثبات القدر يدخل في «توحيد الربوبية» ، ولهذا نقول: إن هذه الخطبة اشتملت - أيضاً - على إثبات القدر الذي هو الأصل السادس من أصول الإيمان.
تنبيه:
وهنا مسألة ذكرها شيخ الإسلام «ابن تيمية» رحمه الله، ونقلها عنه تلميذه العلامة «ابن القيم» رحمه الله؛ وهي: أنه يلاحظ في جُمل هذه الخطبة أنها جاءت بصيغة الجمع: (نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا)، وفي الشهادتين جاءت بصيغة الإفراد:(وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وهذه هي الصيغة الصحيحة، فلا تقلْ:«ونشهد» بصيغة الجمع.
فما السر في ذكر الجُمل الأولى بصيغة «الجمع» ، وذكر الشهادتين بصيغة «الإفراد» ؟
ذكر شيخ الإسلام أن لهذا وجهين:
الأول: أن الجُمل الأولى فيها دعاء وطلب من الله سبحانه وتعالى، وهذا مما تدخله النيابة، فالمسلم يدعو لنفسه ويدعو لإخوانه، وأمَّا الشهادتان؛ وهي: التوحيد، والإقرار بالرسالة؛ فإنهما لا ينوب فيهما أحد عن أحد، فلا تدخلهما النيابة.
الوجه الثاني: أن الجمل الأولى هي إنشاء، أما الشهادتان؛ فهما إخبار من الإنسان عن نفسه بما يعتقد، ولا يمكن لأحد أن يخبر في هذا
على الحقيقة إلا عن نفسه، وأما إذا قلنا: فلانٌ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فهذا إخبار عمَّا أظهر، لا عمَّا يعتقد في نفسه.
فهذا من السر في الفرق بين جُمل هذه الخُطبة
(1)
، والله أعلم.
* * *
(1)
«تهذيب سنن أبي داود» 3/ 54، والكلام هنا منقول بالمعنى.
أما بَعْدُ:
هذه الكلمة يؤتى بها للدلالة على الشروع في المقصود، وهي جملة كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم استعمالها في خُطبه، فبعد حَمْدِ الله والثناء عليه يقول:«أمَّا بَعْدُ»
(1)
.
وهذه الجملة للناس فيها كلامٌ من حيث أولُ من قالها، واختلفوا في هذا اختلافاً كبيراً، فقيل: أول من قالها: داودُ عليه السلام، وقيل: أولُ من قالها: سَحْبَانُ وائلٍ، الخطيبُ المشهور
(2)
، وهناك أقوال أخرى، حتى فُسِّر بها فصلُ الخطاب في قوله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَاب (20)} [ص]
(3)
وهذا مرجوح؛ بل المراد «الفصل» : الذي يفصل بين الحق والباطل، ويفصل بين المتخاصمين.
(1)
«صحيح البخاري» ، باب «من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد» ، الأحاديث (922 - 927).
(2)
سَحبان بن زفر بن إياس الباهلي الوائلي، يضرب المثل ببلاغته، وخطابته، فيقال:«أبلغ من سحبان وائل» ، و «أخطب من سحبان وائل» ، وهو القائل:
لقد علِم الحيُّ اليمانون أنني
…
إذا قلتُ أما بعدُ أني خطيبها
توفي سنة 55 هـ. «جمهرة الأمثال» 1/ 213، و «المستقصى في أمثال العرب» 1/ 28 و 102، و «البداية والنهاية» 11/ 282.
(3)
«الأوائل» لابن أبي عاصم ص 77، و «تفسير الطبري» 20/ 51، و «تفسير ابن كثير» 7/ 59، و «فتح الباري» لابن حجر 2/ 404.
فمن بديع الكلام أن يؤتى بها للانتقال من الافتتاح إلى الدخول في المقصود والشروع فيه.
وهذه الكلمة تفسر عند أهل اللغة ب «مهما يكن من شيء بعد»
(1)
.
ف «أمَّا» شرطية، وجوابها؛ هو: ما بَعْدَ «الفاء»
(2)
.
و «بَعْدُ» ظرفٌ مبني على الضم في محل نصب، لحذفِ المضافِ إليه ونيةِ معناه، فهو مقطوعٌ عن الإضافة لفظاً لا معنىً
(3)
.
* * *
(1)
«الكتاب» 3/ 137، و «الصحاح» 6/ 2272، و «الجنى الداني في حروف المعاني» ص 522، و «أوضح المسالك» 4/ 211.
(2)
لأن جوابها يجب أن يقترن ب «الفاء» ، كقول المؤلف:«أمَّا بعدُ؛ فقد سألني .. » إلا نادراً. المراجع السابقة سوى «الكتاب» .
(3)
«الانتخاب في شرح أدب الكاتب» 2/ 7، و «صبح الأعشى» 6/ 231.
شرح مقدمة المؤلف
فقد سألني من تعَيَّنَتْ إجابتُهم أن أكتبَ لهم مضمونَ ما سمعوه مني في بعض المجالس، من الكلام في «التوحيد والصفات» ، وفي «الشرع والقدر» ، لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين، وكثرةِ الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كلِّ أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم، والإرادة والعبادة، لا بدَّ أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة، وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات.
الشيخ في هذه الجملة يذكر السبب الباعث له على التأليف، وهو أمران:
الأول: سؤال بعض الراغبين في العلم.
والثاني: أهمية ما سألوا عنه.
وبيَّن - أيضاً - الموضوعَ الذي سألوا عنه؛ وهو الأصلانِ: (التوحيد والصفات)، و (الشرع والقدر).
كما بيَّن رحمه الله تعالى الأسبابَ المقتضية لأهمية هذين الأصلينِ، والعناية بهما، وتحقيقهما.
قوله: (من تعينت إجابتهم) أي: وجبت إجابتهم وجوباً عينياً.
فإن الواجب عند «الأصوليين» نوعان:
واجبٌ كفائي، وواجبٌ عيني
(1)
، أو فرضُ كفايةٍ، وفرض عين - على القول الصحيح أنه لا فرق بين الواجبِ، والفرضِ
(2)
-:
فالواجب العيني؛ هو: ما يجب على كل فرد، أو: يجب على فرد معين.
والواجب الكفائي؛ هو: ما يقوم فيه البعض عن البعض، فإذا قام به من يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين.
وفرض الكفاية قد يصير فرضَ عينٍ بسبب من الأسباب، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإفتاء، والتعليم، والدعوة إلى الله عز وجل؛ كلُّ هذه من فروض الكفاية، إذا قام بها من يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين، لكن قد تتعين هذه الواجبات، فإذا لم يكن هناك من يقوم بهذا الواجب ويكفي؛ وجب على كلِّ قادرٍ على القيام به أن يقوم به.
فإذا لم يكن هناك من يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا المكان، أو بواجب الدعوة إلى الله تعالى، أو بواجب الإفتاء، أو التبليغ والتعليم؛ صار واجباً وجوباً عينياً على القادر على
(1)
«أصول الفقه» 1/ 198، و «شرح الكوكب المنير» 1/ 373.
(2)
وهو قول الجمهور. «أصول الفقه» 1/ 187، و «شرح الكوكب المنير» 1/ 351.
القيام به؛ لأنه ليس هناك من يقوم بهذا الواجب في هذا المكان، أو في هذه الواقعة المعينة.
فالشيخ هنا ذكر أنه قد سأله من تعينت عليه إجابتهم، وذلك لعدم من تقوم به الكفاية، بحيث يمكن لهؤلاء السائلين أن يجدوا عنده الجواب الشافي عمَّا سألوا عنه.
والشيخ رحمه الله كان يتكلم كثيراً في مسائل أصول الاعتقاد؛ كما يدل على ذلك كتاباته ومؤلفاته الواسعة في هذا المضمار.
قوله: (من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر) هذا هو موضوع التأليف، ومحور الكلام الآتي.
و (التوحيدُ والصفات)، و (الشرع والقدر) أصلانِ من أصول الاعتقاد:
فالأصل الأول؛ هو: الإيمان بأن الله واحد لا شريك له ولا شبيه، والإيمان بأنه سبحانه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
والأصل الثاني: الإيمان بالشرع، والقدر.
والشرع؛ هو: دين الله تعالى الذي شرعه لعباده، من الأوامر والنواهي، وأصل ذلك كلِّه عبادتُه وحده لا شريك له، كما سيأتي
(1)
.
(1)
ص 79.
والقدر يطلق ويراد به: التقدير، تقدير الله تعالى مقادير الأشياء: علماً، وكتابة.
ويطلق القدر على: الشيء المقدَّر، فتقول فيما يحدث في الوجود:«هذا قَدَرٌ» ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: «نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله»
(1)
يعني: نفر مما قدره سبحانه إلى ما قدره، فالإيمان بالقدر يعني: الإيمان بالتقدير السابق، كما قال صلى الله عليه وسلم:«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»
(2)
.
وهذانِ الأصلانِ داخلانِ في أصول الإيمان الستة؛ ف «الأصل الأول» يدخل في الإيمان بالله تعالى، والإيمان بكتبه، والإيمان برسله؛ فمن الإيمان بالله تعالى: الإيمان بوحدانيته، والإيمان بصفاته، أي: الإيمان بما أنزل الله في كتبه.
ومن الإيمان بالرسل: الإيمان بما أخبرت به عن الله تعالى، وصفاته.
أما الأصل الثاني؛ وهو: الإيمان بالشرع، والقدر؛ فإنَّ الإيمان بالقدر أصلٌ برأسِه من أصول الإيمان الستة، وهو داخل في الإيمان بالله تعالى، كما تقدم
(3)
.
وأما الإيمان بالشرع؛ فيدخل في الإيمان بالله سبحانه، وكتبه، ورسله؛ لأن من الإيمان بالله: الإيمان بأمره ونهيه الذي بعث به رسله.
(1)
رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه مسلم (2653) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3)
ص 52.
ومن الإيمان بالقرآن - وهو أشرف الكتب المنزلة -: الإيمان بما اشتمل عليه من الأوامر والنواهي.
ومن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم: الإيمان بما جاء به من الأوامر والنواهي.
إذاً؛ هذانِ الأصلان داخلان في أصول الإيمان، فأدلتهما هي أدلة تلك الأصول الستة، وقد تقدمت الإشارة إليها
(1)
، والله أعلم.
ثم ذكر رحمه الله الأسبابَ الموجبة لأهمية هذين الأصلين المقتضية لتحقيقهما، فقال:(لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين)؛ لأنه لا قوام لدين العبد إلا أن يحقق توحيد الله، ويؤمن بوحدانيته، ويؤمن بصفاته، ولا يستقيم دين العبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يؤمن بشرع الله تعالى.
وتحقيق هذين الأصلين يكون:
* بمعرفة الحق من الباطل فيهما.
* وبإقامة الأدلة عليهما.
* ودفع الشبه المعارضة لهما.
وهذا لا يكون إلا لطلاب العلم.
أما العوام؛ فيكفيهم معرفة الحق؛ لأنهم قاصرون عن معرفة الأدلة، فالتحقيق بالنسبة للعامي: أن يعرف الحق، فمن آمن بأنه تعالى واحد لا
(1)
ص 52.
شريك له في: ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص؛ كفاه ذلك إجمالاً.
إذاً؛ فكلُّ مكلَّفٍ هو في حاجة إلى هذين الأصلين؛ هذا هو: السبب الأول.
والسبب الثاني: قوله: (وكثرة الاضطراب فيهما) فإن الأمر المهم إذا كان فيه اضطراب وشبهات وخلاف؛ يجب على العاقل أن يعتني به؛ ليخرج من هذا الاضطراب بالحق الناصع، والنور الساطع.
ومما يبين أن الاضطراب يقتضي مزيد عناية للتحقيق في المقام: أن المسائل المجمع عليها لا تحتاج إلى مزيد جهد، أما المسائل التي فيها خلاف؛ فهي تحتاج من طالب العلم، ومن أهل العلم جهداً للوصول إلى الحق، أو لمقاربة الحق، أو لمعرفة الراجح من تلك المسائل التي وقع فيها الخلاف، أعني: مسائل الفقه.
أما غالب مسائل الاعتقاد؛ فإن فيها خطأ وصواباً، حقاً أو باطلاً، وليس فيها راجح ومرجوح، فما دل عليه الكتاب والسنة؛ هو الحق وما سواه؛ فهو الباطل.
وهذان الأصلان هما من أعظم ما وقع فيه الاضطراب بين فرق الأمة؛ ففي باب الأسماء والصفات:
من الناس من يسلب عن الله تعالى جميع الأسماء والصفات؛ مبالغة في التنزيه.
ومن الناس من يثبت لله صفات مثل صفات المخلوق؛ مبالغة في الإثبات.
وبين هذين الطرفين طوائف من الناس، وكلُّ فريق من أولئك - أيضاً - هم طوائف؛ فالمعطلة طوائف، والمشبهة طوائف، فاضطربت المذاهب في هذا الأصل.
وكذلك في الشرع والقدر؛ اضطرابٌ واسع:
فمن الناس من ينفي الشرع والقدر، وينكرهما.
ومن الناس من يثبت القدر، ويكذب بالشرع.
ومن الناس من هو بالعكس
(1)
.
فكان لا بدَّ من التنصيص على وجوب الإيمان بالشرع والقدر، و - أيضاً - فالجمع بين الشرع والقدر له معنى، وذلك: أن كلاً منهما يتعلق بأفعال العبادِ، فالقدرُ هو موجَب «الإرادة الكونية» ، والشرعُ هو موجَب «الإرادة الشرعية» ، فهما متعلقان بأفعال المكلفين، فما يقع من أفعال المكلفين؛ فإنه تجري فيه الأحكام الكونية، والأحكام الشرعية.
فطاعة المؤمن؛ موجَب الإرادتين، وكفر الكافر؛ هو موجَب «الإرادة الكونية» ، فالإرادتان تجتمعان في إيمان المؤمن، وتنفرد «الإرادة الكونية» في كفر الكافر، ومعصية العاصي
(2)
.
(1)
سيأتي تفصيل أقوال الناس في هذا الباب في ص 666.
(2)
قال شيخ الإسلام: «الإرادة نوعان: منها ماهو بمقتضى الربوبية، وهي: الإرادة الكونية، ومنها: ما هو بمقتضى الإلهية، وهي: الإرادة الدينية؛ فالأولى: إرادة فاعلية، =
إذاً؛ فالشرع والقدر بينهما ارتباط من حيث تعلقُهما بأفعال المكلفين؛ فإن أفعال العباد لا تخرج عن قدر الله تعالى.
ولهذا فإن الذين اختلفوا في القدر؛ اختلفوا في أفعال العباد، فالجبرية يقولون:«لا فعل للعبد» . والقدرية النفاة يقولون: «إن العباد هم الخالقون لأفعالهم» . والحق: أن أفعال العباد هي أفعالهم لا أفعال الله، والعبادُ وأفعالهم كلهم خَلقُ الله تعالى، على حد قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقوله تعالى عن إبراهيم:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون (96)} [الصافات].
ثم ذكر الشيخ السبب الثالث لأهمية تحقيق هذين الأصلين بقوله: (فإنهما مع حاجة كلِّ أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم، والإرادة والعبادة؛ لا بدَّ أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال).
المعْنِيون بالدين فئتان: أهل علم، وأهل عبادة، أي: من يغلب عليه جانب العلم والنظر والبحث في المسائل، ومن يغلب عليه جانب السلوك والعبادة والإرادة والنواحي القلبية.
= والثانية: إرادة غائية، الأولى: من اسمه الأول، والثانية: من اسمه الآخر، الأولى يكون الرب بها مريداً، والعبد مراداً إرادةَ تكوين وربوبية، ولذلك يكون مريداً، والثانية: يكون الرب بها مريداً إرادة حبٍّ ورضى وإلهية، والعبد - أيضًا - مريداً إرادة عبادةٍ وديانة وإنابة وإرادة وقصد، وقد يكون بها مراداً إرادة ربوبية إذا حصل ذلك». «جامع المسائل» 6/ 67، وانظر:«مجموع الفتاوى» 8/ 188، و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ص 266، و «شفاء العليل» ص 280.
والعبرة في تصنيف الناس: بما يغلب عليهم، فمن الناس من هو من أهل العبادة ومن أهل العلم، وكلٌّ من الفئتين؛ منهم: المنحرف والمستقيم، فأهل السنة والجماعة المعتصمون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيهم العلماء، وفيهم العُبَّاد بحسب ما هو الأغلب على أحوالهم، وهذا لا يعني أن العلماء ليس عندهم عبادة، وأهل العبادة ليس عندهم علم، ولكن الحكم على الغالب، ومنهم من يوصف بهذا وهذا؛ والمخالفون لأهل السنة منهم أهل علم، ومنهم أهل عبادة.
وأهل النظر من الخارجين عن مذهب أهل السنة والجماعة هم: المتكلمون، والفلاسفة، والخارجون عن مذهب أهل السنة والجماعة من أهل العبادة والإرادة يعرفون ب: الصوفية.
وقوله: (لا بد أن يخطر لهم في ذلك) أي: في هذين الأصلين؛ فيما يتعلق ب: وحدانية الله، وصفاته، وفيما يتعلق ب: الشرع، والقدر.
وقوله: (من الخواطر والأقوال) أي: من الخواطر القلبية، والأقوال الاعتقادية.
وقوله: (ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال) أي: إلى فرقان يميزون به بين الحق والباطل، والصدق والكذب؛ فمن لم يكن له نور من هدى الله تعالى؛ فإنه عند ورود الشبهات على قلبه؛ إما أن يعتقد الباطل، أو يبقى في حَيْرة وتردد، والمَخْرَج من هذا؛ هو:
الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فبِهِما يحصل الخروج من مضايق الشك، ومن مضايق الاعتقادات الباطلة.
وبسبب عدم الاعتصام بهدى الله تعالى؛ حصلت الحَيرة والتردد، فهناك المشبهة لم يفهموا من نصوص الأسماء والصفات؛ إلا ما يماثل صفات المخلوقين؛ فشبهوا الله بخلقه.
والمعطلة توهموا فيها التشبيه؛ فرأوا أن هذا لا يليق؛ فنفوا عن الله تعالى صفاتِه.
وفريقٌ ترددوا كالأشاعرة فأثبتوا مثلاً كلام الله؛ لكنهم لم يثبتوه على طريقة أهل السنة، ولم ينفوه على طريقة المعتزلة؛ بل قالوا: إنه تعالى يتكلم، ولكن كلامه معنى نفسي واحد قديم ليس تابعاً لمشيئته تعالى، ولا هو بحرف ولا صوت.
قوله: (لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك؛ بالحق تارة، وبالباطل تارات) هذا هو السبب الرابع لأهمية تحقيق هذين الأصلين، فأكثرُ خوضِ الناس في مسائل الاعتقاد بالباطلِ.
والخوضُ فيها بالحق؛ يكون بالنظر الصحيح، والنقل الصحيح، والعقل الصريح، فالنظرُ - مثلاً - في أسماء الله وصفاته على أساس قواعد ونظريات فلسفية وخيالات؛ خوضٌ بالباطل.
لكن الخوض فيها من خلال التدبر لآيات الله تعالى الشرعية، وهي آيات القرآن، أو التدبر لآيات الله الكونية، أو التدبر لسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم، وبالنظر في كلام السلف الصالح؛ كلُّ هذا من الخوض فيها بالحق.
أما الخوضُ في القضايا الغيبية بمجرد الفِكر من غير تعويل على الأسس الصحيحة، أو على أساس آراء المتفلسفة والمتكلمين؛ فهذا خوضٌ بالباطل.
وليس للإنسان أن يعول فيما يقوله في شأن الله، وفي شأن اليوم الآخر؛ على ما يتخيله، بل على ما جاء في الكتاب والسنةِ، فأكثرُ الناس خاض في هذا الميدان بالحق حيناً، وبالباطل أحياناً؛ كما يشهد به الواقع.
قوله: (وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات) هذا هو السبب الخامس لتحقيق هذين الأصلين.
والشبهة: ما يشتبه فيها الحق بالباطل، وقد تكون الشبهةُ عقليةً؛ كالنظريات التي يُدَّعى أنها معقولات، وهي: خيالات وأوهام.
أو: أدلةً نقليةً لا يصح بها الاستدلال على المطلوب، فلا يلزم من صحة الدليل صحة الاستدلال؛ لأن من الناس من يستدل بالشيء على ما لا يدل عليه؛ فيكون غالطاً في الاستدلال.
فالشبهات تَرِدُ على القلوب - أحياناً - بوساوس الشيطان؛ فتورث شُكوكاً في القضايا العقدية، والمسائل الخبرية، و - أحياناً - تَرِدُ هذه الشبهات على القلب بما يلقيه بعضُ الجاهلين، وبعضُ المضلين من
أقوال يتكلمون بها؛ فيقع هذا الكلام في القلب؛ فيثير قَلقاً وشبهةً تُكَدِّرُ صفو الإيمان.
لكن الإيمان إذا كان قوياً؛ فإنه يرُدُّ تلك الشبهة ويدفعها؛ إما بتصور فسادها، أو يدفعها بمجرد أنها تعارض الحق، فالشبهة يدفعُها المؤمن - تارة - بمعرفته وعلمه أنها باطلة، و - تارة - يردُّها بمجرد علمه بأنها تعارض الحق، فمجرد معارضتها للحق؛ دليل على بطلانها، كما إذا ورد حديث يعارض نصاً من نصوص القرآن ويناقضه؛ فإنك تعلم أن هذا غلطٌ وليس بصحيح؛ فإما أن يكون موضوعاً، أو يكون وهماً، مثل: الحديث الذي يدل على أن الله خلق الخلق في سبعة أيام
(1)
فقد نص العلماء على أن هذا الحديث وهمٌ؛ لأنه يعارض صريح القرآن في أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام.
إذاً؛ فورود الشبهات على القلوب يقتضي العناية بتحقيق هذين الأصلين؛ لأن العناية بهما ممَّا تدفع به هذه الشبهات الواردة على القلوب، أما من فقد التحقيق العلمي، والتحقيق الإيماني؛ فإنه يتعرض لتأثير الشبهات على قلبه، حتى يضل بها، وتوقعه في أنواع الضلالات،
(1)
وقد رواه مسلم (2789) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وقد ردَّه علي بن المديني، والبخاري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وغيرهم. انظر:«التاريخ الكبير» 1/ 413، و «الأسماء والصفات» ص 358، و «مجموع الفتاوى» 18/ 18، و «بغية المرتاد» ص 306، و «المنار المنيف» ص 78، و «تفسير ابن كثير» 1/ 218.
وقد دافع المعلمي عن الحديث، ووجَّهه في «الأنوار الكاشفة» ص 188.
أما من عنده بصيرة في دينه، وعنده إيمان مشرق فإنه يدفع تلك الشبهات
(1)
.
فهذه خمسة أسباب لأهمية هذا الموضوع، والسبب الخامس أخص من الثالث، فعطفُه على ما قبله مِنْ عطف الخاص على العام، والله الموفق.
* * *
(1)
قال ابن القيم: «قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد -: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة؛ فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا؛ فإذا أشرَبتَ قلبك كل شبهة تمر عليها؛ صار مقراً للشبهات. - أو كما قال - فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك» . «مفتاح دار السعادة» 1/ 140.
الفروق بين التوحيد والصفات، والشرع والقدر
فالكلام في باب «التوحيد والصفات» هو من باب الخبر، الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في «الشرع والقدر» هو من باب الطلب والإرادة، الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفياً وإثباتاً.
والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الأخير معروف عند العامة والخاصة، معروف عند أصناف المتكلمين في العلم، كما ذكر ذلك الفقهاء في «كتاب الأيمان» ، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان، فذكروا أن الكلام نوعان: خبر، وإنشاء، والخبرُ دائر بين النفي والإثباتِ، والإنشاءُ: أمر، أو نهي، أو إباحة.
ذكر الشيخ في هذه الجملة الفرق بين الأصلينِ المتقدمَينِ المسؤول عنهما: (التوحيد، والصفات)، (والشرع، والقدر).
والفرق بينهما من وجوه:
الأول: الفرق بينهما من جهة نوع الكلام، فإن الكلام يقسمه أهل العلم من علماء النحو، والبيان، وكذلك الفقهاء إلى قسمين:
خبر، وإنشاء، أو: خبر، وطلب
(1)
.
والخبر يدور على النفي والإثبات، نحو:«محمد قائم» ، و «محمد ليس بقائم» وعلى التصديق والتكذيب، فإن الخبر؛ إما أن يكون صدقاً، أو كذباً، ولهذا يُعَرِّف أصحاب المعاني الخبر بأنه:«ما يحتمل الصدق والكذب لذاته»
(2)
.
ومعنى: «لذاته» أي: بقطع النظر عن قائله، فإذا نظرت إلى الكلام بقطع النظر عن الأدلة، وبقطع النظر عن القائل؛ تقول:«هذه الجملة تحتمل الصدق والكذب» ، لكن الأخبار الصادقة التي يخبر بها الصادقون - وأعلى ذلك أخبار الله سبحانه وتعالى هي أخبار صادقة لا تحتمل الكذب، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء].
والطلبُ يدور على المحبة والبغض، وعلى الحض والمنع، نحو:«قم» ، و «لا تقم» .
والطلبُ له صيغ كثيرةٌ وأنواعٌ ليس هذا محَل ذكرها.
(1)
«الفروق» للقرافي 1/ 94، و «الإيضاح في علوم البلاغة» ص 17، و «تلخيص المفتاح» ص 47، و «البحر المحيط في أصول الفقه» 4/ 215، و «الإتقان في علوم القرآن» 3/ 225، و «شرح الكوكب المنير» 2/ 300، و «البلاغة العربية: أسسها، وعلومها، وفنونها» 1/ 166.
(2)
«الإيضاح في علوم البلاغة» ص 17، و «تلخيص المفتاح» ص 47، و «البلاغة العربية» 1/ 167.
قوله: (نفياً وإثباتاً) أي: من حيث الغاية؛ فإن غايةَ الأمرِ الإثباتُ، وغايةَ النهيِ النفيُ، فقولك:«اذهب» ، «اجلس» ، ونحوه؛ غايته ومقصوده: حصول المطلوب، وهذا هو معنى الإثبات، وقولك:«لا تذهب» ، «لا تجلس» ، ونحوه؛ غايته ومقصوده: عدمٌ ونفيٌ، وبهذا يكون الطلب متضمناً للنفي والإثبات.
قوله: (والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع) فهذا أمر جِبِلِّيٌّ في الإنسان، فالذي يقول لك مثلاً:«قمْ» لا تقول له: «صدقت» ، أو «كذبت» والذي يقول لك:«فلانٌ مسافرٌ» ، أو «فلانٌ لم يقدَمْ» تقول له:«صدقت» ، أو «كذبت» .
فمِمَّا فطر الله تعالى عليه عباده الفرق بين التصديق والتكذيب، والحب والبغض، والحض والمنع.
قوله: (كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان) جَمْعُ يمينٍ؛ وهو: القَسَم؛ فالفقهاء ذكروا في هذا الكتاب: أن الكلام ينقسم إلى: خبر وطلب؛ لأنهم يقسمون اليمين إلى: يمين مكفَّرة، ويمينٍ غير مكفَّرة.
واليمين المكفرة؛ هي: التي تدخلها الكفارة، وغير المكفرة؛ هي: التي لا تدخلها الكفارة
(1)
، فالحلفُ على المستقبل على فعل، أو ترْك، هذا هو «الإنشاء» ، والحلف على أمر واقع؛ هو «الخبر» .
(1)
«الحاوي الكبير» 15/ 266، و «بداية المجتهد» 1/ 409، و «المحرر» 3/ 19، و «الشرح الكبير» 27/ 470.
فاليمين المكفَّرة؛ هي: الحلف على مستقبَلٍ؛ كأن يقول قائل: «والله لأفعلنَّ كذا» ، أو:«والله لا أفعلُ كذا» ؛ فإنْ حَنِثَ؛ بأنْ حصل خلافُ ما حلف عليه؛ وجبتْ عليه الكفارةُ، وإن تحقق ما حلف على فعله، أو تَرَكَ ما حلف على تركه؛ كان باراً بيمينه، ولا كفارةَ عليه.
وأما الحلف على أمر واقع؛ فهو اليمين التي لا تدخلها الكفَّارة؛ لأنها إن كانت صدقاً؛ فلا موجب للكفارة، وإن كانت كذباً؛ فالكذب لا تمحوه الكفارة؛ بل لا تمحوه إلا التوبة إلى الله تعالى.
والمقصود: أن الكلام في «التوحيد، والصفات» من باب «الخبرِ» ، والكلامُ في «الشرع، والقدر» من باب «الطلب» ، وإيضاح هذا: أنَّ العباراتِ التي يعبَّر بها عن مسائل التوحيد والأسماء والصفات؛ خبريةٌ، كجمل سورة الإخلاص:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} ، وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى]، وقوله تعالى:{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (3)} [الحديد].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» الحديثَ
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لَلَّه أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته»
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة»
(3)
، ونحوها.
(1)
رواه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (2746) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890) - واللفظ له - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
حتى العبارات التي يتكلم بها الإنسان إذا أراد أن يخبر عن الله تعالى؛ فإن كلامه هذا خبرٌ، كقوله:«اللهُ تعالى عظيمٌ» ، «اللهُ تعالى فوقَ عرشه» ، «اللهُ تعالى ليس حَالَّاً في مخلوقاته» إلخ.
حتى الأقوال الأخرى المردودة، كقول المبتدعة:«إن اللهَ جسمٌ» ، أو:«ليس بجسم» ، ونحوها من الألفاظ التي لا يصح إطلاقها نفياً ولا إثباتاً، وكقول بعض المبتدعة:«إن الله تعالى لا ينزل إلى السماء الدنيا» ، أو:«لا يجيءُ يوم القيامة، وإنما يجيءُ أمره» ، فكل هذا من باب «الخبر» .
وأما الكلام في «الشرع والقدر» ؛ فهو من باب «الطلبِ» ، والواقعُ أن الذي من باب «الطلب» هو «الشرع» ، فالكلام فيه شيء من التجوز، أو التغليبِ: تغليبِ الشرع على القدر.
وبيْن الشرع والقدر ارتباطٌ وثيق؛ لأن كُلاً منهما متعلق بأفعال المكلفينَ، فكل ما وقع من أفعال المكلفين فإنه بقدر الله تعالى، وكلها يتعلق بها الشرع، لأن أفعال المكلفين؛ إما طاعة، أو معصية، أو مباحة.
فالذي نصوصه من باب «الطلب» هو «الشرع» ، وأما نصوص «القدر» ؛ فهي من باب «الخبر» لما تقدم
(1)
: أن الإيمان بالقدر هو من الإيمان بالله تعالى؛ لأن الإيمان بالقدر هو الإيمان بعلم الله تعالى السابق، وكتابته لمقادير الأشياء، والإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والإيمان بعموم خلقه تعالى، وهذا كلُّه من الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
(1)
ص 52.
وأما «الشرع» ؛ فهو الأوامر والنواهي، وهو دين الله تعالى الذي جعله لعباده يسيرون عليه، فالكلام فيه من باب «الطلب» ، كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين (43)} [البقرة]، وقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] الآية، وقوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، وقد يأتي الكلام بصورة «الخبر»؛ ومعناه:«الأمر» ، كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وقال:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية.
* * *
وإذا كان كذلك؛ فلا بُدَّ للعبدِ أنْ يثبتَ لله ما يجبُ إثباتُه له من صفاتِ الكمالِ، وينفي عنه ما يجبُ نفيه عنه مما يضاد هذه الحال.
ولا بُدَّ له في أحكامه مِنْ أنْ يثبتَ خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمالَ قدرتِه، وعمومَ مشيئته، ويثبت أمرَه المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدَره إيماناً خالياً من الزلل.
قوله: (وإذا كان كذلك) أي: إذا كان الأمر أن الكلام في «التوحيد، والصفات» من باب «الخبر» ، والكلام في «الشرع، والقدر» من باب «الطلب» ؛ (فلا بد للعبد
…
) إلخ.
الفرق الثاني بين الأصلينِ المتقدمينِ في قوله: (فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب - إلى قوله - خالياً من الزلل)؛ وهو: الفرق بينهما مِنْ جهةِ ما يجبُ على العبد فيهما.
فالواجب على العبد في توحيد الصفات: أن يثبت لله ما يجب إثباته من صفات الكمال، وينفي ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال.
ويجب على العبد في الشرع والقدر: أن يثبت أحكام الله الكونية والشرعية؛ فيثبت خَلق اللهِ وأمرَه، ولهذا قال الشيخ:(ولا بد له في أحكامه .. ).
وأحكام الله تعالى نوعان: أحكام شرعية، وأحكام كونية، وهذا التقسيم من جنس تقسيم الإرادة، والأمر، والقضاء، والكتابة، والإذْن، والجَعْل، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم: إلى شرعي، وكوني
(1)
.
ومن شواهد الحكم الكوني؛ قوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين (109)} [يونس]، وقوله تعالى عن يعقوب عليه السلام:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون (67)} [يوسف]، وقوله تعالى:{قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112].
ومن شواهد الحكم الشرعي؛ قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10]، وقوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد (1)} [المائدة]، وقوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون (40)} [يوسف].
قوله: (ولا بدَّ له في أحكامه من أن يثبت: خلقه، وأمره) إثباتُ الخلق يتضمنُ الإيمانَ بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى على كل شيء قدير، وهذا معنى قول الشيخ:(فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته، وعموم مشيئته)؛ فالشيخ رحمه الله تعالى عبَّر عن الأصل الثاني ب «الأحكام» .
قوله: (ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل) أي: والمتضمن بيان ما يسخطه، فإن الله تعالى بيَّن لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال، وبيَّن ما يسخطه
(1)
انظر: ص 63 حاشية رقم (2).
ويبغضه من الأقوال والأعمال، ففيه شيء من الاكتفاء بالمذكور عن غيره لدلالته عليه.
قوله: (ويؤمن بشرعه وقدره؛ إيماناً خالياً من الزلل) أي: مَنْ أثبتَ الخلْقَ كلَّه لله، وقال:«إنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيء» ، ويَدخلُ في هذا أفعال العباد، وآمن مع ذلك بشرع الله تعالى، وأنه أمر عباده ونهاهم؛ فقد حقق الإيمان بالشرع، والقدر.
* * *
وهذا يتضمنُ التوحيدَ في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيدُ في القصد والإرادة والعملِ، والأولُ يتضمنُ التوحيدَ في العلم والقول، كما دلت على ذلك سورةُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، ودلت على الآخَر سورةُ:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} ، وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة في ركعتي الفجر، وركعتي الطواف، وغير ذلك.
وقوله: (وهذا يتضمن التوحيد في عبادته .. ) إلخ، هذا هو الفرق الثالث بين الأصلين؛ وهو: الفرق بينهما مِنْ حيث تضمنُهما لنوعي التوحيد.
قوله: (وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل) أي: أن الإيمان بالشرع والقدر يتضمن: «التوحيد في العبادةِ» ، والتوحيدُ في العبادة له اسم آخر؛ وهو:«التوحيد في القصد والإرادة والعمل» ، ويعبر عن هذا النوع: ب «التوحيد الطلبي» ؛ لأنَّ نصوصَه طلبيةٌ.
قوله: (والأول يتضمن التوحيد في العلم، والقول) أي: الأصل الأول، وهو:«التوحيد والصفات» ؛ يتضمن التوحيد في العلم، والقول، ويعبر
عن هذا النوع: ب «التوحيد في المعرفة والإثبات» ، أو:«التوحيد العلمي الخبري» ؛ لأنَّ نصوصَه أخبارٌ.
وهذا الكلامُ يتضمنُ تقسيمَ التوحيدِ إلى هذين القسمَيْنِ
(1)
، والمشهور أن التوحيد ثلاثة أقسام:«توحيد الربوبية» ، و «توحيد الإلهية» ، و «توحيد الأسماء والصفات»
(2)
.
ولا مشاحة بين التقسيمين، ولا منافاة بينهما؛ بل هما طريقتان مآلهما إلى شيء واحد، فإفراد الله تعالى في العبادة وفي القصد والإرادة والعمل؛ هو:«توحيد الإلهية» ، وإفراد الله تعالى في الأمور الاعتقادية العلمية القولية؛ هو:«توحيد الربوبية» ، و «توحيد الأسماء والصفات» .
وهذه الأقسام مترابطة، فالتوحيد في العلم والقول؛ يستلزم التوحيد في العبادةِ، والتوحيدُ في العبادة يتضمن التوحيد في العلم والقول.
فالربُّ المالك لكل شيء، الخالقُ لكل شيء، القادرُ على كل شيء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، الموصوفُ بصفات الكمال؛ هو المستحقُ للعبادة؛ فهذا معنى الاستلزام.
والإله المستحق للعبادة؛ هو: النافعُ، الضار، المعطي، المانع، الفعَّال لما يريد، وهذا معنى تضمن «توحيد العبادة» ل «توحيد الربوبية» ، و «توحيد الأسماء والصفات» .
(1)
«مدارج السالكين» 3/ 417، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» ص 93، و «بدائع الفوائد» 1/ 243.
(2)
انظر: كتاب: «المختصر المفيد في بيان دلائل أقسام التوحيد» .
وبعضُ أهل الأهواء والأغراض يستنكرون هذا التقسيم، ويقولون:«إنه بدعة» !، وهذا مغالطة؛ فإنه إذا كان هذا التقسيمُ بدعةً؛ فكلُّ ما جاء به العلماء من تقسيمات لمسائل العلمِ، وتبويبٍ، وبيانِ أسماءٍ للأحكام؛ كلُّه بدعة!
وهذه الأحكام كانت معلومة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، ولكن الأسماء والمصطلحات ليست موجودة، فأنواعُ التوحيد موجودةٌ كلُّها في القرآن وفي السنة، لكن هذا الاصطلاح؛ وهو: أن التوحيد ينقسم إلى كذا وكذا، والتعبير عنه بهذه العبارات؛ هذا هو الجديد، وهذا من طبيعة نشأة العلوم، وتصنيف المسائل، وتقسيم المعاني، فمن يقول:«إنه بدعة» ؛ فهو مُبطلٌ مغالطٌ.
حتى الذين يقولون مثل هذا الكلام عندهم تقسيم للتوحيد؛ كالأشاعرة عندهم أن التوحيد ينقسم إلى: «توحيد في الذات» ، و «توحيد في الصفات» ، و «توحيد الأفعال» ، والصوفية عندهم، «توحيد العامة» ، و «توحيد الخاصة» ، و «توحيد خاصة الخاصة»
(1)
.
والتوحيد في الأصل؛ هو: «جعل الشيء واحداً»
(2)
، وهو في حق الله تعالى:«اعتقاد أنه واحد لا شريك له في أفعاله؛ كالخلق، والرَّزق، والتدبير، والإحياء، والإماتة» ، وإفراده بهذا المعنى؛ هو معنى:«توحيد الربوبية» .
(1)
سيأتي كلامٌ للمؤلف في تقسيم بعض الطوائف للتوحيد في: ص 606، وانظر:«مجموع الفتاوى» 4/ 150، و «درء التعارض» 1/ 225، و «مدارج السالكين» 3/ 415، و «الكافية الشافية» ص 170.
(2)
«القاموس المحيط» ص 414.
ولا بُدَّ - أيضاً - من اعتقاد تفرده بمالَه من الأسماء والصفات، فلا شريك له ولا شبيه؛ وهذا هو:«توحيد الأسماء والصفات» .
كما أنه لا بُدَّ من الإيمان بتفرده باستحقاق الإلهية، وتخصيصه مع ذلك بالعبادة، وذلك بعبادته وحده لا شريك له، وهذا هو:«توحيد الإلهية» ، أو:«توحيد العبادة» ، فلا بدَّ من توحيده تعالى في ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته.
والمشركون الذين واجهتهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بالدعوة كانوا مشركين في «العبادة» ، أو «الإلهية» ، أما في «الربوبية» ؛ فلم يكونوا مشركين، ومن أجل ذلك قال العلماء:«إن التوحيد الذي فيه الخصومة بين الرسل والكفار من أُمَمِهم؛ هو: توحيد العبادة»
(1)
؛ ولهذا كلُّ رسول كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]؛ لأنهم كانوا مقرين بربوبية الله تعالى في الجملة، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].
ولهذا احتج الله سبحانه وتعالى عليهم فيما أنكروه بما أقروا به، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (21)} الآية [البقرة]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُون (31)} [يونس].
(1)
«مجموع الفتاوى» 3/ 101، و «درء التعارض» 1/ 266، و «تيسير العزيز الحميد» 1/ 163.
فبمراعاة هذا التقسيم للتوحيد؛ نُفرِّق بين من ينكر الكلَّ، مثل: الملاحدة الجاحدين للخالق، فهؤلاء ينكرون التوحيد كلَّه، لأن مَنْ أنكر وجود الخالق؛ لم يبق معه شيء من الإيمان.
أما المشركون - وهم غالب الأمم -؛ فعندهم شيء من الإيمان، قال الله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُون (106)} [يوسف]، فعندهم إيمانٌ، ولكنه إيمان لا يكفي للدخول في الإسلام، ولا يكفي للنجاة من العذاب، فشرط ذلك: شهادة أن لا إله إلا الله.
ومعنى «الإله» - كما تقدم
(1)
-: «المعبود» . والإله الحق؛ هو الله تعالى، فلا معبود بحق إلا الله تعالى، وكل معبود سواه؛ فهو باطل، فالتوحيد لا يتحقق إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا كانت هذه الشهادة؛ هي: أصل دين الرسل من أولهم إلى آخرهم.
هذا ما يتعلق بتقسيم التوحيد بمناسبة قول الشيخ رحمه الله: (وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده) إلخ.
قوله: (كما دلت على ذلك سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}) أي: دلت على التوحيد في العلم والقولِ؛ سورةُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} .
قوله: (ودلت على الآخَر سورةُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}) أي: ودلت على التوحيد في العبادة، والتوحيد في القصد والإرادة والعمل؛ سورةُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} .
(1)
ص 46.
فسورةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} دلت على التوحيد في العلم والقولِ نصاً، وسورة ُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} دلت على توحيد العبادةِ نصاً.
وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1)} إلى آخر السورة، هذا خطاب لجميع الكفار بإعلان البراءة منهم، ومن عبادتهم، ومن معبوداتهم، وإعلان أن العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا هو «توحيد العبادة» .
وأما سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ؛ ففيها الإخبار بأن الله تعالى؛ هو: الأحد، الصمد، فاسمه «الأحد» ؛ يدل على أنه واحد لا شريك له، ولا شبيه له في ذاته، وفي صفاته، وأسمائه، وأفعاله.
واسمه «الصمد» فُسِّر بأنه: «الذي لا يأكل ولا يشرب» ؛ لأنه الغني، وفُسِّر بأنه:«السيدُ الكاملُ في سؤدده، وفي غناه، وفي حكمته، وفي علمه» ، وأنه:«الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها»
(1)
.
وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ} فيه رد على اليهود، والنصارى، والمشركين الذين نسبوا إليه الولد.
وقوله: {وَلَمْ يُولَد (3)} لأنه الأوَّل الذي ليس قبله شيء، فلا بداية لوجوده، أما المولود؛ فيكون موجوداً بعد العدم. وفي هذا النفي تأكيدٌ لأحديته، وصمديته.
وقوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} أي: لم يكن أحدٌ مِثلاً له سبحانه، فهي تشبه قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
(1)
«تفسير الطبري» 24/ 731 - 736، و «تفسير ابن كثير» 8/ 528.
قوله: (وهما سورتا الإخلاص) لأنهما مشتملتان على التوحيد الخالص فهما مُخْلَصَتان لأصل الدين بكلِّ معانيه.
قوله: (وبهما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة في ركعتي الفجر
(1)
، وركعتي الطواف
(2)
، وغير ذلك) كالوتر
(3)
، وفي سنة المغرب
(4)
، وفي ذلك افتتاح لِلَّيل والنهار، واختتام لِلَّيل والنهار بالتوحيد بتلاوة هاتين السورتين
(5)
.
وبهذا تنتهي المقدمة، وقد اشتملت على: سبب التأليف، وذكر الموضوع الذي فيه الكلام والبحث، وعلى الأسباب المقتضية لتحقيق هذين الأصلين، وعلى الفروق بين الأصلين: من حيث نوع الكلام، ومن جهة ما يجب على العبد فيه، ومن حيث تضمنُها لنوعي التوحيد.
وبعد هذه المقدمة يأتي الشروع في الكلام على الأصل الأول، والله الموفق.
* * *
(1)
رواه مسلم (726) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (1218) من قول محمد بن علي بن حسين، وليس مرفوعاً، وانظر:«الفصل للوصل المدرج في النقل» 2/ 639.
(3)
رواه أحمد 3/ 406، والنسائي 3/ 235، وصححه ابن حبان (2436)، والنووي في «خلاصة الأحكام» 1/ 556، والعراقي في «المغني عن حمل الأسفار» 1/ 528، من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه.
(4)
رواه أحمد 2/ 24، والنسائي 2/ 170 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وجاء أيضاً من حديث جماعة من الصحابة، انظر:«تخريج أحاديث القراءة في سنة الفجر» .
(5)
«زاد المعاد» 1/ 316، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» ص 94، و «بدائع الفوائد» 1/ 244.
الأصل الجامع في باب الصفات، وطريقة السلف فيه
فأمَّا الأول؛ وهو: «التوحيد في الصفات» ؛ فالأصل في هذا الباب: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسُلُه نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه.
قوله: (فالأصل في هذا الباب .. ) أي: الحكم الواجب في مسائل هذا الباب.
قوله: (أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسُلُه نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه) هذه القاعدة في هذا الباب، وهذا هو تحقيق الإيمان بالله، وبكتابه، ورسله، فمِن الإيمان بالله، وكتبه، ورسله: الإيمانُ بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا داخل في مثل قوله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن: 8].
ولهذا قال الإمام أحمد: «لا يُوصف الله إلا بما وصفَ به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يُتَجاوز القرآن والحديث»
(1)
، وقال نعيم بن حماد:«مَنْ شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه؛ فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهاً»
(2)
.
فمن جحد ما وصف الله به نفسه؛ فقد كفر؛ لأنه مكذبٌ لما أخبر الله به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله، ومن شبَّه الله بخلقه؛ فقد كفر؛ لأنه مخالف لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى]، وقوله تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم].
ومن وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه؛ فإنه قائلٌ على الله تعالى بلا علم، وممَّا حرمه الله تعالى على عباده: القول عليه من غير علم، وممَّا يأمر به الشيطان: القول على الله بغير علم، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُون (169)} [البقرة]، وهذا معنى قولنا:«إنَّ أسماءَ الله تعالى وصفاته توقيفيةٌ» ،
(1)
«الفتوى الحموية» ص 271، و «جامع المسائل» 3/ 195.
(2)
«شرح أصول اعتقاد أهل السنة» 3/ 87، و «تاريخ دمشق» 62/ 163، و «العلو» 2/ 1093.
ونعيم بن حماد؛ هو: الخزاعي الإمام، العلامة، صاحب التصانيف، كان صلباً في السنة، شديداً على الجهمية، روى عن عبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، وغيرهم. وروى عنه يحيى بن معين، والبخاري، وأبو داود، وغيرهم. قال الخطيب البغدادي:«إن أول من جمع المسند وصنفه؛ نعيمٌ» . توفي عام 229 هـ. «سير أعلام النبلاء» 10/ 595.
يعني: يوقف فيها مع النصوص، فما دلت النصوص على ثبوته؛ أثبتناه، وما دلت على نفيه؛ نفيناه، وما سكتت عنه؛ سكتنا عنه؛ فلا نثبته، ولا ننفيه، فمن أثبت شيئاً أو نفاه بغير دليل؛ فهو قائلٌ على الله بغير علم، فالأمور ثلاثة:
1 -
ما دلت النصوص على إثباته؛ وجب إثباته.
2 -
وما دلت على نفيه؛ وجب نفيه.
3 -
وما لم تدل على إثباته أو نفيه؛ وجب الإمساك عنه، فممَّا يجب إثباته له تعالى: الحياة، والسمع، والبصر، والاستواء على العرش، والمحبة، والغضب؛ ومن أسمائه: الصمد، الحي، القيوم، العلي، كما سيأتي
(1)
.
ومن الأمور التي يجب نفيها عنه؛ ما نفاه عن نفسه من: النوم، والسِّنة، والأَوْد
(2)
، واللغوب، والنسيان، والصاحبة، والولد، وغيرها.
وكذلك مما يجب نفيه عنه فيما يُثْبتُ له: مماثلة المخلوقات، فنثبتُ له ما أثبته لنفسه مع نفي مماثلته لخلقه.
وأما ما لم تدل النصوص على إثباته ولا على نفيه؛ فنُمسِك عنه نفياً وإثباتاً، مثل: الأُذُنِ، فالسمعُ ثابتٌ له تعالى بالسمع، والعقل، أما الأذن؛ فيجب الإمساك عنها نفياً وإثباتاً.
(1)
ص 121.
(2)
قال تعالى: {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أي: لا يشق عليه، ولا يثقله. «تفسير الطبري» 4/ 542.
وكذلك أصابع القدمين، فيثبت لله سبحانه صفة القدمين، ويمسك عن أصابعهما نفياً وإثباتاً، وأما الأصابع التي جاءت بها النصوص؛ فهي أصابع اليد، كما في حديث:«إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الملك»
(1)
.
ويبين ذلك: دلالة الكتاب والسنة على أن الله تعالى يأخذ السموات والأرض بيديه، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يأخذ الله عز وجل سمواته وأراضيه بيديه، فيقول: أنا الله، أنا الملك»
(2)
.
* * *
(1)
رواه البخاري (7414)، ومسلم (2786) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (2788) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد عُلِم أنَّ طريقةَ سلفِ الأمةِ وأئمتِها: إثباتُ ما أثبته من الصفات من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه - مع ما أثبته من الصفات - من غير إلحاد، لا في أسمائه، ولا في آياته، فإن الله ذمَّ الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (180)} [الأعراف]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (40)} [فصلت].
فطريقتهم تتضمنُ إثباتَ الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات: إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى]، ففي قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه، والتمثيل، وقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} رد للإلحاد، والتعطيل.
طريقة سلف الأمة وأئمتها هي ما تقدم تقريره في الأصل الواجب في هذا الباب
(1)
؛ وهي: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير
(1)
ص 86.
إلحاد في أسمائه، ولا في آياته، فطريقتهم؛ هي: الصراط المستقيم، وهي: الحق الذي دل عليه السمع، والعقل.
فإن العقل والفطرة كليهما يقتضي أن الله تعالى مستحقٌ لكلِّ كمال، ومستحق لتنزيهه عن كلِّ نقص، فإذا كان المخلوق يوصف بالكمالات؛ فالله سبحانه أحق بالكمال، ف (كلُّ كمال يوصف به المخلوق لا نقص فيه؛ فالخالق أولى به، وكلُّ نقص ينزه عنه المخلوق؛ فالخالق أولى بالتنزيه عنه)؛ فهو تعالى أحقُّ بكلِّ كمالٍ، وأحقُّ بالتنزيه عن كلِّ نقص.
وقد دل السمع على ذلك، فقد جاء بإثبات الأسماء الحسنى، والصفات العلى لله تعالى إجمالاً وتفصيلاً، وجاء بتنزيهه تعالى عن النقائص والعيوب، وعن مماثلة المخلوقات.
إذاً؛ فطريقةُ سلف الأمة مستمدةٌ من الكتاب والسنة، فهم يعتمدون في هذا الباب على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء في الكتاب والسنة؛ هو موجَب العقل والفطرة؛ فالعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح، ولا يعارضه.
وطريقةُ سلفِ الأمة وأئمتِها طريقةٌ مثلى، ووسط بين مذاهب الناس، فإن الناس اضطربوا في «باب الأسماء والصفات» ، وصاروا فرقاً متناقضة متفرقة، وأهل السنة والجماعة هم الوسط بين أهل الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير
(1)
.
فأهلُ التعطيل أفرطوا في التنزيه، وفرَّطوا في الإثبات؛ وهم: الجهمية، ومَن تبعهم.
(1)
«العقيدة الواسطية» ص 146.
وأهل التشبيه أفرطوا في الإثبات، وفرَّطوا في التنزيه، فلم ينزهوا الله تعالى عن مماثلة المخلوقات.
وأهل السنة والجماعة توسطوا، فلا إفراط ولا تفريط، ولذلك أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إثباتاً بلا تشبيه، فخالفوا المعطلة والمشبهة، حيث أثبتوا إثباتاً بلا تشبيه، ونزهوا الله عن جميع النقائص والعيوب، فخالفوا الطائفتين.
وبرئ مذهب أهل السنة والجماعة من البدع التي وقع فيها غيرهم في كلام الله تعالى، وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أسماء الله وصفاته، فلا تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا إلحاد، فهذه خمسةُ معانٍ باطلةٌ ومنكرةٌ.
أما أهل الضلال؛ فهم بين: معطلٍ، وممثلٍ، ومحرِّفٍ، ومفوِّضٍ، والكل ملحد في أسماء الله، وفي آياته.
قوله: (سلف الأمة وأئمتها) أصل السلف: «مَنْ يتقدم غيره»
(1)
، ولا سيما من تقدم قومه أو جنسه؛ فإنه يكون سلفاً لهم، فسلفُ الكفار: مَنْ تقدم منهم، وسلفُ الأخيار: مَنْ تقدم منهم؛ فسلفُ هذه الأمةِ: صدرُها. وأصدقُ من تنطبق عليه هذه الكلمة: الصحابة، فإنهم سلفُ هذه الأمة الوسطُ الخِيارُ.
والسلفُ والخلفُ من الأمور النسبية، فكلُّ من تقدم غيره وجنسه؛ يكون سلفاً، فالصحابة سلف الأمة على الإطلاق، ولكن التابعون
(1)
«معجم مقاييس اللغة» 3/ 95.
وتابعوهم؛ هم سلف لمن جاء بعدهم، فالسَّلفيُّ حينئذٍ؛ هو: المقتفي للسلف الصالح، والمهتدي بهديهم.
وهذه الأمة لها أئمة وعامة؛ فالأئمة؛ هم: العلماء العاملون، وقد اجتمعت أوصاف الإمامة في الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم؛ فإنهم أئمة في العلم، وفي العمل، وفي الولاية.
ولكن المراد هنا: الأئمة في العلم والدين، وعطفُ الأئمةِ على السلف؛ مِنْ عطف الخاص على العام.
قوله: (من غير تكييف) التكييفُ مأخوذ من الكيفية؛ وهي: «هيئة الشيء التي هو عليها» ، ويستفهم عن الحال ب «كيف»
(1)
، فالتكييف: تحديد كُنْهِ الصفة، أو السؤال عنها ب «كيف» ؛ لأن السائل عنها ب «كيف» يريدُ تحديدَها وبيانَ كُنهِها، فصفاتُ الله سبحانه لا يجوز تكييفها والتعرض لكيفيتها، ولا السؤال عن ذلك.
والتكييفُ هو الذي نصَّ العلماء على نفيه ونفي العلم بالكيفية، وقالوا في نصوص الصفات:«تُمَرُّ كما جاءت بلا كيف»
(2)
، أي: دون السؤال عن كيفيتها، ودون تكييف لها.
وقال الأئمة في الاستواء ونحوه: «الاستواء معلوم - أو: غير مجهول - والكيف مجهول»
(3)
.
(1)
«معجم مقاييس اللغة» 5/ 150.
(2)
«جامع الترمذي» 2/ 43، و «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» 3/ 582.
(3)
«الرد على الجهمية» للدارمي ص 66، و «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» 3/ 441 - 442، و «عقيدة السلف أصحاب الحديث» ص 37 - 40، و «الأسماء والصفات» ص 379، و «شرح حديث النزول» ص 132، وانظر:«الأثر المشهور عن الإمام مالك في صفة الاستواء» .
فالكيفية لا يجوز للعبد التعرض لها، ولكن صفات الله تعالى لها كيفية لا نعلمها، فأهل السنة لا ينفون الكيفية، ولكن ينفون التكييف، فهم ينفون العلم بالكيفية، فلا يعلم كيف هو إلا هو، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو.
قوله: (ولا تمثيل) التمثيل: مأخوذ من «المِثل» ، وهو:«النظير»
(1)
، فالتمثيل؛ هو:«الحكم على الشيء بأنه مِثلٌ لشيء آخر» ، والمراد بالتمثيل هنا:«تمثيل الخالق بالمخلوق، أو: تمثيل المخلوق بالخالق» .
والتشبيهُ الذي قامت الأدلة على نفيه وإبطاله؛ هو: «وصف الخالق بخصائص المخلوق، أو: وصف المخلوق بخصائص الخالق» .
وهذا المقام اضطرب فيه الناس، ونشأ عنه ما نشأ من التعطيل
(2)
، فإن المعطلة قالوا:«إنَّ إثباتَ الصفات لله تعالى تشبيهٌ» ، فأوجب لهم هذا أن ينفوا الصفات؛ لأنهم قالوا:«إن المخلوقات توصف بهذه الصفات، فلو أثبتنا لله الصفات؛ للزم من ذلك التمثيل» ؛ فنفوها، هذه هي شبهتهم.
ولكن التشبيه الذي ورد نفيه وإبطاله في النصوص؛ هو: وصف الله بخصائص المخلوق، أو: العكس، ف «العِلمُ» ليس من خصائص الخالق، فإن المخلوق يوصف ب «العلم» أيضاً، وهكذا «السمع» ، «والبصر» ، ونحوها، فمطلقُ «العلم» ، و «السمع» ، و «البصر» - مَثلاً - معانٍ مشتركةٌ في اللفظ والمعنى.
فاللهُ تعالى يوصف ب «العلم» حقيقة، لكن «العلم» المختص به سبحانه وتعالى، والمخلوقُ يوصف ب «العلم» حقيقة، لكن المناسب له، فوصف المخلوق حينئذٍ ب «العلم» ؛ ليس فيه تشبيهُ المخلوق بالخالق، ووصف الخالق ب «العلم» - مَثلاً - ليس فيه تشبيه الخالق بالمخلوق.
ف «العلمُ» المحدَث المحدود؛ هو من خصائص المخلوقِ، والعلمُ الأزلي، المحيط بكل شيء، الذي لا تبلغ العقول كنهه ولا مداه؛ هو من خصائص الخالق.
فمن قال: «إن المخلوق يعلم الغيب» ؛ فقد شبَّه المخلوقَ بالخالقِ، فالقدريةُ الغلاةُ وقعوا في ضرب من التشبيه في قولهم:«إنه تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها» ؛ وهو: تشبيه الخالق بالمخلوق.
وقول اليهود: «يد الله مغلولة»
(1)
من تشبيه الخالق بالمخلوق؛ لأنهم وصفوا الله بخصائص المخلوق، فاليهودُ بهذا القول مشبهةٌ، وكذا قولهم:«إن الله لما خلق السموات والأرض استراح»
(2)
، فيه تشبيه للخالق بالمخلوق.
وأما قول النصارى: «إنَّ عيسى ابنُ الله»
(3)
، ففيه تشبيه الخالق بالمخلوق من وجه، وذلك بنسبة الولد إليه، وفيه - أيضاً - تشبيه
(1)
ذكره الله تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64].
(2)
رواه الطبري 20/ 382، والحاكم 2/ 543 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، وقال:«صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» ، وتعقبه الذهبي بقوله:«أبو سعد البقال، قال ابن معين: لا يكتب حديثه» .
(3)
ذكره الله تعالى عنهم: {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ} [التوبة: 30].
المخلوق بالخالق حيث ألَّهُوا المسيح، فالنصارى وقعوا بهذا في نوعَي التشبيه.
والمشركون الذين عبدوا مع الله تعالى سِواه؛ وقعوا في تشبيه المخلوق بالخالق، فهذا هو التمثيل الذي يجب نفيه، وبرئ منه مذهب أهل السنة والجماعة.
والتكييف والتمثيل بينهما تلازم، فكلُّ مَنْ كيَّف صفاتِ الله تعالى؛ فقد شبه الله بخلقه.
وتمثيل الخالق بالمخلوق يستلزم التكييف، وتمثيل المخلوق بالخالق قد يتضمن التكييف.
قوله: (ومن غير تحريف) التحريف: مأخوذ من الحَرْف، بمعنى: الطرف
(1)
، ففيه تغييرٌ ومَيلٌ، وهو في الاصطلاح:«تغيير كلام الله، أو كلام رسوله عن وجهه لفظاً أو معنى» ، وهذا التغيير فيه جنوح عن الصواب والحق، فكان فيه انحراف عن الوسطية والعدل، فالتحريف والانحراف بينهما تقارب من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى.
والتحريف يكون للألفاظ، ويكون للمعاني، والأغلب إطلاقه على تغييرِ المعنى. وتغييرُ اللفظ يكون بالزيادة والنقص.
ومن أمثلة التحريف اللفظي ما يروى عن بعض الجهمية أنه طلب من أحد القُرَّاء أن يقرأ قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء] بنصب لفظ الجلالة -؛ لأنه حينئذ لا يكون في الآية دلالة على تكَلُّمِ الله
(1)
«القاموس المحيط» ص 1032.
تعالى، وإنما فيها أن موسى كلَّم الله تعالى، وكونُ العبدِ يكلمُ ربَّه؛ لا ينكره أحد، فكلُّ عبد يدعو ربه عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن أحدكم إذا قام في صلاته؛ فإنه يناجي ربه»
(1)
، وخاصية موسى عليه الصلاة والسلام أن الله كلَّمه، وهذا إنما يتحقق على القراءة الصحيحة:{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} ، - فقال له المسؤول: هب أنه أمكنك ذلك، فكيف تصنع بقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟!
(2)
.
وهذا لأنه يمتنع في اللغة العربية أن يكون الضمير في قوله: {وَكَلَّمَهُ} في محل رفع
(3)
، ويتعين أن يكون مفعولاً به، و «ربُّ» هو الفاعل.
وأما التحريف المعنوي فهو: «صرف اللفظ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى غيره بغير حجة توجب ذلك» ، كما قال المعطلة:«يدُ الله: قدرتُه» ، «الاستواء؛ هو: الاستيلاء»، «المحبة؛ هي: إرادة الإنعام»، و «الغضب؛ هو: إرادة الانتقام».
قوله: (ولا تعطيل) التعطيل: مأخوذ من العَطَل بمعنى الخُلُو
(4)
، والمراد به هنا: تعطيل الرب تعالى عن صفات كماله، وذلك بنفي
(1)
رواه البخاري (405) - واللفظ له -، ومسلم (551) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
الحكاية لعمرو بن عبيد مع الإمام أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة. «بيان تلبيس الجهمية» 3/ 303، و «الصواعق المرسلة» 3/ 1037.
(3)
«اللمع في العربية» ص 189، و «الآجرومية» ص 53.
(4)
«معجم مقاييس اللغة» 4/ 351.
أسمائه وصفاته سبحانه، فالمعطل يُخْلِي الرب عن صفاته، أو عن أسمائه، وصفاته عند غلاتهم.
والتحريف يستلزم التعطيل، وأما التعطيل فلا يستلزم التحريف؛ لأن التعطيل قد يكون بغير التحريف، فقد يكون بالتفويض؛ فإن المعطلة يقفون من النصوص:
* إما موقف التحريف.
* وإما أن يفوضوا، فمن ينفي - مَثلاً - حقيقة الاستواء على العرش؛ وهو: العلو والارتفاع، يقول:«معنى قولِه تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: استولى» ، فيكون حينئذٍ معطلاً محرفاً؛ معطلاً للصفة عن الله، ومحرفاً للنص.
وقد يقول من ينفي حقيقة الاستواء: «الله أعلم بمراده بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}» ، ويقول:«هذا ليس فيه دلالة على إثبات الاستواء على العرش؛ لأنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله تعالى» ؛ فيكون هذا معطلاً مفوضاً.
وبهذا يُعلم أن تحريف النصوص يستلزم التعطيل، وأما التعطيل فلا يستلزم التحريف؛ لأن المعطل قد يلجأ إلى التفويض لا إلى التحريف.
قوله: (من غير إلحاد) الإلحاد في اللغة: المَيْل، ومن هذا سمي الشَّق في جانب القبر: لحداً؛ لميله عن وسط القبر، فكلُّ مَيلٍ هو إلحادٌ لغةً
(1)
، وأما في الاصطلاح فهو:«الميل عن الحق إلى الباطل، علماً أو عملاً» .
(1)
«معجم مقاييس اللغة» 5/ 236.
وأكثر ما يطلق اسم «الإلحاد» في كلام العلماء على الإلحاد الاعتقادي، وقد يخصونه بِشَرِّ أنواع الإلحاد؛ وهو: إنكار وجود الرب سبحانه وتعالى، فيُسمى الدهرية: ملاحدة؛ لأنهم منكرون للخالق، والنبوات، والمعاد، فهم شرُّ الملاحدة، ولكن جنس الإلحاد لا يختص بهم، فاسم الإلحاد في الشرع يشمل أموراً كثيرة، كما سيأتي في الكلام على الإلحاد في أسماء الله تعالى، وفي آياته سبحانه.
والشرك الذي هو عبادة غير الله مع الله من شرِّ الإلحاد، وهو إلحادٌ في عبادة الله بصرف محضِ حقه سبحانه وتعالى إلى غيره.
والإلحادُ أعم هذه المعاني أعني: التكييفَ، والتمثيلَ، والتحريفَ، والتعطيلَ؛ فالتحريفُ، والتعطيلُ، والتكييفُ، والتمثيلُ؛ كلُّها إلحادٌ.
فالتحريفُ إلحادٌ في آيات الله، والتعطيلُ إلحادٌ في أسماء الله تعالى وفي صفاته، والتكييفُ إلحادٌ - أيضاً - في أسماء الله وصفاته، والتمثيلُ كذلك؛ فإن من شبَّه الله تعالى بخلقه؛ فقد ألحد في أسماء الله وصفاته.
والتعطيلُ والتشبيه معنيانِ متباينان، فالمشبهة غلوا في الإثبات، والمعطلة غلوا في النفي، والتعطيلُ والتمثيل بينهما تلازم من وجه، فالتشبيهُ يستلزم التعطيلَ، والتعطيلُ يستلزم التشبيهَ، فكلُّ مشبِّهٍ معطلٌ من وجه، وكلُّ معطلٍ مشبِّهٌ من وجه، وذلك أن من أثبت لله تعالى صفات تماثل صفات المخلوقين؛ فهو مشبِّه، وهو - أيضاً - معطل؛ لأنه لم يثبت لله ما يستحقه من الصفات؛ بل وصف الله بصفات لا تليق به سبحانه وتعالى؛ فصار بهذا الاعتبار معطلاً، وإن كان أصلَ مذهبِه التشبيهُ.
والمعطلُ الذي نفى عن الله الأسماء والصفات، أو نفى الصفات؛ هو مشبِّه لله بالجماداتِ، والمعدوماتِ، والممتنعاتِ، ففرَّ من تشبيه الله بالموجودات، ووقع في تشبيهه بالجمادات، فوقع في تشبيهٍ أقبح، فكان بذلك معطلاً مشبهاً، وإن كان أصلَ مذهبِه التعطيلُ، فبان بهذا: أنَّ التمثيلَ يستلزمُ جنسَ التعطيلِ، والتعطيلُ يستلزم جنس التشبيهِ، والإلحادُ يعُم الجميع.
قوله: (فإن الله ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]) الإلحاد في أسمائه؛ هو: المَيل بها عن الحق والصراط المستقيم، وذلك يشمل أنواعاً من الإلحاد
(1)
، فالإلحاد في أسمائه تعالى يكون:
* بنفيها، كما هي طريقة الجهمية.
* ويكون بنفي معانيها، كما هي طريقة المعتزلة.
* ويكون بتسمية المخلوق بها، مثل: تسمية المخلوق: «بعالم الغيب» و «ملك الملوك» ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّ أَخْنَعَ اسمٍ عند الله: رجلٌ تسمَّى: ملِك الأملاك، لا مالِك إلا الله»
(2)
.
* ويكون بتسميته تعالى بما لم يسمِ به نفسه؛ كتسمية النصارى له: «أباً» ، وتسمية الفلاسفة له:«علة الوجود» ، وتسميته ب «واجب الوجود» ،
(1)
«بدائع الفوائد» 1/ 298.
(2)
رواه البخاري (6206)، ومسلم (2143) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإن كان يصح الإخبار به عن الله تعالى، فيقال:«اللهُ واجبُ الوجود» ، ولكن ليس من أسمائه ذلك.
* ويكون الإلحاد في أسماء الله بالاشتقاق من أسمائه، كما فعل المشركون، فاشتقوا من أسمائه تعالى لأسماء آلهتهم؛ ك «اللات» من الإله، و «العُزى» من العزيز
(1)
.
ومن الإلحاد في أسمائه ما ذكر الله عن المشركين في قوله سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]، وقوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60].
قوله: (وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40]) هذا تهديد بالإخبار باطلاع الله تعالى، فاللهُ كثيراً ما يذكر العلم في تهديده للكافرين، والمنحرفين، والمتعدين لحدوده.
قوله تعالى: «{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40]» هذا تهديد للملحدين في آياته بالإلقاء في النار.
وآيات الله تعالى نوعان: آيات كونية، وآيات شرعية.
ومن شواهد الآيات الكونية؛ قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37]، وقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23]، وقوله سبحانه:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 24]، وقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير (29)} [الشورى]، وشواهدها كثيرة.
ومن شواهد الآيات الشرعية؛ قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}
(1)
«تفسير الطبري» 10/ 596.
[الأنفال: 2]، وقوله تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وقوله تعالى:{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7]، وقوله تعالى:{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم (2)} [لقمان]، ونحوها كثير.
والآيات الكونية؛ هي: المخلوقات، والآيات الشرعية؛ هي: كلمات الله تعالى المنزلة.
والإلحاد في آيات الله تعالى الشرعية يكون:
* بالتكذيب بها.
* وجحدها.
* ويكون بتحريفها عن مواضعها.
* ويكون بالزعم بأنه ليس لها معنى مفهوم، كما هو مذهب التفويض.
* ويكون بالاستهزاء بها، قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعًا (140)} [النساء]، والاستهزاء بآيات الله إنما ينشأ عن الكفر بها، كما قال تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَاد (4)} [غافر]، هذا من جملة الإلحاد في آيات الله الشرعية.
أما الإلحاد في آيات الله تعالى الكونية؛ فإنه يكون:
* بجحد خالقها سبحانه.
* وبجحد دلالتها على الخالق.
* وبنفي حكمته تعالى في خلقها، كأن يقول قائل:«إن هذا الشيء مخلوق لا لحكمة» ، أو يقول:«هذا حادث بغير مشيئة الله» ، كما تقوله القدرية في أفعال العباد.
هذا ما يتعلق بالإلحاد في أسماء الرب سبحانه، وآياته.
وأهل السنة والجماعة يثبتون لله أسماءَه وصفاتِه، ولا يلحدون في أسمائه ولا في آياته.
ويلاحظ بعد هذا أن مذهب أهل السنة والجماعة يتميز عن المذاهب الضالة بأمور:
أولاً: أنه وسط بين مذاهب الضلال، فأهل السنة وسط في «باب الأسماء والصفات» ، وطريقتهم هي المثلى؛ فإنها وسط بين التعطيل، والتمثيل.
ثانياً: أن مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتهم في «باب الأسماء والصفات» ، وغيره مستمدة من الكتاب والسنة، ومطابقة للعقل
الصحيح، بينما المذاهب المنحرفة مستمدة من الأهواء والخيالات التي لا أصل لها في عقل ولا سمع، فهي مخالفة لموجَب العقل وموجَب النقل، وإن زعم الزاعمون أنها موجَب العقل.
ثالثاً: خلو مذهب أهل السنة والجماعة من المعاني الباطلة التي وقع فيها مَنْ خالفهم، كالتحريف، والتعطيل، والتكييف، والتمثيل.
رابعاً: وهو مستفاد مما تقدم: أن مذهب أهل السنة والجماعة يتضمن ثلاثة أصول يقوم عليها:
الأول: إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، كما أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: تنزيهه تعالى عن مماثلة المخلوقات، وعن كل نقص.
الثالث: نفي العلم بالكيفية.
وهذه الأصول مستفادة من النصوص، وقد تضمنتها الآية الكريمة:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى]، فهذه الآية دلت على الحق، وردِّ الباطل في «باب الأسماء والصفات» ، فدلت على أنه تعالى موصوف بصفات الكمال، مُنزَّه عن مماثلة المخلوقات، وأنه تعالى ليس كمثله شيء، وهذا يتضمن نفي العلم بالكيفية، فإن نفي التشبيه يستلزم نفي التكييف، ونفي العلم بالكيفية؛، لأن ما لا نظير له؛ لا يمكن العلم بكيفيته؛ لأن الشيء لا تعلم كيفيته؛ إلا: بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره.
واللهُ تعالى لا نظير له، والعبادُ لم يشاهدوه؛ فلا سبيل لهم إلى العلم بكيفيته سبحانه.
فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتكييف، ففيه الرد على أهل التشبيه، وقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} رد للإلحاد والتعطيل؛ فإن فيها إثبات اسمين من أسمائه تعالى، وهما:«السميع» ، و «البصير» ، وفيها إثبات صفتين من صفاته، وهما:«السمع» ، و «البصر» .
فهذه أبرز خصائص مذهب أهل السنة والجماعة.
قوله: (ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل) قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نصٌّ في نفي تشبيه المخلوق بالخالق؛ لأن تقدير الآية: «ليس شيءٌ مثلَه تعالى» ، ونفيُ هذا التشبيهِ؛ يستلزم نفيَ التشبيهِ الآخَر؛ وهو: تشبيه الخالق بالمخلوق، فإنه سبحانه إذا لم يكن له كفوٌ من خلقه؛ لزم أنه ليس مثلَ أحدٍ مِنْ خلقه، لأنه سبحانه لو كان مثلَ أحد مِنْ خلقه؛ كان هذا المخلوق مثلَه تعالى.
ومن الآيات الدالة على نفي التمثيل عن الله قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} [الإخلاص: 4]، وقوله سبحانه:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم]، وغيرها كثير.
ويلاحظ أن هذه الآيات كلها دالة على نفي مماثلة شيء من المخلوقات للخالق سبحانه، ولا نجِدُ آية فيها التنصيص، أو التصريح بنفي مماثلة الخالق تعالى لخلقه، وذلك - والله أعلم - لأن الغالب على
الخلق تشبيه المخلوق بالخالق، فإن المشركين كلَّهم - كما تقدم
(1)
- واقعون في تشبيه المخلوق بالخالق.
فقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ونحوها من الآيات؛ فيها رد على أهل التشبيه، وفيها - وهو المقصود الأول - إبطال الشرك؛ لأن الشرك يتضمن تشبيه المخلوق بالخالق، ولا يوجد في الأمم من يقول:«إنَّ اللهَ مثلُ خلقه من كل وجه»
(2)
، وقد يصِف بعضُهم اللهَ بشيء من صفات المخلوق، كما قالت اليهود:«إن الله فقير» ، «يد الله مغلولة»
(3)
، فالآيات جاءت بإبطال الشرك الواقع، والتمثيل الغالب على الأمم، والله أعلم.
تنبيه:
«الكاف» في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ} للتشبيه، والأصل أنها بمعنى:«مثل» ، ويلاحظ في هذه الآية أن «الكاف» ، و «مثل» اجتمعتا، فاختلف النحويون والمفسرون؛ فمنهم من قال:«الكاف صِلَةٌ زِيْدَتْ لتأكيدِ مضمونِ الكلام، والمعنى إذاً: ليس مثلَه شيءٌ» ، وهذا سهلٌ، وواضحٌ، ولا إشكال فيه.
ومنهم من قال: «إن كلمة «مِثل» هي الصلة، والتقدير: ليس كهو شيءٌ»، وهذا يؤول إلى المعنى الأول؛ لأن «الكاف» بمعنى «مثل» ،
(1)
ص 94.
(2)
انظر ص 611.
(3)
ذكر الله ذلك عنهم: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181]، وقال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64].
ولكن الأول أولى من هذا؛ لأن الزيادة في الحروف معهودة في اللغة، أما وقوع الاسم زائداً؛ فهذا لا يكاد يوجد في اللغة.
ومنهم من قال: «لا مانع من أن يكون المعنى: ليس مثلَ مثلِه شيءٌ، ويكون هذا من قبيل الوصف بطريق الكناية كما تقول العرب: «مثلك لا يفعل كذا» ، أو «لا يعطي الزهيد» في المدح، و «مثلك لا يلاقي الشجعان» في الذم بالجبن، و «مثلك لا يعطي الجزل» ، في الذم بالبخل، وليس المقصودُ مدحَ المثل ولا ذمه، وإنما المقصود مدح أو ذم المخاطب بطريق الكناية».
والأقوال الثلاثة مذكورة في بعض كتب التفسير
(1)
، والأمر في هذا سهل، فإن المقصود من قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؛ هو: نفي أن يكون لله مِثلٌ مِنْ خلقه، وهذا لا خلاف فيه، والله تعالى أعلم.
* * *
(1)
«تفسير البحر المحيط» 7/ 488، و «الدر المصون» 9/ 544، و «اللباب في علوم الكتاب» 17/ 173.
منهج الرسل في الإثبات والنفي في صفات الله تعالى
والله سبحانه وتعالى بعث رسلَه بإثباتٍ مفصلٍ، ونفيٍ مجملٍ، فأثبتوا له الصفاتِ على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم] قال أهل اللغة: «{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: نظيراً يستحق مِثلَ اسمه، ويقال: مسامياً يساميه»
(1)
. وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: «هل تعلم له مِثلاً، أو شبيهاً»
(2)
.
وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} [الإخلاص]، وقال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} [البقرة] وقال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
هذا فيه بيان طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام في وصف الله تعالى في الإثبات وفي النفي، وقد تقدم
(3)
أن الحق؛ هو: «وصفه تعالى
(1)
الكلام بنصه في «الصحاح» 6/ 2383.
(2)
«تفسير الطبري» 15/ 585.
(3)
ص 86.
بما وصف به نفسه، ووصفته رسله إثباتاً ونفياً، بإثبات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله، ونفي ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله»؛ وهنا بيان لنوع هذا الإثبات، وهذا النفي الذي جاءت به الرسل.
قوله: (والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل)
(1)
إلخ، أي: بإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال على وجه التفصيل، وبنفي ما لا يصلح له سبحانه على وجه الإجمال، فالمدح يكون بإثبات الكمالات، وبنفي المعايب والنقائص.
والطريقة المثلى في المدح: أن تُذكر المحامد مفصلة، وتُنفى المعايب مجملة، فطريقة الرسل في الإثبات والنفي؛ هي الموافقة للعقل، والذوق السليم، والأدب الرفيع.
والمراد ب «الإجمال» ؛ هو: التعميم والإطلاق، و «التفصيل»؛ هو: التعيين والتخصيص، ويتضح هذا بالأمثلة، فتقول في النفي المجمل:«فلانٌ متنزهٌ عن الرذائل» ، وتقول في النفي المفصل:«فلان ليس بجبان» ، «ليس بفاحش» ، «ليس بلعَّان» .
وتقول في الإثبات المجمل: «فلانٌ ذو أخلاقٍ جميلةٍ» ، و «ذو صفات حميدة» ، وتقول في الإثبات المفصل:«فلان كريم، وشجاع، وصبور، وحليم، وحافظ، ومِقدام» ، وما أشبه ذلك.
(1)
«الصفدية» ص 143، و «مجموع الفتاوى» 6/ 37 و 11/ 480، و «منهاج السنة» 2/ 185.
فطريقة الرسل؛ هي: «الإجمال في النفي، والتفصيل في الإثبات» ، وهذا أمر أغلبي، وليس بمطرد، فمعنى ذلك: أن الإثبات قد يأتي مجملاً، كما أن النفي قد يأتي مفصلاً.
ثم بعد هذا ساق الشيخ رحمه الله تعالى شواهد النفي المجمل، وشواهد الإثبات المفصل، وبدأ بشواهد النفي المجمل.
قوله: (وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)}، وقال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} ، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} ) الشاهد: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} ، ومثلها قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله:({هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)})، وقد اشتملت هذه الآيات على: نفي «الكفو» ، و «النِّد» ، و «السَّمِي» ، و «المِثل» ، وهي معانٍ متقاربة، فكلها تُفسَّر ب:«الشبيه» ، و «النظير»
(1)
، وما أشبه ذلك، فنفي «الكفو» ، و «النِّد» ، و «السَّمِي» ، و «المِثل» ؛ نفي مجمل.
ووجه الإجمال في هذه الآيات: أن نفي «الكفو» ، و «النِّد» ، و «السَّمِي» ، و «المِثل» جاء مطلقاً غير مقيد بشيء، فتضمنت نفي «الند» عن الله في كل شيء، ونفي جميع النقائص الثابتة للمخلوق.
وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} ، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} كلها أخبارٌ، ومعنى قوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} : لا سمي له.
(1)
«الصحاح» 1/ 68 و 2/ 543 و 6/ 2383 و 5/ 1816.
وقوله تعالى: ({فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً}) هذا طلب، واستشهد بهذه الآية في باب الصفات؛ لأن النهي فيها يتضمن النفي، نفي أن يكون لله ند، فالمعنى: لا تجعلوا لله أنداداً؛ لأنه ليس له ند، وهذا هو المقصود، كذلك قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} هذا ذم من الله تعالى للذين جعلوا لله أنداداً يحبونهم كمحبتهم لله، وهذا نوع من الخبر المراد به الطلب
(1)
؛ لأنَّ الذمَّ فيه نهيٌ، ولكن هو في نفس الأمر يتضمن نفي الند عن الله، فإن الله إنما ذم هؤلاء على ذلك؛ لأنه تعالى لا ند له
(2)
.
وقوله: ({كَحُبِّ اللّهِ}) حب: مصدر أضيف إلى لفظ الجلالة، وهو مفعول، فكيف يقدر الفاعل؟
قيل: «كحبهم لله» ، وهذا يتضمن التسوية، فأشركوا في التسوية في المحبة، والمراد: يحبون أوثانهم وأندادهم كما يحبون الله.
وقيل: «كحب المؤمنين لله» ، فيكون حبهم لأندادهم أكثر من حبهم لله تعالى
(3)
.
وقد رجح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - الأولَ
(4)
، لأن الواقع منهم التسوية، كما في قوله تعالى عن الكفار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين (98)} [الشعراء].
(1)
«البلاغة العربية» 1/ 176.
(2)
«تفسير ابن كثير» 1/ 476.
(3)
«زاد المسير» 1/ 170، و «تفسير البحر المحيط» 1/ 643.
(4)
«مجموع الفتاوى» 8/ 357 - 359.
وقوله: ({أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}) قيل: «أشد من حب المشركين لله» .
وقيل: «أشد من حب المشركين لأندادهم» ، أي: أن المؤمنين يحبون الله أشد من حب المشركين لأندادهم، وهذا أنسب
(1)
.
فالآيات كلها تدل على نفي الند عن الله، لكن منها ما يدل على ذلك نصاً؛ كقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} ، أو لزوماً؛ كنهيه سبحانه عن أن يُتخذ من دونه أنداد.
* * *
(1)
«تفسير البحر المحيط» 1/ 643، و «اللباب في علوم الكتاب» 3/ 138.
وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (101)} [الأنعام]، وقال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان].
قوله تعالى: ({وَجَعَلُوا}) أي: اعتقدوا وافتروا.
وقوله: ({الْجِنَّ}) يحتمل أن يكون بدلاً من {شُرَكَاء} ، ويكون المفعول الثاني هو الجار والمجرور
(1)
.
ويحتمل أن يكون منصوباً بنزع الخافض، أي: جعلوا لله شركاء من الجن.
أو يكون {شُرَكَاء} مفعولًا ثانيًا مقدمًا، و {الْجِنَّ} مفعول أول مؤخر، والمعنى: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ
(2)
.
ولعل التقديرَ الأولَ أظهرُ.
(1)
أي: «لله» ، و «جعل» التي بمعنى:«اعتقد» ؛ تنصب مفعولين، والمراد بنزع الخافض: حذف حرف الجر، فإذا حذف؛ انتصب ما بعده على المفعولية.
(2)
«التبيان في إعراب القرآن» ص 151، و «تفسير البحر المحيط» 4/ 196.
وقوله: ({وَخَلَقَهُمْ}) هذه جملة معترضة، أي: والحال أن الله تعالى خلقهم (2)، ومع ذلك أشركوا به.
وقوله تعالى: ({وَخَرَقُوا لَهُ}) أي: اخترعوا وافتروا.
وقوله سبحانه: ({بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}) فيه تنزيه الله تعالى عن اتخاذ البنين والبنات، وفيه رد على المشركين الذين قالوا:«الملائكة بنات الله» ، والنصارى الذين قالوا:«المسيح ابن الله» .
وقوله تعالى: ({سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون (100)}) هذا هو الشاهد من الآية على النفي المجمل؛ فإن قوله: {سُبْحَانَهُ} نفي؛ لأن «التسبيح» فيه معنى النفي، كما أن «الحمد» فيه إثبات، كما تقدم
(1)
، وهذا عام في تنزيهه تعالى عن كل ما يصفه به الجاهلون المفترون، والمشركون من: الولد، أو الصاحبة، أو الشريك، أو غير ذلك من النقائص والعيوب، فالنفي في هذه الآية مستفاد من قوله:{سبحانه وتعالى} ، وهو نفي مجمل؛ لأنه عام، فكل آية فيها هذا الأسلوب؛ فهي من قبيل النفي المجمل.
وقوله تعالى: ({بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}) أي: مبتدي خلقهما على غير مثال سابق.
وقوله سبحانه: ({أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (101)}) أي: الكل خلقه، وليس شيء من الموجودات ابناً له، بل الكل عبيده، كما قال سبحانه:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون (26)} [الأنبياء].
(1)
ص 51.
وقوله تعالى: ({تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)})، الشاهد في هذه الآية؛ قوله سبحانه:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}
(1)
، والبركة؛ هي:«كثرة الخير ونماؤه وزيادته» ، والله سبحانه وتعالى هو الذي بيده الخير، والبركة كلها بيده، وهو الذي يبارك فيمن شاء، كما قال تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، ويبارك سبحانه فيما شاء مِنَ البقاعِ، ومِنَ العباد، فهو الذي يبارك، والعبدُ مبارَكٌ.
والله تعالى يوصف بأنه تبارك، يعني: كثر خيره وكثرت بركته، وهو ذو البركة التي لا حد لها.
ويفسَّر {{تَبَارَكَ} ب: «تعالى وتقدس» ، وهذا من معاني «تبارك» ، ف {{تَبَارَكَ} يتضمن إثبات الخير والبركة له سبحانه وتعالى، وأنه ذو البركة التي لا نهاية لها، ويتضمن تنزيهه تعالى عن النقائص والعيوب، ولهذا قال المفسرون:«{{تَبَارَكَ} - يعني -: تعالى، وتقدس»
(2)
؛ وبهذا الاعتبار تكون الجملة دالة على نفي مجمل.
وهذه الصيغة لا تستعمل إلا في حقه سبحانه وتعالى
(3)
، فلا يضاف {{تَبَارَكَ} إلا إلى الله تعالى، أو إلى اسم من أسمائه تعالى، كما
(1)
«معجم مقاييس اللغة» 1/ 230.
(2)
«زاد المسير» 3/ 214، و «الجامع لأحكام القرآن» 15/ 365، و «اللباب في علوم الكتاب» 9/ 140.
(3)
«المحرر الوجيز» 4/ 199، و «بدائع الفوائد» 2/ 680، «الإتقان في علوم القرآن» 2/ 188، و «فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم» 1/ 207، و «أضواء البيان» 6/ 291، و «الفتاوى والدروس في المسجد الحرام» ص 129.
قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (78)} [الرحمن]، وقال:{تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين (54)} [الأعراف].
أما المخلوق فلا يقال فيه: «تبارك» ؛ بل يقال: «بارك الله فيه» ، و «هذا شيء مبارَك» ، ويُدعا له بالبركة فيقال:«بارك الله فيه» ، ولا يقال:«هذا شيء تبارك» ، ولا يقال:«تبارك فلان» ، ولا «تباركت علينا يا فلان» ، كما يجري على ألسنة العامة، فإن «تبارك» يدل على أن البركة ذاتية، وليس ذلك إلا لله وحده، فإن الله تعالى هو الذي بركته ذاتية، أما المخلوق؛ فإن بركته هبة وعطية من الله لعبده، فلهذا «تبارك» لا يضاف إلا إلى الله، أو إلى اسم من أسمائه، ولا يضاف إلى المخلوق، لا إلى عاقل ولا إلى غير عاقل.
* * *
وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُون (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُون (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون (154) أَفَلَا تَذَكَّرُون (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِين (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون (159) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِين (160)} ، إلى قوله:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (182)} [الصافات] فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلَّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه؛ إذ هو سبحانه المستحق للحمد؛ بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات.
قوله سبحانه: ({فَاسْتَفْتِهِمْ}) أي: اسألهم سؤالَ توبيخٍ.
وقوله تعالى: ({أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُون (149)}) هذا توبيخ لمن زعم أن الملائكة بنات الله، مع أنهم كانوا يكرهون البنات لأنفسهم كما قال تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُون (57)} [النحل].
قوله تعالى: ({أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُون (150)}) «أم» تسمى المنقطعة، وتُفسر ب «بل، والهمزة»
(1)
، أي: بل أخلقنا الملائكة
(1)
«الجنى الداني في حروف المعاني» ص 205، و «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» ص 55.
إناثاً وهم شاهدون، والمعنى: هل حضروا خلْق الملائكة، فيرون أنهم إناث وبنات؟!
قوله تعالى: ({أَلَا إِنَّهُمْ مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون (152)}) هذا تكذيب لهم مؤكد ب «إنَّ» ، و «اللام» .
قوله تعالى: ({أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين (153)}) هذا استفهامُ توبيخ - أيضاً -.
قوله تعالى: ({مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون (154) أَفَلَا تَذَكَّرُون (155)}) الآيات. أنكر الله تعالى عليهم هذه الفِرْية، وهذه المقولة الباطلة بشتى أنواع الإنكار، وبيَّن أن مقالتهم تلك لا سند لها من عقل ولا شرع.
وهذه الآيات فيها نفي الولد عن الله تعالى، وفيها تغليظ الإنكار على من زعم ذلك بأساليب عدة.
قوله تعالى: ({وَجَعَلُوا}) أي: وجعَلَ المشركون.
قوله: ({بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}) قيل: المراد بالجِنَّة: الملائكة، والنسب الذي جعلوه بينه وبينهم؛ هو: نسب البُنوَّة والأُبوَّة، وهو قولهم:«الملائكة بنات الله» .
والقول الثاني: أن المراد بالجِنَّة: الجن المخلوقون من نار، والنسب الذي جعلوه بين الله وبين الجن؛ هو: أنهم جعلوهم شركاء لله، كما قال تعالى في الآية السابقة:{وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ} .
أو قول بعض العرب: «إن الله تعالى أَصْهَر إلى سَرَوَات الجن» ، يعني: له صاحبة من الجن، فهو نسبُ مصاهرةٍ، وليس النسب المعروف
(1)
.
وهذا القول - أعني القول بأن المراد الجن، وأن المراد بالنسب أحد الأمرين أو كلاهما -؛ هو الصواب؛ لأن الِجنَّة لم يأت إطلاقها على الملائكة في القرآن أبداً، والجِنَّة في القرآن يراد بها الجن، كما قال تعالى:{مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاس (6)} [الناس]، وكما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين (119)} [هود]، والمراد بالجِنَّة: الجن؛ فوجب أن المراد هنا الجن، كما في سائر المواضع، ولو كان المراد بالجِنَّة: الملائكة؛ لكان ذكر هذا المعنى تكراراً مع ما ذكر من قبل في الآيات المتقدمة.
قوله تعالى: ({وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون (158)}) أي: لمحضرون للحساب ومحضرون في العذاب.
قوله تعالى: ({سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون (159)}) هذا هو الشاهد من هذه الآيات، وهو النفي المجمل، فالمعنى: تنزيهاً لله عن كل ما يصفه به المشركون.
وقوله: ({إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِين (160)}) كالرسل وأتباعهم - صلوات الله وسلامه عليهم -.
(1)
«تفسير الطبري» 19/ 644، و «زاد المسير» 3/ 96، و «تفسير البحر المحيط» 7/ 361، و «الدر المنثور» 12/ 485.
قوله تعالى: ({سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون (180)}) نزَّه الله تعالى نفسه في هذه الآية عما يصفه به المشركون والمفترون، وفي هذا ذم لهم فيما وصفوا به رب العالمين، فقوله تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون (180)} نفي مجمل، فكلمة:{سُبْحَانَ} دالة على التنزيه، ونفي النقائص عن الرب تعالى، وقوله:{عَمَّا} يدل على الإجمال والعموم.
وقوله تعالى: ({وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (182)}) فيه دلالة على إثبات جميع المحامد له تعالى، فهذا الحمد إذاً؛ يتضمن إثباتاً مجملاً، كما تقدم بيانه في خُطبة الحاجة
(1)
.
ثم قال الشيخ: (وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه؛ إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات، وبديع المخلوقات).
فائدة:
النفي تارة يكون بأداة من أدوات النفي؛ مثل: «لم» ، و «لا النافية» ، و «الاستفهام الإنكاري» ، وتارة يكون النفي معلوماً من مدلول الكلمة؛ ك «سبحان» ؛ فإن معناها تنزيهاً لله عن كذا وكذا.
* * *
(1)
ص 51.
وأما الإثبات المفصل، فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله:{اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] الآية بكمالها، وقوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} [الإخلاص]، وقوله:{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم (2)} [التحريم]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير (54)} [الروم]، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى]، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (4)} [إبراهيم]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (107)} [يونس]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيد (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد (16)} [البروج]، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (4)} [الحديد].
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم (28)} [محمد]، وقوله:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله:{رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، وقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُون (10)} [غافر].
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين (11)} [فصلت].
وقوله: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء] وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُون (74)} [القصص]، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس].
إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته؛ فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل؛ ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
هذه الآيات التي ساقها المصنف - رحمه الله تعالى - فيها إثبات الكثير من أسماء الله تعالى الحسنى ومن صفاته العلى على وجه التفصيل؛ لأن فيها تنصيصاً على الأسماء، وتعييناً لها، وتخصيصاً لها بالذكر.
وكلُّ اسم من أسماء الله متضمنٌ لصفة، ففيها إثبات ما دلت عليه من الأسماء مع ما تضمنته من الصفات، فهو الحكيم والحكمة صفته، والسميع والسمع صفته، والبصير والبصر صفته، والغفور والمغفرة صفته، والرحيم والرحمة من صفاته، وهكذا.
ومن هذه الشواهد قوله تعالى: ({هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ}) الآيةَ، وفيها إثبات اسم الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والعليم، والبصير لله تعالى، وفيها إثبات صفة الخلق والاستواء والعلم والمعية والبصر.
ومن الشواهد أيضاً قوله سبحانه: ({فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}).
وقد مضى
(1)
أن القاعدة في منهج الرسل «الإثبات المفصل لصفات الله تعالى، والنفي المجمل» ، وهذه قاعدة أغلبية، وإلا فقد يأتي إثباتٌ مجملٌ، ونفيٌ مفصلٌ.
(1)
ص 108.
فمن النفي المفصل؛ قوله تعالى: ({لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ})، وقوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وقوله تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]، وقوله:{لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]، وقوله:({لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3)}) ونحو ذلك.
وأما النفي المجمل؛ فكقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65]، وقوله:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]، وقوله:({وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)})، وقوله:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون (180)} [الصافات: 180]، ونحو ذلك.
وقد ذكر المؤلف هنا جملة من الآيات التي فيها ذكر بعض أسماء الله وصفاته على وجه التفصيل والتعيين، وكلُّ اسم من أسماء الله تعالى متضمنٌ لصفة من صفاته.
ومن شواهد الإثبات المجمل؛ قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، وقوله تعالى:{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)} [الفاتحة]، وقوله تعالى:{وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [النحل: 60]، قال المفسرون: أي: «ولله الصفة العليا»
(1)
.
* * *
(1)
«تفسير البغوي» 5/ 25، و «النكت والعيون» 3/ 195، و «زاد المسير» 4/ 495، و «الجامع لأحكام القرآن» 12/ 344.
طريقة الحائدين عن سبيل الرسل في وصف الله تعالى
وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار، والمشركين، والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة، والمتفلسفة، والجهمية، والقرامطة الباطنية، ونحوهم؛ فإنهم على ضد ذلك، فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجودٍ في الأذهان يمتنعُ تحققه في الأعيان، فقولهم؛ يستلزم غاية التعطيل، وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات.
بعد أن بين المؤلف رحمه الله طريقة الرسل في صفات الله تعالى، وهي الطريقة القويمة الحكيمة، الموافقة للعقول والفطر السليمة، شرع في بيان طرق أهل الضلال الحائدين المائلين عن طريقة الرسل، فذكر الكفار، والمشركين، وأهل الكتاب.
وأهلُ الكتاب منهم المؤمن الموحد الذي اتبع رسوله، ومنهم الكافر.
والصابئة منهم المؤمنون الحنفاء، ومنهم الكفار المشركون، ومن هؤلاء قوم إبراهيم، وهم طوائف
(1)
.
والمتفلسفة؛ هم: أهل الفلسفة الذين احترفوا الفلسفة اليونانية، وكأن الشيخ يقصد بهم: المنتسبين للإسلام منهم، وقد يراد بهم: المنتسبين للإسلام، وغير المنتسبين له.
والفلاسفة أنواع؛ منهم: الفلاسفة الدهريون، وهؤلاء لا كلام معهم هنا، وإنما الكلام مع الفلاسفة الإلهيين الذين يقرون بالخالق في الجملة، وهم أنواع:
منهم مَنْ يقر بصفات الله تعالى في الجملة، ومنهم من ينكر الصفات.
وزعيم ملاحدة الفلاسفة اليونانيين مَنْ يسمونه: «المعلم الأول» ؛ وهو: «أرسطو»
(2)
؛ فهو زعيم الشرك والتعطيل والإلحاد، وقد تبعه بعض من ينسب إلى الإسلام ك «ابن سينا»
(3)
الذي يُعَظَّم مِنْ قِبَل بعض الجهلة، أو الزنادقة المنتسبين للإسلام.
(1)
«الرد على المنطقيين» ص 334، و «إغاثة اللهفان» 2/ 268.
(2)
أرسطاطاليس بن نيقوماخس الفيثاغوري، ويقال:«أرسطو» اختصاراً، أكبر تلاميذ «أفلاطون» ، انتهت فلسفة اليونانيين إليه، وهو خاتمة حكمائهم، وسيد علمائهم، وكان خطيباً وطبيباً، وكان معلماً للإسكندر بن فيلبس ملك مقدونية، وكان مشركاً لا يعرف النبوة ولا المعاد، وكان قبل النبي عيسى ابن مريم عليه السلام بنحو 300 سنة.
انظر: «طبقات الأطباء والحكماء» ص 25، و «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ص 86، و «مجموع الفتاوى» 11/ 171 و 571، و «منهاج السنة» 1/ 364، و «الرد على المنطقيين» ص 70، و «إغاثة اللهفان» 2/ 278.
(3)
الحسين بن عبد الله بن الحسن ابن سينا، أبو علي الرئيس، من أكبر الفلاسفة المنتسبين للإسلام، كان أهل بيته من ملاحدة الإسماعيلية، وتعلم الفلسفة ولَفَّقَها بشيء من =
قوله: (والقرامطة الباطنية) الباطنيةُ صفةٌ موضِّحة؛ لأنَّ كلَّ قرمطيٍّ باطنيٌّ، وإن كانت الباطنية أعم، فيدخل فيها كل من جعل للنصوص ظاهراً وباطناً، فيدخل فيهم: الإسماعيلية، والنُّصيرية، والدروز، والاتحادية من ملاحدة الصوفية.
وقد تطلق القرامطة ويراد بها: الباطنية بمعناها العام؛ لأن القرامطة هم سلف الباطنية وأصلهم.
وأكثر ما تطلق الباطنية على الرافضة، وكما قال بعض العلماء:«يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض»
(1)
.
فهُم في الحقيقة كفارٌ أعداءٌ لله ورسله والمؤمنين، وإن كانوا يتسترون ويُظهرون حب آل البيت.
والقرامطة؛ هم: الطائفة التي ظهرت في «الأحساء» آخر القرن الثالث، فعاثوا في الأرض فساداً بقيادة «أبي طاهر الجَنَّابي»
(2)
الذي قَتَل الحجيج، وقلع الحجرَ الأسود.
=كلام الجهمية والمعتزلة، وكان يقول بقدم العالم، وينفي المعاد الجسماني، وله طوام أخرى، ألف نحو مائة كتاب في الفلسفة، والطب، وغيرها. مات سنة 428 هـ. وقد كفَّره جمع من علماء المسلمين، وقد تعقب كثيراً من أقواله الإمام ابن تيمية في عدد من كتبه ك «الرد على المنطقيين» ، و «درء التعارض» ، و «منهاج السنة» ، و «الصفدية» ، و «مجموع الفتاوى» ، وبين ضلاله وزندقته.
انظر: «عيون الأنباء» ص 437، و «الرد على المنطقيين» ص 183، و «مجموع الفتاوى» 9/ 40، و «لسان الميزان» 2/ 538.
(1)
«مجموع الفتاوى» 9/ 134، و 11/ 581، و «الرد على المنطقيين» ص 184.
(2)
سليمان بن الطاغية الحسن بن بهرام، الهَجَري، الزنديق، الطاغية، رئيس القرامطة. وكان قتله للحجيج، وأخذ الحجر الأسود يوم التروية سنة 317 هـ-، هلك بالجدري سنة 332 هـ. =
وسموا «قرامطة» نسبة إلى أحد زعمائهم؛ وهو: «حمدان قِرْمِط»
(1)
، واسم «القرامطة» قد يطلق على «الباطنية» عموماً، وقد يراد به طائفة من طوائفهم، مثل: اسم «الجهمية» نسبة إلى «الجهم بن صفوان» ، وقد يطلق هذا اللقب على بدعة «التعطيل» خاصة، فيقال: فلان جهمي، أو فيه تجهم، أي: تعطيل للصفات، وإن كان الجهم جمع عدة بدع؛ كالجبر في القدر، والإرجاء في الإيمان.
وقد ذكر الشيخ هنا أن هؤلاء الزائغين عن طريقة المرسلين من المتفلسفة، والجهمية، والباطنية، ونحوهم على ضد منهج الرسل، ذلك أنهم يصفون الله تعالى بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل.
الصفاتُ السلبيةُ؛ هي: صفات النفي.
ووصف الله تعالى بالصفات السلبية، أي: وصف الله تعالى بالنفي غير ممتنع، ولكنْ عَيْبُ هؤلاء في هذا الباب يَظهر في مخالفتهم لطريقة الرسل من وجوه:
1 -
التفصيل في النفي.
2 -
عدم إثبات شيء من الصفات الثبوتية.
= انظر: «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» 13/ 281، و «سير أعلام النبلاء» 15/ 320، و «البداية والنهاية» 15/ 37.
(1)
«الأنساب» 10/ 387، و «المنتظم» 12/ 289، وذكر ستة أقوال في سبب تسميتهم ب «القرامطة» ، هذا أحدها. وليس له ترجمة في عامة كتب التراجم، وإنما له ذكر مختصر في كتب التاريخ في بداية نشأة القرامطة.
3 -
أن ما يصفون الله تعالى به من الصفات السلبية لا يتضمن إثباتاً عندهم.
قوله: (ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً) الوجود المطلق: ضد الوجود المعين، مثل: لفظ الإنسان المطلق، والإنسان المعين؛ فقولك - مثلاً -:«الإنسان حيوان ناطق» ، أو:«كائن حي» ، فهذا هو الإنسان بمعناه المطلق، وهو تفسيرٌ لحقيقة الإنسان بالمعنى العام، ولا تقصد بذلك إنساناً معيناً.
أما إذا قلت: «فلان إنسان» ، أو:«هذا الإنسان» ؛ فإنك تقصد بلفظ «الإنسان» شيئاً معيناً.
فالإنسان بالمعنى المطلق لا يوجد في الخارج - أي: خارج الذهن -، وإنما يوجد في الخارجِ الإنسانُ المعين.
وكذلك الوجود، فقولك:«وجودِي» ، أو «وجودك» ؛ فهذا وجود معين.
وقولك: «الوجود» ؛ فهذا المعنى: وجود مطلق مشترك بين سائر الموجودات.
وإثباتهم لله وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحقيق، لأن الوجود المطلق لا يوجد إلا في الأذهان، ولا يمكن أن يوجد في الأعيان وفي الخارج، لأنه لا يوجد في الخارج والأعيان إلا الوجود المعين في الأفراد.
وما يوجد في الذهن قد يكون موجوداً في الخارج، وقد يكون ممكن الوجود في الخارج، وقد يكون ممتنع الوجود في الخارج.
ومن أنواع الوجود الذهني الذي يمتنع تحققه في الخارج: «الوجود المطلق» .
وهؤلاء الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالصفات السلبية المحضة على وجه التفصيل؛ يستلزم قولهم غاية التعطيل، وغاية التمثيل.
أما استلزامه غاية التعطيل؛ فلأنه يَؤُول إلى إنكار وجود الله تعالى؛ حيث عطلوا الله تعالى عن أسمائه وصفاته تعطيلاً يستلزم نفي الذات؛ لأنه يمتنع وجود ذات مجردة عن الصفات، ولهذا قال الشيخ:(ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات).
وأما استلزامه غاية التمثيل؛ فلأنهم مثَّلوه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات.
فإذا قالوا: «إنه لا يتكلم، ولا يسمع، ولا يبصر» ؛ ففي هذا تشبيه له بالجمادات، وإذا قالوا:«إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يرى» ؛ ففي هذا تشبيه له بالمعدومات، وإذا قالوا:«إنه ليس بحي، ولا ميت، ولا موجود، ولا معدوم» ؛ ففي هذا تشبيه له بالممتنعات.
* * *
مذهب غلاة المعطلة
فغاليتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون:«لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل» ، لأنهم - بزعمهم - إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بَدائِهِ العقول، وحرفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في شرٍّ مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات؛ إذ سلب النقيضين؛ كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات.
وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بُدَّ له مِنْ مُوجِد، واجب بذاته، غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم. فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلاً عن الوجوب، أو الوجود، أو القِدَم.
بعد أن ذكر الشيخ مذهب المعطلة على جهة الإجمال؛ وهو: «أنهم لا يصفون الله تعالى إلا بالصفات السلبية على جهة التفصيل،
ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً» فهذا قدر مشترك بينهم، ولكنهم طوائف، فهم ليسوا على درجة واحدة، ففيهم غلاة، وفيهم دون ذلك.
بعد ذلك شرع الشيخ في ذكر تفصيل مذاهب المعطلة:
فمذهب غلاة المعطلة أنهم يصفون الله تعالى بسلب النقيضين.
والنقيضان في اصطلاح المناطقة: «هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً»
(1)
؛ ك «الوجود، والعدم» ، و «الحركة، والسكون في الشيء الواحد والوقت الواحد» .
فهؤلاء الغلاة يقولون عن الله تعالى: (إنه لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل)، وهلم جرًّا
(2)
.
فالتعطيل: سلب الصفات الثبوتية عن الرب تعالى، أما هؤلاء فغلوا حتى سلبوا عنه النقيضين، أي: الصفة ونقيضها. وهذا المذهب يصدق على الباطنية القرامطة.
وشبهتهم في ذلك - حسب زعمهم - (أنهم إذا وصفوه بالإثبات؛ شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي؛ شبهوه بالمعدومات)، فسلبوا عنه النقيضين فراراً من تشبيهه بالموجودات والمعدومات!.
وقد رد عليهم الشيخ وبين فساد مذهبهم، فذكر أن هذا القول - أي: سلب النقيضين - ممتنع في بداهة العقول، أي: أن فساده وامتناعه أمرٌ بدهي مدرك، لا تحتاج معرفته إلى نظر وطول فكر.
(1)
«شرح الكوكب المنير» 1/ 68، و «آداب البحث والمناظرة» ص 43.
(2)
«درء التعارض» 3/ 367، و «مجموع الفتاوى» 5/ 197 و 274 و 6/ 516، و «منهاج السنة» 1/ 149 و 2/ 311.
ثم بيَّن أنهم فروا من تشبيهه بالموجودات والمعدومات؛ فوقعوا في شرٍّ من ذلك، ألا وهو: التشبيه بالممتنعاتِ، فالموجودُ أكملُ من المعدومِ، والمعدومُ الممكنُ أكملُ من المعدومِ الممتنعِ؛ إذ المعدوم قد يكون ممكناً، وقد يكون ممتنعاً، فكلُّ ممتنعٍ معدومٌ، وليس كلُّ معدومٍ ممتنعاً، فسلبُ النقيضين؛ كجمع النقيضين، كلاهما ممتنع.
وقد جرَّهم هذا المذهب الباطل الذي خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إلى تحريف نصوص الوحيين.
والمقصود بالتحريف هنا: التحريف المعنوي.
وتحريف الباطنية للنصوص الشرعية شرُّ أنواع التحريف، فإنه ليس عليه أي دليل؛ بل هو صرف للنص الشرعي عن ظاهره دون أي دليل ولا قرينة، فهو مِنْ باب اللعب بمعاني الألفاظ الشرعية، كتحريفهم معنى قول الله تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان (19)} [الرحمن]، قالوا:«علي وفاطمة»
(1)
، وفي قوله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب (1)}
(2)
، قالوا:«أبو بكر وعمر» ، وهكذا تحريفهم لمعاني الشرائع
(3)
.
(1)
انظر من تفاسير الرافضة: «التفسير الصافي» 5/ 109، و «الميزان في تفسير القرآن» 19/ 103، واستدل به الرافضي ابن المطهر في «منهاج الكرامة» - كما في «منهاج السنة» 7/ 244 - وردَّ عليه شيخُ الإسلام.
(2)
أي: «هما يدا أبي لهب» !، حكاه عنهم شيخ الإسلام في:«مقدمة في أصول التفسير» ص 220، و «رسالة في علم الظاهر والباطن» ص 237، و «شرح الأصبهانية» ص 526.
(3)
سيأتي بيان تحريفهم في ص 231.
وأيضاً فإن من أدلة فساد قولهم هذا أي: - سلب النقيضين وتشبيه الله تعالى بالممتنعات - أنهم ناقضوا فيه ما علم بالاضطرار من أن الوجود - أي هذا الكون - لا بدَّ له مِنْ مُوجِد واجب بذاته، والواجب؛ هو: الذي لا يجوز عليه الحدوث، ولا العدم.
وقوله: (غني عمَّا سواه) أي: لا يفتقر إلى غيره، وهذا من لوازم وجوبِ وجوده.
وقوله: (قديم) هذه صفة موضِّحة؛ لأنه لو لم يكن قديماً لم يكن واجباً، فالقِدمُ من لوازم وجوب وجوده.
وقد شاع عند أهل الكلام إطلاق «القديم» عَلَماً على الله تعالى، والصواب: أن «القديم» ليس من أسماء الله الحسنى
(1)
، وإن كان يجوز الإخبار عنه تعالى بذلك؛ لأن «القديم»؛ هو: المتقدم على غيره، والله متقدم على كل شيء، فلا بداية لوجوده.
والقِدم نوعان:
* قِدم نسبي؛ كتقدم الأب على ابنه.
* وقِدم مطلق، وهو: التقدم على كل شيء، وهذا خاص بالله تعالى، ويدل على ذلك اسمه «الأول» ، كما فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:«أنت الأول؛ فليس قبلك شيء»
(2)
فهذا المعنى حقٌ.
(1)
«منهاج السنة» 2/ 123 و 495، و «الصفدية» ص 369.
(2)
رواه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قوله: (أزلي) هذه كلمة مؤكِدة لما قبلها، فهي تأكيد لكلمة «قديم» ، ف «أزلي» نسبة إلى «الأَزَل» ؛ وهو مقابل ل «الأبد» ، ف «الأزلي»: ما لا بداية له، و «الأبدي»: ما لا نهاية له
(1)
.
والفرق بين القديم، والأزلي: أن القديم: «ما لا بداية لوجوده» ، والأزلي:«ما لا بداية له مطلقاً، وجودياً كان أو عدمياً» . فهو أعم من القديم
(2)
.
قوله: (لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم) هذا تأكيد لما سبق، وهو وصف لواجب الوجود.
قوله: (فوصفوه بما يمتنع وجوده) وهو سلب النقيضين، فهؤلاء وصفوا الله تعالى بما يجعله ممتنعاً، فضلاً عن أن يكون موجوداً، أو واجبَ الوجودِ، أو قديماً.
(1)
«درء التعارض» 3/ 37، و «التوقيف على مهمات التعاريف» ص 29، «تاج العروس من جواهر القاموس» 27/ 442.
(2)
مذهب الفلاسفة الإلهيين
وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسُّلُوب، والإضافات، دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
بعد أن ذكر الشيخ الطائفة الأولى من الزائغين عن منهج المرسلين في مسألة الصفات؛ وهم: الباطنية الذين يصفون الله بسلب النقيضين؛ ذكر الطائفة الثانية ممن قاربوهم في ضلالهم، وإن كانوا أخف منهم؛ وهم طائفة من الفلاسفة الإلهيين؛ لأن من الفلاسفة:
* من يثبت لله تعالى الصفات في الجملة.
* ومنهم المعطلة، وفي مقدمتهم:«معلمهم الأول» ، و «الثاني الفارابي»
(1)
، و «ابن سينا» ، فهؤلاء وصفوا الله تعالى «بالسُّلُوب» أي: بالصفات، أي: صفات النفي.
(1)
محمد بن محمد بن طرخان بن أَوْزَلَغ، أكبر الفلاسفة المنتسبين للإسلام، ومِن كتبه تخرج ابنُ سينا، كان يحسن عدة لغات، وهو واضع آلة الموسيقى المسماة ب «القانون» ، له تصانيف كثيرة في «المنطق» ، و «الطب» ، و «الموسيقى» ، وفي كتبه ما في كتب الفلاسفة من الضلال والكفر بالله. وقد تعقب جملة من أقواله =
و «الإضافات» ؛ هي: الصفات الإضافية، والإضافة؛ هي: النسبة، والشيء الإضافي؛ هو: الشيء النسبي، فهو ليس أمراً وجودياً؛ بل أمر اعتباري معنوي.
فالصفة الإضافية؛ هي: المعنى الذي لا يعقل إلا بوجود مقابل له، ومثال ذلك:«القَبْلِيَّة» ، و «البَعْدِيَّة» ، و «الأُبوة» ، و «البُنوة» .
فالقبلية - مثلاً - ليست صفة ذاتية للشيء؛ بل صفة باعتبار ما بعده، وكذا الأبوة، فهي صفة باعتبار ابنه، وإن كان هذا الأبُ ابناً باعتبار أبيه، فهو اكتسب الصفة بالنسبة لغيره، وليست صفة ملازمة له؛ ك «يَدِه» ، و «طوله» ، و «لونه» .
ويلاحظ أن هذه الصفات الإضافية لا وجود لها حقيقة، وإنما وجودها عقلي معنوي.
ومن الأمثلة التي تذكر لذلك تسمية الفلاسفة لله تعالى «العلة الأولى» ، وهذا مثل تسمية المتكلمين لله تعالى ب «القديم» .
فكون الشيء علة يقتضي معلولاً، فالعِلِّية صفة إضافية باعتبار وجود معلول، فهي صفة إضافية نسبية لا وجود لها حقيقة، بخلاف صفة «الخَلق» ، واسم «الخالق» فالله تعالى هو الخالق اسماً وَوصفاً، ولو لم يُوجد خلق، فهو لم يكتسب هذه الصفة من شيء خارج عنه
= الإمامُ ابن تيمية في عدد من كتبه؛ ك «درء التعارض» ، و «الرد على المنطقيين» ، و «مجموع الفتاوى» ، مات بدمشق عام 339 هـ وقد ناهز الثمانين.
انظر: «وفيات الأعيان» 5/ 153، و «عيون الأنباء» ص 603، و «مجموع الفتاوى» 2/ 67 و 86، و «سير أعلام النبلاء» 15/ 416، و «إغاثة اللهفان» 2/ 279.
وهو الخلق - كما تكتسب العِلةُ وصفَ العِلِّية باعتبار وجودِ المعلول، وكما يكتسب الأبُ وصفَ الأبوةِ بوجود ابن له.
ومن أسباب منع إطلاق لفظ «العلة الأولى» على الرب تعالى - والتي يقصد بها الفلاسفة: «العِلة التامة التي يستلزم وجودها وجود المعلول» - أنه يلزم من هذا اللفظ: أن وجود الرب يستلزم وجود المخلوقات، وهذا باطل؛ لأن وجود الله تعالى لا يلزم منه وجود مخلوقاته، ولهذا نَجِد الفلاسفة الذين أطلقوا هذا اللفظ والوصف على الله تعالى؛ قالوا بقدم العالم لهذا السبب.
فالفلاسفة لا يصفون الله تعالى بصفات الإثبات؛ بل بالسلوب، والإضافات، ويجعلونه؛ هو (الوجود المطلق بشرط الإطلاق)
(1)
أي: وجود لا يقيد بأي صفة؛ بل يقيد بالإطلاق، أي: بأن يقال: هو «الوجود المطلق» ، وهو ما يقابل «الوجود المعين» ، كما لو قلت:«الإنسان» ، فهذا مطلق لا بشرط الإطلاق، أي: غير مقيد.
وإذا قلت: «الإنسان المطلق» ، فهذا مطلق بشرط الإطلاق، أي: مقيد بالإطلاق، ولا يمكن وجوده في الخارج، بخلاف ما لو قلت:«إنسان» دون تقييده بالإطلاق، فإنه يوجد في الخارج معيناً، ويمكن أن تقيده أيضاً ببعض الصفات، كما لو قلت:«إنسان كبير» ، أو «أسود» ، ونحو ذلك.
(1)
«شرح حديث النزول» ص 97، و «درء التعارض» 1/ 286 و 3/ 362، و «منهاج السنة» 2/ 187، و «الصفدية» ص 141.
وقد عُلم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا «العِلْمَ» عين «العَالِمِ» ، مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين «العلم» ، و «القدرة» ، و «المشيئة» جحداً للعلوم الضروريات.
أي: علم بالعقل الصريح، أي: السليم الذي لا يعتريه شك ولا شبهة: أن هذا - أي: الوجود المطلق - لا يوجد إلا في الذهن، دون ما خرج عنه من الموجودات.
ومن مقولات الفلاسفة: «أن الصفة هي الموصوف» ، و «أن كل صفة هي الصفة الأخرى» ، فلا فرق بين معنى صفة وأخرى، ف «العِلم» ؛ هو «القدرة» ، و «القدرة» ؛ هي «الإرادة» ، و «الإرادة» ؛ هي «الحياة» ، ونحو ذلك.
ويجعلون (العِلم) هو (العالِم)، فيكابرون القضايا البديهيات، ويجحدون العلوم الضروريات.
* * *
مذهب المعتزلة ومن اتبعهم
وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام، من المعتزلة، ومَنِ اتَّبعهم، فأثبتوا لله الأسماء دون ما تضمنته من الصفات، فمنهم من جعل «العليم» ، و «القدير» ، و «السميع» ، و «البصير» ؛ كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال:«عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر» ، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات.
والكلامُ على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول؛ مذكورٌ في غير هذه الكلمات.
أي: قاربَ الفلاسفةَ طائفةٌ من أهل الكلام من المعتزلة، ومَنِ اتَّبعهم، وإن كانوا ليسوا كالفلاسفة في الضلال، فهم أثبتوا لله تعالى الأسماء دون ما تضمنته من الصفات.
وأهل الكلام؛ هم: «الذين يعتمدون على نظريات فلسفية، واستدلالات عقلية في باب الاعتقاد» .
وسموا ب (أهل الكلام)؛ إما لكثرة كلامهم وجدلهم، أو لأن أعظم قضية وقع فيها الخلاف بين الأمة؛ هي: مسألة «كلام الله تعالى» .
وعلم الكلام؛ هو: «تلك العلوم، والنظريات، والشبهات، والجدليات، في أبواب الاعتقاد» .
وقد صار في عرف بعض المتأخرين عَلَماً على عِلم «التوحيد» ، والصواب أنه لا ينبغي تسمية علم «أصول الدين» بعلم «الكلام» ؛ لأن الكلامَ مذمومٌ، والعقيدة المستمدة من كلام الله ورسوله وقضاياها وأدلتها؛ ليست من الكلام المذموم.
وأشهر طوائف المتكلمين: المعتزلة الذين كان لهم صولة وجولة في عهد المأمون، لما أحاطوا به، وأثروا فيه، وألَّبُوه على كل من يخالفهم في الرأي، لا سيما أهل السنة والجماعة.
ويَدخل فيمن تبع المعتزلةَ: الرافضةُ، والزيديةُ، فإنهم اعتنقوا كثيراً من أصول المعتزلة في باب «الأسماء والصفات» ، وفي «حكم أهل الكبائر في الآخرة»
(1)
.
والقاسم المشترك بين المعتزلة في باب «الأسماء والصفات» أنهم يثبتون «الأسماء» وينفون «الصفات» ، ثم يختلفون في التعبير، فمنهم مَنْ يقول:«إن أسماء الله تعالى؛ كالأَعْلَام المحضة المترادفة» .
والعَلَمُ المحض؛ هو: «اللفظ الذي لا يدل إلا على العلمية، ولا يدل على الوصفية في شيء» ؛ كمن سمي: «حافظاً» ، و «صالحاً» ، و «محمداً» ، ولم يكن مُتَّصفاً بمعاني هذه الأسماء.
فجردوا أسماء الله تعالى عمَّا تضمنته من المعاني.
(1)
«منهاج السنة» 1/ 9 و 72 و 2/ 302.
ومنهم مَنْ يقول: (عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر).
والفرق بين هؤلاء ومَن قبلهم: أن هؤلاء لم يطلقوا اسم الله تعالى إلا مقروناً بالتصريح بنفي ما تضمنه من الصفة، أما الأولون فليسوا كذلك، وإن كان الجميعُ متفقينَ على نفي الصفة، وإنما الخلاف بينهم في التعبير فقط.
وأشار الشيخ إلى فساد مقالة هؤلاء، ومناقضتها لصريح المعقول، المطابق لصحيح المنقول، ومِن أدلة هذا التناقض وعلاماته: التسوية في الحكم بين المختلفات، أو التفريق بين المتماثلات؛ كنفيهم للصفات مع إثباتهم للأسماء، مع أن الجميع قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة، وكلها مضافة إلى الله تعالى، فيلزمهم إما أن يثبتوا الجميع، أو ينفوا الجميع
(1)
، وسيأتي مزيد كلام في ذلك
(2)
.
(1)
«منهاج السنة» 2/ 115.
(2)
ص 185.
منشأ ضلال هذه الطوائف
وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء؛ فيقعون في نظيره، وفي شرٍّ منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر؛ لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولاتِ المشبَّهة بالمعقولات، يُسَفْسِطُون في العقليات، ويُقَرْمِطُون في السمعيات.
بعد أن عرض الشيخ مذاهب المعطلة باختلاف طوائفهم، بيَّن أنهم يفرون من شيء؛ فيقعون في نظيره، وفي شرٍّ منه
(1)
.
فالغلاة فروا من تشبيهه بالموجودات والمعدومات؛ فلزمهم التشبيه بالممتنعات، وهذا أقبح من التشبيه بالموجود، أو المعدوم الممكن، وإن كان الجميع باطلاً.
(1)
الصفدية ص 127.
وهكذا الفلاسفة ينفون عن الله الصفات بشبهة أن إثباتها يلزم منه التركيب.
وكلُّ من نفى شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فراراً من شيء؛ فلا بد أن يقع في نظيره، أو في شرٍّ مما فرَّ منه، ولو أن هؤلاء جميعهم أمعنوا النظر؛ لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما هو مقتضى العقول السليمة المتجردة عن الأهواء المضلة، والتعصب.
كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21]، وقال تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار (28)} [ص].
ومن أدلة مناقضة مذهب الفلاسفة للمعقول: تسويتهم بين المختلفات، كما سووا بين الصفات، وجعلوا هذه الصفة هي الصفة الأخرى، كما سبق
(1)
.
ومن أدلة مناقضة مذهب المعتزلة للمعقول: تفريقهم بين المتماثلات، كما فرقوا في الإثبات بين أسماء الله وصفاته، فأثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، كما سبق
(2)
.
فلو أن هؤلاء كانوا من أصحاب النظر الصحيح، والعقل الصريح؛ لما وقعوا في هذا التناقض، وَلَكَانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد.
(1)
ص 139.
(2)
ص 140.
ولكن هؤلاء الضُّلَّال المعطلة ليسوا من أهل العقل ولا النقل؛ بل هم من أهل القضايا المجهولات التي يظنونها ويزعمونها قضايا عقلية، كما إذا قالوا:«إن الوجود المطلق موجود في الخارج» ، أو:«إن العِلم هو العالِمِ» .
ومعنى قوله: (يسفسطون في العقليات) أي: يقفون من العقليات موقف أهل «السفسطة» منها؛ وهو: المكابرة والإنكار
(1)
.
ومعنى قوله: (يقرمطون في السمعيات) أي: يفعلون في السمعيات فعل القرامطة، وهو اللعب بمعانيها وصرفها عن ظاهرها إلى معانٍ أخرى لا يحتملها اللفظ، ولا يدل عليها السياق
(2)
.
* * *
(1)
ذكر شيخ الإسلام في «بيان تلبيس الجهمية» 2/ 337: أن «السفسطة» : «كلمة مُعَرَّبة، وأصلها باليونانية «سوفسقيا» أي: حكمة مموهة؛ فإن «صوفيا» باليونانية؛ هي: الحكمة، ولهذا يقولون:«فيلاسوفا» أي: محب الحكمة».
وقال في «منهاج السنة» 7/ 464: «السفسطة في العقليات؛ هو القدح فيما علم بالحس والعقل بشُبه تعارض ذلك، فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشبه؛ فقد سلك مسلك السفسطة؛ فإن السفسطة أنواع:
أحدها: النفي والجحد والتكذيب؛ إما بالوجود أو بالعلم به.
والثاني: الشك والريب. وهذه طريقة اللاأدرية الذين يقولون: «لا ندري» ، فلا يثبتون ولا ينفون، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم، وهو نوع من النفي؛ فعادت السفسطة إلى: جحد الحق المعلوم، أو جحد العلم به.
وانظر أيضًا: «منهاج السنة» : 2/ 525، و «الصفدية» ص 128.
(2)
تقدم أمثلة لذلك في: ص 133.
ذكر الدليل العقلي على وجود الواجب، وبيان ما بين الواجب والممكن من قدر مشترك
وذلك أنه قد عُلم بضرورة العقل أنه لا بُدَّ من موجود، قديم، غني عمَّا سواه؛ إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات؛ ك «الحيوان» ، و «المعدن» ، و «النباتِ» ، والحادثُ ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَثَ لا بُدَّ له مِنْ محدِثٍ، والممكنَ لا بدَّ له من واجبٍ، كما قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون (35)} [الطور]، فإذا لم يكونوا خُلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون لأنفسهم؛ تعين أن لهم خالقاً خلقهم.
وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدَث ممكن، يقبل الوجود والعدم؛ فمعلوم أن هذا موجود، وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى «الوجود» أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا؛ بل وجود هذا يخصُّه ووجود هذا يخصُّه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند «الإضافة» ، و «التقييد» ، و «التخصيص» ، ولا في غيره.
فلا يقول عاقلٌ إذا قيل: «إن العرش شيء موجود» ، و «إن البعوض شيء موجود» إن هذا مثل هذا؛ لاتفاقهما في مسمى «الشيء» ، و «الوجود» ؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما
يشتركان فيه؛ بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق.
وإذا قيل: «هذا موجود وهذا موجود» ، فوجود كل منهما يخصُّه لا يَشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقةٌ في كلٍّ منهما.
يريد الشيخ أن يبين أن إثبات الصفات لله تعالى لا يلزم منه تمثيله بخلقه، كما أن الله تعالى موجود والمخلوق موجود، ولا يلزم من ذلك تماثلهما في صفة «الوجود» ، فمَهَّد لذلك بذكر الدليل على إثبات موجود واجب، وموجود ممكن، فقال: (وذلك أنه قد عُلم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عمَّا سواه
…
) إلخ.
فقرر الشيخ أن من المعلوم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه، ودليل ذلك ما نشاهده من حدوث المحدثات - أي: المخلوقات - ك (الحيوان)، و (المعدن)، و (النبات)؛ لأن المحدَث ممكن الوجود، فليس بواجب؛ لأن عدمَه قبل وجوده؛ ينفي وجوبه، لأن الواجبَ لا يَعدَم.
وليس بممتنع؛ لأن الممتنع لا يمكن أن يوجد؛ فوجوده ينفي امتناعه.
فالأشياء في حكم العقل ثلاثة: واجب، وممكن، وممتنع.
فالواجب: ما لا يقبل الحدوث، ولا العدم.
والممكن: ما يقبل الوجود، والعدم.
والممتنع: ما لا يقبل الوجود.
فهذه المحدثات لا بُدَّ لها من موجِد محدِث لها، كما هو موجَب العقل والفطرة، ودليل ذلك ما ذكره تعالى من الدليل العقلي في قوله:({أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون (35)}) أي: أخُلقوا من غير خالق؟! أم هم الخالقون لأنفسهم؟!
فالمخلوق لا يخلو: إما أن يكون خلقَ نفسَه، أو: وُجد من غير خالق، أو: أن يكون له خالقٌ خلقه. وهذا هو الحق، والأولان باطلان ممتنعان.
والمحدِثُ الخالق الذي تنتهي إليه المحدثات؛ يمتنع أن يكون محدَثاً مخلوقاً؛ بل يجب أن يكون واجباً؛ قطعاً للتسلسل، فإن التسلسل في الفاعِلين والمفعولين؛ ممتنع.
ومعنى التسلسل في الفاعِلين والمفعولين: «أنه ما من فاعلٍ إلا وله فاعلٌ إلى ما لا نهاية» ، وهذا باطل؛ لأن ذلك يستلزم ألَّا يوجد شيء، والوجود ثابت بالحس
(1)
.
فطريق العلم بالواجب؛ هو: «العقل» ، بدلالة الآيات الكونية.
وطريق العلم بجنس المحدَث؛ هو: «الحس» .
(1)
«منهاج السنة» 2/ 116.
وقوله: (وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن
…
) إلخ، تقدم الدليل الضروري العقلي على وجود الواجب القديم، وأن الموجود المحدَث معلوم بالحس؛ فإذا كان من المعلوم بالاضطرار أن في الوجود ما هو واجب، وما هو ممكن، وكلٌّ منهما يصدق عليه أنه موجود، ف «الله» تعالى موجود، و «الإنسان» موجود، وسائر المخلوقات موجودة؛ فالخالق والمخلوق يتفقان في مسمى «الوجود» ، أو «الموجود» ، عند الإطلاق والتجريد عن «الإضافة» ، و «التخصيص» ، و «التقييد» .
فإذا قيل: «موجود» ، فهذا الاسم يصدق على كلِّ ذي وجود؛ ف «الموجود» ضد «المعدوم» ، فيدخل فيه كل موجود، سواء كان واجباً، أو ممكناً، ولكن لا يلزم من اتفاقهما عند «الإطلاق» ، و «التجريد» تماثلهما عند «الإضافة» ، و «التخصيص» ، و «التقييد» ؛ بل وجود «الواجب» مختص به، ووجود «الممكن» مختص به، فالوجود المطلق معنى مشترك في مدلوله، ومسماه، ومعناه لا يختص به الخالق ولا المخلوق.
وإذا قيل: «الوجود الواجب» ؛ فيختص بالموجود الواجب، أما إذا قيل:«الوجود الممكن» ؛ فيختص بالموجود الممكن.
فعند (الإضافة)، و (التخصيص)، و (التقييد)؛ لا يقع الاشتراك؛ بل يأخذ كلٌّ ما يخصه.
و (الإضافة)، و (التخصيص)، و (التقييد): تنويع في التعبير؛ لأن (الإضافة) تتضمن «تقييداً» ، و (التقييد) فيه «تخصيص» .
وبهذا يعلم أنه لا يلزم من الاشتراك بالاسم العام تماثل المسميين المتغايرين في خصائصهما.
ويضرب الشيخ لذلك مثلاً بوجود «العرش» و «البعوضة» ، ف «العرش» موجود، و «البعوضة» موجودة، ولا يلزم من وصف كل منهما بالوجود، أن يكونا متماثلين، بل لكلٍّ منهما وجود يخصه ويناسبه، وإن كانا متفقين في مسمى الاسم المطلق والمعنى العام المشترك للفظِ الوجود الذي لا وجود له في الخارج، وإنما يوجد في الذهن.
فالاشتراك بين «العرش» و «البعوضة» إنما هو في مسمى الوجود العام الكلي المشترك، الذي لا يوجد إلا في الذهن.
أما في الخارج فلا اشتراك بينهما، فليس في الخارج شيء اشتركا فيه.
ف «للعرش» وجود يخصه، و «للبعوضة» وجود يخصها، واسم الوجود حقيقة في كلٍّ منهما، كما هو حقيقة في كلِّ موجود.
وإذا لم يلزم من اتفاقِ «العرش» ، و «البعوضة» في مسمى (الشيء) و (الوجود) عند «الإطلاق» تماثلُ مسماهما - أي: تماثل مسمى «الشيء» ، و «الوجود» في «البعوضة» ، و «العرش» - عند (الإضافة)، و (التخصيص)، و (التقييد)، وهذا بينَ مخلوقٍ ومخلوق؛ فمن باب أولى ألَّا يلزم ذلك بين الخالق والمخلوق.
فلفظ «وجود» ، أو «موجود» باعتبار «الإطلاق» ، و «التقييد» لها ثلاث حالات، ويختلف المدلول باختلاف هذه الأحوال:
فمدلوله عند «الإطلاق» ؛ هو: المعنى المشترك بين الخالق والمخلوق، وعند الإضافة إلى الخالق ما يختص به الخالق من الوجود، وعند الإضافة إلى المخلوق ما يختص به المخلوق من الوجود.
وهكذا القول في سائر ما ورد من الأسماء مضافاً إلى الله، ومضافاً إلى بعض العباد
(1)
.
* * *
(1)
«منهاج السنة» 2/ 117 و 587 و «مجموع الفتاوى» 2/ 350.
ثبوت القدر المشترك في جميع ما ورد من الأسماء حال الإطلاق، وبيان أن ذلك لا يستلزم التماثل بين أسماء الله وأسماء العباد
ولهذا سمَّى اللهُ نفْسَه بأسماءٍ، وسمَّى صفاتِه بأسماءٍ، فكانت تلك الأسماءُ مختصةً به إذا أضيفت إليه لا يَشركه فيها غيره، وسمَّى بعضَ مخلوقاتِه بأسماءٍ مختصة بهم، مضافة إليهم، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن «الإضافة» ، و «التخصيص» ، ولم يلزمْ مِنْ اتفاقِ الاسمين، وتماثلِ
(1)
مسماهما، واتحادِه عند «الإطلاق» ، والتجريد عن «الإضافة» ، و «التخصيص»: اتفاقُهما
(2)
، ولا تماثلُ المسمى عند «الإضافة» ، و «التخصيص» ، فضلاً عن أنْ يتحد مسماهما عند «الإضافة» ، و «التخصيص» .
بعد أن قرر الشيخ قاعدة اختلاف مدلول اللفظ ب (الإطلاق)، و (التقييد)، وأنه لا يلزم من اتفاق المسميين في اسم عند (الإطلاق) تماثلهما في معناه عند (التقييد)، كما وضح ذلك في لفظة (موجود): أراد
(1)
في المطبوع «تماثلِ» ورجح الشارح إضافة «و» . وقد أشار محقق المطبوع في الحاشية إلى أنها ثابتة في بقية النسخ عدا ما اتخذه أصلاً.
(2)
في المطبوع «لا اتفاقُهما» ورجح الشارح حذف «لا» . وقد أشار محقق المطبوع في الحاشية إلى أن بقية النسخ عدا ما اتخذه أصلاً؛ بدونها.
أن يبين حال الاتفاق، وحال الاختلاف في أسماء الخالق والمخلوقِ، فاللفظ الذي يطلق على الخالق والمخلوقِ له ثلاث حالات يختلف معناه باختلافها:
1 -
حال الإطلاق، ومدلوله: معنى كلي مشترك.
2 -
حال الإضافة إلى الخالق، ومدلوله: ما يختص بالرب تعالى.
3 -
حال الإضافة إلى المخلوق، ومدلوله: ما يختص بالمخلوق.
فأسماء الله تعالى المضافة إليه مختصة به، وأسماء العباد المضافة إليهم مختصة بهم.
وأسماء العباد توافق أسماء الله تعالى إذا قطعت عن (الإضافة)، و (التخصيص) - يعني - عند (الإطلاق)، والتجريد عن (الإضافة)، و (التخصيص).
ولا يلزم من اتفاقِ الاسمين، أي: اسم الخالق والمخلوق عند (الإطلاق) والتجريد عن (الإضافة) و (التخصيص) و (التقييد): تماثلُ مسماهما، فضلاً عن اتحاد مسماهما عند (الإضافة) و (التخصيص).
* * *
فقد سمَّى الله نفسه «حياً» ، فقال:{اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وسمَّى بعض عباده «حياً» ، فقال:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19]، وليس هذا «الحيُّ» مثلَ هذا «الحيِّ»؛ لأن قوله:{الْحَيُّ} اسم لله مختص به، وقوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به.
وإنما يتفقان إذا أُطلِقا وجُرِّدا عن «التخصيص» ، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم مِنَ المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند «الاختصاص» يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق.
ولا بُدَّ من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يُفهم منها ما دلَّ عليه الاسم ب «المواطأة» و «الاتفاق» ، وما دل عليه ب «الإضافة» و «الاختصاص» ، المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
لفظ (الحي) نجده في أسماء الله تعالى، كما نجده في أسماء المخلوقين، فالله تعالى يسمى ب (الحي)، كما أن المخلوق كذلك، ولكن ليس (الحي) الذي هو الله، أو اسم الله ك (الحي) الذي هو المخلوق.
وأما إذا قطع لفظ (الحي) عن (الإضافة) إلى الخالق أو المخلوق؛ فإنه يدل على معنى لفظ الحيِّ الكليِّ المشتركِ الذي هو مسمى الاسم المطلق، والذي لا وجود له إلا في الذهن، فليس في الخارج شيء اسمه (الحي) مشترك بين الخالق والمخلوق، ولكن العقل يفهم قدراً مشتركاً للفظ (الحي)، وهذا المعنى المشترك ثابت في حق الخالق كما هو ثابت في حق المخلوق، ولا بدَّ من هذا حتى تُفهم الألفاظ.
فإذا قلنا: (الحي) - مطلقاً دون إضافة إلى الخالق أو المخلوق - فإن مدلول هذه الكلمة: وجود حياة، أي: ضد الموت.
أما إذا أضيف إلى الله تعالى؛ كما في قوله سبحانه: ({اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ})؛ فإنا نفهم من لفظ (الحي) أنه تعالى ذو حياة، التي هي ضد الموت، وهذا مدلول اللفظ العام، كما أنا نفهم - أيضاً - أنه ذو حياة كاملة، لا يعتريها موت ولا نقص، فهي حياة واجبة، لا يعتريها الحدوث ولا العدم، ولا يعلم العباد كُنهها، وهذا مدلول اللفظ الخاص، أي: المضاف إلى الله تعالى.
كذلك إذا أضيف اسم (الحي) إلى المخلوق، كما في قوله تعالى:({يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ})؛ فإنا نفهم من اللفظ: الحياة التي هي ضد الموت، وهذا مدلول اللفظ العام ل (الحي)، كما أنا نفهم منه - أيضاً - أنها حياة حادثة بعدَ أن لم تكن، وأنها قابلة للفناء، ومعرضة للعلل والآفات، وهي حياة موهوبة من الله تعالى؛ كما قال تعالى:{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية: 26]، وهذا مدلول اللفظ الخاص المضاف إلى المخلوق.
وقول المؤلف في أسماء الله تعالى إنها: (يفهم منها ما دل عليه الاسم ب «المواطأة» و «الاتفاق») أي: مدلول الاسم العام المشترك.
وقوله: (وما دل عليه ب «الإضافة» و «الاختصاص»
…
) أي: ويفهم منه عند إضافته إلى الله تعالى المعنى الخاص بالرب سبحانه، الذي لا يشاركه فيه المخلوق، فلو فَسرت ما أضيف إلى الله تعالى بالمعنى العام الكلي المشترك فقط دون ما هو من خصائص الله تعالى؛ لم تكن أعطيتَه حقَّه من البيان لمعناه؛ لأن المعنى الكلي المشترك ليس من خصائص الرب سبحانه؛ بل هو مشترك بين الخالق والمخلوق، فعند «الإضافة» لا بدَّ أن يقيد بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والعكس كذلك.
* * *
وكذلك سمَّى اللهُ نفسَه «عليماً» «حليماً» ، وسمَّى بعضَ عبادِه «عليماً» ، فقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيم (28)} [الذاريات] يعني: «إسحاق» ، وسمَّى آخر «حليماً» فقال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيم (101)} [الصافات] يعني: «إسماعيل» ، وليس «العليم» ك «العليم» ، ولا «الحليم» ك «الحليم» .
وسمَّى نفسَه «سميعاً» «بصيراً» ، فقال:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء]، وسمَّى بعضَ عبادِه «سميعاً» «بصيراً» ، فقال:{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان]، وليس «السميع» ك «السميع» ، ولا «البصير» ك «البصير» .
وسمَّى نفسَه ب «الرؤوف» «الرحيم» فقال: {إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم (143)} [البقرة]، وسمَّى بعضَ عبادِه ب «الرؤوف» «الرحيم» ، فقال:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (128)} [التوبة]، وليس «الرؤوف» ك «الرؤوف» ، ولا «الرحيم» ك «الرحيم» .
وسمَّى نفسَه ب «الملك» ، فقال:{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23]، وسمَّى بعضَ عبادِه ب «الملك» ، فقال:{وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} [الكهف]، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] وليس «الملك» ك «الملك» .
وسمَّى نفسَه ب «المؤمن» ، فقال:{الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]، وسمَّى بعضَ عبادِه ب «المؤمن» ، فقال:} {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُون (18)} [السجدة]، وليس «المؤمن» ك «المؤمن» .
وسمَّى نفسَه ب «العزيز» ، فقال:{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، وسمَّى بعضَ عبادِه ب «العزيز» ، فقال:{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51]، وليس «العزيز» ك «العزيز» .
وسمَّى نفسَه «الجبار» «المتكبر» ، وسمَّى بعضَ خلقِه ب «الجبار» «المتكبر» ، فقال:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار (35)} [غافر]، وليس «الجبار» ك «الجبار» ، ولا «المتكبر» ك «المتكبر» .
ونظائر هذا متعددة.
أي: أن لفظة (عليم) أو اسم (عليم) عند «الإطلاق» يدل على مطلق العلم، أي ذو علم، وإن شئت قلت:«ذو علم كثير» ، لأن الكثرة والقلة من الأمور النسبية، فهذا المعنى الكلي المشترك يصدق في حق الخالق والمخلوق.
لكن (العليم) اسم الله تعالى يدل على ما يختص بالرب تعالى، وهو العلم الكامل الشامل المحيط بكل شيء، ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وإذا قيل: «عليم» اسم للمخلوق، فهو ما يختص به المخلوق من العلم الموهوب المحدود الذي يعتريه الخطأ والنسيان.
وهكذا في اسم (السميع)، فله معنى عام أي: ذو سمع، والسمع: ضد الصمم؛ وهو: إدراك الأصوات، وهذا المعنى الكلي المشترك لا يختص به الرب تعالى، أما إذا قيل:«إن الله سميع» ، فهذا كما يدل على المعنى العام المطلق يدل على المعنى الخاص بالله تعالى، وهو أنه يسمع جميع الأصوات، ليس بمحدود ولا موهوب، بل لم يزل سبحانه سميعاً سمعاً لا يعلم العباد كُنهه.
وهكذا يقال في بقية الأسماء التي ذكرها المؤلف، فيفهم من الاسم عند «الإطلاق» معنى كلي مشترك بين الخالق والمخلوق، ويفهم منه عند «الإضافة» ، و «التخصيص» ، و «التقييد» معنى خاص يليق بالخالق سبحانه وتعالى لا يَشركه فيه المخلوق، كما يفهم منه معنى خاص يليق بالمخلوق عند تسميته به.
* * *
ثبوت القدر المشترك في صفات الخالق والمخلوق حال الإطلاق وأنه لا يستلزم التماثل
وكذلك سمَّى صفاتِه بأسماء، وسمَّى صفاتِ عبادِه بنظير ذلك، فقال:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255]، وقال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين (58)} [الذاريات]، وقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
وسمَّى صفةَ المخلوق «علماً» ، و «قوة» ، فقال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا (85)} [الإسراء]، وقال:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم (76)} [يوسف]، وقال:{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]، وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير (54)} [الروم]، وقال:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، وقال:{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي: «بقوة» ، وقال:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} [ص: 17] أي: «ذا القوة» وليس «العلم» ك «العلم» ، ولا «القوة» ك «القوة» .
وكذلك وَصَفَ نفسَه ب «المشيئة» ، ووَصَفَ عبده ب «المشيئة» ، فقال:{لِمَنْ شَاء مِنكُمْ أَنْ يَسْتَقِيم (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين (29)} [التكوير]، وقال:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان].
وكذلك وَصَفَ نفسه ب «الإرادة» ، ووَصَفَ عبده ب «الإرادة» ، فقال:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم (67)} [الأنفال].
ووَصَفَ نفسه ب «المحبة» ، ووَصَفَ عبده ب «المحبة» ، فقال:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقال:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران: 31].
ووَصَفَ نفسه ب «الرضا» ، ووَصَفَ عبده ب «الرضا» ، فقال:{رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].
ومعلومٌ أنَّ مشيئةَ الله ليستْ مثلَ مشيئةِ العبدِ، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه.
وكذلك وصف نفسه بأنه يَمْقُتُ الكفار، ووصفهم ب «المقت» ، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُون (10)} [غافر] وليس «المقتُ» مثلَ «المقتِ» .
وهكذا وصَف نفسه ب «المكر» و «الكيد» ، كما وصَف عبده بذلك، فقال:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ} [الأنفال: 30] وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق] وليس «المكر» ك «المكر» ، ولا «الكيد» ك «الكيد» .
ووَصَفَ نفسه ب «العمل» ، فقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُون (71)} [يس]، ووصف عبده ب «العمل» ، فقال:{جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون (17)} [السجدة] وليس «العملُ» ك «العملِ» .
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله أمثلة على أسماء لله تعالى توافق أسماء بعض مخلوقاته، وبيَّن أوجه الاتفاق والافتراق بينها، ذكر هنا أمثلة لصفات الله تعالى، فقد سمى الله عز وجل صفاته بأسماء، ك (العلم) و (القوة)، فهذه أسماء صفاته، وأما أسماؤه فمثل «العليم» و «القوي» .
وهذه الأسماء التي سمى بها صفاته، سمى بها صفات بعض خلقه، فاسم صفة العبد توافق اسم صفة الرب تعالى في المعنى عند «الإطلاق» ، أي: في المعنى العام الكلي المشترك، أما عند «الإضافة» إلى الرب؛ فيكون لها المعنى المختص بالرب تعالى، وعند «الإضافة» إلى المخلوق يكون لها المعنى المختص بالمخلوق، كما سبق في مسألة أسماء الله تعالى.
ف (العلم) - مثلاً - اسم لصفة المخلوق، وهو موافق ل (العلم) الذي هو اسم لصفة الخالق إذا قطع عن «الإضافة» .
ف (العلم) إذا أطلق ولم يقيد ب «الإضافة» إلى الخالق أو المخلوق؛ يكون له معنى عام كلي؛ وهو: «ضد الجهل» ، أو؛ هو:«إدراك الأشياء على ما هي عليه» ، وهذا المعنى مشترك بين علم الخالق، وعلم المخلوق.
أما إذا أضيف (العلم) إلى الله تعالى؛ كما في قوله: ({وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ})؛ فيكون له معنى مختص بالرب تعالى في: كيفيتهِ، ومَداهُ ومتَعَلَّقِهِ، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء، يعلم ما كان،
وما يكون، وما لا يكون، يعلم الأشياء علماً تاماً مفصلاً، يعلم ما في صدور العباد، يعلم ما يخفون وما يعلنون، وعلمه تعالى واجب ذاتي، فهو لم يزل ولا يزال «عليماً» ، موصوفاً ب (العلم) لم يحدث له (العلم)، وعلمُه لم يسبقه جهل، ولا يعتريه نسيان، كل هذا من معاني (العلم) المختص بالرب تعالى.
وأما إذا أضيف (العلم) إلى المخلوق؛ كما في قوله تعالى: ({وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا (85)})؛ فيكون له معنى مختص بالعبد، فهو علم محدود، وموهوب، علم يسبقه جهل، ويعتريه نسيان.
وعلى هذا النسق يكون الكلام في بقية أسماء الصفات التي ذكر المؤلف رحمه الله شواهدها؛ فللصفة معنى عام كلي مشترك عند «الإطلاق» يصدق على صفة الله تعالى، وعلى صفة المخلوق، وللصفة معنى خاص عند إضافتها إلى الله تعالى لا يَشركه فيها المخلوق، وللصفة معنى خاص عند إضافتها إلى المخلوق تليق بعجزه وقصوره.
تنبيهات:
1 -
قوله تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} تفسير «الأَيْدِ» هنا ب «القوة» ليس من باب «التأويل» ، فليس لفظ «الأَيْدِ» جمعاً للفظ «يَد» ؛ بل هو لفظ مفرد، وهو مصدر على وزن «فَعْل» من: آدَ، يَئِيدُ، أَيْدَاً، أي: قوة
(1)
.
أما لفظ «أيدي» فهو على وزن «أَفْعِل» .
(1)
«تهذيب اللغة» 14/ 228، و «الصحاح» 2/ 443، و «القاموس المحيط» 339، وانظر:«تفسير الطبري» 21/ 545.
فهذه الآية المذكورة دليل على صفة «القوة» ، وليست دليلاً على صفة «اليد» .
2 -
من الفروق بين مشيئة الله تعالى، ومشيئة العبد، أن مشيئة الله تعالى صفة له؛ وهي: نافذة، أما مشيئة العبد؛ فهي: مخلوقة ومقيدة، فقد يشاء العبدُ ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. وكلُّ شيء بمشيئة الله تعالى.
3 -
بين صفة (الرضا) و (المحبة) تقارب وتلازم، ولكن لا يلزم من التلازم وَحْدَهُ اتحاد المعنى، ولا يصح تفسير أحدهما بالآخر، ف (الرضا): ضد السخط، و (المحبة): ضد البغض والكراهة.
4 -
الله تعالى يوصف ب (المكر) و (الكيد)، وبينهما تقارب في المعنى، لكن ينبغي أن يقيد، فيقال:«يمكر بمن يستحق المكر» ، وكذا (الكيد).
ووصف الله تعالى بهما على الحقيقة، فلا يصح ما يقوله بعض المفسرين:«إن المكر والكيد ينسب إلى الله تعالى على سبيل المشاكلة اللفظية، والمجانسة»
(1)
، أي: على سبيل المجاز.
ومطلق (المكر) ليس بممدوح ولا مذموم، ومكرُ المخلوق قد يكون ممدوحاً؛ إذا كان بمَن يستحق، وقد يكون مذموماً؛ إذا لم يكن كذلك، كما إذا كان على وجه الظلم والعدوان.
(1)
انظر مثلاً: «تفسير البيضاوي» 1/ 166، و «تفسير أبي السعود» 2/ 42، و «التحرير والتنوير» 3/ 256.
و (المكرُ) من الله تعالى كلُّه محمودٌ؛ لأنه كلَّه عدلٌ بمن يستحقه، وليس مكر الله؛ كمكر المخلوق.
فمِن مَكْرِ الله تعالى بالكفار في الدنيا: استدراجهم؛ كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين (178)} [آل عمران]، ومِن مكره تعالى بالمنافقين في الآخرة أن يكونوا مع المؤمنين في بعض مواقف القيامة، ثم تنطفئ عنهم الأنوار، كما قال تعالى عنهم:{انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]، ومِن مكره تعالى بالمنافقين في الدنيا قبول علانيتهم.
فهذا كله يدل على أن (المكر) من الله تعالى حقيقة، وليس على سبيل المشاكلة اللفظية
(1)
.
* * *
(1)
ووصف نفسه ب «المناداة» و «المناجاة» ، في قوله:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص: 62]، وقوله:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22]، ووصف عباده ب «المناداة» و «المناجاة» ، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون (4)} [الحجرات]، وقال:{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12]، وقال:{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 9]، وليس «المناداة» ك «المناداة» ، ولا «المناجاة» ك «المناجاة» .
ووصف نفسه ب «التكليم» في قوله: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء]، وقوله:{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ} [الأعراف: 143]، وقوله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَنْ كَلَّمَ اللّهُ} [البقرة: 253]، ووصف عبده ب «التكليم» في مثل قوله:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين (54)} [يوسف]، وليس «التكليم» ك «التكليم» .
ووصف نفسه ب «التنبئة» ، ووصف بعض الخلق ب «التنبئة» ، فقال:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير (3)} [التحريم]، وليس «الإنباء» ك «الإنباء» .
ووصف نفسه ب «التعليم» ، ووصف عبده ب «التعليم» ، فقال:{الرَّحْمَن (1) عَلَّمَ الْقُرْآن (2) خَلَقَ الإِنسَان (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان (4)} [الرحمن]، وقال:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ} [المائدة: 4]، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ
عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، وليس «التعليم» كـ «التعليم» .
وهكذا وصف نفسه ب «الغضب» في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} [الفتح: 6]، ووصف عبده ب «الغضب» في قوله:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150]، وليس «الغضب» ك «الغضب» .
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع آيات من كتابه أنه {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
(1)
، ووصف بعض خلقه ب «الاستواء» على غيره، في مثل قوله:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقوله:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]، وليس «الاستواء» ك «الاستواء» .
ووصف نفسه ب «بسط اليدين» ، فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64] ووصف بعض خلقه ب «بسط اليد» في قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وليس «اليد» ك «اليد» ، ولا «البسط» ك «البسط» .
وإذا كان المراد ب «البسط» : «الإعطاء والجود» ؛ فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم.
(1)
في الأعراف (54)، ويونس (3)، والرعد (2)، وطه (5)، والفرقان (59)، والسجدة (4)، والحديد (4).
ونظائر هذا كثيرة.
فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال:«ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى» ؛ كان معطلاً، جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات.
ومن قال: «له علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حُبٌّ كحبي، أو رضاً كرضاي، أو يدان كيديَّ، أو استواء كاستوائي» ؛ كان مشبهاً، ممثلاً لله بالحيوانات؛ بل لا بُدَّ من إثباتٍ بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل.
ويتبين هذا بأصلين شريفين، وبمثلين مضروبين - ولله المثل الأعلى - وبخاتمة جامعة.
ذكر المؤلف جملة من النصوص التي ذكر الله تعالى فيها بعض صفاته ومنها: (المناداة)، و (المناجاة)، و (التكليم)، و (الإنباء)، و (التعليم)، و (الغضب)، و (الاستواء) و (بسط اليدين)؛ ووصف بعض خلقه بهذه الصفات نفسها، وكل صفة من هذه الصفات لها معنى عام كلي عند «الإطلاق» يشترك فيه الخالق والمخلوق، ولها معنى خاص عند «الإضافة» و «التخصيص» ؛ فإذا أضيفت إلى الرب تعالى؛ صار لها معنى خاص بالرب تعالى لا يَشركه فيه المخلوق، وإذا أضيفت
إلى المخلوق كان لها معنى خاص بالمخلوق يليق به، لا يماثل صفة الخالق سبحانه وتعالى.
وصفة الله تعالى لا نعلم كنهها وحقيقتها.
والمناداة؛ هي: «الخطاب بصوت مرتفع»
(1)
، والمناجاة:«بصوت خفي»
(2)
؛ وَوَصْفُ الله تعالى ب (المناداة)، و (المناجاة)، و (التكليم)؛ دليل على أن كلامه بصوت؛ خلافاً لقول الأشاعرة:«إن كلام الله معنى نفسي، وإن ما سمعه موسى، وكذلك القرآن ما هو إلا عبارة عن كلام الله» .
والغضب: «ضد الرضا»
(3)
، وهو مستلزم لكراهة المغضوب عليه، وهو بهذا المعنى عام مشترك، ثم إذا أضيف إلى الخالق سبحانه؛ صار له معنى يخصه، وإذا أضيف إلى المخلوق صار له معنى يخصه.
ومن الصفات التي جاءت مضافة إلى الله ومضافة إلى بعض العباد: الاستواء على الشيء، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه] وقال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ، والقول في هذا اللفظ كما سبق
(4)
له ثلاث حالات: حال الإطلاق، وحال الإضافة إلى الخالق، وحال الإضافة إلى المخلوق.
(1)
«الصحاح» 6/ 2505، بمعناه.
(2)
«الصحاح» 6/ 2503، بمعناه.
(3)
«القاموس المحيط» ص 154.
(4)
ص 152.
فعند «الإطلاق» ؛ معناه: «مطلق العلو والاستقرار»
(1)
.
وعند إضافته إلى الخالق؛ معناه: «العلو والارتفاع على العرش مع كمال غناه عنه» .
وعند الإضافة للمخلوق؛ معناه: «العلو والارتفاع المختص بالمخلوق» ، وهو ما يتضمن افتقار المستوي إلى ما هو عليه، فليس «الاستواء» ك «الاستواء» ، وإن اتحد معناهما عند الإطلاق.
فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه.
فمن جحد ما وصف الله به نفسه؛ كان معطلاً بجحده ونفيه لصفات الله تعالى، وكان أيضاً ممثِّلاً لله تعالى بالمعدومات والجمادات؛، لأن ذلك من مستلزمات التعطيل.
ومن شبَّه صفات الله تعالى بصفات خلقه،؛ كان ممثِّلاً لله تعالى بخلقه.
والواجب أن يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات بلا تمثيل، وأن ينزه عن صفات النقص بلا تعطيل.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أن ما سبق يتبين ويتضح بأصلين شريفين، وبمثلين مضروبين، وبخاتمة جامعة.
أما الأصلان اللذان أشار إليهما المؤلف هنا، فهما غير الأصلين اللذينِ سبق ذكرهما، وهما:«التوحيد» ، و «الشرع، والقدر» .
(1)
سيأتي كلام أطول عن الاستواء في ص 335.
فالمراد بالأصلين هنا؛ هما: الأصلانِ اللذانِ يمكن أن يحتج بهما على نفاة الصفات؛ وهما:
1 -
أن القول في بعض الصفات؛ كالقول في بعض.
2 -
أن القول في الصفات؛ كالقول في الذات.
وأما المثلانِ والقياسان اللذانِ ذكرهما المؤلف؛ فهما:
1 -
مقارنة موجودات الآخرة بموجودات الدنيا.
2 -
الروح.
* * *
القول في بعض الصفات كالقول في بعض والرد على الأشاعرة
فصل
فأما الأصلان:
فأحدهما: أن يقال: «القول في بعض الصفات كالقول في بعض» .
فإن كان المخاطب ممن يقرُّ ب «أن الله حيٌّ بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة» ، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه، وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره؛ إما ب:«الإرادة» ، وإما ب «بعض المخلوقات من: النعم، والعقوبات».
قيل له: «لا فرق بين ما نفيته، وبين ما أثبته؛ بل القول في أحدهما كالقول في الآخر» ، فإن قلتَ:«إن إرادته مثل: إرادة المخلوقين» ، فكذلك محبته، ورضاه، وغضبه، وهذا هو التمثيل.
وإن قلت: «إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به» ، قيل لك:«وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضاً، وغضبٌ يليق به، وللمخلوق رضاً وغضب يليق به» .
وإن قال: «إن الغضب: غليان دم القلب لطلب الانتقام» .
قيل له: «والإرادة: ميل النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرة» ، فإن قلت:«هذه إرادة المخلوق» . قيل لك: «وهذا غضب المخلوق» .
وكذلك يُلزم بالقول في كلامه، وسمعه، وبصره، وعلمه، وقدرته، إن نفى عنه الغضبَ، والمحبة، والرضا، ونحو ذلك ممَّا
(1)
هو من خصائص المخلوقين، فهذا مُنتفٍ عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات.
وإن قال: «إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين؛ فيجب نفيه عنه» . قيل له: «وهكذا السمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة» .
فهذا المفرِّقُ بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه؛ كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي:«ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات» ، فإنه يُبيِّنُ للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها «القديم» ، ولا تكون كصفات المحدثات. فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من: المحبة، والرضا، ونحو ذلك.
(1)
أثبت محقق المطبوع ما يلي: «إن نفى [عن] الغضب، والمحبة، والرضا، ونحو ذلك [ما] هو من خصائص المخلوقين» ا. هـ.
مع أن أكثر النسخ على وفق ما أثبت هنا، وهو الذي رجحه الشارح، وقال في العبارة شيء، ولعل بعد قوله:«خصائص المخلوقين [عنده]» .
بدأ الشيخ بالكلام عن الأصل الأول؛ وهو أن: (القول في بعض الصفات كالقول في بعض).
وهذا الأصلُ الذي ذكره الشيخُ صحيحٌ معقول؛ ومعناه: أن حكم الصفات واحد، فما يجب في بعضها من إثبات، أو نفي، أو لزوم تمثيل؛ يجب في بعضها الآخر، وذلك أنها متماثلة من حيث إنَّ الموصوف بها واحد، ومصدرها واحد، والواجب التسوية بين المتماثلات.
وفي هذا الأصلِ يَرُدُّ الشيخ رحمه الله على أهل التعطيل باختلاف فِرَقهم من: أشاعرة، ومعتزلة، وجهمية، وفلاسفة، وكلِّ من نفى شيئاً من الصفات بحجة استلزام إثباتها للتمثيل.
ومحور الرد بهذا الأصل بيان ما في هذه المذاهب من التناقض، وأول وأولى من يُرد عليه بهذا الأصل: الأشاعرة، وبمعناه على بقية الطوائف.
وقد بدأ الشيخ بالرد على المشهور من مذهب الأشاعرة؛ وهو: إثبات سبع صفات، وتأويل، أو تفويض الباقي.
فهم يثبتون الحياةَ، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادةَ، حقيقةً وينازعون في بقية الصفات كالمحبةِ، والرضا، والغضبِ، والكراهة، ويجعلونها من قَبيل المجاز.
ويفسرونها؛ إما ب (الإرادة)، أي: بإرادة الإنعام بالنسبة للمحبة والرضا، وإرادة الانتقام بالنسبة للغضب والكراهة، وإما أنْ يفسروها ببعض المخلوقات من النعم، والعقوبات؛ فيقولون في المحبة - مثلاً -:«إنها النعم» ، وفي الغضب:«إنه العقوبات» .
فيقال لمن يفرق بين الصفات؛ فيثبت بعضاً، وينفي بعضاً:«لا فرق بين ما أثبت وما نفيت، فإن كان ما نفيته يستلزم التشبيه عندك؛ فعليك أن تنفي ما أثبته لاستلزامه التشبيه كذلك؛ لأن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فالموصوف بها واحد، ومصدر تلقيها واحد» .
وإن قال: «إن ما أثبته لا يستلزم التشبيه» ، فعليه أن يثبت البقية كذلك، وإلا وقع في التناقض.
فيلزم هذا المفرِّق واحد من ثلاثة ليخرج من تناقضه:
1 -
إما أن يثبت الجميع على وجه التمثيل، وهذا باطل ينكره الجميع.
2 -
وإما أن يثبت الجميع على وجه يليق بالله تعالى - يعني - بدون تمثيل، وهذا هو المطلوب.
3 -
وإما أن ينفي الجميع، فيلحق بالمعتزلة، وسيأتي الكلام معهم.
فإنْ فَسَّر ما ينفيه من صفات الله تعالى بمعاني صفات المخلوقين، كقوله في الغضب - مثلاً -:(إنه غليان دم القلب لطلب الانتقام).
فإن قال: «الإرادة بهذا المعنى إرادة المخلوق» ، قيل له:«والغضب بالمعنى الذي فسرته غضب المخلوق» .
فلا يلزم من نفي معنى الصفة المختصِ بالعبد؛ نفيُ المعنى الحق اللائق بالله تعالى، فعليك كما أثبت إرادة تليق بالله ليست كإرادة المخلوق - وهكذا في بقية الصفات التي تثبتها - عليك؛ أن تثبت لله غضباً يليق به تعالى ليس كغضب المخلوق، وهكذا في سائر الصفات التي تنفيها؛ بحجة استلزامها للتشبيه.
وبياناً لتناقض هذا المفرِّق - وهو الأشعري - فإنه يحتج عليه بكلامه مع خصمه المعتزلي الذي ينفي الصفات التي يثبتها هو، فإذا قال المعتزلي للأشعري:(ليس لله تعالى إرادة، ولا كلام قائم به؛ لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات).
فإن هذا الأشعري الذي يثبت الكلام والإرادة لله تعالى يرد على المعتزلي بقوله: (إن هذه الصفات يتصف بها «القديم»، ولا تكون كصفات المحدثات).
(فهكذا يقول له - أهل السُّنَّة - المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك)، أي:«إنه يتصف بها الرب، ولا تكون كصفات المخلوقات»
(1)
.
* * *
(1)
«شرح حديث النزول» ص 112، و «مجموع الفتاوى» 6/ 45، و «الرسالة الأكملية» ص 119، و «الصفدية» ص 327، و «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 128.
شبهة الأشاعرة في إثبات الصفات السبع دون غيرها
قال له سائر أهل الإثبات: «لك جوابان» :
أي: فإن قال هذا المفرِّق: «إن ما أثبته من الصفات السبع دل العقل على إثباته، وبيان ذلك: (أن الفعل الحادث دل على القدرة)» أي: فهذه المخلوقات دالَّةٌ على قدرة الخالق.
و (التخصيص دلَّ على الإرادة) أي: تخصيص بعض المخلوقات بأشياء دون بعض؛ دليل على الإرادة.
و (الإحكام دلَّ على العلم) فإحكام الصَّنعة وإتقانها؛ دليل على العِلم، وهذا العالَم في غاية الإتقان والسنن الثابتة المنتظمة.
وهذه الصفات الثلاث: القدرة، والإرادة، والعلم؛ لا تكون إلا ل: الحَيِّ، فهي: دالة على الحياة، و (الحَيُّ: لا يخلو عن: السمع، والبصر، والكلام، أو ضد ذلك) من: الصمم، والعمى، والخرس؛ وهذا الضد باطلٌ، وممتنعٌ في حق الله تعالى؛ فوجب وصفه بالسمع، والبصر، والكلام.
وأهل السنة والجماعة لا ينازعون الأشاعرة في إثبات الصفات السبع، ولا في طريقة إثباتها بالعقل؛ لأنه استدلالٌ صحيح، فهي ثابتة بالعقل، كما أنها ثابتة بالشرع، وإنما ينازعونهم في بقية الصفات التي نفوها.
فيقال لهذا الذي أثبتَ سبعَ صفاتٍ لدلالة العقل عليها دون بقية صفات الله تعالى التي يرى أن العقل لا يدل عليها: لك عن هذا جوابان
(1)
:
الجواب الأول: جواب على فرض التسليم، فيقال: افرض أن العقل دل على الصفات السبع، ولم يدل على بقية الصفات، فلو سلَّمنا
(1)
«مجموع الفتاوى» 6/ 46، و «شرح الأصبهانية» ص 37، و «الإكليل في المتشابه والتأويل» ص 299.
جدلاً بذلك: فإن عدمَ الدليل المعين لا يستلزمُ عدمَ المدلول المعين، لإمكان أن يثبت بدليل آخر، فعدمُ الدليل العقلي على ما نفيت من الصفات؛ لا يدل على نفي تلك الصفات، فليس لك أن تنفي ما لم يدل عقلك عليه، فإن من المقرر: أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل، فمجرد عدم دلالة العقل على إثبات صفة؛ لا يكفي دليلاً على نفيها؛ بل لا بد من دليل على نفيها.
والمطالبة بالدليل تكون في الأشياء الخارجة عن أصلها: إثباتاً أو نفياً، أما ما كان الأصل فيه الإثبات أو النفي؛ فالبناء على الأصل هو الدليل.
وهناك قاعدة أصولية؛ وهي: «عدم العلم ليس علماً بالعدم»
(1)
.
ثم يقال لهذا النافي لما عدا الصفات السبع بحجة عدم دلالة العقل عليها: (إن السمع - أي: الشرع - قد دل على إثبات ما نفيته، ولم يعارِض هذا الدليل السمعي معارِضٌ عقلي ولا سمعي؛ فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاومِ).
فالدلالة ليست منحصرة في العقل؛ بل هناك أدلة أخرى، فما لم يثبت بالدليل العقلي؛ يمكن إثباته بالدليل السمعي.
(1)
«الرد على المنطقيين» ص 141، و «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 87 و 5/ 44، و «الصفدية» ص 196، و «الجواب الصحيح» 4/ 460، و «شرح الأصبهانية» ص 34.
ونظير ذلك: أن ما لم يثبت بالقرآن يمكن أن يكون ثابتاً بالسنة، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها
(1)
، فليس لأحد أن ينفي هذا الحكم لعدم دلالة القرآن عليه.
* * *
(1)
رواه البخاري (5110)، ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الثاني: أن يقال: «يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات» ، فيقال:«نفعُ العباد بالإحسان إليهم؛ يدلُّ على الرحمة؛ كدلالة التخصيص على المشيئةِ، وإكرامُ الطائعين؛ يدلُّ على محبتِهم، وعقابُ الكفَّار؛ يدلّ على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهدِ والخبرِ من: إكرام أوليائه، وعقاب أعدائه» .
والغاياتُ المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي: ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة -؛ تدلُّ على حكمته البالغة؛ كما يدلُّ التخصيص على المشيئة وأَوْلى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته مِنَ النعم والحكم؛ أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة.
هذا هو الجواب الثاني في الرد على من ينفي ما سِوى الصفات السبع بحجة عدم دلالة العقل عليها؛ وهو: جواب بالمعارضة، وعدم التسليم.
فيقال له: «يمكن إثبات ما نفيتَه، أو بعضَ ما نفيته بنظير ما أثبتَّ به الصفات السبع من العقليات» ، فمثلاً: (نفع العباد بالإحسان إليهم؛ يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرامُ الطائعين؛ يدل
على محبتهم، وعقابُ الكفار؛ يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهدِ) - أي: بالمشاهدة - (والخَبرِ من: إكرام أوليائه، وعقاب أعدائه)؛ كنصرِ موسى عليه السلام، وإهلاكِ فرعونَ وجنودِه».
و (الغاياتُ المحمودةُ): أي: العواقب الحميدة، والثمرات والنتائج الطيبة التي تترتَّب على (مفعولاته) - أي: مخلوقاته - (ومأموراته) - أي: شرائعه -: (تدل على حكمته البالغة
(1)
، كما يدل التخصيص على المشيئة، وأَوْلَى).
أي: أنَّ دلالةَ العواقبِ الحميدة على الحكمة؛ أَوْلى من دلالة التخصيص على المشيئة؛ لقوة العلة الغائية، أي: أن العلة الغائية؛ أقوى تأثيراً في حصول الفعل من العلة الفاعلية؛ لأن العلة الفاعلية؛ لا تستلزم وجود الفعل، أما العلة الغائية؛ فهي تستلزم وجود الفعل مع العلة الفاعلية في الجملة.
والعلة الغائية؛ هي: «الحكمة» ، وهي:«ما يفعل الشيء لأجله» ، وتَدخل عليها «لام التعليل» ، ويقابلها:
العلة الفاعلية؛ وهي: «التي يكون بها الشيء» ، وتدخل عليها «باء السببية» .
فإذا كتبت فائدة علمية، ف: يدك، وقلمك، والقرطاس؛ هذه علة فاعلية، أي: يكون بها الشيء.
ونفس الفائدة العلمية؛ علة غائية، أي: لأجلها حصلت الكتابة.
(1)
«منهاج السنة» 1/ 141، و «شفاء العليل» ص 190.
وما جاء في القرآن من الكلام عمَّا في المخلوقات من النعم والحكم؛ أعظم وأكثر مما فيه من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة
(1)
.
كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل: 12] تضمنت ذكر العلة الغائية، في قوله:{وَسَخَّرَ لَكُمُ} ، والفاعلية في قوله:{بِأَمْرِهِ} .
* * *
(1)
«شرح الأصبهانية» ص 178 و 698، و «مجموع الفتاوى» 8/ 35 و 398، و «شفاء العليل» 197.
الرد بالأصل الأول على المعتزلة
وإن كان المخاطَبُ ممَّن ينكرُ الصفات، ويقرُّ بالأسماء؛ كالمعتزلي، الذي يقول:«إنه حي، عليم، قدير» ، وينكر أن يتصف بالحياة، والعلم، والقدرة.
قيل له: «لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات الصفات» ، فإنك إن قلت:«إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي: تشبيهاً وتجسيماً؛ لأنا لا نجدُ في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم» .
فكل ما يحتج به من نفى الصفات؛ يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً لذلك؛ كان جواباً لمثبتي الصفات.
الخطاب هنا مع المعتزلي الذي ينكر الصفات، ويُقِرُّ بالأسماء فيثبت لله - مثلاً - اسم الحي، والعليم، والقدير، وينكر أن يتصف بالحياة، والعلم، والقدرة.
فهذا يرد عليه في ضوء الأصل المتقدم، فيقال:«القول في الصفات كالقول في الأسماء» ، فلا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات، فإن كان إثبات الأسماء لا محذور فيه؛ فكذلك الصفات، وإن كان إثبات الصفات فيه محذور؛ فكذلك الأسماء، فيلزمه أحد ثلاثة أمور ليخرج من تناقضه:
1 -
أن ينفي الجميعَ - الأسماء، والصفات -، فيخرج عن مذهبه إلى مذهب الجهمية.
2 -
أو يثبت الجميعَ؛ وإن لزم عليه محذور التمثيل.
3 -
أو يثبت الجميعَ على الوجه اللائق بالله تعالى؛ وهذا هو المطلوب.
فإن قال هذا المعتزلي - الذي يثبت الأسماء وينكر الصفات -: (إنَّ إثبات الصفات؛ كالحياة، والعلم، والقدرة؛ يقتضي تشبيهاً وتجسيماً، لأنا لا نجد في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم).
قيل له: (وكذلك لا نجد في الشاهد ما هو مسمى بأنه: حيٌ، عليم، قدير إلا ما هو جسم)، فإن كنت نَفيتَ الصفات لأنك لا تجد في الشاهد
متصفاً بالصفات إلا الجسم، فيلزمك نفي الأسماء، بل ونفي كل شيء؛ لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم.
وقول المؤلف: (فكل ما يحتج به من نَفى الصفات) يعني: المعتزلي (يحتج به نافي الأسماء الحسنى) يعني: الجهمي (فما كان جواباً لذلك) يعني: المعتزلي على الجهمي (كان جواباً لمثبتي الصفات) يعني: على المعتزلي.
فالحجة التي نفى بها المعتزلي الصفات يحتج بها الجهمي على نفي الأسماء، وما يَرُدُّ به المعتزلي على الجهمي لنفيه الأسماء، يرد به أهل السنة والجماعة على المعتزلي لنفيه الصفات
(1)
.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» 6/ 47 و 74، و «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 127، و «الصفدية» ص 327، و «شرح حديث النزول» ص 112.
الرد في ضوء الأصل الأول على شبهة الجهمية والباطنية
وإن كان المخاطَب من الغلاةِ، نفاةِ الأسماء والصفات، وقال: «لا أقول هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير؛ بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجازٌ، لأن إثبات ذلك؛ يستلزم التشبيه بالموجود، الحي، العليم، القدير.
قيل له: «وكذلك إذا قلت: «ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير» ، كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات».
الخطاب هنا مع صنف من الغلاة، وهم الذين ينفون الأسماء والصفات،
(1)
وهؤلاء غلاةٌ بالنسبة للمعتزلة، وكلُّ الغلاة ينفون الأسماء والصفات وهذا الوصف يصدق على الجهمية، والفلاسفة؛ بل وحتى الباطنية، وإن كان الباطنيةُ عندهم غُلوٌّ أعظمُ من ذلك.
ومن نفى أسماء الله وصفاته - فقال: (إن الله تعالى ليس بحي، ولا عليم، ولا قدير)، وليس بموجود، وليس له حياة، ولا علم، ولا قدرة،
(1)
«مجموع الفتاوى» 6/ 47.
وهكذا بقية الأسماء والصفات» -؛ شُبْهَتُه في ذلك: أنَّ إثباتها يستلزم تشبيه الله بالموجود، الحي، العليم، القدير، فيَحمل ما جاء في القرآن من أسماء الله وصفاته على أنها أسماء لمخلوقاته، أو أنها مجاز.
وهذه الشبهة عنها جوابان:
الأول: على فرض التسليم بأن إثبات هذه الأسماء والصفات يستلزم التشبيه بالموجودات، فيقال:«ونفي الأسماء والصفات يستلزم التشبيه بالمعدومات، وهو أقبح من التشبيه بالموجودات» .
الثاني: سيذكره الشيخ فيما بعد
(1)
، ومضمونه: الجواب بالمنع؛ وهو: أنه لا يلزم مِنْ اتفاقِ المسميين في بعض الأسماء والصفات عند الإطلاقِ؛ التشبيهُ الذي نفته الأدلةُ العقلية والنقلية. فالاتفاقُ في القدر المشترك والمعنى الكلي عند الإطلاقِ؛ لم تنفه الأدلة، ولا يستلزم التشبيه، وإنما المنفي ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق أو المخلوق.
* * *
(1)
ص 199.
فإن قال: «أنا أنفي النفي والإثبات» .
أي: أن هذا النافي للأسماء والصفات لما أُلزِم بالتشبيه بالمعدومات؛ انتقل من وصف الله بالنفي فقط؛ إلى الوصف بالنفي ونفي النفي! - يعني - ينتقل من نفي الصفات الثبوتية إلى نفي النقيضين؛ فيقول: «لا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا حي ولا ميت» !، فانتقل عن أنْ يكون جهمياً غالياً إلى أن يكون باطنياً.
والجواب عن هذا الذي ينفي النقيضين: أنه يلزم منه التشبيه بالممتنعات؛ فإن سلب النقيضين؛ كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعاتِ، والممتنعُ أبعد عن الكمال من المعدوم الممكن
(1)
.
* * *
(1)
«شرح حديث النزول» ص 120.
قيل لك: «أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعَدَم، فإنهما متقابلان تقابل السَّلب والإيجاب، باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما؛ ثبوت الآخر.
وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل؛ فهذا اصطلاحٌ اصْطَلَحَتْ عليه المتفلسفةُ المشَّاؤون، و «الاصطلاحاتُ اللفظية؛ ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية» ، وقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُون (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون (21)} [النحل] فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهورٌ في لغة العرب، وغيرهم».
هذا اعتذارٌ ممن ينفي النقيضين عن إلزامه تشبيه الله تعالى بالممتنعات، حيث قال: «إن هذا الإلزام يلزم مَنْ ينفي النقيضين عن القابل لهما، أمَّا ما ليس قابلاً لهما؛ فيجوز نفيهما عنه، فالجدار - مثلاً -
لما كان غيرَ قابلٍ للحياة والموت، والعمى والبصر، ونحو ذلك؛ صح نفي هذين المتقابلين عنه، فيقال: «ليس بحي ولا ميت، ولا أعمى ولا
بصير، ونحو ذلك»، والله تعالى غيرُ قابلٍ للاتصاف بالصفة ولا ضدها؛ فيصح نفيهما عنه».
وقبل ذكرِ الرد عليه؛ نُبيَّن بعض المصطلحات الواردة في كلام المؤلف:
فالنقيضان؛ هما: «المتقابلانِ اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً في شيء واحد»
(1)
؛ مثل: السَّلب والإيجاب، والوجود والعدم.
والضدان؛ هما: «الأمرانِ الوجوديان اللذان لا يجتمعان، وقد يرتفعان»
(2)
؛ كالسَّواد والبياض، فإنه يمتنع أن تكون نقطةٌ سوداءُ وبيضاءُ في وقت واحد؛ لكن يمكن أن تكون حمراء.
والعَدَمُ والمَلَكَةُ؛ هما: «الأمرانِ المتقابلان اللذان، أحدهما وجودي والآخر عدمي؛ وهو عدمُ ذلك الوجودي عمَّا من شأنه أن يقبله»
(3)
؛ كالحياة والموت بالنسبة للإنسان؛ فيمتنع نفيهما عنه.
فهذا النافي للصفة وضدها؛ كالحياة والموت، والبصر والعمى، لما قيل له:«إنه يلزم من ذلك نفي النقيضين، وهو ممتنع» .
(1)
تقدم في ص 132 ذِكره، وتوثيقه.
(2)
«شرح الكوكب المنير» 1/ 68، و «آداب البحث والمناظرة» ص 44.
(3)
«الجواب الصحيح» 2/ 127، و «آداب البحث والمناظرة» ص 45.
ويُرد على من نفى النقيضين عن الله - بنفيه الصفة وضدها - بحجةِ أنَّ اللهَ غيرُ قابل للاتصاف بذلك؛ بجوابين
(1)
:
الجواب الأول: المنع، والجواب بالمنع من ناحيتين:
1 -
لو سلمنا صحةَ نفي النقيضين عن الله تعالى على أنهما يتقابلان تقابل العدم والملكة في الصفات؛ فإنه لا يصح في الوجود والعدم؛ لأنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، لا تقابل العدم والملكة باتفاق العقلاء؛ فإنه يلزم من رفع أحدهما؛ ثبوت الآخر في أي شيء.
2 -
(أن ما ذكرته مِنْ أنَّ الحياة والموت، والعلم والجهل)؛ يصحُ نفيهما عما ليس قابلاً لهما: (اصطلاح اصطلح عليه الفلاسفة المشَّاؤون) أتباع أرسطو - وسموا بذلك لأنهم يتعلمون فلسفتهم حال مشيهم
(2)
- فهو اصطلاحٌ فلسفي، وليس حكماً عقلياً ولا شرعياً، والاصطلاحاتُ اللفظية لا تدل على نفي الحقائق العقلية، ولا تغير منها شيئاً.
فدعوى أنه يجوز نفي هذه المتقابلات عمَّا ليس قابلاً لها؛ كما مثلوا في نفي الحياة والموت عن الجدار، هذا اصطلاح فلسفي،
(1)
سيذكر ابن تيمية هذه الشبهة ويجيب عنها بجواب أطول في «القاعدة السابعة» ص 564، وكذا ذكرها في مواضع من كتبه. انظر الإحالة إليها في الموضع المشار إليه في «القاعدة السابعة» .
(2)
«إخبار العلماء بأخبار الحكماء» ص 19، وفي «الملل والنحل» 2/ 87:«كان أفلاطون يلقِن الحكمةَ ماشياً تعظيماً لها، وتابعه على ذلك أرسطوطاليس، ويسمى هو وأصحابه: «المشائين» .
أما عند العقلاء، وفي لغات العالم؛ فالجدار ميت، والحجر ميت، والعصا ميتة.
ودعوى أنَّ الجدارَ غيرُ قابل للحياة، وكذا العصا غير مسلَّم، فالعصا قبِلتْ الحياة؛ كما في عصا موسى عليه السلام
(1)
، والطين قابل للحياة، كما سيأتي في «القاعدة الأولى»
(2)
.
واستَشهد الشيخُ هنا بقول الله تعالى عن أصنام المشركين: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُون (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون (21)} .
فسمى الجمادَ ميتاً، وهذا معروف في لغة العرب، وغيرهم.
* * *
(1)
قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِين (107)} [الأعراف].
(2)
ص 274، وفي «القاعدة السابعة» ص 570.
وأيضاً: «فما لا يقبل الوجود والعدم؛ أعظمُ امتناعاً مِنَ القابل للوجود والعدم؛ بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم؛ كان أعظمَ امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم.
وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول؛ فذلك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم؛ هو أعظم الممتنعات. وهذا غاية التناقض والفساد».
هذا هو الجواب الثاني من الرد، وهو على فرض التسليم، والرد بهذا من وجهين:
1 -
بالنسبة لهذه المتقابلات إذا سلمنا أنه يجوز نفيها عمَّا ليس قابلاً لها، فما لا يقبل الاتصاف بواحد من هذه المتقابلات؛ أعظمُ نقصاً من
القابل لها، فالأعمى الذي يقبل الاتصافَ بالبصر؛ أكملُ من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما - على حد زعمهم -، فلو قالوا:«إن الله يقبل الاتصاف بالحياة والموت؛ لكان أهون من قولهم: «إنه لا يقبل الاتصاف بهما» - حسب اصطلاحهم -؛ لأن ما لا يقبل؛ كالجدار؛ أعظمُ نقصاً من القابل لهما.
فهذا فرَّ من تشبيه الله تعالى بالأحياء القابلة للكمال، فوصفه بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك.
2 -
وبالنسبة للوجود والعدم: لو سلمنا جواز نفيهما عمَّا ليس بقابل لهما؛ فيقال: «إذا كان من المعلومِ بصرائحِ العقولِ امتناعُ وصفِ الشي بأنه موجودٌ معدوم، أو نفي الوجود والعدم عنه، وإذا كان ذلك ممتنعاً عقلاً؛ فإنَّ جَعْلَ الشيءِ غيرَ قابلٍ للاتصاف بالوجود والعدم؛ أعظمُ امتناعاً» .
فهذا الذي نفى الصفةَ وضدَها عن الله، ومنعَ قبولَ اتصافِ الله تعالى بالوجود والعدم؛ جعَلَ وجودَ الربِ الواجبِ الذي لا يقبلُ العدمَ: أعظمَ الممتنعاتِ، وهذا غايةُ التناقض والفساد.
* * *
وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين: الوجود والعدم - ورفعُهما؛ كجمعِهما -، ومنهم من يقول:«لا أثبت واحداً منهما» ، وامتناعُه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر؛ لا يمنعُ تحققَ واحدٍ منهما في نفس الأمر، وإنما هو: كجهلِ الجاهل، وسكوتِ الساكت، الذي لا يُعبِّر عن الحقائق.
وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم؛ أعظمَ امتناعاً مما يُقَدَّر قبوله لهما - مع نفيهما عنه - فما يُقَدَّر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم؛ أقرب إلى المعدوم والممتنع ممَّا يُقَدَّر قابلاً لهما مع نفيهما عنه.
وحينئذٍ؛ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما؛ أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجبِ الوجود قابلاً؛ وجب له؛ لعدمِ توقفِ صفاته على غيره، فإذا جاز القبول؛ وجب، وإذا جاز وجود المقبول؛ وجب، وقد بسط هذا في موضع آخر، وبُيِّنَ وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
يشير الشيخ هنا إلى مَنْ قال: «أنا أنفي النفي والإثبات» ، فمنهم من يصرح بنفي النقيضين فيقول:«لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل» ، ومنهم من يقول:(أنا لا أثبت واحداً منهما)، أي:
لا أقول: «موجود ولا معدوم، ولا لا موجود ولا لا معدوم» ، فامتناعه عن إثبات أحدهما؛ لا يغير من الواقع شيئاً، ولا يمنعُ تحقق واحد منهما في نفس الأمر؛ بل هو مثل: سكوت الساكت، وجهل الجاهل
(1)
.
وقول المؤلف: (وما جاز لواجب الوجود قابلاً؛ وجب له؛ لعدمِ توقفِ صفاته على غيره .. ).
أي: إذا جاز أن يكون الله تعالى قابلاً للشيء؛ وجب أن يكون قابلاً له؛ لعدم توقف صفاته على غيره، فالممكن الذي يقبل الوجود؛ لا يجب له الوجود؛ لأن وجوده متوقفٌ على غيره، أما الله تعالى فلا يتوقف اتصافه بصفات الكمال على غيره، فما جاز لواجب الوجود قبوله؛ صار واجباً، أي بمعنى: وجب أن يكون قابلاً
(2)
.
فصفة العلم والسمع والبصر والحياة وغيرها من الصفات الذاتية؛ واجبة لله تعالى.
وأما الصفات الفعلية؛ فتوصف بالجواز لا الوجوب.
* * *
(1)
«شرح حديث النزول» ص 74 و 121، و «مجموع الفتاوى» 6/ 42، و «الرسالة الأكملية» ص 122.
(2)
«الرسالة الأكملية» ص 76، و «مجموع الفتاوى» 12/ 157، و «الرد على المنطقيين» ص 285.
يردُّ الشيخ هنا على الجهمي الذي سبق ذكرُ شبهته في نفي الأسماء والصفات؛ وهي: «شبهة استلزام الإثبات للتشبيه» ، وذكر الشيخ هناك
(1)
أحد الجوابين عن هذه الشبهة؛ وهو: جوابٌ بالتسليم.
وهنا يذكر الجواب الثاني،؛ وهو: جواب بالمنع؛ وهو أن يقال:
فأما ما يختص الرب بوجوبه؛ فالصفات الذاتية؛ كالحياة، والقدرة.
(1)
ص 188.
وأما ما يختص بجوازه؛ فالصفات الفعلية؛ كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة.
وأما ما يختص بامتناعه؛ فالنقائص، وهذه هي أحكام العقل الثلاثة.
وممَّا يختص المخلوق بوجوبه؛ الحدوث، والافتقار.
وممَّا يختص المخلوق بجوازه عليه؛ فكالحياة، وبعض صفات الكمال، والنقص.
وممَّا يختص المخلوق بامتناعه؛ فكل ما يختص به الرب تعالى من صفات الكمال.
* * *
وأما ما نفيته؛ فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك: تشبيهاً، وتجسيماً؛ تمويه على الجهال، الذين يظنون أن كل معنى سماه مُسَمٍّ بهذا الاسم؛ يجب نفيه.
ولو ساغ هذا؛ لكان كل مُبطلٍ يسمي الحق بأسماء يُنَفِّرُ عنها بعض الناس، ليُكَذِّب الناسُ بالحق المعلوم بالسمع والعقل.
وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغي والضلالة.
أي: يقال لهذا الجهمي الذي ينفي أسماء الله وصفاته: «إنَّ ما نفيته ثابت بالأدلة الشرعية والعقلية، وتسميتك إثبات ذلك: تشبيهاً وتجسيماً؛ تمويه وتلبيس على الجهال، الذين تؤثر فيهم العناوين والأسماء المخالفة للحقائق؛ فيظنون أن كل معنى سماه مسَمٍّ بهذا الاسم الذي هو التشبيه؛ يجب نفيه» .
فالجاهلُ يتأثرُ بتسميةِ المعطلِ إثباتَ الصفات لله تعالى: (تشبيهاً وتجسيماً)، فتؤثر هذه التسمية في دينه وعقله، ويبادر إلى التكذيب بالحق المعلوم بالسمع والعقل، ويخرج إلى التعطيل المستلزم للكفر والجهالة، والغي والضلالة.
أما أهلُ العلم والبصيرة؛ فلا تؤثر فيهم هذه التسميات الكاذبة، والاصطلاحات الحادثة؛ فإن الاصطلاحات اللفظية الحادثة؛ لا تغير ولا تنفي الحقائق العقلية والشرعية الثابتة.
فمن نفى التشبيه عن الله تعالى ممَّن لم يُعرف باتباعه لمنهج أهل السنة والجماعة؛ فإنا نستفصل عن مراده بالتشبيه الذي نفاه؛ فإن قصد بذلك نفي صفات الله تعالى الثابتة له بحجة استلزام إثباتها للتشبيه؛ فيُرَدُّ عليه نفيه، فليس في إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به؛ تشبيهٌ، وإنْ قصد بنفي التشبيهِ ما هو من خصائص المخلوق؛ فنعم.
* * *
الرد في ضوء الأصل الأول على شبهة التركيب عند الفلاسفة
وإن قال نفاة الصفات: «إثبات العلم، والقدرة، والإرادة؛ يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع» .
قيل: «وإذا قلتم: «هو موجود، واجب، وعَقْلٌ وعاقِلٌ ومعقولٌ، وعَاشِقٌ ومعشوقٌ، ولذيذٌ وملتذ ولذة» . أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه، وتسمونه توحيداً».
فإن قالوا: «هذا توحيد في الحقيقة، وليس هذا تركيباً ممتنعاً» .
قيل لهم: «واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس هو تركيباً ممتنعاً» .
يذكر المؤلفُ رحمه الله هنا شبهةً أخرى لنفاة الصفات؛ وهي: شبهة معروفة عن الفلاسفة، وقد أخذها عنهم بعض المتكلمين، حيث زعموا:«أن إثبات صفات متعددة، متغايرة المعنى؛ كالعلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر؛ يلزم منه التركيب» ، أي: يلزم منه أنْ تكونَ
ذاتُ الله تعالى وتقدس مركبةً، فيجب نفي الصفات، لاستلزامها هذا المعنى الممتنع الباطل.
والمركب؛ هو: «المكون من شيئين» مثلاً، وهو:«المنقسم» ، وله معانٍ في اللغة
(1)
، والاصطلاح، وهو في اصطلاح الفلاسفة:«ما يتميز فيه وجه عن وجه» ، يعني: ما يتميز بعضه عن بعض، فيكون متميزاً، له جوانب، ومعانٍ.
وهم يَغْلُون في توحيد الله، فيقولون:«إنه واحد من جميع الوجوه» ، ومن هنا نفوا الصفات؛ لأنها تتضمن إثبات معانٍ للذات الواحدة.
ويجيب الشيخ عن هذه الشبهة المعروفة ب «شبهة التركيب» عند الفلاسفة، بأنَّا لو سلمنا جدلاً بأنَّ إثبات الصفات تركيبٌ؛ فأنتم أيها الفلاسفة تقولون:(بأنَّ الله تعالى: موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة). وهذه معانٍ متعددة ومتغايرة، وهو تركيب عندكم، ومع ذلك تثبتونه لله تعالى وتسمونه «توحيداً» ، فإن كان إثبات هذه المعاني عندكم توحيداً، فإثبات الصفات لله تعالى توحيد، وإن كان إثبات الصفات لله تعالى يعد عندكم من التركيب الممتنع، لإفادتها معانٍ متعددة؛ فكذلك ما أطلقتموه على الله تعالى يعدُّ تركيباً ممتنعاً، يعني: أنا نقول لكم فيما نفيتم كما تقولونه فيما أثبتم، ونقول لكم فيما أثبتم ما تقولونه فيما نفيتم.
وإطلاق الفلاسفة على الله تعالى بأنه (عَقْلٌ) لا يجوز لما يلي:
(1)
«القاموس المحيط» ص 117.
1 -
أنه لفظ مبتدع لم يرد به الشرع.
2 -
أنه مأخوذ من العِقال، وسمي العقل عَقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن الوقوع فيما لا يحسن، ويمنعه عنه
(1)
، وهذا المعنى لا يليق بالله تعالى؛ لأنه يشعر بنقص يناسب المخلوق؛ بل الله تعالى عالم، وعليم، وعلام الغيوب سبحانه وتعالى.
وأما القول بأنه (معقول) فهذه اللفظة؛ تتضمن نسبة العقل إلى الإنسان، فهو يعقل صفات الله تعالى، أي: يعلمها ويفهم معناها بعقله، فالمسألة هنا أسهل.
وكذلك إطلاق لفظ (عشق)، و (عاشق)، و (معشوق)؛ لا يجوز في حق الله تعالى لما يلي:
1 -
أنه لم يرد في الشرع؛ بل هو لفظ مبتدع.
2 -
أنه يتضمن معنى لا يناسب في حق الرب تعالى
(2)
، بل لا يقال فيه تعالى ولا يطلق عليه؛ إلا ما ورد في الكتاب والسنة؛ من أنه تعالى: يحبُ أولياءه ويحبونه.
بقي سؤال هنا؛ وهو: هل يجوز إطلاق لفظ «التركيب» على الله تعالى نفياً أو إثباتاً؟
والجواب: أن يقال: «إن لفظ «التركيب» كغيره من الألفاظ المحدثة، والمحتملة، مثل:«التجسيم» ، و «التشبيه» ، فقد يتضمن نفيها؛ نفي
المعنى الحق، وقد يتضمن إثباتها؛ إثبات المعنى الباطل، ولذا وجب الاستفصال والتفصيل، فلا تنفى مطلقاً، ولا يثبت معناها مطلقاً».
وقد فصَّل شيخ الإسلام هذا المعنى في بعض كتبه ك «المنهاج» وغيره
(1)
، وبيَّن أن المركب يحتمل معانٍ؛ منها:
1 -
ما كان متفرقاً، ثم اجتمع.
2 -
ما يقبل الانقسام والتفرق.
3 -
ما تقوم به العديد من الصفات، كما عند الفلاسفة.
فالأول والثاني باطلان ممتنعان على الله تعالى؛ لأنه سبحانه: أحدٌ، صمد، لم يلد ولم يولد، ولا تجزُّؤ في ذاته.
وأما الثالث؛ فهو باطل من جهة اللغة، فليس في لغة العرب تسمية الواحد الموصوف بالصفات مركباً.
وأما من جهة المعنى؛ فهو ثابت لله تعالى، وإن سماه الفلاسفة تركيباً، فالاصطلاحات اللفظية؛ ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية.
* * *
(1)
«منهاج السنة» 2/ 164 و 2/ 538، و «الرد على المنطقيين» ص 226، و «شرح حديث النزول» ص 88، و «الصفدية» ص 134، و «شرح الأصبهانية» ص 72، و «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 100 و 3/ 403 5/ 142 و 9/ 310، و «الرسالة الأكملية» ص 109، و «فهرس مجموع الفتاوى» 36/ 113.
وذلك أنه من المعلوم في صريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً؛ هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته؛ هو نفس كونه عالماً قادراً، فمن جوَّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف؛ فهو من أعظم الناس سَفسطة، ثم إنه متناقض؛ فإنه إن جَوَّز ذلك؛ جاز أن يكون وجودُ هذا هو وجود هذا، فيكون الوجودُ واحداً بالعَين لا بالنوع.
وحينئذٍ، فإذا كان وجود الممكن؛ هو وجود الواجب، كان وجودُ كلِّ مخلوقٍ - يعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه -؛ هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم.
وإذا قُدِّر هذا، كان الوجود الواجب موصوفاً بكلِّ تشبيه وتجسيم، وكلِّ نقص، وكلِّ عيب، كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود، الذين طَرَدُوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذٍ؛ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير.
يؤكد الشيخ ما سبق في رده على الفلاسفة في شبهة «التركيب» ، فيبين أنه من المعلوم بصريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً؛ هو معنى كونه قادراً، وهذا فيه رد على الفلاسفة في قولهم:«إن العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والإرادة هي الحياة» ، فيجعلون
الصفة هي الصفة الأخرى، وهكذا بقية الصفات، فكل صفة معناها هو معنى الصفة الأخرى.
كما أنه من المعلوم أن نفس ذاته ليس هو معنى كونه عالماً قادراً، وهذا يرجع إلى إبطال قولهم: إن الصفة هي الموصوف.
(فمن جوَّز أن تكون الصفة هي الصفة الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف؛ فهو من أعظم الناس سَفسطة)، أي: مناقضة للعقول، ثم إن من قال بهذا القول؛ فإنه متناقض، ووجه تناقضه: أنه إذا جوَّز الوَحْدة بين هذه المعاني المتعددة المختلفة: لزمه (أنْ يجوِّز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا)، أي: وجود هذا الممكن، هو وجود ذاك الممكن، فوجود هذا الإنسان هو وجود ذلك الإنسان الآخر، والثالث، والرابع وهلمَّ جرَّا من بقية الموجودات من حيوانات، وجمادات، ومن جميع المعاني المتعددة.
فإذا جعل العلمَ هو القدرة، والسمع هو البصر وهكذا، وجعل العلمَ هو العالم، فَطَرْدُ ذلك: أن يكون وجود الموجودات واحداً، فالوجود عنده واحد بالعين لا بالنوع.
والواحد بالعين؛ هو: الذي لا يقبل الشركة، أي: الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
والواحد بالنوع؛ هو: المشترك، أي: الذي لا يمنع تصوره وقوع الشركة فيه.
فهؤلاء جعلوا الوجود الواحد بالنوع واحداً بالعين، فصار وجود الممكن؛ هو وجود الواجب، أي: صار وجودُ المخلوقِ، الذي يعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه؛ هو: نفس وجود الرب الواجب الغني عن كل ما سواه، الذي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم.
وإذا كان الواقع كما يقوله هؤلاء الفلاسفة؛ لزم أن يكون الوجودُ الواجب - أي: وجود الرب تعالى - موصوفاً بكلِّ تشبيه وتجسيم، وكلِّ نقص وعيب، طالما أنه لا فرق بين وجود الواجب، والممكن. أي: الخالق، والمخلوق.
وهذا اللازم يصرح به أهل (وَحْدة الوجود الذين طَرَدُوا هذا الأصل الفاسد). أي: عمَّموه، وأطلقوه، والتزموا به.
وقد تبين مما سبق: أن أقوال نفاة الصفات باطلة على كلِّ تقدير، أي: سواء أجيب عنها بفرض التسليم، أو بالمنع، كما سبق في الرد على الأشاعرة، والمعتزلة، والجهمية، والفلاسفة والباطنية.
* * *
لزوم التناقض لكلِّ مَنْ نفى شيئاً مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا باب مُطَّرِدٌ، فإن كلَّ واحد من النفاة لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً - فراراً مما هو محذور -؛ إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فرَّ منه، فلا بُدَّ له في آخر الأمر من أن يثبت: موجوداً، واجباً، قديماً، متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه.
فيقال له: «وهكذا القول في جميع الصفات» . وكلُّ ما نثبته من الأسماء والصفات؛ فلا بُدَّ أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فهم الخطاب، ولكن نعلم أنَّ ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه؛ أعظمُ مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
يختم الشيخ هذا الأصل بالإشارة إلى تناقض المخالفين النفاة الذين ينفون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفات الله تعالى سواء نفياً عاماً أم نفياً لبعضها.
فكل من نفى شيئاً مما جاء في كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله تعالى، فراراً من محذور مُتوهم لديه؛ فلا بد أن يثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه
(1)
.
ولابد لهذا النافي أن يثبت: (موجوداً، واجباً، قديماً، متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه)، وإلا خرج إلى التعطيل والجحد المحض لوجود الرب تعالى.
وإذا أَثبت «موجوداً متصفاً بصفات تميزه عن غيره» ليس كسائر الموجودات، قيل له:(وهكذا القول في جميع الصفات)، فنثبتها على وجه يليق بالله تعالى، ليس مماثلا فيها لشيء من خلقه».
وبعد إثبات الأسماء والصفات؛ فلا بُدَّ أن يُعلم بأنها تَدل ويُفهم من معانيها: (قَدْرٌ مشترك تتواطأ) - أي: تتفق - (فيه المسمَّيات).
مثال ذلك: إذا قلنا: «اللهُ موجودٌ» ؛ فإنه يدل على قدر مشترك يدل على مطلق الوجود، وهو مسمى الاسم المطلق:«وجود، أو: موجود» ، فنفهم من قولنا:«اللهُ موجودٌ» : المعنى العام الكلي المشترك للفظ: «الوجود» ، كما نفهم منها: ما يدل عليه التخصيص والإضافة إلى الرب تعالى؛ مثل: كونِ وجودِه: واجباً، قديماً، ونحو ذلك.
ولا بدَّ من هذا القدر المشترك الذي تتفق فيه المسميات، ولولا ذلك لما فهم الخطاب، فإذا قرأنا قوله تعالى:{اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] فنفهم من قوله: {الْحَيُّ} قَدْراً مشتركاً، ومعنى عاماً، هو: مسمى الاسم المطلق للفظ: {الْحَيُّ} ، وهو: كونه ذو حياةٍ، والحياةُ ضد الموت.
(1)
«شرح حديث النزول» ص 112، و «مجموع الفتاوى» 6/ 45، و «الصفدية» ص 327، و «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 128.
ولا بد من وجود هذا القدر المشترك حتى يفهم الخطاب، ولو لم يكن هذا المعنى مفهوماً؛ لم نعلم معاني أسماء الله وصفاته، ولم نميز بينها، وَلَكَان اللهُ تعالى خاطبنا بما لا نعقل ولا نفهم.
ومع ذلك، يجب أن نعلم أنَّ ما اختصَّ الله تعالى به عن خلقه من معاني صفاته من: حياة، وسمع، وبصر، وقدرة، وغير ذلك؛ فوقَ، وأعظمُ مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، لأنَّ كُنْهَ صفات الله تعالى وحقائقها؛ لا ندركها، ولا يمكن أن نحيط بها، أو نتخيلها.
* * *
القول في الصفات كالقول في الذات
وهذا يتبين بالأصل الثاني وهو أن يقال: «القول في الصفات كالقول في الذات» ، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات.
فإذا قال السائل: «كيف استوى على العرش» ؟
قيل له - كما قال ربيعةُ ومالكٌ وغيرهما -: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة» ، لأنه سؤال عمَّا لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: «كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» ؟
قيل له: «كيف هو» ؟ فإذا قال: «أنا لا أعلم كيفيته» .
قيل له: «ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة؛ يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له. فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه، وبصره، وتكليمه، ونزوله، واستوائه، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟!
وإذا كنت تقر بأن له ذاتاً حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء؛ فسمعه، وبصره، وكلامه، ونزوله، واستواؤه؛ ثابتٌ في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي
لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم، وكلامهم ونزولهم واستواؤهم».
هذا هو الأصل الثاني من الأصلين اللَّذَيْنِ سبق أن نوَّه عنهما المؤلف بقوله: «وهذا يتبيَّن بأصلين شريفين»
(1)
.
فالأصل الأول سبق الكلام فيه؛ وهو: (أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض)
(2)
، وقد رد به المؤلف على: الأشاعرة، والمعتزلة، والجهمية، والفلاسفة، والباطنية.
وأما الأصل الثاني؛ فهو الذي ذكره المؤلف هنا بقوله: (القول في الصفات كالقول في الذات)، يعني: أن حكم الذات والصفات واحدٌ، فما يقال في أحدهما من إثبات أو نفي يقال في الآخر، وما يوصف به أحدهما من تنزيه أو تمثيل يصدق على الآخر، فالقول فيهما واحد.
وجميع الطوائف يُقرون بأن لله تعالى ذاتاً وحقيقة ثابتة في نفس الأمر، ولا تشبه سائر الذوات، فيقال لهم:«فكذلك هذه الذات موصوفة بصفات لا تشبه صفات المخلوقين، فالله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله» .
(1)
ص 168.
(2)
ص 172.
وهذا الأصلُ يمكن أن يردَّ به على جميع الطوائف، لكن أخص مَنْ يردُّ به عليه من الطوائف: الجهمية، كما يمكن أن يرد به على أهل التكييف، الذين يذكرون لصفات الله كيفية، أو يسألون عن كيفيتها.
ولفظ: (الذات) لم يرد في النصوص الشرعية إطلاقه على الله تعالى إلا فيما يضاف إليه من شرائعه، كما في شعرِ خُبيبٍ رضي الله عنه لما أرادوا قتله قال:
فلستُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مسلماً
…
على أيِّ جنبٍ كان لله مَصرعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشأ
…
يُبارِكْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
(1)
يقول أهل اللغة
(2)
: إن «ذات» مؤنث لفظ «ذو» بمعنى: صاحب.
(1)
خبيب؛ هو: ابن عَدي بن مالك الأنصاري الأوسي، شهِد بدراً، وقَتَل فيها: الحارث بن عامر بن نوفل، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عشرة رجال سرية عَيناً منهم خبيب، فلما كانوا بالهدأة، نفر لهم مائة رجل من بني لحيان من هذيل، فقتلوا منهم ثمانية، وأسروا خبيباً، وباعوه بمكة لبني الحارث بن عامر - بعد معركة بدر - فقال هذه الأبيات عند قتله رضي الله عنه.
انظر: «صحيح البخاري» (3989)، و «الإصابة في تمييز الصحابة» 2/ 225.
(2)
«تهذيب اللغة» 15/ 41، و «الصحاح» 6/ 2551، و «القاموس المحيط» ص 1741.
ولم تأت في اللغة بمعنى: «الحقيقة» . فيقال: جاء محمد نفسه، ولا يقال: ذاته، وقيل: بل ورد، وإن كان قليلاً
(1)
، كما في الأثر:«تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله»
(2)
.
(فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش)؟
فإنه يجاب بما جاء عن بعض السلف كالإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والإمام مالك، وغيرهما
(3)
من الجواب المحكم والذي جاء فيه:
(الاستواء معلوم): يعني: معلوم معناه في اللغة؛ وهو: علا، وارتفع.
(1)
«مفردات ألفاظ القرآن» ص 333، و «مشارق الأنوار» 1/ 273، و «نتائج الفكر» ص 231، و «تهذيب الأسماء واللغات» 3/ 113، و «درء تعارض العقل والنقل» 4/ 141 و 10/ 157، و «الرسالة الأكملية» ص 99، و «مجموع الفتاوى» 6/ 341، و «الصواعق المرسلة» 4/ 1384، و «بدائع الفوائد» 2/ 402، و «فتح الباري» لابن حجر 13/ 381، و «الكليات» ص 454.
(2)
رواه أبو الشيخ في «العظمة» 1/ 240، وابن بطة في «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» - الرد على الجهمية - 3/ 152، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص 271 من قول ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظه: «تفكروا في كل شيء
…
». وقال الذهبي في «العرش» 2/ 134: «إسناده حسن» ، وقال ابن حجر في «الفتح» 13/ 383:«سنده جيد» .
(3)
تقدم تخريجه في ص 93. وربيعة؛ هو: ابن أبي عبد الرحمن فرُّوخ التيمي مولاهم، أبو عثمان، الإمام، الفقيه، المجتهد، مفتي المدينة، اشتهر ب «ربيعة الرأي»؛ لأنه كان بصيراً بالرأي. سمع من: أنس بن مالك، وعامة التابعين من أهل المدينة. وروى عنه: الأئمة: مالك، والأوزاعي، وشعبة، والثوري، والليث بن سعد، وغيرهم. وحديثه مخرَّج في الكتب الستة. توفي سنة 136 هـ. «تاريخ بغداد» 9/ 414، و «سير أعلام النبلاء» 6/ 89.
(والكيف مجهول): أي: كيفية الصفة مجهولة لنا، فالواجب إمرارها كما جاءت دون سؤال عن كيفيتها.
(والإيمان به واجب): أي: الإيمان بالاستواء واجب؛ لأنه داخل في الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، وهو مِنْ مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، لأن من مقتضاها: تصديقه فيما أخبرَ، واستواءُ الرب تعالى على العرش؛ هو مما أخبرنا الله به في كتابه، وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم.
(والسؤال عن الكيفية بدعة)؛ فلم يكن من منهج السلف السؤال عن كيفية صفات الرب تعالى؛ لأنه سؤال عمَّا لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
فالسؤال عمَّا استأثر الله بعلمه بدعة، ثم إنه طَلَبُ شيءٍ لا سبيل إليه، وليس هذا من شأن العاقل.
وهذا الجواب المأثور عن بعض السلف في السؤال عن كيفية الاستواء؛ يمكن أن يُقال في السؤال عن كيفيةِ أيِّ صفة من صفات الله تعالى.
ثم ذكر المؤلف جواباً آخر لمن سأل عن الكيفية، فإذا قال:(كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)؟
(قيل له: كيف هو؟) أي: يسأل عن كيفية ذات الرب تعالى.
(فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته).
(قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذِ العلمُ بكيفية الصفة؛ يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له)، فإذا انتفى اللازم؛ انتفى الملزوم
(1)
، فإذا انتفى العلم بكيفية الموصوف؛ انتفى العلم بكيفية الصفة بطريق الأولى.
فكيف تُطالِب بالعلم بكيفية الصفات، وأنت لا تعلم كيفية الذات؟
(فإذا كنت تُقر بأن لله تعالى ذاتاً حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء من خلقه)؛ فكذلك سائر صفاته سبحانه وتعالى، فإنه يجب إثباتها ونفي مماثلتها لصفات الخلق، ونفي العلم بكيفيتها
(2)
.
* * *
(1)
سيأتي بيان معنى «الملزوم» ، و «اللازم» في ص 415.
(2)
«مجموع الفتاوى» 12/ 575، و 33/ 177، و «مناظرة الواسطية» ص 167، و «الفتوى الحموية» ص 367 و 541، و «الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز» ص 355.
تناقض المفوضة والمؤولة
وهذا الكلامُ لازمٌ لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات؛ فإنَّ من أثبت شيئاً ونفى شيئاً بالعقل؛ إذا ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة، نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا: لم يجد بينهما فرقاً.
ولهذا لا يُوجد لنفاةِ بعضِ الصفاتِ دونَ بعضٍ - الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ - قانونٌ مستقيم، فإذا قيل لهم:«لِمَ تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد» ؟ لم يكن لهم جواب صحيح. فهذا تناقضهم في النفي.
أي: إلزام من أثبت شيئاً ونفى شيئاً بأن يثبت الكل دون تفريق بين المتماثلات، أو ينفي الكل، وإلا وقع في التناقض، كما ألزمنا من أثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات؛ بأن يثبت لله تعالى - أيضاً - صفات لا تشبه الصفات، ولا تُعلم كيفيتها.
فهذا الاحتجاجُ والإلزام بالتسوية بين المتماثلات، وترك التناقض: لازمٌ حتى في العقليات، وفي تأويل السمعيات.
فإن من نفى شيئاً، أو أثبت شيئاً من صفات الله تعالى بالعقل، فإنه يُلزم فيما نفاه من الصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسنة؛ بنظير ما أثبته، والعكس كذلك، وإلا وقع في التناقض، كما سبق أن «القول في بعض الصفات كالقول في بعض»
(1)
. كما سبق - أيضاً - الجواب عمَّن زعم أن العقل يدل على إثبات بعض الصفات دون بعض
(2)
.
ولو طُولب هذا المفرق بين الصفات بين المحذور في هذا، والمحذور في هذا؛ لم يجد فرقاً صحيحاً؛ بل هو متناقض، وحجته داحضة، وإذا كان الأمر كذلك؛ وجب إثبات كل ما جاء به الدليلُ الصحيح السالمُ عن المعارض من صفات الله تعالى.
ولهذا لا يُوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض قانونٌ وقاعدة مطردة مستقيمة؛ بل هم متناقضون - كما سبق - فيثبتون بعض الصفات على ظاهرها، وينفون بقية الصفات، ويمنعون إجراءها على ظاهرها؛ فهم مفرقون بين الصفاتِ، ونصوصِ الصفات دون قانونٍ مستقيم، وليس لهم جوابٌ صحيح عن هذا التناقض الظاهر في التفريق بين المتماثلات.
(1)
ص 172.
(2)
ص 178.
ثم إن هؤلاء المتناقضين لهم تجاه نصوص الصفات التي ينفونها أحد طريقين:
إما التفويض، وإما التأويل.
فأما التفويض؛ فهو عندهم: «إجراء النصوص على ظاهرها من غير فهم لمعناها» ، فليس لها معنى مفهوم عندهم، وربما قالوا:«لها تأويل لا يعلمه إلا الله» .
وأما التأويل؛ فهو: «صرف اللفظ عن معناه الظاهر لدليل» . وسيأتي حديث مطوَّل عنه في «القاعدة الخامسة»
(1)
.
فأهل التأويل والتفويض يتفقون على نفي الصفة، وتعطيلِ النص عن معناه الحقيقي الدال على وصف الرب تعالى بما يليق به.
ويختلفون في تخريج النص وموقفهم منه، فأهل التفويض يقولون:«ليس له معنى مفهوم» .
وأهل التأويل يقولون: «له معنى مفهوم» ، ثم يُفسِّرونه: ب «الإرادة» ، أو «ببعض المفعولات» ، كما تقدم
(2)
.
* * *
(1)
ص 352.
(2)
ص 175.
وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإنَّ مَنْ تأوَّل النصوص على معنى مِنَ المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النصَّ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر؛ لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه.
فإذا قال قائل: «تأويل محبته، ورضاه، وغضبه، وسخطه؛ هو: إرادته للثواب، والعقاب» ؛ كان ما يلزمه في الإرادة؛ نظير ما يلزمه في: الحب، والمقت، والرضا، والسخط.
ولو فَسَّر ذلك بمفعولاته - وهو: ما يخلقه من الثواب، والعقاب -؛ فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فرَّ منه، فإن الفعل المعقول؛ لا بُدَّ أن يقوم أولاً بالفاعلِ، والثوابُ والعقاب المفعول إنما يكون على فعلِ ما يحبُّه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه؛ المثيبُ المعاقبُ.
فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد؛ مثَّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك؛ فكذلك سائر الصفات.
التناقض في الإثبات متلازم مع التناقض في النفي، ففي كلا الحالتين يثبت نظير ما ينفي، وينفي نظير ما يثبت.
فهذا المتأول الذي ينفي: «المعنى الظاهر» ، الذي هو الاحتمال الراجح، ويثبت المعنى المرجوح؛ متناقض.
ووجه تناقضه: أنه لا فرق بين المعنى المصروف إليه، والمعنى المصروف عنه الذي ينفيه، فإنه يلزمه في المعنى المصروف إليه الذي يثبته؛ نظير ما يلزمه في المعنى المصروف عنه الذي ينفيه.
فإن كان يلزم في المعنى المصروف عنه محذور؛ فإنه لازم - أيضاً - في المعنى المصروف إليه، وإن كان لا يلزم في المعنى المصروف إليه محذور؛ فكذلك لا يلزم في المعنى المصروف عنه محذور، فالكلام فيهما واحد، فهذا المتأول لم يستفد شيئاً من هذا التأويل.
وذكر الشيخ لذلك مثالاً؛ وهو: «صفة المحبة» ، فظاهرها محبة حقيقية تليق بالله تعالى، ولكن المتأول صرفها إلى معنى «الإرادة» ، لظنه أن إثبات صفة المحبة؛ يلزم منه التشبيه!
فيقال له: «يلزمك في الإرادة نظير ما يلزم عندك ممَّا فررت منه في صفة المحبة» .
وكذلك إذا فسر الصفة بمفعولات اللهِ تعالى - أي: بما يخلقه الله من الثواب والعقاب - كما إذا فسَّر المحبة؛ بالثواب المفعول - أي: المخلوق -؛ كالجَّنَة، أو الغضب بالعقاب المفعول؛ كالنَّار، فإنه يلزمه فيما فسر به الصفة؛ نظير ما توهم وفر منه من المحذور اللازم على إثبات الصفة على حقيقتها - حسب زعمه -.
وبيان ذلك: أن الفعل لا بدَّ أن يقوم بالفاعل، فالكلامُ لا بد أن يقوم بمتكلم، والقدرة لا بد أن تقوم بقادر، وهكذا.
فالمفعولات لا بد أن تكون بفعل، والفعل لا بد أن يقوم بفاعل.
فهذه المخلوقات المفعولات التي فسروا بها الصفات لا بد أن تكون موجودة بفعل قام بالفاعل.
وأيضاً؛ فالثواب والعقاب المفعول؛ إنما يكون على فعلِ ما يحبُه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيبُ المعاقبُ، أي: أن ما أثبتوه من الثواب والعقاب؛ مستلزمٌ لما نفوه من المحبة والرضا، والغضب والسخط.
* * *
ضرب المثل بموجودات الآخرة، وموجودات الدنيا
فصل
وأمَّا المثلانِ المضروبانِ:
فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أخبرنا عمَّا في الجنة من المخلوقات، من أصناف: المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، والمساكن؛ فأخبرنا أنَّ فيها: لبناً، وعسلاً، وخمراً، وماء، ولحماً، وفاكهة، وحريراً، وذهبا، ً وفضة، وحوراً، وقصوراً.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء» ، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فالخالقُ سبحانه وتعالى أعظمُ مباينة للمخلوقات مِنْ مباينةِ المخلوقِ للمخلوق، ومباينتُه لمخلوقاته؛ أعظمُ من مباينةِ موجودِ الآخرةِ لموجودِ الدنيا؛ إذ المخلوقُ أقربُ إلى المخلوقِ الموافقِ له في الاسم مِنَ الخالق إلى المخلوق. وهذا بيِّنٌ واضحٌ.
بعد أنْ ذكرَ الشيخُ الأصلينِ اللَّذَيْنِ يُرَدُّ بهما على نفاةِ الصفات، شَرَعَ في ذِكْرِ المثلينِ المضروبينِ في ذلك.
فالمثل الأول: ما أخبر الله تعالى به عمَّا في الجنة من المخلوقات ممَّا أعدَّ لأوليائه من أصناف النعيم؛ من: (المطاعم، والمشارب، والملابس، والمساكن)، وغير ذلك، فأخبرنا أن فيها:(لبناً، وعسلاً، وخمراً، وماء، ولحماً)، وغير ذلك، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما:«ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء»
(1)
، فموجوداتُ الآخرةِ موافقةٌ لموجوداتِ الدنيا في الاسم، وفي مسمى الاسم المطلق؛ وهو:«المعنى العام الكلي المشترك» ، ولكنها مع ذلك ليست مماثلة لها؛ (بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى).
وإذا كان هذا التباين موجوداً بين المخلوقات، وفي صفاتها المتفقة في الأسماء، وفي المعنى الكلي المشترك؛ (فالخالقُ سبحانه وتعالى أعظمُ مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوقِ، ومباينتُه لمخلوقاته أعظمُ من مباينةِ موجودِ الآخرةِ لموجودِ الدنيا؛ لأن المخلوقَ أقربُ إلى المخلوق - الموافق له في الاسم - من الخالق إلى المخلوق)
(2)
.
(1)
رواه هنَّادٌ في «الزهد» ص 49 و 51، والطبري في «تفسيره» 1/ 416، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 1/ 66، والبيهقي في «البعث والنشور» ص 163. وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» 4/ 473:«إسناده جيد» ، وقال ابن تيمية في «الفتوى الحموية» ص 542:«قد ثبت» .
(2)
«درء تعارض العقل والنقل» 6/ 123، و «منهاج السنة» 2/ 157، و «شرح حديث النزول» ص 104، و «الفتوى الحموية» ص 542، و «مجموع الفتاوى» 5/ 207 و 11/ 482 و 9/ 295، و «الإكليل في المتشابه والتأويل» ص 278.
فإثباتُ القدرِ المشترك الذي به تفهم الألفاظ؛ لا يلزم منه التماثل في الخصائص.
فبينَ ماءِ الدنيا وماء الآخرة قدرٌ مشترك؛ وهو: «المعنى العام الكلي للفظ الماء» ، وكذلك بين لبن الدنيا ولبن الآخرة قدرٌ مشترك، وبين خمر الدنيا وخمر الآخرة قدرٌ مشترك، وهكذا بقية الأمور التي أخبر عنها الرب تعالى، ولكل من موجودات الدنيا وموجودات الآخرة خصائص لا يشركه فيها الآخر.
فنحنُ نعلم وندرك: أن اللبن شراب يشرب، وهكذا الخمر، والماء، وبينها فروقٌ، وندرك أن هذه الثلاثة من أنواع الشراب، وليست شيئاً يلبس أو يسكن، فنحن نُفرِّق بين معناها ومعنى: المساكن، والملابس، والمطاعم، والحور العين التي في الجنة.
فلا بُدَّ مِنْ إثباتِ القدر المشترك بين الأشياء المتفقة في أسمائها، وهذا القدرُ المشترك؛ هو: المعنى العام، وهو: مسمى الاسم عند الإطلاق، الذي به يفهم معنى اللفظ المطلق والغائب، ثم عند إضافته وتقييده؛ ينضاف إليه معنى آخر يخصه غير المعنى العام المشترك، ولا بد من هذا القدر المشترك حتى تفهم الألفاظ ويمكن التخاطب بها.
وليس هذا المعنى العام والقدر المشترك؛ هو التشبيه الذي نفته الأدلةُ النقليةُ، والعقليةُ.
فالاتفاق في الأسماء، وثبوت القدر المشترك؛ لا يستلزم التماثل في الخصائص.
(1)
ص 146.
فِرقُ الناس فيما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر
ولهذا افترقَ الناسُ في هذا المقام ثلاث فرقٍ:
فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر اللهُ به عن نفسه، وعن اليومِ الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وأنَّ مباينةَ اللهِ لخلقِهِ أعظمُ.
والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل: طوائف من أهل الكلام: المعتزلة، ومَن وافقهم.
والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا؛ كالقرامطة الباطنية، والفلاسفة أتباع المشَّائين، ونحوهم من الملاحدة، الذين ينكرون حقائقَ ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر.
ثُمَّ إنَّ كثيراً منهم: يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب؛ فيجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها؛ لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت.
فيقولون: «إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام شهر رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم» !، ونحو ذلك من التأويلات، التي يعلم بالاضطرار أنها كذبٌ وافتراء
على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريفٌ لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحادٌ في آيات الله.
وقد يقولون: «إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة» ، فإذا صار الرجلُ مِنْ عارفيهم، ومحققيهم، وموحديهم؛ رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات.
وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك مَنْ يدخل في بعض هذه المذاهب.
وهؤلاءِ الباطنيةُ الملاحدةُ؛ أجمع المسلمونَ على أنَّهم أكفرُ من اليهود والنصارى.
يذكر الشيخُ هنا فِرَق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر:
فأهل السنة والجماعة؛ (وهم السلف الصالح والأئمة وأتباعهم: آمنوا بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر)، آمنوا بما جاء في الكتاب والسنة من ذلك كله، مع علمهم وإيمانهم بمباينة موجودات الآخرة لموجودات الدنيا، وأنَّ مباينةَ الله تعالى لخلقه أعظمُ من مباينة هذه المخلوقات بعضها بعضاً.
فمذهبُ أهل السنة والجماعة متفقٌ ومنتظم ومنسجم مع العقل والنصوص الشرعية، لا اضطراب فيه، ولا تناقض.
والفرقةُ الثانية: طوائف من أهل الكلام؛ وهم: الذين أثبتوا ما أخبر الله به من الثواب والعقاب في الآخرة في الجملة، ونفوا كثيراً مما أخبر الله به عن نفسه، ويدخل في هؤلاء: المعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، فهؤلاء كلهم فرَّقوا بين ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فأثبتوا بعضاً ونفوا بعضاً، فوقعوا في التناقض؛ حيث فرقوا بين ما جاءت النصوص الشرعية بإثباته.
وإن كان بين هؤلاء اختلاف في إثبات بعض أمور الآخرة، فالمعتزلة: تنكر الشفاعة لأهل الكبائر، وتوجب لهم الخلود في النار، ومنهم من ينازع في الحوض، والميزان
(1)
، بخلافِ الأشاعرةِ.
والجهميةُ تقول بفناء الجنة والنار
(2)
، بخلاف المعتزلة، والأشاعرة.
والفرقة الثالثة: القرامطة الباطنية، والفلاسفة، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فينفون أسماء الله وصفاته، كما ينفون حقائق اليوم الآخر، وربما لبَّسوا فقالوا:«البعث روحاني» ، وجعلوا ما يكون في الدار الآخرة من النعيم والعذاب من باب التخييل الذي لا حقيقة له.
وكثير من هؤلاء يجعلون الشرائع من هذا الباب، فيجعلون لما أمر الله به وما نهى عنه تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون
(1)
انظر: «الإبانة عن أصول الديانة» ص 86، و «مقالات الإسلاميين» ص 472 - 474، و «درء تعارض العقل» 5/ 348.
(2)
«مقالات الإسلاميين» ص 474، و «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» ص 42، و «حادي الأرواح» 2/ 723، و «الكافية الشافية» ص 23.
منها؛ كما يتأولون الصلوات الخمس بمعرفة أسرارهم، وصيام رمضان بكتمان أسرارهم، وحج البيت الحرام بالسفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذبٌ وافتراء على الله ورسله، وتحريف للكلم عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله وشرائعه
(1)
.
فهذه المعاني التي يفسِّرون بها شرائع الله لا تمتُّ إلى المعنى الحقيقي بصلةٍ؛ لا لغة، ولا شرعاً، وليس عليها أي دليل لا صحيح ولا فاسد؛ بل هي من باب التحريف والإلحاد الظاهر.
وقد يقولون بأن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من كبرائهم ومحققيهم؛ أسقطوا عنه التكاليف، فرفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات، لأن هذه التكاليف إنما تلزم العامة - حسب زعمهم - وهذا يقولونه مصانعة، وإلا فليس في الحقيقة لديهم شرائع يؤمنون بها.
وقد يوجد في بعض المنتسبين للتصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب الباطنية ويتبعها، كالقول بأن للشرع معنى باطناً غير الظاهر، أو أن بعض الناس يصل إلى درجة تسقط عنه التكاليف.
(1)
حكاه عنهم شيخ الإسلام في: «درء تعارض العقل والنقل» 5/ 383، و «بغية المرتاد» ص 381، و «الصفدية» ص 51، و «شرح حديث النزول» ص 426، و «مجموع الفتاوى» 28/ 474، و 35/ 133، وذكر الكتب التي ردت عليهم وبينتْ فضائحهم في:«مجموع الفتاوى» 9/ 134 و 27/ 174، و «منهاج السنة» 8/ 258، و «درء تعارض العقل والنقل» 5/ 8، و «الرد على المنطقيين» ص 184.
ويستفاد من هذا أن الباطنية نوعان
(1)
:
* باطنية الرافضة؛ وهم: الذين يتظاهرون بالتشيع لآل البيت.
* وباطنية الصوفية.
فيشتركون في القول بأنَّ للنصوص معانيَ باطنةً، تخالف ما يفهمه المسلمون منها، وكل منهم يؤول النصوص بحسب ما يتفق مع الشعار الذي يتخذه.
فباطنية الصوفية يتظاهرون بالسلوك والعبادة، وباطنية الرافضة يتظاهرون بحب آل البيت.
والذين ينطبق عليهم وصف أصحاب السلوك الذين ذكرهم الشيخ؛ هم: أصحاب وحدة الوجود، القائلين بأن وجود الرب؛ عين وجود كل موجود.
وهؤلاء الباطنية الملاحدة؛ أجمع المسلمون على أنهم أكفرُ من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى يؤمنون بالله وتَمَيُّزِه عن خلقه، كما يؤمنون باليوم الآخر في الجملة، ويقرون بالجنة والنار والشرائع في الجملة.
أما هؤلاء الباطنية؛ فحقيقة مذهبهم: الكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
(1)
«بيان تلبيس الجهمية» 2/ 167، و «شرح حديث النزول» ص 426، و «رسالة في علم الباطن والظاهر» ص 237.
وما يحتجُ به أهلُ الإيمان والإثبات على هؤلاء الملاحدة؛ يحتجُ به كلُّ من كان من أهل الإيمان والإثبات على مَنْ يَشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دلَّ على ذلك الآيات البينات؛ كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول، ويهدمُ أساسَ الإلحادِ والضلالات.
يذكرُ الشيخُ هنا موازنة بين الباطنيةِ، وأهلِ الكلام.
فأهلُ الكلام شاركوا الباطنيةَ، والفلاسفةَ في نفي ما نفوا من الصفات على اختلاف طوائفهم، كما شاركوا أهل السنة في الإيمان باليوم الآخر.
فكلُّ ما يُرد به على الباطنية في إلحادهم وتحريفهم؛ يُرد به على من شاركهم في بعض إلحادهم وتحريفهم، فإذا قيل للباطنية:«إن تحريفكم لنصوص الشرع باطلٌ ومخالف للمعقول والمنقول واللغة» ، يقال لمن حرَّف معاني نصوص الصفات أو بعضها:«إن تحريفكم لها ونفيكم لحقيقة معناها مخالفٌ للمعقول والمنقول واللغة» ، وهكذا.
ولهذا تسلَّط عليهم الفلاسفة، واحتجوا عليهم بتأويلهم لنصوص الصفات على ما تأولوه من نصوص المعاد والشرائع.
فمن أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات كما دلت على ذلك الأدلة العقلية والنقلية؛ كان ذلك هو الحق الموافق للنقل والعقل، الهادم لأساس الإلحاد والضلال.
* * *
ما يجوز وما لا يجوز من ضرب الأمثال في باب العلم بالله
واللهُ سبحانه وتعالى لا تُضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإنَّ اللهَ لا مِثل له، بل له المَثَلُ الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس «تمثيل» ، ولا في قياس «شمول» تستوي أفراده.
ولكن يستعمل في حقه «المثل الأعلى» ؛ وهو: أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال؛ فالخالق أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص؛ فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق مُنزَّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم؛ فالخالق أَولى أن يُنزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم.
وبعد أن ذكر الشيخُ المثلَ المضروب بأسماء نعيم الجنة وموافقتها لبعض الأسماء المشاهدة في الدنيا، وذكر مواقف الناس من ذلك، ختم الحديث عن ذلك بالتأكيد والتذكير بأن الله تعالى (لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه)، كما قال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلّهِ الأَمْثَالَ
إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون (74)} [النحل] وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى].
فأما ضرب الأمثال التي تتضمن تعظيمه، وتُبين أنه تعالى أَولى بالكمال، وأَولى بالتنزيه عن النقص من خلقه؛ فهذا واردٌ في القرآن؛ كما في قوله تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِنْ شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} [الروم: 28].
فهذا من قياس الأولى، ومضمونه: أنه إذا كان المملوك منكم لا يكون شريكاً لمالكه، ولا يرضى المالكُ أن يكونَ المملوكُ شريكاً له ومساوياً له؛ فاللهُ تعالى أَولى ألَّا يكون أحد من خلقه وعبيده شريكاً له.
(فلا يجوز أن يشترك الخالقُ والمخلوق في قياس «تمثيل»)، يستوي فيه الفرع والأصل، (ولا في قياس «شمول» تستوي أفراده)
(1)
.
فقياس الشمول: مصطلح منطقي معروف؛ وهو: «الدليل المكون من مقدمتين، فأكثر»
(2)
، والمقدمة؛ هي:«القضيةُ التي تُكَوِّن جزءَ الدليل» .
(1)
«بيان تلبيس الجهمية» 2/ 347، و «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 29 و 7/ 323 و 362، و «الرد على المنطقيين» ص 193، و «شرح الأصبهانية» ص 180.
(2)
وتمامُ التعريفِ: «يلزم عنهما لذاتهما قولا آخر» . «حاشية الأخضري على السلم» ص 33، و «حاشية الباجوري على السلم» ص 60، و «إيضاح المبهم من معاني السلم» ص 12، و «آداب البحث والمناظرة» ص 103.
وقياس التمثيل؛ هو: القياس المعروف عند الأصوليين؛ وهو: «إلحاقُ فَرْعٍ بأصل في حُكم؛ لِعلةٍ جامعةٍ بينهما»
(1)
؛ وحقيقة القياسَين واحدة، إلا أنهما مختلفان في الأسلوب والصيغة
(2)
.
وتقريب هذا بالمثال التالي:
فمثال القياس الفقهي - «قياس التمثيل» -: إلحاق النبيذ بالخمر في التحريم؛ لجامع الإسكار. فالنبيذ: فَرْعٌ، والخمر: أصل، والحكم: التحريم، والعلة: الإسكار.
وهذا القياس يُمكن أن يصاغ بصيغة «قياس الشمول» ؛ فيقال:
النبيذ: مسكر، وكل مسكر حرام؛ فالنبيذ: حرام
(3)
.
فلا يجوز استعمال قياس التمثيل، ولا الشمول في حق الله تعالى، فلوازم صفات المخلوق؛ لا تلزم في صفات الله تعالى.
وأهل البدع يستعملون قياس الشمول في حق الرب تعالى، ومن ذلك قولهم:«الصفات لا تقوم إلا بجسم، وكل جسم مركب، فلو كان لله تعالى صفات؛ لكان جسماً، ثُم لكان مركباً؛ فيلزم من ذلك: التركيب، والتشبيه» ، فينفون عن الله تعالى الصفات بناء على أنه يلزم في حق الخالق ما يلزم في حق المخلوق.
(1)
«روضة الناظر» 3/ 797، و «أصول الفقه» 3/ 1189، و «شرح الكوكب المنير» 4/ 6.
(2)
«الرد على المنطقيين» ص 157، و «درء تعارض العقل والنقل» 7/ 153، و «آداب البحث والمناظرة» ص 291.
(3)
«شرح الأصبهانية» ص 455.
فلا يجوز أن يُستعمل في حق الرب تعالى هذا القياس، وإنما يستعمل في حقه: قياس الأولى؛ كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [النحل: 60].
و (المثل الأعلى)؛ هو: «الوصف الأكمل» ، فله المثل الأعلى في الواقع، وفي قلوب المؤمنين.
و (المثل الأعلى)؛ يتضمن قياس الأَولى؛ وهو: «أنَّ كلَّ كمالٍ ثبت للمخلوق لا نقص فيه؛ فالخالقُ أَولى به» .
فمثلاً: نقول: «العلمُ صفة كمال، والمخلوقُ يتصف بالعلم؛ فالخالقُ أَولى بالاتصاف بصفة الكمال هذه من المخلوق، لئلا يكون المخلوقُ أكملَ من الخالق» .
وتقييدُ الكمال بكونه (لا نقص فيه) احترازٌ من بعض الكمالات التي يوصف بها المخلوق وهي كمال في حقه، ولكنها تتضمن نقصاً، فالإنسانُ الذي يولد له؛ أكملُ من العقيم، والإنسانُ الذي يأكل الطعام؛ أكملُ من المريض الذي لا يأكل.
ولكن هذا الكمال يستلزم نقصاً في المخلوق، فالولدُ يستلزم التجزؤ في الإنسان؛ لأن الولد جزء من الوالد، كما أنه يستلزم النظير، فالولدُ نظيرُ والده، ويستلزم الحاجة من وجه؛ كحاجته إليه في معونته مثلاً، كما أنَّ الأكل يستلزم الحاجة إلى الطعام.
وكذلك كل ما تنزه عنه المخلوق من صفات النقص؛ فالخالقُ أولى بأن ينزه عنه.
فإذا كان المخلوقُ منزهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم - كما سبق في ذكر المثل بموجودات الآخرة مع موجودات الدنيا
(1)
- فالخالقُ سبحانه وتعالى أولى ألَّا يماثل خلقه، وإنْ حصلت موافقة في الاسم، المتضمنة للاشتراك في المعنى العام الكلي المشترك، الذي هو مسمى الاسم عند الإطلاق.
* * *
(1)
ص 225.
ضرب المثل بالروح، ومذاهب الناس فيها
وهكذا القول في المثل الثاني؛ وهو: الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوصُ أنها تَعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسَلُّ منه كما تسل الشعرة من العجين.
والناس مضطربون فيها:
فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم:«إنها النَفَس أو الريح التي تتردد في البدن» ، وقول بعضهم:«إنها الحياة، أو المزاج، أو نفس البدن» .
ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون:«لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عَرَض» !.
وقد يقولون: «إنها لا تُدرِك الأمورَ المعينةَ، والحقائقَ الموجودةَ في الخارج، وإنما تُدرِك الأمور الكلية المطلقة» !.
وقد يقولون: «إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة» !.
وربما قالوا: «ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها» ، مع تفسيرهم للجسم بما يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تُلْحِقها بالمعدوم والممتنع.
يذكر الشيخ هنا المثل الثاني المضروب في الرد على نفاة الصفات فيمثل بالروح التي فينا، والتي جعلها الله قواماً لأبداننا، فالإنسانُ مُكَوَّنٌ مِنْ روح وبدن، ولا قيمة للبدن بلا روح.
أما الروحُ؛ فهي: كائنٌ، موجود، قائم بنفسه، فلا تفتقر في وجودها إلى البدن، بدليل أنها تنفصل من البدن ويكون لها شأن بعد فراقها البدن.
(وهذه الروح جاء وصفها بصفات ثبوتية وسلبية، فقد أخبرت النصوص أنها تَعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تسل الشعرة من العجين).
فهذه الروح التي فينا رغم قربها واتصالها بنا، فالناس مختلفون فيها ومضطربون في شأنها اضطراباً عظيماً يصل إلى التناقض
(1)
، ويلخص الشيخ مواقفهم في ثلاثة اتجاهات:
(1)
«الروح» ص 272.
الأول: طوائف من أهل الكلام: جعلوا الروح من جنس الأجسام المشاهدة، وعبَّروا عن ذلك بعبارات مختلفة؛ منها:
1 -
البدن.
2 -
جزء من البدن.
3 -
صفة من صفات البدن، أي: عَرَض.
4 -
النَفَس. أي: ما يحصل بعملية التنفس من تردد الهواء في البدن.
5 -
المزاج. أي: مجموع الطبائع في ذات الإنسان.
وكلُّ هذه العبارات التي ذكرها أهل الكلام في الروح؛ باطلةٌ، لا تعبر عن حقيقتها، وهي مخالفة لما جاء في النصوص من صفاتها، فالروحُ ليستْ هي البدن، وليست جزءاً منه؛ كالكبد والطِّحال، وليست صفة من صفاته؛ كالطول، والبياض، وليست هي النَفَس الداخل إلى البدن والخارج منه، وليست هي المزاج؛ بل هي شيء آخر، جاء وصفه في النصوص الشرعية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكما يأتي شيء من ذلك إن شاء الله.
الثاني: قول طوائف من الفلاسفة، وهو قول مناقضٌ لقول أهل الكلام، فقد وصفوا الروح بضد ما توصف به الأجسام المشاهدة، فوصفوها بما يصفون به واجب الوجود من الصفات السلبية؛ بل بسلب النقيضين، مما لا يتصف به إلا المعدوم والممتنع.
فيقولون في الروح؛ إنها: (لا داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عَرَض)!.
وقد يقولون: (إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة)!، ونحو ذلك من العبارات التي نجدُ أنَّ بعضها مقاربٌ لبعضٍ في المعنى، وأكثرُها دالةٌ على سلب النقيضين، مما لا يوصف به إلا المعدوم، الممتنع.
وقد يقولون: إن الروح «لا تدرِك الأمور المعينةَ والحقائقَ الموجودة في الخارج» - أي: أنها لا تدرك شيئاً من الموجودات المشاهدة -، «وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة». أي: المعاني الكلية التي لا توجد إلا في الذهن؛ كالمعنى المفهوم من كلمة: «إنسان» ، أو «حيوان» ، أو «وجود» ، ونحو ذلك من المعاني الكلية المشتركة.
ويلاحظ أن هذا القول؛ هو في المعنى: نَفْسُ قولهم: «إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات» !، وهذا المعنى باطل؛ فإن الروح حقيقة قائمة بنفسها، ولها إدراك.
وبهذا يتبين أن حقيقة مذهب الفلاسفة؛ إنكار الروح، وإن زعموا أنهم يُقِرون بها؛ لأنهم وصفوها بما يمتنع وجوده.
الثالث: من الأقوال في الروح: القول الحق؛ وهو: «أن الروح حقيقة موجودة قائمة بنفسها، موصوفة بصفات» ، مثل: أنها تذهب وتجيء، وتصعد وتهبط، وتُقبض وتُرسل، وتُنَعَّم وتُعَذَّب، وهي:
عالمة، وقادِرة، وسميعة، وبصيرة، وغير ذلك مما جاء من صفاتها في النصوص، وهي مع ذلك مغايرة في حقيقتها للأجسام المشهودة
(1)
.
* * *
(1)
«شرح حديث النزول» ص 118، و «درء تعارض العقل والنقل» 8/ 52، و «الفتوى الحموية» ص 543، و «مجموع الفتاوى» 4/ 216، و «الروح» ص 277.
وإذا قيل لهم: «إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل» .
قالوا: «بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات موجودة وهي غير مشار إليها» .
وقد غفلوا عن كونِ الكلياتِ لا توجدُ كليةً إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدإ والمعاد على مثل هذا الخيال، الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال.
يعني: إذا قيل لهؤلاء الفلاسفة: «إن وصفكم الروح بهذه الصفات ممتنع، فليس هناك موجود موصوف بسلب النقيضين» .
قالوا: «إن هذا ليس بممتنع بدليل أن الكليات موجودة وهي غير مشار إليها» .
والرد عليهم أنَّ الكلياتِ - أي: المعاني الكلية - لا توجدُ كليةً إلا في الذهن، ولا يمكن أنْ توجد في الخارج؛ إلا ممثلة في: الأجزاء، والأفراد، والأعيان.
وهؤلاء الفلاسفة إنما يعتمدون فيما يقولونه في المبدإ والمعاد على مثل هذه الخيالات والأقوال المتناقضة التي لا يخفى فسادها على غالب الجهال؛ فضلاً عن العقلاء، والعلماء.
واضطرابُ النفاة والمثبتة في الروح كثيرٌ، وسبب ذلك أن الروح - التي تُسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة - ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها؛ بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس.
فصار هؤلاء لا يُعرِّفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكِلا القولين خطأ.
يبيِّن الشيخ هنا سبب كثرة اضطراب الناس في الروح من المثبتين والنفاة، ويدخل في المثبتين: أهل الكلام، وأما النفاة؛ فهم: الفلاسفة الذين يسمون الروح بالنفس الناطقة.
فيَذكرُ أنَّ سبب ذلك الاضطراب: (أن الروح ليست من جنس البدن، ولا من جنس العناصر) - يعني الأصول التي تتكون منها الأشياء -، ولا من جنس (المولدات) الناشئة عن العناصر؛ (بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس)، ولذلك اضطرب فيها المنحرفون عن منهج الرسل.
فمنهم من لا يُعرِّفها إلا بالسلوب؛ وهم: الفلاسفة، ومنهم مَنْ يجعلها (من جنس الأجسام المشاهدة)؛ كما هو مذهب طوائف من أهل الكلام.
وكلا القولين خطأٌ، أي: قول من يجعل الروح من جنس الأجسام المشاهدة، وقول من لا يصفها إلا بالسلوب المستلزمة لامتناع وجودها.
* * *
هل الروح جسم؟
وإطلاق القول عليها بأنها جسم، أو ليست بجسم، يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ «الجسم» للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي.
فإن أهل اللغة يقولون: «الجسم؛ هو: الجسد والبدن» . وبهذا الاعتبار؛ فالروح ليست جسماً، ولهذا يقولون:«الروح، والجسم» ، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]، وقال تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].
وأمَّا أهلُ الكلام؛ فمنهم من يقول: «الجسم؛ هو: الموجود» ، ومنهم من يقول:«هو القائم بنفسه» ، ومنهم من يقول:«هو المركب من الجواهر المنفردة» ، ومنهم من يقول:«هو المركب من المادة والصورة» .
وكل هؤلاء يقولون: «إنه مشارٌ إليه إشارة حسية» .
ومنهم من يقول: «ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه، ويقال: إنه هنا أو هناك» .
فعلى هذا؛ إذا كانت الروح مما يشار إليه ويتبعه بصر الميت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الروح إذا خرج تبعه البصر»
(1)
، وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء؛ كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح.
يذكر الشيخُ هنا مسألة: هل الروح جسم أو ليست بجسم؟ ويبين أن إطلاق القول بأنها جسم أو ليست بجسم: لا يصح؛ لأن الجسم له معنى في اللغة، كما أن له معاني اصطلاحية متعددة غير معناه اللغوي، ولهذا تعيَّن الاستفصال عن معناه المراد إثباته للروح؛ حتى يعلم مدى صحته، أو فساده.
فالجسم في اللغة؛ هو: (الجسد والبدن)، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} )، وقال تعالى:({وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ})، وبهذا الاعتبار، وهذا المعنى لا يصح إطلاق الجسم على الروح؛ بل بينهما فرقٌ، ولهذا يقال:(الروح، والجسم).
وأما الجسم في اصطلاح أهل الكلام فله عدة معانٍ؛ منها:
1 -
الموجود.
2 -
القائم بنفسه.
3 -
ما يقبل الإشارة إليه
(2)
.
(1)
رواه مسلم (920) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2)
«درء تعارض العقل والنقل» 1/ 45 و 119، و «شرح حديث النزول» ص 243، و «مجموع الفتاوى» 3/ 307.
وهذه المعاني الثلاثة؛ تصدق على الروح، ويصح إطلاقها عليها.
4 -
المركَّب من الجواهر المنفردة، والجواهر المفردة؛ هي:«الأجزاء الصغيرة» ، والجوهرُ الفرد - عندهم -؛ هو:«الجزء الذي لا يتجزأ» ، وهذا القول باطل، ولا يصح إطلاقه على الروح لما يلي:
أ - لعدم التسليم بقضية «الجوهر الفرد» ، الذي يفسرونه بأنه الجزء الذي لا يتجزأ؛ فإن الجسم إذا قسمته أقساماً؛ فإنه لا يزال في هذه القسمة حتى ينعدم، أو يستحيل إلى شيء آخر، فلا يبقى فيه شيء مما يسمونه الجوهر الفرد
(1)
.
ب - أنه على فرض التسليم بصحة القول في الجوهر الفرد، وتركيب الأجسام منها؛ فإنه لا يصح إطلاقه على الروحِ، وعالَمِ الغيبِ؛ مثل: الملائكةِ، والجنِ.
5 -
المركب مِنْ المادة والصورة، أو الهَيُوْلَى والصورة، والهَيُوْلَى؛ هي:«مادة الشيء، وأصله الذي يركب منه»
(2)
، وهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الروح، فاللهُ أعلم بحالها، وهي من عِلم الغيب، ولا يجوز التكلم به إلا بدليل.
(1)
«بيان تلبيس الجهمية» 2/ 250، و «مجموع الفتاوى» 16/ 270 و 17/ 246، و «منهاج السنة» 1/ 212 و 2/ 139 و 210، و «شرح الأصبهانية» ص 306.
(2)
«التوقيف على مهمات التعاريف» ص 745، و «الكليات» ص 951، و «تاج العروس» 31/ 174.
تنبيهات:
الأول: عرَّف ابنُ القيم الروح؛ بأنها: «جسمٌ مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، والدهن في الزيتون، والنار في الفحم»
(1)
. هذا التعريف يَرِد عليه أمورٌ؛ منها:
1 -
قوله؛ إنها: «جسم» ، هذا يَرد عليه ما تقدم من أن: إطلاق الجسم على الروح يحتاج إلى تفصيل؛ لتعدد معانيه.
2 -
قوله: «نوراني علوي» : هذا يصدق على روح المؤمن، أما الروح الخبيثة؛ فهي مظلمة سافلة.
3 -
قوله: «خفيف» ، هذا من التكلم في الغيب.
الثاني: لقائل أن يقول: لماذا الخوض في معاني الروح، وأقوالِ أهل البدع فيها، والله تعالى يقول:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]؟
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أن الروح في الآية اختلف في المراد بها على أقوال
(2)
:
فقيل المراد بها: «جبريل» . وقيل: «ملك آخر عظيم» . وقيل؛ بل المراد بها: «الوحي» . وقيل المراد بها: «الروح التي تقوم عليها الحياة؛
وهي: الروح التي فينا». فالآية محتملة، و «إذا وقع الاحتمال؛ بطل الاستدلال»
(1)
.
وإذا كان الراجح في معنى الروح في الآية أنها التي بها الحياة؛ فليس في الآية نهي عن إجابة من سأل عنها، ومعنى قوله:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من جملة ما أمر الله به، أي: الأمر الكوني، وكلُّ مخلوق؛ فهو كائن بأمر الله الكوني.
الثاني: أن للكلام في الروح فائدتين: - إحداهما: معرفةُ الحق من الباطل في هذه المسألة، والرد على الأقوال الفاسدة فيها. - الثانية: معرفة ما جاء في النصوص عن الروح من صفات، فنعلم أن الروح محدثةٌ، وليست قديمة؛ لقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فكلُّ ما سوى الله مخلوق.
وإذا قيل: «هل الروح تموت» ؟
(1)
الاحتمال؛ إما أن يكون: راجحاً، أومساوياً، أو مرجوحاً، فالذي يبطل به الاستدلال؛ هو: الاحتمال المساوي فقط، فالراجح يصار إليه، والمرجوح يُطرح. انظر:«الفروق» 2/ 159، و «الموافقات» 4/ 325.
ونجد في النصوص: أن الروح تُقبض وتُرسل؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42].
كما نجد في النصوص: أن الروح تَهبط وتَصعد، وتُنَعَّم وتعذب، وغير ذلك من الصفات الواردة في النصوص الشرعية للروح.
* * *
إيضاح ضرب المثل بالروح
والمقصود: أنَّ الروحَ إذا كانت موجودة، حية، عالمة قادرة، سميعة، بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفاتِ، والعقولُ قاصرةٌ عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيءُ إنما تدرك حقيقته؛ إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره.
فإذا كانتِ الروحُ متصفةً بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات؛ فالخالق أَولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته.
وأهلُ العقولِ؛ هم أعجزُ عن أنْ يَحُدُّوه أو يكيفوه منهم عن أنْ يحدوا الروح أو يكيفوها.
فإذا كان مَنْ نفى صفات الروح؛ جاحداً معطلاً لها، ومن مثَّلها بما يشاهده من المخلوقات؛ جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات؛ فالخالق سبحانه وتعالى أَولى أن يكون مَنْ نفى صفاته جاحداً معطلاً، ومَن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثِّلاً، وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات.
بعد أن عرضَ الشيخُ أقوالَ الناس في الروح واضطرابهم فيها، وذكر سبب اضطرابهم، وحُكْمَ إطلاق اسم «الجسم» على الروح نفياً أو إثباتاً، بعد هذا الاستطراد الذي لا بد منه: يَصل إلى المقصود الذي به إيضاح وجه الاستشهاد بالمثل الثاني؛ الذي هو: الروح.
وبيان ذلك: أن الروح الموصوفة بأنها موجودة، وحية، وعالمة، وقادرة، وسميعة، وبصيرة، وتصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، إذا كانتِ العقولُ قاصرةً وعاجزة عن تكييفها وتحديديها، والسبب في ذلك: عدم مشاهدتها، أو مشاهدة نظير لها، والشيء إنما تدرك حقيقته؛ إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره.
وإذا كانت تلك الروح الموصوفة بتلك الصفات مباينة لما هو مشاهد من الأجسام المخلوقة، وليست مماثلة لها، والعقولُ عاجزة عن تكييفها وإدراك حقيقتها؛ فالخالق سبحانه وتعالى أَولى بمباينته لمخلوقاته - مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته -؛ من مباينة الروح لما سواها من المخلوقات.
(وأهلُ العقول أعجزُ عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها)، وهذا من باب قياس الأولى.
وهذا المثل يمكن أن يُردَّ به على أهل التكييف، وأهل التعطيل؛ فيرد به على أهل التكييف القائلين بتماثل صفات الخالق والمخلوق؛ لتوافقها في الاسم.
ويُرد به على أهل التعطيل النافين لصفات الله تعالى بحجة أن إثبات صفات الله تعالى الموافقة في الاسم لصفات خلقه؛ يلزم منه التمثيل.
فيردُّ على الجميع بأن هذه الروح الموصوفة بما توصف به الأجسام المشاهدة من الوجود، والقبض، والإرسال، والصعود، والنعيم، والعذاب وغير ذلك، هذه الروح موصوفة بهذه الصفات حقيقة، وهي مباينة لما سواها من المخلوقات، ولا يلزم من وصفها بما توصف به الأجسام المشاهدة؛ أن تكون مماثلة لها.
وإذا كانت هذه المباينة حاصلة بين المخلوق الموصوف والمخلوق؛ فالخالقُ أعظمُ مباينة لخلقه بما يستحقه من الصفات من مباينة المخلوق للمخلوق.
وإذا كانتِ العقولُ عاجزةً عن إدراك حقيقة هذه الروح وتكييفها؛ فهي أعجز عن دَرْكِ حقيقة الباري تعالى، وتكييفه.
(وإذا كان مَنْ نفى صفاتِ الروحِ جاحداً معطلاً لها)؛ وهم: الفلاسفة، (ومَن مثَّلها بما يشاهده مِنَ المخلوقات جاهلاً ممثِّلاً لها بغير شكلها)؛ وهم: أهل الكلام، (وهي مع ذلك: ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات)؛ فلا يُغيِّر غلط الغالطين فيها من الحقيقة شيئاً.
(فالخالقُ سبحانه وتعالى؛ أَوْلَى أن يكون مَنْ نفى صفاتِه جاحداً معطلاً، ومَن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثِلاً، وهو سبحانه ثابتٌ بحقيقة الإثبات،
مستحقٌ لما له من الأسماء والصفات)، فلا يُغيِّر مذهب أهل التعطيل، ولا مذهب أهل التمثيل ممَّا يجب لله تعالى من الإثبات والتنزيه شيئاً.
* * *
الله موصوف بالنفي والإثبات
فصل
وأمَّا الخاتمةُ الجامعةُ؛ ففيها قواعد نافعة:
القاعدة الأولى
أنَّ اللهَ سبحانه موصوف بالإثبات والنفي. فالإثبات؛ كإخباره أنه: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (29)} [البقرة: 29]، و:{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (1)} [الملك: 1]، وأنه:{سَمِيعٌ بَصِير (61)} [الحج: 61]، ونحو ذلك، والنفي كقوله:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
تقدم ذِكر الأصلينِ والمثلينِ، وهذه هي الخاتمة الجامعة، التي وعد بها الشيخ، وهي تشتمل على سبع قواعد، وهذه القواعد أطول مما سبق.
وهذه القاعدة: شرعية، وعقلية.
فهي شرعية لدلالة النصوص عليها، كما في سورة الإخلاص، ففيها إثبات، ونفي؛ فالإثبات في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)
اللَّهُ الصَّمَد (2)}، والنفي في قوله تعالى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} .
وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فهذا نفي، وقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى] إثبات.
فتجد في النص الواحد والآية الواحدة: نفياً وإثباتاً، وكما في آية الكرسي ففيها إثبات، ونفي.
وقوله تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه] نفي، وهكذا.
فمنهج الرسل في صفات الله تعالى مشتمل على النفي، والإثبات؛ النفي المجمل لصفات النقص والعيب، والإثبات المفصل لصفات الكمال
(1)
.
وهذه القاعدةُ عقلية؛ لأن المدح والكمال؛ إنما يكون بإثبات المحامد ونفي النقائص، وفي هذا رد على المعطلة، الذين لا يصفون الله إلا بالسلوب، دون إثبات لصفات الكمال.
كما أن في هذا رداً على اليهود، وعلى الذين يصفون الله بصفات النقص، وفيها رد على الممثلة الذين يصفون الله بمثل صفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقول المؤلف: (إن الله سبحانه موصوف بالإثبات) أي: إثبات صفات الكمال.
وقوله: (والنفي) أي: نفي النقائص والعيوب.
(1)
انظر: ص 108.
وينبغي أنْ يُعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأنَّ النفيَ المحضَ عدمٌ محضٌ، والعدمُ المحضُ ليس بشيء، وما ليس بشيء؛ هو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع؛ لا يوصف بمدح ولا كمال.
النفي لا يكون مدحاً؛ إلا إذا تضمن إثباتَ كمالٍ.
فالنفيُ نوعانِ: نفيٌ محضٌ، ونفيٌ غيرُ محضٍ.
فالنفيُ المحض ليس بمدح؛ لأنه عدمٌ محض، والعدمُ المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء؛ فليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً.
وأما النفيُ غير المحض؛ فهو المتضمن لإثبات الكمال.
ووجه ضلال المعطلة، الذين يصفون الله بالنفي المحض أو بالسلوب: أنهم اقتصروا على وصف الله تعالى بصفات السلب فقط، ولم يثبتوا له صفات الكمال، ومعلوم أن السلب المحض ليس بشيء؛ (ولهذا يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال).
النفي الذي يدخل في صفات الله تعالى
فلهذا كان عامةُ ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح؛ كقوله: {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} إلى قوله: {يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255].
فنفي السِّنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبيِّن لكمال أنه الحي القيوم.
وكذلك قوله: {يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يَكْرِثُهُ ولا يُثْقِلُه، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر؛ إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته.
وكذلك قوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكلِّ ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوب (38)} [ق] فإنَّ نفيَ مسِّ اللغوبِ - الذي هو: التعب والإعياء -؛ دلَّ على كمال القدرة، ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه مِنَ النصب والكلال ما يلحقه.
يجبُ أنْ يُعلم أنَّ كلَّ ما وصف الله به نفسه من النفي؛ متضمنٌ لإثبات كمال ضده، وليس في شيء ممَّا وصف الله به نفسه نفي محض.
ومِن ذلك قوله تعالى في آية الكرسي: ({اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ})، فنفى سبحانه وتعالى عن نفسه: السِّنةَ والنَّومَ، والسِّنةُ: بداية النَّومِ، والنَّومُ معروف، وهو أخو الموت؛ لكنه دونه.
ونفي السنة والنوم؛ يتضمن كمال الحياة والقيومية، فحياته لا يعتريها نقص، وقيوميته كذلك.
فالله تعالى نزه نفسه عن السنة، والنوم، والموت، كما قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وفي ذلك تأكيد لكمال حياته.
والله تعالى قائم بنفسه، وعلى كل نفس بما كسبت، فلا قيام للوجود إلا به، وهو لا يغفل، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِين (17)} [المؤمنون: 17].
وهو سبحانه ({لَا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا}، أي: لا يَكْرِثُهُ) حفظ العالَم العلوي والعالَم السفلي، فلا يلحقه بسببه مشقة ولا ثقل.
وهذا يدل على كمال قوته، وأنها لا يعتريها ضعف ولا مشقة، كما يعتري قوة المخلوق.
وكذلك النفي في قوله تعالى: ({لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (3)}) يتضمن كمال علمه بكل شيء.
وقوله تعالى: ({لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ (38)}) هذه الآية نزلت لما قال اليهود: «إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، واستراح بعد ذلك»
(1)
، أي: أنه لحقه التعب والإعياء؛ فاستراح، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله:({وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ (38}).
وكلمة: ({لُّغُوبٍ}) نكرةٌ واقعة في سياق النفي المتصل ب «مِنْ» مما يؤكد أنه سبحانه لم يلحقه أي لغوب.
واللغوبُ نقصٌ في الجهد، ونفي اللغوب عن الله مطلقاً؛ يدل على كمال قدرته، ونهاية قوته، وكيف يلحقه لغوبٌ، وهو الذي إذا أراد شيئاً؛ فإنما يقول له كن فيكون، كما قال تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (40)} [النحل]، ولو شاء الله تعالى لخلق السموات والأرض وما بينهما في لحظة، ولكن له حِكمة في ذلك
(2)
، خلقها في ستة أيام: قيل: «إنها كأيامنا» ، وقيل:«إنها أيام طويلة، أي: كل يوم ألف سنة»
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه في ص 95.
(2)
انظر: «زاد المسير» 3/ 212.
(3)
القولان مذكوران في «تفسير البغوي» 3/ 235، و «الجامع لأحكام القرآن» 9/ 238، و «تفسير ابن كثير» 3/ 426، ولم يُنسب القول بأنها ك «أيام الدنيا» لمعين. =
وهما قولان للمفسرين، والأقرب لظاهر القرآن أنها كأيامنا: الأحد،
= وقال الطبري في «تاريخه» 1/ 42: «فإن قال قائل: وما دليلك على أن الأيام الستة التي خلق الله فيهن خلقه كان قدر كل يوم منهن قدر ألف عام من أعوام الدنيا، دون أن يكون ذلك كأيام أهل الدنيا التي يتعارفونها بينهم، وإنما قال الله عز وجل في كتابه: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59]، فلم يعلمنا أن ذلك كما ذكرتَ؛ بل أخبرنا أنه خلق ذلك في ستة أيام، والأيام المعروفة عند المخاطبين بهذه المخاطبة؛ هي: أيامهم التي أول اليوم منها طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومِن قولك: «إن خطاب الله عباده بما خاطبهم به في تنزيله؛ إنما هو مُوَجَّه إلى الأشهر والأغلب عليه من معانيه، وقد وجَّهْتَ خبر الله في كتابه عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام إلى غير المعروف من معاني الأيام» ، وأَمْرُ الله عز وجل إذا أراد شيئا أن يُكَوِّنه أنفذ وأمضى من أن يوصف بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام مقدارهن ستة آلاف عام من أعوام الدنيا، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له:«كن» ؛ فيكون، وذلك كما قال ربنا تبارك وتعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر (50)} [القمر: 50]؟
قيل له: قد قلنا فيما تقدم من كتابنا هذا: «إنا إنما نعتمد في معظم ما نرسمه في كتابنا هذا على الآثار والأخبار عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وعن السلف الصالحين قبلنا، دون الاستخراج بالعقول والفكر؛ إذ أكثره خبر عما مضى من الأمور، وعما هو كائن من الأحداث، وذلك غير مدرك علمه بالاستنباط والاستخراج بالعقول» .
فإن قال: «فهل من حجة على صحة ذلك من جهة الخبر» ؟ قيل: «ذلك ما لا نعلم قائلا من أئمة الدين قال خلافه» .
فإن قال: «فهل من رواية عن أحد منهم بذلك» ؟ قيل: «عِلْمُ ذلك عند أهل العلم من السلف؛ كان أشهر من أن يحتاج فيه إلى رواية منسوبة إلى شخص منهم بعينه، وقد روي ذلك عن جماعة منهم مُسَمَّين بأعيانهم» .
فإن قال: «فاذكرهم لنا» . قيل: «حدثنا
…
» ثم ساق آثاراً عن ابن عباس، والضحاك، وكعب، ومجاهد، ثم قال:«فهذا هذا. وبعد؛ فلا وجه لقول قائل: «وكيف يوصف الله تعالى ذكره بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، قدر مدتها من أيام الدنيا ستة ألاف سنة، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» ؟ =
والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.
فنفيُ اللغوب متضمن لإثبات كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف قدرة المخلوق؛ فإنها محدودة، ويعتريها ضعف، وإعياء، ومَلَل، وحاجة إلى الراحة، وهكذا في جميع أنواع النفي عن الله تعالى، فهو متضمن لإثبات كمال الضد، وانظر - مثلاً - قوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] فنفي الظلم عن الله تعالى؛ يدل على كمال العدل، ولو لم يتضمن ذلك لم يكن مدحاً.
وقد قال الشاعر
(1)
يذم قَبيلةً:
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمةٍ
…
ولا يظلمون الناسَ حبةَ خردلِ
فتَرْكُهم للظلم مِنْ ضعفهم وعجزهم، وليس لعدلهم.
واللهُ سبحانه وتعالى نزَّه نفسه عن الظلم، وهو قادر عليه، لكنه لا يفعله لكمال عدله، وليس لعجزه، ولا لكونه ممتنعاً لذاته.
= لأنه لا شيء يتوهمه مُتوهم في قول قائل ذلك؛ إلا وهو موجود في قول قائل: «خلق ذلك كله في ستة أيام مدتها ستة أيام من أيام الدنيا؛ لأن أمره جل جلاله إذا أراد شيئا أن يقول له: «كن» فيكون».
ونحوه في «زاد المسير» 3/ 211.
(1)
هو: قيس بن عمرو بن مالك النجاشي، الحارثي، شاعر، هجَّاءٌ، مخضرم، قال ابن قتيبة:«كان فاسقاً رقيق الإسلام» . وهذا البيت مع أبيات في هجاء بني العجلان رهط الشاعر تميم بن أُبي بن مقبل.
انظر: «مجالس ثعلب» 2/ 363، و «الشعر والشعراء» 1/ 329، و «تاريخ دمشق» 49/ 473، و «الإصابة في تمييز الصحابة» 6/ 387.
وكذلك قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، إنما نفى الإدراكَ؛ الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم ينفِ مجرد الرؤية؛ لأنَّ المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى؛ مدحٌ، إذ لو كان كذلك؛ لكان المعدوم ممدوحاً!.
وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُئي، كما أنه لا يحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علماً؛ فكذلك إذا رُئي لا يحاط به رؤية.
فكان في نفي الإدراك مِنْ إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفةَ كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليلٌ على إثباتِ الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
دلت الآية على نفي إدراك الأبصار لله تعالى.
وقد اختلف المفسرون في الآية على قولين
(1)
:
القول الأول: أن نفي الإدراك؛ يعني: نفي الرؤية بالأبصار.
وهذا يحمل على أحد أمرين
(2)
:
(1)
«تفسير الطبري» 9/ 459، و «تفسير البغوي» 3/ 174، و «زاد المسير» 3/ 98.
(2)
«تفسير الطبري» 9/ 464 - 465.
1 -
نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا.
2 -
نفي رؤية الكفار لله تعالى بأبصارهم في الآخرة.
وعلى هذا لا متعلَّق للمعتزلة بهذا التفسير، ولا يصح تفسيرهم للآية بأنها نفيٌ لرؤية الله تعالى بالأبصار مطلقاً.
القول الثاني: - وهو قول أكثر أهل العلم، وهو الصحيح - أن الإدراك في اللغة العربية أخص من مطلق الرؤية، فقد تقول: رأيت، ولكن لا تقول: أدركت؛ لأن الإدراك يتضمن الإحاطةَ، فاللهُ تعالى يُرى ولكنه لا يدرَك، أي: لا يحاط به لكمال عظمته، كما أنه يُعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو المدح.
أما القول بأنه لا يرى مطلقاً؛ فلا مدح فيه؛ لأن المعدوم لا يرى كذلك.
وبهذا يُعلم أنَّ الآيةَ أدلُّ على إثبات الرؤية منها على نفيها، لكنها رؤية من غير إحاطة، فكانت الآية حجة على نفاة الرؤية مع غيرها من النصوص
(1)
.
* * *
(1)
انظر بحثاً موسعاً في دلالة هذه الآية على الرؤية، والرد على المخالفين في:«منهاج السنة» 2/ 317، و «بيان تلبيس الجهمية» 4/ 420، وعنهما في:«حادي الأرواح» 2/ 618.
وإذا تأملتَ ذلك: وجدتَ كلَّ نفي لا يستلزم ثبوتاً؛ هو ممَّا لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً؛ بل ولا موجوداً.
وكذلك مَنْ شاركهم في بعض ذلك؛ كالذين قالوا: «إنه لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستوِ على العرش» ، ويقولون:«ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له» ؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمودُ بن سُبُكْتِكِيْن لمن ادعى ذلك في الخالق:«ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تثبته، وبين المعدوم؟» .
الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالسُّلوب، أي: بالصفات السلبية؛ وهم: الفلاسفة والباطنية؛ لم يثبتوا إلهاً محموداً، أي: يستحق الحمد والثناء؛ لأن السلوب المحضة لا مدح فيها؛ لأنه ليس في السلب المجرد إثباتُ شيءٍ من صفات الكمال؛ بل لم يثبتوا موجوداً؛ لأن سلب جميع الصفات: يستلزم نفي الذات.
وهذا الكلام ينطبق على المعتزلة؛ لأنهم هم الذين يقولون: «إن الله تعالى لا يُرى، ولا يتكلم»
…
إلخ، ومثل ذلك: يوصف به الجماد، أو الناقص.
وقد استشهد الشيخ بقول الملك العادل محمود بن سُبُكْتِكِيْن
(1)
للمعطل: (ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تثبته، وبين المعدوم؟)
(2)
، وهذا إلزام مفحم لكل من ادعى في الخالق أنه:«لا يُرى، ولا يتكلم، وليس فوق العرش» ؛ لأن السَّلبَ المحضَ وصفٌ للمعدوم، وليس فيه إثبات لموجود.
* * *
(1)
أبو القاسم، يمين الدولة، فاتح الهند، ولد سنة 361 هـ-، قال ابن خلكان:«مناقبه كثيرة وسيرته من أحسن السير» وقال ابن تيمية: «كان من خيار الملوك وأعدلهم، وكان من أشد الناس قياماً على أهل البدع
…
ونصرَ أهل السنة نصراً معروفاً عنه». مات ب «غزنة» سنة 421 هـ.
«وفيات الأعيان» 5/ 175، و «منهاج السنة» 3/ 429، و «سير أعلام النبلاء» 17/ 483.
(2)
في «درء تعارض العقل والنقل» 6/ 253، و «بيان تلبيس الجهمية» 4/ 275: أن المناظرة كانت في «العلو» بينَ ابنِ فُوْرَك الأشعري، ومحمد بن الهَيْصَم الكرامي، بحضرة السلطان محمود، فقال السلطان هذه الكلمة لابن فورك.
ما يلزم المعطلة الذين لا يصفون الله إلا بالسلوب من التنقص لله عز وجل
وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل؛ ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال؛ بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفاتُ منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد والناقص.
فمن قال: «لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم» ، فهو بمنزلة من قال:«لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له» .
الصفاتُ السلبية منها ما لا يُوصف به إلا الجماد والناقص، والناقصُ؛ كالإنسانِ العاجز، كنفي الكلام، والسمع، والبصر.
ومنها ما لا يوصف به إلا المعدوم؛ مثل قولهم: «لا داخل العالم ولا خارجه» ، وهذا القول ينطبق على المعتزلة، والأشاعرة.
ويقصد الشيخ بذلك الموازنة بينهم وبين الباطنية، فمن قال من المعتزلة والأشاعرة:«إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه» ؛
ومَن قال: «إنه ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا متكلم» ؛ لزمه أن يكون ميتاً، أصمَّ، أعمى، أبكمَ.
هذا القائل إما أن يريد نفي الأسماء والصفات، أو نفي المعاني.
وهذا الكلام يصدق على الفلاسفة والجهمية الذين لا يصفون الله بالصفات الثبوتية، ولا يصدق على الباطنية؛ لأنهم ينفون النقيضين.
فمن قال: «إن الله تعالى ليس بحي ولا سميع ولا بصير» ؛ لزمه أن يقول: «إن الله تعالى ميتٌ، وأصمُّ، وأعمى» ، وهذا وصف بالنقائص؛ فيكون باطلاً، وفي هذا رد على أصل منهجهم.
أما ما سبق من أن نفي الصفات يستلزم التشبيه بالمعدوم؛ فهو رد على شبهتهم في زعمهم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه.
* * *
اعتذار المعطلة عن إلزامهم وصف الله بالعمى .. ، والجواب عنه بأربعة أوجه
هذا اعتذار من الجهمية نفاة الأسماء والصفات لما قيل لهم: «إن نفيكم صفات الكمال عن الله تعالى؛ يلزم منه اتصافه بضدها من صفات النقص» .
فتضمن قولهم ذلك: أن الله تعالى لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال، فلا يلزم من نفيها عنه؛ اتصافه بضدها من النقائص؛ لأنه - بزعمهم - غير قابل لذلك كله.
والشيخ هنا يرد على الجهمية نفاة الأسماء والصفات.
ويجيب عن اعتذار الجهمية هنا بأربعة أجوبة.
الجواب الأول، والثاني ب: المنع، والمعارضة.
والجواب الثالث، والرابع: على فرض التسليم.
* * *
هذان جوابان من الأجوبة الأربعة، وهما مبنيان على المنع.
فالجواب الأول:
يقال: إن القول بأن ما لا يقبل الاتصاف بالحياة - مثلاً - لا يوصف بالموت كالجدار؛ إن هذا اصطلاح اصطلحتموه.
والاصطلاحاتُ اللفظية؛ لا تنفي الحقائق العقلية؛ فليس في المعقول أنَّ ما لا يوصف بالحياة، والسمع، والبصر؛ يمتنع وصفه بالموت، والصمم، والعمى.
الجواب الثاني:
أن يقال لهم: لا نسلم بأن شيئاً من الموجودات لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات؛ بل كل موجود يقبلُ الاتصاف بهذه الصفات ونقائضها،
فالجدار لا نقول: «إنه لا يقبل الاتصاف بالحياة والسمع والبصر» ؛ لأن كلمة «لا يقبل» تعني: المستحيل - أي الممتنع لذاته - واللهُ تعالى قادر على أن يجعل الجماد حياً.
وقدرةُ الرب نافذة وشاملة، (كما جعل عصا موسى) - وهي جماد -:(حية ابتلعت الحبال والعصي)؛ كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُون (117)} [الأعراف]؛ فصارت ثعباناً بمجرد إلقائها، كما قال تعالى:{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِين (107)} [الأعراف]، وكذلك الطين الجماد الذي يعمله عيسى عليه السلام يكون طيراً حياً بإذن الله، كما قال تعالى:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110].
* * *
فإذا قيل: «إن الباري عز وجل لا يمكن اتصافه بذلك» ، كان في ذلك من وصفه بالنقص؛ أعظم مما إذا وصف بالخرس، والعمى، والصمم، ونحو ذلك، مع أنه إذا جُعل غير قابل لهما؛ كان تشبيهاً له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف يُنكِر من قال ذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيه بالحي؟!
بعد أن ذكر الشيخ جوابين بالمنع: ذكر الجوابينِ الآخرَينِ المبنيين على فرض التسليم، وهما: الثالث والرابع.
فالجواب الثالث:
أن يقال: ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات؛ أعظمُ نقصاً من القابل لها مع اتصافه بنقائضها؛ فالجدار الذي لا يقبل الاتصاف بشيء من هذه الصفات - على حد زعمهم -؛ أعظم نقصاً من القابل لها مع اتصافه بنقائضها؛ كالإنسان: الأعمى، والأخرس، والأصم.
فالجدارُ أعظمُ نقصاً من هذا الإنسان الناقص، لأن الجدار - على زعمهم - لا يقبل الاتصاف بالكمال، فالاتصاف بصفات الكمال من الأمور المستحيلة بالنسبة للجدار، لكن الإنسان، الأصم، الأعمى، الأخرس؛ يقبل الاتصاف بصفات الكمال، وما يَقبل الكمالَ أكملُ مما لا يقبل.
ثم على قولهم: «إن الله تعالى لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال» ؛ فيه تشبيه لله تعالى بالجمادات - على زعمهم بأن الجماد لا يقبل الاتصاف بمثل: الكلام، والسمع، والبصر -.
فكيف يُنْكِر مَنْ قال هذا على غيره - ممن يثبت لله صفات الكمال - زاعماً أنها تشبيه بالحي؟!
فالتشبيهُ بالأحياء - لو فُرض -؛ خيرٌ من التشبيه بالجمادات.
* * *
وأيضاً؛ فنفسُ نفي هذه الصفات نقصٌ، كما أن إثباتها كمالٌ، فالحياةُ من حيث هي، هي - مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها - صفةُ كمال.
وكذلك العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والفعل، ونحو ذلك.
وما كان صفة كمال؛ فهو سبحانه وتعالى؛ أحق بأن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به؛ لكان المخلوقُ أكملَ منه.
الجواب الرابع:
على فرض أن العمى عدمُ البصر عمَّا مِنْ شأنه أن يقبل البصر، وأن عدم الحياة في الجدار لا يسمى موتاً؛ فإن نفي صفات الكمال نقصٌ، كما أن إثباتها كمال.
فنفي الحياة نقص؛ وإن لم يسمَّ في حق الجدار موتاً، ونفي السمع في حق الجدار نقص؛ وإن لم يسمَّ صمماً.
فالحياة من حيث هي، هي صفة كمال، بغض النظر عن الموصوف بها، سواء كان الرب أو الإنسان، وكذا باقي صفات الكمال.
ونفيها نقص؛ لأن مجرد نفي الكمال نقص.
فإذا كانت الصفة من حيث هي، هي صفة كمال والمخلوق متصف بها، والخالق غير متصف بها؛ لزم من ذلك أن يكون المخلوقُ أكملَ من الخالق، وهذا ظاهرُ الفساد؛ لأن المخلوق لا يكون أفضل من الخالق
(1)
.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» 6/ 88، و «الصفدية» ص 120، و «درء تعارض العقل والنقل» 2/ 222 و 3/ 367 و 4/ 37 و 159 و 5/ 273 و 6/ 135.
موازنة بين مَنْ يصفه تعالى بسلب النقيضين ومن يصفه بالنفي فقط
واعلم أن الجهمية المحضة - كالقرامطة ومَن ضاهاهم -؛ ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين، حتى يقولوا:«ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي» .
ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنعٌ في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين.
وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا:«ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير» .
وهؤلاء أعظمُ كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظمُ كفراً من هؤلاء من وجه.
فإذا قيل لهؤلاء: «هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت، والصمم، والبكم» .
قالوا: «إنما يلزم ذلك لو كان قابلاً لذلك» .
وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً.
يوازن الشيخ هنا بين نوعين من النفاة.
فالطائفة الأولى: الجهمية المحضة - وهم غلاة الغلاة - الذين ليس عندهم شائبة إثبات، وهم الذين يصفون الله تعالى بسلب النقيضين، فيقولون:(ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي)، فيصفون الله بالنفي، ونفي النفي.
وقولهم: (ليس بموجود ولا ليس بموجود)؛ يساوي قولهم: «لا موجود ولا معدوم» ؛ لأن جملة ليس بموجود، بمعنى: معدوم، ووصفهم لله تعالى بذلك ممتنعٌ في بداهة العقول، كالجمع بين النقيضين، وسلب النقيضين، وهؤلاء هم: الباطنية.
والطائفةُ الثانية: الذين يصفون الله تعالى بالنفي فقط، فيقولون:(ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير)، وضلالُ هؤلاء يظهر من وجهين:
أحدهما: أن سلب صفات الكمال عن الله تعالى؛ يلزم منه اتصافه بضدها من النقائص.
الثاني: زعمهم في الرد على هذا الإلزام أن الله تعالى غيرُ قابل للاتصاف بهذه الصفات، ولا ضدها.
وقول الشيخ: (وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفراً من هؤلاء من وجه) يريد بإشارة القريب: الذين يصفون الله بالنفي فقط، وهم: الجهمية.
وبإشارة البعيد: الباطنية، الذين يصفون الله بسلب النقيضين، وأنَّ كلاً من الطائفتين أكفر من الأخرى من وجه؛ فالجهمية أكفر من الباطنية من جهة أنهم لم يصرحوا بنفي النقائص، والباطنية أكفر من الجهمية من جهة أنهم وصفوه بسلب النقيضين، وهو ممتنع.
وقول الشيخ: (وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً) تفصيله ما تقدم في الجواب الثالث والرابع.
* * *
وكذلك من ضاهى هؤلاء؛ وهم الذين يقولون: «ليس بداخل العالم ولا خارجه» ؛ إذا قيل لهم: «هذا ممتنع في ضرورة العقل» ، كما إذا قيل:«ليس بقديم ولا محدث، ولا واجب ولا ممكن، ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره» .
يقصد الشيخ أن بعض مَنْ نفى العلو مِنْ الأشاعرة قد ضاهى بحجته الجهمية، وذلك بالاحتجاج على عدم امتناع ما ذهبوا إليه بقولهم:«إنه لا داخل العالم ولا خارجه» بعدم القبول.
فإذا قيل لهم: قولكم: «لا داخل العالم ولا خارجه» ممتنع.
ويحتمل أن الشيخ يريد (بهؤلاء) طائفة الباطنية، وأن الذين قالوا:«إنه لا داخل العالم، ولا خارجه» قد ضاهوهم بسلب النقيضين.
والأول أقرب.
فيقال لهم: عِلْمُ الخلقِ بامتناع الخلو من هذين النقيضين؛ هو: علم مطلق، لا يستثنى منه موجود.
والتحيزُ المذكور؛ إن أريد به كونُ الأحياز الموجودة تحيطُ به؛ فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحازٌ عن المخلوقات - أي: مباينٌ لها، متميزٌ عنها -؛ فهذا هو الخروج.
فالمتحيز يراد به تارة: ما هو داخل العالم، وتارة: ما هو خارج العالم، فإذا قيل:«ليس بمتحيز» ، كان معناه: ليس بداخل العالم ولا خارجه.
فهم غيَّروا العبارة؛ ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي عُلِم فساده بضرورة العقل.
كما فعل أولئك في قولهم: «ليس بحي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل» .
رد الشيخ على اعتذارهم السابق بوصف الله تعالى بسلب النقيضين بأنه غير قابل؛ فلا يكون ممتنعاً؛ بجوابين:
الأول: أن من المعلوم عند العقلاء، عِلماً عاماً لا يستثنى منه شيء: امتناعُ الخلو عن النقيضين، ومن ذلك: كون الموجود لا داخل العالم ولا خارجه، فتقسيمهم الموجودات إلى نوعين: موجودٍ غيرِ متحيز
لا يتمنع خلوه عن هذين النقيضين، وموجودٍ متحيزٍ يمتنع خلوه عن هذين النقيضين؛ تقسيم باطل.
الثاني: أن المتحيز؛ إما أن يراد به ما تحيط به الأحياز، والأمكنة، والظروف الوجودية، وهذا هو الداخل في العالم.
وإما أن يراد به المنحاز عن العالم، وهذا هو الخارج عنه.
فإذا قالوا: (إنه ليس بمتحيز)، والتحيز يطلق على المعنيين السابقين؛ صار معناه: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، فاحتجوا على الدعوى بالدعوى، فأصل دعواهم: أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، فلما قيل لهم:«إن هذا سلب للنقيضين، وهو ممتنع» .
قالوا: «إنما يكون ممتنعاً لو كان قابلاً، والله تعالى ليس بقابل؛ لأنه غير متحيز؛ فلا يكون ممتنعاً» ، فاحتجوا على دعواهم بأنه لا داخل العالم ولا خارجه: بدعواهم بأنه غير متحيز، ومعنى:«غير متحيز» ليس بداخل العالم ولا خارجه، فالعبارتان معناهما واحد، وإنما غيروا العبارة إيهاماً لمن لا يفهم حقيقة قولهم بأن معنى:(ليس بمتحيز): «لا داخل العالم ولا خارجه» .
فكأنهم قالوا: «إنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وليس هذا بممتنع؛ لأنه لا داخل العالم ولا خارجه» !
وقوله: (وهو المعنى الذي عُلِم فساده بضرورة العقل).
يريد أن قولهم: (ليس بمتحيز) هو نفس المعنى الفاسد الذي علم فساده بضرورة العقل، وهو قولهم:(لا داخل العالم ولا خارجه)، كما
فعل أولئك الباطنية في قولهم: (إنه ليس بحي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل) فكل ذلك من قبيل سلب النقيضين.
وبهذا انتهى الكلام عن هذه القاعدة التي أصلها:
أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي، وأن ذلك موجَب العقل والسمع، وأن الله موصوف بإثبات الكمالات ونفي النقص، وأن النفي الذي يوصف به هو النفي المتضمن لإثبات الكمال، فما لا يتضمن إثبات كمال من النفي؛ فإنه نقص.
* * *
الواجب فيما يوصف الله به مما جاء في الكتاب والسنة، وما تنازع الناس فيه من الألفاظ المحدثة
القاعدة الثانية
أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه، أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة؛ وجب على كل مؤمن: الإيمان به، وإن لم يُفهم معناه.
وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة، متفقاً عليه بين سلف الأمة.
يبين الشيخ هنا حكم ما يُذكر من الألفاظ في صفات الله تعالى، فما ورد منها في الكتاب والسنة؛ وجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه، أو لم نعرف معناه.
وقوله: (وإن لم يُفهم معناه) ليس المقصودُ أنَّ شيئاً مما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى لا يُفهم معناه، ولكن المقصود: أن الناس يتفاوتون في أفهامهم، فبعض الناس قد لا يفهم معنى بعض
الصفات، فيجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به في كتابه، وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله تعالى وإن لم يَفهم معناه، كما لو سمع قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه]، وجب عليه أن يؤمن أن الله تعالى استوى على العرش، وإن لم يفهم معناه، ثم بعد الإيمان يأتي السؤال عن معنى الاستواء.
وقول الشيخ: (وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها) هذا التعبير يشعر بأن بعض الصفات ثابتة بالإجماع، ولكن الشيخ احترز عن هذا الفهم فقال:(مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسُّنَّة) فجميع صفات الرب تعالى ثابتة في الكتاب والسنة، أو أحدهما.
* * *
وما تنازع فيه المتأخرون، نفياً وإثباتاً، فليس على أحد؛ بل ولا له: أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أو نفيه؛ حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً؛ قُبل، وإن أراد باطلاً؛ رُدَّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل؛ لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه؛ بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في:«الجهة» ، و «التحيز» ، وغير ذلك.
يذكر الشيخ هنا حكم الألفاظ المحدثة في صفات الله تعالى، وهو مما تنازع فيه المتأخرون.
فما كان كذلك؛ فإنه لا يجوز قبوله، بل يجب التوقف فيه، والاستفصال عن مُراد المتكلم به، (فإن أراد حقاً؛ قُبل، وإن أراد باطلاً؛ رُدَّ)، وإن أراد حقاً وباطلاً؛ فُسِّر وفُصِّل: فيقبل ما أراد من الحق، ويرد ما أراد من الباطل
(1)
.
ثم يقال بعد ذلك لمن أراد بهذه الألفاظ معنى صحيحاً: ما أردته حق، ولكن التعبير عنه بهذه الألفاظ؛ خطأ، لأنها لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ولأنها ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، وذكر الشيخ مثالين لتوضيح هذه القاعدة، وهما لفظا:(الجهة)، و (التحيز).
(1)
«درء تعارض العقل والنقل» 1/ 76 و 229 و 238، و 5/ 58، و «مجموع الفتاوى» 3/ 347، و 5/ 305، و 12/ 114، و «منهاج السنة» 2/ 217 و 554.
فلفظ «الجهة» قد يراد به شيء موجود غير الله؛ فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السموات.
وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم.
ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ «الجهة» ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه، ونحو ذلك.
وقد عُلِم أنه ما ثَمَّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالقُ مباين للمخلوق، سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
لفظ (الجهة) لفظ مجمل محدث، وقد أوضح الشيخ ما فيه من الإجمال؛ فقد يراد بالجهة شيء مخلوق، أي: شيء موجود غير الله، (وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله)، أي: قد يراد به ما ليس بموجود من المخلوقات، بمعنى: أن لفظ (الجهة) قد يراد به: أمر وجودي، وقد يراد به: أمر عدمي.
فقد يطلق لفظ (الجهة) على العرش، أو السموات، وهي: موجودة مخلوقة.
وقد يطلق لفظ (الجهة) على ما فوق العالم وما وراء المخلوقات من العدم.
ولهذا كان هذا اللفظُ مجملاً محتملاً، كما أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيه ولا إثباته، كما جاء إثبات لفظ:(العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه ونحو ذلك).
ومن المعلوم بالضرورة أنَّ (ما ثَمَّ في الوجود إلا الخالق والمخلوق)، فالموجود قسمان: واجب، وممكن، أو قديم، ومحدث.
و (الخالقُ مباينٌ للمخلوق)، أي: ليس حالاً فيه، فالله تعالى (ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته)؛ بل هو بائن مِنْ خَلْقِه، فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء، سبحانه وتعالى.
* * *
فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات؛ أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم، بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: «إن الله في جهة» : أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول؛ فهو حق، وإن أردت الثاني؛ فهو باطل.
على ضوء ما سبق من معنى (الجهة) وما يراد بها، يُستفصل ممن نفاها وممن أثبتها، فيقال للنافي: أتريد بالجهة شيئاً موجوداً مخلوقاً؟ أم تريد بها ما وراء العالم؟
فإن أردتَ بها الأول؛ فنفيك صحيح؛ لأن الله تعالى ليس داخلَ المخلوقات، وإن أردت الثاني؛ فنفيك باطل؛ (لأن الله تعالى فوق العالم، بائنٌ من المخلوقات).
ويقال لمن أثبت أن الله تعالى في جهة: أتريد بذلك أن الله تعالى فوق العالم؟، أم تريد بالجهة شيئاً موجوداً؛ فيكون الله تعالى داخلاً في المخلوقات؟
فإن أردت الأول؛ فحق، وإن أردت الثاني؛ فباطل
(1)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» 5/ 262 و 6/ 38، و «منهاج السنة» 2/ 321 و 554، و «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 253 و 5/ 58، و «بيان تلبيس الجهمية» 3/ 305 و 607.
وكذلك لفظ «المتحيز» ؛ إن أراد به أن الله تَحُوزُه المخلوقات، فاللهُ أعظمُ وأكبر؛ بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» .
وفي حديث آخر: «وإنه ليدحوها
(1)
كما يدحو الصبيان بالكُرة»، وفي حديث ابن عباس:«ما السموات السبع، والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن؛ إلا كخردلة في يد أحدكم» .
وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات - أي: مباين لها، منفصل عنها، ليس حالاً فيها -؛ فهو سبحانه كما قال أئمة السنة:«فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه» .
اللفظ الثاني من الألفاظ المحدثة المجملة التي ذكرها الشيخ: لفظ (المتحيز)، فهو لم يأت في صفات الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً، فالواجب الاستفصال عن معناه؛ فإن أريد به معنى حق؛ قبل المعنى الحق، ورددنا اللفظ المحدث المحتمل.
(1)
الدحو: رمي اللاعب بالحجر، والجوز، وغيره. «لسان العرب» 14/ 252.
وإن أريد به معنى باطل؛ رد المعنى الباطل واللفظ المحدث؛ فلفظ (المتحيز) قد يراد به أن الله تعالى تحوزه المخلوقات - أي: تحيط به -؛ فهذا باطل؛ لأن الله تعالى أكبرُ وأعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، فهو الكبير المتعال، وهو العلي العظيم، ومن دلائل عظمته أنه تعالى (وسع كرسيه السموات والأرض).
والذي عليه أكثر أهل السنة أن: «الكرسي: موضع القدمين» كما جاء عن ابن عباس
(1)
وأبي موسى
(2)
رضي الله عنهم.
ومن دلائل عظمته أنه تعالى (يقبض الأرض، ويطوي السموات بيمينه)، كما قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، وكذلك الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية:(«يقبض الله الأرض، ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟»)
(3)
.
وجاء هذا المعنى في عدد من الأحاديث عن جماعة من الصحابة
(4)
.
(1)
رواه عبد الله بن أحمد في «السنة» 1/ 301، وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 107، والحاكم 2/ 282، والضياء في «المختارة» 10/ 311، وقال الأزهري في «تهذيب اللغة» 10/ 54:«هذه الرواية اتفق أهل العلم على صحتها، والذي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم؛ فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار» .
(2)
رواه عبد الله بن أحمد في «السنة» 1/ 302، وابن أبي شيبة في «العرش» ص 437 والطبري في «تفسيره» 4/ 538 وأبو الشيخ في «العظمة» 2/ 627، وابن منده في «الرد على الجهمية» ص 46، وصحح إسناده ابن حجر في «الفتح» 8/ 199.
(3)
رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
تقدم في ص 89 حديث ابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم.
ومن شواهد هذا المقام: الحديث الذي يُروى أنه تعالى: «يأخذ السموات، والأرضين السبع، فيجعلها في كفَّيه، ثم يقول بهما كما يقول الغلام بالكرة»
(1)
، وهذا التصويرُ تقريبٌ لكمالِ تصرفه تعالى في هذه العوالم على كثرتها وعِظَمِها، فهي صغيرة وضئيلة في جانب عظمته سبحانه وتعالى.
ومما استشهد به في هذا المقام الأثر الذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن؛ إلا كخردلة في يد أحدكم)
(2)
.
فهو العظيم الذي لا أعظم منه، وهو الكبير المتعالي، فيمتنع مع هذه العظمة التي لا تحيط بها عقول العباد: أن يحويه شيء من مخلوقاته، فهو أعظم وأكبر من أن تحيط به مخلوقاته؛ فضلاً عن أن يحيط به شيء منها.
وإن أريد بالمتحيز المنحاز عن العالم المباين للمخلوقات؛ فهو كما قال أئمة السلف: (فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه)
(3)
،
(1)
رواه الطبري في «تفسيره» 20/ 247، وابن منده في «الرد على الجهمية» ص 81 من حديث أبي حازم عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يسمع منه. «تهذيب الكمال» 11/ 273 - ، وجاء بألفاظ أخرى من طريق أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر، رواه مسلم (2788)، وغيره.
(2)
رواه عبد الله بن أحمد في «السنة» 2/ 476، والطبري في «تفسيره» 20/ 246.
(3)
«شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» 1/ 198، «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» - الرد على الجهمية - 3/ 136.
ومعنى: (بائن من خلقه) أنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
فالمتحيز؛ إما أن يُراد به: ما تحيط به الأحياز؛ وهو: الدخول في العالم والمخلوقات.
وإما أن يُراد به: المنحاز الخارج عن العالم.
فإن أريد المعنى الأول؛ فهو باطل في حق الله تعالى؛ لأنه تعالى خارج العالم، وليس حالاً في مخلوقاته.
وإن أريد به المعنى الثاني؛ فهو حق، لكن التعبير بهذا اللفظ: خطأ، لما سبق من أنه محدث ومحتمل.
وإن أريد به المعنيان جميعاً؛ فهو باطل
(1)
، وهو كقول من قال:«إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه» ، وقد سبق بيان ذلك في آخر «القاعدة الأولى»
(2)
.
ومثل لفظ (الجهة) و (التحيز) باقي الألفاظ المحدثة المجملة المحتملة ك «الجسم» ، و «التركيب» ، ونحو ذلك.
* * *
(1)
«درء تعارض العقل والنقل» 5/ 55، و «منهاج السنة» 2/ 350 و 555، و «بيان تلبيس الجهمية» 3/ 305 و 607، و «مجموع الفتاوى» 5/ 264، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 343.
(2)
ص 286.
ظاهر نصوص الصفات، وهل هو مراد، أو غير مراد؟
القاعدة الثالثة
إذا قال القائل: «ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد» .
فإنه يقال: لفظ «الظاهر» فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم؛ فلا ريب أن هذا غير مراد.
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، واللهُ سبحانه وتعالى أعلمُ وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
هذه القاعدة مناسبة للتي قبلها، فإن مضمون القاعدة السابقة: بيان حكم ما يجب فيه التفصيل، ومقصود هذه القاعدة: بيان ما يجب في لفظ (الظاهر)، أي: ظاهر نصوص الصفات؛ فلفظ (الظاهر) فيه إجمال
واشتراك، فهو لفظ مشترك يدل على أكثر من معنى، فلا بدَّ فيه من الاستفصال والتفصيل في الحكم
(1)
.
وظاهر الكلام؛ هو: «المعنى الذي يتبادر ويسبق إلى ذهن ذي الفهم السليم المستقيم، العارف بلغة الخطاب» .
فظاهرُ نصوص صفات الله تعالى عند السلف الصالح؛ هو ما يليق بالله تعالى من الصفات.
أما الجاهلُ بالله تعالى، أو ذو الفهم الفاسد؛ فإن ظاهرَ نصوص الصفات عنده؛ التمثيلُ، فيتبادر إلى ذهنه من ألفاظ النصوص؛ مماثلة صفات الله تعالى لصفات خلقه.
ولما كان لفظ ظاهر نصوص الصفات له أكثر من معنى بحسب مذاهب الناس في نصوص الصفات، وصار فيه إجمال واشتراك؛ وجب الاستفصال والتفصيل فيه على ما يلي:
1 -
فمَن قال: إن الظاهر من نصوص الصفات مراد، وأراد بالظاهر: إثبات الصفات على ما يليق بالله تعالى ويختص به؛ فقوله حقٌ، وهو مصيب في اللفظ والمعنى، وهذا سبيل أهل السنة.
2 -
ومَن قال: إن ظاهرها مراد، وزعم أن ظاهرها مماثلة صفات الله تعالى بصفات خلقه - وهذا مذهب المشبهة -؛ فقوله باطل من جهة اللفظ والمعنى.
(1)
«الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز» ص 355، و «الفتوى الحموية» ص 526.
فليس التمثيل ظاهرها، وليس التمثيل بمراد، فالله تعالى ليس كمثله شيء سبحانه.
3 -
ومَن قال: إن ظاهرها ليس بمراد، وظاهرها عنده إثبات الصفات لله تعالى، وإثبات الصفات عنده تشبيه، فظاهرها عنده التشبيه، وهذا الظاهر ليس بمراد؛ فهذا مبطل في زعمه أن ظاهرها التشبيه، ومبطل في نفيه للصفات بناء على هذا الاعتقاد والتوهم.
وإن كان مصيباً من وجه؛ وهو: ما قصد إليه من نفي التمثيل، لكنه مبطل حيث نفى المعنى الحق لصفات الله تعالى.
4 -
ومن قال: إن الظاهر ليس بمراد؛ لأن ظاهرها التمثيل، وهذا ليس بمراد؛ بل المراد إثبات صفات تليق بالله تعالى، فهذا يمكن أن يكون مصيباً في المعنى، ومخطئاً في اللفظ حيث زعم أن ظاهرها التمثيل.
وهذا إنما يليق بالجاهل السني، يعني: السني في معتقده، لكنه جاهلٌ قاصرُ الفهمِ والتصورِ، يتبادر إلى فهمه المعنى الباطل، ولكنه لا يثبته وإنما يثبت المعنى اللائق بالله تعالى.
وهذا الجاهل، وأولئك المعطلة؛ كلهم تضمن كلامهم أنَّ ظاهرَ كلامِ اللهِ كفرٌ وضلال؛ لأن ظواهر نصوص صفات الله تعالى - على فهمهم وزعمهم - التمثيل بصفات خلقه، وهو كفر وضلال.
وهذا الكلام منهم يتضمن الطعن في حكمة الله تعالى وحسن بيانه، مع أن الله تعالى وصف كتابه بأنه أحسن الحديث كما قال عز وجل:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23].
وهل مِنْ الحكمة أن يخاطب الله تعالى عباده بما يُفهم منه خلاف مراده؟
وهل يكون هذا إلا مِنْ:
* عاجز عن البيان.
* أو جاهل بما يتكلم به.
* أو مُلَبِّس مُعَمٍّ غاشٍّ لا يريد إيضاح مراده.
وكلُّ هذا ممَّا يجب تنزيه الله تعالى عنه، وتنزيه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه؛ وهو:
* أعلم الناس بالله.
* وأقدر الناس على البيان.
* وأنصحهم للخلق
(1)
.
ولهذا قال الشيخ هنا: (السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، واللهُ سبحانه وتعالى أعلمُ وأحكم مِنْ أنْ يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال).
* * *
(1)
«درء تعارض العقل والنقل» 1/ 22 و 5/ 370، و «الفتوى الحموية» ص 195، و «شرح حديث النزول» ص 332.
الذين يجعلون ظاهر النصوص معنى باطلاً غلطوا من وجهين
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.
وتارة يَرُدُّون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل.
أي: الذين يجعلون ظاهر نصوص الصفات المعنى الفاسد يغلطون من وجهين؛ أي: مِنْ أحد وجهين:
تارة يجعلون المعنى الفاسد حقيقة؛ هو ظاهر اللفظ، فيجعلون لفظ النص محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر الفاسد - في زعمهم -.
وتارة يَرُدُّون المعنى الحق لاعتقادهم أنه معنى فاسد وليس كذلك.
مثال ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه].
الأول يزعم: أنَّ ظاهرَ النصِ وصفُه تعالى باستواء مثل استواء المخلوق على ظهور الفلك والأنعام، مع اعتقاده بأن هذا ليس مراداً؛
بل المراد وصفه تعالى باستواء يخصه، وهذه حال الجاهل الذي سبق ذكره.
فغلطُه حيث جعل المعنى الفاسد هو ظاهر النص، فقولُه بنفي تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه؛ صحيحٌ، وقوله:«إن هذا الظاهر ليس بمراد» ؛ صحيح، لكن زعمه أن هذا المعنى الفاسد؛ هو ظاهر النص؛ غلطٌ.
والثاني يقول: «إن ظاهر هذه الآية، وصفه تعالى بالاستواء على العرش، والاستواء على الشيء إنما هو من صفات المخلوق وخصائصه» ، فلا يجوز عنده أن يقال:«إن اللهَ تعالى مستوٍ على العرش» ، بمعنى: أنه فوق العرش.
فيقول: «ليس هذا الظاهر بمراد» ؛ بل المراد ب «استوى» على العرش: استولى على العرش، أو أقبل على خلق العرش، ونحو ذلك.
فهذا اعتقد أن ظاهر النص - الذي هو المعنى الحق -: معنى فاسد؛ فنفاه بناء على هذا الاعتقاد، وهذا معنى قول الشيخ:(يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل).
فكل من الأول والثاني جعل ظاهر النص معنى فاسداً، لكن الأول غلط من جهة أنه جعل المعنى الفاسد حقيقة؛ هو ظاهر اللفظ - النص - حتى يكون النص محتاجاً إلى تأويل، وليس كما ظن.
والثاني رد المعنى الحق، الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقاده أنه معنى باطل، فهو غالط في اعتقاده أنه معنى باطل، وفي نفيه هذا المعنى الحق، بناء على اعتقاده وتصوره الفاسد.
فظهر بهذا: أن الأول مخطئ من جهة اللفظ، أي: الحكم على لفظ النص، ومصيب من جهة المعنى، وهو: نفيه للمعنى الفاسد.
والثاني: مخطئ من جهة اللفظ والمعنى، مصيب فيما قصد إليه من نفي ما اعتقد أنه باطل، وهذا هو المعطل للصفات.
* * *
فالأول: كما قالوا في قوله: «عبدي جعتُ فلم تطعمني» الحديثَ، وفي الأثر الآخر:«الحجرُ الأسود يمينُ الله في الأرض، فمَن صافحه وقبَّله فكأنما صافحَ اللهَ وقبَّل يمينه» ، وقوله:«قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن» .
فقالوا: «قد عُلم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق» .
ذكر الشيخ هذه الأمثلة لمن يغلط؛ فيجعل المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ، فيكون محتاجاً إلى تأويل حسب ظنه وزعمه. والواقع أن المعنى الفاسد ليس هو ظاهر اللفظ، لأنه جاء في النص ما يفسر ويوضح المعنى المراد.
ففي الحديث الأول: وهو قوله تعالى في الحديث القدسي: («عبدي جعت فلم تطعمني»)
(1)
الحديثَ، ليس ظاهره أن الله تعالى يجوع، ويمرض؛ لأنه جاء في الحديث ما يوضح المعنى، ويبيِّن أن المراد: جوع العبد ومرضه.
(1)
الحديث مذكور بالمعنى، وقد رواه مسلم (2569) وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: .. يا ابن آدم استطعمتك؛ فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان؛ فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ .. » الحديثَ.
فمن جعل المعنى الفاسدَ ظاهرَ اللفظِ ونفاه؛ فهو مصيبٌ من جهة المعنى، حيث نفى المعنى الفاسد عن الله تعالى، ولكنه غلط من جهة اللفظ، حيث جعل هذا المعنى الفاسد هو ظاهر لفظ الحديث.
المثال الثاني: ما ورد في الأثر الذي يروى مرفوعاً
(1)
، وموقوفاً
(2)
- ولم يثبت مرفوعاً -: («الحجرُ الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله؛ فكأنما صافح الله، وقبَّل يمينه») فبعض الغالطين يظن أن ظاهر الأثر أن الحجر الأسود؛ هو صفة الله ويده اليمين، وهذا الظاهر ليس بمراد، فهذا الشخص غلط في زعمه بأن ظاهر الأثر هو المعنى الفاسد،
(1)
رواه ابن خزيمة 4/ 221، والحاكم 1/ 457، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» 2/ 576 - وقال:«لا يثبت» - من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. ورواه ابن ماجه (2957)، والفاكهي في «أخبار مكة» 1/ 87 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومِن حديث جابر رضي الله عنه رواه ابن عدي في «الكامل في «ضعفاء الرجال» 1/ 557 - وقال:«إسحاق بن بشر الكاهلي قد روى غير هذه الأحاديث، وهو في عداد من يضع الحديث» -، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» 2/ 575 - وقال:«لا يصح» -، وقال ابن تيمية:«روي مرفوعاً، ولم يثبت» . «الاستغاثة» ص 387، و «مجموع الفتاوى» 6/ 397، و «درء تعارض العقل والنقل» 5/ 236 و 239، و «بيان تلبيس الجهمية» 6/ 137، وفيها - أيضاً - كلامه على معنى الحديث وأمثاله، والرد على المبتدعة.
(2)
رواه عبد الرزاق 5/ 39، وابن أبي عمر في «مسنده» - كما في «المطالب العالية» 6/ 432 - والأزرقي في «أخبار مكة» 1/ 323 و 324 و 326، والفاكهي في «أخبار مكة» 1/ 88 و 89، من طرق بألفاظ متقاربة منها:«الركن يمين الله في الأرض يصافح بها عباده؛ كما يصافح أحدكم أخاه» ، ولم أجد هذا اللفظ الذي ذكره الإمام ابن تيمية.
وقال ابن تيمية في «شرح العمدة» 3/ 435: «إسناده صحيح» ، وقال ابن حجر في «المطالب العالية» 6/ 432:«موقوف صحيح» .
وإلا كان قد أصاب في نفي هذا الظاهر المتوهم الفاسد، لأن في الأثر ما يدفع هذا المعنى الفاسد كما سيبينه الشيخ بعد قليل.
المثال الثالث: حديث («قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء»)
(1)
قالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق، فزعموا أن ظاهر الحديث يدل على أن أصابع الرب تعالى داخلة في أجوافنا، متصلة بقلوبنا، ولذا قالوا بأن الظاهر غير مراد.
فيقال: إن هذا النافي قد أحسن في نفيه لهذا المعنى الفاسد، وفي نفيه لأن يكون هذا المعنى الفاسد مراداً، ولكنه غلط في زعمه وظنه بأن هذا المعنى الفاسد هو ظاهر الحديث.
ومنشأ غلطه: اعتقاده بأن «البينية» تقتضي الاتصال والملاصقة، وليس الأمر كذلك؛ ف «البينية» في اللغة العربية لا يلزم منها اتصال ولا التصاق، بل قد تقتضي ذلك وقد لا تقتضيه، كما في لفظ «المعية» فهي تقتضي مطلق المصاحبة، وقد يكون معها امتزاج وقد لا يكون.
* * *
(1)
لم أجد هذا اللفظ، وقد روى مسلم (2654) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ كقلب واحد يصرفه حيث يشاء .. » .
فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة؛ لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق.
أما الحديث الواحد: فقوله: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله؛ فكأنما صافح الله وقبل يمينه» ؛ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه؛ لأنه قال:«يمين الله في الأرض» ، وقال:«فمَن قبَّله وصافحه،؛ فكأنما صافح الله وقبل يمينه» ، ومعلوم أن المشبَّهَ غير المشبهِ به، ففي نصِّ الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً، وأنه محتاج إلى التأويل؟! مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس.
وأما الحديث الآخر؛ فهو في الصحيح مفسراً: «يقول الله: عبدي جعتُ؛ فلم تطعمني. فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي مرضتُ فلم تعدني. فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده» .
وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبدُه وجاع عبده، فجعلَ جوعه جوعه، ومرضه مرضه،
مفسراً ذلك بأنك «لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده» . فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل.
بدأ الشيخ ببيان المعنى الصحيح للأمثلة الثلاثة، والرد على زَعْمِ مَنْ زَعَمَ أن ظاهر هذه النصوص هو المعنى الفاسد، وأن هذا الظاهر ليس بمراد؛ فقال:(أما الحديث الواحد) يعني: الأول، وبدأ بذكر أثر ابن عباس، وبيِّن معناه الصحيح، ونبه إلى أن المعتمد أن هذا الأثر إنما يعرف عن ابن عباس، وأنه ليس بمرفوع.
ثم ذكر حديث أبي هريرة، وبيِّن بذكر بقية الحديث أنه ليس فيه ما يوجب التوهم الفاسد؛ لأن الحديث جاء مفسراً ومبيناً؛ إذ قال:«مرض عبدي فلان .. وجاع عبدي فلان» إلى آخره، فجعل:(جوعه جوعه، ومرضه مرضه)، الضمير في الأول فجعل (جوعه) للعبد، وفي الثاني (جوعه) للرب، وهكذا في قوله:(ومرضه مرضه)، وفسَّره بقوله:(لو أطعمته لوجدت ذلك عندي)، فمن أطعم الجائع؛ وجدَ جزاءه عند ربه.
وقوله: («لو عدته لوجدتني عنده») أي: لو عدت المريض لله؛ لوجدتني عنده.
وهذه عندية تتضمن: القرب والمعية الخاصة، فمن عاد المريض؛ فاز بهذا القرب وهذه المعية.
وقوله: («مرض عبدي فلان») الأظهر أن العبودية هنا هي العبودية الخاصة.
وبفهم الحديث؛ لا يبقى فيه لفظ يحتاج إلى تأويل.
فائدة:
كلُّ قربٍ خاصٍ يتضمنُ المعيةَ الخاصةَ، ولا عكس.
* * *
وأما قوله: «قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن» ؛ فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصلٌ بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه.
ولا في قول القائل: «هذا بين يَدَيَّ» ما يقتضي مباشرته ليديه.
وإذا قيل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [البقرة: 164]، لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض. ونظائر هذا كثيرة.
وكذلك في هذا المثال الثالث: مَنْ ظنَّ أنَّ ظاهره أنَّ أصابع الرب متصلة بالقلوب، وأنها داخلة في أجواف العباد؛ فيوجب تأويل هذا الحديث؛ لأن ظاهره ليس بمراد: فهذا غالطٌ من جهة اللفظ؛ حيث زعم وتوهم أن ظاهر الحديث: أن أصابع الرب في قلوب وأجواف العباد، وإن كان مصيباً في نفي هذا المعنى الباطل الذي توهمه.
ونقول: إن ما توهمه من ظاهر الحديث؛ غير صحيح، فالحديث لا يدل على ذلك؛ لأن لفظة (بَيْنَ) لا تقتضي اتصالاً ولا ملاصقة، كما إذا قال القائل:(هذا بين يَدَيَّ)، ومعلوم إذا قيل:(السحاب بين السماء والأرض)؛ لا يقتضي ذلك اتصاله بالسماء، ولا بالأرض.
من الغلط جعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله،
وإيضاح ذلك في آيتي «يس» ، و «ص»
ومما يشبه هذا القول أن يُجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فقيل: هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71].
فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وهناك أضاف الفعل إليه، فقال:{لِمَا خَلَقْتُ} ثم قال: {بِيَدَيَّ} .
وأيضاً؛ فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع؛ فصار كقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14].
وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] في المفرد.
فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد: مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح]، وأمثال ذلك.
ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع؛ تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية؛ فتدل على العدد المحصور، وهو مقدسٌ عن ذلك.
فلو قال: «ما منعك أن تسجد لما خَلَقَتْ يدِيْ» ؛ كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، وهو نظير قوله:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، ولو قال:«خَلَقْتُ بيدِيْ» بصيغة الإفراد، لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} بصيغة التثنية؟
هذا، مع دلالة الأحاديث المستفيضة؛ بل المتواترة، وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله:«المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا» ، وأمثال ذلك.
أي: ومما يشبه جَعل المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ؛ جعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله.
وجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله؛ يؤدي بصاحبه إلى مخالفة دلالة اللفظ في اللغة وعدم معرفة المراد، كمن يسوي بين معنى قولك:
«محمداً أكرمتُ» ، وقولك:«أكرمتُ محمداً» ؛ فإن الجملة الأولى تفيد: الحصر؛ لتقديم المفعول، دون الثانية
(1)
.
وقد ذكر الشيخ لذلك مَثلاً؛ وهو اعتقاد بعض الناس أن قوله تعالى: ({مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}) مثل قوله تعالى: ({أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا})، فصاحب هذا الظن يعتقد أن الله تعالى خلق آدم كما خلق الأنعام، وأن المراد بالآيتين: التعبير باليدين عن الفاعل، وليس المراد إثبات صفة اليدين، ولا خلق آدم باليدين.
فهم جعلوا آية «ص» ؛ وهي قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الصريحة في إثبات صفة اليدين لله تعالى؛ جعلوها نظير آية «يس» ؛ وهي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} ، وليس الأمر كذلك؛ بل هذا غلط من جهة اللفظ، والمعنى.
وقد ذكر الشيخ الفروق بين الآيتين، كما يأتي في كلامه إن شاء الله.
لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي؛ فصار شبيهاً بقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ، وهناك أضاف الفعل إليه؛ فقال:{لِمَا خَلَقْتُ} ثم قال: {بِيَدَيَّ} .
(1)
هذه المسألة يذكرها البلاغيون في مبحث «القصر» ، والأصوليون في «مفهوم المخالفة»؛ انظر:«تلخيص المفتاح» ص 96، و «البحر المحيط في أصول الفقه» 4/ 56، و «شرح الكوكب المنير» 3/ 521، و «البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها» 1/ 537.
وأيضاً؛ فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع فصار كقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، في المفرد.
فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد: مظهراً، أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} ، وأمثال ذلك، ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية؛ فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك؛ فلو قال:«ما منعك أن تسجد لما خلقَتْ يدِيْ» ؛ كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، وهو نظير قوله:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، ولو قال:(خَلَقْتُ بيدِيْ) بصيغة الإفراد، لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} بصيغة التثنية؟
هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة؛ بل المتواترة، وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«المقسطون عند الله على منابرَ مِنْ نورٍ، عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين -، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا»
(1)
، وأمثال ذلك.
قوله: (لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي .. ) إلخ.
(1)
رواه مسلم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
ذكر الشيخ هنا فروقاً من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى بين آية (ص) وآية (يس)، وهي كما يلي:
الأول: أنه في آية (ص) أسند الفعل إلى نفسه؛ حيث قال: ({خَلَقْتُ})، وفي آية (يس) أسند الفعل إلى الأيدي؛ فقال:({عَمِلَتْ أَيْدِينَا})، وهذا فرق لفظي.
الثاني: في آية (ص) ذكر الله تعالى نفسه بصيغة الإفراد، وفي آية (يس) ذكر الله تعالى نفسه بصيغة الجمع الدالة على التعظيم.
الثالث: في آية (ص) ذكر اليدين بصيغة التثنية، وفي آية (يس) ذكرها بصيغة الجمع.
الرابع: أنه في آية (ص) أسند الفعل إلى نفسه، وعداه إلى اليدين بالباء، أما في آية (يس) فإنه أسند الفعل إلى الأيدي، وحينئذٍ؛ فلا مجال للتعدية بالحرف.
فهذه أربعة فروق لفظية، وهي فروق لها أثر في الدلالة والمعنى.
وقد ذكر الشيخ بناء على ذلك بعض المقارنات؛ وهي:
1 -
أن آية (ص) تشبه آية المائدة، وهي قوله تعالى:({بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}) من حيث ذكر اليدين بلفظ التثنية.
2 -
وأن آية (يس) تشبه عدداً من الآيات، فهي شبيهة بقوله تعالى:({فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}) من حيث إسناد الفعل إلى الأيدي.
وهي شبيهة بقوله تعالى: ({تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}) وذلك من جهة ذكر المثنى بلفظ الجمع، فالمثنى في اللغة العربية إذا أضيف إلى مثنى أو جمع فإنه يجمع، ومن شواهده قوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
فكذلك هنا لما ذكر الله تعالى نفسه بصيغة الجمع الدالة على التعظيم، وأضاف الصفة المثناة إليه، ذكرها بصيغة الجمع، كما في قوله:({أَيْدِينَا})، وقوله:({بِأَعْيُنِنَا}).
كما أن آية (يس) تشبه آية الملك، وهي قوله:({بِيَدِهِ الْمُلْكُ})، وآية آل عمران، وهي قوله:({بِيَدِكَ الْخَيْرُ}) من جهة ذكر لفظ اليد بصيغة المفردِ، والمفردُ المضاف يعمُّ كلَّ ما يدخل تحت مسماه
(1)
.
وقد دلت النصوص أن لله تعالى يدين تليقان به سبحانه، لا تماثل أيدي المخلوقين، كما هو الشأن في سائر صفاته، وهذه الآيات وإن كانت تدل على إثبات صفة اليد لله تعالى؛ إلا أن الآيات الواردة في إثبات هذه الصفة بعضها أصرح من بعض في الدلالة على ذلك والبعد عن شبهة المجاز.
فأصرح آية في ذلك، وأبعد آية عن شبهة المجاز: آية (ص)؛ وهي قوله تعالى: ({لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ})، ثم آية المائدة؛ وهي قوله:({بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}) وإن كانت آية جمع اليدين مما يُستدل به عند أهل السنة والجماعة على إثبات هذه الصفة.
(1)
«البحر المحيط في أصول الفقه» 3/ 108، و «القواعد» لابن اللحام 2/ 733، و «شرح الكوكب المنير» 3/ 136، وهو مذهب الجمهور.
وهناك فرق بين الآيتين في المعنى؛ وهو:
أن آية (ص) تدل على خلق آدم باليدين، وفيه فضيلة لآدم، وخصوصية، وتشريف.
أما آية (يس)؛ فلا تدل على أن الله تعالى خلق الأنعام بيديه، ولو كانت تدل على ذلك؛ لم يكن لآدم خصوصية على سائر المخلوقات؛ فهذا الأسلوب في اللغة العربية لا يدل على خصوص فعل اليدين، بل يعبر بهذا عن مطلق الفعل سواء كان باليد أو بغيرها، مثل قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، فيدخل في ذلك كل ما كسبه الإنسان سواء كان بيديه أم بغيرها من سائر جوارحه.
ومن أساليب اللغة العربية إسناد الفعل لليدين؛ وإن لم يكن الفعل حصل باليدين، لأنهما أداة الفعل في الغالب، فيقال:«هذا بما كسبت يداك» ، وإن كان شيئاً قاله بلسانه.
فهذا فرق بين الآيتين، فاللهُ تعالى خلق آدم بيديه، وخصه بذلك تكريماً، وتشريفاً.
وخلق سائر الأنعام بمشيئته وقدرته، وكلماته الكونية؛ فبطل بهذا قول من قال:«إن آية (ص) مثل آية (يس)» بما سبق بيانه من الفروق: اللفظية، والمعنوية
(1)
.
وكما دل القرآن على إثبات اليدين؛ فقد دلت السنة المتواترة على ذلك، وأجمع السلف على إثبات صفة اليدين لله تعالى.
(1)
«بيان تلبيس الجهمية» 5/ 478، و «الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز» ص 363، و «الصواعق المرسلة» 1/ 268.
ومن أدلة السنة على ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في صحيح مسلم، وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المقسطون عند الله على منابرَ مِنْ نورٍ عن يمين الرحمن، - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا» .
وقوله: «عن يمين الرحمن» أي يلون يده اليمين؛ بدليل قوله: «وكلتا يديه يمين» ، ومعنى «يمين»: أي: ذات يُمنٍ، وخير، وبركة. وفي ذلك احتراز لدفع توهم النقص في اليد الأخرى، ولله تعالى يدان، ونطق القرآن بإثبات اليمين، كما قال تعالى:{وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
وورد في بعض الألفاظ تسمية اليد الأخرى بالشمال، كما في صحيح مسلم
(1)
، وفي بعض الألفاظ قال:«اليد الأخرى»
(2)
.
فإحدى يدي الرب تعالى تسمى: «اليمين» ، وله يد أخرى، وإن كان وصف اليمين شاملاً لكلتا يديه سبحانه وتعالى، ولو كانت كلتا يديه تسمى بذلك؛ لم يكن لتخصيص المقسطين بأنهم عن يمين الرحمن معنى، ولصح أن يقال: إنه تعالى: يقبض الأرض بيمينه، وهو خلاف ظاهر القرآن، وظاهر السنة.
* * *
(1)
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (7411)، ومسلم (933) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وجاء في إحدى روايات حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق عند أبي داود (4732).
تناقض من يفرق بين نصوص الصفات فيما ظاهره مراد وما ليس بمراد
وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع؛ فإن الله تعالى لما أخبر أنه {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (29)} [البقرة]، وأنه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (1)} [الملك]، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد؛ كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا.
وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة؛ لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي؛ هو: حي، عليم، قدير.
فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (119)} [المائدة: 119]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: إنه على ظاهره؛ لم يقتض ذلك أن يكون ظاهرُه استواءً كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضا كرضاه.
هذا رجوع للكلام على أصل القاعدة بعد استطراد، والمراد بالقائل هنا: القائل: «إن ظاهر نصوص الصفات مراد، أو غير مراد» .
والمراد بالنصوص المتنازع في معناها: ما عدا الصفات السبع؛ كنصوص صفات: الفرح، والرضا، والمحبة، والاستواء.
والنصوص المتفق على معناها؛ هي: نصوص الصفات السبع؛ كالعلم، والقدرة، والحياة. والكلام هنا مع الأشاعرة.
وقوله: (والظاهر هو المراد في الجميع
…
) إلخ.
هذا الكلام معترض لبيان مذهب أهل السنة والجماعة؛ وهو: أن الظاهر مراد في الجميع أي: في النصوص المتفق على معناها، والمتنازع في معناها، فظاهرها مراد، وهي على حقيقتها.
وليس معنى ذلك: أن صفات الله تعالى مثل صفات المخلوق؛ بل لله تعالى من هذه الصفات كلها ما يناسبه، ويختص به، ويليق به سبحانه، لا يَشركه ولا يشبهه في ذلك أحد من خلقه.
* * *
فإنْ كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه ألَّا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به؛ لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مراداً؛ إلا بدليل يدل على النفي.
وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحداً.
المراد بالمستمع هنا هو المخاطب الذي يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، فلا يخلو:
* إمَّا أن يريد بالظاهر ما يماثل صفات المخلوقين.
* أو: ما يليق بالله تعالى، ويختص به.
فإن كان يعتقد أن ظاهر الجميع - أي: النصوص المتنازع في معناها، والنصوص المتفق على معناها -؛ هو: التمثيل؛ فيجب عليه أن ينفي هذا الظاهر الذي يظنه.
وإن كان يعتقد أن ظاهر الجميع هو ما يليق بالله تعالى ويختص به؛ فليس له نفي شيء من ظاهر هذه النصوص إلا بدليل يدل على النفي.
وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا؛ إلا ما هو من جنس ما ينفي به المعطلة سائر الصفات، كشبهة «التشبيه» ، وشبهة «التركيب» ، وشبهة «التجسيم» ، تلك الشبه التي يتذرع بها الفلاسفة، والجهمية، ونحوهم لنفي سائر الصفات دون تفريق بين الصفات.
فإذا احتج بهذه الشبهات المفرِّق بين الصفات على ما ينفيه منها؛ لزمه نفي الجميع.
* * *
الصفة تناسب الموصوف الخالق أو المخلوق
وبيان هذا، أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا؛ كالوجه واليد؛ ومنها ما هي: معانٍ وأعراض، وهي قائمة بنا؛ كالسمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة.
ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه: حي، عليم، قدير، لم يقل المسلمون:«إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا» ؛ فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه؛ لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا؛ بل صفة الموصوف تناسبه.
فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين؛ فصفاته كذاته ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه، كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوبُ كالمنسوبِ، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ترون ربكم كما ترون الشمسَ، والقمرَ» فشبَّه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي.
أي: وبيان ما تقدم من أن ظاهر جميع نصوص الصفات مراد؛ وأن الظاهر هو ما يليق بالله تعالى ويختص به، كما هو قول أهل السنة والجماعة، مما يبين هذا:(أن صفاتنا منها ما هي أعيان) أي: متعينة متشخصة، و (أجسام)، والجسم؛ هو:«الشيء الكثيف» ؛ كالبدن.
(وهي أبعاض لنا) أي: بعض منا، تقول: يد الإنسان بعضه، ووجهه بعضه، أو بعض منه.
ومن صفاتنا (ما هي معانٍ وأعراض) أي: معنوية لا تقوم بنفسها؛ كالعلم، والقدرة.
ولم يقل المسلمون لما أخبر الله تعالى عن نفسه بأنه {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (29)} [البقرة]، وأنه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (1)} [الملك]:(إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا)، بل قالوا:«إن ظاهر ذلك مراد؛ لأن مفهومه في حقه ليس كمفهومه في حقنا» .
فصفاته لا يقال لها: «أعراض» ، لأن العرض؛ هو:«الذي يعرض ويزول» ، ولا يقال لها:«أبعاض» ؛ لأن ذلك يشعر بالتجزؤ.
ومن نزه الله تعالى عن الأعراض والأبعاض من نفاة الصفات؛ فلا بد من مواجهته بالاستفصال؛ كما تقدم في حكم الألفاظ المجملة في «القاعدة الثانية»
(1)
.
(1)
ص 291.
وكذلك لما أخبر الله أنه خلق آدم بيديه؛ لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه، كمفهومه في حقنا؛ وهو:«التمثيل» ، فلما كان هذا الظن وهذا المفهوم منتفياً؛ لم يقل المسلمون:«إن ظاهر نصوص الصفات غير مراد» ؛ بل قالوا: «إن ظاهره مراد» ؛ لأن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى من الوصف الذي يناسبه، فكما أن للمخلوق صفة تناسبه، فلله تعالى صفة تناسبه.
وإذا كانت ذات الله تعالى ليست مثل ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ليست كصفات المخلوقين، و «الكلام في الصفات كالكلام في الذات» .
وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فالله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقوله: (وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه) المنسوب؛ هو: الصفة، والمنسوب إليه؛ هو: الموصوف، أي: ليست الصفة المنسوبة إلى الله؛ كالصفة المنسوبة إلى المخلوق، (ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه) أي: وليس الخالق الذي تنسب إليه صفاته؛ كالمخلوق الذي تنسب إليه صفاته.
واستشهد الشيخ هنا بحديث الرؤية، وقد ذكره بمعناه، وقد جاء بألفاظ كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:«إنكم سترون ربكم؛ كما ترون هذا القمر»
(1)
الحديثَ.
(1)
رواه البخاري (554)، ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
فالرؤية والرائي في الموضعين في الحديث متعلقة بالمخلوق، ولذا شبه (الرؤية بالرؤيةِ)، فرؤيةُ المؤمنين لربهم تشبه رؤيتهم للشمس صحواً، والقمر ليلة البدر من حيث:
أولاً: الجلاء، والوضوح، وعدم الخفاء.
ثانياً: أنها رؤية من العلو، وفيه رد على الأشاعرة القائلين بأنه:«يرى لا في جهة» .
ثالثاً: الرؤية من غير إحاطة.
وأما المرئي، فالمذكور «أولاً» هو الله تعالى، والمذكور «ثانياً» هو القمر، ولا يُقصد في الحديث تشبيه المرئي بالمرئي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ولهذا قال الشيخ تعليقاً على هذا الحديث:(فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي).
* * *
المحاذير المترتبة على توهم التشبيه في صفات الله أو بعضها
وهذا يتبين ب:
القاعدة الرابعة
وهي أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها؛ أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مَثَّلَ ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنَّ أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطَّله؛ بقيت النصوص معطلة عمَّا دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ، الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل -؛ قد عطَّل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه.
الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم؛ فيكون معطلاً لما يستحقه الرب تعالى.
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات المَوات والجمادات، أو صفات المعدومات.
فيكون قد عطَّل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثَّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عمَّا دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله، وفي كلام الله بين التعطيل، والتمثيل؛ فيكون ملحداً في أسمائه وآياته.
تقدم في القاعدة السابقة: أن ظاهر نصوص الصفات مرادٌ، وهو ما يليق بالله تعالى ويختص به من صفات الكمال.
وأن الزعم بأن الظاهر غير مراد؛ باطل، فإنْ جَعَلَ الظاهر هو التمثيل؛ فهو مبطل من حيث ظن أن ذلك هو ظاهر النصوص، وإن أثبت الصفات على ما يليق بالله تعالى، أو جعل الظاهر الذي هو ما يليق بالله من إثبات الصفات تمثيلاً؛ فهو مبطل من حيث نفى الظاهر اللائق بالله تعالى.
وهذا يتبين ب «القاعدة الرابعة» التي سيتكلم عليها المؤلف هنا، ومدارها عمَّا يترتب عليه توهم التشبيه في صفات الله تعالى؛ وهي:(أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها؛ أنها تماثل صفات المخلوقين).
هذا التنويع الذي ذكره المؤلف راجع إلى تنوع الناس في توهم التمثيل، فمنهم من يتوهم ذلك في كل الصفات؛ كالجهمية والمعتزلة، ومنهم من يتوهم ذلك في كثير منها، أو أكثرها؛ كالأشاعرة ونحوهم، ثم إن هذا المتوهم يريد أن ينفي تلك الصفات التي فَهِم منها التمثيل، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير؛ وهي أنواع من الإلحاد في أسماء الله، وآياته:
أحدها: ظنَّه واعتقاده أن ظاهرَ نصوصِ الصفاتِ مُمَاثَلَةُ صفاتِ الله لخلقه، فجعل مدلول كلام الله: الكفر، والضلال.
الثاني: أنه لما اعتقد أن ظاهر النصوص التمثيل، ونفى الصفات من أجل ذلك؛ عطَّل النصوص عمَّا دلت عليه من الحق الذي أراده الله ورسوله منها.
وهذان المحذوران يتعلقان بالنصوص الشرعية، فقد جمع فيهما بين: التعطيل، والتمثيل.
الثالث: أنه ينفي عن الله تعالى صفات كماله بغير علم؛ فيعطل الرب عمَّا يجب له من صفات الكمال.
الرابع: أن تعطيله ذلك يؤول به إلى وصف الله تعالى بنقيض صفاته، فيصفه بصفات: الجمادات، والناقصات، أو المعدومات، والممتنعات.
وهذان المحذوران يتعلقان بصفات الرب تعالى.
وهذه الأربعة كلها محذورة، وتنافي تعظيم الله تعالى، وتعظيم كلامه، وكل واحد من هذه الأربعة كافٍ في بيان فساد مذهب المعطلة.
ثم إن الشيخ بعد أنْ فصَّل هذه المحاذير؛ ذكرها مجملة مبيناً أنها من الإلحاد في أسماء الله تعالى، وآياته، وذلك في قوله:(فيكون قد عطَّل صفات الكمال .. ) إلخ، فقوله:(فيكون قد عطَّل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثَّله بالمنقوصات والمعدومات) فيه ذكر للثالث، والرابع، وقوله:(وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات) فيه ذكر الثاني، ثم الأول.
وقوله: (فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل) فيه إجمال لتلك المحاذير بعد إجمال.
(فيكون ملحداً في أسمائه وآياته)، وقد ذم الله تعالى الملحدين في أسمائه وآياته، قال تعالى:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (180)} [الأعراف]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (40)} [فصلت].
* * *
إبطال توهم التشبيه في وصفه تعالى بالاستواء على العرش
مثال ذلك أن النصوص كلَّها دلتْ على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش؛ فأما علوه ومبيانته للمخلوقات؛ فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش؛ فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصفٌ له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله.
أي: مثال ما وقع فيه توهم تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه: أن النصوص الشرعية قد تظافرت وتنوعت بوصف الله تعالى بالعلو على المخلوقات، والاستواء على العرش، وهناك فروق بين الاستواء على العرش والعلو
(1)
؛ وهي:
1 -
أن العلو ثابت بالعقل والسمع، وأما الاستواء؛ فطريق العلم به هو السمع.
2 -
أن العلو صفة ذاتية، وأما الاستواء فصفة فعلية.
(1)
«شرح حديث النزول» ص 395.
3 -
أن العلو عام على جميع المخلوقات، أي: أن الله تعالى عالٍ على جميع الخلق، وأما الاستواء؛ فهو خاص بالعرش.
ولم يأتِ في الكتاب ولا في السنة وصف الله تعالى بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، كما يقوله بعض نفاة العلو من المعطلة؛ لأن هذا قولٌ باطل ممتنع.
* * *
فيظن المتوهم أنه إذا وُصف بالاستواء على العرش؛ كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِين (13)} [الزخرف: 12 - 13]، فيتخيل أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة؛ لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة؛ لخرَّ المستوي عليها.
فقياس هذا: أنه لو عدم العرش؛ لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد - بزعمه - أن ينفي هذا فيقول:«ليس استواؤه بقعود ولا استقرار» .
أي: يظن هذا المتوهم أن الله تعالى إذا وُصف بالاستواء على العرش؛ لزم أنه يكون استواؤه كاستواء المخلوق على الفلك والأنعام.
ومعلوم أن استواء المخلوق على غيره يكون محمولاً ومعتمداً على ما تحته من سفينة أو سيارة أو غير ذلك، فلو غرقت السفينة أو عثرت الدابة؛ لخرَّ مَنْ فوقها؛ لأنه تَبَعٌ لها.
فهذا المتوهم ظن أنه يلزم من استواء الله تعالى على العرش ما يلزم من استواء المخلوق على المخلوق، فيريد أن ينفي هذا المعنى الباطل الذي فهمه، فينفي تبعاً لذلك ما دل عليه النص من المعنى الحق، فيقول هذا المتوهم في تفسير الاستواء: (ليس استواؤه بقعود
ولا استقرار)، فإن كان مؤولاً؛ قال:«إنه الاستيلاء» ، وإن كان مفوضاً؛ قال:«الله أعلم بمراده به» .
وقد فسَّر السلف «الاستواء» ب: «العلو» ، و «الارتفاع» ، و «الاستقرار» ، و «الصعود»
(1)
.
أما لفظ القعود؛ فلم يذكر في الآثار المروية في تفسير الاستواء، وأما لفظ الجلوس؛ فقد ورد في بعض الآثار نسبة الجلوس إلى الله تعالى
(2)
، وأنه يجلس على كرسيه كيف شاء سبحانه، وربما أطلق بعض الأئمة هذا اللفظ أيضاً، وهو بمعنى القعود؛ بل قد ورد القعود - أيضاً - في بعض الآثار، وسياق كلام الشيخ يشعر بأن الاستواء يتضمن القعود، لكن الأَوْلى التوقف في إطلاق هذا اللفظ إلا أن يثبت
(3)
.
(1)
انظر: «صحيح البخاري» 9/ 124، و «تفسير البغوي» 3/ 235، و «شرح حديث النزول» ص 388، و «شرح الأصبهانية» ص 209، و «درء التعارض» 2/ 20، و «الكافية الشافية» ، الأبيات:(1347 - 1360).
(2)
انظر: «السنة» لعبد الله بن أحمد 1/ 301 و 302، و «المعجم الأوسط» 2/ 314، و «الرد على الجهمية» لابن منده ص 80، و «العلل المتناهية» 1/ 20، و «الأحاديث المختارة» 6/ 273، و «شرح حديث النزول» ص 400، و «مجموع الفتاوى» 16/ 434، و «منهاج السنة» 2/ 629، و «العرش» للذهبي 2/ 120، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» ص 108، و «تفسير ابن كثير» 1/ 685.
(3)
انظر: «نقض عثمان بن سعيد» ص 299، و «السنة» لعبد الله بن أحمد 1/ 305، و «تفسير الطبري» 4/ 540، و «التوحيد» لابن خزيمة ص 107، و «العلل المتناهية» 1/ 20، و «الأحاديث المختارة» 1/ 265، و «شرح حديث النزول» ص 400، و «منهاج السنة» 2/ 629، «وبيان تلبيس الجهمية» 3/ 3، و «العرش» للذهبي 2/ 116، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» ص 109، و «تفسير ابن كثير» 1/ 685، وانظر:«إثبات الحد لله عز وجل وبأنه قاعد وجالس على عرشه» ففيه عدة نقول، وآثار.
ولا يعلم أن مُسمَّى القعود والاستقرار؛ يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء!، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك؛ فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء؛ فإثبات أحدهما ونفي الآخر؛ تحكُّمٌ.
وقد عُلم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقاً معروفة، ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره.
وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك.
أي: يقال لهذا الغالط المتوهم في القعود والاستقرار ما يقال في الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في مفهوم الاستواء - الذي يثبته - والقعود والاستقرار؛ فالله تعالى بهذا المعنى والاعتبار؛ ليس مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً؛ لأنه تعالى منزه عن الحاجة بغناه عمَّا سواه.
وإن كانت الحاجة غير داخلة، وأنه لا يدخل في مسمى القعود والاستقرار (إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر؛ تحكم).
فالمنفي هو الحاجة والافتقار، فهذا هو المعنى الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه، فمدار النفي هو النقص، فما كان نقصاً؛ وجب تنزيه الله تعالى عنه، ولا يُنفى الكمال بناء على توهم النقص، فالله تعالى مستوٍ على العرش استواء يليق بجلاله، ليس فيه حاجة ولا افتقار؛ لأنه تعالى الغني عمَّا سواه، وكل شيء محتاج إليه تعالى.
فهذا المتوهمُ جَعَل الحاجةَ لازمةً لمطلق الاستواء، ومثَّل لذلك بسقوط المستوي على السفينة، وخرور الراكب على الدابة، وهذا غلط؛ فإن المعنى العام الكلي المشترك للاستواء؛ لا يستلزم الحاجة، وإنما يستلزمُ الحاجةَ استواءُ المخلوق.
أما استواء الرب تعالى على العرش؛ فهو استواء بلا حاجة ولا افتقار
(1)
.
وهناك فروق بين الاستواء، والاستقرار، والقعود:
فالاستواء فُسِّر ب: الارتفاع، والاستقرار، والصعود، والعلو.
والاستقرار فيه معنى الثبات، وهو خلاف الاضطراب.
والقعود؛ هو خلاف القيام.
فالقعود على الشيء، والاستقرار على الشيء، والاستواء على الشيء، فقد يكون قعوداً بلا استقرار، والعكس كذلك.
وأما الاستواء؛ فإنه يتضمن الاستقرار، فكلُّ استواءٍ استقرارٌ، وليس كلُّ استقرارٍ استواءً.
(1)
«مجموع الفتاوى» 5/ 262 و 16/ 101، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 379، و «التوسل والوسيلة» ص 367.
وليس في اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق، ثم استوى، كما ذكر أنه قدَّر، فهدى، وأنه بنى السماء بأيدٍ، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك.
فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة.
فلو قُدِّر - على وجه الفرض الممتنع - أنه هو مثل خلقه - تعالى الله عن ذلك - لكان استواؤه مثل استواء خلقه.
أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه، بل قد عُلم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواء يخصه، لم يذكر استواء يتناول غيره ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به؛ فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر مَنْ عليه؟! سبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوَّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق؟!؛ بل لو قُدِّر أن جاهلاً فهم مثل هذا، أو توهمه لبُين له
أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلاً، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه.
فلما قال تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] فهل يتوهم متوهم أنَّ بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زُبُلٍ
(1)
، ومجارفَ، وأعوانٍ، وضَرْبِ لَبِنٍ
(2)
، وجَبْلِ طين
(3)
؟!
ثم قد عُلم أن الله خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، والسحاب - أيضاً - فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسموات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها.
فالعلي الأعلى ربُّ كلِّ شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه، أو عرشه؟! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟!
وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره؛ فالخالقُ سبحانه أحقُّ به وأَولى.
(1)
جمع «زبيل» ؛ وهو: الجِراب، وقيل: الوِعاء يُحْمل فيه. «لسان العرب» 11/ 300.
(2)
اللَّبِنُ؛ هو: «المَضْروب من الطينِ مُرَبَّعاً للبِناءِ» . «القاموس المحيط» ص 1586.
(3)
في «القاموس المحيط» ص 1259: «جَبَلَهُم اللّهُ تعالى يَجْبُلُ ويَجْبِلُ: خَلَقَهُم» . ولعل المراد ب «جَبْل الطين» : صنعه على الشكل الذي يريده الباني. والله أعلم.
يبين الشيخ رحمه الله: أنه لا أساس لهذا التوهم في دلالة ألفاظ نصوص الاستواء، وذلك لوجوه:
1 -
أن الله تعالى ذكر استواءً أضافه إلى نفسه؛ كما أضاف إليه سائر الصفات؛ كعلمه، وسمعه، وبصره، وبنائه للسماء، فالقول في الاستواء؛ كالقول في هذه الصفات.
2 -
من المعلوم أنه تعالى ليس مثل خلقه، فصفاته كذلك، فإن «القول في الصفات كالقول في الذات» ، فلو كان الله تعالى مثل خلقه؛ لكانت صفاته مثل صفاتهم.
3 -
من المعلوم أنه تعالى غني عن كل ما سواه، وذلك يتضمن غناه عن العرش، وإن كان مستوياً عليه؛ بل هو الممسك للعرش وما دون العرش.
4 -
أن علو الشيء على غيره لا يستلزم حاجته إلى ما دونه، وذلك ثابت في المخلوقات، فالسحاب فوق الأرض، والسموات بعضها فوق بعض، وليس شيء من ذلك مفتقراً إلى ما تحته، فالله تعالى أولى ألَّا يلزم من علوه على خلقه واستوائه على عرشه حاجة أو افتقار، ومن المعلوم أن ما ثبت للمخلوق من الغنى؛ فالله أولى به.
وقد بيَّن الشيخ أن هذا المعنى الباطل؛ لا يجوز توهمه في ألفاظ النصوص، ولا اعتقاد أنه ظاهرها، فضلاً عن أن يجوِّز ذلك المعنى
الباطل على الله تعالى، وذلك في قوله: ف (هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوَّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق؟!).
* * *
معنى أن الله في السماء
وكذلك قوله: {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور (16)} [الملك] مَنْ توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات، فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا:«إن الشمس والقمر في السماء» يقتضي ذلك؛ فإن حرف «في» متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف، والمضاف إليه.
ولهذا يُفرَّق بين كونِ الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيِّز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإنَّ لكلِّ نوعٍ من هذه الأنواعِ خاصيةً يتميزُ بها عن غيره، وإن كان حرفُ «في» مستعملاً في ذلك كله.
(في) مِنْ حروف الجر، ولها معانٍ
(1)
، والأصل فيها «الظرفية» ، ولكن هذه الظرفية تختلف بحسب ما قبلها وما بعدها، ولهذا قال الشيخ: إنه (يُفرَّق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في
(1)
«الجنى الداني في حروف المعاني» ص 250، و «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» ص 191.
الحيز، وكون العرض في الجسم
…
) أي: أن (في) في كلِّ هذه التراكيب للظرفية، ولكن لكل تركيب خاصية يتميز بها عن الآخر.
فالشيء في المكان، يعني: أنه قد يتسع لغيره.
والجسم في الحيِّز؛ والحيز: ما شغله الجسم من الفراغ، وعلى هذا؛ فالحيز لا يسع غير الجسم المتحيز فيه.
والعرض في الجسم، يعني: أنه قائم به.
والوجه في المرآة، أي: صورته.
وهكذا صار لكل تركيب معنى يخصه، وأفادت (في) في كل تركيب معنى خاصاً.
وقول الشيخ: (وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك) أي: يقتضي أنهما في داخل السماء، وهذا يدل على أن الشيخ يذهب إلى ذلك
(1)
، وهذا مشهور عند المفسرين
(2)
.
والنصوص ليست صريحة في هذا؛ لأن لفظ (السماء) يحتمل السماء المبنية، والسماء بمعنى العلو، فالإخبار عن الشمس والقمر بأنهما في السماء ليس نصاً بأنهما داخل السماء.
(1)
«مجموع الفتاوى» 4/ 271، و 6/ 592 و 597.
(2)
«تفسير البغوي» 5/ 317، و «النكت والعيون» 3/ 446، و «المحرر الوجيز» 5/ 375، و «الجامع لأحكام القرآن» 17/ 451، و «البحر المحيط» 8/ 334، و «تفسير ابن كثير» 8/ 233، و «اللباب في علوم الكتاب» 19/ 390، و «نظم الدرر» 8/ 171، و «فتح القدير» 4/ 520، و «روح المعاني» 16/ 129.
ومن أجل هذا الاحتمال لم يقطعِ المحققون
(1)
بكذب ما ادَّعاه بعض الكفار مِنْ الوصول إلى القمر، ولم يُكَفِّروا مَنْ صدَّقهم، وقد دلت القرائن بعد ذلك على كذبهم.
* * *
(1)
كالعلامة ابن باز في كتابه «الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب» ، والعلامة ابن عثيمين في كتابه «رسالة حول الصعود إلى القمر» .
فلو قال قائل: «العرش في السماء أم في الأرض» ؟ لقيل: «في السماء» ، ولو قيل:«الجنة في السماء أم في الأرض» ؟ لقيل: «الجنة في السماء» ، ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات؛ بل ولا الجنة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن»
(1)
.
فهذه الجنة، سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء} [الحج: 15]، وقال تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا (48)} [الفرقان].
من المعلوم أن العرش في السماء وليس في الأرض، وكذا الجنة.
وإذا قيل: «إن العرش في السماء» ، أو «الجنة في السماء» ؛ لم يلزم أن يكون العرش ولا الجنة داخل السموات.
(1)
رواه البخاري (7423) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فقد ثبت أن العرش سقف الجنة، وهذه الجنة فوق الأفلاك، أي: فوق السموات؛ لأن السموات مستديرة
(1)
.
فالسماء يراد بها العلو سواء كان فوق الأفلاك - أي: السموات - أم تحتها، كما في الآيتين اللتين ذكرهما المؤلف، فالسماء في الآية الأولى:«سقف الدار» ، وفي الثانية:«السحاب» .
وإذا كان الإخبار عن المخلوق بأنه في السماء؛ لا يلزم منه أن يكون داخلَ السمواتِ ولا شيءٍ آخر؛ فالخالق تعالى أَوْلى ألَّا يلزم في حقه ذلك؛ إذ هو العلي الأعلى سبحانه وتعالى.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» 5/ 150 و 6/ 586، و «الرسالة العرشية» ص 565، و «منهاج السنة» 5/ 442، و «بيان تلبيس الجهمية» 4/ 8.
ولما كان قد استقرَّ في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء؛ كان المفهوم من قوله:{مَنْ فِي السَّمَاء} [الملك: 16]: أنه في السماء، وأنه في العلو، وأنه فوق كل شيء.
وكذلك الجارية لما قال لها: «أين الله؟» قالت: في السماء
(1)
، إنما أرادت العلو، مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة، وحلوله فيها.
وإذا قيل: «العلو» ، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به؛ إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل:«إن العرش في السماء» ، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق.
لما بيَّن الشيخ أنَّ المراد بالسماء: العلو، وأنه مِنَ المستقر في نفوس الناس أن الله تعالى هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء؛ ذكر أنهم يفهمون من وصف الله تعالى بأنه في السماء أن معناه: أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء، دون أن يكون في شيء موجود يحيط به، أو يحصره، أو يحويه؛ فإن العلو يتناول ما فوق المخلوقات.
(1)
رواه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.
وإذا كان المخلوق يمكن أن يوصف بأنه في العلو، دون أن يكون في شيء وجودي يحويه ويحيط به؛ كما في العرش؛ فالخالق أَوْلى وأحرى بألَّا يستلزم وصفه بأنه في السماء أن يكون في شيء وجودي، يحيط به، ويحصره، فلكلِّ مقامٍ مقالٌ.
فإذا قلنا: «الطير في السماء» ، فإنا نعني به: العلو النسبي.
وإذا قلنا: «الملائكة في السماء» ، فإنا نعني به: السموات المبنية؛ فإنهم عُمَّارها.
وإذا قلنا: «الجنة في السماء» ، كان هذا محتملاً أن تكون داخل السموات، أو فوقها، وأما الفردوس التي سقفها عرش الرحمن، وهي أعلى الجنة، فإنها فوق السموات، وهي في العلو، وهكذا العرش.
فكل ما كان في العلو فهو في السماء، وما فوق المخلوقات جميعاً؛ فهو في العلو، العلو المطلق.
فالعلو نوعان: علو نسبي، وعلو مطلق.
فالعلو النسبي يكون في حق المخلوقات، فبعضها فوق بعض، فوصف المخلوق بالعلو؛ هو بالنسبة لما دونه.
أما العلو المطلق على كل شيء؛ فهو في حق الباري سبحانه وتعالى، فله العلو المطلق: ذاتاً، وقدراً، وقهراً.
وإذا قُدِّر أن السماء المراد بها الأفلاك؛ كان المراد أنه عليها، كما قال:{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وكما قال:{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 137]، وكما قال:{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2]، ويقال:«فلان في الجبل» ، و «في السطح» ، وإن كان على أعلى شيء فيه.
هذا تمام الكلام على قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء} [الملك: 16].
ما معنى أن الله في السماء؟ الأصل في معنى «في» أنها للظرفية، ومعنى السماء: العلو، فمعنى أن الله في السماء، أي: في العلو.
وإذا قُدِّر أن المراد بالسماء في قوله: {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء} يعني: الأفلاك، أي: السموات السبع الطباق المبنية؛ فيتعين أن تكون «في» بمعنى: «على» ، ولذلك شواهد في لغة العرب، وكما في الآيتين والمثالين اللذين ذكرهما المؤلف فإن «في» بمعنى «على» .
وقول الشيخ: (وإن قُدِّر أن السماء المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها) يريد لفظ (السماء) الذي في الآية، ويريد بالأفلاك: السموات السبع.
وقد جعل هذا التفسير احتمالاً مما يدل على أن الراجح عنده: أن معنى (السماء) في الآية العلو، و «في» للظرفية
(1)
.
ولا منافاة بين التفسيرين.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» 5/ 106 و 16/ 101.
علم العباد بما أُخبِروا به من وجه دون وجه
القاعدة الخامسة
أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، فإن الله تعالى قال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء]، وقال:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وقال:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص]، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]، فأمر بتدبر الكتاب كله.
معنى هذه القاعدة: أن ما أخبرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، أو أمر المعاد؛ معلوم لنا من وجه لا مطلقاً، فلو كان معلوماً لنا مطلقاً كُنَّا محيطين بما أخبرنا به، والله تعالى يقول:
{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه]، ولو كنا لا نعلمه مطلقاً؛ كانت هذه الأخبار ألفاظاً لاحظَّ لنا منها؛ إلا مجرد التلاوة، من غير أن يكون للعقل والفهم حظ.
فهذه الأخبار إذاً؛ معلومة لنا من وجه دون وجه، فإذا قرأناها فهمناها؛ لكن فهماً محدوداً، فنفهمها من جانب، ولا نحيط بها علماً.
أما الوجه الذي نعلمه؛ فهو: ما تدل عليه هذه النصوص حسب دلالة اللسان العربي، لأننا خوطبنا بلسان عربي مبين، والرسول عليه الصلاة والسلام عربي، فكل من يحسن اللسان العربي له حظ من فهم هذه النصوص.
فنفهم هذه النصوص من جهة ما تدل عليه من المعنى بحسب دلالة اللغة، ولا بد - أيضاً - من مراعاة السياق الذي وردت فيه، ودلالة النصوص المفسِّرة، فإن كلام الله تعالى يُفَسِّر بعضه بعضاً، والسنة تفسر القرآن، هذا هو الوجه الذي نعلمه.
أما الوجه الذي لا نعلمه؛ فهو الحقائق والكيفيات لتلك الأمور المخبَرِ عنها، فلا نعلم حقائقها، ولا كيفياتها بل هي غيب، فيكون هذا الخبرُ معلوماً لنا من جهة معناه، وغيرَ معلومٍ لنا من حيث حقيقتُه وكيفيته.
فقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] فيه خبرٌ عن الله بأن يديه تعالى مبسوطتان، وهذا يدل على أن له تعالى يدين، ومن شأن يديه البسط، والبسط تقدم أنه يحتمل معنيين
(1)
:
(1)
ص 167.
أحدهما: البسط ضد القبض، فالله تعالى يبسط يديه كما يشاء، ويقبضهما كما يشاء.
والآخر: أن المراد بالبسط كثرة العطاء والجود
(1)
.
وكلٌّ من المعنيين حق، لكن المعنى الثاني أنسب للسياق، لأن المراد الرد على اليهود الذين وصفوا الله بالبخل، وعبَّروا عن ذلك بقولهم:{يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، ويوضحه قوله بعدها:{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} ؛ فنفهم من هذه الآية أنه تعالى له يدان، وأنهما مبسوطتان، وأنه تعالى ينفق كيف يشاء، وأن يديه ليست كيدي أحد من الخلق.
وهذا يرجع إلى ما علم بالشرع والعقل؛ مِنْ أنه تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وليس المراد باليدين القوة أو النعمة، فإن هذا وإن كان له أصل في اللغة إلا أنه يأباه السياق، ويأباه - أيضاً - ذكر اليدين بلفظ التثنية؛ كما تقدم في المقارنة بين آية «ص» وآية «يس»
(2)
.
فهذا هو الجانب الذي نعلمه، وهو موجَب اللغة، والسياق، والنصوص الأخرى المفسِّرة، ولكن لا نعلم كنه يديه وكيفيتهما، ولا يصح لنا أن نتخيل كيفية يدي الرب تعالى على نحو أيدي أحد من العباد؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته.
(1)
«تفسير الطبري» 8/ 553.
(2)
ص 317.
فمن قال: «كيف يدي الرب» ؟ قلنا له: «كيف الرب» ؟ فإذا قال: «لا يَعلم كيف هو إلا هو» . قلنا: «وكذلك يداه لا يعلم كيفيتهما إلا هو سبحانه وتعالى» ، ف «القول في الصفات كالقول في الذات» من حيث الثبوت، ونفي التشبيه، ونفي العلم بالكيفية.
إذاً؛ فقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} معلوم لنا من وجه دون وجه، وهكذا سائرُ نصوصِ الصفاتِ القولُ فيها واحد، وكذا نصوصُ المعاد القول فيها كالقول في نصوص الصفات، كما في المثل الأول المتقدم
(1)
.
فإذا قرأنا قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15]، وقوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّان (68)} [الرحمن]، وقوله:{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَان (50)} [الرحمن]، ونحوها؛ فهذه النصوص معلومة لنا من وجه، فنفهم من هذه الآيات أن الله تعالى أعد لعباده أصناف النعيم: من مشارب، وملابس ومساكن، وزوجات، كما قال تعالى:{وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِين (20)} [الطور] فيفهم من هذه الآية: أن نساء الجنة حور عين، والحُور: جمع حوراء، والعِين: جمع عَيناء، والحَوَرُ؛ هو:«شدة سواد العين، مع شدة بياضها، مع بياض البدن»
(2)
، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى
(3)
، والعَيَنُ؛ هو: سعة العين
(4)
، فضيق العين وصغرها؛ مذموم في الصفات
(5)
.
(1)
ص 225.
(2)
«تهذيب اللغة» 5/ 229.
(3)
«حادي الأرواح» 1/ 475 - 476.
(4)
«المخصص» 1/ 99.
(5)
«حادي الأرواح» 1/ 476.
فهذا كله مفهوم لنا بدلالة اللغة، ودلالة السياق، ولكن لا نعلم كُنه هذه المطاعم، والمشارب، والملابس، ولا نتصور ولا نتخيل حقيقة وكنه تلك الزوجات؛ بدليل قوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وقال تعالى في الحديث القدسي المتفق على صحته:«أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
(1)
، فنعلم أن ما أخبر الله به ورسوله ممَّا أعد الله لأوليائه في الجنة؛ أنه وإنْ كان موافقاً لما نعرفه في الدنيا؛ فإنه ليس مثل ما في الدنيا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:«ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء»
(2)
.
إذاً نصوص الوعد معلومة لنا من وجه دون وجه.
وهذه القاعدة يقصد بها الرد على أهل التفويض الذين يقولون: إن هذه النصوص - أي: نصوص الصفات - من المتشابه؛ فلا يفهم منها شيء، ولا تدل على معنى يدركه السامع، والمخاطَب، والتالي، فهي ألفاظٌ تقرأ فقط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والدليل على هذه القاعدة مركب من مجموع دليلين فأكثر؛ فأما الدليل على الوجه الأول من القاعدة؛ فآيات التدبر، كما قال الله تعالى:({أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}) وقال: ({أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)})، وقال:({كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}).
(1)
رواه البخاري (3244)، ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
(2)
تقدم في ص 226.
فالله تعالى ذم الكافرين والمنافقين على إعراضهم عن تدبر القرآن، وفي هذا أمر للمؤمنين بتدبر القرآنِ، وتدبرُ القرآن؛ هو: تعقل معانيه والنظر في دلالاته، وإنما يُدرك معنى الكلام في أخرياته؛ فلا يفهم معناه إلا بعد استكماله، وقوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي: أَغَفَلوا فلا يتدبرون القرآن؟!
(1)
.
وإذا جاء حرف العطف بعد الهمزة؛ فالراجح أن العطف على محذوف، ويقدَّر بنحو ما ذكر
(2)
.
وقوله تعالى: ({كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)}) فيه بيان أن الله تعالى أنزل كتابه ليتفكر الناس في آياته، ويعقلوا معانيها، لأن التدبر هو الطريق إلى فهم المراد من الكلام، ولكن لا بدَّ أن يكون هذا التدبر مبنياً على أصول الفهم، فلا بد أن يكون لدى المتدبر:
* إلمامٌ باللغة العربية.
* وبالأدلة الشرعية.
(1)
«تفسير أبي السعود» 2/ 207، و «فتح القدير» 1/ 734، و «أضواء البيان» 7/ 457.
(2)
هذا رأي الزمخشري وتبعه جماعة، وخالفهم الجمهور، انظر حججهم وما استشهدوا به في:«الكتاب» 3/ 187، و «المقتضب» 3/ 307، و «الكشاف» 1/ 197، 2/ 634، و «تفسير البحر المحيط» 1/ 339، و «الجنى الداني في حروف المعاني» ص 31، «توضيح المقاصد والمسالك» 2/ 1033، و «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» ص 22، و «أوضح المسالك» 3/ 353، و «شرح الأشموني على ألفية ابن مالك» 3/ 90، و «شرح التصريح على التوضيح» 2/ 155.
* وبالمأثور من التفسير، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، والتابعين.
قوله تعالى: ({أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}) تدل هذه الآية على الحض على تدبر القرآنِ كلِّه لا بعضه، فعلم بهذا أنَّ القرآن كلَّه يمكن فهمه، لأن ما لا يمكن فهمه؛ لا يؤمر بتدبره، لأنه لا معنى ولا فائدة لتدبره، فلو سمعت كلاماً أعجمياً وأنت لا تعرف هذه اللغة؛ فإنه ليس بإمكانك أن تتدبره لتفهم شيئاً، فالكلام الذي يتدبر هو الذي يمكن فهمه، وما لا يمكن فهمه؛ فلا يؤمر بتدبره، بل لا يمكن تدبره.
فلما أمر الله تعالى بتدبر القرآن كله علم أن القرآن كله يمكن فهمه؛ ليكون حجة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وللتعبد بتلاوته، والتعبد بتدبره، ثم بالإيمان بمعانيه، والعمل بأوامره ونواهيه
(1)
.
إذاً؛ فنصوص التدبر تدل على أنا نعلم ما أخبرنا به من نصوص الصفات ونصوص المعاد من وجه، وهو الشِّق الأول من القاعدة.
وهناك أدلة أخرى من هذا الجنس تدل على هذا، كقوله تعالى:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وقوله تعالى {هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185]، وما أشبهها، وهذا ليس خاصاً ببعض القرآن؛ فكل القرآن بيان للناس، وهدى لهم، وما لا يفهم منه شيء لا يكون بياناً ولا هدى.
(1)
«مجموع الفتاوى» 16/ 410، و «مقدمة في أصول التفسير» ص 31، و «القاعدة المراكشية» ص 157، و «الفتوى الحموية» ص 296.
ففي النصوص المتقدمة دليل على الشِّق الأول من القاعدة؛ وهو: «أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه» ، وفيها رد على أهل التفويض الذين يقولون:«إن من نصوص القرآن ما لا يفهمه أحد» ، كما سيأتي في الكلام على المتشابه.
والدليل على الشِّق الثاني من القاعدة، أي: الدليل على أن من مدلول هذه الأخبار ما لا يعلمه العباد آية آل عمران؛ وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الألْبَاب (7)} ، والضمير في قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} يعود إلى الآيات المتشابهات، فلا يعلم تأويل المتشابه إلا الله تعالى.
فبين هذه الآية والآيات المتقدمة في التدبر تعارض في الظاهر؛ لأن آيات التدبر تدل على أن القرآن كله يمكن فهمه، وهذه الآية يظهر منها: أن من آيات القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه، وهذا تعارض في الظاهر.
والجمع بينها هو القاعدة؛ وهو أن نقول: إن الآيات المتشابهات ليست ألفاظاً مجردة لا يفهم منها شيء، وليست معلومة من كل وجه؛ بل هي معلومة من وجه دون وجه، ويتضح هذا بمعرفة معنى التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الحقيقة المخبَر عنها في النصوص، كما سيأتي في الكلام على معاني التأويل.
فالآيات المتشابهات معلومة لنا من وجه دون وجه، فالوجه الذي نعلمه هو الذي نصل إليه بالتدبر، والوجه الذي لا نعلمه هو الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وأخبرنا بذلك في قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} ، إذاً؛ فهذه القاعدة يستدل لها بمجموع النصوص: نصوص التدبر وما أشبهها، وآية آل عمران.
وهي مستنبطة من هذه النصوص، وهي أيضاً تتضمن الجمع بين هذه النصوص، فبمراعاة مضمون القاعدة؛ يحصل الجمع.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قد دلت الآية على أن القرآن نوعان: آيات محكمات، وآيات متشابهات، والآياتُ المحكمات هنَّ الأصل الذي يُرَدُّ إليه غيره، فالآيات المتشابهات ترد إلى الآيات المحكمات.
وقد اختُلِف في المراد بالمحكمات والمتشابهات
(1)
، فقيل: المحكم؛ هو: «البيِّن الذي لا يشتبه معناه، ولا يخفى على أكثر الناس» ، والمتشابه؛ هو:«الذي يخفى معناه على بعض الناس» .
وقريب من هذا قول من يقول: المحكم؛ هو: «ما لا يحتمل إلا معنى واحداً» ، والمتشابه؛ هو:«ما يحتمل أكثر من معنى» .
وقيل: المحكم؛ هو: «الناسخ» ، والمتشابه؛ هو:«المنسوخ» .
وقيل: إن المحكم؛ هو: «ما يجب الإيمان به والعمل» ، أي: يقتضي عملاً؛ كنصوص الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، والمتشابه: «ما
(1)
«تفسير الطبري» 5/ 192.
يجب الإيمان به ولا يقتضي عملاً»؛ كالنصوص الخبرية التي تتضمن أموراً علمية عقدية، كما تضمنته سورة الإخلاص.
وسيأتي لهذا مزيد بحث عند الكلام على المحكم والمتشابه بنوعيه العام والخاص في ثنايا هذه «القاعدة»
(1)
؛ فإن القرآن قد وُصف بأنه كله محكم، وبأنه كله متشابه، وأن بعضه محكم وبعضه متشابه، كما في هذه الآية، آية آل عمران، ولهذا كان الإحكام نوعين، والمتشابه نوعين، والله أعلم.
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} أي: يعرضون عن المحكم الواضح البيِّن، ويتبعون المتشابه الذي فيه خفاء واشتباه؛ طلباً للصد عن سبيل الله، وتضليل الناس عن الحق، وطلباً لتأويله الذي لا سبيل إلى معرفته؛ وهو ما استأثر بعلمه سبحانه، أو طلباً لتفسيره على ما يوافق أهواءهم، أو طلباً لتفسيره بغير علمٍ، وتفسيرُه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم على القراءة الأخرى.
قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} الآية فيها قراءتان؛ فالجمهور من الأمة سلفاً وخلفاً على الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} ، وذهب بعض السلف إلى أن الوقف على قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فعلى الأول الراسخون في العلم لا يعلمون
(1)
ص 409، 417.
تأويل المتشابه، وتكون جملة:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} مستأنفة ف «الراسخون» مبتدأ، وجملة «يقولون» خبر المبتدأ.
وعلى القراءة الثانية - كما هو رأي مجاهدٍ ومَن معهُ - يكون الراسخون في العلم يعلمون تأويله، وجملة «يقولون» مستأنفة، وإذا وصَلْتَ تكون الجملة الفعلية حالاً، أي: الراسخون في العلم يعلمون تأويله قائلين: آمنا به، وتكون في محل نصب
(1)
.
قوله تعالى: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا} هذا من كمال علمهم، فالعلم الصحيح يثمر الإيمان.
فهذه هي «القاعدة» ، وهذا هو دليلها، ثم يأتي الكلام على ما يتعلق بمعاني التأويل.
* * *
(1)
«تفسير الطبري» 5/ 221، و «البيان في غريب إعراب القرآن» 1/ 192، و «التبيان في إعراب القرآن» ص 73، و «تفسير البحر المحيط» 2/ 401 و «الدر المصون» 3/ 29.
تعدد معاني التأويل، والمراد به في آية آل عمران
وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} ، وهذا هو المأثور عن أُبَيِّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم، ورُوي عن ابن عباس أنه قال:«التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب» .
وقد رُوي عن مجاهدٍ وطائفةٍ: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد قال مجاهد:«عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها» .
الاستدلال بالآية على «القاعدة» لا يتم إلا على مذهب الجمهور في الوقف في هذه الآية، لأن الآية على هذه القراءة تدل على: أنَّ مِنْ تأويل المتشابه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهذا هو المروي عن أئمة القُرَّاء من الصحابة؛ كابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب
رضي الله تعالى عنهم
(1)
، ثم ذكر الشيخ أثر ابن عباس المشهور، وقد رواه ابن جرير، وغيره
(2)
.
وهذا الأثر يدل على مضمون «القاعدة» - أيضاً -؛ فإنه يدل على أن هذه النصوص ليست معلومة للناس من كل وجه؛ بل مِنْ مدلولاتها ما لا يعلمه إلا الله، فالأوجه الثلاثة الأولى في هذا الأثر: مِنْ علم العباد.
فأما الذي (تعرفه العرب من كلامها)؛ فكالمعاني اللغوية، فإن القرآن نزل بلسان عربي، فيعلم العرب معاني هذه الألفاظ؛ لأنها جاءت بلغتهم، ولهذا كان المشركون يستمعون للقرآن، ويدهشون إذا سمعوه، ويتواصون بعدم استماعه، حذراً من التأثر به، كما قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون (26)} [فصلت] فالمعاني اللغوية تعرفها العرب من كلامها، مثل معنى: السماء، والأرض، والشمس، والقمر، والسرر، والأرائك، والنمارق، ونحوها.
وأما التفسير الذي (لا يعذر أحد بجهله)؛ فهو المعاني الشرعية التي يتعلق بها التكليف كالإيمان، والكفر، والصلاة، والزكاة، والصيام الشرعي، فلا يكفي معرفة المعاني اللغوية؛ بل لا بدَّ من معرفة المعاني الشرعية لها، فالصيام مثلاً؛ هو:«الإمساك» في اللغة
(3)
، لكن في الشرع؛ هو: «الإمساك عن المفطرات - التي أهمها ثلاثة: الأكل، والشرب،
(1)
«تفسير الطبري» 5/ 218 و 221.
(2)
في «تفسيره» 1/ 70، ورواه الطبراني في «مسند الشاميين» 2/ 302 بنحوه.
(3)
«القاموس المحيط» ص 1460.
والجماع - بنِيَّةٍ مِنْ طلوع الفجر إلى غروب الشمس»
(1)
، كذلك الزكاة، والصلاة، وغيرها.
وقول ابن عباس: (لا يعذر أحد بجهله) لعل المراد: أنه لا يعذر أحد بعدم تعلمه وتحصيله، فلا بدَّ من معرفة المكلف للمعاني الشرعية، لكن لو وقع جهل ببعض هذه الأحكام لا عن تقصير وإعراض ولا تفريط؛ فإنه يعذر.
والتفسير الذي (يعلمه العلماء) هو تفاصيل الأحكام، ودقائق الاستنباط، وتفاصيل الحِكم في الجملة، فهذا من شأن العلماء.
وأما التفسير الذي (لا يعلمه إلا الله)؛ فهو ما استأثر الله تعالى به من حقائق ما أخبر به، وتفاصيل حِكَمه تعالى في شرعه، فالحِكَمُ في شرعه وقدره؛ لا يعلمها على التفصيل إلا الله سبحانه.
إذاً؛ هذا الأثر من الشواهد التي يستشهد بها للقاعدة، فقول ابن عباس هذا؛ يطابق ما دلت عليه الآيات المتقدمة من آيات التدبر ونحوها، وآية آل عمران.
قوله: (وقد روي عن مجاهدٍ، وطائفةٍ: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله)
(2)
.
أي: تأويل المتشابه، وإذا كان الراسخون في العلم يعلمون المتشابه؛ فيكون الوقف في الآية على قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، هذا
(1)
«المغني» 4/ 325.
(2)
«تفسير الطبري» 5/ 220.
هو مقتضى قول مجاهد، ويدل على هذا - أيضاً -؛ قوله: (عرضت المصحف - المصحف مثلث الميم
(1)
، أي: القرآن الكريم، فالمصحف اسم لما كُتب فيه جميع القرآن - على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية، وأسأله عن تفسيرها)
(2)
فيه دلالة على أن القرآن كلَّه يمكن فهمه، ويمكن السؤال عن معناه، ولو كان في القرآن ما لا يمكن فهم معناه لما صح السؤال عنه كله، ومعنى كلام مجاهد أنه يسأل ابن عباس عمَّا يخفى معناه مِنْ المعاني الدقيقة، والمعاني الشرعية التي يختص بعلمها الراسخون في العلم؛ كابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
إذاً؛ فهذان قولان في الآية، من حيث القراءة، ومن حيث التفسير، فالجمهور على أن الوقف على قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} ومقتضى ذلك: أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، والقول الثاني: أن الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ومضمون هذا: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه.
وهذان القولان بينهما تقابل بالسلب والإيجاب، والسلبُ والإيجاب نقيضان، فبينهما تعارض في الظاهر، ولكن في الحقيقة أنه لا تعارض بينهما، وهذا ما يريد الشيخ أن يقرره بقوله:
(1)
أي يجوز فيها: الضم، والفتح، والكسر. انظر:«إكمال الإعلام بتثليث الكلام» 1/ 15.
(2)
رواه الطبري في «تفسيره» 1/ 85، وبنحوه رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» 15/ 558، والدارمي 1/ 270.
ولا منافاة بين القولين عند التحقيق؛ فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معانٍ:
أحدها: - وهو اصطلاح كثيرٍ مِنْ المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله -: أن التأويل؛ هو: «صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به» ؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويلِ نصوص الصفات وتَرْكِ تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم؟، وحق أو باطل؟
أي: قول جمهور الأمة سلفاً وخلفاً؛ وهو: أن الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} ، ومقتضى هذا: أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، وقول مجاهد ومَن معه مِنْ أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فيكون الوقف على قوله سبحانه:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وسبق أن ظاهرهما التعارض؛ لأنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، فلا بدَّ من الجمع بينهما، فمجاهد كما سيأتي إمام المفسرين؛ فلا يليق أن يقال:«إنه خالف الجمهور، وأتى بقول يناقض قول سائر المفسرين» .
وإذا أمكن الجمع بين القولين؛ لم يكن هناك تناقض ولا اختلاف في الحقيقة، وغاية الأمر أن يكون من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضادِ، وغالبُ الخلاف بين المفسرين من قبيل اختلاف التنوع.
ثم قال الشيخ مبيناً ما يحصل به الجمع بين القولين: (فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معانٍ)
(1)
، والتعارضُ بين هذين القولين؛ يصح لو كان التأويل ليس له إلا معنى واحد، فإنه يمتنع حينئذٍ الجمع ولكن التأويل له معانٍ.
فيمكن الجمع بين قولِ الجمهور، وقولِ مجاهد ومَن معه: بحمل كلٍّ من القولين على معنى من معاني التأويل، فالذي يقول:«إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه» ، يريد بالتأويل معنى غير المعنى الذي يريده مَنْ يقول:«إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله» ؛ وحينئذٍ يزول التعارض.
والتوفيقُ بين القولين يحصل بمراعاة المعنى الثاني والثالث من معاني التأويل، لكن الشيخ ذكر المعاني الثلاثة.
قوله: (وهو اصطلاحُ كثيرٍ
…
) أي: أن هذا اصطلاحٌ محضٌ ليس من اللغة في شيء.
(1)
«الفتوى الحموية» ص 290، و «الإكليل في المتشابه والتأويل» ص 288، و «درء التعارض» 1/ 14 و 206 و 5/ 234، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 419، و «الصواعق المرسلة» 1/ 177 و 3/ 922.
قوله: (أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به) أي: تفسير اللفظ بالمعنى البعيد، وترك المعنى القريب.
فإذا قالوا: «هذا النص مؤول» ، فالمراد: أنه مصروف عن ظاهره إلى خلاف ظاهره، ولهذا يقول الأصوليون: إن الأدلة منها ما هو «نص» لا يحتمل إلا معنى واحداً، وهذا لا يتأتى فيه التأويل، ومنها: ما يحتمل أكثر من معنى، ومن هذه المعاني ما هو قريب، ومنها ما هو بعيد، فحمله على المعنى القريب؛ هو:«الظاهر» ، وهذا هو الواجب؛ إلا إذا كان هناك دليل يوجب حمله على المعنى الآخر البعيد؛ فيكون:«مؤولاً»
(1)
.
قوله: (وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويلِ نصوص الصفات وتَرْكِ تأويلها، وهل ذلك محمود أومذموم؟ أو حق أو باطل؟) أي: أن الناس خاضوا في هذا، فمِن الناس من يقول:«يجب تأويل نصوص الصفات» ، وهم أهل التأويل مِنَ المعطلة، ويقابل أهل التأويل من المعطلةِ: أهلُ التفويض، فكل من أهل التأويل وأهل التفويض؛ ينفون الصفات عن الله سبحانه، لكنهم يختلفون في الموقف من نصوص الصفات.
وهذا التأويل؛ كتأويل «الاستواء» ب «الاستيلاء» ، و «اليد» ب «النعمة، أو القدرة» ، و «الوجه» ب «الذات أو بالثواب» ، وتأويل «النزول» ب «نزول الرحمة، أو نزول ملَك مِنَ الملائكة» ، وتأويل قوله تعالى: {وَجَاء
(1)
انظر نحو ما ذُكر عن: «النص» ، و «الظاهر، و «المؤول» في «روضة الناظر» 2/ 560 - 563.
رَبُّكَ} [الفجر: 22] ب «مجيء أمره» ، وظاهر هذا النص - مثلاً -: أنه هو تعالى يجيء. والاحتمال المرجوح: مجيء أمره، وهم يقولون:«إن هذا التأويل لدليل» ، وهي في الحقيقة شبهات داحضة مردودة، وقد بنوا عليها مذهبهم الباطل.
هذا هو التأويل بالمعنى الأول، ولكن ما حكم هذا التأويل؟
نقول: إن كان الدليل الذي بُني عليه هذا التأويل صحيحاً؛ فالتأويل صحيح؛ لأنه عمل بالدليل الصحيح، وإن كان الدليل لا يصح؛ كان التأويل الذي بني عليه باطلاً.
وأما تأويل نصوص الصفات بمعنى صرفها عن ظاهرها إلى خلاف هذا الظاهر، فإنه باطل بدون تفصيل، لأنه ليس هناك دليل، فأهل التأويل من المعطلة ليس عندهم دليل يجب المصير إليه، ما هي إلا شبهات وحجج داحضة؛ كقولهم:«معنى {وَجَاء رَبُّكَ} أي: أمره؛ لأن المجيء يتضمن انتقالاً، والانتقال ممتنع على الرب تعالى» ، أو قولهم:«إن المجيء فعل حادث، والله منزه عن الحوادث» .
ومن المعلوم أنه لا دليل على نفي الحوادث عن الله تعالى، فهذا لفظ مبتدع، وهو لفظ محتمل أيضاً، فالمقصود أنه ليس عندهم دليل صحيح لهذا التأويل، فوجب إجراء كلام الله تعالى على ظاهره.
هذا هو المعنى الأول من معاني التأويل، والشيخ ذكره لاستكمال معاني التأويل، وإلا فهذا المعنى - كما تقدم - محض اصطلاح لأهل الفقهِ وأصولِه وأهلِ الكلام، لم يأت في القرآن، ولا أصل له في اللغة العربية.
والثاني: أن التأويل بمعنى: التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير، وأمثاله مِنْ المصنِّفين في التفسير:«واختلف علماء التأويل» .
ومجاهدٌ إمام المفسرين، قال الثوري:«إذا جاءك التفسير عن مجاهد؛ فحسبك به»
(1)
.
وعلى تفسيره يعتمد: الشافعيُّ، وأحمدُ بن حنبل، والبخاريُّ، وغيرهم.
فإذا ذَكرَ أنه يعلم تأويل المتشابه؛ فالمراد به: معرفة تفسيره.
هذا أحد معنيي التأويل الواردين في النصوص، والمأثورين عن السلف، وهو مراد كثير من المفسرين من لفظ «التأويل» ، وهو الذي عناه مجاهدٌ بقوله:«إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه» .
وقول الشيخ: (ومجاهد إمام المفسرين
…
)
(2)
إلخ، بيان لمنزلة مجاهد في التفسير، ممَّا يوجبُ اعتبارَ قولِه ذلك، فيتعين أنه أراد
(1)
رواه الطبري في «تفسيره» 1/ 85.
(2)
هو: ابن جبر، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، أبو الحجاج القرشي، المكي، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، روى عن: سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، وجماعة من الصحابة، وروى عنه: عكرمة، وطاوس، وعطاء، وأمم غيرهم، وقرأ عليه القرآن: ابن كثير، وأبو عمرو بن العلاء، اختلف في وفاته رحمه الله فقيل: سنة 102 هـ وقيل قبلها وقيل بعدها، وهو ثقة كبير القدر، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وغيرها. «تهذيب الكمال» 27/ 228، و «سير أعلام النبلاء» 4/ 449.
بالتأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم: (التفسير)؛ فلا يكون قوله معارضاً لقول الجمهور، كما تقدم.
* * *
الثالث: - من معاني التأويل -؛ هو: «الحقيقة التي يؤول إليها الكلام» ، كما قال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53].
فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد؛ هو ما أخبر الله تعالى به فيه، ممَّا يكون من: القيامة، والحساب، والجزاء، والجنة، والنار، ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته، وقال:{وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]؛ فجعل عَيْنَ ما وُجِد في الخارج؛ هو تأويل الرؤيا.
هذا هو المعنى الثاني من معنيي (التأويل) الواردين في النصوص، والمأثورين عن السلف؛ وهو:(التأويل) بمعنى: (الحقيقة التي يؤول إليها الكلام)؛ وهي: عين المخبَرِ به الموجود في الخارج، ومِن شواهده: آيتا الأعراف، ويوسف.
قوله تعالى: ({هَلْ يَنْظُرُونَ}) استفهام إنكاري بمعنى: «النفي» أي: لا ينتظر هؤلاء الكفار المكذبون إلا تأويل ما أخبروا به مِنْ أمر البعث، والجزاء، والوعيد الشديد.
قوله تعالى: ({إِلاَّ تَأْوِيلَهُ}) أي: تأويل ما جاء في الكتاب من الأخبار عن البعث الذي يكذب به الكفار، والعقاب الذي توعد الله به
المكذبين، فإن هذه الآية بعد قوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون (52)} [الأعراف].
فالتأويل هنا بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء.
قوله: (فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه مما يكون من القيامة) إلخ، أي: نفس الواقع في المعاد؛ هو هذا التأويل، فتأويل ما توعد الله تعالى به الكفار - مثلاً - هو نفس ما يكون من العقاب من دخولهم النار.
ومن الشواهد - أيضاً - على هذا المعنى: (قوله تعالى في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه أبواه وإخوته) الأحدَ عشرَ، ورفع أبويه على العرش، وسجدوا له:({هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}) أي: هذه هي حقيقتها وتفسيرها الواقعي.
قوله: (فجعلَ عَيْنَ ما وُجِد في الخارج هو تأويل الرؤيا) أي: ما وجد في الخارج؛ وهو: السجود؛ هو تأويل الرؤيا التي رآها يوسف في أول أمره، فبدأتِ القصة بذكر الرؤيا، وانتهتْ بتفسيرها التفسير الواقعي الخارجي.
فالرؤيا لها تفسير يكون بالكلام، وتفسير يكون في الواقع، وقد اشتملتْ قصة يوسف عليه الصلاة والسلام على نماذج من الرؤى: رؤيا يوسف، ورؤيا الفتيين، ورؤيا الملك.
فرؤيا الملك فسَّرها يوسف عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى:{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُون (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُون (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُون (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون (49)} [يوسف].
فهذا الكلام تفسير للرؤيا، ثم لما جاءت السنين الخصبة، وبعدها السبع الشداد؛ كانت هذه السنين تأويلاً؛ بمعنى الحقيقة.
فصار للرؤيا تأويل بمعنى التفسير، وتأويل بمعنى الحقيقة، فيأتي الرائي؛ فيقص على المعَبِّر، فيفسِّرها بحسب ما أوتي، فهذا تأويل بمعنى التفسير، ولكن إذا وقع مقتضاها ومضمونها في الخارج، أو بالفعل؛ فذلك تأويلها بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.
فيعقوب عليه السلام لما قص عليه يوسف عليه السلام الرؤيا؛ فهِم منها أن يوسف سيكون له شأن، لكن لا ندري هل يعقوب عليه السلام فهِم أن الشمسَ، والقمر، والأحدَ عشرَ كوكباً هي أبوا يوسف وإخوته؟ الله أعلم، وليس هذا ببعيد على يعقوبَ، وهو نبي من أنبياء الله تعالى، وفيها - أيضاً - قرائن تدل على هذا؛ كالشمس، والقمر، والكواكب الأحدَ عشرَ.
فيوسف عليه السلام يذكر هذه الحال، ويقول:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} أي: صار لها واقعاً وحقيقة.
والرؤيا التي لا يكون لها واقع؛ أضغاث أحلام، ومِن حديث النفس، ولكن الرؤيا الصادقة؛ هي التي يكون لها واقع، و «كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح»
(1)
، أي: جاءت مطابقة لما رأى في المنام.
والمقصود أن هذا هو المعنى الثالث، وسيعيد الشيخ رحمه الله ويوضح هذين المعنيين مزيد إيضاح في الفقرة التالية.
فائدة:
سجودُ يعقوبَ عليه الصلاة والسلام وأبنائه ليوسف عليه الصلاة والسلام؛ كان جائزاً في شريعتهم، أمَّا في شريعة الإسلام الخاتمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو كنت آمراً أحداً أنْ يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» لما أراد معاذ رضي الله عنه أن يسجد له، وأنكر عليه ذلك
(2)
، وقال تعالى:{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون (37)} [فصلت].
(1)
رواه البخاري (4953) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه عبد الرزاق «المصنف» 11/ 301، وابن أبي شيبة في «المصنف» 9/ 323، وأحمد 4/ 381، وابن ماجه (1853)، وصححه ابن حبان (4171)، والحاكم 4/ 172، وانظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1282 و 2250)، و «العلل» للدارقطني 6/ 37. وجاء معناه عن عدد من الصحابة.
وهذا السجود الذي كان مِنْ أبوي يوسف وإخوته؛ ليس هو من العبادة، بل هو سجود تحية وتكريم، كما سجد الملائكة لآدم بأمر الله تعالى عبادةً لله تعالى، وتكريماً لآدم عليه السلام، وبهذا أظهر اللهُ كرامة آدم وفَضْلَه، ولهذا يقول الناس يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة:«أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك»
(1)
.
* * *
(1)
رواه البخاري (3340)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالتأويل الثاني؛ هو: تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يُفسَّر به اللفظ حتى يفهم معناه، أو تعرف علته، أو دليله، وهذا التأويل الثالث؛ هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة رضي الله عنها:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» ، يتأول القرآن». تعني قوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3]، وقول سفيان بن عيينة:«السنة؛ هي تأول الأمر، والنهي» .
فإنَّ نفس الفعل المأمور به؛ هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبَرِ عنه؛ هو: تأويل الخبر، والكلام: خبر، وأمر.
هذا كلُّه توضيح للمعنيين الثاني والثالث من معاني التأويل، وهما: التأويل بمعنى التفسير، والتأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.
فقول الشيخ: (الثاني؛ هو: تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسَّر به اللفظ حتى يفهم معناه) إلخ، معناه: أن التأويل بمعنى التفسير؛ هو نفس الكلام الذي يعبر به المفسِّر عن معنى الآية - مثلا -، ويبين به ما تدل عليه مِنَ الحُكم وعلته، وهذا يختلف باختلاف المفسرين في تعبيرهم عن معنى الآية.
وأما التأويل بمعنى الحقيقة؛ فقد ذكره الشيخ بقوله: (وهذا التأويل الثالث؛ هو عين ما هو موجود في الخارج) فظهر بذلك الفرق بين معنيي التأويل.
فقوله: (فإن نفس الفعل المأمور به؛ هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبَرِ عنه؛ هو: تأويل الخبر، والكلام: خبرٌ، وأمرٌ) أي: أن التأويل الثالث؛ هو: الحقيقة الموجودة في الخارج، والكلام قسمان: خبر، وإنشاء.
فتأويل الأمر؛ هو نفس فعل المأمور به، وتأويل النهي هو ترك المنهي عنه، وتأويل الخبر؛ هو نفس المخبَرِ عنه الموجود في الخارج.
فقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]؛ له تأويل بمعنى التفسير، وتأويل بمعنى الحقيقة، فتأويله بمعنى التفسير؛ هو ما يعبر عنه المفسرون، كقولهم: هذا أمر مِنْ الله تعالى لعباده المؤمنين بإقام الصلاة؛ وهو: أداؤها بواجباتها، وسننها، وشروطها؛ كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تحصل إقامة الصلاة، ونحو هذا الكلام، فكلام المفسرين؛ هو من هذا التأويل.
وأما تأويله بمعنى الحقيقة؛ فهو أداء المسلم للصلاة، كما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو - أي: المسلم - يتأول القرآن، كما قالت عائشة رضي الله عنها:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»، يتأول القرآن)
(1)
.
(1)
رواه البخاري (4986)، ومسلم (484).
فتسبيحه صلى الله عليه وسلم واستغفاره هذا في الركوع والسجود؛ هو التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وقولها رضي الله عنها:«يتأول القرآن» أي: يعمل بهذا القرآن، ويحقق حقيقة الأمر الذي أُمر به؛ بهذا التسبيح، وهذا الاستغفار.
وتأويل قوله تعالى: ({فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}) بمعنى التفسير، مثل أن يقول المفسر: هذا أمر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بتسبيحه وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، وحمده سبحانه، والثناء عليه بما هو أهله، وأمرٌ من الله لنبيه بالاستغفار، والتوجه إليه بطلب المغفرة.
وعائشة رضي الله عنها أخبرت عن التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، وهكذا تأويل قوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] بمعنى الحقيقة؛ هو نفس ما يكون يوم القيامة من جمع الناس الأولين والآخرين ببعثهم من قبورهم، وحشرهم.
ومن شواهد التأويل بمعنى الحقيقة ما ذكره الشيخ عن سفيان بن عيينة: (السنة؛ هي تأويل الأمر والنهي)
(1)
أي: الطريقة المستقيمة والمثلى؛ هي فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، وهذا هو تأويل الأمر والنهي، وبهذا يكون الشيخ قد ذكر للمعنى الثالث من معاني التأويل شواهد من القرآن كما في الآيتين، وشواهد من المأثور من كلام السلف؛ كقول عائشة رضي الله عنها، وقول سفيان بن عيينة رحمه الله، والله أعلم.
(1)
لم أجده عنه مسنداً، وقد ذكره المؤلف أيضًا في «درء تعارض العقل والنقل» 1/ 206.
ولهذا يقول أبو عبيد، وغيره:«الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة»
(1)
. كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصمَّاء؛ لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أُمِر به؛ ونفس ما نُهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلمُ أتباعُ أبقراطَ
(2)
، وسيبويهِ ونحوهما من مقاصدهم ما لا يُعلم بمجرد اللغة.
ولكن تأويل الأمر والنهي؛ لا بُدَّ من معرفته، بخلاف تأويل الخبر.
معنى كلام أبي عبيد القاسم بن سلَّام
(3)
رحمه الله: أن علماء الشرع أعلم
(1)
«غريب الحديث» له 4/ 77.
(2)
ويقال: بقراط، وهو ابن أيراقليدس بن أبقراط، طبيبٌ يوناني، من أهل بيتٍ عُرف بصناعة الطب، تعلَّم الطب من أبيه وجَدِّه، وهو أول من أشاع تعليم الطب، ودوَّنه، وشهره بين الناس، له نحو 30 كتاباً في الطب، وكان يعالج المرضى احتساباً، عاش 95 سنة.
انظر: «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» ص 64، و «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ص 43.
(3)
ابن عبد الله، الإمام، الحافظ، المجتهد، ذو الفنون، كان أبوه عبداً رومياً لرجل من أهل «هراة» .
ولد 157 هـ-، وسمع الحديث من: هشيم، وابن عيينة، وأبي بكر بن عياش، وابن المبارك، وغيرهم، وقرأ القرآن على الكسائي، وأخذ اللغة عن أبي عبيدة، والأصمعي، وابن الأعرابي والفراء، وجماعة آخرين. =
بتأويل كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل اللغة
(1)
، كما تقدم من قول ابن عباس:«تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء»
(2)
، فالفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة.
ولهذا تُفسَّر الألفاظ الشرعية «لغة» ، ثم تفسر «شرعاً» ، فيقال - مثلاً -: الصلاة لغة: «الدعاء»
(3)
، وفي الشرع:«كذا وكذا» ، وهكذا الصيام، والزكاة، والحج، ونحوها.
قوله: (لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به، ونفس ما نهي عنه؛ لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم أي: لأنهم يعلمون من المقاصد الشرعية ما لا يُعلم بمجرد اللغة.
قوله: (كما ذكروا ذلك في اشتمال الصماء) ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن اشتمال الصماء»
(4)
، وهي: لبسة معروفة، فأهل اللغة، قالوا: إن اشتمال الصماء أن يلف الإنسان على نفسه ثوباً،
= وروى عنه: الدارمي، وعباس الدوري، وابن أبي الدنيا، وغيرهم. وله مصنفات نافعة، تزيد على عشرين كتاباً؛ منها:«الطهور» ، و «الأموال» ، و «غريب الحديث» ، وهو أجلُّ كتبه. وثقه الأئمة، وأثنوا عليه، مات رحمه الله سنة 224 هـ ب «مكة» .
انظر: «تاريخ بغداد» 14/ 392، و «سير أعلام النبلاء» 10/ 490.
(1)
«جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» ص 35، و «فتح الباري» لابن رجب 2/ 399.
(2)
ص 363.
(3)
«معجم مقاييس اللغة» 3/ 300.
(4)
رواه البخاري (367)، ومسلم (2099) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ويجعل يديه مِنْ داخل بحيث لا يكون له منفذ، أخذاً من الصمم؛ وهو: انسداد الأذن، والشيء الأصم: الذي لا منفذ فيه
(1)
.
ففهم أهل اللغة من اشتمال الصماء هذا، وأما الفقهاء؛ فعندهم: أن اشتمال الصماء؛ هي: أن يلتحف الإنسان بالثوب الواحد ليس عليه غيره، ويجعل طرفيه على عاتقه، فإذا أراد أن يخرج يده أدى هذا إلى انكشاف العورة، ولو انفلت الطرف الذي على الكتف كذلك، وأما إذا كان إزار مع الثوب؛ فالصحيح أنه لا بأس؛ كحال المضطبع في الإحرام
(2)
.
فالفقهاء فسَّروا اشتمال الصماء بنحو هذا التفسير، وقالوا: السر في هذا النهي أنها مظنة لانكشاف العورة، فالفقهاء؛ إذاً؛ أعلم؛ لأن المقصود الأول من اللباس؛ هو: ستر العورة، والمقصود الثاني: الزينة، قال الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وما نهي عنه من هذه اللبسات؛ لأنها مظنة انكشاف العورة، فكل لبسة تُعَرِّض العورة للانكشاف؛ فإنه ينهى عنها، وكل لبسة تكون أستر؛ فهي أكمل وأفضل؛ لأنها تحقق المقصود الشرعي.
والتأويل في كلام أبي عبيد - رحمه الله تعالى - الذي يظهر أنه صالح لأنْ يكون بمعنى «التفسير» ، ولأن يكون بمعنى «الحقيقة» ،
(1)
«غريب الحديث» للقاسم بن سلام 4/ 77، و «النهاية في غريب الحديث» 3/ 54.
(2)
«المغني» 2/ 296، و «فتح الباري» لابن رجب 2/ 397.
فالفقهاء أعلم بتأويل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن كان أعلم بمقصوده؛ كان أعلم بتطبيق ذلك والعمل به، وأقدر عليه، والله أعلم.
قوله: (ولكن الأمر والنهي لابد من معرفته بخلاف تأويل الخبر).
هذا هو الفرق بين تأويل الأمر وتأويل الخبر؛ وهو: أن تأويل الأمر لا بدَّ من معرفته، لأنه مقصود من المكلف أن يقوم به، بخلاف تأويل الخبر، فإنه ليس بلازم أن نعلم حقيقة الخبر، وتأويله في الخارج على ما هو عليه؛ بل الغالب في الأخبار أن تكون غير معلومة، كما سيأتي في نصوص الأسماء والصفات، ونصوص المعاد.
* * *
تأويل نصوص الصفات والمعاد
إذا عُرف ذلك؛ فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات؛ هو: حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد؛ هو: نفس ما يكون من الوعد والوعيد.
ولهذا ما يجيء في الحديث؛ نعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر؛ فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة: لحماً، ولبناً، وعسلاً، وماءً، وخمراً، ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته.
فأسماء الله تعالى وصفاته أَوْلى - وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه - أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته.
أي: إذا عرف ما تقدم من معاني التأويل وخصوصاً المعنى الثالث، وهو:«الحقيقة» ، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن صفاته؛ هو:
نفسه المقدسة وما قام به سبحانه وتعالى من الصفات، وهذا باعتبار المعنى الثالث من معاني التأويل؛ وهو:«الحقيقة» .
فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه]؛ هو نفسه تعالى وما قام به من الاستواء على العرش، وتأويل قوله:{إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء]؛ هو نفسه المقدسة وما قام به من السمع والبصر، وهكذا القول في سائر نصوص الصفات؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا»
(1)
الحديثَ.
وهذا النوع من التأويل؛ هو الذي لا يعلمه إلا الله تعالى كما سبق
(2)
وكما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
وهكذا تأويل نصوص الوعد والوعيد، ونصوص البعث وما يكون يوم القيامة؛ هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد يوم القيامة في الخارج، فتأويل قوله تعالى:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَاب (23)} [الرعد]، وقوله سبحانه:{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِين (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَة (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِين (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُون (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَّعِين (18)} [الواقعة] الآيات، تأويلها؛ هو نفس الموجود وما يكون من ذلك، فمن هذه الأمور ما يكون موجوداً الآن؛ كالجنة، ولكن دخول المؤمنين الجنة بحيث يجلسون على تلك السرر، ويتكؤون عليها، ويطوف عليهم الولدان؛ يكون يوم القيامة.
(1)
تقدم في ص 73.
(2)
ص 353.
وهكذا تأويل نصوص الوعيد؛ هو ما يكون من الوعيد، كما تقدم
(1)
في قوله تعالى في تهديد الكفار: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] أي: ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تأويل ما تُوعِدوا به، وما وُعِدوا به في الكتاب المفصل، فإذا قامت القيامة، وانشقت السماء، وانتثرت الكواكب، وفُجِّرت البحار، وبعثرت القبور؛ فكل هذا الواقع؛ هو: تأويل ما أخبر الله سبحانه به من: أمر البعث، والنشور، والحشر، والجزاء، والثواب، والعقاب، باعتبار المعنى الثالث من معاني التأويل المتقدمة.
وأما تأويلها بمعنى «التفسير» ؛ فهو حاصل الآن، وهو معلوم لنا، كما سيأتي، وقد تقدم
(2)
؛ وهو: نفس الكلام الذي نعبر به عن معاني هذه النصوص.
قوله: (ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه) أي: السنة مثل القرآن الكريم، ففيها محكم ومتشابه، كما أن القرآن منه آيات محكمات، وأخر متشابهات، ونفس ما قيل في المراد بالمحكم والمتشابه من القرآن؛ هو ينطبق على المحكم والمتشابه من السنة، وليس في القرآن أو السنة متشابه بمعنى ما لا يفهمه أحد، فإن هذا قول أهل التجهيل - أهل التفويض - لكن من تأويل المتشابه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
(1)
ص 373.
(2)
ص 371.
قوله: (نعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه) هذا هو الواجب في المحكم والمتشابه، وقد تقدم
(1)
أن من الأقوال في المحكم والمتشابه: أن المحكم؛ هو الناسخ، والمتشابه؛ هو المنسوخ، فالواجبُ في الناسخِ: الإيمانُ به، والعمل به، والواجبُ في المنسوخِ: الإيمانُ به، ولا يعمل به؛ لأنه قد نُسخ، فذُكر في كل من الأمرين ما هو أخص به، فالمحكم؛ أخص بالعمل، والمتشابه؛ أخص بالإيمان، وإلا فالإيمان يجب في الكل: في المحكم والمتشابه من القرآن، والسنة.
قوله: (لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا؛ كما أخبر أن في الجنة
…
) إلخ، وهذا قد تقدم في «المَثَل الأول»
(2)
.
قوله: (وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى) التشابه في اللفظ واضحٌ، وأما التشابه في المعنى من بعض الوجوه؛ فهو القدر المشترك، فإذا قرأ العربي النصوص التي فيها ذكر: الماء، والعسل، والخمر، واللبن في الجنة؛ يعرف أن هذه أشربةٌ، وليست أموراً أخرى؛ بل هي أسماء لمسميات معقولة مفهومة، وإذا قرأ النصوص التي فيها ذكر: الذهب، والحرير عرف أن هذه أنواع من اللباس، وهكذا.
وقد تقدم في المثل الأول - أيضاً - التأكيد على أن بين موجودات الدنيا، وموجودات الآخرة: قدر مشترك معنوي
(3)
، وأن المشابهة ليست
(1)
ص 360.
(2)
ص 225.
(3)
ص 226.
في اللفظ فقط، كما قد يتوهم بعض الناس، ولكن مع الفارق، كما تقدم أن موجودات الآخرة توافق ما في الدنيا، وليست مثلها؛ بل هي مباينة لها مخالفة لها.
فيمكن حينئذٍ أن نقول: إن هذه النصوص التي أخبر الله بها عمَّا في الآخرة متشابهة، بمعنى: أن هذه النصوص يخفى معناها على بعض الناس ويشتبه، أو: أنها تدل على أمور علمية اعتقادية لا عملية، والمحظور أن يقال: إن هذه النصوص من المتشابه، بمعنى: ما لا يفهمه أحد على طريقة أهل التجهيل.
إذاً؛ فمشابهة موجودات الآخرة لموجودات الدنيا في اللفظ والمعنى؛ لا يستلزم أن تكون هذه الأمور التي أخبر الله عنها مثل ما في الدنيا، ولا حقيقتها كحقيقتها، وهكذا ما أ خبر الله به عن نفسه.
قوله: (فأسماء الله تعالى وصفاته أَوْلى وإنْ كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه) أي: من بعض الوجوه (أنْ لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقته كحقيقته) المعنى: أنه إذا كانت موجودات الآخرة مع ما بينها وبين ما في الدنيا من اتفاق ووجه شبه في اللفظ والمعنى؛ لا تكون مماثلة لها بل هي مباينة؛ فأسماء الله وصفاته أَولى أن لا تكون مماثلة لأسماء العباد وصفاتهم، من أجل ما بينها من اتفاق ووجه شبه.
إذاً؛ فيصح أن يقال: إن نصوص الصفات متشابهة على هذا النحو، أي يشتبه معناها على بعض الناس الجهال، أو بعض الناس الذين
تَسرَّبت إلى عقولهم الاعتقادات البدعية، فلم يفهموا من نصوص الصفات إلا التشبيه، وهذا ضلال مبين، ولكن أهل العلم والبصيرة يعلمون أن ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات؛ ليس مثل أسماء العباد وصفاتهم، وإن كان بينها قدر مشترك، واتفاق من بعض الوجوه. والله أعلم.
* * *
الطريق إلى فهم الإخبار عن الأمور الغائبة
والإخبارُ عن الغائب لا يُفهم إن لم يُعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميِّز، وأنَّ ما أخبر الله به مِنَ الغيب؛ أعظم ممَّا يعلم في الشاهد.
وفي الغائب: «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
(1)
.
فنحن إذا أخبرَنا اللهُ بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار؛ علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسَّرنا ذلك.
وأمَّا نفسُ الحقيقةِ المخبَرِ عنها - مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة -؛ فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
قد يرد سؤال على ما تقدم: لماذا أخبرنا الله تعالى عن هذه الأمور الغيبية العظيمة المباينة لما في الدنيا بهذه الأسماء التي لها معنى في
(1)
نص حديث تقدم تخريجه في ص 356.
الشاهد مما كان سبباً بالنسبة لبعض الناس أن يتوهموا التشبيه؟ أجاب الشيخ على هذا السؤال:
بقوله: (والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميِّز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد)
(1)
أي: لا بدَّ للمخاطَب المخبَرِ عن ذلك الغيب من أمرين:
الأول: أن يعرف المعنى الذي في الشاهد.
فإذا كان لا يعرف المعنى الذي في الشاهد؛ فلا يمكن أنْ يعرفَ المخبَرَ عنه في الغائب.
الثاني: أن يعرف دلالة اللفظ على ذلك المعنى.
فقد يعرف المعنى ولكنه لا يعلم دلالة اللفظ عليه. مثال ذلك: إنسان لا يعرف التفاح ولا الموز، فإذا قلتَ له:«اشتريتُ تفاحاً أو موزاً» ، فإنه لا يفهم هذا الخطاب، وإذا أريته التفاح والموز، وأخبرته بأنها نوع من المأكولات؛ عَرَف هذا الخطاب، وقَبْلَ ذلك لم يفهم ما قلتَ له؛ لأنه لا يعرف هذا المعنى؛ فضلاً عن أن يعرف دلالة هذا اللفظ عليه.
وقد يعرف هذا الإنسانُ هذا التفاحَ والموز، ولكن لا يعرفه بهذا الاسم، كما لو كان أعجمياً لا يعرف التفاح والموز إلا بلغته الأعجمية،
(1)
«شرح حديث النزول» ص 104.
فهذا يعرف هذا المعنى ولكنه لا يعرف دلالة هذا اللفظ عليه، فإذا لم تمكن الترجمة؛ فإنك تحضر التفاح والموز عنده وتشير إليه، وهو يعرفه مِنْ قبل، لكنه استفاد منك دلالة اللفظ على هذا المعنى عندك.
إذاً؛ الإخبار عن الغائب لا بد فيه من هذين الأمرين.
قوله: (في الشاهد) أي: في الحاضر عند العباد في الدنيا، وهذا الكلام قد تقدمت الإشارة إليه في آخر الأصل الأول في قول الشيخ:«وكلُّ ما نثبته من الأسماء والصفات؛ فلا بد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فهم الخطاب»
(1)
.
قوله: (فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب
…
) إلخ، أي: أنَّ هذه النصوصَ معلومةٌ لنا من وجه دون وجه، كما في مطلع هذه «القاعدة»
(2)
، فنفهم معنى قوله تعالى:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ} [محمد: 15] الآية، ومعنى سائر النصوص المشتملة على ذكر؛ ما أعد الله لأوليائه من أصناف النعيم، فنفهم منها ما يمكن لنا إدراكه، أما حقائقها على ما هي عليه؛ فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فنحن لا نتصور كُنه ذلك الماء واللبن، ولا كُنه ما فيها من المتعة واللذة.
فيجب مع فهمنا لتلك المعاني أن نفهم أن هذه المعاني ليست مثل ما في الدنيا، ولا حقيقتها كحقيقتها.
(1)
ص 210.
(2)
ص 352.
فهذه النصوص إذاً؛ لها تأويلان: تأويل نعلمه، وتأويل لا نعلمه، وكذلك نصوص الأسماء والصفات كما تقدم
(1)
، فلها تأويل نعلمه، وهو معانيها المفهومة بموجب اللغة والسياق، ولها تأويل لا نعلمه وهو حقائقها على ما هي عليه في الخارج.
قوله: (مثل التي لم تكن بعد)
(2)
كأن الشيخ يشير إلى بعض أشراط الساعة - مثلاً -، فهذه قد تظهر للناس ويشاهدونها في الدنيا، مثل: ما أخبر به من طلوع الشمس من مغربها
(3)
، وخروج الدابة
(4)
، والمسيح الدجال وما يكون على يده
(5)
.
* * *
(1)
ص 352.
(2)
«تفسير سورة الإخلاص» ص 373.
(3)
انظر: البخاري (4635)، ومسلم (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [النمل: 82].
(5)
انظر: صحيح مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنهما.
شواهد القاعدة من المأثور
ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]؟ قالوا: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» ، وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله:«الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان» ، فبيَّن أن الاستواء معلومٌ، وأن كيفية ذلك مجهولةٌ.
ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» ، وهذا في صحيح مسلم، وغيره، وقال في الحديث الآخر:«اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» . وهذا الحديث في المسند، وصحيح أبي حاتم.
وقد أخبر فيه أن لله مِنْ الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره.
الشاهد من هذين الأثرين
(1)
قوله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) أي: أن معنى الاستواء معلوم لنا؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلسان عربي مبين، ومعناه - كما تقدم
(2)
-: الاستقرار، والارتفاع، والعلو، ونحو ذلك.
وأما الكيف فهو مجهول؛ وهو: التأويل الذي لا نعلمه، فصار قول الأئمة هنا؛ كمالك وربيعة رحمهما الله تعالى شاهداً للقاعدة:«أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه» ، فالاستواء معلوم لنا من وجه دون وجه، فقوله تعالى:({الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}) له تأويل نعلمه؛ وهو: «التفسير» ، وتأويل لا نعلمه؛ وهو:«كيفية هذا الاستواء وحقيقته» ، لأن الاستواء صفة فعلية من صفات الله تعالى، و «القول في الصفات كالقول في الذات» ، فكما أنه لا يعلم كيف هو إلا هو، فلا يَعلم كيفيةَ استوائه إلا هو تعالى.
(1)
تقدم تخريجهما في ص 93.
(2)
ص 336.
وقوله: (والإيمان به واجب)؛ لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه، وكل ما أخبر الله به عن نفسه يجب الإيمان به؛ لأنه تصديق لخبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ومن الله البيان) أي: أن الله تعالى قد بيَّن لعباده، وعرَّفهم بنفسه، ووصف نفسه لعباده، فنعرف ربنا بأنه استوى على العرش، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يجيء يوم القيامة.
قوله: (وعلينا الإيمان) أي: ويجب علينا الإيمان بذلك.
قوله: (ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة ينفون علمَ العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو)، يشبه هذا قولهم رحمهم الله في نصوص الصفات «أمروها كما جاءت بلا كيف»
(1)
يعني: أثبتوا ما دلت عليه النصوص بلا بحث عن الكيفية، ولا تكييف لتلك الصفات، لا بالقول، ولا بالاعتقاد، والتفكير، فالله «لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام»
(2)
.
قوله: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحصي ثناء عليك
…
») الحديثَ، جاء هذا الحديثُ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في سجوده
(3)
، وجاء عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في الوتر
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه في ص 93.
(2)
«العقيدة الطحاوية» ص 4.
(3)
تقدم تخريجه في ص 39.
(4)
رواه أحمد 1/ 96، وأبو داود (1427)، والترمذي (3566) - وحسنه -، والنسائي 3/ 248، وابن ماجه (1179)، وصححه الحاكم 1/ 306، والضياء في «المختارة» 2/ 251، وابن حجر في «نتائج الأفكار» 3/ 26، وانظر:«العلل» لابن أبي حاتم (328) و «العلل» للدارقطني 4/ 14.
وقوله: («لا أحصي») أي: لا أبلغ ولا أقدر على ما تستحق من الثناء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم كلَّ ما لله تعالى من المحامد، ولا يدرك مدى وكمال صفاته على ما هي عليه، فلله مِنَ المحامد وصفات الكمال؛ ما لا يعلمه أحدٌ حتى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا إذا جاء صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ليشفع؛ يسجد، ويفتح الله عليه من محامده، وحسن الثناء عليه، شيئاً لم يفتحه على أحد قبله
(1)
.
فهذا الحديث يدل على أننا لا ندرك حقائق صفات الله تعالى وكمالها، كما أننا لا نعلم كلَّ ما لله من الأسماء ومن الصفات، فله أسماء وصفات لم يطلعنا عليها، أما الصفات التي أخبرنا بها؛ فنحن نعلمها، ولكننا - أيضاً - لا ندرك كمالها، وكنهها، وحقائقها.
ومن الدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد، وابن حبان، وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما قال عبدٌ قط إذا أصابه هم أوحزن
…
» الحديثَ، وفي آخره: («أسألك بكلِّ اسم هو لك
…
») الحديثَ
(2)
، والشاهد من هذا: قوله: («أو استأثرت به في علم الغيب عندك») فهذا نصٌ في أن لله تعالى أسماء اختص بعلمها وطوى علمها عن العباد، وهذا الحديث يدل على أن لله تعالى أسماء كثيرة، وكل اسم متضمن لصفة كمال، وفي هذا الحديث توسل بأسماء الله تعالى.
(1)
تقدم تخريجه في ص 39.
(2)
رواه أحمد 1/ 391، وصححه ابن حبان (972)، والحاكم 1/ 509، وابن القيم في «الصواعق المرسلة» 3/ 913، وحسنه ابن حجر؛ كما في «الفتوحات الربانية» 4/ 13، وقال الدارقطني في «العلل» 5/ 200:«إسناد ليس بالقوي» .
والتوسل الجائز أنواع:
أولها: التوسل بأسمائه تعالى وصفاته، فقولك:«يا الله» ، «يا رحمن» ، «يا رب» ، هو توسل بأسماء الله، وهذا التوسل قد يكون بصيغة الدعاء، وقد يكون بالباء؛ كقولك:«أسألك باسمك العظيم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت» ، «أسألك بأنك الله لا إله إلا أنت» ، وهكذا.
قوله: («سميت به نفسك») هذا هو شأن كلِّ أسماء الله تعالى، فهو الذي سمى بها نفسه، ولا يجوز لأحد من العباد أن يخترع له اسماً.
قوله: («أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك») عطفُ هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام، وما أنزله تعالى فيما شاء من كتبه داخل فيما علَّمه، فما يعلمه بعض عباده قد يكون في شيء مِنْ كتبه، وقد لا يكون، فقوله صلى الله عليه وسلم:«أو علمته أحداً من خلقك» أعمُّ من قوله: «أو أنزلته في كتابك» فكل ما أنزله في كتابه؛ فإنه قد علمه بعض عباده.
ولكن قد يعلم بعض عباده مِنْ أسمائه ما لم يكن في كتابه، ومثال هذا أنه جاء في السنة من أسماء الله تعالى ما لم يأتِ في القرآن الكريم، مثل:«الشَّافي»
(1)
، و «الحَكَم»
(2)
، ولكن أكثر الأسماء التي علمنا الله تعالى هي في القرآن.
(1)
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذهب الباس رب الناس، واشفِ أنت الشافي» . رواه البخاري (5657)، مسلم (2191).
(2)
عن أبي شريح الحارثي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله هو: الحَكَم، وإليه الحُكْم» رواه البخاري في «الأدب المفرد» (813)، وأبو داود (4955)، والنسائي 8/ 226، وصححه ابن حبان (504)، والحاكم 1/ 24.
وفي هذا الحديث أن أسماء الله تعالى لا تنحصر في تسعة وتسعين، كما قد يتوهم ذلك بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلم:«إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة»
(1)
، فالتحقيق أن هذا الحديث لا يدل على حصر الأسماء في هذا العدد
(2)
، لكن فيه الإخبار عن بعض أسماء الله تعالى، وأن من أسماء الله تسعة وتسعين من شأنها، ومن فضلها أن من أحصاها دخل الجنة.
وهذا الأسلوب لا يدل على الحصر، كما إذا قيل:«إن لله اسماً إذا دُعي به أجاب» ؛ فإنه لا يدل على أنه ليس له إلا هذا الاسم، فالله تعالى له أسماء كثيرة سمى بها نفسه، فمنها ما أنزله فيما شاء من كتبه، ومنها ما علمه بعض عباده، ومنها ما اختص به واستأثر به في علم الغيب عنده، ولا تنحصر الأسماء التي في كتبه، أو أنزلها في القرآن، أو علمها لمن شاء؛ في تسعة وتسعين، والحديث لا يدل على الحصر.
وخبر «إنَّ» في الحديث؛ هو قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أحصاها دخل الجنة» ، وعلى هذا يكون قوله:«لله» - الجار والمجرور - حالاً من هذه الأسماء.
(1)
رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والصواب الذي عليه جمهور العلماء
…
ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسماً؛ فإنه في الحديث الآخر
…
قال: «أو استأثرت به في علم الغيب عندك»
…
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول
…
«لا أحصي ثناء عليك» فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصي ثناء عليه، ولو أحصى جميع أسمائه؛ لأحصى صفاته كلها، فكان يحصي الثناء عليه؛ لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه». «درء تعارض العقل والنقل» 2/ 332، باختصار، وانظر:«بدائع الفوائد» 1/ 293، و «فتح الباري» لابن حجر 11/ 220.
ويحتمل أن يكون خبر «إنَّ» هو قوله: «لله» ، فيكون خبراً مقدماً
(1)
.
وعندي: أن الأول أظهر. والله أعلم.
وإحصاء هذه الأسماء على مراتب
(2)
؛ فإنه يكون ب:
* معرفةِ ألفاظها.
* وعَدِّها.
* ويكون بفهمِ معانيها.
* ومِن إحصائها أيضاً: القيام بمقتضاها.
وليس المقصود هو الإحصاء العددي فقط، ولكنه نوع إحصاء، فلا شك أن معرفة كون أسماء الله:«كذا وكذا» ، من العلم النافع.
(1)
«شأن الدعاء» ص 24.
(2)
«شأن الدعاء» ص 26، و «بدائع الفوائد» 1/ 288.
أسماء الله مترادفة من وجه، متباينة من وجه، ونظائرها في ذلك
والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه: «عليم» ، «قدير» ، «سميع» ، «بصير» ، «غفور» ، «رحيم» ، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته؛ فنحن نفهم معنى ذلك، ونميِّزُ بيْنَ: العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلَّها اتفقتْ في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات.
وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم؛ مثل: «محمد» ، و «أحمد» ، و «الماحي» ، و «الحاشر» ، و «العاقب» .
وكذلك أسماء القرآن؛ مثل: «القرآن» ، و «الفرقان» ، و «الهدى» ، و «النور» ، و «التنزيل» ، و «الشفاء» ، وغير ذلك، ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها؛ هل هي من قبيل المترادفة؛ لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة؛ لتعدد الصفات، كما إذا قيل:«السيف» ، و «الصارم» ، و «المهند»؛ وقصد بالصارم معنى: الصَّرْم، وفي المهند: النسبة إلى الهند؟ والتحقيق أنها مترادفة في الذات، متباينة في الصفات.
يبين الشيخ بناء على ما سبق من أن نصوص الأسماء والصفات معلومة لنا من وجه، أن أسماء الله التي أخبرنا بها مفهومة لنا، فنفهم أنها أسماء لله تعالى دالة على صفاته، فلذلك نفرق بينها لاختلاف ما تدل عليه من الصفات ونعلم أنها جميعاً دالة على ذات الرب سبحانه.
فلهذا قال الشيخ: (فهي متفقة متواطئة من حيث الذات
…
) إلخ، أي: هي متحدة في دلالتها على ذات الرب، فهي أعلام على ذات الرب دالة على صفاته، لا كما تقول المعتزلة:«إنها أعلامٌ محضة لا تدل على معانٍ» ؛ بل أسماء الله تعالى تدل على ذات الرب تعالى، وتدل على معانٍ وصفات قائمة بالرب.
إذاً؛ فلا نقول: «إن أسماء الله مترادفة، ولا متباينة مطلقاً؛ بل: إنها مترادفة في دلالتها على ذات الرب، ومتباينة في دلالتها على الصفات» ، وهذا مبني على أنَّ «كلَّ اسمٍ متضمنٌ لصفة» ، فلهذا نعلم أنها جميعاً أسماء لله، ونفرِّق بين معانيها، فنفرِّق بين معنى المغفرة والرحمة، ومعنى السمع والبصر، والعزة والحكمة والقوة، وما أشبه ذلك.
ولهذا نقول: إن السميع هو البصير من حيث المسمى، فهما اسمان لمسمى واحد، ولكن السميع غير البصير من حيث المعنى والصفة، فالسميع يدل على صفة السمع، والبصير يدل على صفة البصر، وهكذا القول في سائر الأسماء.
قوله: (وكذلك) أي: ونظير أسماء الله تعالى من حيث الاتفاق من وجه والاختلاف من وجه.
قوله: (مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب») النبي صلى الله عليه وسلم له أسماء كثيرة، وقد أخبر عن بعضها بقوله صلى الله عليه وسلم:«أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يُمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي
(1)
.
فهذه الأسماء كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن كل اسم له معنى، فهي متحدة من وجه، ومختلفة من وجه.
وهذه الأسماء أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى معانيها: أمَّا «محمد» ، وهو أشهر أسمائه، فهو عَلَمٌ، وصفةٌ في حقه صلى الله عليه وسلم
(2)
، فهو علم عليه صلى الله عليه وسلم، وله معنى هذا الاسم؛ وهو: كثرةُ حَمْدِ الغير له، فهو محمد يحمده الناس، والله تعالى يثني عليه، ف «محمَّدٌ» اسمُ مفعولٍ مشتقٌ من حُمِّدَ يُحَمَّد؛ فهو محمَّد.
وأمَّا اسمه «أحمد» ؛ فهو أفعلُ تفضيلٍ يدلُ على كثرةِ حمدِهِ لربِّه تعالى، أو: كثرةِ حَمْدِ الغير له، فهو أحمدُ مِنْ غيرِه أي: أكثر حمداً لربه تعالى مِنْ غيره، أو: أكثر نصيباً من حَمْدِ الغير، أي: هو أحقُّ بالحمدِ مِنْ سائرِ الناس، فالاسمانِ متقاربان.
(1)
رواه البخاري (4896)، ومسلم (2354) - واللفظ له - من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(2)
تقدم نحوه في ص 38.
أمَّا «الحاشر» ، و «العاقب»؛ فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى معناها بقوله:«الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي» ، وهذا هو الحشر يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«بُعِثتُ أنا والساعةَ؛ كهاتين» قال: «وضمَّ السبابةَ، والوسطى»
(1)
، فالحاشرُ؛ هو النبي الخاتَم الذي ليس بعده إلا الساعة، وحشر الناس.
و «الماحي» ؛ هو: الذي محا الله به الكفر، وليس المراد بمحو الكفر هنا إزالة جميع الكفر عن وجه الأرض،؛ بل المراد: أن الله تعالى محا به من الكفر ما لم يمحُ بدعوة نبي سواه، وهذا يظهر بكثرة الأتباع.
وأمَّا «العاقب» ؛ فهو: الذي يأتي بعد غيره، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بعد الأنبياء، فهو المقفي والعاقب لجميع النبيين؛ كما قال الله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] أي: قد مضت من قبله جميع الرسل، فلا نبي بعده، وهو خاتَم النبيين، وأما ما جاء في ذكر المسيح:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75]؛ فلا يفهم على الإطلاق؛ بل بعده رسولٌ لم يأتِ، كما قال الله تعالى عنه:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، فمعنى الآية حينئذٍ: ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلا رسولٌ قد خلت مِنْ قبله أكثرُ ومعظمُ الرسلِ، لا جميع الرسل، والله أعلم.
(1)
رواه البخاري (6504)، ومسلم (2951) - واللفظ له - من حديث أنس رضي الله عنه.
قوله: (وكذلك أسماء القرآن) أي: ومن قبيل الأسماء التي تتحد من وجه؛ وهو: المسمى، وتختلف من وجه؛ وهو: المعنى؛ أسماء القرآن العظيم.
قوله: (مثل: «القرآن»، و «الفرقان»، و «الهدى»، و «النور»، و «التنزيل»، و «الشفاء»، وغير ذلك) فهذه الأسماءُ كلُّها لمسمى واحد؛ وهو: هذا الكتاب، ولكلِّ اسم من هذه الأسماء معنى من المعاني، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، ومكتوب في الصحف التي بأيدي المؤمنين.
وهو «القرآن» من القَرْء بمعنى الجمع؛ لأنه مجموعٌ ومؤلف مِنْ حروفٍ، وكلمات، وسور، وآيات، أو: مِنْ القَرْء بمعنى الإظهار؛ لأنه كلام مُظْهَر بالتلاوة، كما قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه (18)} [القيامة].
وهو «الفرقان» ؛ لأنه فارِقٌ بين الحق والباطل، وبين أولياء الله وأعداء الله، وبين النافع والضار، كما قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان].
وهو «الهدى» كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وقال فيه أيضاً:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] أي: يَدلُّ ويبيِّنُ الطريقةَ
المثلى، ويهدي إلى الصراط المستقيم، فهو هدى لجميع الناس، ولكن لا ينتفع به إلا المؤمنون؛ كما قال تعالى:{فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين (2)} [البقرة]، وقال في الآية الأخرى:{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين (2)} [النمل].
فهذه أسماءٌ لمسمى واحد؛ وهو: كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، وكل اسم يدل على صفة ثابتة للقرآن الكريم.
ونظير هذا في اللغة العربية؛ أسماء السيف؛ وهو: «الآلة الحادة المعروفة» ، فهو يسمى عند العرب:(«الصارم»، و «الحسام»، و «المهند»)، و «البتار»
(1)
، فهذه أسماء لشيء واحد، وكل اسم منها يدل على معنى.
ولكن لا تكون هذه الأسماء متباينة في الصفات إلا إذا قُصدت معانيها، وإذا لم تقصد معانيها؛ فإنها تكون أعلاماً فقط، فإذا قيل في السيف المصنوع في غير الهند:«المهند» ؛ فإن هذا الاسم يكون علماً فقط، وإذا قيل:«خذ الصارم» ، ولم يلاحظ معنى:«الصَّرم، والقطع» ؛ فإنه حينئذٍ يكون علماً، فقط، ولكن إذا قيل:«خذ الصارم» ، يعني: السيف القاطع، ولوحظ معنى:«الصرم والقطع» ؛ فإن هذا الاسم يكون علماً، وصفة.
وكذا إذا قيل: «خذ المهند» ، وهو مصنوع في الهند فِعلاً؛ فإنه يكون حينئذٍ علماً، وصفة، ولهذا قال الشيخ رحمه الله تعالى:(كما إذا قيل: «السيف»، و «الصارم»، و «المهند»)، وقصد بالصارم معنى:(الصرم)، وفي
(1)
«المخصص» 6/ 20 و 25، و «القاموس المحيط» ص 440.
(المهند) النسبة إلى الهند؛ أي: أنه لا بدَّ أن تكون هذه المعاني مقصودة، وإلا كانتْ هذه الأسماءُ مجردَ أعلامٍ.
إذاً؛ فنظير أسماء الله تعالى من حيث إنها متفقةٌ في الذات، ومختلفة في الصفات؛ أسماء القرآن العظيم، وأسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وأسماء السيف. والله أعلم.
قوله: (ومثل هذه الأسماء) أي: الأسماء التي تكون متحدة من وجه؛ وهو: المسمى، ومختلفة من وجه؛ وهو: المعنى والصفة.
قوله: (والتحقيق أنها مترادفة في الذات، متباينة في الصفات)، ولهذا لا يصح أن تقول:(إن أسماءه مترادفة)، ولا أن تقول:(إنها متباينة)، فلا بدَّ من التقييد، فهي مترادفة من حيث دلالتها على الذات، ومتباينة من حيث دلالتها على الصفات.
وهذا كلُّه على طريقة أهل السنة والجماعة، وأمَّا على طريقة المعتزلة؛ فإنها مترادفة؛ لأنهم يجعلون أسماءه أعلاماً محضة لا تدل إلا على الذات، فلا فرق عندهم بين:(السميع)، و (البصير)، و (العليم)، و (الحكيم)؛ لأنها لمسمى واحد، ولا فرق بينها من جهة المعنى؛ لأنها عندهم لا تدل على معانٍ أصلاً. والله أعلم.
* * *
مفهوم الإحكام والتشابه الذي يعمُّ القرآن
وممَّا يوضح هذا أن الله وصفَ القرآن كلَّه بأنه محكمٌ، وبأنه متشابه، وفي موضع آخر: جَعَلَ منه ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يُعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه.
قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]؛ فأخبر أنه أَحْكَم آياتِه كلَّها، وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]؛ فأخبر أنه كلَّه متشابهٌ.
والحُكم؛ هو: الفصل بين الشيئين، والحاكِم: يفصل بين الخصمين، والحِكْمة: فَصْلٌ بين المشتبهات؛ علماً، وعملاً، إذا مُيِّز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمنُ فعلَ النافع، وترك الضار.
فيقال: «حَكمْت السفيهَ وأحكمته؛ إذا أخذت على يده» ، و «حَكَمْت الدابة وأحكمتها؛ إذا جعلت لها حَكَمَة؛ وهو: ما أحاط بالحنك من اللجام»، وإحكام الشيء؛ إتقانه، فإحكام الكلام؛ إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره.
والقرآن كلُّه محكمٌ بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم (1)} [يونس]؛ ف «الحكيم»
بمعنى: «الحاكم» ، كما جعله يقص بقوله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُون (76)} [النمل].
وجعله مُفتياً في قوله: {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127] أي: ما يتلى عليكم؛ يفتيكم فيهن، وجعله هادياً، ومبشراً في قوله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء: 9].
قوله: (وممَّا يوضح هذا أن الله وَصَفَ القرآن) قد يكون اسمُ الإشارةِ إشارةً للقريب، وهو ما ذُكر من أنَّ أسماءَ الله تعالى متحدةٌ من وجه، ومختلفة من وجه.
ويحتمل أنه أراد الإشارة إلى ما في مطلع «القاعدة»
(1)
من الكلام في تأويل المتشابه، وأن منه ما يعلمه الراسخون في العلم، ومنه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
قوله: (أنَّ الله وصف القرآن كلَّه بأنه محكمٌ، وبأنه متشابهٌ) أي: ووصف بأنه كلَّه متشابه، والدليل على الإحكام العام؛ هو آية هود:{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} ، والدليل على التشابه العام؛ آية الزمر:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَثَانِيَ} .
(1)
ص 363.
وأما الدليل على الإحكام الخاص والتشابه الخاص؛ فآية آل عمران المتقدمة في مطلع القاعدة؛ وهي قوله سبحانه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
قوله: (فينبغي أن يُعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه) هذا لأنه لا يجوز أن يكون المعنى واحداً، لأنه لو كان المعنى واحداً؛ لصار فيه تناقض، ولهذا يقال: إنَّ بيْنَ دليلِ الإحكام العام والتشابه العام، ودليل الإحكام الخاص والتشابه الخاص؛ تعارضٌ في الظاهر.
ووجه هذا التعارض: أن بعض هذه الأدلة تدل على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه، وبعضها يدل على أن القرآن كلَّه محكم وكلَّه متشابه؛ فتعارضت هذه الأدلة في الظاهر من حيث العموم والخصوص.
والطريق لدفع هذا التعارض؛ هو معرفة المراد بالإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه.
قوله: (والحكم هو الفصل بين الشيئين
…
) فتصاريف مادة «حَكَمَ» ترجع إلى معنى: «المنع» ، ف «حَكَمَ» بمعنى:«مَنَعَ» في أصل اللغة
(1)
، وذكر الشيخ رحمه الله شواهد لهذا المعنى بقول العرب:(حكمت السفيه وأحكمته؛ إذا أخذت على يده)، و (حكمت الدابة، وأحكمتها إذا جعلت لها حَكَمَة؛ وهو: ما أحاط بالحنك من اللجام)؛ وهو ما يوضع على فم
(1)
«معجم مقاييس اللغة» 2/ 91.
الحيوان؛ فيربط به العنان والخطام، الذي يمنع الدابة من الاسترسال في الجري بغير إرادة صاحبها.
ومِن معنى الإحكام: الفَصْل، والفصلُ فيه منعٌ، فالحكم؛ هو: الفصل بين المشتبهات؛ علماً، وعملاً، والحاكم: يفصل بين المتنازعين في الخصومات.
فهذا المعنى؛ وهو: الفصل يرجع إلى المنع، وهو المنع مِنَ الالتباس في الأمور المشتبهات، ويمنع الخصوم من تعدي بعضهم على بعض بأخذ الحقوق، فهذه المادة تتضمن الفصل.
قوله: (والقرآن كلُّه محكم بمعنى الإتقان) أي: أن آيات القرآن كلها متقنة، وإتقانها من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى، وإتقانه من جهة المعنى بالتمييز بين الصدق والكذب في الأخبار، والرشد من الغي في التشريعات، فأخباره صادقة، وأحكامه عادلة، كما قال الله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
ومن شواهد الحكم بمعنى الفصل؛ قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم (2)} [يس] أي: بمعنى الحاكم؛ فالقرآن يوصف بأنه يحكم، ويقص، ويفتي، ويهدي، ويبشر، كما في الآيات التي ذكرها الشيخ؛ فتدل الآيات على جواز إسناد هذه الأفعال ونحوها إلى القرآن.
* * *
وأمَّا التشابهُ الذي يعمه؛ فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء]، وهو الاختلاف المذكور في قوله:{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِف (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِك (9)} [الذاريات].
فالتشابه هنا؛ هو: تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر؛ بل يأمر به، أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء؛ لم يأمر به في موضع آخر؛ بل ينهى عنه، أو عن نظيره، أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخٌ.
وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك؛ بل يخبر بثبوته، أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء؛ لم يثبته؛ بل ينفيه، أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيثبت الشيء تارة، وينفيه أخرى، أو يأمر به، وينهى عنه في وقت واحد، أو يفرِّق بين المتماثليْنِ؛ فيمدح أحدهما، ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا؛ هي المتضادة، والمتشابهة؛ هي المتوافقة.
وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانتِ المعاني يوافقُ بعضها بعضاً، ويعضدُ بعضها بعضاً، ويناسبُ بعضها بعضها، ويشهدُ بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً؛ كان الكلام متشابهاً، بخلاف الكلام المتناقض الذي يضادُّ بعضه بعضاً.
وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام؛ بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن؛ يصدق بعضه بعضاً، لا يناقض بعضه بعضاً.
قوله: (وأما التشابه الذي يعمه) أي: التشابه الذي يوصف به جميع القرآن.
قوله: (فهو ضد الاختلاف المنفي عنه): أي أن الله تعالى وصف كتابه بالتشابه؛ وهو: التناسب، ونزَّهه عن الاختلاف الذي هو التناقض، كما في قوله تعالى:({وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}) ومِنَ الاختلاف المذموم؛ أقوالُ الكفار المختلفة، كما قال تعالى:({إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِف (8)}) أي: في كلام متناقض ينقض بعضه بعضاً، فهذا يقول عن محمد:«إنه كاهن» ، وهذا يقول:«إنه مجنون» ، والآخر يقول:«إنه ساحر» .
ثم بيَّن الشيخ معنى التشابه الذي يوصف به كل القرآن، وذلك في قوله:(فالتشابه هنا؛ هو: تماثل الكلام وتناسبه بحيث يصدق بعضه بعضاً).
قوله: (بل يأمر به) أي: مرة ثانية، ويكون في هذا توكيد.
قوله: (أو بنظيره) أي: أو يأمر بنظيره، وهذا - أيضاً - يؤكد الأمر الأول، وهذا الذي تقتضيه الفطر والعقول؛ وهو: التسوية بين المتماثلات.
قوله: (أو بملزوماته) أي: أو يأمر بما يستلزم هذا المعنى، فإن ثبوت الملزوم؛ يقتضي ثبوت اللازم.
قوله: (إذا لم يكن هناك نسخٌ) فالنسخُ ليس من التناقض في شيء؛ لأنه «تشريع لحكم في وقت، ثم رفعه في وقت آخر»
(1)
، أما التناقض؛ فهو:«الأمر بالشيء، ثم النهي عنه في وقت واحد» بحيث يكون مأموراً به منهياً عنه؛ فهذا لا يجوز.
وكتاب الله تعالى جار على هذا الأمر، فهو تعالى يأمر بالصلاة في مواضع كثيرة، ويثني على المقيمين للصلاة، ويأمر بأحكام الصلاة وأوقاتها، وهذا كلُّه من الكلام المتشابه، وهكذا يأمر بالإنفاق عموماً، ويأمر بالزكاة خصوصاً، ويأمر بالإحسان عموماً، وهذا أيضاً من التشابه.
وهو أيضاً ينهى عن الشرك كلِّه، عن عبادة الملائكة، وعن عبادة الأنبياء، وعن عبادة الأصنام، وعن عبادة الجن، وينهى عن الشرك عموماً، كما قال:{وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وهذا مِنَ التشابه أيضاً.
قوله: (أو ينفي لوازمه) الملزوم؛ هو: «الذي لا ينفك عن غيره» ، واللازم؛ هو:«الذي لا ينفك عنه غيره» ، وقد يكون الشيئانِ متلازميْنِ، أي: أن كلاً منهما مستلزم للآخر، وقد تكون الملازمة من طرف واحد، فالنهار وطلوع الشمس - مثلاً - متلازمان؛ إذا اعتبرنا النهار يبدأ من
(1)
«روضة الناظر» 1/ 283 بمعناه.
طلوع الشمس، فيلزم من النهار؛ طلوع الشمس، ويلزم من طلوع الشمس؛ النهار.
ومثال الملازمة الشرعية: أن صحة الصلاة؛ مستلزمة للطهارة، فلا يمكن أن تصح الصلاة والطهارة مفقودة، وهكذا وجود المشروط يستلزم وجود الشرط؛ لا العكس، ولهذا يُعَرَّف الشرط بأنه:«ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته»
(1)
، فإذا وُجد المشروط؛ وجد الشرط، فاللازم؛ هو: الشرط، والملزوم؛ هو: المشروط
(2)
.
فتبين بهذا: أن العلاقة بين الإحكام العام، والتشابه العام؛ هي: التلازم، فكونُ القرآنِ كلِّه متشابهاً؛ يقتضي أنه محكمٌ، وكونه متقناً؛ يقتضي أنه متشابهٌ، فالإحكام العام، والتشابه العام إذاً؛ متلازمان.
* * *
الإحكام والتشابه الذي يخص بعض القرآن
بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضدُّ التشابهِ الخاصِ، فالتشابهُ الخاصُ؛ هو:«مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر» ، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو هو مثله، وليس كذلك، والإحكام؛ هو:«الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر» .
وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما؛ فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه؛ قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يَعرِف منه أهلُ العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وُعِدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا؛ فظن أنه مثله، فعَلِمَ العلماءُ أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه.
قوله: (بخلاف الإحكام الخاص) أي: الذي يخص بعض القرآن، وبهذا يكون الإحكام الخاص، والتشابه الخاص؛ ضدين، وقد تقدم في مطلع «القاعدة»: الكلام على الإحكام الخاص، والتشابه الخاص من حيث الدليلُ؛ وهو آية آل عمران
(1)
، وتقدم - أيضاً - ذِكرُ جملةٍ من أقوال المفسرين في المراد بالمحكم، والمتشابه
(2)
.
فمنها: أن «المحكم» ؛ هو: «الناسخ» ، و «المتشابه»؛ هو:«المنسوخ» ، ومنها: أن «المحكم» ؛ هو: «الواضح البين الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً» ، و «المتشابه»؛ هو:«ما يخفى معناه على بعض الناس» ، أو:«ما يحتمل أكثر مِنْ معنى» .
والتضادُّ بين الناسخ والمنسوخ، وبين الواضح والخفي، وبين ما لا يحتمل وما يحتمل؛ ظاهرٌ.
فلا تكون الآيةُ الواحدة محكمةً ومتشابهةً في نفس الوقت بالمعنى الخاص؛ بل قد تكون محكمة ومتشابهة بالمعنى العام.
ثم ذكر الشيخ هنا ضابطَ التشابه الخاص، والإحكام الخاص بقوله:(فالتشابه الخاص؛ هو: مشابهة الشيء لغيره من وجه، مع مخالفته له من وجه آخر)، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو هو مثله، وليس كذلك، والإحكام؛ هو:(الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر).
(1)
ص 359.
(2)
ص 360.
وهذا التعريف من الشيخ لا ينافي ما سبق ذكره من أقوال المفسرين في آية آل عمران: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]؛ فإن الشيخ هنا ذكر المعنى الذي يرجع إليه معنى التشابه الخاص، ومعنى الإحكام الخاص، وهو الأصل، وهذا المعنى لا يختص بالآيات - كما سيأتي إن شاء الله تعالى -، بل يجري في الآيات المتشابهات، والأحاديث المتشابهة، كما يجري في المعاني والألفاظ المتشابهة، وفي الذوات المتشابهة، وغيرها.
فنطبق تعريف الشيخ للإحكام والتشابه الخاص على بعض ما قيل في معناهما:
ممَّا قيل: إن «المحكم» ؛ هو: «الناسخ» ، و «المتشابه»؛ هو:«المنسوخ» ، فهذا التعريف ينطبق عليه تعريف الشيخ المتقدم، فإن الآية المنسوخة تشبه الآية غير المنسوخة من حيث إنها آية، ومن حيث إنها تدل على حكم، والأصل أن هذا الحكمَ قائمٌ وباقٍ، ولكن الآية المنسوخة تخالف غير المنسوخة من جهة أن حكمها قد رُفِع.
وبسبب هذا التشابه؛ يحصل اشتباه عند بعض الناس، فإنَّ مَنْ لم يبلغه الناسخُ يغلطُ؛ فيعمل بالدليل المنسوخ؛ لأنه لم يعلم الدليل المحكم الذي يزيل الاشتباه، ولهذا كان الواجب في المحكم والمتشابه - كما تقدم
(1)
-؛ هو: الإيمان بالمتشابه، والعمل بالمحكم، ورد المتشابه إلى المحكم الذي يزيل الاشتباه.
(1)
ص 388.
وهكذا القول بأن (المحكم)؛ هو: (المبين)، و (المتشابه)؛ هو:(المجمل)؛ لأنه بسبب ما فيه من الإجمال يشتبه؛ لأنه يحتمل أكثر من معنى؛ فيشبه غيره من وجه، مع مخالفته له من وجه آخر.
وقد تقدم
(1)
: أن نصوص الصفات، ونصوص المعاد؛ يمكن أن تكون من المتشابه لا بمعنى التشابه عند أهل التفويض، الذين يقولون:«إن نصوص الصفات متشابهة بمعنى أنه لا يعلم معناها إلا الله تعالى» ، ولكنها متشابهة بمعنى «أنه يشتبه معناها ويخفى على بعض الناس» .
كما مثَّل الشيخ رحمه الله في هذا الموضع بقوله: (كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وُعِدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا؛ فظن أنه مثله) أي: مثل ما في الدنيا (فعَلِمَ العلماء أنه ليس هو مثله) أي: مثل ما في الدنيا (وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه).
ففرقٌ بين قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15]، وقوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا (48)} [الفرقان]، وقوله تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِين (66)} [النحل]، وقوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، فهذا ماءٌ غيرُ آسنٍ، ولبنٌ، وخمر، وعسل، وذاك ماءٌ، ولبن، وخمر، وعسل، ولكن مع الفارق، فهذه آيات وردت في مشارب الدنيا، وتلك آيات وردت في مشارب الآخرة.
(1)
ص 388.
قوله: (وهذا التشابه) أي: التشابه الخاص.
قوله: (إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين، مع وجود الفاصل بينهما) أي: أنَّ كلَّ موجوديْنِ بينهما اشتباه وافتراق، وقد تكثر وجوه الاشتباه وتقل وجوه الافتراق، وقد يكون العكس.
قوله: (ثم مِنَ الناس) هذا هو الحاصل بسبب التشابه الخاص (مَنْ لا يهتدي للفصل بينهما؛ فيكون مشتبهاً عليه) أي: من الناس مَنْ يدرك القدر المشترك، ولا يدرك القدر المميِّز، فمَن عَرفَ المنسوخَ، ولم يعرفِ الناسخَ؛ يقع في الغلط، وهكذا مَنْ عرفَ المجملَ، ولم يعرفِ المبيَّن، ومن عرفَ المطلقَ، ولم يعرفِ المقيَّدَ، ومن عرفَ العامَّ، ولم يعرفِ الخاصَّ.
قوله: (فالتشابه الذي لا تمييز معه؛ قد يكون من الأمور النسبية الإضافية) الشيء النسبي؛ هو: غير العام، أي: الذي يثبت للبعض دون البعض. وأما الشيء العام، أو الثابت على كلِّ حال؛ فهذا يقال له:«اشتباه حقيقي» ، فاللفظ الذي لا يفهمه أحد؛ اشتباه عام، وأما الذي يخفى معناه على بعض الناس؛ فإن الاشتباه فيه نسبي.
وقد عرَّف الشيخ الاشتباه النسبي بقوله: (بحيث يشتبه على بعض الناس، دون بعض).
إذاً؛ التشابه الذي في بعض نصوص القرآن مِنَ الاشتباه النسبيِّ، فنصوصُ الوعد والوعيد، ونصوصُ الصفات يشتبه معناها على بعض
الناس، ولهذا غلط الغالطون؛ فظنوا أنها تدل على التشبيه، وأنه تعالى لو قامت به الصفات؛ لزم من ذلك مشابهته لخلقه!
أمَّا أهلُ العلمِ؛ فإنهم يدركون أنَّ أسماءَ الله تعالى وصفاتِه - وإنْ كان بينها وبين أسماءِ العباد وصفاتِهم اتفاقٌ من بعض الوجوه - لا تماثل صفات الخلق، وأن ما اختص الله به من ذلك؛ فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
قوله: (ومثل هذا يعرفُ منه أهلُ العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه) أي: أن أهلَ العلم يعرفون ويدركون الفَرْقَ والفصل؛ فيزول عنهم الاشتباه، فيعرفون الناسخَ مِنَ المنسوخِ، والمطلق من المقيد، والعام من الخاص، ويردون المتشابه إلى المحكم الذي يزيل الاشتباه.
* * *
منشأ الشُّبه، وعامة ضلال بني آدم
ومن هذا الباب الشُّبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومَن أوتي العلمَ بالفصل بين هذا وهذا؛ لم يشتبه عليه الحق بالباطل.
والقياسُ الفاسد إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه، فمن عرف الفصل بين الشيئين؛ اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد.
وما مِنْ شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه مِنْ وجه وافتراق مِنْ وجه، ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابهِ.
والقياسُ الفاسد: لا ينضبط، كما قال الإمام أحمد رحمه الله:«أكثر ما يخطئ الناس مِنْ جهة التأويل، والقياس» ، فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال.
والتأويلُ الخطأ؛ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ؛ إنما يكون في المعاني المتشابهة.
قوله: (ومن هذا الباب) البابُ يطلق ويراد به: النوع، والقسم، والمراد هنا:«ومِن نوع التشابه الخاص» .
قوله: (الشُّبه) جمع شبهة؛ وهي: ما يشتبه فيها الحق والباطل من الألفاظ أو المعاني، مِنَ الأدلة السمعية، أو الأدلة العقلية، فهذه الشبه هي من قبيل التشابه الخاص الذي سبق تعريفه قريباً.
قوله: (التي يضل بها بعض الناس) أي: الذين لا يهتدون إلى ما يزيل الاشتباه ويكشفه.
وهذه الشبه تجري في الأمور الشرعية، وفي الأمور العادية.
قوله: (وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه، وافتراق من وجه) هذه قاعدة عقلية عامة، كما يدل عليه قوله:(ما من شيئين) نكرةٌ في سياق النفي، ودخلت عليه «مِنْ» الزائدة.
ويكون ذلك في: الألفاظ، والذوات، والصفات، والأدلة، وغيرها، حتى إنَّ الأضداد؛ كالسواد، والبياض تجري فيها هذه القاعدة، فيتفقان من وجه، ويختلفان من وجه؛ فإنَّ كلاً من السواد والبياض؛ لونٌ، وعرضٌ، وموجود، ويفترقان فيما بينهما من الضدية في الألوان.
وهكذا النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، بينهما اتفاق في: أنَّ كلاً منهما بشرٌ، وكلاً منهما يدعي النبوة، لكن مع الفارق، فهذا يقيم الله له
من أدلة الصدق ما يضطر العقل لتصديقه، وهذا يظهر الله على يده ما يفضحه، ويضطر العقل إلى تكذيبه.
قوله: (والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات)؛ فالقياس الفاسد من الشبهات التي يشتبه فيها الحق بالباطل، فيقع من لا بصيرة له في الخلط بسبب هذا القياس الفاسد، فمنشأ ضلال المعطلة؛ هو: قياس الخالق على المخلوق، ومنشأ شرك المشركين - الذين اتخذوا مع الله تعالى آلهة أخرى زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى -؛ هو: القياس الفاسد: قياس الخالق على المخلوق، وهذا أفسد القياس.
وهكذا القياس الفاسد في الأحكام الفقهية، فمن القياس الفاسد؛ القياس الذي يعارِض النصَّ ويخالفه، وهو قياس «فاسد الاعتبار»
(1)
.
وقد عرَّف الشيخ رحمه الله القياس الفاسد بقوله: (لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه)؛ فالقياس الصحيح؛ هو: تشبيه الشيء لغيره فيما يشبهه فيه، أمَّا قياس الشيء على غيره فيما لا يشبهه؛ فهذا قياس فاسد، ولهذا يقال:«هذا قياس مع الفارِق» ؛ كقياس المبطلين الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]؛ فجعلوا الربا مثل البيع، أي: أنه حلال، {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فليس الربا مثل البيع، فقياسه عليه من القياس الفاسد.
قوله: (والقياس الفاسد لا ينضبط) أي: ليس له حدود، فيجري في مجالات كثيرة، فإذا كان قد وقع قياس الخالق على المخلوق، وقياس
(1)
«أصول الفقه» 3/ 1353، و «شرح الكوكب المنير» 4/ 236.
النبي على المتنبئ، أو المتنبئ الكذاب على النبي؛ فكذلك ما دونه من باب أَوْلى.
قوله: (كما قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس)
(1)
أي: في أحكامهم، وفي تصوراتهم، وأقوالهم.
قوله: (من جهة التأويل
…
) إلخ، فالتأويلُ الخطأ الذي هو:«صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح» يكون في الأدلة السمعية؛ لأنها ألفاظ؛ كصَرْفِ العامِّ إلى الخاصِّ، وصرف المحتمل إلى المعنى البعيد؛ فيحصل الخلط.
والقياس يكون في الأدلة العقلية؛ لأنه يتعلق بالمعاني.
ومنشأ الخطأ في كل من التأويل، والقياس؛ هو: التشابه.
* * *
(1)
لم أجده عنه مسنداً، وقد ذكره المؤلف في عدد من كتبه منها:«جامع المسائل» 2/ 190، و «الإيمان الكبير» ص 118، و «مجموع الفتاوى» 19/ 75، و «تنبيه الرجل العاقل» 1/ 213.
وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آلَ الأمر بمَن يدعي التحقيق، والتوحيد، والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كلِّ موجود، فظنوا أنه هو؛ فجعلوا وجود المخلوقات: عَيْنَ وجود الخالق! مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاً فيه؛ من الخالق مع المخلوق.
فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات - حتى ظنوا وجودها وجوده -؛ فهم أعظمُ الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع.
قوله: (وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام) أي: بسبب التشابه، ثم قال الشيخ مصوراً مدى ما وقع من الضلال بسبب التشابه:(حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق، والتوحيد، والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كلِّ موجود، فظنوا أنه هو؛ فجعلوا وجود المخلوقات: عَيْنَ وجود الخالق!).
وهؤلاء هم الاتحادية، أو أصحاب وحدة الوجود، فالله عندهم؛ هو هذا الوجود، أو هذا الوجود هو الله! وزعموا أنَّ إدراك هذه الحقيقة؛ هو تحقيق التوحيد، وأن من وصل إلى هذا؛ صار من العارفين!.
وهؤلاء الاتحادية قائلون بالاتحاد العام؛ لأن القائلين بالاتحاد أو القائلين بالحلول؛ منهم:
* مَنْ يقول بالحلول العام.
* ومَن يقول بالاتحاد العام.
* ومِنهم مَنْ يقول بالاتحاد الخاص.
* أو الحلول الخاص
(1)
.
فأما القائلون بالاتحاد العام؛ فهم أصحاب وحدة الوجود، الذين يقولون:«إن الله هو هذه الموجودات» ، فالوجود هذا شيء واحد، وأما تكثُّره؛ فهو بحسب المظاهر، والحقيقة واحدة.
والقائلون بالحلول العام؛ هم: قدماء الجهمية، يقولون:«إن الله حال في كلِّ مكان» - تعالى الله عن قولهم - وهؤلاء هم الذين رد عليهم الإمام أحمد رحمه الله، ونقض شبهاتهم التي تعلقوا بها من القرآن، وبين ما يتضمنه قولهم من الفساد في العقل مع مناقضته للسمع
(2)
؛ فإن قولهم يتضمن: أن الله موجود في الحشوش، وبطون الحيوان، وكل مكان مستقذر! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
والفرقُ بين الحلول والاتحاد؛ ظاهرٌ؛ فالقول بالحلول يتضمن تميز الوجودين، وإثباتهما، لكن أحدهما حلَّ في الآخر، مثل: الروح،
(1)
«حقيقة مذهب الاتحاديين» ص 171، و «بيان تلبيس الجهمية» 5/ 46، و «الجواب الصحيح» 1/ 66 و 2/ 306، و «درء التعارض» 6/ 151».
(2)
في كتابه «الرد على الجهمية والزنادقة» ص 144.
والبدن، فكل منهما له وجود، لكن الروح حالَّة في البدن، ولها حقيقة متميزة، كما تقدم في المثل الثاني
(1)
.
وأما القائلون بالاتحاد فليس عندهم وجودان؛ بل الوجود عندهم واحد.
وبهذا يتبين: أن مذهبهم أقبح، وهم أكفر.
أما الاتحاد الخاص؛ فكقول بعض النصارى: «اتحد اللاهوت في الناسوت، فصارا شيئاً واحداً» .
وأما الحلول الخاص؛ فكقول بعض النصارى: «حل اللاهوت في الناسوت» ، وكقول غلاة الرافضة:«إن الإله حلَّ في علي وسائر الأئمة» .
والله تعالى مباينٌ لخلقه، ومبابينته لخلقه؛ أعظم من مباينة أيِّ مخلوق لمخلوق، وهو عالٍ فوقَ جميعِ مخلوقاته، ومعنى كونه بائناً من خلقه: أنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
وقد صَوَّر الشيخ هذا المعنى بقوله: (مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء
…
) أي: من الخالق مع المخلوق، و «المماثلة» هي:«المشاركة في بعض الخصائص» ، والمخلوقات يكون بينها مباينة كما تقدم في المثل الأول: أن موجودات الآخرة مباينة لموجودات الدنيا، فليست مثلها
(2)
، وتقدم أيضاً: أن مباينة الله لخلقه؛ أعظم من مباينة موجودات الآخرة لموجودات الدنيا (1).
(1)
ص 241.
(2)
ص 225.
فلا شيء أبعد عن مماثلة شيء آخر؛ من الخالق مع المخلوق.
قوله: (أو أن يكون إياه) أي: لا شيء أبعد عن أن يكون هو الشيء الآخر؛ من الخالق مع المخلوق، وهذه النسبة؛ هي: الوَحدة، فإذا قلت:«هذا هو ذاك» ؛ صار شيئاً واحداً.
قوله: (أو متحداً به) أي: لا شيء أبعد عن أن يكون متحداً بشيء آخر؛ من الخالق مع المخلوق.
والاتحاد؛ هو: «امتزاج الحقيقتين حتى تكون حقيقة واحدة» ، ولا يكون هناك تميز لإحدى الحقيقتين عن الأخرى.
قوله: (أو حالاً فيه) أي: لا شيء أبعد عن أن يكون حالاً في شيء آخر؛ من الخالق مع المخلوق، وفي الحلول تكون الحقيقتان متميزتين، كما تقدم.
فاللهُ تعالى أبعدُ عن مماثلة خلقه، أو أن يكون نفس الخلق، أو أن يتحد بالخلق، أو أن يحلَّ فيه؛ من أي شيء إلى شيء آخر، ومع عِظم التباين بين الخالق والمخلوق؛ وقع الاشتباه على بعض الناس حتى ظن هؤلاء الملاحدة الجهلة وجود المخلوقات: عين وجود الخالق!.
وحُكمُ هؤلاء كما قال الشيخ: (فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه)، وقد تقدم
(1)
أيضاً: أنهم هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى.
(1)
ص 233.
قوله: (وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود) هذا هو منشأ الاشتباه المتقدم.
قوله: (فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع) أي: أنهم جعلوا الوجود المشترك؛ واحداً بالعين لا واحداً بالنوع، والصواب المقطوع به: أن الوجود المشترك؛ واحد بالنوع.
والفرق بينهما: أن الواحد بالعين؛ هو ما لا يُتصور فيه الاشتراك، والواحد بالنوع؛ هو ما يتصور فيه الاشتراك، ف «الوجودُ المطلق» مشتركٌ، لكن «وجودك أنت» لا يتصور فيه الاشتراك، فالوجود المطلق واحد بالنوع، وهو اسم مطلق، ومعناه؛ معنى كلي لا يختص بموجود دون موجود، ومِن هذا القبيل:«الإنسان» ، و «هذا الإنسان» ، فالأول اسم عام، ومعناه: عامٌّ كلي، والثاني: خاصٌّ لا يتصور فيه الاشتراك.
والمقصود مما تقدم: التمثيل للضلال الذي منشأه الاشتباه.
* * *
وآخرون توهموا أنه إذا قيل: «الموجودات تشترك في مسمى الوجود» ، لزم التشبيه، والتركيب، فقالوا:«لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي» ، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء، مع اختلاف أصنافهم مِنْ أن الوجود ينقسم إلى: قديم، ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات.
وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود؛ لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجودٌ مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان: كليات مطلقة؛ مثل: وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك؛ فخالفوا الحس، والعقل، والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من أنواع الاشتباه.
قوله: (وآخرون توهموا
…
) هذا مثال آخر لمن ضلَّ بسبب التشابه بين الموجودات في مطلق الوجود، وهؤلاء هم الذين تقدم ذكر مذهبهم
(1)
؛ وهم: المعطلة نفاة الصفات الذين ينفون الصفات زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه؛، وهم: الجهمية، والمعتزلة، وكذلك الفلاسفة؛ الذين ينفون الصفات بحجة أن إثباتها يستلزم التركيب، فلهم هاتان الشبهتان: شبهة التشبيه، وشبهة التركيب.
(1)
ص 185، 188، 203.
قوله: (لزم التشبيه، والتركيب) أي: تشبيه الخالق بالمخلوق، والتركيب في ذاته تعالى؛ في زعم الفلاسفة الذين يقولون:«إن هذه معانٍ متعددةٌ متغايرة، وهي تركيبٌ، واللهُ منزهٌ عن التركيب» ، وهذا لا يعنينا هنا، وإنما الذي يعنينا أن الطائفة؛ هم: الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة؛ فهم الذين يشملهم قول الشيخ:(وآخرون).
قوله: (فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي) أي: أن إطلاق لفظ الوجود على الخالق والمخلوق من قبيل المشترك اللفظي، وهم قالوا هذا؛ ليتخلصوا مما توهموه من التشبيه، والتركيب.
والمشترك اللفظي؛ هو: «ما اتحد لفظه، وتعدد معناه»
(1)
، مثل:«المشتري» للنجم، وللمبتاع، و «العين» للعين الباصِرة، وللعين الجارية، وللذهب، ومثل:«سهيل» للنجم، ولإنسان اسمه سهيل، فالاشتراك بين هذه الأسماء؛ إنما هو في اللفظ فقط، وأما معانيها؛ فمختلفة.
والحق أن كلمة «موجود» تطلق على كل موجود، فالاشتراك بين الموجودات في هذه الكلمة في لفظها ومعناها؛ ولا بد؛ لأن الوجودَ ضدُّ العدم.
وهذا المعنى ثابت لكل موجودٍ، فكلُ موجود؛ فهو غير معدوم؛ فالاشتراك حينئذٍ: اشتراك معنوي.
(1)
«روضة الناظر» 1/ 101، و «شرح الكوكب المنير» 1/ 137، و «إيضاح المبهم من معاني السلم» ص 8، و «آداب البحث والمناظرة» ص 31.
والمشترك المعنوي يُسمى: «المتواطئ» ؛ وهو: «ما اتحد لفظه، ومعناه»
(1)
سواء تفاوت المعنى، أو لم يتفاوت
(2)
؛ كلفظ «إنسان» يطلق على: محمد، وعمر، وبكر، وهكذا.
إذاً؛ فقول هؤلاء بالاشتراك اللفظي؛ قول باطل.
والدليل على أن «الوجود» «متواطئ» ، وليس ب «مشترك لفظي» ذكره الشيخ بقوله:(فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء، مع اختلاف أصنافهم مِنْ أن الوجود ينقسم إلى: قديم، ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات) أي: أن الوجود ينقسم إلى: قديم، ومحدث، وينقسم - أيضاً - إلى: واجب، وممكن، وإلى: محسوس مشاهد، وغائب غير مشاهد، ونحو ذلك
(3)
.
والانقسام يدل على أن بين القسمين وَحدةٌ؛ كالحَبِّ - مثلاً -؛ فإنه ينقسم إلى: قوت، وما ليس بقوت، والإنسان ينقسم إلى: ذكر، وأنثى، وينقسم إلى: أسود، وأبيض، وينقسم إلى: مؤمن، وكافر، هذا هو الدليل على أن «الوجود» «متواطئ»
(4)
. والله أعلم.
(1)
«روضة الناظر» 1/ 100، و «شرح الكوكب المنير» 1/ 134، و «إيضاح المبهم من معاني السلم» ص 8، و «آداب البحث والمناظرة» ص 30.
(2)
وإذا تفاوت المعنى؛ سمي «مُشَكِّكاً» ، وهو نوع من المتواطئ العام، وسيأتي نحوه في ص 504 وما بعدها.
(3)
«شرح حديث النزول» ص 81، و «منهاج السنة» 2/ 118، و «مجموع الفتاوى» 5/ 210.
(4)
بالمعنى العام ل «المتواطئ» الذي يدخل فيه «المشكِّك» ، وسيذكر الشارح أن لفظ «الوجود» «مشكِّك»؛ لوجود التفاوت العظيم بين وجود الموجودات. انظر: ص 504.
قوله: (وطائفة ظنت
…
) إلخ، هذا مثالٌ ثالث لمن ضل بسبب الاشتباه الذي يكون بين الأشياء، والطائفة هذه طائفةٌ من الفلاسفة.
قوله: (ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في الوجود؛ لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه) أي: أنهم جعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وسبق بيان:«أن المعاني الكلية المشتركة لا توجد إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات في الخارج»
(1)
، وهؤلاء لم يَقْصروا هذا على الوجود المشترك؛ بل زعموا أن في الخارج - أيضاً - كليات مطلقة؛ ك (وجود مطلق)، و (حيوان مطلق)، وهكذا.
وقد سبق ذكر هذا المعنى في «مبحث الروح» في «المثل الثاني»
(2)
، وأن الذين لا يصفون الروح إلا بالسلوب يقولون:«إنها لا تدرك المعاني المعينة، وإنما تدرك الأمور الكلية» ؛ لأن عندهم أن المعاني الكلية موجودة في الخارج.
فهذا نوع من الضلال بسبب الاشتباه.
فالمقولة الباطلة هنا: اعتقاد أن في الخارج موجوداً مطلقاً، وكليات مطلقة، ومنشأ هذا الغلط؛ هو: أن الموجودات تشترك في مطلق الوجود، والحيوانات تشترك في مطلق الحيوانية، والأجسام تشترك في مطلق الجسمية، والناس يشتركون في مطلق الإنسانية.
(1)
ص 139، 150.
(2)
ص 244.
وهذه المقولة باطلةٌ؛ فليس في الخارج وجود مطلق، فكل ما في الخارج؛ فهو مُعَيَّنٌ جزئي ليس بمشترك، وكلُّ شيءٍ مستقلٌ بوجوده عن غيره
(1)
.
إذاً؛ فالاشتراك بين الموجودات، أو الحيوانات، أو بين الأجسام، أو بين أفراد الناس؛ إنما هو في أمر ذهني، لا في أمر موجود في الخارج.
قوله: (فخالفوا الحس، والعقل، والشرع) أي: أن قولَهم هذا مخالفٌ للحس؛ فإنه معلومٌ بالحسِ: أنَّ ما في الخارج؛ إنما هو جزئي، فليس هناك شيء مشترك يُرى أو يلمس، وإنما الذي يدرك بالحس؛ هو: أمور معينة.
وخالف أيضاً: العقلَ؛ فإن من المعلوم بداهة: أن المعنى الكلي لا يكون إلا في الذهن، وقد تقدم ذكر هذا المعنى عن الفلاسفة، وأنهم قالوا عن الله:«إنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق»
(2)
، وقد علم بصريح العقل: أن هذا لا يوجد إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات.
وخالف قولُهم هذا أيضاً: الشرعَ؛ فإن الشرع قد جاء بأحكام، وإن كانت قد جاءت بصيغ عامة؛ فإن هذه النصوص العامة إنما تتعلق بالأعيان والأفراد، فهي عامة ولكن واقعها إنما ينطبق على الأفراد.
(1)
«الرد على المنطقيين» ص 363، و «درء التعارض» 1/ 286 و 5/ 170، و «منهاج السنة» 2/ 189 و 3/ 302، و «شرح الأصبهانية» ص 511، و «مجموع الفتاوى» 5/ 203.
(2)
ص 138.
فخالف هؤلاء: الحس، والعقل، والشرع؛ فإنها تقتضي عدم وجود الكليات في الخارج.
قوله: (وهذا كله من أنواع الاشتباه) أي: أن غلط الاتحادية حيث زعموا أن وجود الموجودات؛ عين وجود الرب، وذلك بسبب اشتراك الموجودات في الوجود.
وغلط الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة - أيضاً - حيث قالوا:«إن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي» ، حذراً ممَّا توهموه من التشبيه، والتركيب.
وغلط مَنْ غلط من الفلاسفة حيث زعموا أن الموجودات إذا كانت تشترك في الوجود؛ ففي الخارج موجود مطلق، وهكذا الشأن في سائر المعاني الكلية، فهي موجودة في الخارج، عندهم، وهذا كله من الضلال بسبب الاشتباه.
* * *
ما يعصم من الضلال بالمتشابه من الكلام
ومن هداه الله سبحانه فرَّق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعَلِم ما بينها مِنَ الجمع والفَرْق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يَضِّلون بالمتشابه من الكلام؛ لأنهم يجمعون بينه وبين المحكمِ الفارقِ الذي يبيِّن ما بينهما من الفَصْل والافتراق.
وهذا كما أنَّ لفظ «إنا» ، و «نحن» ، وغيرهما مِنْ صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم، الذي له صفات تقوم كلُّ صفةٍ مقامَ واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له.
فإذا تمسك النصراني بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]، ونحوه على تعدد الآلهة؛ كان المحكم؛ كقوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم (163)} [البقرة]، ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً؛ يزيل ما هناك مِنَ الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغ الجمع؛ مبيناً لما يستحقه مِنْ العظمة والأسماء والصفات، وطاعة المخلوقات من الملائكة، وغيرهم.
وأما حقيقة ما دلَّ عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله؛ فلا يعلمه إلا هو: {وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
بخلاف الملِك مِنَ البشر إذا قال: «قد أمرنا لك بعطاء» ؛ فقد عُلم أنه هو، وأعوانه - مثل: كاتبِه، وحاجبه، وخادمه، ونحو ذلك - أمروا به، وقد يُعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته، وإراداته، ونحو ذلك.
والله سبحانه وتعالى لا يَعلمُ عبادُه الحقائقَ التي أخبر عنها من صفاته، وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائقَ ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة.
أي: أن مَنْ أنعم الله عليه بالهدى؛ فرَّق بين الأمور وإن اشتبهت مِنْ بعض الوجوه؛ لأنه يدرك ما بينها من الفَرْق والجمع، خلاف مَنْ تقدم ذكرهم، من فرق الضلال من: الاتحادية، والجهمية، والفلاسفة.
قوله: (وهؤلاء لا يَضِلون بالمتشابه من الكلام
…
) أي: وهؤلاء المهديون لا يضلون بالمتشابه من الكلام، وهذا هو المقصود؛ لأنَّ موضوعَ الكلامِ: الآياتُ المتشابهات؛ وهي: من الكلام المتشابه.
قوله: (لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم) أي: يجمعون بين المحكم والمتشابه؛ فيردون المتشابه إلى المحكم، وهذا هو منشأ الهداية، ففي القرآن متشابهٌ، وفي السنة أحاديثُ متشابهةٌ، وفي كلام الناس متشابه، فإذا
ورد عن إمام من الأئمة - مثلاً - عبارة تُوهم كذا، أو تدل على كذا؛ فالواجبُ ردُّ هذا الكلام المشكل إلى أصوله، وإلى ما عُرف به، وكلامه الواضح، وأما المغرضون، والجاهلون؛ فإنهم يَضلون بالمتشابه من الكلام.
ثم مثَّل الشيخ رحمه الله للكلام المتشابه من القرآن؛ لأن أصل الحديث هو الآيات المتشابهات، كما في آية آل عمران:{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [7]، وقد تقدم
(1)
أن من معاني المتشابه: أنه اللفظ المحتمل، والمحكم؛ هو: البين الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً؛ فهذا منه.
والله تعالى يذكر نفسه كثيراً بصيغة الجمع؛ كما قال سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح] وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1] وقال: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون (97)} [الحجر] وغيرها من الآيات.
فهذه الصيغة في اللغة العربية تحتملُ أكثرَ مِنْ معنى، وقد بينها الشيخ بقوله:(يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كلُّ صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له) أي: يتكلم بها الواحد الذي له من أسباب العظمة: مِنْ الصفات، أو من العبيد، والجنود؛ ما يجعله يعبر عن نفسه بهذه الصيغة، وله صفات كل صفة تقوم مقام واحد.
فإذا كان هناك شخص: محدث، فقيه، شاعر، كاتب، فإنْ عُدَّ الفرسان؛ فهو معهم، وإن عُدَّ المحدثون؛ فهو معهم، وإن عُدَّ الفقهاء؛
(1)
ص 360.
فهو معهم، وإن عُدَّ الشعراء؛ فهو معهم، فكل صفة ألحقته بتلك الطائفة، فالإنسان يكون بالصفة المتعددة بمثابة الجماعة، وهذا يبين كيف جاءت اللغة بإطلاق هذا اللفظ على الواحد الذي له من أسباب العظمة ما له من المعاني القائمة به، أو من الأتباع والعبيد، لا شركاء له.
فصيغةُ «إنا» ، و «نحن» ، وغيرهما؛ محتملةٌ، وقد جاءت هذه الصيغة في القرآن الكريم؛ كما تقدم، وجاءت في مواضع يخبر الله بها عن بعض العباد ممَّن له مِنْ أسباب العظمة ما له؛ كقوله تعالى عن سليمان:{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} [النمل: 27]، وكما في قصة يوسف مع الملك {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا} [يوسف: 54] إذاً؛ فهذه الصيغة من المتشابه.
قوله: (فإذا تمسك النصراني بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} ، ونحوه على تعدد الآلهة
…
) أي: أن النصرانيَّ يقول بتعدد الآلهة؛ فإنه يقول بالتثليث، ويحتج على هذا بمثل هذه الصيغة المحتملة في حد ذاتها.
قوله: (كان المحكم كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم (163)} [البقرة]، ونحو ذلك ممَّا لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه) أي: أن المحكم الذي يزيل هذا الاشتباه ويبطل هذا الاستدلال: النصوصُ المصرِّحة بالوحدانية لله تعالى في: ألوهيته، وربوبيته، مثل:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} [الإخلاص]، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14]، {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة: 255]، {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار (16)} [الرعد]؛ فهذا هو المحكم.
وقد تقدم في «القاعدة الثالثة»
(1)
: أن الله تعالى يذكر نفسه تارة بصيغة الإفراد، كما في آية «ص» ، وفي غيرها من المواضع، ويذكر نفسه بصيغة الجمع، وكل من الصيغتين تدل على معنى حق، فصيغة الإفراد تدل على الوحدانية لله تعالى فهو الواحد الأحد المتفرد في ألوهيته وربوبيته فلا شريك له ولا شبيه، وصيغة الجمع تدل على أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وكثرة جنوده وعبيده.
فكلٌّ مِنْ الصيغتين لها دلالة ثابتة للرب تعالى، فصيغة الإفراد تدل على ما هو ثابت له من التفرد، فهو الإله الذي لا شبيه له، والرب الذي لا شريك له، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا شبيه له، في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله، وصيغة الجمع تدل على عظمته، وهذا يتضمن الدلالة على أسمائه الحسنى وصفاته العلى وعلى ما له من العبيد والجنود، الذين لا يعلم عددهم ولا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} .
فالآيات التي هي نص في التوحيد؛ تبطل استدلال النصراني الباطل، فيجب رد المتشابه إلى المحكم الذي يبين المراد به ويزيل الاشتباه والباطل الذي يتعلق به المبطل
(2)
.
(1)
ص 313.
(2)
«الجواب الصحيح» 2/ 269، و «مجموع الفتاوى» 5/ 233، و «الفرقان بين الحق والباطل» 145، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 377، و «شرح حديث النزول» ص 373.
قوله: (وأما حقيقة ما دل عليه ذلك
…
) تقدم أن صيغة الجمع في حق الله تعالى من نوع المتشابه، وهذا الاشتباه نسبي - أي: لبعض الناس - فأما من هداه الله تعالى؛ فإنه يجمع بينها وبين المحكم؛ فيعرف المراد من هذا، وهذا.
وهذه الصيغة من نصوص الصفات؛ لأنها إخبار من الله عن نفسه، فلها تأويل نعلمه، وتأويل لا نعلمه.
والتأويل الذي نعلمه؛ هو التأويل بمعنى: التفسير، والذي لا نعلمه؛ هو: ما تدل عليه هذه النصوص من حقائق أسماء الله تعالى في الواقع، وكثرة الجنود.
ونحن نعلم أن لله سبحانه جنوداً كثيرين، وعبيداً كثيرين، لكن لا نعلم مداهم، ولا نحصيهم، ولا نعلم قُوَّتهم؛ فالملائكة - مثلاً -: نعلم أنهم: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون (27) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون (27)} [الأنبياء]، ونعلم أنهم كثيرون، ولكن لا نتصور، ولا ندرك مدى هذه الكثرة، ولا مدى طاعتهم وخضوعهم وعبوديتهم لله تعالى، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه.
ثم وازن الشيخ رحمه الله بين ورود هذه الصيغة في حق الله، كما في الآيات المتقدمة، وصدورها عن بعض الخلق، - وبينها بلا شك فرقٌ - بقوله:(بخلاف الملِك مِنْ البشر إذا قال: «قد أمرنا لك بعطاء»؛ فقد عُلم أنه هو، وأعوانه - مثل: كاتبِه، وحاجبِه، وخادمه، ونحو ذلك - أمروا به)
أي: وإن كان ابتداء الأمر مِنْ قِبل الملِك؛ فإن الكاتب، والحاجب، والخادم، ونحوهم؛ له تأثير في هذا الأمر، ومشاركة فيه.
حتى إن الشفاعة عند المخلوق تتضمن نوع شَرِكة للشافع مع المشفوع عنده، وأما الشافع عند الله تعالى؛ فلا مُلك له؛ بل الشفاعة كلها لله تعالى، فلا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، ولكن الشافع عند المَلِك من البشر له مشاركة؛ لأن المشفوع عنده؛ يمكن أن يشفِّع أو يستجيب لهذا الأمر المطلوب؛ وإن كان كارهاً؛ لأنه يرجو هذا الشافع، أويخافه.
ففرق بين ورود هذه الصيغة في حق الله سبحانه، وورودها في حق المخلوق.
قوله: (ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة) فكل هذا لا يعلمه العباد، وإن علموا أصل المعنى؛ وهو: أن هذا الفعل صادر عن قدرته ومشيئته، ولكن لا نتصور كُنْهَ وحقيقة قدرته تعالى وحكمته، ونحن نعلم شيئاً من الحكمة في حدود ما بيَّنه سبحانه، وما هدانا إليه، ولكن لا نسبة لما عَلِمنا إلى ما لا نعلم من ذلك.
* * *
التشابه في الألفاظ المتواطئة والمشتركة
وبهذا يتبين: أن التشابه يكون في الألفاظ «المتواطئة» ، كما يكون في الألفاظ «المشتركة» التي ليست بمتواطئة، وإنْ زال الاشتباه بما يميِّز أحد المعنيين من إضافة، أو تعريف، كما إذا قيل:«{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَّاء} [محمد: 15]» فهنا قد خص هذا الماء بالجنة؛ فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء؛ غير معلوم لنا؛ وهو - مع ما أعد الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر - مِنَ التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته؛ لا يعلمها إلا هو.
ولهذا كان الأئمة؛ كالإمام أحمد، وغيره؛ ينكرون على الجهمية وأمثالهم - مِنَ الذين يحرفون الكلم عن مواضعه -؛ تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال الإمام أحمد في كتابه الذي صنفه في «الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله» .
وإنما ذمهم لكونهم تأوَّلوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم
تأولوه على غير تأويله، ولم ينفِ مطلق التأويل، كما تقدم مِنْ أنَّ لفظ التأويل يراد به:«التفسير المبين لمراد الله تعالى به» ، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل:«الحقيقة التي استأثر الله بعلمها» ، فذاك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
قوله: (وبهذا يتبين أن التشابه) أي: التشابه في الكلام.
قوله: (يكون في الألفاظ المتواطئة)؛ وهي: «ما اتحد لفظه ومعناه» كالإنسان، والرجل، والجسم، والحيوان، ونحو ذلك من الأسماء العامة.
وأما الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة؛ فهي المشترك اللفظي؛ وهو: «ما اتحد لفظه، وتعدد معناه» مثل: «العين» : للباصرة والجارية، وغيرها، و «المشتري»: للنجم والمبتاع، و «سهيل»: للنجم ولمن اسمه سهيل
(1)
.
وفي القرآن مثل: {عَسْعَسَ} [التكوير: 17] فقد فسِّر ب: «أقبل» ، وب «أدبر»
(2)
، و «القُرْء» فسر ب:«الطُّهْر» ، و «الحيض»
(3)
.
(1)
تقدم نحوه في ص 433.
(2)
«تفسير الطبري» 24/ 159 - 161.
(3)
«تفسير الطبري» 4/ 87 - 95.
قوله: (وإن زال الاشتباه بما يميِّز أحد المعنيين من إضافة وتعريف) فلفظ: «المشتري» مشترك لفظي، ولا يعرف المراد منه إلا بالإضافة، أو التعريف، فإذا قال شخص:«ذهبتُ إلى السوق، فلقيتُ المشتري» ، أو:«نظرتُ إلى السماء، فرأيت المشتري» ؛ فإنه حينئذٍ يزول الاشتباه؛ لوجود القرينة.
وكذلك اللفظ المتواطئ يحصل فيه الاشتباه، فلفظ:«الماء» يطلق على أنواع المياه: المالح، والعذب، وغيره، ويطلق على: الماء الذي في الجنة، والذي في الدنيا.
وكذلك اللبن، والخمر، والعسل، والفاكهة، واللحم، كلها أسماء لها مسميات في الدنيا، ومسميات في الآخرة، فهذه ألفاظ متواطئة؛ لأنها اشتركت في اللفظ والمعنى الكلي العام؛ وهو القدر المشترك.
وقد تقدم
(1)
أنه بسبب وجود هذا القدر المشترك؛ اشتبه على بعض الناس المقصود بهذه الأنواع - أنواع النعيم -؛ فالجاهل قد يظن أنها مثل ما يعرفه في الدنيا، فهذا غلط سببه الاشتباه، الذي منشأه التواطؤ.
وقوله: (من إضافة، أو تعريف) ب «أل» ؛ وهي: تكون للعهد الذهني، أو للعهد الذكري
(2)
، فهي تزيل الاشتباه عند مَنْ قد عهد هذا المعنى، وسبق الكلام معه فيه، كما لو قلت:«يجب التمسك بالكتاب» ، والمراد:«القرآن الكريم» ، مع أن كلمة «الكتاب» في اللغة تطلق على
(1)
ص 388.
(2)
تقدم ذكر أنواع «أل» في ص 37.
كل مكتوب، فحصل التمييز بالتعريف، وإذا قلت:«يجب التمسك بكتابِ الله» ؛ حصل التمييز بالإضافة.
قوله: (كما إذا قيل: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَّاء} [محمد: 15] فهنا قد خص هذا الماء بالجنة) فكلمة «ماء» لفظ متواطئ، ولكنه غير مطلق؛ بل مضاف إلى الجنة بالإسناد؛ لقوله:{فِيهَا أَنْهَارٌ} ، فعلم بهذه الإضافة أن هذا الماءَ ليس كمائنا في الدنيا، وهكذا اللبن، والعسل، والخمر، وإن اتفقت في الاسم، والمعنى العام الكلي.
قوله: (لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو - مع ما أعد الله لعباده الصالحين، ممَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر - مِنْ التأويل الذي لا يعلمه إلا الله) وهذا قد سبق غير مَرة
(1)
أن نصوص الوعد لها تأويل نعلمه، ولها تأويل لا نعلمه، فتفسيرها معلوم لنا، فنعلم أن هذه من أصناف النعيم، وأنها: أشربة، وأخرى مأكولات، وأخرى مساكن، ونعرف أنها أمور عظيمة معرفة إجمالية، ولكن لا نتصور حقائقها، فلا يعلم حقائقها إلا الله تعالى، وسيعلم المؤمنون حقائقها حين يرونها، ويباشرونها إذا دخلوا الجنة.
قوله: (وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته؛ لا يعلمها إلا هو) وهذا هو المقصود؛ وهو: أن نتوصل إلى القول في أسماء الله تعالى وصفاته، فأسماؤه وصفاتُه مدلولها ومعناها؛
(1)
ص 225 و 385.
معلوم لنا من وجه؛ وهو: المعنى المستفاد من دلالة اللغة، والسياق، والنصوص المبينة.
فلفظُ: «السميع» ، و «البصير» ، ونحوها من حيثُ هي متواطئةٌ، ف «السميع» يطلق على كل ذي سمع، و «البصير» يطلق على كل ذي بصر، وهكذا، فإذا أضيفت إلى الله دلت على ما يختص به تعالى كما سبق
(1)
، وإذا أضيفت إلى المخلوق دلت على ما يختص بالمخلوق.
ومدلولُ أسمائه تعالى وصفاته الذي هو حقيقة لذات الرب وصفاته؛ ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو، فنصوص الأسماء والصفات لها تأويل نعلمه، فنعرف معنى:{إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء]، ومعنى:{وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (284)} [البقرة]، ومعنى:{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)} [الفتح]، ونفرق بينها، أما الحقيقة التي دلت عليها هذه الأسماء؛ فذلك من التأويل الذي لا نعلمه.
ويتبين مما سبق من أول «القاعدة» : أن التأويل منه المحمود، ومنهم المذموم، ومنه ما يعلمه العباد، ومنه ما لا يعلمه العباد.
قوله: (ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد، وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم - من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه -؛ تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله) أي: ولما كان التأويل منه المحمود، ومنه المذموم؛ لم يذم الأئمة؛ كالإمام أحمد، وغيره التأويل
(1)
ص 157.
مطلقاً، وإنما ذموا تأويل القرآن، أو السنة - أي: تفسيرهما - على غير وجههما؛ وهو: التحريف.
قوله: (وإنما ذمهم لكونهم تأوَّلوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه
…
) فثبت أن التأويل يختلف معناه - كما تقدم في مطلع «القاعدة»
(1)
- ويختلف حكمه، ويختلف علم العباد به، فمنه ما يعلمه العباد ومنه ما لا يعلمه إلا الله، ومنه ما يُحمد ومنه ما يُذَم، والمحمود منه؛ هو: تأويل كلام الله حسب ما تدل عليه أصول الفهم والدلالات، وهذا هو الواجب؛ فإن الله أنزل القرآن لِيُتَدَبر، والمذموم؛ هو: تأويله على غير تأويله.
قوله: (وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع) أي: قد بسطنا الكلام على معاني التأويل، وما يحمد وما يذم، وما يعلم وما لا يعلم، في غير هذا الموضع، ومن ذلك ما تقدم في أول «القاعدة»
(2)
، والشيخ يعرض لهذا في مواضع كثيرة في كتبه المطولة
(3)
؛ لأنه يتعلق بالقضية الكبيرة التي قامت فيها الخصومة؛ وهي «قضية الأسماء والصفات» ، فإن الخصومة فيها قائمة بين أهل السنة والمعطلة؛ من أهل: التأويل، والتفويض.
* * *
(1)
ص 367.
(2)
ص 367.
(3)
«درء التعارض» 1/ 14 و 206 و 5/ 234، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 419، و «الفتوى الحموية» ص 290، و «الإكليل في المتشابه والتأويل» ص 288.
أثر الجهل بمعاني التأويل، وعدم التمييز بينها
ومن لم يعرف هذا اضطربت أقواله، مثل: طائفة يقولون: «إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره» ؛ ويحتجون بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران: 7]، ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل.
وهذا تناقض منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقاً.
وجهة الغلط: أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه؛ هو: الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو، وأما التأويل المذموم والباطل؛ فهو: تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدَّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك.
ويدَّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معانٍ هي نظير المعاني التي نفوها عنه! فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقاً ممكناً؛ كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلاً ممتنعاً؛ كان الثابت مثله.
قوله: (ومن لم يعرف هذا) أي: ومن لم يعرف تعدد معاني التأويل، واختلاف حكمه.
قوله: (اضطربت أقواله) أي: وقع في التناقض.
قوله: (مثل طائفة يقولون
…
) هذه طائفة المفوضة وإن لم يسمها الشيخ، فقد نعتها بمذهبها وطريقتها، والمقصود بالمفوضة هنا: مفوضة نصوص الصفات، فإنه قد تسلك طوائف أخرى مسلك التفويض في غير نصوص الصفات، وهؤلاء ليسوا المعنيين هنا.
وهذا الكلام يربط آخر «القاعدة» بأولها؛ فإننا في مطلع «القاعدة» عرفنا أن المقصود بهذه «القاعدة» الرد على أهل التفويضِ
(1)
، والآياتُ الدالة على تدبرِ القرآنِ كلِّه فيها رَدٌّ عليهم.
ومذهب أهل التفويض في صفات الله تعالى؛ هو: التعطيل في الجملة سواء كان كلياً، أو جزئياً.
وقد سماهم الشيخ بما يصوِّر فساد مذهبهم، حيث سماهم:«أهل التجهيل» ؛ لأن مضمون قولهم: تجهيل الصحابة رضوان الله عليهم؛ بل تجهيل الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني كلام الله، ومعاني ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم.
قوله: (مثل طائفة يقولون: إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره) أي: أنهم ينفون التأويل مطلقاً، وينكرون على أهل التأويل،
(1)
ص 356.
ويلتقون معهم في نفي الصفات، فهم يختلفون معهم في موقفهم من النصوص، ويتفقون معهم في نفي الصفات.
قوله: (وهذا تناقض منهم) أي: استدلال المفوضة بهذه الآية على نفي التأويل مطلقاً تناقض منهم، والتناقض يكون بالتفريق بين المتماثلات، وبإثبات الشيء ونفيه في آن واحد.
ثم بين الشيخ هذا التناقض بقوله: (لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقاً) أي: أن الآية أثبتت تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهم ينفونه مطلقاً، وهذا هو الوجه الأول من وجهي فساد استدلالهم بالآية.
والوجه الثاني؛ هو: أن التأويل الذي أرادوه؛ هو التأويل في اصطلاحهم؛ وهو: «صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح» ، وهذا التأويل قالوا:«لا يعلمه إلا الله» .
وتفسيرُ التأويل الذي لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى باطلٌ؛ لأنه تفسير لكلام الله بمعنى اصطلاحي، ولا يجوز تفسير القرآن بالمعاني الاصطلاحية التي اصطلح عليها الناس، بل يجب تفسيره إما بالمعاني اللغوية؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين، أو بالمعاني الشرعية التي بينها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون (44)} [النحل].
فالتأويل في القرآن إما أن يراد به الحقيقة، وهذا هو الغالب، وإما أن يراد به التفسير.
قوله: (وأما التأويل المذموم والباطل؛ فهو تأويل أهل التحريف والبدع
…
) هذا كلام معترض، وقد تقدم في آخر «الأصل الثاني»
(1)
، مثال ذلك؛ وهو: قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] و {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين (4)} [التوبة]، فظاهرها إثبات المحبة لله تعالى، وهم يقولون:«المحبة ميل الشيء إلى ما يلائمه، وهذا المعنى لا يليق به سبحانه؛ لأنه تشبيه؛ ففي ظاهر هذه النصوص محذور» !
فيصرفون معنى النص إلى معانٍ أخرى؛ كأنْ يقولوا: المعنى: «يريد الإنعام والإحسان إليهم» ، فهم فَرُّوا من إثبات حقيقة «المحبة» ، وصرفوا اللفظ إلى «الإرادة» ، فنقول: إنه يلزم في «الإرادة» نظير ما يلزم في المعنى المصروف عنه؛ وهو «المحبة» ؛ فإن كان المنفيُّ؛ وهو «المحبة» باطلاً ممتنعاً؛ فالمثبت؛ وهو «الإرادة» مثله، وإن كان المثبت؛ وهو «الإرادة» حقاً ممكناً؛ كان المنفي؛ وهو «المحبة» مثله، فلا فرق بين المعنى المصروف عنه، والمعنى المصروف إليه؛ فإثبات أحدهما، ونفي الآخر؛ تحكمٌ، وتناقض، وتفريق بين المتماثلات.
قوله: (بغير دليل يوجب ذلك) من هنا صار هذا التأويل باطلاً، وصار تحريفاً، وقد يكون لدليل لكنه لا يُوْجِبُ، أي: غير دالٍّ على المطلوب.
وهذا كله بيان لتناقض أهل التأويل.
* * *
(1)
ص 222.
وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً، ويحتجون بقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران: 7] قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يُفهم منه شيء.
وهذا مع أنه باطل؛ فهو متناقض؛ لأنا إذا لم نفهم منه شيئاً؛ لم يجز أن نقول: «له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه» ، لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا - فإنه لا ظاهر له على قولهم -؛ فلا تكون دلالتُه على ذلك المعنى؛ دلالةً على خلاف الظاهر؛ فلا يكون تأويلاً.
ولا يجوز نفي دلالته على معانٍ لا نعرفها على هذا التقدير، فإن تلك المعاني التي دلت عليها قد لا نكون عارفين بها، ولأنا إذا لم نفهم اللفظ، ومدلوله المراد؛ فلأن لا نعرف المعاني التي لم يَدُل عليها اللفظ أَوْلى؛ لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني، ولا يفهم منه معنى أصلاً؛ لم يكن مشعراً بما أريد به؛ فلأن لا يكون مشعراً بما لم يرد به أَوْلى.
فلا يجوز أن يقال: «إن هذا اللفظ متأول» ، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال:«إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله» ، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما
يخالف الظاهر المختص بالمخلوقين، فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا؛ فلا بدَّ أن يكون له تأويل يخالف ظاهره.
لكن إذا قال هؤلاء: «إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر» ، أو:«إنها تُجرى على المعاني الظاهرة منها» ؛ كانوا متناقضين.
وإنْ أرادوا بالظاهر هنا معنى، وهنا معنى في سياق واحد من غير بيانٍ؛ كان تلبيساً، وإنْ أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ - أي: تُجرى على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه -؛ كان إبطالهم للتأويل، أو إثباته؛ تناقضاً، لأن من أثبت تأويلاً، أو نفاه؛ فقد فهم منه معنى من المعاني. وبهذا التقسيم يتبيَّنُ تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات، ومثبتيها في هذا الباب.
قوله: (وهؤلاء) هذا عود إلى أهل التفويض، ولهذا قلتُ:«إن الكلام على تناقض أهل التأويل معترض»
(1)
.
قوله: (قد يظنون)، (قد) هنا للتحقيق، وليست للتقليل
(2)
.
(1)
ص 454.
(2)
إذا دخلت «قد» على الفعل المضارع؛ فلها معانٍ: «التحقيق» ، و «التقليل» ، و «التَّوَقُّع» ، و «التكثير». انظر:«شرح التسهيل» 1/ 29 و 4/ 108، و «الجنى الداني في حروف المعاني» ص 259، و «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» ص 197، و «البرهان في علوم القرآن» 4/ 264.
قوله: (أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد) أي: له معنى، ولكن لا يفهمه أحد.
قوله: (أو بما لا معنى له) أي: بألفاظ ليس لها معنى، وإنما أُنزلت للتعبد بتلاوتها.
قوله: (أو بما لا يُفهم منه شيء) أي: أن اللفظ وإن كان له معنى؛ ولكن لا يَفهم منه أحد شيئاً.
قوله: (وهذا مع أنه باطل؛ فهو متناقض) أي: أن هذا الظن وإن كان باطلاً في ذاته شرعاً؛ فهو باطل عقلاً، ووجه بطلانه شرعاً: النصوص الكثيرة الدالة على أن لآيات القرآن معنى مفهوماً.
والدليل على هذا ما تقدم في مطلع «القاعدة» من الأمر بالتدبر
(1)
، فالله أمر بتدبر القرآن وذم المعرضين عن تدبره، فهذا يدل على أن جميع آيات القرآن لها معانٍ يمكن فهمها والوصول إليها بالتدبر، فما لا يفهم منه شيء وما لا يفهمه أحد؛ ليس لتدبره فائدة.
وأيضاً: وَصْفُ القرآن الكريم بأنه {هُدًى} في آيات [البقرة: 2 و 97 و 185]، وأنه {شِفَاءٌ} [يونس: 57]، و (نور) [النساء: 174]، وأنه {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]؛ كلها تدل على أن آيات القرآن لها معانٍ يمكن الوصول إليها، وتحصل بها الهداية، فما لا يُفهم منه شيء؛ لا يكون هدىً ولا شفاءً لما في الصدور، ولا يكون أحسن الحديث.
(1)
ص 352.
وأيضاً فهذا الظن يتضمن الطعن في حكمة الله تعالى، وفي حسن بيانه، والطعن في كلامه، ففيه تنقص لرب العالمين أن يخاطب عباده بما لا يُفهم منه شيء، أو بما لا معنى له، فالحكيم يُنزَّه عن أن يتكلم بما لا يفهمه أحد؛ لأنه إما أن يكون عاجزاً عن البيان، أو يكون مريداً للإلغاز والتلبيس.
ومع هذا كله؛ فهو متناقض، وقد بيَّنه بقوله: (لأنا إذا لم نفهم منه
…
) هذا الكلام إلى آخر «القاعدة» كله: لبيان تناقض أهل التفويض فيما ظنوه، وقبل أن نبيِّنَ هذا التناقض يجب أن نفهم أن كلامهم - حسب ما تقدم قريباً -: قد تضمن:
* نفي التأويل مطلقاً.
* وتضمن: إثبات التأويل، وذلك في استدلالهم بقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} ، وعُلِم - أيضاً - أن التأويل في اصطلاحهم؛ هو:«صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح» ، أو:«صرف اللفظ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى غيره» ، فالتأويل الذي يوافق الظاهر؛ ليس تأويلاً عندهم، والتأويل الذي يخالف الظاهر؛ تأويلٌ عندهم.
* وتضمن كلامهم - أيضاً -: أن النصوص لا يفهمها أحد، فتضمن كلامهم هذه الجوانب.
* وتضمن - أيضاً -: إجراء النصوص على ظاهرها.
وإذا نظرنا إلى مجموع هذه الأمور؛ يتجلى التناقض، فما لا يفهم منه شيء؛ لا ظاهر له، فكيف يقولون:«يجب إجراء النصوص على ظاهرها» ؟!، وما لا يفهم منه شيء معلوم أنه لا ظاهر له؛ فلا يصح أن يقال:«له تأويل يخالف الظاهر» ، فضلاً أن يقال:«إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله» ؛ بل ولا يصح أن يقال: «له تأويل يوافق الظاهر» ؛ ضرورة أنه لا ظاهر له.
وأيضاً؛ فما لا يفهم منه شيء؛ لا يصح أن يقال: «له تأويل يخالف الظاهر، ولا يوافق الظاهر» ؛ لأن ما لا يفهم منه شيء لا ظاهر له، ثُم إنَّ مَنْ أثبت تأويلاً، أو نفاه؛ فقد فهم معنى من المعاني.
فخلاصة القول: أن ما لا يفهم منه شيء؛ لا يجوز أن يتكلم عنه بشيء، فلا يقال:«له تأويل يخالف الظاهر، ولا تأويل يوافق الظاهر» ، ولا يقال:«ليس له تأويل» ؛ لأن من أثبت تأويلاً، أو نفاه؛ فقد فهم معنى من المعاني.
وأيضاً؛ من التناقض نفي التأويل، وإثباته كما سبق، فإذا قالوا:«له تأويل يخالف الظاهر» ، وقالوا:«ليس له تأويل يخالف الظاهر» ؛ فهو تناقض؛ لأنه جمع بين النفي، والإثبات.
فإنْ أرادوا بالظاهر في الإثبات معنى، وفي النفي معنى من غير بيان؛ كان تلبيساً.
وإن أرادوا به معنى واحداً؛ كان إثباتهم للتأويل، ونفيهم له؛ تناقضاً، فإنْ توارد النفي والإثبات على شيء واحد؛ كان تناقضاً، وإنْ توارد
النفي والإثبات على شيئين فلا بدَّ من البيان، وما لا يفهم منه شيء؛ لا يشعر بمعنى أبداً: لا بمعنى يوافق الظاهر، ولا يخالف الظاهر، ولا يشعر بإثبات، ولا يشعر بنفي، ولا يشعر بما أريد به، ولا بما لم يُرَد به.
قوله: (لأنا إذا لم نفهم منه شيئاً؛ لم يجز أن يقال: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه) أمَّا ما يخالف الظاهر؛ فإنه لا يجوز؛
أولاً: لأنه لا ظاهر له على قولهم.
وثانياً: أن المعنى الذي يوافق الظاهر؛ ليس تأويلاً على حد اصطلاحهم.
قوله: (فلا تكون دلالتُه على ذلك المعنى؛ دلالةً على خلاف الظاهر؛ فلا يكون تأويلاً) أي: لا تكون دلالتُه على ذلك المعنى الصحيح الذي يوافق الظاهر؛ دلالةً على خلاف الظاهر؛ فلا يكون تأويلاً؛ لأن التأويل عندهم؛ هو: «دلالة اللفظ على خلاف ظاهره» .
قوله: (على هذا التقدير) أي: على تقدير أن اللفظ لا يُفهم منه شيء.
قوله: (فلا يجوز أن يقال إن هذا اللفظَ متأولٌ) أي: اللفظ الذي لا يُفهم منه شيء؛ لا يجوز أن يقال: «إنه متأول» بمعنى: أنه مصروف عن المعنى الراجح إلى معنى مرجوح.
قوله: (فضلاً عن أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله) لأن هذا التأويل لا وجود له، ولا حقيقة له؛ لأن ما لا يفهم منه شيء ليس له تأويل يخالف الظاهر، وما لا وجود له؛ لا يجوز أن يقال:«إن الله يعلمه موجوداً» .
قوله: (كانوا متناقضين) لأنهم جمعوا بين النفي والإثبات.
قوله: (وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى، وهنا معنى) أي: إن أرادوا بالظاهر في الإثبات معنى، وفي النفي معنى.
قوله: (كان إبطالهم للتأويل، أو إثباته تناقضاً) أي: أن ما لا يفهم منه شيء؛ لا يجوز نفي التأويل عنه، ولا إثبات تأويل له.
وببيان تناقض أهل التفويض؛ ختم الشيخ هذه «القاعدة» . والله أعلم.
* * *
التمييز بين الضابط السديد وغير السديد فيما يُعرف به ما يجوز على الله وما لا يجوز
القاعدة السادسة
أنَّ لقائلٍ أن يقولَ: لابدَّ في هذا البابِ من ضابطِ يُعرف به ما يجوزُ على الله سبحانه وتعالى ممَّا لا يجوز في النفي والإثبات؛ إذ الاعتمادُ في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه؛ ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، وقدر مميِّز.
فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه؛ فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم؛ لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل، الذي فسَّرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.
ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير؛ ممَّا لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يُعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا؛ نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة.
محور هذه «القاعدة» بيان الضابط الذي يعرف به ما يجوز على الله تعالى ممَّا لا يجوز في باب الأسماء والصفات، وقد بيَّن الشيخ أن اعتماد المتكلمين في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو الاعتماد على مطلق الإثبات من غير تشبيه؛ ليس بسديد.
وقد بدأ الشيخ في بيان فساد هذين الضابطين، وأخَّر بيان الضابط السليم إلى ما بعد.
ونستعجل هنا ذكر الضابط السليم في هذا الباب، وهو أمران؛ أحدهما: عقلي، والآخر سمعي.
فأما السمعي؛ فهو: أن يُوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، نفياً وإثباتاً، فيثبت ما جاءت النصوص الشرعية بإثباته، بلا تكييف ولا تمثيل، وينفى ما جاءت النصوص بنفيه، بلا تعطيل، على حد قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى].
أما الضابط العقلي؛ فهو: أن يُوصف الله تعالى بكل كمال على وجه الكمال، وأن ينزه عن كل نقص، فكل كمال اتصف به المخلوق لا نقص فيه؛ فالخالق أولى بالاتصاف به، فهذا الضابط ممَّا يوجبه العقل.
أما الضابطان اللذان أشار إليهما الشيخ هنا، فكلاهما غير سديد، ولا مفيد.
فالنافي لأسماء الله وصفاته إن اعتمد في نفيه على مجرد نفي التشبيه، أي: أنه يزعم أن إثباتها تشبيه، فيقال له: إن أردت أن إثبات الصفات لله تعالى يلزم منه تشابه الخالق والمخلوق من جميع الوجوه - أي: التمثيل -؛ فهذا ليس بصحيح؛ بل هو باطل، ولم يقل بذلك أحد.
وإن أردت بالتشبيه: المشابهة من وجه دون وجه، أو المشاركة في الاسم؛ فإن هذا المعنى لا يصح نفيه، وليس مِنَ التشبيه المنفي عن الله تعالى؛ بل إن هذا المعنى لازمٌ لهذا النافي فيما يثبته، ولو لم يثبت إلا صفة الوجود، فيقال له: إنه يلزم إثبات قدر مشترك بين وجود الخالق، ووجود المخلوق؛ وهو: مطلق الوجود.
والتشبيه والتمثيل الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه؛ هو: مشاركة المخلوق للخالق فيما يختص به، مما يختص ب: وجوبه، أو جوازه، أو امتناعه؛ فهذا هو الممتنع بضرورة العقل؛ لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين، ولا يلزم من نفي هذا المعنى نفي المشابهة من بعض الوجوه؛ لأنه ما من شيئين إلا وبينهما تشابه من وجه.
ومن اعتقد أن التشابه من بعض الوجوه يلزم منه التماثل؛ فإنه يلزم على هذا أن يقول: إن السوادَ مِثْلُ البياضِ، والماءَ مِثلُ النار، والطعامَ مثلُ التراب.
فالحقُ أن المشابهة والاتفاق في بعض الوجوه؛ لا يلزم منه التماثل.
فالاعتماد في النفي والتنزيه على مجرد نفي التشبيه؛ ليس بسديد؛ لأنه يلزم منه ما التزمه المعطلة من نفي الصفات بحجة أن إثباتها يلزم منه التشبيه، الذي هو الاتفاق من بعض الوجوه.
ومعلوم أن هذا المعنى ليس هو التشبيه المنهي عنه، ولهذا وجب الاستفصال عن المراد بلفظ التشبيه، كما سبق.
* * *
الاختلاف في معنى التشبيه، والرد على المعتزلة
ولكن مِنَ الناس مَنْ يجعل التشبيه مفسَّراً بمعنى من المعاني، ثم إنَّ كلَّ من أثبت ذلك المعنى قالوا:«إنه مشبِّه» . ومنازعهم يقول: «ذلك المعنى ليس هو من التشبيه» .
وقد يفرَّق بين لفظ التشبيه والتمثيل، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون:«كلُّ مَنْ أثبت لله صفة قديمة؛ فهو مشبِّه ممثِّل» ، فمَن قال:«إن لله علماً قديماً، أو قدرة قديمة» ، كان عندهم مشبهاً ممثلاً، لأن «القِدم» عند جمهورهم؛ هو أخص وصف «الإِله» ، فمن أثبت لله صفة قديمة؛ فقد أثبت له مِثلاً قديماً؛ فيسمونه مُمَثِّلاً بهذا الاعتبار.
أي: من الناس من يجعل للتشبيه معنى يصطلح على إطلاقه عليه، ويجعل مَنْ أثبت ذلك المعنى الذي فسَّر به التشبيه: مشبهاً، كما يجعل المعتزلة إثبات الصفات لله تعالى: تشبيهاً، والمثبت لها مُشَبِّهاً.
وقول الشيخ: (وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل) يشير فيه إلى التفريق بين اللفظين وذلك من جهتين:
الأولى: أن التمثيل أخص من التشبيه، فالتمثيل يراد به:«مطابقة الشيء للشيء في الأمر الذي ماثله فيه، ومساواته له» ، أما التشبيه؛ فإنه أعم من التمثيل؛ لأن من التشبيه المشابهة من بعض الوجوه دون بعض.
الجهة الثانية: أن النصوص وردت بنفي المماثلة، ولفظ التمثيل؛ كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال تعالى:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]، ولم يرد في شيء من النصوص نفي المشابهة
(1)
.
وإن كان في الاستعمال الدارج عدم التفريق بينهما؛ فيقال: «هذا تشبيه، وتمثيل» .
ويذكر الشيخ شبهةً للمعتزلة في نفيهم الصفات، وجعلهم من أثبتها مُمَثِّلاً، ذلك أنه لما كان (القِدَم) عند جمهورهم أخص وصف (الإله)؛ فمن أثبت لله تعالى صفة قديمة؛ ك «العلم» ، و «القدرة» ؛ جعلوه مشبهاً ممثلاً؛ لأن هذا الإثبات - على زعمهم - يستلزم تعدد القدماء، المستلزم تعدد النظراء والأمثال والأشباه، أي: تعدد الآلهة.
فكلامهم مبني على مقدمتين:
الأولى: أن (القِدَم) أخص أوصاف (الإله).
والثانية: أن إثبات الصفات القديمة؛ يلزم عليه إثباتُ مِثْلٍ لله في أخص أوصافه؛ وهو: القِدم؛ فيلزم عليه - عندهم - تعدد القدماء، وتعدد الآلهة
(2)
.
(1)
«الجواب الصحيح» 2/ 267، و «مناظرة الواسطية» ص 166، و «بيان تلبيس الجهمية» 2/ 512 و 3/ 134، و «منهاج السنة» 2/ 527.
(2)
«الرد على الجهمية والزنادقة» ص 140، و «شرح الأصبهانية» ص 76 و 112، و «درء التعارض» 5/ 46.
ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة؛ ما لا يتصف به غيره، مثل: كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك.
أي: أن مثبتة الصفات سواء من أهل السنة والجماعة، أو من مثبتة الصفات في الجملة؛ كالأشاعرة، والكُلَّابية
(1)
: يخالفون المعتزلة في زعمهم أن القِدم أخص أوصاف الإله، فإن القِدم يمكن أن يطلق على صفات الله تعالى فيقال:«صفات الله تعالى قديمة» ؛ بل حتى المخلوق فإنه يوصف بالقِدم النسبي الذي هو: «التقدم على الغير» ، وإن لم يكن تقدمه مطلقاً كما سبق بيانه
(2)
.
أما أخص أوصاف الله تعالى؛ فهو ما لا يتصف به غيره، مثل: أنه (رب العالمين)، وأنه (بكل شيء عليم)، وأنه (على كل شيء قدير)، وأنه (إله واحد)
(3)
.
(1)
نسبة إلى عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب، وستأتي ترجمة عند ذكر المؤلف له في ص 561.
(2)
ص 134.
(3)
(درء التعارض) 5/ 46 و 10/ 279، و (الجواب الصحيح) 2/ 328، و (الرسالة الأكملية) ص 137.
فمثل هذه الأوصاف لا يجوز أن تطلق على غيره تعالى؛ بل ولا على صفاته، فلا يطلق على شيء من صفاته بأنها:(رب العالمين) ونحو ذلك مما لا يتصف به غير الله تعالى.
فمن الصفات ما لا يوصف به إلا الرب تعالى؛ مثل كونه: (على كل شيء قدير)، وأنه «الإله» .
ومن الصفات ما يمكن أن تطلق على الرب تعالى، ويمكن أن تطلق على صفاته، أو بعضها؛ ك «الكَرَمِ» ، و «السَّعَة» ؛ كما في الحديث «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم»
(1)
، وقوله تعالى:{ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].
* * *
(1)
رواه أبو داود (466) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال النووي في «خلاصة الأحكام» 1/ 314:«حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد جيد» ، وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» 1/ 277:«حديث حسن غريب، ورجاله موثقون» .
ثم مِنْ هؤلاء الصفاتية مَنْ لا يقول في الصفات: «إنها قديمة» ؛ بل يقول: «الرب بصفاته قديم» .
ومنهم مَنْ يقول: «هو قديم وصفته قديمة» ؛ ولا يقول: «هو وصفاته قديمان» .
ومنهم من يقول: «هو وصفاته قديمان» ؛ ولكن يقول: «ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القِدم ليس من خصائص الذات المجردة؛ بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات» ، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقِدم.
فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم «التشبيه» ، و «التمثيل» ؛ كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم يقول لهم أولئك:«هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً؛ فهذا المعنى لم ينفه عقل، ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية، والعقلية» .
والقرآن قد نفى مسمَّى «المثل» ، و «الكفء» ، و «الند» ، ونحو ذلك، ولكن يقولون: «الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف،
ولا كفأه، ولا نده، فلا تدخل في النص، وأما العقل؛ فلم ينف مسمَّى «التشبيه» في اصطلاح المعتزلة».
يقصد الشيخ بالصفاتية هنا مَنْ يثبت الصفات في الجملة من أهل الكلام؛ كالكُلَّابية، والأشاعرة.
وقد ذكر الشيخ أن هؤلاء الصفاتية لهم في إطلاق لفظ «القِدم» على صفات الله تعالى مذاهب:
* فمنهم مَنْ لا يقول: «إن صفات الله قديمة» ؛ بل يقول: «الله بصفاته قديم» .
فهذا الصنفُ يجدُ حرجاً من وصف الصفة بالقِدم على انفراد؛ كأنه يَشعر بأن إطلاق القِدم على الصفة وَحْدَها يُشعر بوجودٍ مُستقل للصفة عن الموصوف، ثم يقول:«الله بصفاته قديم» ؛ فيلزم من ذلك أن صفاته تعالى قديمة.
فهذا الصنف لا يَرى إطلاق القِدم على صفات الله تعالى إلا تبعاً.
* ومنهم من يقول: «الله قديم، وصفاته قديمة» ، ولا يرى حرجاً في ذلك، ولكنه لا يقول:«الله وصفاته قديمان» ؛ لأن التثنية تُشعر باستقلال الصفة عن الموصوف، ولأن هذا التعبير صريحٌ بالاثنينية،
ويُشعر بالاستقلالية المتضمنة لتعدد القدماء، الأمر الذي خاف منه المعتزلة.
فالمسألة هنا لفظية.
* والمذهب الثالث في ذلك أوسع؛ وهو: مَنْ لا يرى حرجاً في إطلاق القول بأن الله تعالى قديم وصفاته قديمة، والله وصفاته قديمان، ولا يقتضي ذلك أن الذات المجردة عن الصفات موصوفة بالقِدم، لأن الذات المجردة لا وجود لها، فضلاً عن أن توصف بالقِدم، أو أن تختص بالقِدم.
فإذا قلنا: «الله قديم» ، أي: الله تعالى الموصوف بالصفات، وإذا قلنا:«صفات الله تعالى قديمة» ، أي: الصفات القائمة بالذات، وليس معنى ذلك أن الصفات قائمة بغير الموصوف.
والقول بأن صفات الله تعالى كلها قديمة؛ فيه نظر؛ لأن صفات الله تعالى منها: الذاتية، ومنها: الفعلية.
أما الصفات الذاتية؛ فإنها قديمة؛ لأنها لازمة لذات الرب تعالى.
وأما الصفات الفعلية؛ فلا يصح وصفها بالقِدم مطلقاً؛ لأنها تابعة لمشيئة الله عز وجل، وما كان تابعاً لمشيئة الله تعالى؛ فلا يكون قديماً.
نعم يقال في جنس الفعل: «إنه قديم النوع، ولكنه حادث الآحاد» ، وكذلك:«الكَلام» .
فيقال: «إنه تعالى لم يزل فعَّالاً لما يريد، ولم يزل متكلماً إذا شاء» ، وأما آحاد الكلام والأفعال؛ فهي حادثة بمشيئة الله.
ثم إن الصفة وإن وصفت بالقِدم؛ فإن ذلك لا يقتضي مشاركتها في شيء من خصائص الله تعالى، فالقِدم ليس من خصائص الذات المجردة؛ بل من خصائص الذات الموصوفة بالصفات؛ فلا يلزم من ذلك أن تكون إلهاً، فصفة الإله ليست إلهاً، فإن الصفة لا توصف بكل ما يوصف به الموصوف، فلا توصف بما يختص به الرب تعالى.
ومثال ذلك: أنَّ النبيَّ حادِثٌ، وصفاته حادثة، وليستْ صفةُ النبيِّ نبياً، والإنسانُ حادث وصفاته حادثة، وليستْ صفة الإنسان إنساناً، فالإنسانُ اسمٌ للموصوف، وليس اسماً للصفة، وليس كل ما يطلق على الموصوف؛ يصحُ إطلاقه على الصفة.
وقوله: (فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية) الإشارة بقوله: (فهؤلاء)، إلى المعتزلة، والمراد بالصفاتية هنا خصومهم مِنْ: الأشاعرة، ونحوهم، فإذا أطلق المعتزلةُ على الأشاعرةِ - المثبتةِ للصفاتِ في الجملة -: اسمَ التشبيهِ، والتمثيلِ؛ كان هذا بحسب اعتقاد المعتزلة في أن إثبات الصفات، أو شيء منها؛ يلزم منه التشبيه، أو التمثيل؛ بناء على أصلهم أن القِدم أخصُ أوصاف الرب تعالى.
وهذا المعنى ينازعهم فيه خصومهم مِنْ الأشاعرة، ونحوهم من الصفاتية كما تقدم.
ومِن أدلة أنَّ وصف الصفة بالقِدم لا يستلزم المماثلة، وإثبات الصفات لا يستلزم إثبات النظراء: أنَّ الصفة في اللغة العربية لا تُعدُّ مِثلاً، ولا نِداً للموصوف.
واللهُ تعالى إنما نفى عن نفسه: (المثل)، و (الكفء)، و (الند)، و «السميَّ» ، فلا يدخل في ذلك نفي الصفة؛ لأن الصفة ليست مِثلاً، ولا نِداً للموصوف في اللغة العربية، فلا تدخل في النص أصلاً.
ومن المعلوم أن نفاة الصفات يستدلون على نفيهم للصفات بمثل قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} [الإخلاص]، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم]، وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لقولهم: «إن إثبات الصفات يستلزم إثبات نظراء، وأمثال لله تعالى» .
ثم يقال للمعتزلة الذين يجعلون إثبات شيء من الصفات تشبيهاً: «إن هذا المعنى لم ينفه عقل، ولا سمع، فليس في العقل ما ينفي مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة، الذي هو إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به، وليس في الشرع ما ينفي ذلك أيضاً، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية، والعقلية» .
شبهة أخرى للمعتزلة ومن تبعهم في نفي الصفات
وكذلك أيضاً يقولون: «إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيِّز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات؛ للزم أن يكون مُماثلاً لسائر الأجسام؛ وهذا هو: التشبيه» .
وكذلك يقول هذا كثيرٌ من الصفاتية، الذين يثبتون الصفات، وينفون علوه على العرش، وقيام الأفعال الاختيارية به، ونحو ذلك، ويقولون:«الصفاتُ قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم؛ فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا عُلوه؛ للزم أن يكون جسماً، وحينئذٍ؛ فالأجسام متماثلة؛ فيلزم: التشبيه» .
فلهذا تجدُ هؤلاء يُسمُّون من أثبت العلو، ونحوه: مشبِّهاً، ولا يسمُّون مَنْ أثبت السمع، والبصر، والكلام، ونحوه: مشبِّهاً، كما يقوله صاحب «الإرشاد»
(1)
، وأمثاله.
(1)
«الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد» ص 39، وصاحبه هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، العلامة، شيخ الشافعية، المشهور ب «إمام الحرمين» ، ولد في سنة 419 هـ-، سمع الحديث، وكانت عنايته به ضعيفة، وتفقه على والده، وبرع في الفقه، والأصول، والكلام، وكان من أئمة الأشاعرة، ومن الأذكياء المعدودين، جاور في «الحرم» أربع سنين، ثم عاد إلى «نيسابور» ، وتولى التدريس في المدرسة «النِّظَامية» إلى وفاته. =
يذكر الشيخ هنا شبهةً أخرى لنفاة الصفاتِ «المعتزلةِ» مركبةً مِنْ مقدمتين:
الأولى: الصفاتُ لا تقوم إلا بجسم.
الثانية: الأجسامُ متماثلة.
فالنتيجة: أن اللهَ لا تقوم به الصفات؛ لأنها لو قامت به؛ لكان مماثلاً لسائر الأجسام.
فنفوا الصفات؛ حذراً مِنَ التمثيل.
ثُم يُبيِّنُ الشيخُ أنَّ هذه الشبهةَ قالَ بها كثير مِنَ الصفاتية مِنْ الأشاعرة، ونحوهم، فأخذوا بالمقدمة الثانية من هذه الشبهة؛ وهي:«تماثل الأجسام» ، ولم يسلموا بالمقدمة الأولى؛ وهي:(أن الصفات لا تقوم إلا بجسم)؛ بل قالوا: (إن الصفات قد تقوم بما ليس بجسم كما تقوم بالجسم)
(1)
، يعني: أن الصفات لا تنافي التجسيم، كما لا تستلزم التجسيم.
= قال الإمام ابن تيمية: «كان بارعاً في فن الكلام
…
أما الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وقول أئمتها؛ فكان قليل المعرفة به جداً».
له عدد من المؤلفات في: الفقه، والكلام، والأصول؛ منها:«نهاية المطلب في دراية المذهب» ، و «البرهان في أصول الفقه» ، و «غياث الأمم في التياث الظلم» ، وهذه كلها مطبوعة، وغيرها، توفي في «نيسابور» سنة 478 هـ.
انظر: «وفيات الأعيان» 3/ 167، و «التسعينية» 3/ 899 - 926، و «سير أعلام النبلاء» 18/ 468.
(1)
«شرح حديث النزول» ص 261، و «مجموع الفتاوى 16/ 394.
ولكنهم وقعوا في التناقض، حيث زعموا أن إثبات بعض الصفات لا يستلزم التجسيم، وإثبات بعضها الآخر يستلزم التجسيم، فما يثبتونه من الصفات؛ ك «العلم» ، و «القدرة» ، و «السمع» ، و «البصر» ؛ لا يستلزم التجسيم، وما لا يثبتونه من الصفات؛ ك «العلو» ، و «الاستواء» ، و «الغضب» ، و «النزول» ؛ يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة؛ فيلزم من ذلك التشبيه؛ فيجب نفيها عن الله تعالى بزعمهم.
وهذا التفريقُ مِنهم تحكُّمٌ وتناقض؛ لأنه تفريق بين المتماثلات، وليس عليه دليل سمعي، ولا عقلي.
والحقُ أن ضابطهم في ذلك - الذي أدى بهم إلى التناقض -: أنَّ ما دلتهم عقولهم على إثباته؛ لا يستلزم الجسمية، وما لم تدلهم عقولهم على إثباته، أو دلتهم على نفيه؛ نفوه، وزعموا أن إثباته يستلزم الجسمية، ولو جاءت به النصوص الشرعية!
* * *
وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى، وأمثاله مِنْ مثبتة «الصفات» ، و «العُلُو» ، ولكن هؤلاء قد يجعلون «العلو» صفةً خبرية - كما هو أول قَوْلَي القاضي أبي يعلى -؛ فيكون الكلام فيه؛ كالكلام في «الوجه» ، وقد يقولون:«إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم» ، كما يقولونه في سائر الصفات.
والعاقل إذا تأمل؛ وجدَ الأمر فيما نفوه؛ كالأمر فيما أثبتوه، لا فرق.
يقول الشيخ: إن القاضي أبا يعلى الحنبلي
(1)
، وأمثاله يثبتون (العلو) وسائر الصفات، ولكنهم يجعلون (العلو) صفة خبرية - كما في أول
(1)
هو: محمد بن الحسين بن محمد ابن الفراء، الإمام، العلامة، شيخ الحنابلة، ولد في سنة 380 هـ-، سمع الحديث، وقرأ بالعَشْر، وكان من الفقهاء البارعين، وله معرفة وتقدُّم في علوم القرآن، والتفسير، والنظر، والأصول.
وولي القضاء للخليفة القائم بأمر الله، وكان زاهداً عفيفاً ورعاً، تفقه على شيخ الحنابلة ابن حامد، وولي التدريس بعده، وتفقه عليه الكبار؛ كأبي الخطاب الكَلْوَذَاني، وابن عقيل، والشريف أبي جعفر، وسمع منه الحديث جماعة؛ كالخطيب البغدادي، ومحمد بن عبد الباقي.
له مؤلفات كثيرة في الفقه، والأصول، والعقيدة، منها:«الخلاف الكبير» ، و «أحكام القرآن» ، و «العدة» ، و «المعتمد» ، و «مختصره» ، و «عيون المسائل» ، توفي ب «بغداد» في عام 458 هـ.
انظر: «طبقات الحنابلة» 3/ 361، و «سير أعلام النبلاء» 18/ 89.
قَوْلَي القاضي أبي يعلى
(1)
-؛ فيكون الكلام في هذه الصفة؛ كالكلام في صفة (الوجه)، أي: أنها من قبيل الصفات الخبرية السمعية، التي لم يدل عليها العقل، وإنما تثبت لورود السمع بها فحسب.
كما أنه قد يوافق مَنْ تقدم ذكرهم ممَّن يقول بتماثل الأجسام.
فهم يقولون: «إن هذه الصفات تثبت لورود الخبر بها، وإنها لا تستلزم الجسم، ولا تنافيه، فقد تقوم بالجسم، وبما ليس بجسم» ، كما يقول ذلك مَنْ يثبت الصفات السبع، ويقوله هؤلاء في سائر الصفات التي يثبتونها.
وجَعْلُ القاضي صفةَ «العلو» صفة خبرية - أي: سمعية فقط - ليس بصحيح، والصواب: أن «العلو» صفةٌ خبريةٌ عقليةٌ، أي: دل على إثباتها: السمع، والعقل، بخلاف «الوجه» ، و «اليدين» ، و «الاستواء» ، ونحوها؛ فإنها صفاتٌ خبرية محضة.
وظاهر كلام المؤلف أن أول قولي القاضي أبي يعلى: جَعْلُ «العلو» صفة خبرية، وأن قوله الآخر: جعله صفة عقلية.
وإذا تأمل العاقل ما أثبتوه وما نفوه؛ لم يجد فرقاً، فإذا كان ما نفوه يستلزم التشبيه؛ فما أثبتوه كذلك، وإذا كان ما أثبتوه لا يستلزم التشبيه؛ فما نفوه كذلك.
(1)
«مختصر المعتمد» 1/ 294. ولم أجد قوله الجديد، ولعله في كتابه «عيون المسائل»؛ فهو مصنف في الخلاف مع المعتزلة والأشعرية، كما ذكره شيخ الإسلام في «درء تعارض العقل والنقل» 9/ 36. وقد ذكر قوليه - أيضاً - في: «درء تعارض العقل والنقل» 9/ 16، و «منهاج السنة» 2/ 328، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 360.
وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات؛ يستلزم التجسيم، والأجسامُ متماثلةٌ. والمثبتون يجيبون عن هذا، تارة: بمنع المقدمة الأولى، وتارة: بمنع المقدمة الثانية، وتارة: بمنع كلتا المقدمتين، وتارة: بالاستفصال.
ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام؛ قول باطل، سواء فسَّروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب مِنْ الهَيُوْلَى والصورة، ونحو ذلك.
فأما إذا فسَّروه بالمركب مِنْ الجواهر المفردة على أنها متماثلة؛ فهذا يُبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة. وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك.
يشير الشيخ إلى أن أصل كلام مَنْ تقدم ذكرهم مِنْ الأشاعرة، والمعتزلة، ونحوهم: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، فالمعتزلة يقولون هذا بإطلاق، والأشاعرة، ونحوهم ممَّن يثبت بعض الصفات يقولون هذا فيما ينفونه من الصفات.
ثم يبين الشيخ أنَّ مثبتةَ الصفاتِ كلِّها؛ يردون على شبهة من نفى الصفاتِ أو بعضَها - المبنيةِ على مقدمتين: إحداهما: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والثانية: أن الأجسام متماثلة - بأحد ردود أربعة:
* إما بمنع المقدمة الأولى.
* وإما بمنع المقدمة الثانية.
* وإما بمنع كلتا المقدمتين.
* وإما بالاستفصال.
فهم تارة يمنعون المقدمة الأولى، فيقولون:«لا نسلم أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، فالصفات قد تقوم بما ليس بجسم، كما تقول: «عِلمٌ واسعٌ» ، «خُلُقٌ عظيمٌ» ، «ليلٌ طويلٌ»
…
».
وتارة يمنعون المقدمة الثانية، فيقولون:«لا نسلم بتماثل الأجسام، فالتراب جسم، والطعام جسم، وليسا متماثلين، وكذا: الماء والنار، والحجر والحيوان، ونحو ذلك، فالأجسام مختلفة متباينة متغايرة» .
وتارة يمنعون المقدمتين.
وتارة بالاستفصال عن المراد بمعنى الجسم، ومعنى التماثل.
أما لفظ (الجسم)؛ فهو لفظ مجمل، ولم يرد بنفيه، ولا إثباته نص في الكتاب، ولا في السنة، وقد سبق في «القاعدة الثانية» حكم الألفاظ التي من هذا الجنس
(1)
، كما تقدم - أيضاً - في مبحث الروح
(2)
شيء من معاني (الجسم) التي يُفسَّر بها، فقد يفسر ب:
(1)
ص 291 وما بعدها.
(2)
ص 247.
* ما يشار إليه.
* أو ب: القائم بنفسه.
* أو ب: الموجود.
* كما قد يُفسر ب: (المركب مِنْ الهَيُوْلَى
(1)
والصورة. ونحو ذلك).
كما يستفصل عن المراد بالتماثل؛ فإن أريد به الاتفاق مِنْ بعض الوجوه، فهذا المعنى لا يصح نفيه؛ لأنه ما من شيئين موجودين؛ إلا وبينهما اتفاق من وجه.
وإن أريد بالتماثل أنه التماثل مِنْ كل وجه، بحيث يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه؛ فهذا المعنى باطل، فلا مماثلة بين الخالق والمخلوق في ذلك، ولا في شيء ممَّا يختص به سبحانه وتعالى.
بل إن هذا المعنى لا يصح إطلاقه في عموم الموجودات، فليس وجود الشيء مماثلاً لوجود سائر الموجودات، فالقول بتماثل الأجسام؛ قول باطل على أيِّ معنى فُسِّر به الجسم
(2)
.
وأشار الشيخ في معرض ذكره لمعاني الجسم إلى فساد ما فسروا به الجسم من أنه المركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فبيَّن أن هذا التفسير مبني على أمرين فاسدين مخالفين لقول جمهور العقلاء.
(1)
تقدم بيان الشارح لمعنى «الهيولى» في ص 251.
(2)
«شرح حديث النزول» ص 246، و «درء التعارض» 1/ 115 و 4/ 200 و 5/ 192 و 7/ 112، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 321، و «الصفدية» ص 314.
أما الأمر الأول؛ وهو: القول بوجود «الجوهر الفرد» الذي فَسَّروه ب «الجزء الذي لا يتجزأ» ؛ فهذا باطل؛ لأن الجزء ينتهي بالتجزؤ إلى الاستحالة
(1)
.
وأما الأمر الثاني؛ فهو: الزعم بأن الجواهر متماثلة، فهذا باطل على فرض التسليم بوجود «الجوهر الفرد» ؛ فإن ذرات وجزئيات التراب؛ ليست كجزئيات الذهب، وهذه ليست كذرَّات الماء، وهكذا، فلا يصح القول بتماثل تلك الجزئيات.
* * *
(1)
تقدم كلام الشارح على «الجوهر الفرد» في ص 251.
والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة ل «النَّصْبِ» على مَنْ تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناء على أن مَنْ أحبهما؛ فقد أبغض علياً رضي الله عنه!، ومن أبغضه؛ فهو ناصبي، وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى.
ولهذا يقول هؤلاء: «إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه» ، وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبيَّنا فيه حجج مَنْ يقول بتماثل الأجسام، وحجج من نفى ذلك، وبيَّنا فساد قول مَنْ يقول بتماثلها.
يبين الشيخ هنا أن هؤلاء النفاة يطلقون التشبيه على ما يستلزم التجسيم في اعتقادهم من إثبات الصفات بناء على قولهم بتماثل الأجسام.
ومثبتة الصفات ينازعونهم في المقدمتين، كما سبق تقريره.
ويضربُ الشيخُ لذلك مَثَلاً بإطلاقِ الرافضةِ (النَّصْبَ على مَنْ تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ بناء على أن من أحبهما؛ فقد أبغض علياً رضي الله عنه!، ومن أبغض علياً؛ فهو ناصِبي).
(وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى)؛ وهي: أن مَنْ تولى أبا بكر وعمر؛ فقد أبغض علياً، فإنه يمكن أن يحبهما، ويحب علياً كذلك.
فكذلك هؤلاء النفاة أطلقوا اسم التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناء على قولهم بتماثل الأجسام، والمثبتة ينازعونهم في المقدمتين.
وهؤلاء النفاة يقولون: (إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه).
والحق أنه ما من شيئين موجودين إلا ويتفقان من وجه ويختلفان من وجه، فهذا أصل عام متفق عليه عند أكثر العقلاء.
* * *
وأيضاً، فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه؛ اعتماد باطل، وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام؛ فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم؛ كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى «التشبيه» .
لكن نفي الجسم يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه، بأن يقال:«لو ثبت له كذا وكذا؛ لكان جسماً» ، ثم يقال:«والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب، ويجوز، ويمتنع، وهذا ممتنع عليه» . لكن حينئذٍ يكون مَنْ سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم؛ فيكون أصلُ نفيه؛ نفيَ الجسم، وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
هذا بيان من الشيخ لوجه آخر من فساد منهج الاستدلال عند النفاة على نفيهم الصفات، فهو يقول: إنه ما دام أنه مِنْ المتقرر عندكم نفي التجسيم بناء على أن الأجسام متماثلة؛ فيكفي أن تنفوا الصفات لاستلزامها التجسيم - في زعمكم -، ولا حاجة إلى أن تنفوا الصفات لاستلزامها التشبيه، والأجسام متماثلة، فهذا تطويل لا حاجة له.
عَوْدٌ إلى إبطال الاعتماد في نفي ما ينفى عن الله على مجرد نفي التشبيه
وإنما المقصود هنا: أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه؛ لا يفيد، إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه، ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك ممَّا هو سبحانه وتعالى مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة.
وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال، ونفى مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد؛ وهو: ألَّا يَشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه.
وكل صفة من صفات الكمال؛ فهو متصفٌ بها على وجه لا يماثله فيه أحد، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها:«إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات» .
هذه الجملة فيها عود على ما بدأ الشيخ الكلام فيه في أول القاعدة، مِنْ أن الاعتماد في تنزيه الله تعالى على مجرد نفي التشبيه؛ لا يفيد
(1)
، أي: أنه غير سديد؛ لأنه ما من شيئين موجودين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه.
(1)
ص 462.
بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب وإثبات الكمال؛ فهذا هو الضابط العقلي في تنزيه الله تعالى.
وكذلك في الإثبات؛ فإنه يُثبت له تعالى صفات الكمال على وجه لا يماثله فيه أحد، وينفى مماثلة غيره له فيها، والمماثلة المنفية هنا؛ هي: المماثلة فيما يختص به الرب تعالى.
* * *
إثبات القدر المشترك لا محذور فيه؛ فتجب لوازمه في صفات الخالق
قيل: «هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى، ولا نفي ما يستحقه؛ لم يكن ممتنعاً؛ كما إذا قيل: إنه «موجود» ، «حي» ، «عليم» ، «سميع» ، «بصير» ، وقد سمى بعض المخلوقات «حياً» ، «عليماً» ، «سميعاً» ، «بصيراً» ».
فإذا قيل: «يلزم أن يجوز عليه ما يجوز على ذلك؛ من جهة كونه «موجوداً» ، «حياً» ، «عليماً» ، «سميعاً» ، «بصيراً» ».
وذلك أن القدر المشترك؛ هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع والبصر أو السميع والبصير، أو القدرة أو القدير.
والقدرُ المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك؛ لا فيما يختص بالممكن المحدَث، ولا فيما يختص بالواجب القديم؛ فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه.
فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال؛ كالوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق؛ لم يكن في إثبات هذا محذور أصلاً؛ بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودَينِ لا بد بينهما مِنْ مثل هذا، ومَن نفى هذا؛ لزمه تعطيلُ وجودِ كلِّ موجود.
ولهذا لما اطَّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية؛ سموهم «معطِّلة» ، وكان جَهمٌ ينكر أن يُسمَّى الله «شيئاً» ، وربما قالت الجهمية:«هو شيء لا كالأشياء» ، فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً؛ لزم التعطيل التام.
تقدم أنه لا بد من إثبات قدر مشترك بين ما يضاف للخالق وما يضاف للمخلوق، وهذا القدر المشترك هو: مسمى الاسم المطلق
(1)
.
(1)
ص 211.
وبناء على هذا يأتي هذا السؤال الذي ذكره الشيخ هنا؛ وهو: أن الشيء إذا شابه غيره من وجه؛ جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له من هذا الوجه، وامتنع عليه ما امتنع عليه من هذا الوجه.
ومعنى ذلك: أنه إذا كان بين صفة الخالق، وصفة المخلوق قدر مشترك؛ جاز على الخالق ما يجوز على المخلوق من هذا الوجه الذي هو القدر المشترك، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه، أي: أن ما يستلزمه القدر المشترك؛ يلزم أن يثبت للخالق والمخلوق مِنْ هذا الوجه؛ لأنَّ لازمَ القدرِ المشتركِ مشتركٌ.
فهذا يقتضي إذاً؛ نفي القدر المشترك؛ لاستلزامه أن يثبت للمخلوق ما ثبت للخالق من هذا الوجه: جوازاً، ووجوباً، وامتناعاً.
والجواب: أن هذا القدر المشترك إذا كان لا يستلزم محذوراً مِنْ نفي ما يجب إثباته، أو إثبات ما يجب نفيه عن الله تعالى؛ فلا مانع منه، وإن استلزم ما ذكر مِنْ: الجواز، والوجوب، والامتناع من هذا الوجه، - يعني - باعتبار القدر المشترك، ما دام أنه لا يستلزم محذوراً، فهو لا يستلزم وصف الخالق بخصائص المخلوق؛ كالإمكان، والحدوث، ولا وصف المخلوق بخصائص الخالق؛ كالوجوب، والقِدم المطلق.
ويمكن أن يوضح هذا المعنى في لفظ: (الموجود)، و (الوجود)، و (الحي)، و (الحياة)؛ فالموجود هو الموصوف، والوجود هو الصفة، والحي هو الموصوف، والحياة هي الصفة.
فتقول: «اللهُ موجودٌ» ، و «المخلوقُ موجودٌ» ، فلفظ:«موجود» في الجملتين بينهما قدر مشترك؛ فهما يتفقان في مطلق ال «موجود» ، ووجود الخالق، ووجود المخلوق بينهما قدر مشترك؛ فهما يتفقان في مطلق الوجود.
وإذا قلنا: «اللهُ حيٌ» ، و «المخلوقُ حيٌ» ، فلفظ:«حي» في العبارتين بينهما قدر مشترك؛ فهما يتفقان في مطلق ال «حي» ، كما أن حياة الخالق وحياة المخلوق بينهما قدر مشترك؛ فهما يتفقان في مطلق الحياة، ومطلق الحياة؛ هو: الاسم العام، ومدلوله؛ هو: القدر المشترك.
وإذا نظرنا في مطلق الحياة؛ رأينا هذا المعنى الكلي: لا يستلزم حدوثاً، ولا وجوباً؛ فلا يستلزم شيئاً من خصائص الخالق، ولا خصائص المخلوق؛ لأنه لو استلزم شيئاً من ذلك لم يكن مشتركاً.
فالحيُّ - مثلاً -: «مَنْ ليس بميت» ، وهذا المعنى مُدْرَك بالعقل، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق، فيفهم من وصف الخالق تعالى بالحياة هذا المعنى، كما يفهم من وصف المخلوق الحي بالحياة هذا المعنى حال حياته.
والحياةُ معنىً وصفةُ كمال، فالحي أكمل ممن ليس بحي، فهذا اللازم ثابت في حق الخالق والمخلوق، وهذا المعنى لازمٌ للقدر المشترك.
فالقدرُ المشترك ثابتٌ ومشتركٌ في حق الخالق والمخلوق، ولازمُ القَدْر المشترك - أيضاً - ثابتٌ في حق الخالق والمخلوق ومشتركٌ،
ولا محذور في إثباته، ولازمُ صفةِ الخالقِ مختصٌ بالخالق، ولازمُ صفةِ المخلوقِ مختصٌ بالمخلوق، فحياةُ الخالق تستلزم القِدم، وحياة المخلوق تستلزم الحدوثَ، ومطلقُ الحياة لا تستلزم حدوثاً، ولا قِدماً.
وهذا الكلام يقال في سائر ما ذكره الشيخ من أمثلة في أسماء الله تعالى وصفاته.
فإذا كان القدرُ المشترك صفةَ كمالٍ لا محذور فيه، ولا يستلزم شيئاً من خصائص الخالق ولا المخلوق؛ لم يكن في إثبات هذا القدر المشترك محذور أصلاً.
بل إنَّ إثباتَ هذا القدرِ المشتركِ ضروريٌ؛ لِما تقرر مِنْ أنه ما مِنْ موجودَينِ إلا وبينهما اتفاق من وجه، واختلاف من وجه، ونفي هذا القدر المشترك؛ يلزم منه التعطيل العام.
فإذا قيل - مثلاً: «ليس بين وجود الخالق، ووجود المخلوق قدْر مشترك في مسمى الوجود» ؛ لزم من ذلك إنكار وجود الرب تعالى، وهكذا في سائر الصفات، بل تعطيل وجودِ كلِّ موجود.
قوله: (ولهذا لما اطَّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية
…
) أي: لما اطلع الأئمة على أن حقيقة قول الجهمية؛ هو تعطيلُ وجودِ الخالق تعالى؛ سموهم (معطلة)، فنفي أسماء الله تعالى وصفاته؛ يستلزم غاية التعطيل.
ويذكر الشيخ أن جهماً ينكر أن يُسمى اللهُ (شيئاً)
(1)
، ومعنى هذا عنده: أن الله ليس بشيء!، وهذا القولُ ظاهرُ البطلان.
والحقُّ أنه يصح أن يُخبَرَ عن الله تعالى بأنه شيء؛ بل هو أكبر مِنْ كل شيء، كما قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ} [الأنعام: 19].
ولكن هذا الإطلاق مِنْ باب الخبر، لا من باب التسمية، والثناء، والدعاء، كما يطلق عليه بأنه «موجود» مِنْ باب الخبر - أيضاً -، ولكن لا يدعا بذلك، فلا يقال:«يا شيء» أو: «يا موجود» ونحو ذلك.
فبابُ الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات.
وربما قالت الجهمية: (إنه شيء لا كالأشياء)، فقولهم:(إنه شيء) صحيح، وقولهم:(إنه لا كالأشياء)؛ يدخلون فيه نفي الصفات، فمعنى كلامهم: إنه لا تقوم به أي صفة، فقولهم هذا؛ حقيقته التعطيل والنفي المحض؛ لأنهم ينفون القَدْر المشترك، ولازم ذلك: التعطيل التام
(2)
.
* * *
والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى؛ كالحياة، والعلم، والقدرة؛ بل الوجود، والثبوت، والحقيقة، ونحو ذلك؛ تجب له لوازمها؛ فإن ثبوت الملزوم؛ يقتضي ثبوت اللازم.
وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها؛ ليست من لوازم ذلك أصلاً، بل تلك مِنْ لوازم ما يختص بالمخلوق؛ من: وجود، وحياة، وعلم، ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى مُنزَّه عن خصائص المخلوق، وملزومات خصائصه.
وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً، وتدبره؛ زالت عنه عامة الشبهات، وانكشفَ له غلطُ كثيرٍ مِنْ الأذكياء في هذا المقام، وقد بسط هذا في مواضع كثيرة، وبُيِّن فيها:
أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيَّناً مقيَّداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور؛ هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أنَّ الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجودٍ متميِّز عن غيره ب: ذاته، وصفاته، وأفعاله.
المعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى؛ وهي: صفاته؛ كحياته، وعلمه، وقدرته؛ بل حتى الوجود، والثبوت، والحقيقة، ونحو ذلك مِنْ المعاني المشتركة؛ تجب له لوازمها، وليس مِنْ لوازمها ما يختص به
المخلوق؛ كالإمكان، والحدوث، والنقص، فهذه مِنْ لوازم صفات المخلوق، وليست من لوازم صفات الخالق؛ بل ولا من لوازم القَدْر المشترك.
والقدر المشترك؛ هو: «مسمى الاسم العام المطلق» ، وهذا لا وجود له في الخارج، وإنما يوجد في الذهن فقط.
ومعنى كون الموجودات تشترك في هذا؛ أن هذا الاسم يطلق على هذا وعلى هذا، وأن معنى هذا الاسم ثابت لهذا ولهذا، لكن في حق كل واحد على ما يناسبه.
فالحيُّ مطلقاً اسمٌ لذي الحياة، بقطع النظر عن كون الحياة واجبة أو ممكنة، فمسمى هذا الاسم المطلق؛ لا وجود له في الخارج، لكنه يُسمى به الخالق والمخلوق، فيطلق على الخالق على ما يناسبه ويختص به، كما يطلق على المخلوق بما يناسبه ويختص به، فليس بين الحي والحي اشتراك في أمر خارجي، بل حياة الخالق مختصة به لا يشركه فيها غيره، وحياة المخلوق مختصة به.
كما سبق في توضيح ذلك في لفظ: «إنسان»
(1)
الذي يصدق على كل واحد منا، هذا هو مسمى الاسم المطلق، وهذا المعنى المشترك إنما هو في الذهن، أما في الخارج فلا يوجد إلا معيناً مقيداً، فلا اشتراك فيما يخص كل واحد من معنى ووصف، فإذا مات شخص -
(1)
ص 129 و 431 و 434.
مثلاً -؛ فلا يلزم أن يموت الآخر، وإذا كفر شخص؛ فلا يلزم أن يكون الآخر كذلك.
أما لوازم الإنسانية المطلقة؛ أي: القدر المشترك، فهي مشتركة بين كل الناس؛ كاستلزام الإنسانية ل: الإمكان، والحدوث، والافتقار، والحيوانية، والآدمية.
والمعاني التي يوصف بها الرب تعالى ممَّا يصح إضافتها إلى الله تعالى؛ تجب له لوازمها مِنْ: العلم، والقدرة، والوجود، والثبوت، والحقيقة، وغير ذلك، وليس مِنْ لوازم ما يوصف به الرب خصائص المخلوق، فاللهُ تعالى منزَّهٌ عن خصائص المخلوق؛ كالإمكان، والحدوث، والنقص، ونحو ذلك، كما أنه تعالى منزَّهٌ عن ملزومات خصائص المخلوقين.
والملزوم: ما يستلزم غيره
(1)
.
فاللهُ تعالى منزَّهٌ عن النقص، وعمَّا يستلزم النقص، وانتفاء اللازم؛ يقتضي انتفاء الملزوم، فإذا كان الله تعالى منزهاً عن الافتقار؛ فهو منزَّهٌ عنه، وعن ملزومه، أي: عمَّا يستلزم الافتقار. وهكذا بقية خصائص المخلوقين.
ثم أعاد الشيخ ما سبق أن ذكره وبيَّنه مِنْ معنى القدر المشترك، وأنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً مقيداً، كما سبق توضيحه في لفظ:
(1)
تقدم بيان معنى «اللازم» ، و «الملزوم» في ص 415.
«الإنسان» وغيره، فكل اسم من هذه الأسماء المطلقة والمعاني الكلية؛ هو مشترك في الذهن والتصور.
أما في الخارج فلا يوجد مشتركاً، وإنما يوجد معيناً في أفراد، ومعنى كونه مشتركاً؛ أي: يصح إطلاق هذا الاسم العام على كل فرد منها، فهي مشتركة في مدلوله العام، فالمعنى العام لهذا الاسم يطلق على هذا وهذا، أي: على جميع أفراده في الخارج.
وليس معنى الاشتراك أنَّ الموجوداتِ في الخارج تشترك في شيء وأمر موجود في هذا وهذا؛ بل كل موجود متميز عن غيره ب: ذاته، وصفاته، وأفعاله المختصة به
(1)
.
* * *
(1)
تقدم الكلام على نحو هذا المعنى في مواضع منها ص 129 و 146 و 211 و 226 و 431 وغيرها.
تناقض كثير من الناس في إثبات القدر المشترك ونفيه
ولما كان الأمر كذلك؛ كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارة: يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل؛ فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذراً من ملزومات التشبيه، وتارة: يتفطن أنه لا بدَّ من إثبات هذا على كل تقدير؛ فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة.
ولكثرة الاشتباه في هذا المقام؛ وقعت الشبهة في أن وجود الرب: هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ «الوجود» مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطؤ، أو التشكيك؟ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟، وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟
وقد كثر مِنْ أئمة النُظَّار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات، فتارة: يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة: يبقى في الشك والتَّحيُّر، وقد بسطنا مِنْ الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط
والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة، ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة.
يذكر الشيخ أنه لما تقرر إثبات القدر المشترك، وأنه ما من شيئين موجودين إلا ويشتركان من وجه ويختلفان من وجه، ولما تقرر - أيضاً - أنه لا بدَّ من نفي التشبيه الباطل، لما كان الأمر كذلك؛ وقع كثير من الناس في التناقض، والاضطراب.
فتارة: ينفون القدر المشترك؛ لاعتقاد أنه من التشبيه الذي يجب نفيه، وتارة: يرون أنه لا بدَّ منه؛ فيثبتونه ويجيبون به من نازعهم فيما أثبتوه، وهذا يصدق في حق من أثبت بعض الصفات ونفى بعضاً؛ فإنه لا بدَّ أن يثبت قدراً مشتركاً فيما أثبت، مع كونه ينفي هذا القدر المشترك فيما ينفيه من الصفات؛ فيقع في التناقض في المذهب، وفي الشبهة.
وفي أثناء ذكر ذلك يستطرد الشيخ؛ فيذكر بعض القضايا الكلامية التي كثر فيها النزاع؛ وهي:
1 -
هل وجود الرب تعالى عين ماهيته أو زائد عليها؟
2 -
هل الوجود مقول على الموجودات بالاشتراك اللفظي، أو التواطؤ، أو التشكيك؟
3 -
هل الأحوال موجودة أو ليست موجودة؟
4 -
هل المعدوم شيء أو ليس بشيء؟
5 -
هل وجود الموجودات زائد على ماهيتها أو لا؟
ونلاحظ أن الأول داخل في الخامس.
ويذكر الشيخ كثرة اضطراب المتكلمين وتناقضهم في ذلك، وحكاية بعضهم أقوالاً لم يقلها أحد، ثم يبين الصواب في ذلك.
* * *
القول الفصل في القضايا الخمس المذكورة
وبيَّنا أن الصواب؛ هو: أنَّ وجودَ كلِّ شيء في الخارج؛ هو ماهيته الموجودة في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن؛ فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ:«الوجود» ؛ كلفظ: «الذات» ، و «الشيء» ، و «الماهية» ، و «الحقيقة» ، ونحو ذلك.
وهذه الألفاظ كلها متواطئة، وإذا قيل:«إنها مشكِّكة، لتفاضل معانيها» ، فالمشكِّك نوع من المتواطئ العام، الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده، أو متماثلاً.
وبيَّنا أن المعدوم شيء - أيضاً - في العلم والذهن؛ لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به.
وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعيَّنة، فتتشابه بذلك، وتختلف به.
وأما هذه الجمل المختصرة؛ فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، مَنْ فهمها عَلِمَ قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى،
وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر؛ إذ «لكلِّ مقامٍ مقالٌ» .
والمقصود هنا: أن الاعتمادَ على مثل هذه الحجة فيما يُنفى عن الرب، وينزَّه عنه - كما يفعله كثير من المصنفين -؛ خطأٌ لمن تدبَّر ذلك، وهذا مِنْ طرق النفي الباطلة.
بدأ الشيخ هنا بذكر الصواب في المسائل التي تناقض فيها المتكلمون واضطربوا.
أمَّا المسألة الأولى؛ وهي: «كون وجود الشيء عين ماهيته أو زائداً عليها» ، فالصواب: أن وجودَ كلِّ شيء موجود؛ هو عين ماهيته في الخارج، وأن وجوده في الخارج زائد على وجوده في الذهن، فالوجود الذهني وجود علمي، ولا يلزم من كون الشيء موجوداً في الذهن أن يوجد في الخارج، بل قد يوجد في الخارج، وقد لا يوجد
(1)
.
وأما المسألة الثانية؛ وهي: اشتراك الموجودات في الوجود هل هو من قبيل المشترك اللفظي، أو المتواطئ، أو المشكِّك؟ فالمسألة فيها ثلاثة أقوال:
(1)
«حقيقة مذهب الاتحاديين» ص 156، و «منهاج السنة» 1/ 376، و «الرد على المنطقيين» ص 106.
والقول الثاني والثالث؛ الخطب فيهما يسير؛ لأن المشكك نوع من المتواطئ العام، فالمتواطئ؛ هو:«الذي يشترك أفراده في معناه، سواء مع التفاضل، أو التساوي»
(1)
.
والمشكِّك: خاص ب «المتواطئ الذي تفاضل أفراده في معناه» ، كما في نور الشمس والسراج؛ فهما مشتركان في معنى النور العام مع تفاوت في حقيقته.
وإنما سمي المشكِّك مشكِّكاً؛ لأن الناظر فيه يتردد ويشك، هل هو من المتباين، أو من المتواطئ؟ فإذا نظر إلى التفاوت؛ ظن أنه مِنْ المتباين، وإذا نظر إلى الاتفاق في المعنى؛ جعله من المتواطئ، فالإنسان باعتبار أفراد الإنسان؛ يعد متواطئاً، والنور باعتبار التفاضل والتفاوت فيه يعد مشكِّكاً.
وأما الوجود؛ فالأقرب أن يكون مشكِّكاً لوجود التفاوت العظيم في وجود الموجودات؛ كما في وجود البعوضة، ووجود العرش مثلاً.
وأما المسألة الثالثة؛ وهي: هل المعدوم شيء، أو ليس بشيء؟
فيه قولان، والصواب التفصيل
(2)
.
فالمعدوم شيء في العلم، فله وجود في الذهن، وليس شيئاً في الخارج.
(1)
تقدم تعريف المتواطئ في 434 و 446، وكذا الكلام على هذه المسألة.
(2)
«حقيقة مذهب الاتحاديين» ص 143 - 159، و «مراتب الإرادة» ص 182، و «منهاج السنة» 1/ 376، و «الجواب الصحيح» 2/ 479.
فتقول - مثلاً -: أريد أن أفعل شيئاً، فهذا الشيء المذكور موجود في الذهن، وليس موجوداً في الخارج.
ومن ذلك قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)} [الإنسان]، وقوله تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم] أي: قبل الخلق. فوجوده في العلم؛ بل وفي الرسم أيضاً؛ لأنه مكتوب، وإن كان غير موجود في الخارج حينذاك، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (40)} [النحل]، فهذا الشيء ليس موجوداً في الخارج؛ لأنه يمتنع إيجاد الموجود، فهذا في الإثبات، والأول في النفي.
وأما المسألة الرابعة؛ وهي: الكلام في الأحوال إثباتاً ونفياً
(1)
، والمراد بالأحوال: النسبة بين الصفة والموصوف، مثل: قيام وقائم، فالصفة القيام، والموصوف القائم، والنسبة هي: نسبة القيام إلى القائم، وبعضهم يعبر عن ذلك ب: كون الشيء قائماً، أو كونه عالماً، أو كونه قادراً، ونحو ذلك.
فهذه النسبة ليست شيئاً زائداً موجوداً في الخارج، وإنما توجد الصفة والموصوف الذي قامت به تلك الصفة، فالنسبة، أي: نسبة الصفة للموصوف، وقيام الصفة بالموصوف وكون الشيء موصوفاً بالصفة؛ معنى ذهني عقلي، وهو النسبة والإسناد والإضافة، فليس هناك شيء ثالث في الخارج زائد عن الصفة والموصوف.
(1)
«شرح حديث النزول» 92، و «درء التعارض» 5/ 35 و 9/ 395، وانظر: ص 625، حاشية رقم (1).
وقول الشيخ: (والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة
…
) وهي: أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فالاعتماد عليها من طرق النفي الباطلة، وهذا من ختم الكلام بما بدأ به، تأكيداً له وتذكيراً به، حيث قال في مطلع «القاعدة»:(إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه؛ ليس بسديد)
(1)
.
* * *
(1)
ص 462.
فساد الاعتماد في تنزيه الله عن النقائص على نفي التجسيم
فصل
وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عمَّا يجب تنزيهه عنه ممَّا هو من أعظم الكفر -، مثل: أن يريدوا تنزيهه عن: «الحُزْن» ، و «البكاء» ، ونحو ذلك.
ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: «إنه بكى على الطوفان حتى رَمِدَ
(1)
، وعادته الملائكةُ»
(2)
، والذين يقولون بإلهية بعض البشر، وأنه الله، - فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم، أو التحيز، ونحو ذلك، ويقولون:«لو اتصف بهذه النقائص والآفات؛ لكان جسماً أو متحيزاً؛ وذلك ممتنع» .
وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوه:
(1)
«الرَّمَدُ: وجع العين، وانتفاخُها» . «لسان العرب» 3/ 185.
(2)
حكاه عنهم الشيخ في مواضع من كتبه ك «درء التعارض» 6/ 348، و «الجواب الصحيح» 1/ 350، وكذا ابن القيم في «هداية الحيارى» ص 245.
بعد أن بيَّن الشيخ فساد الاعتماد في التنزيه على مجرد نفي التشبيه، ذكر هنا طريقة أخرى أفسد مِنْ سابقتها؛ وهي: الاعتماد في تنزيه الله تعالى عمَّا يجب تنزيهه عنه ممَّا هو من أعظم الكفر على نفي التجسيم والتحيز، وهذه الطريقة يسلكها نفاة الصفات أو بعضها مِنْ المعتزلة والأشاعرة.
فإذا أراد أولئك تنزيه الله تعالى عن صفات النقص؛ ك «الحزن» ، و «البكاء» ، و «المرض» ، و «الولد» ، و «البخل» ، و «الفقر» ، ونحو ذلك - ممَّا يصفه به أعداء الله تعالى من اليهود وغيرهم -، فإذا أراد هؤلاء المتكلمون نفاة الصفات أو بعضها تنزيه الله تعالى عن هذه الصفات ونحوها، التي يعد القول بها من أعظم الكفر والرد على اليهود ونحوهم في ذلك، فإنهم ينفونها بحجة أن إثباتها مستلزم للتجسيم والتحيز، وهذا ممتنع على الله.
والشيخ هنا يبين أن الاعتماد في تنزيه الله تعالى عن هذه النقائص التي يصفه بها الكفار على حجة استلزامها للتجسيم، أن هذه الطريقة فاسدة لا يحصل بها المقصود من إبطال الباطل؛ بل إن سلوكها من قِبَل المعتزلة، والأشاعرة؛ سبَّب أن تسلط عليهم الملاحدة من نفاة الأسماء والصفات؛ كالجهمية، والباطنية، والفلاسفة.
فإنهم يقولون: إنكم إذا نفيتم ما نفيتم من الصفات بحجة استلزامها للتجسيم، ورددتم على اليهود الذين وصفوا الله تعالى بالنقائص
بالحجة نفسها؛ فكذلك يلزمكم ذلك فيما أثبتم من الأسماء الصفات؛ فإنه مستلزم للتجسيم
(1)
.
واعتراض الشيخ عليهم هنا مُنْصَبٌّ على الدليل لا على أصل المسألة، فنفي النقائص عن الله تعالى حق، ولكن طريقتهم التي سلكوها في ذلك فاسدة لا يحصل بها المقصود، وبيَّن ذلك من وجوه:
* * *
(1)
«شرح حديث النزول» ص 126، و «منهاج السنة» 2/ 563، و «الرسالة الأكملية» ص 74، و «الفرقان بين الحق والباطل» ص 164، و «درء التعارض» 1/ 129 و 7/ 95.
أحدها: أن وَصْف الله تعالى بهذه النقائص والآفات؛ أظهر فساداً في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم، فإن هذا فيه مِنْ: الاشتباه، والنِّزاع، والخفاء ما ليس في ذلك، وكُفْرُ صاحبِ ذلك؛ معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
والدليلُ مُعرِّف للمدلول، ومبيِّن له، فلا يجوز أن يُستدل على الأظهرِ الأبين بالأخفى، كما لا يُفعل مثل ذلك في الحدود.
الوجه الأول من وجوه بيان فساد طريقة المتكلمين في نفي النقائص عن الله تعالى بنفي التجسيم والتحيز؛ أن يقال:
إن تنزيه الله تعالى عن هذه النقائص والآفات؛ كالحزن، والبكاء، والمرض؛ أظهر في العقل والدين من نفي الجسم والحيز عن الله تعالى؛ فإن نفي التحيز والتجسيم فيه مِنْ: الخفاء، والنزاع، والاشتباه ما ليس في الأول، فليس في المسلمين مَنْ يُنازِع في نفي الحزن، والبكاء، والمرض، ونحو ذلك عن الله تعالى؛ لأن كفرَ مَنْ وَصْف الله تعالى بذلك؛ معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ بخلاف التجسيم - مثلاً - ففيه نزاع، وخفاء، واشتباه، فهناك من أثبته؛ كالكرَّامية
(1)
، وهناك من استفصل في معناه، وهم أهل السنة، وهكذا.
(1)
نسبة إلى محمد بن كرَّام السجستاني، وسيأتي حديث للمؤلف عنهم في ص 628، وترجمته هناك.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا يصح الاستدلال بالأخفى على الأظهر؛ لأن المفترض أن يكون الدليلُ أظهرَ وأبين من المدلول، كما يفعل في الحدود - يعني: التعريفات - فالشيء يُعَرَّف بما هو مَعروف لدى المخاطب، لا بشيء أخفى مِنْ المعرَّف، أو بما لا يفهمه المخاطب.
فجَعْلُ هؤلاء نفي التجسيم دليلاً على نفي البكاء، والحزن، والمرض عن الله تعالى؛ لا يصح، بل هو فاسد؛ لما سبق.
* * *
الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات؛ يمكنهم أن يقولوا: «نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز» ، كما يقوله مَنْ يثبت الصفات وينفي التجسيم؛ فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة صفات الكمال، فيصير كلام مَنْ وصف الله بصفات الكمال، وصفات النقص؛ واحداً! ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد.
الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفون الله تعالى بالنقائص والآفات من اليهود ونحوهم؛ يمكنهم أن يجيبوا عن دليل المتكلمين على نفي هذه النقائص؛ وهو: نفي التجسيم والتحيز، فيقولون: نحن نثبت ما نثبت، (ولا نقول بالتجسيم والتحيز).
كما يقول مِثلَ ذلك مثبتةُ صفاتِ الكمال من أهل السنة والجماعة، الذين يثبتون لله تعالى صفات الكمال، وينفون إطلاق لفظ: التحيز، والتجسيم.
فيكون رد المتكلمين على الطائفتين واحداً، أي: يكون ردهم على مَنْ يثبت لله تعالى صفات الكمال بنفس الحجة التي ردوا بها على من يثبت لله تعالى صفات النقص، وهي القول باستلزام ذلك للتحيز، والتجسيم.
وهذا يتضمن التسوية في الرد على مَنْ يصف الله تعالى بالنقائص، ومن يصفه بصفات الكمال، وفي ذلك تسوية بين الحق والباطل، فطريقة تفضي إلى ذلك؛ طريقة فاسدة؛ بل في غاية الفساد.
* * *
الثالث: أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافُه بصفات الكمال واجبٌ ثابتٌ بالعقل والسمع؛ فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة.
الرابع: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكلُّ مَنْ أثبت شيئاً منهم؛ ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كلَّ مَنْ نفى شيئاً منهم؛ ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي.
فمثبتةُ الصفات؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر؛ إذا قالت لهم النفاة؛ كالمعتزلة:«هذا تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، فإنا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلا جسماً» .
قالت لهم المثبتة: «وأنتم قد قلتم: «إنه حي، عليم، قدير» ، وقلتم:«ليس بجسم» ، وأنتم لا تعلمون موجوداً، حياً، عالماً، قادراً؛ إلا جسماً، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن»، وقالوا لهم:«أنتم أثبتم حياً، عالماً، قادراً، بلا حياة، ولا علم، ولا قدرة، وهذا تناقض يُعلم بضرورة العقل» .
ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى، ويغضب، ويحب، ويبغض، أو مَنْ وصفه بالاستواء، والنزول، والإتيان، والمجيء، أو بالوجه، واليد، ونحو ذلك؛ إذا قالوا:«هذا يقتضي التجسيم؛ لأنَّا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم» .
الوجه الثالث: أن هؤلاء النفاة من المعتزلة والأشاعرة يبنون قولهم في نفي الصفات على هذه الطريقة؛ وهي: نفي التجسيم والتحيز، ومِنَ المعلوم أنَّ إثباتَ الصفاتِ حقٌ ثابتٌ بالعقل والسمعِ، والحقُ لا يمكن أن يقوم على نفيه دليلٌ صحيح، وأيُّ دليل يقام على إبطال هذا الحق؛ فهو باطل؛ وعليه؛ فدليلُ هؤلاء على نفي صفات الكمال عن الله؛ دليلٌ باطل؛ لاستلزامه نفي الحق الثابت.
والوجه الرابع: مِنْ وجوه فساد هذه الطريقة: أن سالكيها متناقضون، والتناقضُ دليلُ الفساد، ولو كانت صحيحة؛ لم تتناقض، والكلامُ هنا مع الأشاعرةِ، والمعتزلةِ؛ فالمعتزلةُ يوافقون الأشاعرة في إثبات الأسماء، والأشاعرة يوافقون المعتزلة في نفي ما نفوه هم مِنْ الصفات.
فيقول المعتزلة للأشاعرة: «إثباتكم لما أثبتم من الصفات؛ يستلزم التجسيم؛ لأن هذه الصفاتِ أعراضٌ، والأعراضُ لا تقوم إلا بجسم؛ فإثباتها مستلزم للتجسيم، والله تعالى مُنزَّهٌ عن التجسيم» .
فكلُّ مَنْ أثبت شيئاً؛ ألزَمَ الآخَرَ بإثباته؛ بحجة ما يوافقه فيه مِنْ الإثبات، كما أن كلَّ مَنْ نفى شيئاً منهم؛ ألزَمَ الآخَرَ بنفيه؛ بحجة ما يوافقه فيه من النفي.
فالمعتزلةُ يحتجون على الأشاعرة بما وافقوهم فيه مِنْ النفي، والأشاعرةُ يحتجون على المعتزلة بما وافقوهم فيه من الإثبات.
وأهل السنة - أيضاً - يمكنهم أن يسلكوا هذه الطريقة؛ فيحتجوا على كل منهم بما عندهم من الإثبات.
فإذا قال الأشاعرة: «إن إثبات الرضا، والغضب، والمحبة، والبغض، والاستواء، والنزول، والإتيان، والمجيء، والوجه، واليد، ونحو ذلك؛ مستلزمٌ للتجسيم» .
وليس المرادُ هنا بيانَ بطلانِ مذهبهم، وإنما المراد بيان تناقضهم في سلوكهم هذه الطريقة في النفي والتنزيه. والتناقضُ دليلُ الفساد، فهذه الطريقة فاسدة.
* * *
سلامة مذهب السلف من الطرق الفاسدة
ولهذا لما كان الرد على مَنْ وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً؛ لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله تعالى ب «الجسم» لا نفياً ولا إثباتاً، ولا ب «الجوهر» ، و «التحيز» ونحو ذلك؛ لأنها عباراتٌ مجملة لا تُحِق حقاً، ولا تبطل باطلاً.
ولهذا لم يذكرِ الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتَدَع الذي أنكره السلف والأئمة.
بعد أن قرر الشيخ فساد الاعتماد في تنزيه الله تعالى على مجرد نفي التجسيم، بيَّن أنه مِنْ أجل ذلك؛ لم يسلكها السلف الصالح، فلم يأت عن أحد من السلف الصالح إطلاق القول في:(الجسم)، و (الجوهر)، و (التحيز) نفياً ولا إثباتاً.
وقد تقدم في «القاعدة الثانية»
(1)
الكلام في أن هذا ممَّا تنازع فيه المتأخرون، وأن الواجب في مثل هذا النوع: الوقف عن إطلاق هذا اللفظ، والاستفصال عن المعنى المراد؛ فإن أراد المتكلم حقاً؛ قُبل المعنى، وإن أراد باطلاً؛ رُدَّ، وإن أراد حقاً وباطلاً؛ قُبل الحق، ورُدَّ الباطل.
ثم إنه يقال لمن أراد حقاً: أحسنت فيما أردت، ولكن هذا اللفظ لا يطلق؛ لأمرين:
أحدهما: أنه لفظ مبتدع.
الثاني: أنه لفظ يحتمل حقاً وباطلاً، فلا يجوز استعمال مثل هذا اللفظ الذي يكون مدخلاً لأهل الباطل.
ولأجل أن هذه الألفاظَ مجملةٌ، لم يذكرِ الله تعالى في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار شيئاً من هذا القبيل، وإنما أنكر عليهم وذمَّهم على ما نسبوه إليه من صفات النقص؛ كالفقر
(2)
، والبخل
(3)
.
* * *
(1)
ص 291.
(2)
قال تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق (181)} [آل عمران].
(3)
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64].
فساد الاعتماد فيما يثبت لله على مجرد نفي التشبيه
فصل
وأمَّا في طرق الإثبات؛ فمعلوم - أيضاً - أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه؛ إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه؛ لجاز أن يوصف الله سبحانه وتعالى مِنَ الأعضاء، والأفعال بما لا يكاد يحصى ممَّا هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه.
وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، كما لو وصفه مفترٍ عليه ب «البكاء» ، و «الحزن» ، و «الجوع» ، و «العطش» مع نفي التشبيه.
وكما لو قال المفتري: «يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم» ، كما يقال:«يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم» .
ولجاز أن يقال: «له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم» ، كما قيل:«له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم» ، حتى يذكر المعدة، والأمعاء والذكر، وغير ذلك ممَّا يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً.
يذكر الشيخ هنا الضابط الثاني الذي سبق أن أشار إليه في مطلع «القاعدة»
(1)
؛ وهو: أنه لا يصح الاعتماد في إثبات الصفات لله تعالى على مجرد نفي التشبيه.
ومعناه عند من يقول به: أنَّ كلَّ ما ليس فيه تشبيه؛ يجوز إثباته لله تعالى.
ووجه فساده: أنه لو قيل بذلك؛ للزم منه؛ أنه يجوز - عقلاً - أن يوصف الله تعالى بما لا يحصى من الأعضاء والأفعال من غير تشبيه.
كما لو قال مفترٍ على الله: «إنه تعالى يأكل ويشرب، ويجوع ويعطش، ويبكي ويحزن، - ونحو ذلك ممَّا هو ممتنع عليه تعالى - مع نفي التشبيه» ، أي: مع نفي مشابهة هذه الصفات لصفات الخلق.
ويجعل ذلك مثل وصف أهل الحق لله تعالى بصفات الكمال مع نفي التمثيل، حين يقولون - مثلاً -:(إنه يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم).
وكذلك يثبتُ المفتري على الله: أعضاء لله تعالى ممتنعة عليه، فيصفه بها مع نفي التشبيه، ويجعلها مثلَ وصفه تعالى بأنه:(له وجهٌ لا كوجوه الخلق، ويدان لا كأيديهم).
(1)
في قوله: «إذ الاعتماد في هذا الباب على
…
مطلق الإثبات من غير تشبيه؛ ليس بسديد». ص 462.
فالاعتماد فيما يجوز على الله في باب الإثبات على مجرد نفي التشبيه؛ يلزم منه هذا الباطل؛ وهو: تجويز وصف الله تعالى بما يتنزَّه عنه، ويمتنع عليه مع نفي التشبيه؛ وما لزم منه الباطل؛ فإنه باطل.
والظاهر أن الشيخَ يقصدُ بذلك أهل الكلام؛ مثل: الأشاعرة فيما يرون جواز اتصاف الباري به عقلاً؛ فيثبتونه مع نفي التشبيه.
ومِنَ المعلوم بداهة؛ أنه لا يلزم مَنْ سلك هذه الطريقة: أن يصف الله تعالى بهذه النقائص، وإن كان جوازُها على الله؛ لازمَ مذهبِه؛ لأنَّ القولَ الحقَ: أنَّ لازمَ المذهبِ؛ ليس بمذهب؛ إلا إذا التزمه صاحب المذهب، ولكن إذا كان يلزم عليه باطل؛ دل على بطلانه
(1)
.
* * *
(1)
«القواعد الكلية» ص 254، و «مجموع الفتاوى» 16/ 461 و 20/ 217، و «درء تعارض العقل والنقل» 8/ 108، و «الكافية الشافية» ص 229.
لا بد من فرق في نفس الأمر بين ما يثبت لله وما ينفى عنه؛ فلا يكفي الاعتماد في نفي ذلك على السمع
فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا، وبين ما أثبته، إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات؟
فلا بدَّ من إثبات فرق في نفس الأمر.
فإن قال: «العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يَجِئْ به السمع» .
قيل له: «أولاً: السمعُ هو خبرُ الصادق عمَّا هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق؛ فهو حقٌ مِنْ نفي أو إثباتٍ، والخبرُ دليلٌ على المخبَر عنه، والدليلُ لا ينعكس، فلا يلزمُ مِنْ عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمعُ يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمرِ، وإن لم يرد به السمعُ؛ إذا لم يكن قد نفاه.
ومعلوم أنَّ السمعَ لم ينفِ كلَّ هذه الأمورِ بأسمائها الخاصة، فلا بدَّ مِنْ ذكر ما ينفيها مِنْ السمع، وإلا فلا يجوز حينئذٍ نفيها، كما لا يجوز إثباتها».
يقول الشيخ: (فإنه يقال لمن نفى ذلك) - أي: صفات النقص، وما يجب تنزيه الله عنه من: الأفعال، والأعضاء مع إثبات الصفات الخبرية؛ كالوجه، واليدين، والصفات العقلية؛ من: العلم، والقدرة، والسمع وغيرها - يقال له:(ما الفرق بين ما نفيته، وما أثبته) ما دام أنَّ اعتمادك من جهة العقل فيما يجوز على الله على مجرد نفي التشبيه؟!
وعلى هذا فإنه يلزمه على قاعدته في الإثبات: أن يجيز إثبات الجميع مع نفي التشبيه دون تفريق بين الصفات.
فإنْ قال مَنْ يجعلُ الضابطَ له في مطلقِ الإثباتِ مجردَ نفي التشبيه مع كونه ينفي النقائص عن الله تعالى، إن قال هذا في حجته في التفريق بين ما نفاه من صفات النقص، وما أثبته مِنْ صفات الكمال: إن العمدةَ في الفرق بين ما أثبتُّ وما نفيتُ؛ السمعُ، - يعني: النصوص الشرعية - فما جاء في النص إثباته أثبتُّه، وما جاء في النص نفيه نفيتُه.
فهو يجعلُ الفرقَ بين إثباتِ صفاتِ الكمالِ لله؛ كالوجه، واليدين، ونفي صفات النقص عن الله تعالى؛ كالجوع، والحزن، والبكاء؛ مجرَّدَ أنَّ الأول جاء به السمع، والثاني لم يرد به السمع. والشيخ هنا يبين فساد الاعتماد على هذا المسلك.
فمَن جعلَ العمدةَ في الفرق بين ما يُثبِتُ لله من صفات الكمال وما يَنفي عنه من صفات النقص؛ هو: السمع، فما جاء في السمع إثباته؛ أثبتَه، وما جاء في السمع نفيه؛ نفاه، يقال له:
أولاً: إن السمع خبرُ الصادقِ، والخبرُ الصادقُ: إخبارٌ بما الأمر عليه، أي: إخبارٌ عن الواقع، وهذا حقٌ في النفي والإثبات، وهذا الخبر؛ هو: الدليل على المخبَر عنه، والدليل لا ينعكس.
ومعنى أن الدليل لا ينعكس: أي: لا يلزم مِنْ عدم الدليل المعين؛ عدم المدلول؛ إذ يمكن أن يكون الشيء ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به دليل من السمع، ما دام أنه لم يرد دليل معين على نفيه.
وكان الأصلُ في الإثبات عندكم مجرَّدَ نفي التشبيه، والفرق بين ما يُثبت وينفى؛ ورود الدليل السمعي، ومن المعلوم أن السمع - الكتاب والسنة - لم يرد بنفي كل هذه النقائص بأسمائها الخاصة؛ كالحزن، والبكاء، والجوع، ونحو ذلك.
فيلزم من جعل العمدة عنده في نفي النقائص عن الله تعالى مجيء نفيها في السمع؛ ألَّا ينفي النقائص التي لم يرد السمع بالنص على نفيها باسمها؛ بل تبقى عنده من قبيل الجائز المسكوت عنه، الذي لا يثبت، ولا ينفى.
فلا تُنفى؛ لأن السمع لم يرد بنفيها، ولا تثبت؛ لأن السمع لم يرد بإثباتها.
والحق: أن هذه النقائص ممَّا يجب تنزيه الله تعالى عنه، ولو لم يرد نص خاص بكلٍّ منها؛ بل هي من الأمور الممتنعة على الله تعالى عقلاً وشرعاً، كما يدل عليه «المثل الأعلى»
(1)
.
(1)
تقدم بيان معناه في ص 124، 239.
وأيضاً، فلا بدَّ في نفس الأمر مِنْ فرقٍ بين ما يثبت له، وينفى عنه؛ فإن الأمور المتماثلة في الجواز،، والوجوب، والامتناع؛ يمتنع اختصاص بعضها دون بعض بالجواز، والوجوب، والامتناع، فلا بدَّ من اختصاص المنفي عن المثبَت بما يخصه بالنفي، ولا بدَّ من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت.
وقد يُعبَّر عن ذلك بأن يقال: لا بدَّ مِنْ أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى، كما أنه لا بدَّ مِنْ أمر يُثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافياً؛ كان مخبِراً عمَّا هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا، وهذا؟!
سبق أنه يلزمُ مَنْ جعلَ العمدةَ في مطلق الإثبات؛ الاعتماد على مجردِ نفي التشبيه أن يُجَوِّز وصفَ الله تعالى بما لا يحصى من الأعضاء، والأفعال، والنقائص مع نفي التشبيه.
وأنه يقال لمن أثبت لله تعالى الصفات الخبرية، ونفى عن الله تعالى صفات النقص: ما الفرق عندك بين ما نفيته، وما أثبته ما دام أن القاعدة عندك نفي التشبيه؟
وسبق أنه يجعلُ الفرقَ بين ما يثبت، وما ينفى؛ السمع، فما جاء في السمع إثباته أثبتَه، وما جاء في السمع نفيه نفاه؛ وتبيَّن فساد هذا
المسلك؛ إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فعدم الدليل المعين على نفي نقص من النقائص؛ ليس دليلاً على عدمها، فيلزم على هذا المسلك أن تكون هذه النقيصة ممَّا يجوز وجودها؛ لعدم الدليل المعين على نفيها باسمها، كما لم يدل دليل على إثباتها؛ فتكون ممَّا يجوز عقلاً.
ويبيِّن الشيخ هنا أنه لا بدَّ من فرق في نفس الأمر بين ما يثبت لله تعالى من صفات الكمال، وما ينفى عنه من صفات النقص؛ فإن الأمور المتماثلة في الجواز، والوجوب، والامتناع؛ يمتنع التفريق بينها في الجواز، والوجوب، والامتناع.
فالأمور المتماثلة يمتنع التفريق بينها، فما كانت متماثلة في الجواز؛ يمتنع التفريق بينها في الجواز، وما كانت متماثلة في الوجوب؛ يمتنع التفريق بينها في الوجوب، وما كانت متماثلة في الامتناع؛ يمتنع التفريق بينها في الامتناع.
فإذا جاء الشرع بإثبات شيء، ونفي شيء؛ يمتنع أن يقال بالتسوية بينهما في الجواز؛ بل لا بدَّ أن يكون هناك فرقٌ في نفس الأمر بين ما جاء الشرع بإثباته، وما جاء الشرع بنفيه، فالشرع قائم على الحِكمة، ويمتنع في الحكمة التفريق بين المتماثلات، أو التسوية بين المختلفات، كما في الأوامر، والنواهي.
فلا يقال مثلاً: إنه لا فرق بين إثبات العَدْل لله تعالى، ونفي الظلم عنه، إلا أنه ورد إثبات هذا بالسمع، ونفي ذاك؛ بل الحق أن بينهما فرقاً في نفس الأمر، فالعدلُ كمالٌ، والظلمُ نقصٌ.
فلا بدَّ أن يكون في المنفي عن الله تعالى ما يقتضي نفيه عقلاً عن الله تعالى، ولا بدَّ أن يكون فيما يثبت لله تعالى ما يقتضي إثباته، ويخصه بالثبوت.
* * *
تنوع طرق نفي النقائص عن الله عز وجل
فيقال: كلُّ ما نافى صفات الكمال الثابتة لله؛ فهو منزَّهٌ عنه، فإن ثبوت أحد الضدين؛ يستلزم نفي الآخَر، فإذا عُلم أنه موجودٌ، واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القِدم؛ عُلم امتناع العدم والحدوث عليه، وعُلم أنه غني عمَّا سواه.
فالمفتقرُ إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه؛ نفسُه ليس هو موجوداً بنفسه؛ بل بنفسه، وبذلك الآخَر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه، فلا يوجد إلا به.
وهو سبحانه وتعالى غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فكلُّ ما نافى غناه؛ فهو منزَّهٌ عنه، وهو سبحانه وتعالى قديرٌ، قويٌّ، فكلُّ ما نافى قدرته وقوته؛ فهو منزَّهٌ عنه، وهو سبحانه حيٌّ، قيومٌ، فكلُّ ما نافى حياته وقيوميته؛ فهو منزَّهٌ عنه.
وبالجملة؛ فالسمعُ قد أثبت له مِنَ الأسماء الحسنى، وصفات الكمال ما قد ورد، فكلُّ ما ضاد ذلك؛ فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه: المثل، والكفؤ، فإن إثباتَ الشيء نفيٌ لضده، ولما يستلزم ضده.
والعقلُ يَعرفُ نفي ذلك، كما يعرفُ إثباتَ ضدِه، فإثباتُ أحدِ الضدينِ نفيٌ للآخَر، ولما يستلزمه.
بعد أنْ بيَّن الشيخ أنه لا بدَّ مِنْ فارق في نفس الأمر بين ما يثبت لله تعالى، وما ينفى عنه؛ وهو: أن كلَّ ما ثبت لله تعالى؛ فهو كمال، وكلَّ ما نفي عنه؛ فهو نقص، وهذا الأمر معلوم بالعقل الصريح، ذَكَر هنا الدليل السمعي على نفي ما ينفى عن الله تعالى.
وكأن سائلاً سأل: هل ورد الشرع بنفي هذه النقائص؟ والجواب: نعم؛ إلا أن بعضها ورد نفيه باسمه الخاص؛ كقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وقوله تعالى:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوب (38)} [ق]، ونظائر ذلك.
ومنها ما ورد نفيه بإثبات ضده، فكل ما ورد السمع بإثباته لله تعالى من صفات الكمال؛ فإنه مستلزم لنفي ضده من صفات النقص، فإثبات أحد الضدين؛ مستلزم لنفي ضده، وما يستلزم ضده.
فكلُّ ما نافى صفات كماله؛ فإنه منفي عنه، فوصفه بالعلم؛ مستلزم لنفي الجهل، ووصفه بالقدرة؛ مستلزم لنفي العجز، ووصفه بالغنى؛ مستلزم لنفي الفقر عنه، ونفي ما يستلزم الافتقار والحاجة إلى ما سواه بوجه من الوجوه، فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكلُّ ما نافى غناه المطلق؛ فهو منزَّهٌ عنه سبحانه وتعالى.
ومعلومٌ أنه تعالى موجودٌ، واجبُ الوجود بنفسه، أزليٌ، فكلُّ ما نافى كمال وجوده ووجوبه؛ فإنه منزَّهٌ عنه، فوجوبُ وجوده؛ مستلزمٌ نفي العدم، والحدوث، وامتناع ذلك عليه، وهكذا ما نافى قدرته،
وقوته مِنْ العجز، والضعف؛ فإنه منزَّهٌ عنه، وما نافى حياته، وقيوميته مِنَ النَّوم، والسِّنة؛ فإنه منزَّهٌ عنه.
فالسمعُ جاء بإثبات جملة من أسماء الله الحسنى وصفات الكمال، وكلُّ ما ضاد ذلك؛ فالسمع ينفيه؛ لأن ضد ذلك النقص، كما ينفي السمعُ كلَّ ما فيه مماثلة صفاته لصفات خلقه.
ومن المقرر عقلاً: أن إثباتَ الشيء نفيٌ لضده، ولما يستلزم ضده، ونفيُ الشيء؛ إثباتٌ لضده
(1)
.
* * *
(1)
«درء التعارض» 4/ 6، و «الرسالة الأكملية» ص 71، و «مجموع الفتاوى» 6/ 537، و «جواب أهل العلم والإيمان» ص 109، و «منهاج السنة» 2/ 160.
فطرقُ العلمِ بنفي ما ينزَّه الرب عنه متسعةٌ، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك، وفرَّقوا بين المتماثلينِ، حتى إن كل من أثبت شيئاً احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه.
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، فقالوا:«لا يقال: موجود، ولا ليس بموجود، ولا حي، ولا ليس بحي، لأن ذلك تشبيه بالموجود، أو المعدوم» ؛ فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً.
ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات، والممتنعات، والجمادات؛ أعظم ممَّا فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملينَ.
فطرق تنزيهه وتقديسه عمَّا هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.
يبين الشيخ فساد طريقة مَنْ اعتمد في نفي ما يتنزه الله تعالى عنه على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، حيث آلت بهم هذه الطريقة إلى التناقض في التفريق بين المتماثلات كما سبق.
ومن أدلة فساد هذه الطريقة أن كلَّ من أثبت شيئاً؛ احتج عليه من نفاه بنفس الحجة؛ وهي: أن إثباته يستلزم التشبيه، والتجسيم.
وآل سلوك هذه الطريقة بالقرامطة إلى أن نفوا جميع الصفات؛ بل نفوا حتى النفي فقالوا: «لا يقال: الله موجود، ولا ليس بموجود، ولا حي، ولا ليس بحي؛ لأن الإثبات تشبيه بالموجود، والنفي تشبيه بالمعدوم» ؛ فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً.
وهؤلاء فروا مِنْ تشبيه الله تعالى بالأحياء الكاملينَ؛ فلزمهم تشبيهه بالمعدومات، والممتنعات، والجمادات.
* * *
وقد تقدم أن ما يُنفى عنه سبحانه وتعالى يُنفى لتضمن النفي الإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال
(1)
، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، وليس هذا مدحاً له؛ لأن مشابهةَ الناقصِ في صفاتِ النقصِ؛ نقصٌ مطلقٌ، كما أن مماثلةَ المخلوقِ في شيءٍ من الصفاتِ؛ تمثيلٌ وتشبيهٌ، يُنزه عنه الرب تبارك وتعالى.
والنقصُ ضدُّ الكمال، وذلك مثل أنه قد عُلم أنه حيٌّ، والموت ضد ذلك؛ فهو مُنزَّهٌ عنه، وكذلك النَّوم والسِّنة ضد كمال الحياة؛ فإن النومَ أخو الموت، وكذلك اللُّغُوب نقصٌ في القدرة والقوةِ، والأكلُ والشرب ونحو ذلك من الأمور؛ فيه افتقار إلى موجود غيره.
كما أن الاستعانة بالغير، والاعتضاد به، ونحو ذلك؛ يتضمن الافتقار إليه، والاحتياج إليه، وكلُّ مَنْ يحتاج إلى مَنْ يحملُه أو يعينُه على قيام ذاته أو أفعاله؛ فهو مفتقر إليه ليس مستغنياً بنفسه، فكيف مَنْ يأكل ويشرب؟! والآكلُ والشارب أجوفُ، والمُصْمَتُ الصمدُ أكملُ مِنْ الآكلِ الشارب، ولهذا كانت الملائكةُ صمداً لا تأكل ولا تشرب.
وقد تقدم أن كلَّ كمال ثبت لمخلوق؛ فالخالق أَوْلى به، وكلَّ نقص تنزه عنه مخلوق؛ فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك
(2)
.
(1)
ص 261.
(2)
ص 236.
والسمعُ قد نفى ذلك في غير موضع؛ كقوله: {اللَّهُ الصَّمَد (2)} [الإخلاص]، والصمد: الذي لا جوف له، ولا يأكل، ولا يشرب. وهذه السورة هي نَسب الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب. وقال في حق المسيح وأمه:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]؛ فجعل ذلك دليلاً على نفي الألوهية؛ فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأَوْلَى والأَحْرَى.
والكبد والطِّحال ونحو ذلك، هي أعضاء الأكل والشرب، فالغنيُّ المنزَّه عن ذلك منزهٌ عن آلات ذلك، بخلاف اليد؛ فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه وتعالى موصوفٌ بالعمل والفعل؛ إذ ذلك من صفات الكمال، فمَن يقدر أن يفعل؛ أكملُ ممَّن لا يقدر على الفعل.
هذا كله في بيان دلالة النصوص على تنزيه الله تعالى عن النقائص وملزوماتها، فإثبات صفات الكمال؛ يستلزم نفي النقائص، ونفيُ النقائص؛ مستلزمٌ لإثبات صفات الكمال.
فالسمع جاء بإثبات جملةٍ من أسماء الله الحسنى، وصفات الكمالِ، وكلُّ ما يضاد ذلك؛ فالسمع ينفيه؛ لأن ضدَّ ذلك النقصُ.
كما ينفي السمعُ كلَّ ما فيه مماثلته تعالى لخلقه، ومن المقرر عقلاً: أن إثباتَ الشيءِ نفيٌ لضده، ولما يستلزم ضده، ونفيُ الشيءِ إثباتٌ لضده.
فمجرد النفي لا كمال فيه ولا مدح، فإن المعدومَ يوصف بالنفيِ، والمعدومُ لا يشبه الموجود، ونفيُ الصفات عن المعدوم لا مدح فيه، فالنفيُ المجردُ لا مدح فيه؛ لأن فيه تشبيهاً بالناقصات، ومشابهةُ الناقصِ في صفات النقص؛ نقصٌ، كما أن مماثلةَ المخلوقِ في شيء مِنْ الصفاتِ؛ تمثيلٌ وتشبيهٌ يتنزه عنه الرب تبارك وتعالى.
فنفيُ النقصِ عن الله تعالى مستلزمٌ لإثباتِ كمالِ ضده، فهو منزهٌ عن كلِّ ما ينافي كماله، فإذا كان موصوفاً بالحياة؛ فهو منزه عمَّا يضادها من الموت، أو يضاد كمالها من النوم والسِّنة.
ونفي اللُّغُوب وما يستلزمه، يستلزم إثبات كمال القدرة والقوة، وهو سبحانه وتعالى منزه عن الأكل والشرب، ونحو ذلك ممَّا فيه افتقار إلى الغير، واحتياج إليه في إعانته على قيام ذاته وأفعاله، فكلُّ ذلك منفيٌ عن الله تعالى؛ لمنافاته كمال غناه.
كما يُنفى الأكل والشرب عن الله تعالى لمعنى آخرَ أيضاً؛ وهو استلزامه للجوف، فالآكلُ والشاربُ أجوفُ، واللهُ تعالى صمدٌ، كما قال سبحانه:{اللَّهُ الصَّمَد (2)} ، ومما فُسِّر به الصمد:(أنه الذي لا جوف له، ولا يأكل، ولا يشرب)
(1)
.
(1)
تقدم في ص 84.
كما أشار الشيخ إلى دليل ثالث لمنع الأكل والشرب عن الله تعالى؛ وهو: أنه لما كانت الملائكة صمداً، مستغنية عن الأكل والشرب، وهذا كمال في حقها لا نقص فيه؛ فمِن باب قياس الأولى: أن يكون الله تعالى أَوْلَى بهذا الكمال؛ فهو أولى بأن يكون مستغنياً عن الأكل والشرب، غير مفتقرٍ ولا محتاجٍ إليه.
فكلُّ كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ فالخالقُ أولى به.
ومن أدلة نفي الأكل عن الله تعالى، أنه تعالى جعله دليلاً على نفي الألوهية في رده على النصارى، الذين اتخذوا المسيح وأُمه إلهينِ، فقال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} .
ووجه ذلك: أن الأكلَ يستلزمُ الافتقارَ، والافتقارُ نقصٌ ينافي الإلهية، فلو كان الله تعالى يأكل ويشرب؛ لما كان في هذا دليل على بطلان إلهية المسيح وأمه، وإذا كان اللهُ تعالى منزهاً عن الأكل والشرب؛ فهو منزه عن آلاته وأعضائه؛ كالكبد، والطحال، ونحو ذلك، فثبت تنزهه سبحانه عن الأكل والشرب: سمعاً، وعقلاً.
ثم يقرر الشيخ أن هذا بخلاف صفة اليد لله؛ فإنها للعمل والفعل، فهي ممَّا يكون به العمل والفعل، والله تعالى موصوف بذلك؛ إذ ذلك من صفات الكمال، فمَن يقدر أن يفعل؛ أكمل ممن لا يقدر أن
يفعل، هذا من ناحية النظر العقلي، والسمع ورد - أيضاً - بإثبات اليدين وإثبات الفعل.
لكن لو فرض أن الخبر جاء بإثبات الفعل، ولم يأتِ بإثبات صفة اليد؛ لم يكن لنا أن نثبتها؛ لأنها من قبيل الجائز.
* * *
وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد، وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحُزْن؛ هو مستلزم للضعف والعجز، الذي ينزه الله عنه، بخلاف الفرح والغضب؛ فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البَكَم؛ فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك.
ثبت بالنص تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد، كما في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} [الجن]، وقال تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (101)} [الأنعام].
وكما أنه سبحانه وتعالى منزه عن الصاحبة والولد؛ فهو منزه عن لوازم ذلك، وما يتعلق به من الآلات، والأسباب.
وكذلك ينزه الله تعالى عن البكاء والحزن؛ لاستلزام ذلك للضعف والعجز، وذلك صفةُ نقصٍ مناقضٌ لكمالِ قوةِ الله تعالى وقدرته، واللهُ تعالى موصوفٌ بصفات الكمال، منزهٌ عن صفات النقص وما يستلزم النقص، فيوصف بالفرح والغضب دون الحزن، وبالضحك دون البكاء،
وبالقوة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم.
* * *
الدليل العقلي على نفي المثل عن الله
وأيضاً؛ فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع مِنْ أنه سبحانه وتعالى لا كفء له، ولا سمي له، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته؛ كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته؛ كحقيقة شيء من صفات المخلوقات.
فيُعلم قطعاً: أنه ليس مِنْ جنس المخلوقات؛ لا الملائكة، ولا السموات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الماء، ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا أبدانهم، ولا أنفسهم، ولا غير ذلك؛ بل يُعلم: أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات؛ أبعدُ من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها؛ أبعدُ من مماثلة حقيقةِ شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر.
فإن الحقيقتين إذا تماثلتا؛ جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، وامتنع عليها ما امتنع عليها؛ فيلزم أن يجوز على الخالق، القديم، الواجب بنفسه؛ ما يجوز على المحدَث، المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذاك من الوجوب والغنى، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه، غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا ممَّا يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: «بصر كبصري، ويد كيدي» ، ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
بعد أن ذكر الشيخ دلالة السمع على تنزيه الله تعالى عن النقص بطرق متعددة؛ بيَّن مطابقةَ السمع للعقل في دلالته على نفي المثيل، كما قال تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} [الإخلاص]، وقال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم]، وقال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال تعالى:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]، وذلك بذكر الدليل العقلي على نفي المثيل، وهو أنه يعلم قطعاً: أن الله تعالى ليس من جنس شيء من مخلوقاته؛ لا الملائكة، ولا السموات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الماء، ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا غير ذلك؛ بل يعلم قطعاً: أن حقيقة اللهِ تعالى؛ أبعدُ عن مماثلة شيء من الموجودات من سائر الحقائق، وأن مماثلة الله تعالى لشيء من الحقائق؛ أبعدُ من مماثلة حقيقة أي شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر.
وهذا يشبه ما سبق في «المثال الأول» مِنْ: أن مباينةَ الله تعالى لخلقه؛ أعظمُ من مباينة أيِّ مخلوق لمخلوق آخر
(1)
.
(1)
ص 225.
ومثل ما سبق في «القاعدة الخامسة» مِنْ: «أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق»
(1)
.
فاللهُ تعالى لا يَشركه مخلوق في شيء من خصائصه، ممَّا يجب، أو يجوز، أو يمتنع عليه سبحانه وتعالى، كما أن الله تعالى لا يَشرك المخلوق في شيء من خصائصه.
والشيخ أشار في مطلع «القاعدة السادسة» إلى الدليل العقلي على إبطال التمثيل عند قوله: (وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل، الذي فسَّرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له)
(2)
.
وهنا يوضح الشيخ هذا الدليل بأنه لو قيل بتماثلِ حقيقةِ الخالقِ وحقيقةِ المخلوقِ؛ لجاز على كلٍّ منهما ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما يجب لها، وامتنع عليها ما امتنع عليها.
فيلزم على تقدير وجود المثل؛ أن يكون اللهُ تعالى الموصوفُ بوجوب الوجودِ والقِدم والغنى؛ مثلَ المخلوقِ الموصوفِ بالحدوث، والحاجة، وجواز العدم، وأن تكون صفاتُ الله تعالى صفاتٍ للمخلوق، وصفاتُ المخلوقِ صفاتٌ لله تعالى.
(1)
ص 427.
(2)
ص 462.
فيكون الشيءُ الواحدُ - سواء كان الخالق أو المخلوق - موصوفاً بالوجوب والعدم، والحدوث والقِدم، والغنى والحاجة، وهذا يلزم منه الجمع بين النقيضين، وهذا مما يعلم بالعقل امتناعه.
فثبت امتناع المِثْل لله تعالى.
قال الشيخ: (وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة) والمشبه؛ هو: الذي يقول: (لله تعالى بصرٌ كبصري، ويد كيدي)، ونحو ذلك، وهذا باطلٌ، فبصرُ الله تعالى أزَليٌّ، ولا يحده شيء، بخلافِ بصرِ المخلوقِ الحادثِ، المحدودِ، الناقصِ، المعرضِ للآفات.
وسمعُ الخالق واسعٌ لجميع الأصوات، وهو أزَليٌّ لم يحدث له، أما سمع المخلوق؛ فهو محدود، وحادث.
فإن أراد بكون بصرِ الله تعالى وسمعه؛ كبصر المخلوق وسمعه؛ فقد جعل الأزليَّ كالمحدَث، وهذا جمع بين النقيضين، وهكذا إذا زعم أن سمعَ الله تعالى وبصره محدودٌ كالمخلوق؛ فقد أعظمَ على الله تعالى الفرية، وتنقصه.
* * *
وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك، لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه؛ سكتنا عنه؛ فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عمَّا لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يقول الشيخ: ليس المقصود هنا استيفاء وبيان كل ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات على وجه التفصيل؛ فإن هذا يعلم بتدبر الكتاب، والسنة.
وليس المقصود كذلك استيفاء طرق كل ما ينزه الرب تعالى عنه، وإنما المقصود: ذكر مجامع الطرق، ومجامع الأدلة المفيدة لما يجب لله تعالى، ويجوز عليه، ويمتنع عليه.
ونتيجة ما تقدم: أن ما قام الدليل على إثباته؛ أثبتناه، وما دل الدليل على نفيه؛ نفيناه، وما لم يقم الدليل على إثباته ولا على نفيه؛ فإنا نمسك عنه، فلا نثبته ولا ننفيه؛ إلا إذا دل العقل على إثباته؛ فنثبته، أو دل على نفيه؛ فننفيه، فالعقل دليل في الجملة على سبيل الإجمال.
وجَعْلُ العقل دليلاً هنا على ما لم يدل الدليل السمعي عليه؛ افتراضٌ نظري، وإلا فليس هناك شيء يُنفى عن الله تعالى لم يدل على نفيه الدليل السمعي: نصاً، أو لزوماً.
فالعقلُ يدل على أن الله تعالى موصوفٌ بكل كمال، ومنزه عن كل نقص، ولكن مع ذلك؛ فإنا لا نجد معنى منفياً عن الله تعالى لم يعلم نفيه إلا بالعقل، غاية الأمر أن تتطابق دلالة العقل مع دلالة السمع، أو تكون الدلالة للسمع فقط، كما سبق معنا في الإثبات أن من الصفات ما هو سمعي فقط، ومنها ما هو سمعي وعقلي
(1)
.
فالحياةُ، والعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، والرحمة، والعلو، ونحو ذلك؛ معلومةٌ بالسمع والعقل.
وأما الاستواء، واليدان، والوجه، والضحك، والفرح، ونحو ذلك؛ فإنما علمت بالسمع فقط.
وأما ما لم يقم دليل عقلي ولا سمعي على إثباته ولا على نفيه؛ فإنا نسكت عنه؛ فلا نثبته، ولا ننفيه.
مثال ذلك: «الأُذُن» ، فليس في السمع، ولا في العقل ما يثبتها، أو ينفيها عن الله تعالى.
* * *
(1)
ص 478.
الأدلة الشرعية على أصول الإيمان نوعان: خبرية، وعقلية
القاعدة السابعة
أن يقال: إن كثيراً مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبيِّن ما يستدِل به العقل، ويرشد إليه، وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فإنه سبحانه وتعالى بيَّن من الآيات الدالة عليه، وعلى وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وغير ذلك؛ ما أرشد العباد إليه ودَلَّهم عليه، كما بيَّن - أيضاً - ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه.
فهذه المطالب؛ هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بيَّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها - والأمثال المضروبة في القرآن؛ هي: أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع -.
وهي أيضاً: عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضاً.
(القاعدة السابعة) ليست موجودة في كثير من نسخ «التدمرية» الخطية، ولعلها من زيادات المؤلف رحمه الله، ومضمونها يوجد بعضه في «القاعدة الأولى»
(1)
، و «الأصل الأول»
(2)
.
والشيء الزائد فيها: الكلام في كون أدلة الشرع سمعية أو عقلية، والواقع أن أدلة السمع منها ما هو سمعي محض، ومنها ما هو سمعي عقلي، فهي سمعية؛ لأن الشرع جاء بها، وهي عقلية؛ لأنها اشتملت على الدليل العقلي، وأرشدت إليه
(3)
..
فمثلاً قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (7)} [التغابن]؛ فهذا دليل سمعي على البعث.
وأما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ} إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور (7)} [الحج]؛ فهذا دليل سمعي، وهو مشتمل على دليلين عقليين على البعث:
أحدهما: خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، وما بعدها من الأطوار.
والثاني: إحياء الأرض بعد موتها.
وعلى هذا؛ فما أخبرت به الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ منه ما تشهد به العقول والفِطر السليمة، ومنه ما لا تحيله العقول؛ بل تُجَوِّزه، ولهذا قيل: «إن الرسل لا يأتون بمُحالات
(1)
ص 259.
(2)
ص 172.
(3)
«مجموع الفتاوى» 16/ 469، و «الفرقان بين الحق والباطل» ص 137، و «درء التعارض» 1/ 28 و 1/ 199 و 8/ 37 و 9/ 37، و «النبوات» 1/ 292، و «الرسالة الأكملية» ص 71، و «الصواعق المرسلة» 2/ 460.
العقول؛ بل بمَحاراتها»
(1)
.
كما أشار الشيخ في هذه «القاعدة» إلى دلالة القرآن العقلية على الأصول الثلاثة: التوحيد، والنبوة، والمعاد، وبيَّن أن هذه الأصول شرعية من وجهين:
الأول: أن الشارع أخبر بها.
الثاني: أنه بيَّن الأدلة العقلية الدالة عليها.
وأن هذه الأصول - أيضاً - عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل كذلك.
وفنَّد رحمه الله ما ذهب إليه كثير من أهل الكلام من أن هذه الأصول عقلية فقط؛ لظنهم أن طريق العلم بها هو العقل فقط، وزعموا أن النبوة، وصدق الرسول؛ لا يعلم إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل.
(1)
«مجموع الفتاوى» 2/ 312 و 17/ 444، و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ص 243، و «درء تعارض العقل والنقل» 5/ 297 و 7/ 327، و «الصواعق المرسلة» 3/ 829.
وكثير من أهل الكلام يسمي هذه «الأصول العقلية» لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط؛ فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق - الذي هو النبي - لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل.
ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها:
فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما [يوجبه]
(1)
العقل.
وطائفة تزعم أن حدوثَ العالمِ مِنْ هذه الأصولِ، وأن العِلمَ بالصانعِ لا يمكن؛ إلا بإثبات حدوثِه، وإثباتُ حدوثه لا يمكن؛ إلا بحدوثِ الأجسامِ، وحدوثُها يُعلم؛ إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.
فنَّد الشيخ ما ذهبت إليه المعتزلةُ مِنْ توقف إثبات النبوة على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وكذلك ردَّ ما ذهبت إليه الأشاعرة
(1)
في متن «التدمرية» المطبوع: «ينفيه» واعترض عليها المحقق هناك في الحاشية. ورجَّح الشارح ما أثبتُّ.
ومَن وافقهم مِنْ توقفِ إثباتِ النبوة على إثباتِ الصانع، وتوقفِ إثباتِ الصانع على إثباتِ حدوثِ العالمِ، وتوقفِ إثباتِ حدوثِ العالم على إثباتِ حدوث الأجسام إلى آخره
…
وما ترتب على ذلك مِنْ نفي أفعال الله الاختيارية، ونفي صفاته.
كما أشار الشيخ في هذه «القاعدة» إلى دلالة العقل على الصفات السبع وغيرها، كما تقدم تفصيله في «الأصل الأول»
(1)
.
* * *
(1)
ص 182.
ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم؛ لظنهم أن العقل عارض السمع - وهو أصله -؛ فيجب تقديمه عليه، والسمعُ؛ إما أن يؤوَّل، وإما أن يُفوَّض.
وهم - أيضاً - عند التحقيق: لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وِفق قولهم، لما تقدم.
وهؤلاء يضلون من وجوه، منها:
* ظنهم أن السمع [دلَّ بطريق الخبر المجرد]
(1)
، وليس الأمر كذلك؛ بل القرآن بيَّن من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية.
* ومنها: ظنهم أن الرسول لا يُعلم صدقه إلا بالطريق المعيَّنة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه؛ فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
* ومنها: ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة.
* ومنها: ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك؛ فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وُجد
(1)
في المطبوع: «بطريق الخبر تارة» ، واعترض عليها المحقق هناك. ورجَّح الشارح ما أثبتُّ.
ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حي، كما أرشد إلى ذلك قوله:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14].
بين الشيخ رحمه الله وجوهاً من ضلال هؤلاء في مذهبهم واستدلالهم؛ وهي:
1 -
أنهم لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم؛ بل ولا على ما يوافق قولهم؛ لظنهم أن العقل عارض السمع - وهو أصله -؛ فيجب تقديمه عليه، ويجب تأويل السمع، أو تفويضه.
2 -
ظنهم أن السمع قد دل على هذه الأصول - التوحيد، والنبوة، والمعاد - بطريق الخبر المجرد، وليس الأمر كذلك؛ بل القرآن بين من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية كما تقدم.
3 -
ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه؛ فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة
(1)
.
(1)
«النبوات» في مواضع منها: 2/ 884، و «شرح الأصبهانية» ص 537.
4 -
ظنهم أن تلك الطريق المذكورة التي سلكوها صحيحة، وهي باطلة.
5 -
ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، وهم غالطون في ذلك؛ فإن كل ما تُعارض به نصوص الكتاب والسنة؛ هو من المجهولات لا من المعقولات.
* * *
وقد اتفق النُظَّار
(1)
من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل - عند المحققين - أنه: «حي» ، «عليم» ، «قدير» ، «مريد» ، وكذلك «السمع» ، و «البصر» ، و «الكلام» يُثبت بالعقل عند المحققين منهم؛ بل وكذلك «الحب» ، و «الرضا» ، و «الغضب» ؛ يمكن إثباته بالعقل.
وكذلك «عُلوه» على المخلوقات ومباينته لها ممَّا يعلم بالعقل، كما أثبتته بذلك الأئمة؛ مثل: أحمد بن حنبل وغيره، ومثل: عبد العزيز المكي
(2)
، وعبد الله بن سعيد بن كُلَّاب
(3)
.
(1)
من هنا إلى نهاية «القاعدة» ص 567 لم يشرحه الشيخ؛ لأن معناه تقدم فيما مضى.
(2)
هو: ابن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم الكناني، روى عن: ابن عيينة، ومروان بن معاوية، وغيرهم، وعنه: الحسين بن الفضل، والقاسم بن خلاد.
وكان من أهل الفضل والعلم، له مصنفات عدة، وكان ممَّن تفقه بالشافعي، واشتهر بصحبته، قدم «بغداد» أيام المأمون، وجرى بينه وبين بشر المرِيسي مناظرة في القرآن، وهو صاحب كتاب «الحيدة» ، مات في حدود سنة 240 هـ.
انظر: «تاريخ بغداد» 12/ 212، و «تهذيب الكمال» 18/ 220، و «الوافي بالوفيات» 18/ 348.
(3)
هو: أبو محمد القطان البصري، رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، كان معاصراً للإمام أحمد، وكان يلقب كُلَّاباً؛ لأنه كان يجر الخصم إلى نفسه ببيانه وبلاغته.
قال شيخ الإسلام: «كان له فضل وعلم ودين» . وقال: «صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهو من متكلمة الصفاتية، وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة؛ لكن فيها نوع من البدعة؛ لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته؛ ولكن له في الرد على الجهمية - نفاة الصفات والعلو - من الدلائل والحجج وبسط القول ما بين به فضله في هذا الباب، وإفساده لمذاهب نفاة الصفات بأنواع من الأدلة والخطاب، وصار ما ذكره معونة ونصيراً وتخليصاً من شبههم لكثير من أولي الألباب حتى صار قدوة وإماماً لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات =
بل وكذلك إمكان «الرؤية» يثبت بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه تمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك.
وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين، بتقسيمٍ دائرٍ بين النفي والإثبات، كما يقال: إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية، فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية؛ يكون الموجود الواجب القديم؛ أحق به من الممكن المحدَث، والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن من الطرق التي يسلكها الأئمة، ومَن اتبعهم من نُظَّار السنة في هذا الباب: أنه لو لم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين؛ للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة؛ لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة؛ لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع، والبصر، والكلام؛ لوصف بالصمم، والخرس، والبَكَم.
وطرد ذلك: أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم؛ لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه؛ يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقصٍ ينزه عنها الكامل مِنْ المخلوقات؛ فتنزيه الخالق عنها؛ أَوْلى.
= وناقضوا نفاتها؛ وإن كانوا قد شركوهم في بعض أصولهم الفاسدة؛ التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول، ومخالفته لسنة الرسول».
«شرح حديث النزول» ص 433، و «الكيلانية» ص 367، و «سير أعلام النبلاء» 11/ 174، و «لسان الميزان» 4/ 25.
وهذه الطريق غير قولنا: «إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق؛ فالخالق أَولى» ؛ فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها؛ مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها.
وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويُضعف الإثبات به، مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الآمدي
(1)
، وأمثاله، مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية، وأمثالهم من الجهمية.
(1)
هو علي بن أبي علي بن محمد التغلبي، سيف الدين، ولد سنة 551 هـ-، وقرأ بآمد القراءات، وتفقه على مذهب أحمد، ثم تحول إلى مذهب الشافعي، وعني بعلم «الأصول» ، و «الكلام» ، وكان يتوقد ذكاء، له عدة مؤلفات منها:«الإحكام في أصول الأحكام» ، و «أبكار الأفكار» ، وغيرها.
قال الذهبي: «نفي من دمشق لسوء اعتقاده، وصح عنه أنه كان يترك الصلاة» !
ولابن تيمية تعقب على كثير من كلامه وشبهاته، ومن ذلك عامة المجلد الرابع من «درء تعارض العقل والنقل» .
مات الآمدي في سنة 631 هـ.
انظر: و «فيات الأعيان» 3/ 293، و «شرح حديث النزول» ص 441 و «سير أعلام النبلاء» 22/ 364، و «لسان الميزان» 3/ 467.
فقالوا: «القول بأنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات؛ كالسمع، والبصر، والكلام، مع كونه حيّاً؛ لكان متصفاً بما يقابلها، فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلَيْن وبيان أقسامهما.
فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين.
فالأول؛ هما: المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض؛ هو:«اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما» كقولنا: «زيد حيوان، زيد ليس بحيوان» ، ومن خاصيته: استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين، ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر».
(1)
(2)
من جهة واحدة، ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، إذ كون الموجود واجباً بنفسه، وممكناً بنفسه لا يجتمعان ولا يرتفعان.
(1)
انتهى النقل من كتاب «أبكار الأفكار» 1/ 371 - 372، وقد بدأ من قوله «القول بأنه
…
»، ويتبين من رد الشيخ أن كلام الآمدي لم يتم هنا، بل قد سقط منه بحسب المطبوع صفحتين إلا سبعة أسطر، إلا أن يكون الشيخ اختصر كلامه؛ فيكون الساقط أقل.
(2)
سقط بداية كلام المؤلف في الوجه الأول، وقد اجتهد محقق المطبوع في إضافة كلام يتم الوجه الأول؛ فقال:«الرد عليه من وجوه: الأول: أن هذا التقسيم غير حاصر، فإنه يقال للموجود: إما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه، وهذان - الوجوب والإمكان - لا يجتمعان في شيء واحد» . اه. =
فإذا جعلتم هذا التقسيم، وهما:«النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان» ، فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وليس هما السلب والإيجاب؛ فلا يصح حصر النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان في السلب والإيجاب.
وحينئذٍ، فقد ثبت وصفان: شيئان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهو خارج عن الأقسام الأربعة.
وعلى هذا فمن جعل الموت معنى وجودياً؛ فقد يقول: إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت؛ هو من هذا الباب، وكذلك العلم والجهل، والصمم، والبَكَم، ونحو ذلك.
الوجه الثاني: أن يقال: هذا التقسيم يتداخل، فإن العَدَم والمَلَكة يدخل في السلب والإيجاب، وغايته أنه نوع منه، والمتضايفان يدخلان في المتضادين، وإنما هو نوع منه.
فإن قال: «أعني بالسلب والإيجاب: ما لا يدخل فيه العدم والملكة؛ وهو: «أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له» ، ولهذا جعل من خواصه: أنه لا استحالة لأحد طرفيه إلى الآخر».
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن غاية هذا: أن السلب ينقسم إلى نوعين: أحدهما: سلب ما يمكن اتصاف الشيء به، والثاني: سلب ما لا يمكن اتصافه به.
= وقد نقل المؤلف في «درء التعارض» 4/ 34، بعض كلام الآمدي في شبهته هذه، ورد عليه، وكذا نقض هذه الشبهة في «درء التعارض» - أيضاً - 3/ 367، و 6/ 135، و «الصفدية» ص 121، وقد تقدم الكلام على هذه الشبهة في ص 193.
ويقابل الأول: إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب، والثاني: إثبات ما يجب اتصافه به؛ فيكون المراد به: سلب الممتنع وإثبات الواجب؛ كقولنا: زيد حيوان؛ فإن هذا إثبات واجب، وزيد ليس بحجر؛ فإن هذا سلبُ ممتنعٍ.
وعلى هذا التقدير؛ فالممكنات التي تقبل الوجود والعدم؛ كقولنا: «المثلث إما موجود، وإما معدوم» ؛ يكون من قسم العدم والملكة، وليس كذلك؛ فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد عن المتقابلين جميعاً، ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم.
وأيضاً: فإنه على هذا التقدير، فصفات الرب كلها واجبة له، فإذا قيل:«إما أن يكون حياً، أو عليماً، أو سميعاً، أو بصيراً، أو متكلماً، أو لا يكون» ؛ كان مثل قولنا: «إما أن يكون موجوداً، وإما أن لا يكون» ، وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب؛ فيكون الآخَر مثله؛ وبهذا يحصل المقصود.
فإن قيل: هذا لا يصح حتى يُعلم إمكان قبوله لهذه الصفات.
قيل له: هذا إنما اشتُرِط فيما أمكن أن يثبت له ويزول؛ كالحيوان، فأما الرب تعالى؛ فإنه بتقدير ثبوتها له؛ فهي واجبة، ضرورة أنه لا يمكن اتصافه بها وبعَدَمِها باتفاق العقلاء، فإن ذلك يوجب أن يكون تارة حياً وتارة ميتاً، وتارة أصمَّ وتارة سميعاً، وهذا يوجب اتصافه بالنقائص؛ وذلك منتفٍ قطعاً.
بخلاف من نفاها، وقال:«إن نفيها ليس بنقص» ؛ لظنه أنه لا يقبل الاتصاف بها، فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول:«إنه مع إمكان الاتصاف بها لا يكون نفيها نقصاً» ؛ فإن فساد هذا معلوم بالضرورة.
وقيل له - أيضاً -: أنت في تقابل السلب والإيجاب؛ إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين؛ لم يصح أن تقول: «واجبُ الوجود؛ إما موجودٌ وإما معدومٌ، والممتنعُ الوجود؛ إما موجود وإما معدوم» ؛ لأن أحد الطرفين هنا: معلوم الوجوب، والآخَر: معلوم الامتناع.
وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما؛ صح أن تقول: «إما أن يكون حياً، وإما أن لا يكون، وإما أن يكون سميعاً بصيراً، وإما أن لا يكون» ؛ لأن النفي إن كان ممكناً؛ صح التقسيم، وإن كان ممتنعاً؛ كان الإثبات واجباً، وحصل المقصود.
فإن قيل: هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب، ونحن نسلم ذلك، كما ذكر في الاعتراض، لكن غايته أنه إما سميع وإما ليس بسميع، وإما بصير وإما ليس ببصير، والمنازع يختار النفي.
فيقال له: على هذا التقدير فالمثبَت واجب، والمسلوب ممتنع، فإما أن تكون هذه الصفات واجبة له، وإما أن تكون ممتنعة عليه، والقول بالامتناع لا وجه له؛ إذ لا دليل عليه بوجه.
بل قد يقال: نحن نعلم بالاضطرار بطلان الامتناع؛ فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك إلا بما يستدل به على إبطال أصل الصفات، وقد علم فساد ذلك، وحينئذٍ؛ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له.
واعلم أن هذا يمكن أن يُجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له؛ فإنها إما واجبة له، وإما ممتنعة عليه، والثاني باطل؛ فتعيَّن الأول؛ لأن كونه قابلاً لها خالياً عنها؛ يقتضي أن يكون ممكناً، وذلك ممتنع في حقه، وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار.
الجواب الثاني: أن يقال: فعلى هذا إذا قلنا: زيد إما عاقل وإما غير عاقل، وإما عالم وإما ليس بعالم، وإما حي وإما غير حي، وإما ناطق وإما غير ناطق، وأمثال ذلك ممَّا فيه سلب الصفة عن محل قابل لها؛ لم يكن هذا داخلاً في قسم تقابل السلب والإيجاب.
ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة، وخلاف اتفاق العقلاء، وخلاف ما ذكروه في المنطق، وغيره.
ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما؛ كذب الأخرى، فلا يجتمعان في الصدق والكذب، فهذه شروط التناقض موجودة فيها.
وغاية فرقهم أن يقولوا: إذا قلنا: هو إما بصير، وإما ليس ببصير، كان إيجاباً وسلباً، وإذا قلنا: إما بصير، وإما أعمى؛ كان مَلَكَة وعَدَماً.
وهذا منازعة لفظية، وإلا فالمعنى في الموضعين سواء، فعلم أن ذلك نوع من تقابل السلب والإيجاب، وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل:«إنه لا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر» ؛ فإن الاستحالة هنا ممكنة؛ كإمكانها إذا عبر بلفظ: «العمى» .
الوجه الثالث: أن يقال: التقسيم الحاصر؛ أن يقال: المتقابلان؛ إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب، وإما أن لا يختلفا بذلك؛ بل
يكونان إيجابين أو سلبين، فالأول: هو النقيضان، والثاني: إما أن يمكن خلو المحل عنهما، وإما أن لا يمكن، والأول: هما الضدان؛ كالسواد والبياض، والثاني: هما في معنى النقيضين؛ وإن كانا ثبوتَين؛ كالوجوب، والإمكان، والحدوث والقِدم، والقيام بالنفس، والقيام بالغير، والمباينة، والمجانبة، ونحو ذلك.
ومعلوم أن الحياة، والموت، والصمم، والبَكَم، والسمع؛ ليس ممَّا إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما؛ كالحمرة بين السواد والبياض؛ فعُلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما، فإذا انتفى؛ تعين الآخَر.
الوجه الرابع: المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحوها؛ أنقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها، ولهذا كان الحجر ونحوه؛ أنقص من الحي الأعمى.
وحينئذٍ؛ فإذا كان الباري مُنزها عن نفي هذه الصفات - مع قبوله لها -؛ فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أَوْلى وأحرى، إذ بتقدير قبوله لها؛ يمتنع منع المتقابلين، واتصافه بالنقائص؛ ممتنع، فيجب اتصافه بصفات الكمال.
وبتقدير عدم قبوله؛ لا يمكن اتصافه لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص؛ وهذا أشد امتناعاً؛ فثبت أن اتصافه بذلك؛ ممكن، وأنه واجب له، وهو المطلوب، وهذا في غاية الحسن.
الوجه الخامس: أن يقال: أنتم جعلتم تقابل العَدم والمَلَكة فيما يمكن اتصافه بثبوت، فإن عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي؛ وهو: أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج؛ كان هذا باطلاً من وجهين:
أحدهما: أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لا حيَّة ولا ميتة، ولا ناطقة ولا صامتة - وهو قولكم -؛ لكن هذا اصطلاح محض، وإلا فالعرب يصفون هذه الجمادات بالموت والصمت
(1)
.
وقد جاء القرآن بذلك، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُون (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون (21)} [النحل]، فهذا في الأصنام؛ وهي من الجمادات؛ وقد وصفت بالموت.
والعرب تقسم الأرض إلى الحيوان والموَتَان، قال أهل اللغة:«الموَتَان - بالتحريك -: خلاف الحيوان، يقال: اشْتَرِ الموَتَان ولا تَشْتَرِ الحيوان، أي: اشْتَرِ الأرضين والدُّور، ولا تشتر الرقيق والدواب» . وقالوا - أيضاً -: «المَوَات: ما لا روح فيه»
(2)
.
فإن قيل: فهذا إنما سمي مواتاً باعتبار قبوله للحياة، التي هي: إحياء الأرض.
قيل: وهذا يقتضي أن الحياة أعمُّ من حياة الحيوان، وأن الجماد يوصف بالحياة إذا كان قابلاً للزرع والعمارة.
(1)
تقدم نحوه في ص 193.
(2)
النقلان من «الصحاح» 1/ 267.
والخَرَس: ضد النطق، والعرب تقول:«لبن أخرس، أي خاثر لا صوت له في الإِناء، وسحابة خرساء، ليس فيها رعد ولا برق، وعَلَمٌ أخرسُ، إذا لم يُسمع له في الجبل صوت صدىً، ويقال: كتيبة خرساء، قال أبو عبيد: هي التي صمتت من كثرة الدروع ليس لها قعاقع»
(1)
.
وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت، فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه، بخلاف الخرس، فإنه عجز عن النطق، ومع هذا؛ فالعرب تقول:«ما له صامت ولا ناطق، فالصامت الذهب والفضة، والناطق الإبل والغنم، والصامت من اللبن: الخاثر، والصَمُوت: الدرع التي إذا صُبَّت لم يسمع لها صوت»
(2)
.
ويقولون: «دابة عجماء، وخرساء، لما لا ينطق ولا يمكن منه النطق في العادة»
(3)
، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«العَجماء جُبَارٌ»
(4)
.
وكذلك في العمى، تقول العرب:«عَمَى الموجُ يَعْمِي عَمْياً إذا رمى القذى والزَبَدَ، والأعميان: السَّيل، والجمل الهائج، وعَمِيَ عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَاء يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66]»
(5)
.
(1)
من «الصحاح» 3/ 922.
(2)
من «الصحاح» 1/ 257.
(3)
بمعناه من «الصحاح» 5/ 1980.
(4)
رواه البخاري (1499)، - واللفظ له - ومسلم (1710) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
من «الصحاح» 6/ 2439.
وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها: إنه عدم ما يقبل المحل الاتصاف به كالصوت، ولكن فيها ما لا يقبل؛ كموت الأصنام.
الثاني: أن الجامدات يمكن اتصافها بذلك، فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة، كما جعل عصا موسى حية تبلع الحبال والعصي.
وإذا في إمكان العادات؛ كان ذلك ممَّا قد علم بالتواتر، وأنتم - أيضاً - قائلون به في مواضع كثيرة.
وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة وتوابع الحياة؛ ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك؛ فيكون الخالق أَوْلَى بهذا الإمكان.
وإن عنيتم الإِمكان الذهني؛ وهو: عدم العلم بالامتناع؛ فهذا حاصل في حق الله، فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع، والبصر، والكلام.
الوجه السادس: أن يقال: هب أنه لا بدَّ من العلم بالإمكان الخارجي، فإمكان الوصف للشيء يُعلم تارة: بوجوده له، أو: بوجوده لنظيره، أو: بوجوده لما هو الشيء أَوْلَى بذلك منه.
ومعلوم: أن الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام؛ ثابتة للموجودات المخلوقة، وممكنة لها؛ فإمكانها للخالق تعالى؛ أَوْلَى وأحرى، فإنها صفات كمال، وهو قابل للاتصاف بالصفات، وإذا كانت ممكنة في حقه؛ فلو لم يتصف بها لاتَّصَف بأضدادها.
الوجه السابع: أن يقال: مجرد سلب هذه الصفات؛ نقصٌ لذاته، سواء سميت عمى وصمماً وبَكماً، أو لم تسم، والعلم بذلك ضروري، فإنا إذا قدرنا موجودَين، أحدهما يسمع، ويبصر، ويتكلم، والآخَر ليس كذلك؛ كان الأول أكمل من الثاني.
ولهذا عاب الله سبحانه مَنْ عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات، فقال تعالى عن إبراهيم الخليل:{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم]، وقال أيضاً في قصته:{فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُون (63)} [الأنبياء]، وقال تعالى عنه:{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُون (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُون (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُون (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين (77)} [الشعراء].
وكذلك في قصة موسى في العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِين (148)} [الأعراف]، وقال تعالى:{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (76)} [النحل]، فقابل بين الأبكم العاجز، وبين الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم.
* * *
توحيد العبادة وتضمنه للشرع والقدر
فصل
وأما الأصل الثاني؛ وهو: التوحيد في العبادات، المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعاً، فنقول: إنه لا بدَّ من الإيمان بخلق الله وأمره، فيجب الإيمان بأن الله خالقُ كلِّ شيء، وربُّه ومليكُه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقد عَلِم ما سيكون قبل أن يكون، وقدَّر المقادير، وكتبها حيث شاء، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (70)} [الحج]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»
(1)
.
هذا هو (الأصل الثاني)، وسبق أن ذكر الشيخ «الأصل الأول»؛ وهو:«التوحيد في الصفات»
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه في ص 60.
(2)
ص 86.
وقد عبَّر الشيخ عن (الأصل الثاني) بأنه التوحيد في العبادات المتضمن للإيمان بالشرع والقدر، وقد عبَّر الشيخ في «المقدمة» عن «الأصل الثاني» بالإيمان بالشرع والقدر، وأنه متضمن لتوحيد العبادة
(1)
، فكلٌّ منهما متضمن للآخر.
وهنا سؤال؛ وهو: ما وجه تضمن التوحيد في العبادات للإيمان بالشرع والقدر؟
والجواب: أن مما يوضح هذا: ما هو مقرر من أن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية.
أما تضمن هذا الأصل للإيمان بالشرع والقدر؛ فلأن إفراد الله بالعبادة؛ هو أصل الشرع ومداره، فعبادة الله تعالى وحده هي جِماع الشرع، لأن العبادة:«اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه؛ مِنْ: الأقوال، والأعمال: الظاهرة، والباطنة» .
وأما تضمنه للإيمان بالقدر؛ فلأن إفراد الله تعالى بالعبادة؛ يتضمن إفراد الله تعالى بربوبيته، وملكه، وتدبيره، وعموم خلقه، كما يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد العبادة.
وتوحيد الربوبية يتضمن الإيمان بالقدر؛ لأن من توحيد الربوبية: الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، ويدخل في ذلك أفعال العباد.
وهذه الجملة من كلام الشيخ تتضمن وجوب الإيمان بمراتب القدر الأربعة؛ وهي:
(1)
ص 76، 79.
1 -
علم الله السابق؛ فإنه تعالى علم ما كان، وما سيكون، وعلم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم.
2 -
الكتابة؛ فقد كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
3 -
عموم مشيئته سبحانه وتعالى؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى؛ من الخير، والشر.
4 -
عموم الخلق؛ أي: بأن الله تعالى خالق كل شيء، فهو سبحانه خالق العباد، وقدرتهم، وأفعالهم: الظاهرة، والباطنة.
فلا يكون الإنسان مؤمناً بالقدر إلا بالإيمان بالمراتب الأربع كلها
(1)
.
والقدرية طائفتان:
1 -
غلاة؛ وهم: الجبرية الذين يغلون في إثبات القدر.
2 -
نفاة؛ وهم: الذين ينفون القدر.
والقدرية النفاة طائفتان:
الأولى: غلاة؛ وهم: منكرو القدر بمراتبه الأربعة؛ فينكرون علم الله تعالى، وكتابته، ومشيئته، وخلقه.
والثانية: المتوسطون المقتصدون؛ وهم: المعتزلة؛ فهؤلاء يثبتون مرتبة العلم، والكتابة، وينكرون مرتبة المشيئة، والخلق؛ فيخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله تعالى، وخلقه.
(1)
«العقيدة الواسطية» ص 192.
وهذا المذهب - أي: مذهب المعتزلة - في القدر شاع بين كثير من الكتاب المعاصرين، فيجعلون العَلاقة بين الله تعالى وأفعال العباد؛ علمه بها، وكتابته لها، دون مشيئته، وقدرته؛ فلا تأثير لمشيئة الله تعالى، وخلقه في أفعال عباده عندهم.
وسيذكر الشيخ فِرَق الضلال الخائضين في القدر في «الفصل التالي»
(1)
.
* * *
(1)
ص 660.
دين الرسل واحد، وهو الإسلام
ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه.
وعبادته تتضمن كمال الذُّل له، والحب له، وذلك يتضمن كمال طاعته، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء: 64]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون (45)} [الزخرف]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} [الأنبياء]، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ} [الشورى: 13]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون (52)} [المؤمنون]، فأمر الرسل بإقامة الدين، وأن لا يتفرقوا فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعَلاَّت، وأنا أولى الناس بابن مريم؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي»
(1)
.
بعد أن ذكر الشيخ وجوب الإيمان بالقدر؛ ذكر هنا الإيمان بالشرع؛ وهو: أن الله تعالى أمر عباده بعبادته وحده لا شريك له؛ بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه.
وهذه هي الغاية من خلق الجن والإنس.
وعبادة الله تعالى؛ تتضمن: كمال الذل لله تعالى، والحب له، وذلك يستلزم كمال طاعته.
وهنا تعريفان للعبادة:
أحدهما: أن العبادة: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه؛ من: الأقوال، والأعمال: الظاهرة، والباطنة»
(2)
.
الثاني: «كمال الحب، مع كمال الذل له سبحانه»
(3)
.
فالأول: اسم لما يتعبد به. والثاني: اسم لحقيقة العبادة.
(1)
لم أجد هذا اللفظ في كتب الحديث، والظاهر أنه مروي بالمعنى، وللحديثِ رواياتٌ أقربها لما ذكر شيخ الإسلام؛ سيأتي في الشرح في ص 575، وتخريجه هناك.
(2)
«العبودية» ص 149.
(3)
«درء التعارض» 6/ 62، و «الصفدية» ص 488، و «الداء والدواء» ص 532.
والصلاةُ ونحوها شعائرُ العبادة؛ لأنها يُتَعبَّد بها ويتذلل بها لله تعالى؛ فهي عبادة، ولهذا لا ينبغي أن تسمى: مظاهر العبادة؛ لأنها هي التي يحصل بها التذلل والتقرب إلى الله تعالى.
والشعائر الشركية تذللٌ وتَعَبُّدٌ لغير الله، كالذبح - مثلاً -، فالذبحُ على وجه التعظيم والتقرب؛ عبادةٌ.
فالشركُ: «عبادةُ غير الله مع الله» ، أو:«اتخاذُ ندٍّ لله تعالى» .
قال ابن القيم:
والشركُ فاحذره فشركٌ ظاهرٌ
ذا القسمُ ليس بقابلِ الغفرانِ
وهو: اتخاذُ النِّد للرحمنِ أيَّ
اً كان من حجرٍ، ومن إنسانِ
يدعوه بلْ يرجوه، ثم يخافُه،
ويحبُه؛ كمحبةِ الديانِ
(1)
وطاعة الرسول مطلقة؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه، فطاعته طاعة لله، قال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} .
فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن عبادة الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون (45)} .
(1)
«الكافية الشافية» ص 189، الأبيات (3493 - 3495).
فكلُّ الرسل دعوا للتوحيد، وحذروا من الشرك، ولم يُشرعِ الشركُ في أيِّ رسالة.
وأما ما جاء من السجود ليوسف عليه السلام؛ فهو سجود تحية، لا سجود عبادة، وقد كان سجودُ التحية جائزاً في شريعتهم، وحُرِّم في الشريعة المحمدية، وقد سبق التنبيه على ذلك في «القاعدة الخامسة»
(1)
.
ومن أدلة دعوة الأنبياء للتوحيد، وإقامة الدين بالإخلاص لله تعالى؛ ما ذكره المؤلف من الآيات، كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} .
فدين الرسل واحد، وهو:«التوحيد» ، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. والأمة هنا؛ هي: «الملة» ، ومن أدلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة» ، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من عَلَّات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي»
(2)
.
وإخوة العَلَّات؛ هم: الإخوة لأب
(3)
.
فالدين واحد؛ وهو: التوحيد، والشرائع مختلفة، كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]
(4)
.
* * *
(1)
ص 376.
(2)
رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365) - واللفظ له - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
والإخوة لأم؛ يقال لهم: «الَأخْياف» ، والإخوة لأبٍ وأمٍ؛ يقال لهم:«الَأعْيان» . «لسان العرب» 11/ 467.
(4)
«قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع» ص 106، و «الرد على المنطقيين» ص 336.
وهذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يَقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال تعالى عن نوح:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُون (71)} {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين (72)} [يونس].
وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّسْلِمِين (84)} [يونس]، وقال في خبر المسيح:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون (111)} [المائدة].
وقال فيمن تقدم من الأنبياء: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، وقال عن بِلْقِيس أنها قالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (44)} [النمل].
فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره؛ كان مشركاً، ومن لم يستسلم له؛ كان مستكبراً عن عبادتِهِ، والمشركُ به والمستكبر عن عبادته؛ كافرٌ.
والاستسلام له وحده؛ يتضمن: عبادته وحده، وطاعته وحده.
وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمر ثانياً باستقبال الكعبة؛ كان كلٌّ من الفعلين حين أمر به؛ داخلاً في دين الإسلام.
فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجهة المصلِّي، فكذلك الرسل دينهم واحد، وإن تنوعت الشِّرْعَة، والمنهاج، والوجهة، والمنسَك؛ فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدِّين واحداً، كما لم يمنع ذلك في شِرعة الرسول الواحد.
هذا الدين الواحد الذي بعث الله به رسله، هو دين الله واسمه «الإسلام» في جميع الشرائع، في عهد نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وغيرهم.
وقد ذكر المؤلف عدة آيات تدل على ذلك؛ فنوح قال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين (72)} ، وكذلك إبراهيم ويعقوب، كما قال تعالى: {وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون (132)}، وهكذا.
وحقيقة دين الإسلام: الاستسلام لله وحده بعبادته وحده لا شريك له، وطاعته كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، وهذه الحقيقة واحدة في دين جميع الرسل.
فالإسلام؛ هو: الاستسلام لله وحده، والناس بالنسبة للاستسلام لله ثلاثة أقسام:
1 -
مستسلم لله وحده، فهذا هو: المسلم الموحد على الحقيقة.
2 -
مستسلم لله ولغيره، وهذا هو: المشرك.
3 -
المستكبر عن الاستسلام لله تعالى، وهو: المستنكف عن عبادة الله.
والمشركُ والمستكبر كلٌّ منهما كافر، ولكن كفر المستكبر أعظم.
والفرق بين المشرك والكافر: أن الكافرَ أعمُّ، فكلُّ مشرك شِركاً أكبر؛ كافرٌ، وليس كلُّ كافرٍ مشركاً؛ فالمكذبُ بالرسول؛ كافرٌ، وإن لم يكن مشركاً.
والله تعالى يشرع ما يشاء، وينسخ ما يشاء، فيجب الإيمان بالنسخ، الذي أنكرته اليهود، وجعلوه ذريعة للطعن في الرسول وتكذيبه، ويقولون:«إن النسخ بَدَاءٌ» أي: يبدو لله تعالى ما كان غائباً وخافياً عليه - تعالى الله عن قولهم وظنهم -.
والحقُّ: أن النسخَ مَرَدُّه: الحِكْمَةُ، فالله تعالى يشرع لعباده في كل وقت ما تقتضيه حكمته
(1)
.
ومن قضايا النسخ في الشريعة الإسلامية: نسخُ القبلة، حيث كان التوجه في البداية للصخرة، وبعد ستة عشر - أو: سبعة عشر - شهراً من الهجرة؛ نسخ ذلك إلى استقبال الكعبة، ولما بلغ بعض الصحابة النسخ وهم يصلون إلى بيت المقدس؛ استداروا إلى الكعبة، وحولوا وجوههم إليها
(2)
؛ امتثالاً وطاعة لأمر الله تعالى، فهم مطيعون لله تعالى في الحالين، ومستسلمون لأمره في الجهتين والوقتين والفعلين، وكل ذلك من الدين.
فاستقبال بيت المقدس في الصلاة يوم كان مشروعاً؛ هو من الدين، أما بعد النسخ؛ فليس استقباله من الدين، وإنما يدخل في الدين؛ الإيمانُ بأنه كان مشروعاً؛ فنسخ.
واختلاف شرائع الأنبياء لا يمنع أن يكون دينُهم واحداً، كما أن شريعة النبي الواحد قد تختلف من وقت لآخر بالنسخ ولا يخرجها ذلك عن وحَدة الدين؛ لأن الدين هو طاعة الله تعالى في كل وقت بحسب ما أمر به في ذلك الوقت، والعبد في الفعلين والوقتين مطيع لله، عابد له، مستسلم له
(3)
.
(1)
«الناسخ والمنسوخ في كتاب الله» 1/ 441، «إغاثة اللهفان» 2/ 346، و «شرح مختصر الروضة» 2/ 264، و «البرهان في علوم القرآن» 2/ 160، و «الإتقان في علوم القرآن» 3/ 60، و «شرح الكوكب المنير» 3/ 536.
(2)
رواه البخاري (40)، ومسلم (525) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.
(3)
«اقتضاء الصراط المستقيم» 2/ 378، و «قاعدة في توحد الملة واختلاف الشرائع» ص 106.
وجوه من الأدلة على وحدة دين الرسل
والله تعالى جعل مِنْ دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين (81)} [آل عمران]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«لم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بُعث محمد، وهو حيٌّ؛ ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد، وهم أحياء؛ ليؤمنن به، ولينصرنه»
(1)
.
وجعل الإيمان بهم متلازماً، وكفَّر من قال:«إنه آمن ببعض وكفر ببعض» ، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151]، وقال تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (85)} [البقرة]، وقد قال لنا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ
(1)
أخرجه بمعناه الطبري في «تفسيره» 5/ 541، والبيهقي في «دلائل النبوة» 5/ 384.
مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (137)} [البقرة]، فأمرنا أن نقول: آمنا بهذا كلِّه، ونحن له مسلمون، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يُقر بما جاء به؛ لم يكن مسلماً، ولا مؤمناً؛ بل يكون كافراً، وإن زعم أنه مسلم، أو مؤمن.
كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران]؛ قالت اليهود والنصارى: «فنحن مسلمون» ، فأنزل الله تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فقالوا:«لا نحج» ، فقال تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين (97)} [آل عمران].
فإن الاستسلام لله؛ لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» ، ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة؛ أنزل الله تعالى:{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
(1)
.
(1)
رواه البخاري (4407) ومسلم (3017) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى، وعيسى؛ هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، المتضمن لشريعة القرآن؛ ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام، المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبياً من الأنبياء؛ فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء.
ممَّا يدل على أن دين الأنبياء واحد ودعوتهم واحدة: أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين (81)} .
وقد جعل الله تعالى الإيمان بالرسل متلازماً، فلا يكون الشخص مؤمناً برسول؛ حتى يؤمن بجميع الرسل، ومن كفر ببعضهم؛ فقد كفر وبطل إيمانه، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} ، ونحو ذلك من الآيات التي ذكرها المؤلف.
فمن كفر وكذَّب برسول؛ فقد كفر وكذب بجميع المرسلين
(1)
، كما قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِين (105)} [الشعراء]، وكان نوح عليه السلام أول الرسل، وكما قال تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِين (141)} [الشعراء]، وغير ذلك من الآيات
(2)
.
فيجب الإيمان بجميع الرسل، فمن بلغته - مثلاً - رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يقر بما جاء به؛ لم يكن مسلماً، ولا مؤمناً؛ بل يكون كافراً، وإن زعم الإسلام، والإيمان، وإن آمن بغيره من الرسل؛ كعيسى، أو موسى.
كذلك الإيمان بالرسول الواحد يقتضي الإيمان بكل ما جاء به، فمن آمن ببعض ما جاء به دون بعض؛ لم يكن مؤمناً، كما يزعم بعض
(1)
«الصفدية» ص 555، و «معارج الوصول» ص 185.
(2)
قال شيخ الإسلام في «الجواب الصحيح» 3/ 563: «الناس في النبوة على درجات منهم مَنْ يحتاج إلى أن يعلم جنس النبوة؛ فيصدق بجنس الرسل من البشر لا يكذب بالجنس، كما كذب بذلك من كذب من: قوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم، ولهذا يقول تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِين (105)} [الشعراء]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين (123)} [الشعراء]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِين (141)} [الشعراء]؛ لأن تكذيبهم لم يكن لشخص واحد؛ بل كانوا مكذبين لجنس الرسل، وهؤلاء يخاطبهم الله في السور المكية، كقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91].
وانظر: «مجموع الفتاوى» 10/ 725، و «الكيلانية» ص 334، و «الرد على المنطقيين» ص 414، و «مختصر الرد على الإخنائي» ص 281.
النصارى أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول إلى العرب خاصة، فهذا يقتضي تكذيبه في دعوى عموم الرسالة
(1)
.
فمن جحد وجوب شيء من واجبات الإسلام التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم من: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج؛ فليس بمؤمن، وإن شهد الشهادتين.
فهذه ثلاثة أوجه تدل على وَحدة دين الرسل، وأنه الإسلام:
الأول: أن حقيقة دعوتهم واحدة؛ وهي: حقيقة الإسلام.
الثاني: أن أولهم يبشر بآخرهم، ويؤمن به، وآخرهم يصدق أولهم، ويؤمن به.
الثالث: أن الإيمان بهم متلازم.
وقد ذكر المفسرون أن اليهود والنصارى لما ادعوا الإسلام أنزل الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ؛ فقالوا: «لا نحج» ؛ فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين (97)}
(2)
.
فالاستسلام لله تعالى لا يتم إلا بالإقرار بما لله تعالى على عباده، ومن ذلك الحج.
(1)
«الجواب الصحيح» 1/ 266، وانظر: مناظرة نفيسة لابن القيم مع بعض علماء أهل الكتاب، وفيها جواب هذه الشبهة وغيرها، في:«الصواعق المرسلة» 1/ 327، و «زاد المعاد» 3/ 639، و «هداية الحيارى» ص 200.
(2)
رواه الشافعي في «الأم» 3/ 269، وسعيد بن منصور في «سننه» 3/ 1063، والطبري في «تفسيره» 5/ 555، عن عكرمة، ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» 4/ 324 عن عكرمة ومجاهد، وانظر:«الدر المنثور» : 3/ 695.
والشيخ ذكر ذلك من باب التمثيل والاستشهاد لا الاعتماد، وإلا فإن اليهود والنصارى لو حجوا؛ لم يقبل منهم ذلك؛ لأنهم غير مقرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم قد كفروا بسبب عدة أشياء؛ منها: قتل الأنبياء، وتبديل الدين، وبتكذيب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكَفَر اليهود بتكذيب المسيح، وكَفَر النصارى بتأليهه وأمه، كما كفروا جميعاً بامتناعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه.
وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى تنازع الناس في وصف مَنْ تقدم مِنْ أتباع الأنبياء؛ - مثل مَنْ تقدم مِنْ أمة موسى وعيسى - بالإسلام، فبعض العلماء يرى أنهم مسلمون، وبعضهم يرى أنهم غيرُ مسلمينَ، وقد ذكر الشيخ أنه نزاع لفظي، وأن الإسلام يطلق إطلاقين: خاص وعام.
فالإسلام الخاص؛ هو: الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، المتضمن لشريعة القرآن، فالإسلام بهذا المعنى والاعتبار؛ ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المعنى المتبادر عند الإطلاق، فإذا أطلق لفظ الإسلام اليوم؛ فإنما ينصرف إلى هذا المعنى الخاص، كما قال تعالى:{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} ، وحديث («بني الإسلام على خمس»)
(1)
الحديث.
وأما الإسلام العام: - أي بمعناه العام - المتضمن الاستسلام لله تعالى بعبادته وحده، وإخلاص الدين له، وطاعته في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت؛ فهو يتناول شريعة كل نبي من أنبياء الله تعالى، وإسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء.
(1)
تقدم تخريجه في ص 45.
ومن شواهد إطلاق الإسلام بالمعنى العام؛ قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
* * *
رأسُ الأمر مطلقاً شهادةُ أن لا إله إلا الله
ورأسُ الإسلام مطلقاً شهادةُ أن لا إله إلا الله، وبها بَعث الله جميع الرسل، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} [الأنبياء].
وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِمَّا تَعْبُدُون (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون (28)} [الزخرف]، وقال تعالى عنه:{قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُون (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُون (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين (77)} [الشعراء]، وقال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون (45)} [الزخرف]، وذكر عن رسله؛ كنوح وهود، وصالح، وغيرهم؛ أنهم قالوا لقومهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59 و 65 و 73 و 85].
ذكر الشيخ أن رأسَ الإسلام مطلقاً - أي الإسلام العام - الذي هو دين جميع الرسل؛ شهادةُ أن لا إله إلا الله، وذكر بعدها عدة آيات تُفسِّر معناها الذي مضمونه: عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، فهي متضمنة للنفي والإثبات؛ نفي عبادة ما سوى الله تعالى، والبراءة من ذلك، وإثبات العبادة لله وحده؛ كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِمَّا تَعْبُدُون (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون (28)} ، وكما ذكر الله تعالى عن نوح، وهود، وصالح، وغيرهم؛ أنهم قالوا لقومهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
فشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن اعتقاداً؛ وهو: الاعتقاد بأن الله هو الإله الحق، المستحق للعبادة وحده، وأن كل معبود سواه باطل، كما تقتضي عملاً؛ وهو: البراءة ممَّا يعبد من دونه، والبراءة من الشرك وأهله، وإفراده بالحب، والعبادة، والإخلاص، والطاعة المطلقة في أمره، ونهيه.
* * *
الشرك الذي جاء الرسل للنهي عنه
وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48 و 116] ذكر ذلك في موضعين من كتابه.
وقد بيَّن في كتابه الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام - وأصلُ الشرك: الشركُ بالشيطان - فقال عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31)} [التوبة].
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُون (80)} [آل عمران]، فبيَّن أن اتخاذَ الملائكة والنبيين أرباباً؛ كفرٌ.
بعد أن ذكر الشيخ أَوجبَ الواجبات، وأعظمَ الحسنات؛ وهو: شهادة أن لا إله إلا الله؛ ذكر ما يضاد هذا الأصل؛ وهو: عبادة غير الله، فالشرك ضد التوحيد.
والشرك أعظم الذنوب، وأظلم الظلم، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال:«أن تجعل لله نداً، وهو خلقك»
(1)
، وكما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم (13)} [لقمان].
والشرك الذي يناقض أصل التوحيد والإيمان؛ هو: الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر؛ فإنما يناقض: كمال التوحيد الواجب.
فالموحد؛ هو: الذي أفرد الله تعالى بالعبادة، وآمن أنه لا يستحقها غيره، وكفر بما يعبد من دون الله.
والمشرك؛ هو: الذي عبد مع الله غيره.
ومما يدل على عِظم الشرك الأكبر خصائصُه الثلاثة؛ وهي:
1 -
أنه لا يغفر، كما قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} .
2 -
أنه موجب للخلود في النار، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72].
(1)
رواه البخاري (4477)، ومسلم (86).
3 -
أنه لا ينفع معه عمل، كما قال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (65)} [الزمر]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُون (88)} [الأنعام].
وقسم العلماء الشرك الأكبر إلى أقسام
(1)
:
فمنه: شرك الطاعة، وشرك المحبة، وشرك الدعاء، وشرك الإرادة.
فدليل شرك الطاعة؛ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ} ، وقوله:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون (121)} [الأنعام].
ودليل شرك المحبة؛ قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة: 165].
ودليل شرك الدعاء؛ قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون (65)} [العنكبوت]، أي: بدعاء غير الله، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلَال (14)} [الرعد].
ودليل شرك الإرادة؛ قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} [هود].
(1)
«مجموعة الرسائل والمسائل النجدية» 1/ 661، و «الضياء الشارق» ص 187.
والشرك الأكبر بالنظر إلى المعبودين لا يمكن حصره، ولكن الشيخ هنا ذكر ما جاء منه في القرآن الكريم.
فمن ذلك: الشرك في الملائكة، والأنبياء، والصالحين، والكواكب، والجن.
ومن أدلة الشرك بالأنبياء، والملائكة؛ ما ذكره الشيخ من قوله تعالى:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُون (80)} ، فبيَّن أن اتخاذ الملائكة، والنبيين أرباباً؛ كفرٌ، ومن أدلة الشرك بالأنبياء؛ آية المائدة:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ} الآيةَ.
ومن أدلة الشرك بالصالحين؛ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ} ، وذلك بطاعتهم في تحليل ما حرَّم الله، وتحريم ما أحلَّ الله.
وليس معنى قوله: {أَرْبَابًا} أي مشاركون له في أفعاله؛ من: الخلق، والملك، والتدبير؛ بل المقصود بذلك: اتخاذهم آلهة ومعبودين، فالرب يطلق في اللغة على:«المعبود»
(1)
، ومثلُ هذه الآيةِ الآيةُ الأخرى؛ وهي: قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا} .
(1)
لم أجد في كتب اللغة هذا المعنى، ووجدت:«المالِك، والسيد، والمُصْلح، والمُدَبِّر، والمُرَبِّي، والقَيِّم، والمُنْعِم» ، لكن ذكر جمع من المفسرين أن «الرب» لغة:«المعبود» . كصاحب: «المحرر الوجيز» 1/ 67، و «الجامع لأحكام القرآن» 1/ 211، و «الدر المصون» 1/ 42، و «اللباب في علوم الكتاب» 1/ 179، وغيرهم.
والموجِبُ لتفسيرِ «الأربابِ» ب «المعبودينَ، والآلهةِ» - أي بالشرك في توحيد الإلهية، وليس بالشرك في توحيد الربوبية -؛ الواقعُ؛ لأنه لم يكن أحد من هؤلاء المشركين يعتقد مشاركة الأنبياء، والأحبار، والرهبان لله تعالى في الخلق والتدبير؛ بل كان شركهم في العبادة والطاعة. كما سيذكر الشيخ ذلك.
ونبه الشيخ إلى أن الشرك الجامع للمشركين على اختلاف معبوداتهم؛ هو: الشرك بالشيطان، وذلك بطاعته في عبادة غير الله تعالى، كما قال عز وجل:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين (60)} [يس].
* * *
لم يقل أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان
ومعلومٌ أنَّ أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء، والأحبار، والرهبان، أو المسيح ابن مريم؛ شاركوا الله في خلق السموات والأرض؛ بل ولا زعم أحدٌ من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال؛ بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهاً مساوياً لله في جميع صفاته.
بل عامة المشركين بالله مقرُّون بأنه ليس شريكُه مثلَه؛ بل عامتهم مقرُّون أن الشريكَ مملوكٌ له؛ سواء كان مَلَكاً، أو نبياً، أو كوكباً، أو صنماً، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم:«لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك» ، ف «أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فقال: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» .
وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل، والآراء، والديانات؛ فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات؛ بل مِنْ أعظم ما نقلوا في ذلك:
قول الثَّنَوِيَّة، الذين يقولون بالأصلين: النور، والظلمة، وأن النُّور خَلَق الخير، والظلمةَ خلقتِ الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين:
أحدهما أنها محدثة، فتكون من جملة المخلوقات له، والثاني أنها قديمة، لكنها لم تفعل إلا الشر، فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور.
يقرر الشيخ هنا ما سبقت الإشارة إليه من أن اتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم؛ ليس معناه جعلهم شركاء لله تعالى في ربوبيته، فلا أحد يزعم أن الأنبياء، والأحبار، والرهبان، أو المسيح ابن مريم؛ شاركوا الله تعالى في خلق السموات والأرض.
ولا أحد يزعم أن للعالم صانعين متكافئين في الصفات والأفعال، بل حتى المشركون الذين يعبدون غير الله؛ عامتهم مقرون بأن معبودهم مع الله ليس مثل الله تعالى، بل يعتقدون أنه مملوك لله تعالى، سواء كان هذا المعبود نبياً، أو ملكاً، أو كوكباً، أو صنماً
(1)
.
ويشهد لهذا قول مشركي العرب في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك؛ إلا شريكًا هو لك، تملكه، وما ملك)
(2)
.
وقد عارضهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهل بالتوحيد حيث قال: («لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك»)
(3)
.
(1)
«درء تعارض العقل والنقل» 8/ 482، و 9/ 344، و «مجموع الفتاوى» 11/ 51، و «شرح الأصبهانية» ص 116.
(2)
رواه مسلم (1185) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (1549)، ومسلم (1184) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للمشركين إذا قالوا في التلبية: «لبيك لا شريك لك» : «قَدْ قَدْ» (2)، يعني: يكفي يكفي.
وهذا يعني الأمر بالوقوف والاكتفاء بهذا دون ما بعده من عبارات الشرك والتناقض، وهو قولهم:«إلا شريكاً هو لك تملكه، وما ملك» ، فكيف يكون المملوك شريكاً للمالك؟!
وقد قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِنْ شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم: 28].
فهل يرضى أحد من الناس أن يكون مملوكُه شريكَه، يقاسمه، ويخافه كما يخاف الشركاء بعضهم بعضاً، ويداري بعضهم بعضاً؟!
فلا أحد يرضى بأن يكون هذا المملوك مشاركاً له في ملكه، فكيف يجعل العبد المخلوق مشاركاً للخالق سبحانه وتعالى؟!
والمقصود أن عامة المشركين مقرون بأن الشريك مملوك مخلوق لله تعالى، لكن قد يعتقدون أن لهذا الشريك شيئاً من التدبير - أحياناً - وإن كان مملوكاً.
فالشرك الغالب في الأمم؛ هو الشرك في العبادة، وقد يُوجد شرك في الربوبية؛ لكنه أقل من الأول، ورغم وجود الشرك في الربوبية؛ إلا أنه لا يصل إلى إثبات خالقين متكافئين للعالم.
وإنما غاية ما وصل إليه الشرك في الربوبية؛ اعتقاد أن بعضَ الموجوداتِ خلقٌ لغير الله؛ كأفعال العباد عند القدرية، وبعض المخلوقات التي يزعم عباد الكواكب أنها من صنع معبوداتهم، لكنَّ الوجودَ كلَّه راجعٌ إلى خالق واحد.
وقد ذكر الشيخ أنه لم يَنقل أحدٌ من كتاب المقالات - الذين جمعوا أقوال أهل الملل والنحل، والديانات، والآراء - عن أحدٍ؛ إثباتَ شريكٍ مشارك لله تعالى في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل في الصفات، أي: لم ينقلوا عن أحد إثبات خالقين متماثلين متكافئين؛ بل أعظم ما نقلوا من الشرك في الربوبية؛ شرك الثنوية، القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن النور؛ خَلَق الخير، والظلمة؛ خلقتِ الشر
(1)
، وذكروا لهم في الظلمة قولين:
أحدهما: أنها محدثة، وعلى هذا: تكون مخلوقة من جملة المخلوقات.
والقول الثاني: أنها قديمة؛ لكنها لم تفعل إلا الشر، وعلى هذا: فهي ناقصة في ذاتها، وصفاتها، ومفعولاتها عن النور.
فيكون الإله الكامل والخالق الكامل؛ واحداً.
وبهذا يتبين: أنه لم يقل أحد من مشركي العالم بوجود خالقين متكافئين متماثلين في ذاتهما وصفاتهما.
* * *
(1)
«الملل والنحل» 1/ 176، وانظر:«درء التعارض» 9/ 346.
إقرار المشركين بتوحيد الربوبية
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات؛ ما بيَّنه في كتابه، فقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون (38)} [الزمر]، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُون (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُون (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون (89)} إلى قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون (91)} [المؤمنون]، وقد قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُون (106)} [يوسف].
تقدم التنبيه إلى أن الشرك المشهور الظاهر في الأمم؛ إنما هو الشرك في العبادة، فسائر الأمم مقرون بأن خالق العالم واحد، سوى ما ذهب إليه بعض الثنوية من القول بالأصلين، على ما بينهم من تفاوت في ذلك.
يوضح هذا أن الله تعالى أخبر عن المشركين في كتابه أنهم يقرون بربوبيته تعالى كما في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآيةَ، وقوله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُون (85)} الآياتِ، وهذا من الاحتجاج بتوحيد الربوبية الذي أثبتوه؛ على توحيد الإلهية الذي أنكروه؛ لأن توحيد الربوبية؛ مستلزم لتوحيد العبادة.
فالمشركون يؤمنون بتوحيد الربوبية، ويشركون بتوحيد الألوهية، فجمعوا بين الإيمان والشرك، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُون (106)} .
ومن المعلوم أن الإيمان بتوحيد الربوبية فقط دون الألوهية؛ لا يكفي لدخول صاحبه في الإسلام، ولا نجاته من النار.
فالإيمان بتوحيد الربوبية من الإيمان المطلوب شرعاً، ولكن لا يكون به وحده الشخص مسلماً
(1)
.
(1)
«درء تعارض العقل والنقل» 1/ 226، و «مجموع الفتاوى» 8/ 370، و «منهاج السنة» 5/ 327.
أنواع التوحيد عند المتكلمين، وما فيها من حق وباطل
وبهذا وغيره؛ يعرف ما وقع من الغلط في مسمى «التوحيد» ؛ فإن عامةَ المتكلمين الذين يقررون «التوحيد» في كتب الكلام والنظر؛ غايتُهم أن يجعلوا «التوحيد» ثلاثة أنواع، فيقولون:«هو واحد في ذاته؛ لا قسيم له، وواحد في صفاته؛ لا شبيه له، وواحد في أفعاله؛ لا شريك له» ، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم؛ هو الثالث؛ وهو:«توحيد الأفعال» ؛ وهو: «أن خالق العالم واحد» .
وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة «التمانع» وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا:«لا إله إلا الله» ، حتى قد يجعلون معنى «الإلهية»: القدرة على الاختراع.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بُعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً؛ لم يكونوا يخالفونه في هذا؛ بل كانوا يقرون بأن الله خالقُ كلِّ شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.
يقول الشيخ بعدما تقدم تقريره وبيانه: يتبين ما وقع من الغلط في مسمى (التوحيد) عند أهل الكلام؛ من: المعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم، حيث جعلوا (التوحيد) ثلاثة أنواع
(1)
، وعبروا عنها بما يلي:
(إن الله تعالى واحد في ذاته؛ لا قسيم له، وواحد في صفاته؛ لا شبيه له، وواحد في أفعاله؛ لا شريك له)، فمن أقر بهذه الأنواع الثلاثة؛ فقد أتى بكل التوحيد عندهم.
وأشهر هذه الأنواع عندهم من حيث بحثُه وتقريره؛ هو: النوع الثالث المسمى ب (توحيد الأفعال)، والذي معناه: أن خالق العالم واحد، والمقصود به:«توحيد الربوبية» .
ويحتج أهل الكلام على (توحيد الأفعال) عندهم، الذي هو «توحيد الربوبية» بدليل (التمانع) وصورته كما يلي:
لو كان للعالم خالقان فاختلفا بأن أراد أحدهما تحريك جسم، وأراد الآخر تسكينه؛ فلا يخلو الأمر من أحد ثلاثة أحوال:
1 -
إما أن ينفذ مرادهما، وهذا ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين.
2 -
وإما ألَّا ينفذ مرادهما، وهذا ممتنع؛ لأنه يستلزم رفع النقيضين، وعجز كلٍّ منهما.
(1)
انظر: ص 81.
3 -
أو ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، وحينئذ؛ فلا يكونان متماثلين؛ بل يكون الرب هو الذي نفذ مراده، والآخر عاجزاً لا يصلح أن يكون رباً.
ودليل التمانع دليل عقلي صحيح، ولكن من خطإِ أهل الكلام فيه: أن فسَّروا به قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وهذا غير صحيح؛ لأن الآية في «توحيد الإلهية» ، وهي تدل على امتناع تعدُّدِ الإله المعبود، وهو يستلزم امتناع تعدد الخالق
(1)
.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون (91)} . أي: لو كان معه إله؛ لذهب كل إله بما خلق؛ لأنه من شأن الإله أن يكون له خلق، وأن تكون قدرته نافذة، وقال:{وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} لأن من شأن القادر أن يكون له العلو والرفعة على من سواه.
وعلى أحد التفسيرين
(2)
قوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا (42)} [الإسراء] أي: سبيلاً إلى مغالبته.
(1)
«جامع المسائل» 6/ 174، و «شرح الأصبهانية» ص 121.
(2)
«تفسير البغوي» 5/ 95، و «المحرر الوجيز» 3/ 459، و «زاد المسير» 5/ 38، و «الدر المنثور» 9/ 349، ورجح ابن تيمية أن معنى:«سبيلاً» أي: بالتقرب بعبادته وذِكْرِه. «مجموع الفتاوى» 16/ 577، و «درء التعارض» 9/ 350، واقتصر الطبري في «تفسيره» 14/ 603، وابن كثير في «تفسيره» 5/ 78 على ذِكر ما رجحه شيخ الإسلام.
فكل هذه الآيات تدل على أنه لا يمكن أن يوجد إله حق غير الله؛ لأنه لو فرض وجود إله آخر حق؛ لفسدت السموات والأرض.
وهذا التوحيد الثالث عند أهل الكلام الذي يسمونه «توحيد الأفعال» ؛ وهو: «أن خالق العالم واحد» ، هذا حق، وإنما غلط أهل الكلام فيه من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: ظنهم أنه هو التوحيد المطلوب من المكلفين، والمقصود بدعوة الرسل.
والحقُّ أن هذا التوحيد مطلوبٌ، لكن ليس هو كل التوحيد، ولا يكفي لدخول صاحبه في الإسلام، والرسل دعت إليه، كما دعت إلى «توحيد العبادة» ، لكن المقصود الأول؛ هو: الدعوة إلى «توحيد العبادة» .
الثاني: ظنهم أن هذا التوحيد؛ هو معنى (لا إله إلا الله)، وفسروا (الإلهية) بالقدرة على الاختراع.
وهذا غلط، ف «توحيد الربوبية» ، وكون الله تعالى هو الخالق، وإن كان هو مِنْ معنى «لا إله إلا الله» ، وهي تدل عليه بطريق التضمن؛ إلا أن معناها الصحيح:«لا معبود بحق إلا الله» ، فهي تُفَسَّر بتوحيد «الإلهية» ، و «العبادة» ، لا ب «توحيد الربوبية» .
الثالث: أنهم لما جعلوا «توحيد الأفعال» الغاية العظمى والمقصود الأول من دعوة الرسل؛ أهملوا ذكر «توحيد العبادة» ؛ فلا يبحثون فيه ولا يتكلمون عنه في عقائدهم.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بُعث إليهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بما يسميه أهل الكلام «توحيد الأفعال» ، فهم يقرون بأن الله تعالى خالق كل شيء، كما أنهم مقرون بالقدر، وهم مع هذا مشركون.
فلو كان معنى «لا إله إلا الله» : «لا خالق إلا الله» ، كما يقرره أهل الكلام؛ لكان المشركون موحدين؛ لأنهم مقرون بأن الله تعالى هو الخالق وحده.
ولو كان الأمر كما يزعم أهل الكلام من معنى «لا إله إلا الله» لما امتنع المشركون من قولها لما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليها؛ لأنهم مقرون بألَّا خالق إلا الله تعالى.
* * *
وقد تبيَّن أن ليس في العالم مَنْ ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن مِنْ الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد، وخالق قدرتهم، وإن قالوا:«إنهم خالِقو أفعالهم» .
وكذلك أهل الفلسفةِ، والطَّبْعِ، والنجومِ، الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، فهم مع الإقرار بالصانع؛ يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون:«إنها غنية عن الخالق، مشاركة له في الخلق» .
فأمَّا من أنكر الصانع؛ فذلك جاحد معطِّل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون.
والكلام الآن مع المشركين بالله المقرِّين بوجوده، فإذاً؛ هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون؛ بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب، والسنة، والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام.
يذكر الشيخ هنا أنه ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، أي: ليس هناك من ينازع أنْ ليس للعالم خالقان متكافئان، فهو وإن وُجِد شرك في الربوبية؛ لكنه لا يصل إلى درجة اعتقاد خالقين متكافئين، أو إثبات مثيلٍ مشارك لله تعالى في خلق السموات والأرض.
نعم هناك مَنْ يجعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كما عند القدرية المعتزلة نفاة القدر، الذين يجعلون أفعالَ العباد مخلوقةً لهم.
فهم أخرجوا أفعال العباد من خَلْقِ الله تعالى، ومشيئته، وملكه فأخرجوا بعض الموجودات مِنْ ملك الله وخلقه، وهذه صورة مِنْ صور الشرك في الربوبية، ولكن هؤلاء القدرية مع قولهم هذا؛ فإنهم يقرون بأن الله تعالى خالق العباد، وخالق قدرتهم، وإن قالوا:(إن العباد خالقون لأفعالهم).
أما أهل السنة والجماعة؛ فيقرون أن الله تعالى خالق العباد، وخالق قدرتهم، وأفعالهم.
ومن صور الشرك في الربوبية، ما يزعمه أهل الفلسفة، والطَّبْع، والنجوم، الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدِعة لبعض الأمور، ومؤثرة استقلالاً، كما يجعلون الأسباب مؤثرة بنفسها؛ كاعتقادهم: أن النار محرقة استقلالاً، وكما يعتقد أهل النجوم بتأثير الكواكب في الحوادث الأرضية.
فكل هؤلاء وقعوا في الشرك في الربوبية، حيث جعلوا بعض الموجودات خلقاً لغير الله، ولكنهم لم يصلوا إلى اعتقاد خالقين متكافئين.
فتقرير أهل الكلام لتوحيد الربوبية الذي يسمونه توحيد الأفعال، أي: اعتقاد أن خالق العالم واحد، لا يصلح أن يرد به على المشركين في توحيد العبادة؛ لأنهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، ومنه تفرد الله تعالى
بالخلق، كما لا يصلح أن يرد به على الجاحد المعطل للخالق؛ لأن هذا الملحد يدعي عدم وجود خالق أصلاً؛ لا واحداً، ولا أكثر من ذلك.
وهذا معنى قول الشيخ: (فأما من أنكر الصانع فذلك جاحد معطل
…
) إلخ
(1)
.
* * *
(1)
«درء التعارض» 8/ 38، و «مجموع الفتاوى» 16/ 333، و «الجواب الصحيح» 1/ 211.
وكذلك النوع الثاني، وهو قولهم:«لا شبيه له في صفاته» ، فإنه ليس في الأمم مَنْ أثبت قديماً مماثلاً له في ذاته، سواء قال:«إنه مشاركه» ، أو قال:«إنه لا فعل له» ؛ بل مَنْ شبه به شيئاً من مخلوقاته؛ فإنما يشبِّهه به في بعض الأمور.
وقد عُلم بالعقل امتناع أن يكون له مثلٌ في المخلوقات، يشاركه فيما يجب، أو يجوز، أو يمتنع؛ فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم، وعُلم - أيضاً - بالعقل أنَّ كلَّ موجودَينِ قائمينِ بأنفسهما؛ فلا بدَّ بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى: الوجود، والقيام بالنفس، والذات، ونحو ذلك، وأن نفي ذلك؛ يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابدَّ مِنْ إثبات خصائص الربوبية. وقد تقدم الكلام على ذلك.
تكلم الشيخ هنا عن النوع الثاني من أنواع التوحيد عند أهل الكلام؛ وهو قولهم: «إن الله تعالى واحد في صفاته لا شبيه له» ، وهذا الكلام في ظاهره صحيح، ولو قال ذلك واحد من أهل السنة والجماعة؛ لسُلِّم له، ولكن أهل الكلام صاروا يستعملون ألفاظاً فيها إجمال، ويدخلون فيها معاني باطلة؛ ولذا وجب الحذر، والاستفصال عن مرادهم بالألفاظ التي يطلقونها؛ فيثبت الحق، وينفى الباطل.
والكلام هنا يشبه ما سبق في مطلع «القاعدة السادسة»
(1)
، فيقال:«إن قولهم بأن الله تعالى لا شبيه له» ، إن أرادوا المماثلة؛ وهي: المساواة من جميع الوجوه؛ فهذا النفي حق، لكن لا يوجد في الأمم من أثبت لله تعالى مماثلاً له في ذاته وصفاته، وعلى هذا يمكن أن يقال: إن هذا النفي لا فائدة منه؛ لعدم وجود قائل به أصلاً.
وقد يراد بنفي الشبيه: نفي المشارك لله تعالى في شيء من خصائصه؛ ممَّا يختص بوجوبه، أو جوازه، أو امتناعه، وهذا حقٌّ، وهو معلوم بضرورة العقل امتناعه؛ إذ لو جازت هذه المشابهة؛ لجاز أن يوصف المخلوق بصفات الخالق؛ مِنْ نحو: وجوب الوجود، والغنى، ولجاز أن يوصف الخالق بصفات المخلوق؛ مِنْ نحو: الافتقار، والفناء، ونحو ذلك؛ وهذا باطلٌ؛ لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين، كما تقدم
(2)
.
نعم، قد يوجد مَنْ يشَبِّه بعض المخلوقات بالله في بعض الأمور؛ كما ينسب المشركون الإلهيةَ لمعبوداتهم - والإلهيةُ مِنْ خصائص الله تعالى -، وكذلك مَنْ ينسب علم الغيب لبعض الخلق، وكذا من ينسب بعض القدرة للخلق، وهي لا تصلح إلا لله تعالى.
ويحتمل أن يراد بنفي الشبيه: نفي الاتفاق والمشاركة بين الخالق والمخلوق بوجه من الوجوه، وتقدم
(3)
: أن هذا المعنى ممتنع نفيه؛
(1)
ص 462.
(2)
ص 464.
(3)
ص 146.
إذ ما من شيئين موجودين قائمين بأنفسهما إلا وبينهما اتفاق من وجه واختلاف من وجه، وتعطيل هذا القدر المشترك؛ يلزم منه التعطيل المحض.
وتبيَّن مِنْ ذلك: أن قول أهل الكلام: «إن الله تعالى واحد في صفاته لا شبيه له» ؛ يحتمل حقاً وباطلاً.
* * *
ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم؛ أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، فصار من قال:«إن لله علماً، أو: «قدرة» ، أو:«إنه يُرى في الآخرة» ، أو:«إن القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق» ؛ يقولون: «إنه مشبِّه ليس بموحد» .
وزاد عليهم غلاة الجهمية، والفلاسفة، والقرامطة؛ فنفوا أسماءه الحسنى، وقالوا:«مَنْ قال: «إن اللهَ عليمٌ، قدير، عزيز، حكيم» ؛ فهو مشبِّه ليس بموحد».
وزاد غلاة الغلاة، وقالوا:«لا يوصف بالنفي، ولا الإثبات» ؛ لأن في كل منهما تشبيهاً له.
وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر ممَّا فروا منه، فإنهم شبَّهوه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات؛ فراراً من تشبيههم - بزعمهم - له بالأحياء.
ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله؛ لا تثبت له على حدِّ ما يثبت لمخلوق أصلاً، وهو سبحانه وتعالى: ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفاتِ، فإذا لم يكن في إثباتِ الذاتِ إثباتُ مُمَاثَلَةٍ للذوات؛ لم يكن في إثباتِ الصفاتِ إثبات مماثلة له في ذلك.
فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا: توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك: التشبيه، ويسمون نفوسهم:«الموحِّدين» !.
تقدم أن أهل الكلام أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد بحجة نفي التشبيه، وحَمَلَة راية هذه البدعة؛ هم: المعتزلة؛ إذ إن من أصولهم الخمسة: «التوحيد» الذي أدرجوا فيه نفي الصفات، وسموا أنفسهم «موحدين» ، لذلك سمَّوا مَنْ يثبت الصفات «مشبهاً» .
فمن قال: (إن لله تعالى علماً) أو: (قدرة) أو: (إنه يرى في الآخرة)، أو:(إن القرآن كلام الله منزل، غير مخلوق)؛ مَنْ قال ذلك؛ صار عند المعتزلة مشبهاً غير موحد.
وزاد عليهم غلاة الجهمية، والفلاسفة، والقرامطة، فنفوا أسماء الله تعالى الحسنى، فمَن قال:(إن اللهَ عليمٌ، قدير، عزيز، حكيم)؛ صار عندهم مشبها ًغير موحد، فالمعتزلة عند هؤلاء مشبهة؛ لأنهم يثبتون لله تعالى الأسماء الحسنى.
وزاد عليهم غلاة الغلاة مِنْ الباطنية؛ وهم الذين وصفوا الله تعالى بسلب النقيضين فقالوا: (إنه لا يوصف بالنفي، ولا الإثبات)؛ لأن في كلٍّ منهما تشبيهاً له، فالنفي تشبيه له بالمعدومات، والإثبات تشبيه له بالموجودات؛ فغلاة الجهمية عند هؤلاء، ونحوهم، الذين يصفون الله تعالى بالسلوب: مشبهة؛ لأنهم شبهوه بالمعدومات.
ثم يقرر الشيخ أن هؤلاء كلهم وقعوا مِنْ جنس التشبيه فيما هو شر ممَّا فروا منه، فإنهم لما فروا من تشبيه الله تعالى بالأحياء - بزعمهم - وقعوا في تشبيهه ب:
* (الممتنعات)؛ كما عند غلاة الغلاة.
* وب (المعدومات)؛ كما عند غلاة الجهمية، ونحوهم.
* وب (الجمادات)؛ كما عند المعتزلة، ونحوهم.
فالتشبيه بالأحياء خيرٌ من التشبيه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات، وهذا على فرض أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه بالأحياء، والحقُ أنَّ ذلك غيرُ لازمٍ؛ لأن صفات الله تعالى تثبتُ له على وجه يختص به، ويناسبه، ويليق به، لا على نحو ما تثبت للمخلوق.
فإذا كان وجود الله تعالى على وجه يختص به، ويليق به؛ ليس كوجود المخلوق؛ فكذلك علمه تعالى، وحياته، وقدرته، وسمعه، وبصره، وسائر صفاته؛ ثابتة له على الوجه اللائق به، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
ومن الدليل على ذلك ما سبق تقريره في الأصل الثاني؛ وهو: «أن القول في الصفات كالقول في الذات»
(1)
، فكما أنه ليس في إثبات ذاته سبحانه؛ إثبات مماثلته بذوات خلقه؛ فكذلك ليس في إثبات الصفات له إثبات مماثلة له بصفات خلقه.
* * *
(1)
ص 213.
وكذلك النوع الثالث؛ وهو قولهم: «هو واحد لا قسيم له في ذاته، أو: لا جزء له، أو: لا بعض له» ؛ لفظ مجمل، فإن الله سبحانه وتعالى أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحدٌ، فيمتنع أن يتفرق، أو يتجزأ، أو يكون قد رُكِّب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا اللفظ: نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد!.
ذكر الشيخ هنا النوع الثالث من أنواع التوحيد عند أهل الكلام، وهو ثالث باعتبار الشرح له، وإلا فقد ذكره الشيخ أولاً عند ذكر أنواع التوحيد إجمالاً.
وهو توحيد الذات، ويعبرون عنه بقولهم:(إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، أو: لا جزء له، أو: لا بعض له).
وهذا اللفظ مجمل يحتمل معنى صحيحاً، ومعنى باطلاً
(1)
؛ فالمعنى الصحيح الذي يحتمله هذا اللفظ؛ هو: أن الله تعالى ليس مركباً مِنْ أجزاء، فلا يتجزأ، ولا يتبعض، بل هو أحد، صمدٌ، والصمدُ
(1)
«درء التعارض» 1/ 228، و «شرح حديث النزول» ص 248، و «الصفدية» ص 135، و «تفسير سورة الإخلاص» ص 297 و 449.
يتضمن عدم التجزؤ، ولذا كان الولد ينافي الصمدية؛ لأن الولد جزء من الوالد.
والمعنى الباطل الذي صار يحتمله اللفظ؛ هو: ما أدخلوه فيه من نفي علو الله تعالى على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك مِنْ المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، فيدخلون هذه المعاني الباطلة في هذا اللفظ، ويجعلون ذلك من التوحيد!.
وقد ذكر الشيخ أنهم يدخلون نفي العلو في مفهوم عدم التجزؤ والتبعض، فيرون أن وَحْدة الذات تقتضي نفي العلو.
والواقعُ أن دخول نفي العلو في مسألة التجزؤ والتبعض؛ غير واضح، فما المانع من إثبات العلو، والقول بعدم التجزؤ والتبعض؟
فلو جعلوا نفيَ التجزؤ والتبعض أصلاً لنفي الوجه واليدين مثلاً؛ لكان ظاهراً؛ لأنهم إذا قالوا: «إن الله تعالى مُنزهٌ عن الأبعاض» - وهذا من التعبيرات البدعية المجملة كما سبق
(1)
-؛ فإنهم يقصدون مِنْ ذلك نفيَ الوجه، واليدين؛ لأنها عندهم أبعاض.
فالإشكال هنا في جعل نفي العلو على العرش مندرجاً في قول الأشاعرة: (إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، ولا جزء، ولا بعض له)،؛ فهذا غير ظاهر.
والذي يرفع هذا الإشكال أنَّ نفيهم للعلو مبني على نفي الجسمية، فالجسم عندهم مركب، وكونه واحداً في ذاته لا قسيم له، ولا جزء،
(1)
ص 326.
ولا بعض؛ يتضمن نفي الجسمية، والعلو يستلزم التجسيم، فامتناع الجسم على الله تعالى؛ يلزم منه امتناع العلو؛ فقولهم:«إنه لو كان في العلو؛ لكان جسماً؛ ولو كان جسماً؛ لكان مركباً من أجزاء؛ وهذا ممتنع» ، هو معنى: «أنه واحد في ذاته
…
».
فأنواعُ التوحيد الثلاثة عند الأشاعرة؛ فيها حقٌّ وباطلٌ.
فإثباتُ أن الله تعالى واحد في أفعاله؛ حقٌّ، ونفي أن يكون له شريك يشاركه في أفعاله؛ حقٌّ، ونفي أن يكون تعالى متجزئاً أو متبعضاً؛ حقٌّ.
لكن إدخال نفي الصفات في مسمى التوحيد؛ باطلٌ، وكذا اعتقاد أن توحيد الربوبية؛ هو التوحيد المطلوب فقط، واعتقاد أن توحيد الربوبية؛ هو: معنى «لا إله إلا الله» ؛ باطلٌ، وكذا تفسيرهم «الإله» بأنه القادر على الاختراع؛ باطلٌ، وكذا إغفالهم توحيد العبادة؛ باطلٌ.
* * *
فقد تبيَّن أن ما يسمونه توحيداً فيه ما هو حقٌّ، وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقاً؛ فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله؛ لم يخرجوا فيه من الشرك الذي وصفهم الله به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل لا بدَّ أن يعترفوا بأنه لا إله إلا الله.
وليس المراد ب «الإله» ؛ هو: «القادر على الاختراع» ، كما ظنَّه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن «الإلهية»؛ هي:«القدرة على الاختراع» ، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره؛ فقد شهد أنه لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرُّون بهذا وهم مشركون، كما تقدم بيانه؛ بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يُعبد؛ فهو «إله» بمعنى «مألوه» ، لا «إله» بمعنى «آله» .
والتوحيدُ: أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراكُ: أن يجعل مع الله إلهاً آخر.
بعد أن ذكرَ الشيخُ أقسامَ التوحيدِ عندَ أهلِ الكلامِ، ومناقشتها، وما فيها مِنْ حق وباطل، بيَّن الشيخ أنه لو كان جميعُ ما ذكره أهل الكلام مِنْ أنواع التوحيد حقاً، وأقر به المشركون؛ لم يخرجوا بذلك من الشرك الذي وصفهم الله تعالى به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
فلا يخرجون من الشرك إلا بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، والابتعاد عن الشرك، الذي هو: اتخاذ إله آخر مع الله تعالى.
و «الإله» في اللغة العربية؛ هو: «المألوه» أي: المعبود، اسم مفعول، وليس معناه:«آله» اسم فاعل
(1)
، فالإلهية استحقاق العبادة، وليست القدرة على الاختراع.
فمعنى «لا إله إلا الله» عند أهل الكلام: «لا خالق إلا الله» ، أو:«لا قادر على الاختراع إلا الله» ، وهذا هو توحيد الربوبية - توحيد الأفعال -، فعند أهل الكلام أن من أقرَّ بأن الله تعالى هو القادر على الاختراع؛ فقد شهد أنه لا إله إلا الله
(2)
.
ومِن المعلوم أن المشركين كانوا يقرون بهذا، ولم يخرجهم إقرارهم بهذا عن كونهم مشركين.
* * *
موازنة بين طوائف المتكلمين والصوفية في التوحيد، والقدر، والإيمان
وإذا تبيَّن أن غاية ما يقرره هؤلاء النُّظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة، إنما هو «توحيد الربوبية» ، وأن اللهَ ربُّ كلِّ شيء، ومع هذا؛ فالمشركون كانوا مقرِّين بذلك، مع أنهم مشركون.
فكذلك طوائف من أهل التصوف، المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد؛ غاية ما عندهم من التوحيد؛ هو: شهود هذا التوحيد؛ وهو: أن يشهد أن الله ربُّ كلِّ شيء، ومليكُه وخالقُه، لا سيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء «توحيد الربوبية» ، بحيث يفنى مَنْ لم يكن، ويبقى مَنْ لم يَزَل.
فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها!، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً؛ فضلاً عن أن يكون ولياً لله، أو مِنْ سادات الأولياء.
هذا شروع في ذكر موازنات بين بعض الطوائف؛ طوائف المتكلمين والمتصوفة.
وقد علم مما تقدم: أن غاية ما يقرره أهل الكلام؛ ومنهم: المثبتون للقدر المنتسبون للسنة - وهم الأشاعرة -، غاية ما يقررونه من التوحيد: توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، وكذلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد؛ فإن غاية ما عندهم من تحقيق التوحيد، إنما هو توحيد الربوبية؛ وهو: أن يشهد أن الله ربُّ كلِّ شيء ومليكُه وخالقُه، ومِن المعلوم أن الرجل لا يصير بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله، أو من سادات الأولياء.
فالغايةُ عند هؤلاء الصوفية؛ الفناءُ في توحيد الربوبية، فيفنى العارف ويغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، وبمعبوده عن عبادته، بحيث يفنى من لم يكن - وهو: المخلوق -، ويبقى من لم يزل - وهو: الخالق -، وليس المراد بالفناء عندهم: فناء حقيقةِ وجودِ المخلوقات عن الوجود، وإنما المراد: الفناء عن الشعور بها.
«فيفنى العارف بمشهوده» أي: بربه، والضمير هنا يرجع للعبد «عن شهوده» ، أي: عن مشاهدته له، والضمير هنا في المصدر «شهود» يصلح أن يرجع للرب، ويصلح أن يرجع للعبد، وهو أحسن
(1)
.
فيغيب بمشهوده، ومذكوره، ومعروفه، وموجوده، أي: بربه عن كل شيء، حتى عن نفسه ومعرفته، وذكره لربه وعبادته، فلا يشعر بشيء من ذلك
(2)
.
(1)
انظر نحوه في ص 699.
(2)
سيتكلم المؤلف عن هذا الموضوع بالتفصيل في ص 688، وما بعدها.
وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يُقرون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في «توحيد الربوبية» مع إثبات الخالق للعالم المبائن لمخلوقاته.
وآخرون يضمُّون هذا إلى نفي الصفات، فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شرٌّ مِنْ حال كثير مِنْ المشركين.
وكان جهمٌ ينفي الصفات، ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الوجه، لكنَّ جهماً ومَن اتبعه يقول بالإرجاء، فيَضْعُف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده.
يذكر الشيخ هنا أن من الصوفية من يقرُّ بتوحيد الربوبية مع إثبات الصفات، فهم مع فنائهم في توحيد الربوبية؛ أثبتوا الخالق للعالم المبائن لمخلوقاته.
ومن الصوفية من يضم إلى فنائه في توحيد الربوبية واقتصاره عليه: نفي الصفات، وهذا يشبه ما عليه المعتزلة.
ويقرر الشيخ أن هؤلاء شرٌّ مِنْ حال كثير مِنْ المشركين؛ لأن المشركين كانوا يثبتون - في الجملة - صفات الله تعالى، وهؤلاء نفوا الصفات، وجعلوا التوحيد؛ هو توحيد الربوبية، وهذا هو تحقيق
قول جهم بن صفوان، فإنه كان ينفي الصفات، ويقول بالجبر، وشهود الربوبية فقط.
وجهم بن صفوان إمام أهل التعطيل، وقد اشتهر عنه ثلاث بدع
(1)
:
1 -
بدعة التعطيل في الأسماء والصفات.
2 -
بدعة الجبر في باب القدر، وهو مِنْ مقتضيات غلوه في توحيد الربوبية.
3 -
بدعة الإرجاء في باب الإيمان؛ فالإيمان عنده؛ هو: المعرفة فقط.
فجهمٌ شرٌّ مِنْ المشركين مِنْ حيث نفيُه للصفات، لكنه يفارقهم، ويكون أحسن منهم مِنْ حيث إثباتُه للأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، والرسالات، والمعاد، ثم إن قولَه بالإرجاء؛ وهو: أن الإيمان؛ هو: مجرد المعرفة؛ يضعفُ قوله وتقريره للأمر والنهي، والثواب والعقاب.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» 8/ 460، و «الإيمان الأوسط» ص 585.
والنَّجَّارية والضِّرارية وغيرهم يَقْرُبون مِنْ جهم في مسائل القدر والإيمان، مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات.
والكُلَّابية والأشعرية خيرٌ من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصَّلت أقوالهم في غير هذا الموضع.
وأما في باب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام؛ فأقوالهم متقاربة.
والكُلَّابية: هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب، الذي سلك الأشعري خلفه، وأصحاب ابن كُلَّاب؛ كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القَلَانِسي، ونحوهما؛ خير من الأشعرية في هذا وهذا، فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب؛ كان قوله أعلى وأفضل.
ثم يذكر الشيخ بعض الموازنات العامة بين بعض فرق أهل الكلام في مسائل القدر، والإيمان، والصفات، ومسائل الأسماء والأحكام.
فالنَّجَّارية
(1)
، والضِّرارية
(2)
يقربون من جهم في مسائل القدر، والإيمان، كما يقاربونه في نفي الصفات وتعطيلها.
أما الكُلَّابية، والأشعرية؛ فهم وإن كانوا خيراً مِنْ النجارية، والضرارية في باب الصفات لإثباتهم الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة؛ إلا أن أقوالهم في باب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام؛ مقاربة لأقوال الجهمية، والنجارية، والضرارية، فعندهم جَبْرٌ، وإرجاء.
فالأشاعرة يقولون: «إن أفعال العباد مخلوقة لله، وهي كسب للعبد» ، فهم يتحاشون أن تكون فعلاً للعبد؛ لأن «الفعل» عندهم؛ هو:«المفعول» ، فهي أفعال لله - وليس عندهم فرق بين الفعل والمفعول -، وهي كسب للعبد!
(1)
نسبة إلى: الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، أحد كبار المتكلمين المعتزلة، له عدة مصنفات، مترجم في «الفهرست» 1/ 229، و «سير أعلام النبلاء» 10/ 554، وانظر بعض أقوله في:«مقالات الإسلاميين» ص 283، و «أصول الدين» ص 334، و «الملل والنحل» 1/ 63.
(2)
نسبة إلى: ضرار بن عمرو القاضي، «مِنْ رؤوس المعتزلة، له مقالات خبيثة، وله تصانيف كثيرة تؤذن بذكائه، وكثرة اطلاعه على الملل والنحل، توفي في زمن الرشيد» ، قاله الذهبي في «سير أعلام النبلاء» 10/ 544، و «ميزان الاعتدال» 2/ 328. وانظر بعض أقوله في:«مقالات الإسلاميين» ص 281، و «أصول الدين» ص 339، و «الملل والنحل» 1/ 64.
وقد قال بعض العلماء: «إن كسب الأشعري لا حقيقة له»
(1)
؛ لأنهم يقولون: «إنه لا أثر لقدرة العبد في فعله» ، والكسب عندهم:«مقارنة الفعل للقدرة الحادثة» ، فهم منكرون للأسباب، ولهذا فإن حقيقة قولهم:«إنكار قدرة العبد، ومشيئته واختياره» ، وهذا هو قول جهم، إلا أن جهماً صرح بنفي ذلك مطلقاً، والأشاعرة لم يصرحوا بذلك؛ بل حاولوا التوفيق والتلفيق بين الحق والباطل.
وبيَّن الشيخ أن الأشعري سلك مسلك عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب
(2)
، ثم يقارن بين أصحاب ابن كلاب، والأشعرية؛ فيذكر أن أصحابَ ابن كلاب؛ كالحارث المحاسبي
(3)
، وأبي العباس القَلَانِسي
(4)
، ونحوهما؛
(1)
قال ابن تيمية: «قال: جمهور العقلاء ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النَّظَّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري» .
«شرح الأصبهانية» ص 171، وانظر:«مجموع الفتاوى» 8/ 128، و «منهاج السنة» 1/ 459 و 2/ 297، و «شفاء العليل» ص 50 و 122.
(2)
تقدمت ترجمته في ص 555.
(3)
هو: ابن أسد البغدادي الزاهد، صاحب التصانيف الزهدية، قال الخطيب البغدادي:«له كتب كثيرة في الزهد، وأصول الديانات، والرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة» ، وقال شيخ الإسلام:«كان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله» . مات سنة 243 هـ.
«تاريخ بغداد» 9/ 105، و «درء التعارض» 2/ 6، و «سير أعلام النبلاء» 12/ 110.
(4)
هو: «أحمد بن عبد الرحمن بن خالد الرازي، من معاصري أبي الحسن الأشعري
…
من جملة العلماء الكبار الأثبات». قاله ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» ص 293، وقال البغدادي في «أصول الدين» ص 310:«إمام أهل السنة .. زادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتاباً» ، ولم أجد له ترجمة في كتب التراجم، وله ذكر في الواقعة التي حدثت بين الإمام ابن خزيمة =
خيرٌ من الأشعرية في هذا، وهذا، أي: في باب الصفات، وباب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام، فالشيخ يفضلهم على الأشاعرة في ذلك.
وهذا الأسلوب من الموازنة يرجع إلى ما أمر الله به من العدل في الحكم كما قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152].
فالكفار وإن اشتركوا في الحكم؛ فلا يقال: «إنهم في الكفر سواء» ؛ بل إن بعض الكفار أكفر من بعض، وحكمُ الله تعالى الشرعي والجزائي قائمٌ على هذا، فالواجب إنزال كل أحد منزله في الخير والشر.
وهكذا المبتدعة، فهذه الطوائف لما ابتدعت بدعاً، وجب معرفة ما بينهم من تفاوت في تلك البدع، فبعضهم أقرب إلى الحق من بعض، فمن يثبتُ بعض الصفات؛ خيرٌ ممن ينفي كلَّ الصفات، ومن ينفي الصفاتِ ويثبت الأسماء؛ خيرٌ ممن ينكر الأسماء والصفات.
ويذكر الشيخ معياراً للخيرية والعلو والفضيلة في الأفراد والطوائف؛ فيقول: (كلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب؛ كان قوله أعلى وأفضل)، والعكس بالعكس؛ فكلما كانت أقوال الشخص وأحواله أبعد عن منهج السلف؛ كان بضد ذلك: أبعد عن الصواب.
= وبعض أصحابه؛ كأبي علي الثقفي، وأبي بكر الضبعي .. ، وقد رواها الحاكم في تاريخ نيسابور، ونقلها شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» 6/ 175، و «درء التعارض» 2/ 78، وله، ولابن كُلاب، والحارث، ذِكر في مواضع كثيرة من كتب شيخ الإسلام في تعقبه لأقوال الكلابية.
تنبيه: تصحف: «القلانسي» في «مجموع الفتاوى» إلى «الفلاني» .
وهذا ينبهنا إلى أصل عظيم؛ وهو: اعتبارُ الصحابة رضي الله عنهم القدوةُ في جملتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قاموا بالإسلام بأقوالهم وأفعالهم، فإن اتفقوا؛ فقولهم حجة، وإن اختلفوا؛ فهم متفاضلون، ويعرف الصواب من أقوالهم بعرضها على الكتاب والسنة، وإذا لم يتبين، فيرجح بينهم، فقولُ الخلفاء الراشدين؛ مقدمٌ على غيرهم.
* * *
والكَرَّاميةُ قولهم في الإيمان قولٌ منكر لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمانَ قولَ اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم.
وأما في الصفات والقدر، والوعد والوعيد؛ فهم أشبه مِنْ أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة.
قول الكرَّامية
(1)
في الإيمان؛ إنه: «إقرار باللسان فقط» ، قال فيه الشيخ إنه:(قول منكر لم يسبقهم إليه أحد).
فالمنافق عند الكرامية مؤمن كامل الإيمان؛ لإقراره بلسانه وإن كان في الدرك الأسفل من النار، فهم خالفوا الجماعة في اسم المنافق دون حكمه الجزائي الأخروي
(2)
.
(1)
نسبة إلى: محمد بن كرَّام بن عِراق السجستاني، قال الذهبي عنه: «العابد، المتكلم، شيخ الكرامية، ساقط الحديث على بدعته
…
سجن بنيسابور؛ لأجل بدعته ثمانية أعوام»، وقال: «كان زاهداً، عابداً، ربانياً، بعيد الصيت، كثير الأصحاب،
…
وكان قليل العلم
…
مات بالشام سنة 255 هـ». «ميزان الاعتدال» 4/ 21، و «سير أعلام النبلاء» 11/ 523، و «تاريخ الإسلام» 6/ 188.
(2)
«الإيمان الكبير» ص 141، و «الإيمان الأوسط» ص 509، و «الفرقان بين الحق والباطل» ص 56.
والحق أن المنافق يسمى في الشرع منافقاً لا مؤمناً، كما قال تعالى:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73]؛ فلو كان المنافق مؤمناً؛ لدخل في قوله: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وهكذا سائر الآيات التي تذكر أهل الإيمان.
فقولُ من يقول: إن الإيمان هو التصديق؛ خيرٌ منهم في ذلك
(1)
.
ثم يذكر الشيخ أن أقوالهم في الصفات والقدر والوعد والوعيد؛ أحسن من سائر الطوائف الكلامية التي خالفت أهل السنة والجماعة.
ففي الصفات نجدهم يثبتونها، ولكنهم يطلقون على الله تعالى لفظ «الجسم» ، وفي صفة الكلام؛ نجدهم يقولون:«إن الله تعالى يتكلم بمشيئته» ، ولكنهم يقولون:«إنه حدث له الكلام» ، فهم على ما عندهم من ذلك؛ خير ممن ينفي الصفات، وهكذا في بقية الأبواب.
* * *
(1)
واختار شيخ الإسلام عكس ذلك. «الإيمان الكبير» ص 140.
وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغلوا فيه؛ فهم يكذِّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب.
والإقرارٌ بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع إنكار القدر؛ خيرٌ من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين مَنْ ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكان قد نبغ فيهم القدرية، كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية، وإنما يظهر مِنْ البدع أولاً ما كان أخف، وكلما ضعف مَنْ يقوم بنور النبوة؛ قويت البدعة.
يعقد الشيخ هنا موازنة بين المعتزلة والجهمية في ثلاثة أشياء؛ في الصفات، والقدر، والوعد والوعيد.
فأما في الصفات؛ فهم مقاربون للجهمية، حيث إن المعتزلة تنفي الصفات، وجهماً ينفي الأسماء والصفات.
وأما في القدر؛ فهم متناقضون، فجهم يغلو في إثبات القدر إلى حد الجَبْر، والمعتزلة ينفون القدر، ففيهم نوعُ شركٍ، وذلك بإخراجهم أفعال العباد عن خلق الله، وجعلِهم العبد يخلق فعله بنفسه.
والمعتزلة يعظمون الأمر والنهي، والوعد والوعيد إلى حد الغلو في ذلك، حيث قالوا بإخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، وبتخليده في النار.
وأما جهم؛ فإنه قال: «إن الإيمان هو المعرفة، ولا يضر مع الإيمان ذنب» ؛ فالمعتزلةُ وعيديةٌ، والجهميةُ مرجئةٌ.
وبعد هذه الموازنة يبيِّن الشيخ أن المعتزلةَ - على قبح قولهم - خيرٌ من الجهمية؛ فإن الإقرارَ بالأمر والنهي، والوعد والوعيد مع إنكار القدر؛ خيرٌ من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي، والوعد والوعيد؛ لأن هذا الأخير يؤدي إلى فساد الدين والدنيا، وعدم استقرار أمور الفرد والجماعة
(1)
.
فبدعةُ الجبر والإرجاء؛ أقبحُ وأظهرُ فساداً من بدعة إنكار القدر والقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار.
ومن آثار هذا التفاوت بين الطائفتين: أن إنكار الأمر والنهي، والقول بالإرجاء والجبر؛ لم يظهر في عهد الصحابة، وإنما ظهرت بدايتها في القرن الثاني، بخلاف التكذيب بالقدر؛ فقد ظهر في زمن الصحابة، وكذلك بدعة التكفير بالمعاصي؛ ظهرت في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(1)
«مجموع الفتاوى» 8/ 100 و 10/ 671 و 11/ 29.
وهذا يدل على أنَّ بدعةَ التكذيب بالقدر، والقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار؛ أخفُ وأخفى من بدعة الجبر والإرجاء، وإنكار الأمر والنهي.
ويذكر الشيخ لهذا قاعدة؛ وهي: (إنما يظهر مِنْ البدع أولاً ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة؛ قويت البدعة).
فالبدعُ الكبيرة الظاهرة؛ لا تأتي إلا بعد أن تسبقها بدعٌ أصغر منها، وأخفى
(1)
.
* * *
(1)
«شرح الأصبهانية» ص 675، و «مجموع الفتاوى» 8/ 458 و 28/ 489.
فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية، مع إعراضهم عن الأمر والنهي؛ شرٌّ من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يُشَبَّهون بالمجوس، وهؤلاء يشبَّهون بالمشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، والمشركون شرٌّ من المجوس.
بعد أن ذكر الشيخ موازنة بين القدرية والجبرية، بيَّن أن غلاة المتصوفة يشهدون الحقيقة الكونية، أي: يشهدون أن الله تعالى ربُّ كلِّ شيء، ومليكُه، وخالقُ كل شيء، ويعرضون عن الأمر والنهي، فهم قائلون بالجبر والإرجاء، أي: إنهم سالكون مسلك جهم.
فهؤلاء شرٌّ من القدرية المعتزلة، فإن القدرية المعتزلة يشبهون بالمجوس؛ لأنهم جعلوا العبد يخلق فعل نفسه؛ فجعلوا خالقاً مع الله، وهؤلاء الصوفية المرجئة الجبرية يشبهون بالمشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ، والمشركون شرٌّ من المجوس.
وهذا تأكيد لما سبق من قول الشيخ: إن الإقرارَ بالأمر والنهي، والوعد والوعيد مع إنكار القدر؛ خيرٌ من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي، والوعد والوعيد.
وممَّا يبيِّن أنَّ المشركين شرٌّ من المجوس في الحكم: جواز أخذ الجزية مِنْ المجوس؛ لأنهم مُشَبَّهون بأهل الكتاب كما في الحديث: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
(1)
، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر
(2)
.
أما المشركون الوثنيون؛ فلا تؤخذ منهم الجزية على قول جمهور أهل العلم
(3)
.
* * *
(1)
رواه مالك 1/ 278، والشافعي في «الأم» 5/ 408، وعبد الرزاق في «المصنف» 6/ 68 من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وقال ابن عبد الهادي في «المحرر» ص 294:«في إسناده انقطاع، وقد روي نحوه متصلاً من وجه آخر» .
وانظر: «التلخيص الحبير» 5/ 2322.
(2)
رواه البخاري (3157) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
(3)
«أقوم ما قيل في القضاء والقدر» ص 100، و «زاد المعاد» 3/ 153، و «أحكام أهل الذمة» 1/ 20.
أصل الدين الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر: الشهادتان
- الأصل الأول: توحيد الإلهية
فهذا أصل عظيم، على المسلم أن يعرفه؛ فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر؛ وهو: الإيمان بالوحدانية والرسالة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين، أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق، والتوحيد، والعلم، والمعرفة، فإقرار المرء بأن الله ربُّ كل شيء ومليكُه وخالقُه؛ لا ينجيه من عذاب الله؛ إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلا بدَّ من الكلام في هذين الأصلين.
الأصل الأول: توحيد الإلهية،
فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين - كما تقدم - بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم، ويتخذونهم شفعاء من دون الله تعالى، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون (18)} [يونس]، فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء الشفعاء مشركون.
وقال تعالى عن مؤمن يس: {وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُون (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون (25)} [يس]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُون (94)} [الأنعام]، فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء.
وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُون (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون (44)} [الزمر]، وقال تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، وقال تعالى:{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام].
وقد قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون (28)} [الأنبياء]، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاء وَيَرْضَى (26)} [النجم]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِنْ ظَهِير (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ
لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23]، وقد قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء].
قالت طائفة من السلف: «كان أقوام يَدعون عُزيراً، والمسيح، والملائكة، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيَّن فيها: أن الملائكة، والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه»
(1)
.
يذكر الشيخ هنا أصل الإسلام وأساسه، الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر؛ وهو: الإيمان بالوحدانية، والرسالة، أي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وبمخالفة شهادة التوحيد يقع الإنسان في الشرك، وبالإخلال بشهادة الرسالة يقع في البدعة.
وكثيرٌ من الناس أخلَّ بتحقيق هذين الأصلين، أو أحدهما، وهو يظن أنه قد حققهما؛ كمَن يقف عند شهود الحقيقة الكونية، والإقرار بتوحيد الربوبية.
(1)
«تفسير الطبري» 14/ 630.
وهذا في الحقيقة لا ينجيه مِنْ عذاب الله تعالى إذا لم يقترن به شهادة أن لا إله إلا الله، واعتقاد أنه لا يستحق العبادة أحد سواه، وشهادة أن محمداً رسول الله بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.
ثم يفصل الشيخ في هذين الأصلين:
الأصل الأول: توحيد الإلهية، ويوضحه بأمرين:
1 -
بذكر ضده؛ وهو: الشرك.
2 -
ذكر حقه تعالى على عباده.
فأما الأول؛ فيقول: (فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله تعالى يدعونهم، ويتخذونهم شفعاء من دون الله تعالى، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون (18)}).
فأخبر الله تعالى أن المشركين لم يعبدوا ما عبدوا معتقدين أنهم ينفعون، أو يضرون، أو يملكون، أو يدبرون، وإنما عبدوهم على أنهم شفعاء ووسائط بينهم وبين الله تعالى.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله جملة من الآيات المبينة لحقيقة ما يُثبت وما يُنفى من الشفاعة.
فأبطل الشفاعة التي يظنها المشركون لآلهتهم، وأثبت الشفاعة التي تكون بإذنه ورضاه.
فأما الشفاعة التي يظنها المشركون لآلهتهم؛ فهي: كشفاعة المخلوق عند المخلوق، حيث تكون بغير إذنه ولا رضاه؛ بل قد يقبل المشفوع عنده الشفاعة مضطراً؛ لأنه يرجو الشافع، أو يخافه.
أما الله تعالى؛ فإن المُلك كلَّه له، فلا أحد يشفع إلا مِنْ بعد إذنه، ورضاه، ولهذا يأتي الكلام في اتخاذ المشركين لهم شفعاء مربوطاً بتفرده تعالى بالملك، كما قال عز وجل:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُون (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون (44)} ، وقوله تعالى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} .
فأبطل تعالى ما ظنه المشركون من الشفاعة، كما قال:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاع (18)} [غافر] وقال: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين (48)} [المدثر].
والشفاعة المثبتة؛ هي التي تكون بإذن الله سبحانه للشافع أن يشفع؛ وهم: أولياء الله، وتكون لمن رضي عنه؛ وهم: أهل التوحيد، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:«مَنْ أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه»
(1)
، وكما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} ، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاء وَيَرْضَى (26)} .
وقد دلت هذه الآيات التي ذكرها المؤلف رحمه الله على: أن هؤلاء الذين عبدوا ما عبدوا زاعمين أنهم يشفعون لهم؛ مشركون، كما في
(1)
رواه البخاري (99).
فاللهُ تعالى لا يَعْلَمُ أحداً يشفع عنده بغير إذنه، ولا أحداً يكون له شريكاً؛ أي: لا يوجد شيء من ذلك، فهؤلاء شركاء في الزعم والادعاء، وليسوا شركاء على الحقيقة، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُون (94)} .
فمن زعم إلهاً مع الله؛ فهو أعظم الناس إفكاً وكفراً، ومن اتخذ شفعاء ووسطاء بينه وبين الله يدعوهم؛ فقد أشرك شركاً يناقض شهادة أن لا إله إلا الله، ويناقض التوحيد الذي هو أصل دين الرسل.
وهذا من بيان الشيء بضده، فبمعرفة الشرك؛ يعرف التوحيد.
والضدُّ يُظْهِر حسنَه الضدُّ
(1)
. وبضدِّها تتميزُ الأشياءُ
(2)
.
(1)
عجز بيت، وصدره:
ضدان لما استجمعا حَسُنا
من القصيدة اليتيمة. وفي نسبتها خلاف، والأكثر على أنه لا يُعرف قائلها. «القصيدة اليتيمة» ص 30.
(2)
عجز بيت، وصدره:
ونذيمُهم وبهم عرفنا فضله
للمتنبي ديوانه ص 117. نذيمهم= نعيبهم، وهناك: تتبيَّن.
وكثيرٌ ممن عاش في الكفر؛ يكون أعرف بكمال الإسلام ومحاسنه ممَّن ولد في الإسلام، وعافاه الله من ظلمات الكفر.
فالصحابةُ رضي الله عنهم مع أن أكثرهم عاش في الكفر والشرك؛ هم أكمل الناس إيماناً، وهم أعرف الناس بسوء الكفر، وقبح الجاهلية.
وفي أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور: «إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة؛ إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية»
(1)
.
ومعرفةُ الجاهلية قد تكون بالعيش فيها قبل الدخول في الإسلام، وقد تكون بالتعلم.
* * *
(1)
لم أجد هذا اللفظ إلا في كتب ابن تيمية وابن القيم، ولم يذكرا مَنْ أخرجه، ووجدت أثراً عن عمر رضي الله عنه لفظه:«قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب، إذا ساس أمرهم مَنْ لم يصحب الرسول، ولم يعالج أمر الجاهلية» .
رواه ابن سعد في «الطبقات» 8/ 250، والبغوي في «مسند ابن الجعد» ص 344، وابن أبي شيبة في «المصنف» 17/ 332، والحاكم 4/ 428، والبيهقي في «الجامع لشعب الإيمان» 12/ 204، من طريق شبيب بن غرقدة عن المستظل بن الحصين عن عمر به، وسنده صحيح، ولفظ ابن الجعد: «
…
إذا ساسهم من لم يصحب الرسول؛ فيقيده الورع، أو يدرك الجاهلية؛ فيأخذ بأحلامهم»، وهذه الرواية تدل على معنى غير الذي قرره شيخ الإسلام من الأثر في «مجموع الفتاوى» 10/ 301، و «درء التعارض» 5/ 259، وغيرها، وابن القيم في «الفوائد» ص 159، و «مدارج السالكين» 1/ 351.
ومِن تحقيق التوحيد أن يُعلم أن الله تعالى أثبتَ له حقاً لا يَشركه فيه مخلوق؛ كالعبادة، والتوكل، والخوف، والخشية، والتقوى، قال تعالى:{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا (22)} [الإسراء]، وقال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين (11)} [الزمر].
وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُون (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنْ الشَّاكِرِين (66)} [الزمر]، وكل مَنْ أرسل مِنْ الرسل يقول لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59 و 65 و 73 و 85].
الثاني مما يوضح به الشيخ حقيقة التوحيد، قوله:(ومن تحقيق التوحيد أن يُعلم أن الله تعالى أثبت له حقاً لا يَشركه فيه مخلوق) فتحقيق التوحيد يكون ب: تركٍ، وفعلٍ؛ ترك عبادة غير الله من أنواع الشرك، وفعل العبادة لله تعالى، وهذا معنى «لا إله إلا الله» .
فمَن عبد مع الله غيره؛ لم يكن موحداً، ولو عبد الله تعالى، ومَن لم يعبد الله تعالى؛ لم يكن موحداً، وإن لم يعبد غير الله.
فالتوحيدُ يكون بعبادة الله وحده لا شريك له؛ على حد قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقول الرسل لأممهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ».
فالله تعالى قد يأمر بعبادته، وقد ينهى عن الشرك به، وقد يقرن بينهما كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256].
والله تعالى أمر بعبادته على وجه العموم؛ كما أمر بأنواع من العبادة على وجه الخصوص.
فمن الأول: قوله تعالى على لسان الأنبياء: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله:{أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين (11)} ، وقوله:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنْ الشَّاكِرِين (66)} .
ومن الثاني، وهو: الأوامر الخاصة ببعض العبادات؛ كما في قوله تعالى في التوكل: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (23)} [المائدة]، وقوله في الخوف:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (175)} [آل عمران]، وهكذا بقية العبادات؛ كالخشية، والتقوى، والصلاة، والصيام، وغير ذلك.
* * *
وقد قال تعالى في التوكل: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (23)} [المائدة]، {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون (12)} [إبراهيم]، وقال تعالى:{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون (38)} [الزمر].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُون (59)} [التوبة]، فقال في الإيتاء:{مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} ، وقال في التوكل:{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ} ولم يقل: «ورسوله» ؛ لأن الإيتاء؛ هو: الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن: الإباحة، والإحلال، الذي بلَّغه الرسول، فإن الحلال ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعه، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].
وأما الحسب؛ فهو: الكافي، والله وحده كافٍ عبده، كما قال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} [آل عمران]، فهو وحده حسبهم كلهم.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين (64)} [الأنفال]، أي: حسبك، وحسب مَنْ اتبعك مِنْ المؤمنين؛ هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد: أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين؛ إذ هو وحده كافٍ نبيه وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسباً للرسول، وهذا في اللغة؛ كقول الشاعر:
فحسبُك والضحاكَ سيفٌ مهندُ
وتقول العرب: حسبُك وزيداً درهم، أي: يكفيك وزيداً - جميعاً - درهمٌ.
هذا كله في تقرير «الأصل الأول» ، وبيان أن التوحيد لا يتحقق إلا بعبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه.
ويذكر الشيخ هنا بعض العبادات التي أمر الله بها وأدلتها، فمِن ذلك: التوكل؛ كما قال جل وعلا: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (23)} ، فالتوكل على الله وحده دون ما سواه، وهذا يؤخذ من أسلوب الحصر، وهو: تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا} ، فهو مثل قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]
(1)
، فلا يُتوكل إلا على الله؛ كما لا يعبد سواه.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، أي: كافيه مما يخاف.
ومدح الله المؤمنين الذين قالوا عند تخويفهم بجمع الناس: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} ، فقال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} ، فهو وحده حسبهم كلهم.
(1)
تقدم توثيق ذلك من كتب البلاغة في ص 315.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُون (59)} ، فجعل الإيتاء لله ورسوله، والإيتاء؛ هو: الإعطاء الشرعي المتضمن: الإباحة، والإحلال، الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالطاعة في ذلك تكون للرسول؛ كما تكون لله قال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ؛ فالحلال ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعه
(1)
.
فالإيتاء الشرعي؛ يكون من الله تعالى ابتداء، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم بلاغاً، وإذا رَزق الله العبدَ مالاً حلالاً؛ فهذا إيتاء شرعي، وكوني، وينفرد الإيتاء الكوني فيما يحصل للعبد مِنْ كسب حرام.
وأما الحسب؛ فهو: الكافي، والله وحده كافٍ عبده، ولهذا كان الحَسْبُ والرغبة لله وحده، فلا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ومن ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين (64)} أي: الله وحده كافيك وكافٍ مَنْ اتبعك من المؤمنين، وهذا هو التفسير الصحيح للآية، وليس معناها ما قاله بعضهم مِنْ أن المراد:«أن الله والمؤمنين حسبك» ، فإن هذا غلط؛ بل الله وحده كافٍ نبيه، وكافٍ عباده المؤمنين.
(1)
«منهاج السنة» 2/ 446، و «التوسل والوسيلة» ص 293، و «العبودية» ص 154 و 234، و «مجموع الفتاوى» 11/ 498.
ويتبيَّن الفرق بين القولين بالكلام في إعراب الموصول
(1)
:
فقوله تعالى: {حَسْبُكَ اللّهُ} «حَسْبُ» : مبتدأ؛ وهي: مضاف، و «الكاف»: مضاف إليه، و «لفظ الجلالة»: خبرٌ.
وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} : الواو عاطفة على الضمير المجرور - وهو: الكاف -، ولا بأس - على الصحيح
(2)
- من العطف على الضمير المتصل المجرور، ولو من غير إعادة العامل، والمعنى:«حسبُك ومَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين اللهُ» ، ف «مَنْ» هنا معطوفة على الضمير المجرور.
أو تكون «الواو» عاطفة لجملة على جملة، أي:«حسبك الله، ومَنِ اتبعك مِنْ المؤمنين حسبهم الله كذلك» ، فتكون «مَنْ» مبتدأ.
أو تكون «الواو» للمعية؛ فإن العرب تقول: «حسبك وزيداً درهم» ، أي: يكفيك وزيداً معك درهمٌ، ف «الواو» للمعية، و «زيداً» منصوبٌ على المعية؛ فتكون «مَنْ» هنا في موضع نصب.
ومن ذلك قول الشاعر:
فحسبُك والضَّحاكَ سيفٌ مهندُ
(3)
(1)
انظر: إعراب الآية في: «معاني القرآن» للفراء 1/ 417، و «الكشاف» 2/ 222، و «التبيان في إعراب القرآن» ص 180، و «البحر المحيط» 4/ 510، و «الدر المصون» 5/ 631، و «اللباب في علوم الكتاب» 9/ 560، وهناك تجد القولين وحججها.
(2)
وهو رأي الكوفيين، ومنعه البصريون، انظر أدلتهم في:«الإنصاف في مسائل النحو» 2/ 463، ورجحه شيخ الإسلام في «منهاج السنة» 7/ 202، وابن القيم في «زاد المعاد» 1/ 35.
(3)
عجزُ بيتٍ، وصدره:«إذا كانتِ الهيجاءُ وانْشَقَّتِ العصا» وهو مذكور في المراجع السابقة في إعراب الآية - عدا «التبيان» -، وفي غيرها من كتب التفسير واللغة، ولم يُذكر قائله.
وقيل: إن «الواو» عاطفة، و «مَنْ» معطوف على «لفظ الجلالة» ، وهذا القول ضعيف؛ بل هو غلط؛ لأن معناه: أن الله والمؤمنين حسب الرسول؛ فيقال: فمَن حسب المؤمنين إذاً؟!
(1)
وقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين (62)} [الأنفال]، فما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم من نصرة المؤمنين، فإنه من كفاية الله؛ فإنه سبحانه وتعالى؛ هو الذي قيَّض المؤمنين، وأيدهم، ووفقهم حتى قاموا بما يجب عليهم من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
(1)
«العبودية» ص 154، و «منسك شيخ الإسلام» ص 158، و «مجموع الفتاوى» 27/ 105، و «منهاج السنة» 7/ 201، و «اقتضاء الصراط المستقيم» 2/ 366، و «الإخنائية» ص 487، و «زاد المعاد» 1/ 36.
وقال في الخوف والخشية والتقوى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون (52)} [النور]، فأثبت الطاعة لله وللرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام:{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِين (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُون (3)} [نوح]، فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [المائدة: 44]، وقال تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (175)} [آل عمران]، وقال الخليل عليه السلام:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (81)} [الأنعام]، قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُون (82)} [الأنعام].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا:«أينا لم يظلم نفسه» ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم (13)} [لقمان]» ، وقال تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُون (40)} [البقرة: 40]، و {وَإِيَّايَ فَاتَّقُون (41)} [البقرة].
من العبادات التي ذكرها الشيخُ، وذكر أدلةً لها: الخوف، والخشية، والتقوى، قال تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (175)} ، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} ، وقال تعالى:{وَإِيَّايَ فَاتَّقُون (41)} ، وقال تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُون (40)} ، وقال سبحانه:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون (52)} .
فجعَل الطاعة لله وللرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، وقال جل وعلا عن إبراهيم الخليل عليه السلام:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُون (82)} ، والمراد ب «الظلم» هنا:«الشرك» ، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟» قال: «ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه، وهو يعظه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم (13)}»
(1)
.
والظلم ثلاثة أنواع: ظلم العبد لنفسه بالشرك، وظلم العبد لنفسه بالمعاصي، وظلم العبد لغيره مِنْ المخلوقين؛ بالاعتداء على أموالهم، وأعراضهم، ودمائهم، وسائر حقوقهم.
(1)
رواه البخاري (3429) - واللفظ له -، ومسلم (124).
فمَن سَلِم مِنَ الظلم كلِّه؛ فاز بالأمن التام، والهدى التام، ومن سلم مِنَ الشرك الأكبر، ولكنه خلط إيمانه ولَبَسَه بشيء من ظلم النفس، أو ظلم العباد؛ نقص مِنْ أمنه، وهدايته بقدر ما معه مِنْ ذلك الظلم.
ومن لَبَسَ إيمانه بشيء من الشرك الأكبر؛ فلا أمن له، ولا هدى، ومآله إلى النار، وبئس القرار.
فكلُّ من أتى بالتوحيد، وسَلِم من الشرك الأكبر؛ حصل له أمن، فأصل التوحيد؛ يعصم صاحبه من الخلود في النار.
وكمال التوحيد؛ يعصم صاحبه من دخول النار؛ ف «إن الله حرم على النار؛ مَنْ قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله»
(1)
، فمن قالها خالصاً من قلبه، وصدقاً من قلبه؛ لم يدخل النار؛ لأنه حقق التوحيد، وابتعد عن كل ما يَنقُضه أو يُنْقِصه.
فمَن أكل الربا، أو مال اليتيم؛ لم يحقق التوحيد، بل هو متوعد بالنار، وهو تحت مشيئة الله؛ كما قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48، 116].
* * *
(1)
هذا نص حديثٍ رواه البخاري (425)، ومسلم (33) من حديث عِتبان بن مالك رضي الله عنه.
ومِن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «مَنْ يطع الله ورسوله؛ فقد رشد، ومن يعصهما؛ فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً»
(1)
، وقال:«لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد» ، ففي الطاعة قَرَن اسم الرسول باسمه بحرف «الواو» ، وفي المشيئة أمر أن يجعل ذلك بحرف «ثم» ، وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله، فمَن يطعِ الرسول؛ فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة للرسول.
بخلاف المشيئة، فليست مشيئةُ أحدٍ من العباد مشيئةً لله، ولا مشيئةُ الله مستلزمة لمشيئة العباد؛ بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إلا أن يشاء الله.
يبيِّن الشيخ هنا الفرق بين ما يختص الرب به، وما هو مشترك؛ فهو من حق الله تعالى، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يتبيَّن في الطاعة، فطاعة الله تعالى وطاعة رسوله متلازمتان، فطاعة الله طاعة للرسول، وطاعة الرسول طاعة لله، كما قال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80]، ولهذا فإن الأنبياء يأمرون بطاعتهم، كما في قوله تعالى عن نوح، وهود، وغيرهما:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون} [الشعراء: 108 و 126 و 144 و 163]
وليس أحد من الخلق يطاع طاعة مطلقة إلا الرسول، أما غيره ممَّن يؤمر بطاعتهم؛
(1)
رواه أبو داود (1097) والطبراني في «الكبير» 10/ 211، وقال النووي في «شرح مسلم» 6/ 397:«إسناده صحيح» ، وقال ابن الملقن في «التوضيح» 2/ 530:«إسناده جيد» ، وقال ابن حجر في «موافقة الخُبْر الخَبَر» 1/ 35:«لا يصح؛ لأنه من رواية أبي عياض، وهو مجهول لا يعرف اسمه ولا حاله» . وانظر: «خطبة الحاجة» ص (15).
فطاعتهم مقيدة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنما الطاعة في المعروف»
(1)
.
وعلى ذلك يجوز أن تعطف طاعة الرسول على طاعة الله بحرف «الواو» ؛ فتقول: أطيعوا الله ورسوله، أو أطيعوا الله والرسول، كما قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 46]، وقال:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد: 33].
أما المشيئة؛ فلا يجوز عطفُ مشيئةِ أحد على مشيئة الله تعالى بحرف «الواو» ، فلا تقل: ما شاء الله وشئت، ولا ما شاء الله وشاء فلان؛ بل إما أن تقول: ما شاء الله وحده، أو تقول: ما شاء الله، ثم شاء فلان، كما في حديث:(«لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد»)
(2)
، فعطفُ مشيئة المخلوق على مشيئة الله تعالى بحرف «الواو» مِنْ الشرك الأصغر في الألفاظ.
(1)
رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد 5/ 72، والدارمي 2/ 749 - واللفظ له - وصححه الحاكم 3/ 463، والضياء في «المختارة» 3/ 247 من حديث الطفيل بن سَخْبَرة رضي الله عنه.
ويعلل الشيخ النهي عن عطف مشيئة العبد على مشيئة الله بحرف «الواو» بأنه (ليست مشيئةُ أحدٍ من العباد مشيئةً لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد).
فلا تلازم بين مشيئة العبد ومشيئة الله، فقد يشاء الله تعالى ما لا يشاء العبد، وقد يشاء العبد ما لا يشاء الله، ولكن لا تكون مشيئة العبد إلا أن يشاء الله، فمشيئة الله تتعلق بمشيئة العبد، وبما شاءه العبد، فاللهُ تعالى شاء مشيئة العبد، وشاء حصول ما شاءه العبد، فتكون مشيئة العبد وما شاءه العبد؛ كلٌّ منهما قد شاءه الله.
وأحياناً: تكون مشيئة العبد - وذلك بمشيئة الله - ولكن لا يكون ما شاء العبد؛ لأن الله تعالى لم يشأه.
وأحياناً: يكون الأمر بما لم يشأه العبد، فمشيئة الله تعالى قد تتعلق بمشيئة العبد وبما شاءه العبد وحصل منه، وأحياناً تتعلق بأحدهما دون الآخر.
فلا تلازم بين مشيئة الله تعالى ومشيئة العبد، فما شاء الله كان وإن لم يشإ الناس، وما شاء الناس لم يكن إلا أن يشاء الله.
وإذا كان الأمر كذلك؛ لم يصح عطف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى بحرف «الواو» المقتضية للتسوية؛ بل ب «ثم» المقتضية للترتيب والتراخي؛ لأن مشيئة العبد متراخية عن مشيئة الله، ومترتبة على مشيئة الله تعالى.
وفي هذا المعنى قال الإمام الشافعي رحمه الله:
ما شئتَ كان وإنْ لم أشأ
…
وما شئتُ إنْ لم تشأ لم يكنْ
خَلقتَ العبادَ على ما علمتَ
…
ففي العلمِ يجري الفتى والمسنْ
على ذا مننتَ، وهذا خذلتَ
…
وهذا أعنتَ، وذا لم تُعنْ
فمنهم شقيٌ، ومنهم سعيد
…
ومنهم قبيحٌ، ومنهم حسنْ
(1)
* * *
(1)
«شرح أصول اعتقاد أهل السنة» 4/ 777، و «الأسماء والصفات» ص 171.
الأصلُ الثاني: الرسالةُ
الأصل الثاني: حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نؤمن به، ونطيعه، ونتبعه، ونرضيه، ونحبه، ونسلم لحُكمِه، وأمثال ذلك، قال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى:{وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِين (62)} [التوبة]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ} [التوبة: 24].
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وأمثال ذلك.
الأصل الثاني: هو الإقرار بالرسالة، وهو مضمون شهادة أن محمداً رسول الله، وهو الأصل الثاني الذي يتميز به أهل الإسلام من أهل
الكفر، والأصل الأول هو توحيد الألوهية الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله.
وهذا الأصل الثاني الذي هو مضمون شهادة أن محمداً رسول الله؛ يتبيَّن بمعرفة ما تقتضيه هذه الشهادة، فهي متضمنة الإقرار برسالته إلى الناس كافة؛ بل إلى الثقلين: الجن والإنس، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا يسع أحداً الخروجُ عمَّا جاء به، كما تتضمن وتقتضي: محبته، وإرضاءه، والتحاكم إليه، وطاعته طاعة مطلقة، واتباع ما جاء به
(1)
.
وهذا عنوان محبة الله تعالى، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وطاعته تكون باتباع أمره، واجتناب نهيه، كما قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وكما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا (36)} [الأحزاب]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (13) وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين (14)} [النساء].
ومن مقتضيات هذه الشهادة تحكيمه صلى الله عليه وسلم في كل صغير وكبير من أمور الدين، والرضا والتسليم لحكمه، على حد قوله تعالى:
(1)
«اقتضاء الصراط المستقيم» 2/ 367، و «مجموع الفتاوى» 11/ 452 و 19/ 102، و «الوصية الكبرى» ص 422، و «إيضاح الدلالة في عموم الرسالة» ص 9.
({فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}).
ولعل هذه الآية أعظم وأبلغ آية في بيان حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى نفى الإيمان عمَّن لم يحكم الرسول بأبلغ عبارة؛ فقال:{فَلَا} ، وأكد هذا النفي بالقسم بأعظم مقسم به؛ فقال:{وَرَبِّكَ} ، وفي تخصيص هذا الوصف، وهو ربوبيته للرسول؛ تنبيه على أن هذا التشريف، وهذا التفضيل، والتنويه؛ هو من آثار ربوبيته تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وكرر أداة النفي «لا» في قوله: {فَلَا} وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} ، ثم لم يقتصر الأمر على مجرد التحكيم؛ بل شرط مع ذلك عدم وجود الحرج في النفوس، كما شرط التسليم المطلق.
فمَن لم يحقق هذه الصفات؛ فهو ناقص الإيمان، أو عديم الإيمان، ومن الآيات الدالة على وجوب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق آية المحبوبات الثمانية في سورة براءة؛ وهي: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الآية.
ومن مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله؛ التقيد بشرعه، وعدم الإحداث فيه؛ لأن كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد»
(1)
، فكل عبادة، وكل عقيدة، وكل دين يتدين به شخص؛ لم يرد في الشرع؛
(1)
رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
فهو بدعة مردودة على صاحبها، وهي مخالفة لحقيقة شهادة أن محمداً رسول الله.
وأعظم الناس ضلالاً في هذا الأصل من اعتقد أن أحداً يسعه الخروجُ عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمخالفون لهذا الأصل الثاني «شهادة أن محمداً رسول الله» ؛ إما أن يكونوا مكذبين، أو مبتدعين.
كما أن المخالفين للأصل الأول «التوحيد» ؛ إما أن يكونوا مشركين، أو مستنكفين عن عبادته سبحانه وتعالى.
* * *
أهل الضلال الخائضون في القدر
فصل
إذا ثبت هذا؛ فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره: بقضائه، وشرعه.
وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فِرق: مجوسية، ومُشْرِكِيَّة، وإبليسية.
فالمجوسية، الذين كذَّبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدتهم أنكروا عموم مشيئة الله، وخلقه وقدرته، وهؤلاء؛ هم: المعتزلة، ومن وافقهم.
والفرقة الثانية: المشركية، الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال الله تعالى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر؛ فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدَّعي «الحقيقةَ» من المتصوفة.
والفرقة الثالثة: الإبليسية؛ وهم: الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا تناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله،
كما يُذكر مثل ذلك عن إبليسَ مُقَدَّمِهم، كما نقله أهل المقالات، ونُقل عن أهل الكتاب
(1)
.
والمقصود: أن هذا ممَّا يقوله أهل الضلال.
يشير الشيخ هنا بقوله: (إذا ثبت هذا) إلى ما سبق من تقرير الإيمان بالشرع والقدر، وتقرير التوحيد والرسالة؛ فإذا ثبت هذا؛ فإنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره، أي: بقضائه، وشرعه، ثم يبين الشيخ أن الخائضين في القدر والشرع من أهل الضلال انقسموا إلى ثلاث فِرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية
(2)
.
فالمجوسية؛ هم: الذين كذبوا بالقدر، وآمنوا بالشرع، وهؤلاء؛ هم: القدرية، والقدرية يراد بهم في أغلب الأحيان: القدرية النفاة، في مقابل القدرية الجبرية الغلاة.
(1)
ذكر الشهرساني في «الملل والنحل» 1/ 12، الاعتراضات الإبليسية، وذكر أنها في شروح «الإنجيل» الأربعة، ومذكورة في «التوراة» متفرقة على شكل مناظرات بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه. وقال شيخ الإسلام: «ليس لها إسناد يعتمد عليه
…
ويشبه - والله أعلم - أن تكون تلك المناظرة مِنْ وضع بعض المكذبين بالقدر؛ إما مِنْ أهل الكتاب، وإما من المسلمين». «مجموع الفتاوى» 8/ 114، ومعناه في «منهاج السنة» 6/ 307، وكذا شكك في صحتها ابن القيم في «الصواعق المرسلة» 4/ 1545، لكنه قال:«لا بدَّ من الجواب عنها سواء صدرت منه، أو قيلت على لسانه؛ فلا ريب أنها مِنْ كيده» . ثم أجاب عنها.
(2)
«مجموع الفتاوى» 8/ 256، و «الاستقامة» ص 308.
وهؤلاء القدرية النفاة فرقتان: غلاة، ومقتصدون.
وهذا الانقسام يرجع إلى مراتب القدر الأربع.
فالغلاة - وهم مُتقدِّمُو القدرية
(1)
- ينفون علم الله السابق، وكتابته، فيقولون:«إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها» ، وعليه؛ فلا كتابة أيضاً؛ بل الأمر عندهم أُنُفٌ - يعني: مستأنف - لم يسبقه علم، ولا كتابة.
وأما المقتصدون؛ فهم عموم المعتزلة، ومَن وافقهم، فينفون عموم مشيئة الله تعالى، وخلقه، يعني: يخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله تعالى، وخلقه وقدرته، فيقولون:«إن العباد هم الخالقون لأفعالهم» ، فهم يثبتون العلم السابق، والكتاب الأول؛ فيثبتون المرتبتين الأُوليين من مراتب القدر الأربعة، وهي:
1 -
عِلم الله السابق بكل شيء.
2 -
كتابة كل شيء مقدر وكائن حتى تقوم الساعة.
3 -
عموم مشيئة الله، وهو ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
4 -
عموم خلق الله تعالى للأشياء؛ فإنه تعالى خالق كل شيء، بما في ذلك أفعال العباد.
فالمقتصدون من القدرية أقروا بالمرتبتين الأُوليين، وأنكروا المرتبتين الأخيرتين.
(1)
وقد ظهروا في آخر عهد الصحابة، كما في «صحيح مسلم» (8) عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر رضي الله عنهما.
أما الغلاة؛ فإنهم أنكروا كلَّ المراتب، فانفردوا بإنكار مرتبة العلم والكتابة، وشاركوا سائر القدرية في إنكار مرتبة عموم المشيئة وعموم الخلق.
وقد كفَّر الأئمةُ غلاةَ القدرية
(1)
؛ كما قال الشافعي: «ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به؛ خصموا، وإن أنكروه؛ كفروا»
(2)
.
وطائفة القدرية تعرف عند أهل العلم ب «المجوسية» ، أو «مجوس هذه الأمة» ، وقد ورد في ذمهم آثار مرفوعة، وموقوفة؛ كما روي في الحديث:«القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا؛ فلا تعودوهم، وإن ماتوا؛ فلا تشهدوهم»
(3)
.
(1)
نقل شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» 8/ 288 و 430 و 23/ 349، تكفيرهم عن مالك، والشافعي، وأحمد، وقال في «درء التعارض» 9/ 396:«نص الأئمة على أن من أنكر العلم القديم؛ فهو كافر» ، وقال ابن القيم في «شفاء العليل» ص 28 و 287:«اتفق سلف الأمة على تكفيرهم» .
(2)
نسبه إليه ابنُ أبي العز في «شرح العقيدة الطحاوية» ص 354.
(3)
رواه أحمد 2/ 86 و 125، وأبو داود (4691 و 4692)، والحاكم 1/ 159 وقال:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر، ولم يخرجاه» . وقال المنذري في «تهذيب السنن» 7/ 58: «هذا منقطع سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر، وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت» .
وقال ابن القيم في «تهذيب السنن» 7/ 60 - 61: «هذا المعنى قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وحذيفة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ورافع بن خديج؛ فأما حديث ابن عمر وحذيفة فلهما طرق؛ وقد ضعفت
…
».
وقال ابن أبي العز في «شرح الطحاوية» 2/ 358: «كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة، وإنما يصح الموقوف منها» ، وقال في 2/ 797 - بعد ذكر هذا الحديث -:«وروي في ذم القدرية أحاديث أخر كثيرة تكلم أهل الحديث في صحة رفعها، والصحيح أنها موقوفة» . =
ووجه تسميتهم بالمجوس؛ أن المجوس يقولون بخالِقَين: النور والظلمة، وهؤلاء يقولون بخالِقِين؛ حيث جعلوا العباد خالِقِين لأفعالهم، فأشبهوا المجوس في القول بتعدد الخالق.
والفرقة الثانية: المشركِيَّة؛ وهم: الذين أقروا بالقدر، وأنكروا الشرع، وهؤلاء؛ هم: الجبرية، وقد ذكر الله تعالى سلفهم بقوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ، فمن احتج بالقدر على الأمر الشرعي، وعارض الأمر بالقدر؛ فهو من هؤلاء الجبرية المشبَّهين بالمشركين.
وهذا المذهب وقع فيه كثير من المتصوفة الذين يدَّعون «الحقيقة» ، فيقفون عند شهود الحقيقة الكونية، ويفنون في توحيد الربوبية، ويعرضون عن الأمر والنهي.
الطائفة الثالثة: الإبليسية؛ وهم: الذين أقروا بالأمرين، أي: بالشرع والقدر، ولكنهم طعنوا في حكمة الرب وعدله، وجعلوا ذلك تناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وسموا بذلك؛ لأنهم سلكوا في ذلك مسلك مُقَدَّمِهم إبليسَ الذي عارض بين الأمر والقدر، فقال - كما حكى الله تعالى عنه -:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم (16)} [الأعراف]، وقال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين (39)} [الحجر].
= وانظر: «أجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المصابيح» 3/ 1779، وتعليق المعلمي على «الفوائد المجموعة» ص 503.
فهو يؤمن ويعرف بأنه مأمور بالسجود، ويعلم أن ما حصل منه كان بقدر الله، فاعترض وطعن في حكمة الله تعالى.
وهذا سبيل بعض الملاحدة الذين يعارضون بين الشرع والقدر.
* * *
مذهب أهل السنة في الشرع والقدر ومذاهب الناس في الأسباب
وأما أهل الهدى والفلاح؛ فيؤمنون بهذا وهذا، فيؤمنون بأن الله خالقُ كلِّ شيء وربُه ومليكُه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين.
ويتضمن هذا الأصل مِنْ إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته، ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالقُ كل شيء وربُه ومليكُه؛ ما هو من أصول الإيمان.
ومع هذا لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسبَّبات، كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وقال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب.
بعد أن ذكر الشيخ فِرق الضلال الثلاثة الخائضين في القدر؛ ذكر المذهبَ الحق، مذهبَ أهل السنة والجماعة، الذين وصفهم
بقوله: (أهل الهدى والفلاح)، كما قال تعالى:{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (5)} [البقرة].
فهم يؤمنون بهذا وهذا، أي: بالشرع والقدر.
ثم فصَّل الشيخ وبيَّن حقيقة إيمانهم بالقدر؛ وهو: الإيمان بأن الله خالقُ كلِّ شيء وربُه ومليكُه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين.
فالإيمان بهذا الأصل؛ يتضمن الإيمان بمراتب القدر الأربعة؛ وهي: الإيمان بعموم علم الله، وكتابه، ومشيئته، وخلقه.
ومع إيمان أهل الهدى والفلاح بالقدر، وأن الله تعالى خالق كل شيء، وربه، ومليكه؛ فهم لا ينكرون ما خلقه الله تعالى من الأسباب التي يخلق بها المسبَّبات؛ بل هم يثبتون الأسباب.
ويدخل في إثبات الأسباب؛ إثبات الأمر والنهي، وهذه مِنْ المسائل الكبيرة التي انقسم فيها الناس، واختلفوا فيها تبعاً لاختلافهم في القدر.
والأسباب نوعان: أسباب كونية، وأسباب شرعية، فمن الأسباب الكونية: إنزال الماء بالسحاب، وإنبات الزرع بالماء؛ كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ، ف «الباء» في قوله تعالى:{بِهِ} سببية.
وهكذا سائر الأسباب التي تحصل مِنْ المخلوقات؛ هي: أسباب كونية.
ومن أدلة الأسباب الشرعية: الإضلال، والهداية بالقرآن؛ كما قال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ، فالقرآن في ذاته خير، ورحمة، وهدى؛ فقد يكون النافع ضاراً لأسباب خارجية، ولعدم سلوك الطريقة الصحيحة للانتفاع به، فالقرآن سبب لهداية من أراد الله هدايته، فيحصل له الانتفاع به.
ويكون سبباً لضلال من أراد الله إضلاله وشقاوته؛ فيكذب به، ويعرض عنه، وكما قال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} .
فالطاعاتُ والمعاصي أسبابٌ شرعية، والواقعُ منها؛ يكون أسباباً شرعية، وكونية.
فأهل الهدى والفلاح كما يثبتون القدر، وعموم خلق الله تعالى للأشياء؛ فإنهم يثبتون الأسباب، وأن الله تعالى يخلق بها، فيخلق الأرزاق بأسباب، ويخلق الولد بأسباب، وهكذا.
* * *
ومن قال: يفعل عندها لا بها؛ فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله مِنْ القُوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها؛ مثل قدرة العبد.
اختلف الناس في مسألة الأسباب على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الأسباب مؤثرة في مسبَّباتها بمشيئة الله تعالى وتقديره، وهذا هو المذهب الحق، وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
الثاني: اعتقاد أن الأسباب مؤثرة في مسبَّباتها بذاتها وطبعها، وقد أخذ بنصيب من ذلك: القدرية، الذين أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله تعالى، وزعموا أن العبد يخلق فعل نفسه.
الثالث: إنكار الأسباب؛ ومعناه: إنكار تأثير الأسباب، وهذا مذهب الجبرية الغلاة، الذين نفوا فعل العبد، ومشيئته، واختياره.
فمَن قال: «إن الله تعالى يخلق عند الأسباب لا بها» ؛ فقد خالف الشرع، والحس، فهم يقولون:«إن الله تعالى يخلق الشبع عند الأكل لا بالأكل؛ فليس الأكل سبباً للشبع» ، كما يقولون:«إن الله يخلق النبات عند وجود الماء في الأرض لا أن الماء مؤثر في حصول النبات» ،
وهكذا، ف «الباء» عند هؤلاء في مثل قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] للمصاحبة، وليست للسببية
(1)
.
كما أن «لام التعليل» عند هؤلاء تكون للعاقبة والصَّيْرُورة
(2)
؛ لأن من ينكر الأسباب ينكر الحكمة أيضاً، فليس عندهم «علة غائية» ، ولا «فاعلية»
(3)
؛ بل ليس ثَمَّ إلا المشيئة النافذة العامة، وهذا ما تقوله الأشاعرة.
وإثبات المشيئة حق، ولكن لا يمنع أن يكون شيء بتأثير شيء آخر، والجميع بمشيئة الله تعالى.
فمنكرو الأسباب: أنكروا ما خلقه الله تعالى من القوى والطبائع، فأنكروا ما خلقه الله من القوى التي يفعل بها الحيوان؛ مثل: قدرة العبد
(4)
.
والجبريةُ: أنكروا قدرة العبد وإرادته، وقالوا:«إن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى، ولا تأثير لقدرة العبد» ، حتى قالوا:«إنه ليس للعبد قدرة، ولا مشيئة» .
فقولُ الجبرية داخلٌ في عموم إنكار الأسباب؛ لأن قدرةَ العبد سببٌ لفعله.
* * *
(1)
الباء المفردة حرف جر، ولها أربعة عشر معنىً، منها ما ذُكر. انظر:«مغني اللبيب» ص 118.
(2)
للام الجارة اثنان وعشرون معنىً؛ منها ما ذكر. انظر: «مغني اللبيب» ص 233. وانظر: «شفاء العليل» ص 4.
(3)
تقدم بيان معناها في ص 183.
(4)
«مجموع الفتاوى» 8/ 175 و 9/ 288، و «منهاج السنة» 3/ 13 و 112.
كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك؛ فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب؛ إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسبَّبه، ولابدَّ له من مانع يمنع مقتضاه؛ إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء؛ إلا الله وحده، قال تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (49)} [الذاريات] أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد.
ولهذا من قال: «إن الله لا يصدر عنه إلا واحد، لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد» ؛ كان جاهلاً؛ فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان؛ إلا الله {الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون (36)} [يس].
فالنار التي جعل الله فيها حرارة؛ لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على «السَّمَنْدَل» ، و «الياقوت» ، ونحوهما؛ لم تحرقهما، وقد يُطلى الجسم بما يمنع إحراقه.
والشمس التي يكون عنها الشعاع؛ لابدَّ من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف؛ لم يحصل الشعاع تحته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
(1)
.
(1)
«نقض المنطق» ص 258، و «درء التعارض» 10/ 147، و «منهاج السنة» 1/ 222، و «مجموع الفتاوى» 8/ 133.
أي: فمَن جعل الأسباب هي المبدعة والخالقة للمسبَّبات، ومِن ذلك: مَنْ جعل قدرة العبد هي المبدعة لفعله؛ كقول القدرية المعتزلة: «إن العبد يخلق فعل نفسه» ، فهذا شرك بالله، حيث جعل السبب هو المبدع والموجِد للمسبَّب استقلالاً.
ولهذا قال بعض العلماء: «الالتفات إلى الأسباب؛ شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً؛ نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية؛ قدح في الشرع»
(1)
فالأول: نوع من الشرك في العبادة، كما أن جعل الأسباب هي المؤثرة في مسبَّباتها من نوع الشرك في الربوبية.
والثاني: قدح في العقل، والشرع.
والثالث: قدح في الشرع، لأن الشرع جاء بالأخذ بالأسباب.
وقد ذكر الشيخ أنه لا يوجد في المخلوقات سببٌ واحد مؤثر في شيء آخر مستقلاً بالسببية؛ بل ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسبَّبه، وأيضاً؛ فإنه ما من سبب إلا وله مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه.
(1)
نسبه شيخ الإسلام في «منهاج السنة» 5/ 336، و «بغية المرتاد» ص 262: إلى أبي حامد الغزالي وابن الجوزي، وهو بمعناه في كتابيهما:«إحياء علوم الدين» 4/ 374، ومختصره «منهاج القاصدين» 3/ 1227.
وبهذا يتبين: أنه ليس في الوجود شيء يستقل بفعل شيء إلا الله وحده، كما قال تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (49)} ، أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد
(1)
.
ومن ذلك يتبين فساد قول الفلاسفة بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فالله الواحد لم يصدر عنه - عندهم - إلا واحد، وهو العقل الأول؛ فهذا الكلام: باطل عقلاً، وشرعاً، ومتناقض.
أما في حق الله تعالى؛ فبطلانه ظاهر، فالله تعالى خالقُ كل شيء؛ فليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان؛ إلا الله وحده، الذي خلق الأزواج كلها.
وأما بالنسبة للمخلوق؛ فليس هناك مخلوق يصدر عنه وحده شيء استقلالاً؛ بل لا بدَّ له من سبب، أو أسباب أخرى تعينه في حصول مسبَّبه، ولا بدَّ من زوال الموانع التي تمنع تأثيره، ومردُّ ذلك كله إلى مشيئة الرب تعالى؛ فلا تأثير لسبب، ولا يندفع ما يمنعه إلا بمشيئته تعالى.
وقد ضرب الشيخ لذلك مثلين:
أحدهما: النار التي جعل الله فيها الحرارة؛ فإنه لا يحصل الإحراق بها إلا بملاقاة مَحَلٍّ قابل للاحتراق، فإذا وقعت - مثلاً - على
(1)
«تفسير الطبري» 21/ 549، و «تفسير البغوي» 7/ 379.
«السَمَنْدَل» ؛ وهو: طائر لا يتأثر بالنار
(1)
، أو على «الياقوت»؛ وهو: حجر صَلب شفاف لا تذيبه النار
(2)
؛ فإنها لا تحرقهما، وكذا إذا طُلي الجسم بمادة تمنع إحراقه؛ بطل مفعول النار فيه
(3)
.
والمثال الثاني: الشمس؛ فإن تأثير شعاعها متوقف على ملاقاة جسم قابل لانعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب، أو سقف يمنع نفوذ الشعاع؛ لم يحصل تأثيره.
فلا يوجد سبب مستقل بالتأثير، بل لا بدَّ من وجود أسباب أخرى، وزوال موانع.
* * *
(1)
وقيل: دابة. «تهذيب اللغة» 13/ 159، و «القاموس المحيط» ص 1314، وسماه ابن خلكان في «وفيات الأعيان» 7/ 43 «السَّمَنْد» ، وذكر أنه شاهد منه قطعة منسوجة، وأنهم جعلوها على النار؛ فلم تؤثر فيها، وذكر حكاية أخرى. وانظر:«الحيوان» 5/ 309، و «حياة الحيوان الكبرى» 2/ 568. وذِكرُ هذا المخلوق كثير في كتب التفسير، والأدب، والتراجِم.
(2)
«عجائب المخلوقات» ص 201، و «وفيات الأعيان» 7/ 43، و «خريدة العجائب» ص 89، و «صبح الأعشى» 2/ 98.
(3)
انظر حكاية ابن تيمية مع البطائحية الذين يدعون أنهم يدخلون النار؛ فلا تضرهم، وبيان ابن تيمية أنهم يطلون أجسامهم ب:«حجر الطلق» ، و «قشور النارنج» ، و «دهن الضفادع» . «مجموع الفتاوى» 11/ 459، وانظر:«الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ص 310.
والمقصود هنا أنه لا بدَّ مِنْ الإيمان بالقدر؛ فإن الإيمان بالقدر مِنْ تمام التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:«هو نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وآمن بالقدر؛ تمَّ توحيده، ومن وحَّد الله، وكذب بالقدر؛ نقضَ تكذيبُه توحيدَه» .
ولا بدَّ من الإيمان بالشرع؛ وهو: الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه.
والإنسانُ مضطرٌ إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لا بدَّ له مِنْ حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرعُ هو الذي يميِّز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يُمْكِن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميِّزون به بين ما يفعلونه، ويتركونه.
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم؛ بل الإنسان المنفرد لا بدَّ له من فعل وترك، فإن الإنسان همَّام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أصدقُ الأسماء حارثٌ وهمَّام» ، وهو معنى قولهم:«متحرك بالإرادة» ، فإذا كان له إرادة هو متحرك بها؛ فلا بدَّ أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له، أو ضار؟ وهل يصلحه، أو يفسده؟
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية
بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم إياهم.
يذكر الشيخ هنا أنه لا بدَّ من الإيمان بالقدر خلافاً للقدرية النفاة.
والإيمان بالقدر مِنْ تمام التوحيد أي: «توحيد الربوبية» ، كما أن التكذيب بالقدر مُوْقِعٌ في الشرك في الربوبية.
واستشهد الشيخ رحمه الله بقول ابن عباس رضي الله عنهما عن القدر: (إنه نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وآمن بالقدر؛ تمَّ توحيده، ومن وحَّد الله وكذب بالقدر؛ نقضَ تكذيبُه توحيدَه)
(1)
. أي: به ينتظم التوحيد، وتستقيم عقيدة المسلم، فمن آمن بأن الله تعالى خالقُ كل شيء، ثم زعم أن العبد يخلق فعل نفسه؛ فإن ذلك ينقض توحيده.
ولا بدَّ مِنْ الإيمان بالشرع خلافاً للجبرية الغلاة، فيجمع المسلم بين الإيمان بالشرع، والقدر.
ويبيِّن الشيخ المراد بالشرع بأنه الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وهذا هو مضمون ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
(1)
أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» 2/ 422، والفريابي في «القدر» ص 143، والآجري في «الشريعة» ص 183 و 184، وابن بطة في «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» - القدر - 2/ 159 و 160، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» 4/ 742، بمعناه.
والإنسان مفتقر ومضطر إلى شرع في حياته الدنيا، ولو كان يعيش وحده؛ فلا بدَّ له مِنْ شرع يميز به بين ما يفعل، وما يترك، وما ينفعه، وما يضره
(1)
.
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، وفض خصوماتهم، وبيان أحكام جناياتهم، ومعاملاتهم مع غيرهم؛ فهذا كله من الشرع، وليس الشرع مقصوراً عليه.
فالإنسان وإن كان منفرداً؛ فلا بدَّ له مِنْ فعلٍ وترك، فإن الإنسان بطبعه همامٌ حارث، مريد فعَّال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(«أصدق الأسماء حارث وهمام»)
(2)
.
فإذا كان الإنسان له إرادة، وهو متحرك بها؛ فلا بدَّ أن يَعرف ما يريده، هل هو نافع له، أو ضار؟ وهل يصلحه، أو يفسده؟ فهو محتاج إلى ما يميز به بين النافع والضار، والصالح والفاسد؛ من إرادته، وأفعاله، وتروكه في حياته الدنيا والآخرة، وهذا هو الشرع.
وقول الشيخ: (إنه لا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع)؛ إن كان المراد أنه لا يمكن أن يعيشوا عيشة سعيدة بلا شرع الله؛ فهذا واضح؛
(1)
«مجموع الفتاوى» 19/ 99، و 20/ 67
(2)
رواه أحمد 4/ 345، والبخاري في «الأدب المفرد» (816)، وأبو داود (4950) من حديث أبي وهب الجشمي، وأعلَّه أبو حاتم الرازي كما في «العلل» لابنه (2451) بأن أبا وهب الجُشَمي؛ هو: الكلاعي، وهو دون التابعين وليس صحابياً، وأيَّده ابن حجر في «النكت على كتاب ابن الصلاح» 2/ 788، و «الإصابة في تمييز الصحابة» 7/ 375.
فإن الأمم الكافرة، وإن عاشت ما عاشت، ومُتِّعَت بما متعت به؛ فحياتها مليئة بالنغص، ومآلها إلى جحيم وشقاء، وبقدر بُعْد الناس عن شرع الله تعالى؛ يكون شقاؤهم، وبقدر تمسكهم بشرع الله؛ تكون سعادتهم.
وإن أُريد أنه لا بدَّ لهم مِنْ شرعٍ ونظام - وإن كان مِنْ وضع البشر - ينظم حياتهم؛ فإنه يحصل لهم مِنْ استقامة العيش بحسب ما فيه.
وكل ما عند الأمم الكافرة مِنْ أنظمة صالحة تتضمن إقامة عدل، وإيصال حق، ومنع ظلم؛ فإنه موجَب شرع الله، وقد يكون مأخوذاً من شرع الله؛ فإنهم قد يأخذون من شرع الله ما لا يتعارض مع أهوائهم.
والأفعال النافعة والضارة منها ما يعرف بالفطرة؛ كما يعرف الانتفاع بالأكل والشرب، ومنها ما يعرف بالتجربة والعقل، والاستدلال والدراسة؛ كسائر الصناعات.
ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع؛ كالطاعات، والمعاصي، ومعرفة ما يحبه الله ويرضاه وما يسخطه.
وجاء الشرع أيضاً بتأكيد ما عُلم بالفطرة أيضاً؛ كما قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، فلا يجوز للإنسان أن يأكل أو يشرب إلى حد السَّرَف المضر، كما لا يجوز أن يترك من الأكل والشرب ما يضر به، حتى الصيام إن كان يضر به؛ كالمريض، فإن عليه أن يأكل ويشرب، ويدع الصيام.
مذاهب الناس في حسن الأفعال وقبحها
وفي هذا المقام تكلم الناس في الأفعال: هل يعرف حسنها وقبحها بالعقل؟ أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل؟، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبيَّنا ما وقع في هذا الموضع مِنْ الاشتباه؛ فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل، أو ينافره؛ يعلم بالعقل؛ وهو: أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذُّ به، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه.
وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما - جميعاً - أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة، والشقاوة في الدار الآخرة؛ لا تعلم إلا بالشرع.
فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع؛ لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل مِنْ تفصيل أسماء الله وصفاته؛ لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جُمل ذلك.
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب؛ هو ممَّا دل عليه قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيب (50)} [سبأ]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45].
ولكن طائفة توهمت أن للحسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح؛ يخرج عن هذا، فكلتا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين، وأخرجتاه عن هذا القسم؛ غلطت.
يذكر الشيخ هنا اختلاف الناس في أحكام الأفعال: هل يعرف حسنها وقبحها بالعقل؟ أو ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل؟
وهذه مسألة كبيرة تعرف بمسألة «التحسين والتقبيح» ، أو «مسألة الحسن والقبح»
(1)
، أي: حسن الأفعال وقبحها.
فمِن الناس من جعل العقل مدركاً لحسن الأفعال وقبحها، ومنهم من أحَالَ معرفة حسن الأفعال وقبحها بالعقل، وزعم أن ذلك لا يدرك إلا بالشرع.
وقبل الخوض في ذلك يذكر الشيخ أن هناك أمراً متفقاً عليه بين الجميع؛ وهو: أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره؛ يعلم بالعقل،
(1)
«منهاج السنة» 3/ 28، و «شرح الأصبهانية» ص 703، و «أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل» ص 90، و «الاحتجاج بالقدر» ص 308، و «جامع المسائل» 6/ 156، و «مفتاح دار السعادة» 2/ 24، و «مدارج السالكين» 1/ 242.
ومعنى كون الفعل ملائماً للفاعل: أي: سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذ به، ومعنى كونه منافراً: أي: سبباً لما يبغضه ويؤذيه ويضر به ويؤلمه.
وهذا القدر والمعنى في الفعل؛ وهو: الملاءمة والمنافرة؛ منه ما يعلم بالعقل والتجربة، ومنه ما يعلم بالشرع، ومنه ما يعلم بالفطرة، ومنه ما يعلم بكل ذلك.
وأما معرفة تفاصيل ذلك، والغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة والثواب والعقاب؛ فهذا لا يعلم إلا بالشرع.
فعقولُ الناس قاصرة عن معرفة تفاصيل اليوم الآخر، وتفاصيل الشرائع، وما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته.
فهذا كله لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون كلَّ ذلك على سبيل الإجمال.
فتفاصيل هذه الأشياء مصدرها الشرع، الذي هو: الروح، والهدى، والنور، الذي جاء من عند الله، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} الآية.
فلا يمكن الوصول إلى تفاصيل العلوم الشرعية إلا بالوحي.
والعلوم الشرعية الأساسية ثلاثة أقسام:
1 -
العلم بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله.
2 -
العلم بأمر الله تعالى، ونهيه، ودينه.
3 -
العلم بالجزاء.
فالهداية إلى تفاصيل هذه الأمور لا تكون إلا بالوحي كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيب (50)} ، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} .
فمَن جعل حسن الأفعال وقبحها يعلم بالعقل؛ وهم: المعتزلة، ومَن جعله يعلم بالشرع؛ وهم: الأشاعرة، كلٌّ منهما أخرج معنى الملاءمة والمنافرة عن مسألة (الحسن والقبح)، فليس معنى:(الحسن والقبح) كون الشيء ملائماً أو منافراً عندهما، وهذا غلط.
ويلاحظ أن كِلا المذهبين أخطأ في مسألة «الحسن والقبح» ، والصواب: أن الأفعال منها ما هو حسن، ومنها ما هو قبيح، حُسْناً وقُبحاً ذاتياً، يعرف بالعقل.
وأن كل ما كان حَسَناً في العقل؛ فإن الشرع يأمر به، ويزيده الأمر به حُسناً، وكل ما هو قبيح؛ فإن الشرع ينهى عنه، فيزيده قبحاً.
فلا تعارض بين العقل والشرع في هذه المسألة ولا غيرها، ولا يخرج حسن الفعل وقبحه عن كونه ملائماً أو منافراً.
فالصواب: إثبات الحسن والقبح العقليين والشرعيين، فالصلاة - مثلاً - فِعل حسنٌ بالشرع والعقل، وكذا التوحيد، والإحسان إلى الخلق.
والشركُ فِعلٌ قبيح عقلاً وشرعاً، وكذا الظلم، والزنا.
والإحسانُ فِعلٌ ملائم، والظلم والعدوان فِعل منافر، ولكن الجزاء على فعل الحسن أو القبيح؛ لا يكون إلا بالشرع.
فالمعتزلة أصابوا في جعلهم الحسن والقبح مدركاً بالعقل، وأخطأوا حيث أخرجوه عن معنى الملاءمة والمنافرة، كما غلطوا - أيضاً - حيث لم يثبتوا الحسن والقبح الشرعيين، وجعلوا الشرع مجرد كاشفٍ لما أدركه العقل، كما غلطوا في جعلهم العقل موجِباً للأحكام الشرعية، فأثبتوا إيجاباً، وتحريماً، وثواباً، وعقاباً بمجرد العقل، فما دل العقل على حسنه - عندهم -؛ فهو واجب، وما دل على قبحه؛ فهو محرم، وفعله موجِب للعقاب.
والصواب: أن العقل وإن دل على حسن الفعل وقبحه؛ فإنه لا يقتضي وجوباً ولا تحريماً، فلا وجوب إلا بالشرع، ولا تحريم إلا بالشرع، فالأحكام التشريعية لا تؤخذ إلا مِنْ الشرع، والعقاب لا يكون إلا بعد ورود الشرع؛ كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15)} [الإسراء].
فالأفعال الحسنة سبب للثواب، والأفعال القبيحة سبب للعقاب، ولكن هذه السببية مربوطة بالشرع لا سيما مسألة العقاب، فالعقاب لا يترتب على مجرد الأفعال مطلقاً، بل لا بدَّ من قيام الحجة، وبلوغ الرسالة، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وقال تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين (47)} [القصص]
(1)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» 8/ 435، و «الجواب الصحيح» 1/ 442.
ثم إن كلتا الطائفتين لما كانت تنكر أن يُوصفَ الله بالمحبة، والرضا، والسخط، والفرح، ونحو ذلك ممَّا جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية؛ تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا تتصور قدرته على ما هو قبيح؟ أو: أنه سبحانه وتعالى مُنزه عن ذلك لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين.
والقولان في الانحراف مِنْ جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل، أو تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، أو تركه من العذاب والنقمة.
والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبَّهوه بعباده فيما [يأمر]
(1)
به، ويَنهى عنه.
يبيِّن الشيخ رحمه الله أن المعتزلة والأشاعرة، وهم ينكرون أن يوصف الله تعالى بالمحبة، والرضا، والسخط، والفرح، ونحو ذلك؛ تنازعوا
(1)
في المطبوع من متن «التدمرية» «يؤمر» ، ورجَّح الشارح ما أُثبت. وكذا هو في بعض النسخ، كما في حاشية المطبوع.
بعد اتفاقهم على أن الله تعالى لا يفعل ما هو قبيح: هل لا يفعله لأنه ممتنع لذاته، ولا تتصور قدرته عليه؟ أو: أنه سبحانه وتعالى لا يفعله وأنه منزه عنه لمجرد كونه قبيحاً عقلاً؟ على قولين.
فمثلاً: اتفق الجميع على امتناع الظلم مِنْ الله تعالى، لكن الأشاعرة قالوا:«إنه لا يفعله؛ لأنه مستحيل عليه، وغير متصور منه، ولا يقدر عليه؛ لأنه إنما يتصرف في ملكه، والظلمُ التصرف في ملك الغير» .
وهذا القول باطل؛ لأن المستحيل لا يمتدح بتركه والتنزهِ عنه، والله تعالى يقول:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد (46)} [فصلت].
والمعتزلة قالوا: «لا يفعله؛ لأنه قبيح عقلاً» ، فهم في الحقيقة قاسوا الخالق على المخلوق، فجعلوا كلَّ ما قَبُح من الخلق؛ قبح من الخالق، فما ظنوه بعقولهم قبيحاً؛ منعوه عن الله تعالى.
وهذا هو الذي آل بهم إلى إنكار القدر؛ فنسبوا إلى الله العَجْز، وأخرجوا كثيراً من الموجودات عن ملكه ومشيئته، وذلك أنهم أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله تعالى؛ لأن تعلق مشيئة الرب بأفعال العباد؛ مِنْ الظلم الذي يجب تنزيه الرب عنه بزعمهم، وسموا ذلك «عَدْلاً» .
وكلا القولين في الانحراف مِنْ جنس القولين المتقدمين، أي: في مسألة «الحسن والقبح» ، بإثبات الحُسن والقبح العقليين، ونفي الحسن والقبح العقليين، وإخراجهما ذلك عن معنى الملاءمة والمنافرة.
وقد دلت الأدلة الشرعية على أن الأشياء في ذاتها حسنة، أو قبيحة قبل ورود الشرع بالأمر، أو النهي.
فالله تعالى سمى المأمور معروفاً، والحلال طيباً، كما سمى المنهي عنه منكراً، والحرام خبيثاً.
كما قال تعالى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].
والأشاعرة الذين قالوا: «إنما يعرف الحَسَن والقبيح من الشرع فقط» ، قالوا:«إن الأشياء في ذاتها متساوية؛ فلا تُوصف بالحسن والقبح في ذاتها» ، ونشأ عن ذلك: نفي حكمة الرب تعالى، فعندهم لا فرق بين التوحيد والشرك، وإنما صار التوحيد حسناً بالأمر به، وصار الشرك قبيحاً بالنهي عنه، ولو انعكس الواقع في الأمر والنهي؛ لانعكس الحسن والقبح.
وهكذا الحال في الصدق والكذب، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار؛ فلا فرق في حقيقة الأمر بين إثابة الأبرار بالجنة، وعقاب الفجار بالنار، وإنما الأمر راجع إلى محض المشيئة الإلهية؛ فلا حِكَم ولا تعليل عندهم، فقد تقتضي المشيئة: تعذيب الأبرار، وتنعيم الفجار.
فالأشياء في ذاتها سواء مِنْ: الأفعال، أو الأقوال، أو الذوات، وإذا كان الأمر كذلك - عندهم - فالله تعالى - على هذا - غير مستحقٍّ للحمد على ما فعله من العدل، أو تركه من الظلم، ولا على ما فعله من الإحسان والنعمة، أو تركه من العذاب والنقمة؛ لأن الذي يستحق
المدح والحمد؛ هو الذي يضع الأشياء مواضعها، وهؤلاء عندهم أن جميع الأفعال جائزة ولا فرق بينها، وهذا يتضمن نفي حكمة الرب تعالى، وهذا باطل، فالله تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها في أمره، ونهيه، وفعله.
والآخرون؛ وهم: المعتزلة نزهوه عن فعل القبيح بناء على مفهوم القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، فهم سوُّوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به، وينهى عنه.
* * *
غلو الصوفية في توحيد الربوبية، وما أدى إليه
فمن نظر إلى القدر فقط، وعظَّم الفناء في «توحيد الربوبية» ، ووقف عند الحقيقة الكونية؛ لم يميِّز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار.
وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله، ودينه، وشرائعه، فهم مخالفون - أيضاً - لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس؛ فإن أحدهم لا بدَّ أن يلتذ بشيء، ويتألم بشيء، فيميِّز بين ما يؤكل ويشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره؛ هو: الحقيقة الشرعية الدينية.
يتكلم الشيخ هنا عن الجبرية من غلاة الصوفية الذين يغلون في إثبات القدر، ويفنون في (توحيد الربوبية)، ويقفون عند الحقيقة
الكونية، ويعرضون عن الأمر والنهي، وهم الذين تقدم تسميتهم ب «المشركيَّة»
(1)
.
فهؤلاء ينظرون إلى القدر وحده، ويعرضون عن الشرع، ويقفون عند الحقيقة الكونية، وهي: كون الله تعالى خالق كل شيء.
وهؤلاء لم يميزوا ولم يفرقوا بين الأضداد؛ فلم يفرقوا بين العلم والجهل، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين الطاعة والمعصية، ولا بين البر والفجور، ولا بين العدل والظلم، ولا بين الهدى والضلال، ولا بين الرشد والغي، ولا بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين أهل الجنة وأهل النار.
ويرون أن حقيقة التوحيد وكماله؛ عدم التفريق بين الأشياء في ذاتها، فتحقيق التوحيد وشهود كمال الربوبية يكون - عندهم - بعدم التمييز بين الأشياء، ومتى فَرَّق الشخص بين الأشياء، من الطاعة والمعصية، والعدل والظلم، والصدق والكذب، والنافع والضار، والواجب والمحرم، والحسن والقبيح، وغير ذلك؛ لم يكن موحداً، ولا محققاً لشهود كمال «توحيد الربوبية» الذي يسمونه «الفناء» .
وقد اتفق الأشاعرة، وغلاة الصوفية على أن الأشياء في ذاتها لا فرق بينها؛ بل هي سواء.
والفرق بين الأشاعرة، وغلاة الصوفية في هذا المقام، أن الأشاعرة جعلوا الشرع مفرقاً بين الأشياء التي هي عندهم متساوية في ذاتها،
(1)
ص 660.
فجعلوا التمييز بين حُسن الصدق وقُبح الكذب؛ مرده إلى الشرع فقط، وإن كانا متساويين في نفس الأمر.
أما غلاة الصوفية؛ فوقفوا عند الحقيقة الكونية، وأعرضوا عن الشرع، فسووا بين الأشياء في ذاتها وفي حكمها، ولم يفرقوا بينها لا في ذاتها، ولا من جهة الشرع، ويرون أن كمال المعرفة والتوحيد في عدم التمييز، فلا فرق عندهم بين الصدق والكذب، ولا بين الطاعة والمعصية، لا من حيث ذاتها، ولا من ناحية الشرع؛ لأنهم معرضون عن الأمر والنهي.
والحق أن هؤلاء الذين يقفون عند الحقيقة الكونية، وينظرون إلى القدر فقط، ويعرضون عن الشرع، ولا يميزون بين الأشياء في ذاتها؛ هؤلاء مخالفون لضرورة العقل، والقياس، والحس، والذوق، والشرع، وقولهم مِنْ أبطل الباطل
(1)
.
فكل أحد يفرق بذوقه بين ما يلتذ به ممَّا يؤكل ويشرب، وما لا يلتذ به، ويفرق بحسه بين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، ويفرق الناس بعقولهم بين كثير ممَّا ينفعهم، وما يضرهم.
وهذا التمييز بين ما ينفع وما يضر؛ هو: مضمون الشرع، فهو الحقيقة الشرعية الدينية، كما أن هناك أموراً عرف الفرق بينها من جهة الشرع، فمَن لم يُفَرِّق بين ما فَرَّق بينه الشرع؛ فهو ملحد بمخالفته للشرع، والعقل.
(1)
«أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل» ص 106، و «الاحتجاج بالقدر» ص 310.
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً؛ فقد افترى، وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يَعرِض للإنسان بعض الأوقات عارض؛ كالسُّكْر، والإغماء، ونحو ذلك ممَّا يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه؛ فهذا ممتنع.
فإن النائم لم يسقط إحساس نفسه؛ بل يرى في منامه ما يسره تارة، وما يسوؤه أخرى، فالأحوال التي يُعبر عنها ب «الاصطلام» ، و «الفناء» ، و «السُّكر» ، ونحو ذلك؛ إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها؛ لضعف تمييزه؛ لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقاً.
يذكر الشيخ هنا أن من نفى التمييز بين الأشياء مطلقاً، فهو مخالف لضرورة الحس.
وتكلم الشيخ هنا عن بعض مصطلحات الصوفية؛ وهي: (الاصطلام)، و (الفناء)، و (السُّكْر)، وهي عبارات متقاربة مؤداها: الوصول إلى حالة يفقد فيها الشخص التمييز بين الأشياء
(1)
.
(1)
«التوقيف على مهمات التعاريف» ص 68 و 565 و 409، و «معجم الصوفية» ص 49 و 319 و 211.
فيذكر الشيخ أن الشخص قد يكون في بعض الأحوال والأوقات - كما في المصطلحات السابقة - لا يميز بين بعض الأشياء؛ لوجود ما يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، أمَّا أن يسقط إحساسه بالكلية؛ فلا يميز بين الأشياء مطلقاً؛ فهذا لا يكون مع وجود الحياة.
فالنائم - مثلاً - لا يسقط إحساسه بالكلية؛ بل يحس بنفسه فيرى في منامه ما يسره تارة، وما يسوؤه أخرى.
فمن زعم سقوط الحس والتمييز بالكلية مع وجود الحياة؛ فقد غلط على الشرع والقدر والحس.
فحالة الفناء، والسكر، والاصطلام؛ إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي حالة نقص لضعف تمييز صاحبها، ولكنها مع هذا الضعف؛ لا تصل إلى حد يسقط فيه التمييز بين الأشياء مطلقاً ما دامت حياته باقية فيه.
* * *
ومَن نفى التمييز في هذا المقام مطلقاً، وعظَّم هذا المقام؛ فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية: قدراً، وشرعاً؛ غلط في خلق الله، وفي أمره، حيث ظن وجود هذا، ولا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز، والعقل، والمعرفة.
أي: ومَن عظَّم مقام نفي التمييز مطلقاً؛ فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية، أي: شرعاً، وقدراً.
أما غلطه من جهة الشرع؛ فحيث مدح عدم التمييز بين الأشياء، وهذا باطل؛ لأن عدم التمييز، وعدم العقل، والمعرفة؛ غير ممدوح.
وأما غلطه من جهة القدر؛ فحيث ظن أن عدم التمييز مطلقاً يمكن أن يوجد مع الحياة، وهذا باطل؛ لأنه لا وجود له، فالله تعالى لم يقدره، ولم يخلقه.
فمن ادعى وجود شيء غير موجود في الواقع؛ فهو غالط من جهة الحقيقة الكونية القدرية، ومن مدح شيئاً لم يثنِ عليه الشرع ولم يأتِ به؛ فهو غالط على الحقيقة الشرعية، حيث مدَح ما لم يمدحه الشرع، ودعا إلى ما لم يرِد به الشرع.
* * *
وإذا سمعتَ بعضَ الشيوخ يقول: «أريد ألَّا أريد» ، أو:«إن العارف لا حظَّ له» ، أو:«إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل» ، ونحو ذلك؛ فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار؛ فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل، ومن مدح هذا؛ فهو مخالف لضرورة الدِّين والعقل.
يذكر الشيخ هنا بعض عبارات الصوفية، ويناقشها، ويبيِّن ما تحتمله من معنى صحيح، وباطل
(1)
.
فالعبارة الأولى: (أريد ألَّا أريد)
(2)
، فهذا إنما يمدح منه سقوط الإرادة التي لم يؤمر بها الشخص: إرادة المحرم، وإرادة المفضولات المباحة.
أما سقوط إرادته مطلقاً حتى عن إرادة الطاعة، وترك المعصية؛ فهذا محرم شرعاً؛ لأنه يجب على الإنسان أن يريد الطاعة وترك المعصية،
(1)
«مجموع الفتاوى» 10/ 494، و «جامع المسائل» 6/ 9، و «مدارج السالكين» 2/ 82.
(2)
نسبها شيخ الإسلام إلى: أبي يزيد البسطامي. «الاستقامة» ص 349، وانظر تعليقه عليها في «جامع المسائل» 6/ 11.
كما أن سقوط الإرادة مطلقاً بحيث لا يريد أن يفعل ولا يترك؛ مخالف للحقيقة الكونية.
وأما العبارة الثانية؛ وهي قولهم: (إن العارف لا حَظ له)، فهذا يمدح منه عدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، أي: ترك حظوظ الدنيا التي لم يؤمر بطلبها، أما الحظوظ التي أمر بها؛ فإنه لا يمدح بتركها.
وأما العبارة الثالثة؛ وهي قولهم: (إن العارف يصير كالميت بين يدي الغاسل)، فهذا إنما يمدح كونه كالميت في ترك طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
أما أن يكون كالميت بالنسبة لجميع الأقدار، فهذا مخالف للحس، والعقل، والشرع، فإذا أحس بالبرد، أو الجوع، أو الخوف؛ فعل ما يدفع ذلك، وهذا أمر معلوم بالحس والعقل، كما أن مقتضى الشرع أنْ نفِرَّ من قدر الله إلى قدر الله.
* * *
أنواع الفناء
والفناء يراد به ثلاثة أمور:
أحدها؛ وهو: الفناء الديني الشرعي، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب؛ هو: أن يفنى عمَّا لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به، فيفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه.
بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]، فهذا كله؛ هو ممَّا أمر الله به ورسوله.
وأما الفناء الثاني: - وهو الذي يذكره بعض الصوفية -؛ وهو: أن يفنى عن شهود ما سِوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله؛ فهذا حال ناقص، قد يعرض لبعض
السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله، ولهذا لم يعرض مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، والسابقين الأولين.
ومن جعل هذا نهاية السالكين؛ فهو ضال ضلالاً مبيناً، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله؛ فهو مخطئ؛ بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك.
وأما الثالث؛ فهو: الفناء عن وجود السِّوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق؛ هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهذا قول أهل الإلحاد والاتحاد، الذين هم من أضل العباد.
وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يَطْرُدَ قوله؛ فإنه إذا كان مشاهداً للقدر مِنْ غير تمييز بين المأمور والمحظور، فعومل بموجب ذلك، مثل: أن يُضرب ويُجاع حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع؛ فإن لامَ مَنْ فعل ذلك به وعابه؛ فقد نقض قوله، وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له: هذا الذي فعله مَقضيٌ مقدور، فخلقُ الله وقدره، ومشيئته؛ متناولٌ لك وله، وهو يَعُمُّكما، فإن كان القدر حجة لك؛ فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك، ولا له.
فقد تبيَّن بضرورة العقل؛ فساد قول مَنْ ينظر إلى القدر، ويعرض عن الأمر والنهي.
الفناء في اللغة؛ هو: العدم، والذهاب، والزوال
(1)
، وللفناء أقسام ثلاثة
(2)
؛ هي:
الأول: الفناء الديني الشرعي، وهو الفناء بما يريد الله تعالى عن غيره، فيفنى بعبادة الله تعالى عن عبادة غيره، وبالخوف منه عن خوف غيره، والمراد بالخوف هنا: الخوف العبادي الإرادي.
وهذا الخوف لا يصل إلى درجة التجرد من الخوف الطبيعي؛ كالخوف من السَّبُع، والعدو، ونحو ذلك؛ فإن هذا الخوف الطبيعي ليس بمذموم مطلقاً إلا حين يصل إلى حد ترك ما أوجب الله تعالى، فيكون مذموماً؛ كمن يترك الجهاد الواجب في سبيل الله؛ خوفَ القتلِ، أو العدوِ.
وهكذا بقية العبادات: فيفنى عن التوكل على غير الله بالتوكل على الله، وعن طاعة غير الله بطاعته وطاعة رسوله، وعن محبة غير الله بمحبته ومحبة رسوله، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} ، فكل
(1)
«معجم مقاييس اللغة» 4/ 453، و «القاموس المحيط» ص 1704.
(2)
«العبودية» ص 218، و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ص 199، و «مجموع الفتاوى» 2/ 313، و 343 و 369 و 10/ 337، و «الرد على الشاذلي» ص 150، و «طريق الهجرتين» 2/ 565، و «مدارج السالكين» 1/ 174.
من فني عمَّا لم يأمرِ الله به بفعل ما أمر الله به؛ فقد جاء بما أمر الله به ورسوله.
وحقيقة هذا الفناء؛ هو: تحقيق التوحيد وتكميله، وإخلاص الدين لله، وتسمية هذا فناء صحيح من الجهة اللغوية، وليس هو من المصطلحات الشرعية؛ لا في النصوص، ولا في كلام السلف، لكن الشيخ رحمه الله سمى هذا المقام فناء لمناسبة الخطاب مع الصوفية الذين يعظِّمون الفناء بمفهومه عندهم، ويجعلونه أعلى مقامات الدين؛ وهو:
النوع الثاني: الفناء عن شهود السوى؛ وهو: الفناء بالله وفي الله، وهذا الفناء يذكره بعض الصوفية، وحقيقته: أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيغيب عن شعوره بما سوى الله حتى عن نفسه، يفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته.
والضمير في قوله: (بمعبوده) يرجع إلى العبد أي: يفنى بربه، والضمير في قوله:(عن عبادته) يصلح أن يكون راجعاً للعبد أو للرب، أي: يفنى بربه عن عبادة ربه، أو عن عبادته لربه؛ لأن «المصدر» يجوز أن يضاف إلى «الفاعل» نحو: عبادةُ العبدِ لربه، وأن يضاف إلى «المفعول» نحو: عبادةُ الربِّ
(1)
.
وهكذا بقية الجمل: (بمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته)، ومثله:(بمشهوده عن شهوده) أي: يفنى بربه عن شهود ربه، أي: عن شهوده إياه، أو شهوده الله
(2)
.
وحالُ صاحب هذا الفناء حالٌ ناقصة لا يمدح بها، فهي من العوارض التي تعرض لبعض السالكين، وليست هي من لوازم الطريق إلى الله، وهذا النوع من الفناء معدود عند الصوفية أعلى مقامات الدين
(1)
.
والحقُ أنه ليس من الدين؛ بل غاية صاحبه أن يكون معذوراً إذا وقع له ذلك من غير قصد إليه ولا تحرٍّ له، والرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أكمل الخلق، وأعلمهم بالله؛ لم يحصل له هذا الفناء؛ بل كان يشعر بمَن حوله، وبمن وراءه في الصلاة، حتى كان يسمع بكاء الصبي وهو يصلي؛ فيخفف صلاته لذلك
(2)
.
الثالث: الفناء عن وجود السِّوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق؛ هو عين وجود الخالق، فالوجود عنده واحد بالعين، وحقيقة ذلك: اعتقاد ألَّا موجود إلا الله، وهذا مذهب أهل الإلحاد والاتحاد القائلين بوحدة الوجود، الذين هم أضل العباد.
وهؤلاء الذين يزعمون أن النظر إلى الحقيقة الكونية القدرية يوجب عدم التمييز بين المأمور والمحظور؛ مخالفون للعقل والقياس، كما أنهم مخالفون للشرع.
فإن الواحد منهم لا يمكنه أن يَطْرُدَ قوله؛ لأنه إذا كان مشاهداً للقدر مِنْ غير تمييز بين المأمور والمحظور، ولا بين الظالم والمظلوم؛ فيلزمه
(1)
«مجموع الفتاوى» 2/ 314، و «طريق الهجرتين» 2/ 567، و «مدارج السالكين» 1/ 175.
(2)
رواه البخاري (709)، ومسلم (470) من حديث أنس رضي الله عنه.
ألَّا يلوم من يضربه ويمنعه حقه؛ لأنه إن لامَ غيرَه أو عابه؛ فقد نقض مذهبه في عدم التمييز، وفي الفناء عن شهود السِّوى.
فيقال له: هذا الذي ظلمك فعلَ ذلك بقدر الله تعالى، فخلقُ الله وقدرُه ومشيئتُه واقعٌ عليك وعليه؛ فإن كان القدر حجة لك؛ فهو حجة لمن ظلمك، وإلا فليس بحجة لا لك، ولا له
(1)
.
وبهذا يتبيَّن فساد مذهب مَنْ ينظر إلى القدر، ويعرض عن أوامر الشرع، ونواهيه.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» 2/ 300، و «شفاء العليل» ص 17.
ثمرات الإيمان بالشرع والقدر، وهي: التقوى، والصبر، وما يحققهما
والمؤمنُ مأمورٌ بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، وقال تعالى في قصة يوسف:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين (90)} [يوسف].
فالتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ولهذا قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار (55)} [غافر]، فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لابدَّ لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» ، وقال:«إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» .
وكان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدِّي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما
أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت»
(1)
.
وقد ذكر عن آدمَ أبي البشر أنه استغفر ربَّه وتاب إليه، فاجتباه ربه وتاب عليه وهداه، وعن إبليسَ أبي الجن أنه أصرَّ متعلقاً بالقدر؛ فلعنه وأقصاه، فمن أذنب، فتاب وندم؛ فقد أشبه أباه، ومَن أشبه أباه؛ فما ظلم، قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} [الأحزاب].
ولهذا قَرَن سبحانه وتعالى بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال تعالى:{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6]، وقال تعالى:{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِير (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود: 1 - 3].
وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم، وغيره:«يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً»
(2)
.
(1)
رواه البخاري (6398)، ومسلم (2719) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه باختلاف يسير.
(2)
رواه بنحوه ابن أبي عاصم في «السنة» (7)، وأبو يعلى في «مسنده» (136) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وضعفه ابن كثير في «تفسيره» 2/ 124، ورواه بنحوه أبو إسماعيل الهروي في «ذم الكلام وأهله» (959) من حديث جابر رضي الله عنه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن ذي النون أنه نادى في الظلمات: {أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين (87)} [الأنبياء]، قال تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين (88)} [الأنبياء]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله بها كَرْبَه»
(1)
.
المؤمن مأمور بأن يفعل ما أُمر به، ويترك ما نُهي عنه، وهذه حقيقة التقوى، كما أنه مأمور بأن يصبر على ما قُدِّر عليه، وقد جمع الله بين التقوى والصبر، وذكر عاقبتهما في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} ، وقوله تعالى في قصة يوسف:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين (90)} .
كما أمر الله تعالى بالاستغفار مع الصبر، كما قال سبحانه:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار (55)} .
(1)
رواه أحمد 1/ 170، والترمذي (3505)، وصححه الحاكم 1/ 505، و 2/ 382، والضياء في «المختارة» 2/ 21 من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وحسنه ابن حجر كما في «الفتوحات الربانية» 4/ 11، وانظر:«تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف» 2/ 368، وانظر: شرحاً موسعاً لهذا الحديث في «مجموع الفتاوى» 10/ 237 - 337.
والإنسان مهما بلغ من منزلة؛ فلا بدَّ له من الاستغفار؛ لأنه دليل التواضع، وشعور العبد بالتقصير، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكثرون الاستغفار، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كان كثير الاستغفار، وأَمر بذلك، كما قال في الحديث الذي رواه مسلم وغيره:«يا أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة»
(1)
، وفي لفظ:«إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (1).
وفي الحديث الآخر - الذي رواه البخاري - يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»
(2)
.
وقوله: («ليغان على قلبي») فُسِّر بما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم مِنْ غفلة عن اللائق به.
وهذا إنما يحصل له بما يناسب مقامه، فمقامه صلى الله عليه وسلم رفيع؛ بل هو أرفع المقامات، فإذا نقص أو كاد؛ استغفر ربه وتاب إليه.
والاستغفار له ألفاظ وصيغ:
* فتارة يكون بصيغة الاستفعال، أي: الفعل المزيد ب «السين والتاء» اللتين للطلب؛ مثل: «أستغفر الله» .
* وتارة يكون بطلب المغفرة بصيغة الدعاء؛ كقول: («اللهم اغفر لي»).
* وتارة بذكر اسم الله تعالى؛ كقوله: «يا الله إنك غفور رحيم» .
(1)
من حديث الأغر المزني رضي الله عنه.
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
* وتارة يكون بالاعتراف بالذنب؛ كقول ذي النون عليه السلام: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين (87)} .
وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»
(1)
.
وقد ورد الاستغفار في نهاية الأعمال؛ كنهاية الصلاة، وقيام الليل في السَّحَر، ونهاية أعمال الحج؛ كما قال تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم (199)} [البقرة].
وهذا يدل على توقع النقص والتقصير، كما أنه دليلُ التواضع.
وكثيراً ما يقرن الاستغفار بالتوحيد
(2)
؛ كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} .
* * *
(1)
رواه البخاري (834)، ومسلم (2705).
(2)
«مجموع الفتاوى» 10/ 262.
وجماع ذلك أنه لا بدَّ له في الأمر مِنْ أصلين، ولا بدَّ له في القدر من أصلين؛ ففي الأمر: عليه الاجتهاد في الامتثال عِلماً وعملاً، فلا يزال يجتهد في العلم بما أمر الله به، والعمل بذلك، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور، وتعديه للحدود.
ولهذا كان من المشروع أن تختتم جميع الأعمال بالاستغفار؛ ف «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته: استغفر، ثلاثاً»
(1)
، وقد قال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار (17)} [آل عمران]، فقاموا الليل، ثم ختموا بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قوله تعالى:{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]، وفي الحديث الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» يتأول القرآن
(2)
.
وأما في القدر؛ فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه، ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، فيكون مفتقراً إليه في طلب الخير وترك الشر، وعليه: أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس؛ علم أن ذلك مقدَّر عليه.
(1)
رواه مسلم (591) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (817)، ومسلم (484) من حديث عائشة رضي الله عنه.
ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى، لما قال:«يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟» فقال له آدم: «أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، فبِكَم وجدت مكتوباً علي قبل أن أُخلق: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه]؟ قال: بكذا وكذا سنة» ، قال:«فحجَّ آدمُ موسى»
(1)
.
وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب؛ فإن آدم كان قد تاب منه، والتائب من الذنب؛ كمن لا ذنب له، ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك.
وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، كما قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [غافر: 55].
لا بد للعبد في الأمر، والشرع مِنْ أصلين
(2)
:
1 -
الاجتهاد في الامتثال: علماً، وعملاً.
2 -
الاستغفار والتوبة من التفريط في أداء المأمور، أو تعديه الحدود، فالاستغفار مطلوب من العبد قبل التوبة؛ لأنه قد يكون سبباً في التوبة، كما أنه مطلوب بعد التوبة؛ لكونه من أسباب قبولها.
(1)
رواه البخاري (6614)، ومسلم (2625) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
(2)
«مجموع الفتاوى» 8/ 76.
ولا بد في القدر من أصلين (1):
1 -
الاستعانة بالله في فعل المأمور، والتوكل على الله والافتقار إليه في طلب الخير، وترك الشر.
2 -
الصبر على المقدور، وأن يعلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومن النصوص الدالة على التوبة، والصبر على المصيبة، والنظر إلى القدر في ذلك: حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام.
وقد وقف الناس من هذا الحديث مواقف عدة
(1)
:
فالجبرية استدلوا به في الاحتجاج بالقدر على الذنب، والقدرية ردوه بحجة أنه آحاد، ومن الأجوبة: قول مَنْ قال: إنما حجه؛ لأنه أبوه، وإلا فالحجة لموسى. وهذا ضعيف.
وأحسن ما قيل في هذا الحديث قولان:
1 -
أن موسى عاتب آدم على الذنب، وليس له ذلك؛ لأنه قد تاب منه، ومَن تاب مِنْ الذنب؛ فهو كمن لا ذنب له، وله الاحتجاج بالقدر إذا لامه أحد على الذنب الذي تاب منه، لكن لا ينظر إلى القدر نظرَ تهوينِ المعصيةِ على النفس؛ لأن هذا يضعف الشعور بالذنب والمعصية، وإنما تكون عنده بمثابة المصيبة التي رفعها الله عنه.
(1)
«درء التعارض» 8/ 418، و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ص 258، و «الاحتجاج بالقدر» ص 304.
2 -
أن عتب موسى على آدم لم يكن على الذنب، وإنما على المصيبة، التي هي الخروج من الجنة، والمصيبة ليس لآدم عليه السلام فيها يَدٌ، فهو لم يردِ الخروج من الجنة، فكان لآدم أن يحتج بالقدر على المصيبة، وكانت الحجة له على موسى عليه السلام، وهذا هو الصواب، فيحتج بالقدر على المصائب، لا على المعاصي والمعائب، والقولان كلاهما قوي
(1)
.
فالعبد ينظر إلى القدر في المصائب؛ لتخفيف وقعها على النفس، وليستقيم سلوكه عند المصيبة.
* * *
(1)
«مجموع الفتاوى» 2/ 324، و 8/ 178، و «أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل» ص 108، و «الاحتجاج بالقدر» ص 321، و «شفاء العليل» ص 18.
فمن راعى الأمر والقدر - كما ذُكِر -؛ كان عابداً لله، مطيعاً له، مستعيناً به، متوكلاً عليه، مِنْ الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع؛ كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} [الفاتحة]، وقوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله تعالى:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (10)} [الشورى وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق]، فالعبادة له، والاستعانة به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية:«اللهم منك، ولك» ، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم.
أراد الشيخ أن يجمع بين الأمور الأربعة السابقة في الأمر والقدر، فذكر أنه لا بدَّ من أصلين:
1 -
العبادة.
2 -
الاستعانة.
فالعبادة تكون بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر.
والاستعانة: طلب العون من الله تعالى للقيام بشرعه؛ كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} ، وهذه الآية تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة:
أما توحيد الربوبية؛ فيدل عليه قوله: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} ، فإفراده بالاستعانة دليل على أنه هو الذي بيده التدبير والخلق وحده، وأنه المالك لكل شيء، وبيده الخير.
وأما توحيد العبادة والإلهية؛ فيدل عليه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فهو سبحانه المستحق للعبادة وحده دون سواه.
وأما توحيد الأسماء والصفات، فوجه دلالة الآية عليه، أن المعبود وحده، والمستعان وحده دون سواه؛ لا بدَّ أن يكون منعوتاً بأكمل النعوت، ومسمى بالأسماء الحسنى.
فيوحد الله تعالى بالعبادة والاستعانة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية:(«اللهم منك ولك»)
(1)
، فقوله:«منك» ؛ يدل على الربوبية، وقوله:«لك» ؛ يدل على العبودية، والألوهية، والإخلاص.
فما لم يكن بالله؛ لا يكون؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله؛ لا ينفع ولا يدوم
(2)
.
(1)
رواه أحمد 3/ 375، وأبو داود (2795)، وصححه ابن خزيمة 4/ 287، والحاكم 1/ 467 من حديث جابر رضي الله عنه، وقال ابن حجر في «التلخيص» 4/ 3028: فيه «أبو عياش لا يُعرف» . وروي نحوه من حديث أنس، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وانظر:«نصب الراية» 3/ 152 - 153.
(2)
«جامع المسائل» 6/ 109.
الأصل الذي تقوم عليه العبادة
ولا بدَّ في عبادته من أصلين:
أحدهما: إخلاص الدين له، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه:«اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً»
(1)
.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، قال:«أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة» .
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم مِنْ الدِّين الذي لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدِّين، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله.
(1)
رواه أحمد في «الزهد» (615) من طريق الحسن البصري عن عمر رضي الله عنه، ولم يسمع منه. «المراسيل» ص 31.
والدِّين الحق؛ أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله.
يبين الشيخ أنه لا بدَّ في العبادة مِنْ أصلين هما شرطا قبول العمل والعبادة:
1 -
الإخلاص لله تعالى.
2 -
المتابعة والموافقة لشرع الله.
ومن أدلة شرط الإخلاص؛ قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
ومن أدلة شرط المتابعة قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، قال الفضيل بن عياض:(أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة)
(1)
.
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد»
(2)
.
(1)
رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» 8/ 95.
(2)
رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
تنبيه:
كثيرٌ مِنْ الناس يطلق الإخلاص على الاجتهاد في العمل، وبذل الوسع فيه، وهذا أقرب ما يصدق عليه: اسم الجِّد والصدق في العمل.
أما الإخلاص في الشرع؛ فيقصد به إخلاص النية والقصد لله وحده؛ فالمخلص هو الذي أراد بعمله وجه الله تعالى دون سواه.
نعم الإخلاص يدفع إلى الجد في العمل، لكن ليس كلُّ جادٍّ في عمله يُعدُّ مخلصاً.
* * *
أقسام الناس في العبادة والاستعانة
ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام:
فالمؤمنون المتقون؛ هم له، وبه؛ يعبدونه، ويستعينونه.
وطائفة تعبده مِنْ غير استعانة، ولا صبر؛ فتجد عند أحدهم تحرِّياً للطاعة والورع، ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل، واستعانة، وصبر؛ بل فيهم عجز، وجزع.
وطائفة فيهم استعانة، وتوكل، وصبرٌ مِنْ غير استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة، فقد يُمكَّن أحدهم، ويكون له نوعٌ من الحال باطناً وظاهراً، ويُعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى.
فالأولون لهم دين ضعيف، ولكنه مستمر باقٍ؛ إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حالٌ وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر، واتبع فيه السنة.
وشرُّ الأقسام؛ مَنْ لا يعبده، ولا يستعينه؛ فهو لا يشهد أن عمله لله، ولا أنه بالله.
فالمعتزلة ونحوهم مِنْ القدرية الذين أنكروا القدر؛ هم في تعظيم الأمر والنهي، والوعد والوعيد؛ خيرٌ من هؤلاء الجبرية القدرية، الذين يعرضون عن الشرع، والأمر والنهي.
والصوفية؛ هم في القدر، ومشاهدة «توحيد الربوبية» ؛ خيرٌ من المعتزلة، ولكن فيهم مَنْ فيه نوعُ بدعٍ، مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد، حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة «توحيد الربوبية» والفناء في ذلك، فيصيرون - أيضاً - معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم؛ فهم معتزلة من هذا الوجه، وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة؛ شراً من بدعة أولئك المعتزلة، وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة.
وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير القرون، وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله بعد النبيين، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، فرضي عن السابقين الأولين رضاء مطلقاً، ورضي عن التابعين لهم بإحسان.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: «خيرُ القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»
(1)
.
(1)
رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود، والبخاري (3650)، ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين، والبخاري (3557)، ومسلم (2534) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2536) من حديث عائشة رضي الله عنهم، بألفاظ نحو ما ذكر شيخ الإسلام.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «من كان منكم مستنَّاً؛ فليستنَّ بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم»
(1)
.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: «يا معشر القراء استقيموا، وخذوا طريق مَنْ كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم؛ لقد سُبِقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً؛ لقد ضللتم ضلالاً بعيداً»
(2)
.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذا سبيل الله، وهذه سُبُلٌ على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]»
(3)
.
(1)
رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» 2/ 97، وأبو إسماعيل الهروي في «ذم الكلام وأهله» (758) بلفظ قريب منه، من طريق قتادة عنه، ولم يسمع منه. كما في «المراسيل» ص 321. وروى أبو نعيم في «حلية الأولياء» 1/ 305 نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (7282) مختصراً، ورواه بلفظ أقرب لما ذكره المؤلف: ابن المبارك في «الزهد» (39)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 19/ 251.
(3)
رواه أبو داود الطيالسي (241)، وأحمد 1/ 435، والدارمي 1/ 72، وصححه ابن حبان (6 و 7)، والحاكم 2/ 318.
وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نقول في صلاتنا: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّين (7)} [الفاتحة]
(1)
، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون»
(2)
، وذلك أن اليهود عرفوا الحق، ولم يتبعوه، والنصارى عبدوا الله بغير علم.
ولهذا كان يقال: «تعوذوا بالله مِنْ فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون»
(3)
.
وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«تكفَّل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة»
(4)
، وقرأ هذه الآية.
وكذلك قوله تبارك وتعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ
(1)
على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه البخاري (756) ومسلم (394) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنهما.
(2)
رواه أحمد 4/ 378، والترمذي (2953) - وقال حسن غريب -، وصححه ابن حبان (7206).
(3)
رواه أبو نعيم في «الحلية» 6/ 376، و 7/ 36، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (544) عن سفيان الثوري رحمه الله قال: «كان يقال: تعوذوا
…
». كذا في «الحلية» عنه من طريقين.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» 15/ 446، والطبري في «تفسيره» 16/ 191، وصححه الحاكم 2/ 381 من طرق عنه رضي الله عنه، وألفاظ مختلفة بمعنى ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (5)} [البقرة]، فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين.
فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم من: النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه، عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
يذكر الشيخ هنا أن الناس في عبادة الله تعالى، واستعانته أربعة أقسام
(1)
:
القسم الأول: الذين يعبدون الله تعالى، ويستعينون به وحده دون سواه، وهؤلاء هم المؤمنون، وهم خير الأقسام.
القسم الثاني: أهل عبادة، ولكنهم ليس عندهم استعانة بالله ولا صبر على المقدور، وهذا الوصف ينطبق على المعتزلة، أي: على نفاة القدر؛ لأنهم يثبتون الأمر والنهي، ويغلون في الوعد والوعيد، وينكرون القدر.
ويُشْبِههم من يغفل عن ربه وعن الاستعانة به، وهذا يناسب من يعجبون بأعمالهم، ويغفلون عن ربهم، وهؤلاء لا يكون عندهم صبر على المصائب؛ لأن نظرهم واستحضارهم للقدر ضعيف.
(1)
«مجموع الفتاوى» 1/ 36 و 10/ 671 و 11/ 31 و 13/ 323، و «التحفة العراقية» ص 32.
القسم الثالث: من لهم استعانة وصبر، ولكنهم ليسوا أهل عبادة، فهم معرضون عن الأمر والنهي، أو أن إيمانهم بالأمر والنهي ضعيف، فنظرهم واقف على القدر، وهذا ينطبق على الجبرية من الجهمية، والصوفية، ونحوهم، وقد تقدم أن جهمَ بن صفوان كان يقول بالإرجاء، مع قوله بالجبر
(1)
.
وعند الموازنة بين القسم الثاني والثالث، أي: بين المعتزلة والجبرية؛ نجد أن الجبرية خيرٌ من المعتزلة في باب القدر، والمعتزلة خيرٌ من الجبرية في باب الأمر والنهي.
أما من ناحية الموازنة العامة؛ فنقول إن المعتزلة - على نفيهم القدر - خيرٌ من الجبرية؛ لأن إنكار القدر مع إثبات الأمر والنهي؛ خيرٌ وأفضل من إثبات القدر مع الإعراض عن الأمر والنهي.
القسم الرابع: وهو شر الأقسام؛ وهم: من لا يعبدون الله، ولا يستعينون به، وهذا ينطبق على الملاحدة، وقد يصدق على المفرطين من المعتزلة؛ لأنهم في الأصل ينكرون القدر، فلا استعانة عندهم ولا صبر، ثم إذا فرط أحدهم في الأمر والنهي؛ صار من هذا القسم.
وقد يقرب من هذا ويشبهه: المفرطون مِنْ فُسَّاق المسلمين عموماً، المفرطون في العبادة، والمعرضون عن ربهم، فلا يستعينون به، ولا يذكرونه إلا في أشد الشدائد أحياناً.
(1)
ص 622.
ثم ختم الشيخ رحمه الله هذه الرسالة القيِّمة المشتملة على بيان حقيقة الأصلين: التوحيد والصفات، والشرع والقدر، وبيان المذهب الحق فيهما، بالأدلة العقلية والنقلية، وما تبع ذلك من أصول وقواعد وفوائد، وتقسيمات؛ ختمها: بأن دين الله تعالى هو ما بعث به رسله، وأنه هو الصراط المستقيم، وهو ما مضى عليه سلف هذه الأمة مِنْ الصحابة والتابعين.
وذكر آثاراً تدل على فضل الصحابة، وأنهم القدوة لمن جاء بعدهم، وأن اتباعهم إنما يتحقق بالعلم والعمل، بمعرفة الحق واتباعه؛ فإن هذا هو صراط المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، خلاف طريق المغضوب عليهم والضالين.
نسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا مِنْ المنعم عليهم بمنه وكرمه، وجزى الله شيخ الإسلام على ما بينه خير الجزاء، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
فهرس مراجع التحقيق
(أ)
1.
الآجرومية: محمد الصنهاجي في صدر شرحها «التقريرات البهية» ، دار المنهاج، ط: الأولى.
2.
آداب البحث والمناظرة: محمد الأمين الشنقيطي، ت: سعود العريفي، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
3.
الإبانة عن أصول الديانة: الأشعري، ت: عبد الله محمود، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
4.
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية: ابن بطة، ت: جماعة من الباحثين، دار الراية، ط: الأولى.
5.
أبكار الأفكار: الآمدي، ت: أحمد المهدي، دار الكتب والوثائق القومية، ط: الثانية.
6.
الإتقان في علوم القرآن: السيوطي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، تصوير المكتبة العصرية، 1424 هـ.
7.
إثبات الحد لله عز وجل، وبأنه قاعد وجالس على عرشه: الدشتي، ت: مسلط العتيبي، وعادل آل حمدان، ط: الأولى.
8.
الأثر المشهور عن الإمام مالك في صفة الاستواء، ضمن «الجامع للبحوث والرسائل»: عبد الرزاق العباد، دار كنوز أشبيليا، ط: الأولى.
9.
اجتماع الجيوش الإسلامية: ابن القيم، عواد المعتق، مكتبة الرشد، ط: الأولى.
10.
أجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المصابيح: ابن حجر، ضمن «مشكاة المصابيح» ، ت: الألباني، المكتب الإسلامي، ط: الثالثة.
11.
الأحاديث المختارة: الضياء المقدسي، ت: عبد الملك بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، ط: الأولى.
12.
الاحتجاج بالقدر: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 8، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
13.
أحكام أهل الذمة: ابن القيم، ت: طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
14.
إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي، ت: سيد إبراهيم، دار الحديث، ط: الأولى.
15.
إخبار العلماء بأخبار الحكماء: القفطي، ت: محمد أمين الخانجي، مطبعة السعادة، ط: 1326 هـ.
16.
أخبار مكة: الأزرقي: ت: رشدي الصالح ملحس، مطابع دار الثقافة، ط: الثامنة.
17.
أخبار مكة: الفاكهي، ت: عبد الملك بن دهيش، دار خضر، ط: الثالثة.
18.
الإخنائية: ابن تيمية، ت: أحمد العنزي، دار الخراز، ط: الأولى.
19.
الأدب المفرد: البخاري: ت: كمال الحوت، عالم الكتب، ط: الثانية.
20.
الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب: ابن باز، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 1،
جمع محمد الشويعر، دار المؤيد، ط: الرابعة.
21.
الأذكار: النووي، ت: عبد القادر الأرناؤوط، دار الهدى، ط: الثالثة.
22.
الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد: الجويني، ت: محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم، مكتبة الخانجي، 1369 هـ.
23.
الاستغاثة في الرد على البكري: ابن تيمية، ت: عبد الله السهلي، مكتبة دار المناهج، ط: الأولى.
24.
الاستقامة: ابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، دار الفضيلة، ط: الأولى.
25.
الأسماء والصفات: البيهقي، ت: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، ط: الأولى.
26.
الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر، ت: عادل عبد الموجود، وعلي معوض، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
27.
أصول الدين: أبو منصور البغدادي، مدرسة الإلهيات بدار الفنون، استنبول، ط: الأولى.
28.
أصول الفقه: ابن مفلح: ت: فهد السدحان، مكتبة العبيكان، ط: الأولى.
29.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
30.
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: ابن القيم، ت: محمد الفقي، دار الكتب العلمية، 1412 هـ.
31.
اقتضاء الصراط المستقيم: ابن تيمية، ت: ناصر العقل، وزارة الشؤون الإسلامية بالسعودية.
32.
أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 8، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
33.
الإكليل في المتشابه والتأويل: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 13، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
34.
إكمال الإعلام بتثليث الكلام: ابن مالك، ت: سعد بن حمدان الغامدي، جامعة أم القرى، ط: الأولى.
35.
ألفية ابن مالك: ابن مالك، ت: عبد الله الفوزان، دار ابن الجوزي، ط: الأولى.
36.
الأم: الشافعي، ت: رفعت فوزي، دار الوفاء، ط: الثانية.
37.
الانتخاب في شرح أدب الكاتب: أبو جعفر الجذامي، ت: السعدية بو خريط، دار ابن حزم، ط: الأولى.
38.
الأنساب: السمعاني، ت: عبد الرحمن المعلمي وجماعة، دار المعارف العثمانية، تصوير دار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر.
39.
الإنصاف في مسائل النحو: الأنباري، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد.
40.
الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» من الزلل والتضليل والمجازفة: عبد الرحمن المعلمي، تصوير عالم الكتب، 1403 هـ.
41.
الأوائل: ابن أبي عاصم، ت: محمود نصار، دار الجيل، ط: الأولى.
42.
أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: ابن هشام، محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، 1417 هـ.
43.
إيضاح الدلالة في عموم الرسالة: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 19، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
44.
الإيضاح في علوم البلاغة: جلال الدين القزويني، دار إحياء العلوم، ط: الرابعة.
45.
إيضاح المبهم من معاني السلم: الدمنهوري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1347 هـ.
46.
الإيمان الأوسط: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 7، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
47.
الإيمان الكبير: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 7، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
(ب)
48.
البحر المحيط في أصول الفقه: الزركشي، ت: عمر الأشقر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
49.
بدائع الفوائد: ابن القيم، ت: علي العمران، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
50.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد: ابن رشد، دار المعرفة، ط: السادسة.
51.
البداية والنهاية: ابن كثير، ت: عبد الله التركي، دار هجر، ط: الأولى.
52.
البرهان في علوم القرآن: الزركشي، ت: يوسف المرعشلي، وصاحبيه، دار المعرفة، ط: الثانية.
53.
البعث والنشور: البيهقي، ت: محمد السعيد بن بسيوني، مؤسسة الكتب الثقافية، ط: الأولى.
54.
بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد: ابن تيمية، ت: موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم.
55.
البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها: عبد الرحمن حسن حبنكة، دار القلم، الطبعة الأولى.
56.
بيان تلبيس الجهمية: ابن تيمية، ت: جمع من الباحثين، مجمع الملك فهد لطبعة المصحف الشريف، ط: الأولى.
57.
البيان في غريب إعراب القرآن: ابن الأنباري، ت: طه عبد الحميد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1400 هـ.
(ت)
58.
تاج العروس من جواهر القاموس: الزبيدي، جماعة من المحققين، وزارة الإعلام في الكويت.
59.
تاريخ الإسلام: الذهبي، ت: بشار عواد، دار الغرب الإسلامي، ط: الأولى.
60.
تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، ت: بشار عواد، دار الغرب الإسلامي، ط: الأولى.
61.
تاريخ دمشق: ابن عساكر، ت: عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، ط: الأولى.
62.
تاريخ الطبري «تاريخ الملوك والأمم» : ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
63.
التاريخ الكبير: البخاري، ت: عبد الرحمن المعلمي، وجماعة، الجمعية العلمية بدائرة المعارف العثمانية، 1360 هـ.
64.
التبيان في إعراب القرآن: العكبري، بيت الأفكار الدولية، ط: الأولى.
65.
تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر، ت: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، ط: الأولى.
66.
التحرير والتنوير: الطاهر ابن عاشور، دار سحنون.
67.
التحفة العراقية في الأعمال القلبية: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 10، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
68.
تخريج أحاديث القراءة في سنة الفجر: عبد الرحمن السديس، منشور في الشبكة العالمية، في «ملتقى أهل الحديث» ، وغيره.
69.
تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف: الزيلعي، ت: سلطان الطبيشي، دار ابن خزيمة، ط: الأولى.
70.
الترغيب والترهيب: المنذري، ت: محيي الدين ديب مستو، وصاحبيه، دار ابن كثير، ط: الأولى.
71.
التسعينية: ابن تيمية، ت: محمد العجلان، مكتبة المعارف، ط: الأولى.
72.
تفسير ابن أبي حاتم «تفسير القرآن العظيم» : ت: أسعد الطيب، مكتبة نزار الباز، ط: الأولى.
73.
تفسير ابن كثير، «تفسير القرآن العظيم»: ت: سامي السلامة، دار طيبة، الإصدار الثاني، ط: الأولى.
74.
تفسير أبي السعود «إرشاد العقل السليم» : أبو السعود، تصوير دار إحياء التراث العربي.
75.
تفسير البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي، ت: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
76.
تفسير البغوي «معالم التنزيل» : ت: محمد النمر، وصاحبيه، دار طيبة، ط: الأولى.
77.
تفسير البيضاوي «أنوار التنزيل» : البيضاوي، ت: محمود الأرناؤوط، دار صادر، ط: الأولى.
78.
تفسير روح المعاني: محمود الألوسي، دار الفكر، ط: الأولى.
79.
تفسير سورة الإخلاص: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 17، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
80.
التفسير الصافي: [الرافضي] الفيض الكاشاني، مكتبة الصدر، طهران، ط: الثانية 1416 هـ.
81.
تفسير الطبري «جامع البيان» : ابن جرير الطبري، ت: عبد الله التركي، دار هجر،، ط: الأولى.
82.
التلخيص الحبير: ابن حجر، ت: محمد الثاني بن عمر، أضواء السلف، ط: الأولى.
83.
تلخيص مستدرك الحاكم: الذهبي بهامش المستدرك، ت: جماعة من العلماء، دار المعارف النظامية في حيد آباد الدكن، تصوير دار الفكر، 1398 هـ.
84.
تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: الخطيب القزويني، ت: ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية، 1428 هـ.
85.
تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل: ابن تيمية، ت: علي العمران، ومحمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
86.
تهذيب الآثار: ابن جرير الطبري، ت: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، ط: الأولى.
87.
تهذيب الأسماء واللغات: النووي، إدارة الطباعة المنيرية.
88.
تهذيب التهذيب: ابن حجر، ت: إبراهيم الزئبق، وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.
89.
تهذيب سنن أبي داود: ابن القيم، ت: أحمد شاكر، ومحمد حامد الفقي، دار المعرفة 1400 هـ.
90.
تهذيب سنن أبي داود: المنذري، أحمد شاكر، ومحمد حامد الفقي، دار المعرفة 1400 هـ.
91.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال: المزي، ت: بشار عواد، مؤسسة الرسالة، ط: الخامسة.
92.
تهذيب اللغة: الأزهري، ت: عبد السلام هارون وجماعة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1384 هـ.
93.
التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل: ابن خزيمة، ت: محمد خليل هراس، تصوير دار الكتب العلمية، 1412 هـ.
94.
التوسل والوسيلة: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 1، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
95.
التوضيح لشرح الجامع الصحيح: ابن الملقن، ت: دار الفلاح، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ط: الأولى.
96.
توضيح المقاصد والمسالك: المرادي، ت: عبد الرحمن علي سليمان، دار الفكر العربي، ط: الأولى.
97.
التوقيف على مهمات التعاريف: المُنَاوي، ت: محمد الداية، دار الفكر، ط: 1423 هـ.
98.
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: سليمان بن عبد الله، ت: أسامة بن عطايا، دار الصميعي، ط: الأولى.
99.
التيسير في القراءات السبع: أبو عمرو الداني، ت: أوتويترتزل، دار الكتاب العربي، ط: الثالثة.
(ج)
100.
جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر، إدارة الطباعة المنيرية.
101.
جامع العلوم والحكم: ابن رجب، ت: طارق بن عوض الله، دار ابن الجوزي، ط: الثانية.
102.
الجامع الكبير: الترمذي: ت: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط: الثانية.
103.
الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، ت: عبد الله التركي، وجماعة، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.
104.
الجامع لشعب الإيمان: البيهقي، ت: عبد العلي عبد الحميد، وجماعة، الدار السلفية، ط: الأولى.
105.
جامع المسائل: ابن تيمية، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
106.
جلاء الأفهام: ابن القيم، ت: زائد النشيري، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
107.
جمهرة الأمثال: أبو هلال العسكري، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد المجيد قطايش، المكتبة العصرية، ط: الأولى.
108.
الجنى الداني في حروف المعاني: المرادي، ت: فخر الدين قباوة، ومحمد نديم، تصوير دار الكتب العلمية، 1413 هـ.
109.
جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية: ابن تيمية، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
110.
جواب أهل العلم والإيمان: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 17، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
111.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: ابن تيمية، ت: علي الألمعي، وصاحبيه، دار الفضيلة، ط: الأولى.
(ح)
112.
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: ابن القيم، ت: زائد النشيري، دارعالم الفوائد، ط: الأولى.
113.
حاشية الأخضري على السلم: الأخضري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1347 هـ.
114.
حاشية الباجوري على متن السلم: إبراهيم الباجوري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1347 هـ.
115.
الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي: الماوردي، ت: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي معوض، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
116.
حقيقة مذهب الاتحاديين: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 2، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب،
1412 هـ.
117.
حلية الأولياء: أبو نعيم الأصبهاني، مطبعة السعادة، 1399 هـ.
118.
حياة الحيوان الكبرى: الدميري، ت: إبراهيم صالح، دار البشائر، ط: الأولى.
119.
الحيوان: الجاحظ، ت: عبد السلام هارون، دار إحياء التراث، ط: الثالثة.
(خ)
120.
خريدة العجائب وفريدة الغرائب: ابن الوردي، مطبعة عثمان عبد الرازق، عام 1302 هـ.
121.
خطبة الحاجة: الألباني، المكتب الإسلامي، ط: الرابعة.
122.
خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الأحكام: النووي، ت: حسين الجمل، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.
(د)
123.
الداء والدواء: ابن القيم، ت: محمد الإصلاحي، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
124.
درء تعارض العقل والنقل: ابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
125.
الدر المصون في علوم الكتاب المكنون: السمين الحلبي، ت: أحمد الخراط، دار القلم، دمشق، ط: الأولى.
126.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور: السيوطي، ت: عبد الله التركي، دار هجر، ط: الأولى.
127.
دلائل النبوة: البيهقي، ت: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
128.
ديوان أبي الطيب المتنبي: ت: عبد الوهاب عزام، لجنة التأليف والترجمة.
(ذ)
129.
ذم التأويل: ابن قدامة، بدر البدر، الدار السلفية، ط: الأولى.
130.
ذم الكلام وأهله: أبو إسماعيل الهروي: ت: عبد الله الأنصاري، دار الغرباء الأثرية، ط: الأولى.
(ر)
131.
الرد على الجهمية: ابن منده، ت: علي الفقيهي، ط: الثانية.
132.
الرد على الجهمية: عثمان بن سعيد الدارمي، ت: بدر البدر، دار ابن الأثير، ط: الثانية.
133.
الرد على الجهمية والزنادقة: أحمد ابن حنبل، ت: صبري سلامة، دار الثبات، ط: الأولى.
134.
الرد على الشاذلي: ابن تيمية، ت: علي العمران، دار عالم الفوائد، ط: الثانية.
135.
الرد على المنطقيين: ابن تيمية، ت: عبد الصمد شرف الدين، مؤسسة الريان، ط: الأولى.
136.
الرد على من قال بفناء الجنة والنار: ابن تيمية، محمد السمهري، دار بلنسية، ط: الأولى.
137.
الرسالة الأكملية: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 6، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
138.
الرسالة التدمرية: ابن تيمية، ضمن شرح الشيخ عبد الرحمن البراك ت: سليمان الغصن، كنوز أشبيليا، ط: الأولى.
139.
رسالة حول الصعود إلى القمر: ابن عثيمين، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 5، جمع: فهد السليمان، دار الثريا، ط: الثانية.
140.
الرسالة الصفدية: ابن تيمية، ت: سيد الجليمي، وأيمن عارف، دار أضواء السلف، ط: الأولى.
141.
الرسالة العرشية: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 6، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
142.
رسالة في علم الباطن والظاهر: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 13، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
143.
الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 6، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
144.
الروح: ابن القيم، ت: السيد الجميلي، دار الكتاب العربي، ط: السادسة.
145.
روضة الناظر وجنة المناظر: ابن قدامة، ت: عبد الكريم النملة، مكتبة الرشد، ط: الرابعة.
(ز)
146.
زاد المسير في علم التفسير: ابن الجوزي، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط: الثالثة.
147.
زاد المعاد في هدي خير العباد: ابن القيم، شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط: الخامسة والعشرون.
148.
الزهد: ابن المبارك، ت: أحمد فريد، دار المعراج الدولية، ط: الأولى.
149.
الزهد: أحمد ابن حنبل، ت: محمد السعيد بسيوني، دار الكتاب العربي، ط: الثانية.
150.
الزهد: هناد بن السري، ت: عبد الرحمن الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، ط: الأولى.
(س)
151.
السلسلة الضعيفة: الألباني، مكتبة المعارف، ط: الأولى للطبعة الجديدة.
152.
السنة: ابن أبي عاصم، ت: الألباني، المكتب الإسلامي، ط: الثالثة.
153.
السنة: عبد الله بن أحمد، ت: محمد القحطاني، رمادي لنشر، ط: الثانية.
154.
سنن ابن ماجه: ت: بشار عواد معروف، دار الجيل، ط: الأولى.
155.
سنن أبي داود: دار ابن حزم، ط: الأولى.
156.
سنن الدارمي: ت: مصطفى البغا، دار القلم، ط: الأولى.
157.
سنن سعيد بن منصور: ت: سعد الحميد، دار الصميعي، ط: الثانية.
158.
السنن الكبرى: البيهقي، ت: دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد، 1344 هـ.
159.
سنن النسائي: ت: مكتب تحقيق التراث الإسلامي، دار المعرفة، ط: الأولى.
160.
سير أعلام النبلاء: الذهبي، ت: شعيب الأرناؤوط، وجماعة، مؤسسة الرسالة، ط: الثامنة.
(ش)
161.
شأن الدعاء: الخطابي، ت: أحمد الدقاق، دار الثقافة العربية، ط: الثالثة.
162.
شذا العَرف في فن الصرف: أحمد الحملاوي، ت: أحمد شتيوي، دار الغد الجديد، ط: الأولى.
163.
شرح الأشموني على ألفية ابن مالك: الأشموني، تصوير دار الفكر.
164.
شرح الأصبهانية: ابن تيمية، ت: محمد السعوي، دارالمنهاج، ط: الأولى.
165.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: اللالكائي، ت: أحمد الغامدي، دار طيبة، ط: السابعة.
166.
شرح البردة البوصيرية، الشرح المتوسط: ابن مقلاش الوهراني، ت: محمد مرزاق، دار ابن حزم، ط: الأولى.
167.
شرح التسهيل: ابن مالك، ت: عبد الرحمن السيد، ومحمد المختون، دار هجر، ط: الأولى.
168.
شرح التصريح على التوضيح: خالد الأزهري، ت: جماعة من العلماء، تصوير دار الفكر.
169.
شرح حديث النزول: ابن تيمية، ت: محمد الخميس، دار العاصمة، ط: الثانية.
170.
شرح شافية ابن الحاجب: رضي الدين الإستراباذي، ت: محمد نور الحسن وصاحبيه، تصوير دار الكتب العلمية، 1395 هـ.
171.
شرح صحيح مسلم «المنهاج» : النووي، ت: خليل مأمون، دار المؤيد، ط: الرابعة.
172.
شرح العقيدة الطحاوية: ابن أبي العز، ت: عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة.
173.
شرح العمدة: ابن تيمية، ت: سعود العطيشان وصالح الحسن، مكتبة العبيكان، ط: الأولى.
174.
الشرح الكبير على المقنع: أبو الفرج ابن قدامة، ت: عبد الله التركي، وزارةالشؤون الإسلامية في السعودية، 1419 هـ.
175.
شرح الكوكب المنير: ابن النجار، محمد الزحيلي، ونزيه حماد، جامعة أم القرى، ط: الثالثة.
176.
شرح مختصر الروضة: الطوفي، ت: عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، ط: الرابعة.
177.
شرح المفصل: ابن يعيش، إدارة الطبعة المنيرية، بإشراف مشيخة الأزهر.
178.
الشريعة: الآجري، ت: محمد الحسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
179.
الشعر والشعراء: ابن قتيبة، ت: أحمد شاكر، دار المعارف، ط: الثانية.
180.
شفاء العليل: ابن القيم، ت: السيد محمد النعساني، دار الفكر، 1409 هـ.
(ص)
181.
صبح الأعشى: القلقشندي، ت: محمد عبد رب الرسول، المطبعة الأميرية، 1338 هـ.
182.
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: الجوهري، ت: أحمد عبد الغفور عطار، ط: 1412 هـ.
183.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط: الثالثة.
184.
صحيح ابن خزيمة: ت: محمد الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط: الثانية.
185.
صحيح البخاري: عناية: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، ط: الأولى.
186.
صحيح مسلم: ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الصميعي، ط: الأولى.
187.
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: ابن القيم، ت: علي الدخيل الله، دار العاصمة، ط: الثالثة.
(ض)
188.
الضياء الشارق في رد شبهات المازق المارق: سليمان بن سحمان، مطبعة المنار، ط: الأولى.
(ط)
189.
طبقات الأطباء والحكماء: ابن جلجل، ت: فؤاد سيد، المعهد الفرنسي بالقاهرة، 1955 م.
190.
طبقات الحنابلة: أبو الحسين ابن أبي يعلى، ت: عبد الرحمن العثيمين، دارة الملك عبد العزيز، ط: الأولى.
191.
الطبقات الكبير: ابن سعد، ت: علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، ط: الأولى.
192.
طريق الهجرتين وباب السعادتين: ابن القيم، محمد الإصلاحي، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
(ع)
193.
العبودية: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 10، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
194.
عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات: زكريا القزويني، مؤسسة الأعلمي، ط: الأولى.
195.
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين: ت: إسماعيل غازي مرحبا، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
196.
العرش: الذهبي، ت: محمد بن خليفة التميمي، أضواء السلف، ط: الأولى.
197.
العرش: محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، ت محمد بن خليفة التميمي، مكتبة الرشد، ط: الأولى.
198.
العظمة: أبو الشيخ، ت: رضاء الله المباركفوري، دار العاصمة، ط: الأولى.
199.
عقيدة السلف أصحاب: الصابوني، ت: بدر البدر، مكتبة الغرباء الأثرية، ط: الثانية.
200.
العقيدة الطحاوية: أبو جعفر الطحاوي، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، 1404 هـ
201.
العقيدة الواسطية: ابن تيمية، ضمن شرحها «توضيح مقاصد الواسطية»: عبد الرحمن البراك، ت: عبد الرحمن السديس، دار التدمرية، ط: الثانية.
202.
العلل: ابن أبي حاتم، ت: جماعة من الباحثين بإشراف سعد الحميد، وخالد الدريس، ط: الأولى.
203.
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: ابن الجوزي، ت: خليل الميس، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
204.
العلل الواردة في الحديث النبوي: الدارقطني، ت: محفوظ الرحمن زين الله، دار طيبة، ط: الأولى.
205.
العلو للعلي الغفار: الذهبي، ت: عبد الله البراك، دار الوطن، ط: الأولى.
206.
عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصيبعة، ت: نزار رضا، دار مكتبة الحياة.
(غ)
207.
غريب الحديث: أبو عبيد القاسم بن سلام، ت: حسين محمد شرف، مجمع اللغة العربية بمصر، 1413 هـ.
208.
غريب الحديث: الخطابي، ت: عبد الكريم العزباوي، جامعة أم القرى، 1402 هـ.
(ف)
209.
الفائق في غريب الحديث: الزمخشري، ت: علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط: 1414 هـ.
210.
الفتاوى والدروس في المسجد الحرام: عبد الله بن حميد، ت: إبراهيم الحمدان، دار المنهاج، ط: الأولى.
211.
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر، ت: ابن باز، المطبعة السلفية، ط: الأولى.
212.
فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن رجب، ت: محمود شعبان وجماعة، مكتبة الغرباء الأثرية، ط: الأولى.
213.
فتح القدير: الشوكاني، ت: سيد إبراهيم، دار زمزم، ط: الأولى.
214.
الفتوى الحموية الكبرى: ابن تيمية، حمد التويجري، دار الصميعي، ط: الأولى.
215.
الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية: محمد بن علان، دار إحياء التراث.
216.
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 11، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
217.
الفرقان بين الحق والباطل: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 13، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
218.
الفروق: القرافي، ت: عمر القيام، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.
219.
الفصل للوصل المدرج في النقل: الخطيب البغدادي، ت: عبد السميع الأنيس، دار ابن الجوزي.
220.
فضل الصلاة على النبي: إسماعيل بن إسحاق القاضي، ت: الألباني، المكتب الإسلامي، ط: الثالثة.
221.
الفهرست: النديم، ت: رضا تجدد.
222.
الفوائد: ابن القيم، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
223.
الفوائد المجموعة: الشوكاني: ت: عبد الرحمن المعلمي، مطبعة السنة المحمدية.
(ق)
224.
قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 19، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
225.
القاعدة المراكشية: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 5، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
226.
القاموس المحيط: الفيروز آبادي، ت: مكتب تحقيق التراث بمؤسسة الرسالة، دار الرسالة، ط: الثالثة.
227.
القدر: الفريابي: عبد الله المنصور، دار أضواء السلف، ط: الأولى.
228.
القواعد: ابن اللحام البعلي، ت: عائض الشهراني، وناصر الغامدي، مكتبة الرشد، ط: الأولى.
229.
القصيدة اليتيمة: رواية القاضي التنوخي، ت: د. صلاح المنجد، دار الكتاب الجديد، ط: الثالثة.
230.
القواعد الكلية: ابن تيمية، ت: محيسن المحيسن، مكتبة التوبة، ط: الأولى.
(ك)
231.
الكافية الشافية: ابن القيم، ت: محمد العريفي وجماعة، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
232.
الكامل في ضعفاء الرجال: ابن عدي: ت: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي معوض، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
233.
الكتاب: سيبويه، ت: عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973 م.
234.
الكشاف عن حقائق التنزيل: الزمخشري، ت: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، ط: الأولى.
235.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس: العجلوني، ت: أحمد القلاش، مؤسسة الرسالة، ط: السادسة.
236.
كشف الشبهات: محمد بن عبد الوهاب، وزارة الشؤون الإسلامية، السعودية، ط: الأولى.
237.
الكليات: أبو البقاء الكفوي، ت: عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، ط: الثانية.
238.
الكيلانية: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 12، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
(ل)
239.
اللباب في علوم الكتاب: ابن عادل الحنبلي، ت: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
240.
لسان العرب: ابن منظور: دار صادر، ط: الأولى.
241.
لسان الميزان: ابن حجر، ت: محمد المرعشلي، وجماعة، دار إحياء التراث العربي، ط: الأولى.
242.
اللمع في العربية: ابن جني، ت: حامد المؤمن، مطبعة العاني، ط: الأولى.
(م)
243.
مجالس ثعلب: أحمد بن يحيى ثعلب: ت: عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، ط: الثانية.
244.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: الهيثمي، ت: عبد الله الدرويش، دار الفكر، 1414 هـ.
245.
مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: لعلماء نجد، مطبعة المنار، ط: الأولى.
246.
مجموع الفتاوى: ابن تيمية، ت: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
247.
المحرر في الحديث: ابن عبد الهادي، ت: عبد المحسن التركي، ط: الأولى.
248.
المحرر: المجد ابن تيمية، عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.
249.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطية، ت: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
250.
مختصر الرد على الأخنائي: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 27، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
251.
مختصر المعتمد في أصول الدين: أبو يعلى ابن الفراء، ت: محمد السفياني، أطروحة ماجستير، جامعة أم القرى.
252.
المختصر المفيد في بيان دلائل أقسام التوحيد، ضمن «الجامع للبحوث والرسائل»: عبد الرزاق العباد، دار كنوز أشبيليا، ط: الأولى.
253.
المخصص: ابن سِيْدَه، ت: جماعة من العلماء، المطبعة الأميرية، عام 1321 هـ.
254.
مدارج السالكين: ابن القيم، ت: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، ط: الأولى.
255.
المدخل إلى السنن الكبرى: البيهقي، ت: محمد ضياء الرحمن الأعظمي، أضواء السلف، ط: الثانية.
256.
مراتب الإرادة: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 8، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
257.
المراسيل: ابن أبي حاتم، ت: شكر الله بن نعمة الله، مؤسسة الرسالة، ط: الثانية.
258.
المستدرك على الصحيحين: الحاكم، ت: جماعة من العلماء، دار المعارف النظامية في حيد آباد الدكن، تصوير دار الفكر، 1398 هـ.
259.
المستقصى في أمثال العرب: الزمخشري، بإشراف محمد عبد المعيد خان، دائرة المعارف، الهند، ط: الأولى.
260.
مسند ابن الجعد: جمع أبي القاسم البغوي، ت: عامر أحمد حيدر، مؤسسة نادر، ط: الأولى.
261.
مسند أبي داود الطيالسي: ت: محمد التركي، دار هجر، ط: الأولى.
262.
مسند أبي يعلى المَوصلي: ت: حسين سليم أسد، دار المأمون، ط: الأولى.
263.
مسند الإمام أحمد: ت: شعيب الأرناؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.
264.
مسند الشاميين: الطبراني، ت: حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة، ط: الثانية.
265.
مشارق الأنوار على صحاح الآثار: القاضي عياض، المكتبة العتيقة.
266.
المصنف: أبو بكر ابن أبي شيبة، ت: محمد عوامة، شركة دار القبلة، الأولى.
267.
المصنف: عبد الرزاق الصنعاني، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط: الثانية.
268.
المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: ابن حجر، ت: سعد الشثري وجماعة، دار العاصمة، ط: الأولى.
269.
معارج الوصول: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 19، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
270.
معاني القرآن: الفراء، ت: أحمد يوسف، ومحمد النجار، عالم الكتب، ط: الثانية.
271.
المعجم الأوسط: الطبراني، ت: طارق بن عوض الله، وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، ط: الأولى.
272.
معجم الصوفية: ممدوح الزوبي، دار الجيل، ط: الأولى.
273.
المعجم الكبير: الطبراني، ت: حمدي السلفي، دار إحياء التراث الإسلامي، ط: الثانية.
274.
معجم مقاييس اللغة: ابن فارس، ت: عبد السلام هارون، تصوير دار الفكر، ط: 1399 هـ.
275.
المغني: ابن قدامة المقدسي، ت: عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، ط: الثانية.
276.
المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: العراقي، بهامش «إحياء علوم الدين» ، ت: سيد إبراهيم، دار الحديث، ط: الأولى.
277.
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: ابن هشام، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، 1427 هـ.
278.
مفتاح دار السعادة: ابن القيم، مكتبة الرياض الحديثة.
279.
مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني، ت: صفوان عدنان، دار القلم، ط: الثانية.
280.
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: القرطبي، ت: محيي الدين مستو، وجماعة، دار ابن كثير، ط: الأولى.
281.
المقاصد الحسنة: السخاوي، ت: محمد الخشت، دار الكتاب العربي، ط: الثانية.
282.
مقالات الإسلاميين: أبو الحسن الأشعري، ت: هلموت ريتر، دار النشر: فرانز شتاينر، ط: الثالثة.
283.
المقتضب: المبرد، ت: محمد عبد الخالق عضيمة، وزارة الأوقاف المصرية، ط: الثانية.
284.
مقدمة في أصول التفسير، ضمن شرحها لمساعد الطيار: ابن تيمية، دار ابن الجوزي، ط: الثانية.
285.
الملل والنحل: الشهرستاني، ت: السعيد المندوه، مؤسسة الكتب الثقافية، ط: الأولى.
286.
المنار المنيف: ابن القيم، ت: يحيى الثمالي، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
287.
مناظرة الواسطية: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 3، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
288.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: ابن الجوزي، ت: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
289.
منسك شيخ الإسلام ابن تيمية: ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 26، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
290.
منهاج السنة النبوية: ابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، دار الكتاب الإسلامي، ط: الأولى.
291.
منهاج القاصدين: ابن الجوزي، ت: كامل الخراط، دار التوفيق، ط: الأولى.
292.
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: محمد الأمين الشنقيطي، الدار السلفية، ط: الرابعة.
293.
المهذب في اختصار السنن الكبير: الذهبي، إشراف: ياسر إبراهيم، دار الوطن، ط: الأولى.
294.
الموافقات في أصول الشريعة: الشاطبي، ت: عبد الله دراز، تصوير دار المعرفة.
295.
موافقة الخُبْر الخَبَر في تخريج أحاديث المختصر: ابن حجر، ت: حمدي السلفي وصبحي السامرائي، دار الرشد، ط: الثالثة.
296.
الموطأ: مالك بن أنس، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية.
297.
ميزان الاعتدال: الذهبي، ت: علي بن محمد البجاوي، دار المعرفة.
298.
الميزان في تفسير القرآن: [الرافضي] محمد الطباطبائي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم.
(ن)
299.
الناسخ والمنسوخ في كتاب الله: النحاس، ت: سليمان اللاحم، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.
300.
النبوات: ابن تيمية، ت: عبد العزيز الطويان، دار أضواء السلف، ط: الأولى.
301.
نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار: ابن حجر، ت: حمدي السلفي، دار ابن كثير، ط: الأولى.
302.
نتائج الفكر في النحو: السهيلي، ت: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي معوض، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
303.
النشر في القراءات العشر: ابن الجزري، ت: علي محمد الضباع، المكتبة التجارية الكبرى.
304.
نصب الراية: الزيلعي، ت: إدارة المجلس العلمي، تصوير مكتبة الرياض الحديثة، ط: الثانية.
305.
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: البقاعي، ت: عبد الرزاق المهدي، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
306.
نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد: عثمان الدارمي، ت: منصور السماري، دار أضواء السلف، ط: الأولى.
307.
النكت على كتاب ابن الصلاح: ابن حجر، ت: ربيع بن هادي، دار الراية، ط: الثالثة.
308.
النكت والعيون: الماوردي، ت: السيد بن عبد المقصود، دار الكتب العلمية، ط: الأولى.
309.
النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير، ت: طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، دار إحياء التراث العربي، ط: الأولى.
(هـ)
310.
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى: ابن القيم، ت: عثمان ضميرية، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
(و)
311.
الوابل الصيب: ابن القيم، ت: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.
312.
الوافي بالوفيات: الصفدي، ت: أحمد الأرناؤوط، وتركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، ط: الأولى.
313.
الوصية الكبرى: ابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» المجلد 3، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب، 1412 هـ.
314.
وفيات الأعيان: ابن خلكان، ت: إحسان عباس، دار الثقافة.