الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلة أثر عمل القلب على العبادات (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
أثر عمل القلب على عبادة الذكر والدعاء
القسم الأول
د. ابراهيم بن حسن الحضريتي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أما بعد: فإن الاهتمام بذكر أثر عمل القلب على عبادة الذكر والدعاء من أعظم ما ينبغي الاعتناء به، والحرص عليه؛ لأنه الباب المفتوح للدخول على الله والقرب منه ورفعة الدرجات في الآخرة.
وهذا الكتاب الذي أعانني الله عليه، ووفقني لأن أكتبه هو الخامس في هذه السلسلة المباركة (أثر عمل القلب على العبادات) وهو القسم الأول من هذا الكتاب.
وأسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يرزقني الإخلاص فيه، وأن ينفعني به وكل من قرأه والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الدكتور: إبراهيم بن حسن الحضريتي
إمام وخطيب جامع القناعة بشرائع المجاهدين بمكة المكرمة
وعناصر هذا الكتاب تحتوي على تمهيد وعدة مباحث على النحو الآتي:
التمهيد: وفيه مسائل متعلقة بالذكر والدعاء.
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته.
المبحث الثاني: من أعمال القلوب التي لها ارتباط وثيق بعبادة الذكر والدعاء.
المبحث الثالث: أعمال لها ارتباط وثيق بصلاح القلب وزيادة أثره.
المبحث الرابع: أحكام تخص عبادة الذكر أو الدعاء ولها تعلق بعمل القلب.
المبحث الخامس: من فوائد وثمرات تحقيق عمل القلب في عبادة الذكر والدعاء.
المبحث السادس: من أسباب الانحراف في عبادة الذكر والدعاء.
المبحث السابع: من آثار عدم تحقيق عمل القلب في الذكر والدعاء.
أثر عمل القلب على عبادة الذكر والدعاء وفيه تمهيد وعدة مباحث.
التمهيد:
وفيه مسائل متعلقة بالذكر والدعاء.
المسألة الأولى: مفهوم الذكر والدعاء والعلاقة بينهما
(1)
.
تنبيه: على العلاقة بين الذكر والدعاء.
هناك علاقة وثيقة بين الذكر والدعاء وبينهما ترابط وثيق، فالدعاء حين يتوجه به العبد إلى الله فهو ذكر لله فكل دعاء ذكر إذ بينهما عموم وخصوص، لكن إذا نظرت إلى مجرد العبادة فالذكر في جنسه أفضل من الدعاء، " هذا من حيث النظر إلى كل منهما مجرداً.
وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل .. "
(2)
.
وهذه قاعدة مهمة في التفاضل بين الأعمال، معرفتها من الفقه في الدين، ودونك كلام متين عميق في هذه المسألة الدقيقة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: " الأفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
وتارة يختلف باختلاف الأوقات كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.
وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف.
(1)
ينظر: ذكر الله بين الاتباع والابتداع (37 - 80) رسالة ماجستير في العقيدة، جامعة أم القرى، من إعداد الطالب: عبد الرحمن محمود خليفة، وهي رسالة قيمة في بابها.
(2)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 231)
وتارة باختلاف الأمكنة: كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة: فالجهاد للرجال أفضل من الحج وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها؛ بخلاف الأيم فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه: فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل.
وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم، فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك، والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهدياً لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له، فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية - كالصلاة والصيام - أفضل له.
والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم" أ. هـ.
(1)
ومما يدل على أن الله يفتح لعبده ويوفقه لباب خير -وقل من يفتح له في أكثر من باب- ما ورد من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَيْءٍ
(2)
مِنَ الأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ -يَعْنِي الجَنَّةَ-: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ،
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 427 - 429).
(2)
أي: شيئين من أصناف المال. ينظر: فتح الباري (7/ 28).
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ، وَبَابِ الرَّيَّانِ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: مَا عَلَى هَذَا الَّذِي يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، وَقَالَ: هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ»
(1)
.
يقول ابن المبارك رحمه الله عن الإمام مالك: "مَا رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة.
قلت
(2)
: ما كان عليه من العلم ونشره أفضل من نوافل الصوم والصلاة لمن أراد به اللهَ"
(3)
.
وعلى هذا فعلى من وفقه الله لعمل وفتح عليه فيه أن يشكر ربه على توفيقه له لهذا العمل العظيم، وأن يبذل وسعه فيما فتح له، ويستعين بالله، ويبذل أسباب النجاح في هذا المجال، ومن أعظمها إخلاصه وصدقه مع ربه، وليعلم أنه قد لا يفتح له في باب آخر من أبواب الخير، فعليه ألا يشتت جهده في أبواب لم يفتح له فيها، ولا ينتقص الآخرين الذين فتح لهم في عمل غير عمله، وكذلك ينبغي الحذر من صرف الناس عن أبواب الخير التي فتحت لهم، بحجة أنها أعمال قاصرة غير متعدية النفع، ونحو ذلك من الأخطاء التي يقع فيها البعض.
وذكر ابن عبد البر كلامًا متينًا رصينًا في شرحه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق، فقال رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفقه والفضائل الحض على الإنفاق في سبيل الخير، والحرص على الصوم.
وفيه أن أعمال البر لا يفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وأن من فتح له في شيء منها حرم غيرها في الأغلب، وأنه قد تفتح في جميعها للقليل من الناس، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك القليل.
(1)
أخرجه البخاري (5/ 6) ح (3666)، ومسلم (2/ 711) ح (1027).
(2)
القائل الإمام الذهبي رحمه الله.
(3)
سير أعلام النبلاء (8/ 97).
وفيه أن من أكثر من شيء عرف به ونسب إليه، ألا ترى إلى قوله: فمن كان من أهل الصلاة، يريد من أكثر منها فنسب إليها؛ لأن الجميع من أهل الصلاة، وكذلك من أكثر من الجهاد ومن الصيام على هذا المعنى ونسب إليه، دعي من بابه ذلك، والله أعلم.
ومما يشبه ما ذكرنا ما جاوب به مالك رحمه الله العُمري العابد، وذلك أن عبد الله بن عبد العزيز العُمري العابد كتب إلى مالك يحضّه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له والسلام.
هذا معنى كلام مالك لأني كتبته من حفظي، وسقط عني في حين كتابتي أصلي منه"
(1)
.
المسألة الثانية: سعة مفهوم الذكر الشرعي.
وهذه المسألة العظيمة ألخصها في الآتي:
أولاً: الحكمة من خلق الإنس والجن هي القيام بعبادة الله تعالى،
كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي لتكون حياتهم كلها عبادة لله تعالى، كما قال تعالى في آية أخرى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162 - 163]، والذكر هو روح العبادة فلا قيمة لها إلا به، ولذا هو يشمل كل الحياة، كما أن العبادة تشمل كل حياة الإنسان وكل أحواله.
ثانياً: أن جميع العبادات إنما شرعت لإقامة ذكر الله تعالى،
قال سبحانه في بيان ذلك في أعظم وأشرف العبادات بعد التوحيد: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي صلِّ لتذكرني وهو
(1)
التمهيد (7/ 184 - 185).
أحد معاني الآية وقدمه ابن جرير وابن كثير
(1)
، فالمقصود -والله أعلم- أقم الصلاة لأجل ذكري، وفي حديث عائشة رضي الله عنه الله عنها يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل "
(2)
.
ثالثاً: إن التفاضل بين العاملين بالطاعات يكون بكثرة ذكرهم لله
الذي يتفق فيه اللسان مع القلب، يقول ابن القيم رحمه الله:" أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكراً لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وأفضل الحجاج أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وهكذا سائر الأعمال"
(3)
.
وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَيُّ الْجِهَادِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: " أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تبارك وتعالى ذِكْرًا " قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: " أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تبارك وتعالى ذِكْرًا "، ثُمَّ ذَكَرَ لَنَا الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَالصَّدَقَةَ كُلُّ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تبارك وتعالى ذِكْرًا " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: يَا أَبَا حَفْصٍ ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أَجَلْ "
(4)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن جرير (16/ 32)، وتفسير ابن كثير (5/ 277).
(2)
أخرجه أحمد (41/ 17) ح (24468)، وأبو داود (2/ 179) ح (1888)، والترمذي (3/ 237) ح (902) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 1295) ح (2738)، والحاكم (1/ 630) ح (1685) وصححه وأقره الذهبي، وصحح إسناده محقق صحيح ابن خزيمة ح (2738)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (2/ 170) ح (328) وقال أن الصواب الذي رواه الثقاة وقفه على عائشة رضي الله عنها، ومال إلى هذا محقق المسند ح (24468)، والعلم عند الله.
(3)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 181 - 182).
(4)
أخرجه أحمد (24/ 380 - 381 ط الرسالة) ح (15614)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 74) ح (16748):" رواه أحمد والطبراني .. وفيه زبان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1/ 452) ح (906)، وضعف إسناده كذلك محقق المسند في الحديث رقم (15614).
رابعاً: ومما يدل على سعة المفهوم الشرعي للذكر، ما ذكره النووي رحمه الله عن القاضي عياض، فقال: "قال القاضي عياض رحمه الله: وذكر الله تعالى ضربان: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وذكر القلب نوعان أحدهما: وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سمواته وأرضه ..
والثاني: ذكره بالقلب عند الأمر والنهي، فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهي عنه، ويقف عما أشكل عليه، وأما ذكر اللسان مجرداً فهو أضعف الأذكار، ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث"
(1)
.
وقال القرطبي في تفسيره عند قول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]:
"ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله سعيد بن جبير، وقال أيضاً: الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن"
(2)
.
وعن الحسن رحمه الله في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، قال:"اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي"
(3)
.
وفي التفسير الكبير عند قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]: " اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين: الذكر، والشكر، أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح
…
أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فصار الأمر بقوله:{فَاذْكُرُونِي} متضمناً جميع الطاعات"
(4)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (17/ 15) مع تصرف يسير.
(2)
تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (2/ 171).
(3)
تفسير ابن أبي حاتم (1/ 261).
(4)
تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (4/ 123 - 124) مع بعض التصرف.
خامساً: قال ابن بطال رحمه الله في شرحه على صحيح البخاري: " هذه الفضائل التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له
…
) وما شاكلها إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال والطهارة من الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا وأصرّ على ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلحق بالسابقين المطهرين، وينال منزلتهم في ذلك بحكاية أحرف ليس معها تقى، ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه من يتأول دين الله على هواه"
(1)
.
سادساً: ومما يدل على سعة مفهوم الذكر: تنوعه وشموله لكل تصرفات العبد، وأحواله في يومه وليلته، من حين يستيقظ إلى أن ينام، ولذا سميت الكتب التي جمعت تلك الأذكار بعمل اليوم والليلة، كما في كتاب عمل اليوم والليلة للنسائي، وكذلك عمل اليوم والليلة لابن السني.
وقال تعالى عن عباده المؤمنين في كثرتهم ذكرهم لله على كل أحوالهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] والآيات بعدها.
وفي هذه الآية بيان لحال هؤلاء الصادقين في حبهم لله بكثرة ذكره لله على كل أحوالهم، فقد انصبغت حياتهم بالذكر على كل الأحوال قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبهم من حين أستيقاظهم إلى عودتهم إلى النوم مرة أخرى، وهذه الهيئات لا يخرج عنها حال الإنسان في حال يقظته إما قائم، وإما قاعد، وإما على جنب، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كما تصفه عائشة رضي الله عنه الله عنها، فتقول:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»
(2)
.
(1)
شرح صحيح البخاري - ابن بطال (10/ 134).
(2)
أخرجه مسلم (1/ 282) ح (373).
المسألة الثالثة: كيف يكون الذكر شرعياً.
تنقسم الأذكار والأدعية إلى قسمين:
الأول: المأثور وهو ما جاء في نصوص الكتاب والسنة، وله أنواع وضوابط سيأتي تفصيلها.
الثاني: غير المأثور وهو من ينشئه العبد من نفسه من ثناء ودعاء، وله كذلك ضوابط وشروط سيأتي الكلام عنها.
القسم الأول: المأثور،
وله نوعان:
النوع أول: المأثور من الأذكار والأدعية، وضوابطها.
أولاً: المقصود بها وأمثلة عليها.
الأذكار والأدعية المأثورة هي: ما ورد في القرآن الكريم، والسنة المطهرة من أذكار وأدعية مقيدة بمناسبة أو بغير مناسبة، وجاء الحث على قولها ببيان فضلها، أو وقتها، أو ربطها بمناسبة معينة، ولها أنواع كثيرة، منها على سبيل المثال:
ذكر ركوب الدابة، قال تعالى:{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ 12 لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ 13 وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14].
الأذكار المقيدة بوقت أو مكان، مثل أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، وأذكار الصلوات، وأذكار الخروج من المنزل والسفر ونحوها من أذكار اليوم والليلة.
الأدعية التي جاء النص على قولها في العبادات المفروضة ونوافلها، مثل أدعية الصلاة والحج والعمرة ونحوها.
ثانياً: ضوابط الأذكار والأدعية المأثورة.
ودونك هذه الضوابط التي لابد من مراعاتها حتى يكون الذكر مشروعاً:
- أن تكون مما جاء في كتاب الله أو مما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- أن يحرص على إخلاص النية لله تعالى، والمتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأذكار من حيث:
أن يلتزم بالأذكار المقيدة كما وردت في نص الكتاب والسنة، فيشتغل بالذكر المقيد في وقته ومناسبته.
وأن يبقي الذكر المطلق على إطلاقه فلا يقيده بمناسبة ولا هيئة ولا عدد لم يقيده به النص الشرعي.
- أن يلتزم بالعدد واللفظ المحدد الذي ربط النص الأجر به، فلا يزيد ولا ينقص، كالمأثور عقب الصلاة من الأذكار، وأذكار المساء والصباح، وأذكار النوم، وغيرها.
- أن يتقيد بالألفاظ التي وردت في النص، ويحرص على أدائها كما هي، فلا يزيد ولا ينقص ولا يغير اللفظ، كألفاظ الأذان والإقامة، والتشهد والتلبية، إلا ما جاء النص بالسماح بالزيادة فيه عن العدد المحدد
(1)
.
ومما يدل على ذلك، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
ومثاله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» أخرجه البخاري بهذا اللفظ (4/ 126 ط السلطانية) ح (3293)، ومسلم (8/ 69 ط التركية) ح (2691).
فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ»
(1)
.
دل هذا على أن هذه الألفاظ توقيفية، لها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به
(2)
، والله أعلم.
وقال الشيخ محمد بن علي الإثيوبي رحمه الله في شرحه على مسلم عند شرح هذا الحديث: "قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن أحسن ما قيل في حكمة النهي عن إبدال النبيّ بالرسول في هذا الحديث كون ألفاظ الأذكار توقيفيّة، كما قال المازريّ
(3)
، فتجب المحافظة على اللفظ الوارد فيها، ولو ظُنّ أن ما يرادفها من الألفاظ يؤدي معناها؛ لأن التعبّد وقع على لفظها، كما وقع على معناها، فالواجب الوقوف على التعليم النبويّ، واللَّه تعالى أعلم"
(4)
.
- مراعاة آداب الذكر العامة، وسيأتي بعض ذلك.
النوع الثاني: الأذكار المطلقة، وتفاضلها.
ويقصد بها ما ورد من الأذكار المأثورة، والأدعية التي نص عليها الشرع، ولم ترتبط بسبب، ولا مناسبة، ولا هيئة، ولا عدد، وهي كثيرة ومنها على سبيل المثال:
أولاً: يأتي على رأسها، وأفضلها على الإطلاق، وأعلاها منزلة تلاوة القرآن الكريم بالتدبر،
ومكانة تلاوة القرآن في الفضل لا تخفى على مسلم، وقد وفقني الله لكتابة بحث بعنوان: أثر عمل القلب على تلاوة القرآن وتدبره وهو موجود على الشبكة
(5)
.
ثانياً: الأذكار المأثورة التي تلي القرآن في الأفضلية
(6)
:
وأفضلها ما كان فيه ثناء على الله تعالى.
(1)
أخرجه البخاري (1/ 58 ط السلطانية) ح (247)، ومسلم (8/ 77 ط التركية) ح (2710).
(2)
ينظر: البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/ 294).
(3)
ينظر: المعلم بفوائد مسلم (3/ 330).
(4)
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/ 294).
(5)
انظره على موقع شبكة الألوكة.
(6)
ينظر في هذه الأقسام مجموع الفتاوى (22/ 342 - 343).
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "أنواع الأذكار مطلقاً بعد القرآن، أعلاها ما كان ثناءً على الله"
(1)
، من مثل ماورد في دعاء الاستفتاح:«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»
(2)
.
ثم ما كان إنشاءً من العبد، مثل حديث دعاء النوم الذي سبق" وجهت وجهي إليك .. ".
ثم ما كان دعاءً من العبد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح:«اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ»
(3)
.
القسم الثاني: غير المأثور وضوابطه.
أولاً: المقصود به هو ما ينشئه العبد من ذكر مطلق لحاجة تعرض له، فيدعو ربه بلفظ من عنده
(4)
.
مما ينبغي التنبيه عليه هنا ضرورة لزوم الهدي النبوي في الذكر والدعاء لأنهما عبادة، والعبادة تبني على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وقد جاء البيان عن ذلك في الكتاب والسنة شافياً كافياً، فلا مجال للزيادة عليه، "ولهذا فإن المتأكد على كل مسلم في هذا الباب العظيم أن يجتهد في طلب هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وأن يحرص أشد الحرص على معرفة سبيله فيه؛ ليقتفي آثاره، وليسير على نهجه، وليلزم طريقته صلوات الله وسلامه عليه.
(1)
مجموع الفتاوى (22/ 376).
(2)
أخرجه أبو داود (1/ 206 ت محيي الدين عبد الحميد) ح (776)، والترمذي (2/ 11 ت شاكر) ح (243)، وابن ماجه (1/ 264 ت عبد الباقي) ح (804)، والحاكم (1/ 360) ح (859) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في
صحيح الجامع الصغير (2/ 853) ح (4667).
(3)
أخرجه البخاري (1/ 149 ط السلطانية) ح (744)، ومسلم (2/ 98 ط التركية) ح (598).
(4)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار (2/ 49 - 53).
ولا يجوز لمسلم أن يلتزم أدعية راتبة أو مخصصة بأوقات معينة أو بصفات معينة سوى ما ورد من ذلك في سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أما الأدعية العارضة التي تحصل من المسلم بسبب أمور قد تعرض له، فله أن يسأل الله ما شاء فيما لا يتنافى مع الشرع.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على الاتباع، وليس لأحد أن يسن منها غير المسنون، ويجعله عادة راتبة يواظب الناس عليها، بل هذا ابتداع دين لم يأذن به الله، بخلاف ما يدعو به المرء أحياناً من غير أن يجعله سنة "
(1)
اه.
ولهذا نجد أن الصحابة رضي الله عنهم بادروا إلى إنكار تخصيص هيئات معينة للأذكار والأدعية، أو أوقات معينة أو نحو ذلك مما لم يرد به الشرع ولم تثبت به السنة، ومن ذلكم إنكار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أولئك النفر الذين تحلقوا في المسجد وفي أيديهم حصى يسبحون بها ويهللون ويكبرون بطريقة محدثة وصفة مبتدعة، لم تكن موجودة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبادرهم بالإنكار ونهاهم عن ذلك أشد النهي، وبين لهم خطورة ذلك وسوء مغبته عليهم، روى الإمام الدارمي رحمه الله بإسناد جيد عن عمرو بن سلمة الهمداني قال: " كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا: لَا، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعاً، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفاً أَمْراً أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَاّ خَيْراً، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْماً حِلَقاً جُلُوساً يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفي أَيْدِيهِمْ (حَصًى) فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ
(1)
مجموع مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب " ملحق المصنفات)) (ص: 46) في ضمن فوائد عديدة لخصها رحمه الله من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
[والذي يظهر أنه منقول بالمعنى من كلام شيخ الإسلام. ينظر: مجموع الفتاوى (22/ 511).]
شَيْئاً انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتِظَارَ أَمْرِكَ*، قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِى أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ* يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ رضي الله عنهم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِوا بَابِ ضَلَالَةٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَاّ الْخَيْرَ، قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ"
(1)
.
فتأمل كيف أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أصحاب الحلقات هؤلاء، مع أنهم في حلقة ذكر ومجلس عبادة لما كان ذكرهم لله وتعبدهم له بغير الوارد المشروع، وفي هذا دلالة على أنه ليس العبرة في العبادة والدعاء والذكر كثرته، وإنما العبرة في موافقته للسنة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في مقام آخر:«اقْتِصَادٌ فِي سَنَةٍ خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ»
(2)
، وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر عليهم ذكرهم لله واشتغالهم بذلك، وإنما أنكر عليهم مفارقتهم للسنة في صفة أدائه وكيفية القيام به مع أن الألفاظ التي كانوا يذكرون الله بها ألفاظ صحيحة وردت بها السنة، فكيف الحال بمن ترك السنة في ذلك جملة وتفصيلاً في الألفاظ وصفة الأداء وغير ذلك، كالأوراد التي يقرؤها بعض الناس مما كتبه بعض أشياخ الطرق الصوفية بصيغ مختلفة وأساليب متنوعة مما هو متضمن لأنواع من الباطل وصنوف من الضلال كالتوسلات الشركية والألفاظ البدعية والأذكار المحدثة، ويرتب هؤلاء لأورادهم وظائف محددة وصفات معينة وأوقات ثابتة، وهذا كله ولا ريب من الإحداث في الدين، ومن المفارقة لسبيل سيد الأنبياء والمرسلين، والاستعاضة عنه بما أحدثه شيوخ الضلال وأئمة الباطل، وهو تشريع في الدين بما لم
(1)
أخرجه الدارمي - ت الزهراني (1/ 120) رقم الأثر (211)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 11 - 12) ح (2005) وقال:" وهذا إسناد صحيح".
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 207).
يأذن به الله، والله تعالى يقول:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُا شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، ثم تجدهم مع ذلك يعظمون أورادهم هذه ويعلون من شأنها، ويرفعون من قدرها، ويقدمونها على الأوراد الصحيحة والأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكملهم ذكرا ودعاء لربه سبحانه.
قال القاضي عياض رحمه الله: " أذن الله في دعائه، وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطان للناس من هذا المقام، فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم "
(1)
.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: " فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا؛ فإن الله قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون " اه
(2)
.
فالواجب على من أراد لنفسه الفضيلة والسلامة والتمام والرفعة أن يلزم هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويتقيد بسنته، ويدع ما أحدثه المحدثون وأنشأه المبطلون مما لا أصل له ولا أساس إلا اتباع الأهواء" انتهى بطوله لأهميته من كتاب فقه الأدعية والأذكار
(3)
.
ثانياً: ضوابط الذكر الذي يخترعه العبد.
ودونك ملخصة من كتاب ذكر الله بين الاتباع والابتداع
(4)
:
- الإخلاص لله تعالى، وتوجه القلب إليه والحذر من الشوائب التي تنقض الإخلاص.
(1)
نقله عن القاضي عياض صاحب الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (1/ 17).
(2)
تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (4/ 231).
(3)
فقه الأدعية والأذكار (2/ 49 - 53).
(4)
ينظر: ذكر الله تعالى بين الاتباع والابتداع (91 - 92).
- أن يكون الذكر المنشأ غير مقيد بزمان ولا مكان ولا هيئة ولا عدد، إذ كل ما سبق من خواص الشرع التي لا منازعة فيها.
- أن يكون المنشأ متضمناً على الله بما هو أهله، وفي حال النفي عن الله يقتصر على ما ورد نفيه.
- أن يحرص على سلامة اللفظ من أن يستلزم نقصاً في حق الله سبحانه بأي وجه من الوجوه.
- أن تكون ألفاظ ما ينشأ واضحة بينة، فلا تكون أسماء غير معروفة، أو ألفاظاً غريبة، أو طلاسم لا يعرف ما هي.
- أن تكون معاني ما ينشأ جامعة ومانعة وبينة، ثناء كان أو دعاء.
- وإذا كان المنشأ دعاء، فعلى الداعي أن يراعي في ذلك الآتي:
1 -
أن يحرص على عدم الاعتداء في دعائه، ويعلم أن الاعتداء يكون في الألفاظ أو في المعاني لتجنب ذلك.
2 -
أن يبتعد في دعائه من السجع المتكلف والتقعر في الألفاظ، ويعد ذلك من العدوان في الدعاء، قال النووي رحمه الله:" أن لا يتكلَّف السجعَ، وقد فسَّر به الاعتداء في الدعاء، والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة، فما كل أحد يُحسن الدعاءَ، فيخاف عليه الاعتداء"
(1)
"
(2)
.
وسيأتي مزيد تفصيل لهذا في آداب الدعاء.
المسألة الرابعة: التفاضل بين الأذكار المقيدة والأذكار المطلقة.
هذه مسالة تحتاج إلى فقه كما سبق ولا شك أن الذكر المقيد أفضل من الذكر المطلق، ولكن قد يعرض للعبد ما يجعل المفضول أولى من الفاضل لسبب يخصه، يقول ابن القيم رحمه الله: "
(1)
الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص 396).
(2)
ينظر: ذكر الله تعالى بين الاتباع والابتداع (91 - 92).
وهكذا الأذكار المفيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبة من استغفار أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحفظه.
وكذلك أيضاً قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعاً وخشوعاً وابتهالاً، فهذا يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجراً.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه"
(1)
.
المسألة الخامسة: من آداب الذكر والدعاء
(2)
.
وهذه الآداب في مجملها لها تعلق وثيق بالدعاء، وهي:
1 - الإخلاص لله والمتابعة للنبي
صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الكلام على ذلك، وسيأتي له مزيد بيان.
2 - أن يبدأ بحمد الله، والثناء عليه، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويختم بذلك.
وقد دل على ذلك: عَنْ عَلِيٍّ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي طَالِبٍ - قَالَ: "كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَآلِ مُحَمَّدٍ"
(3)
.
(1)
الوابل الصيب - ط دار الحديث (ص 91 - 92).
(2)
ينظر: الدعاء من الكتاب والسنة (ص 8 - 10).
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/ 220) ح (721)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 135 ط الرشد) ح (1474)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 160) ح (17278):" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ"، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 54) ح (2035) وقال (5/ 55):" وهو في حكم المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما قال السخاوي".
عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، يَقُولُ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَجِلَ هَذَا» ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ:«إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ»
(1)
.
3 - الجزم في الدعاء، واليقين بالإجابة.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلَا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ»
(3)
.
ولا بد أن يكون الداعي على ثقة بربه، قلبه متعلق به، على يقين بأن الله سيجيب دعوته، وهو يشعر بقربه منه، فيدعو وهو موقن بالإجابة، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
(1)
أخرجه أحمد (39/ 363 ط الرسالة) ح ()، وأبو داود (2/ 77 ت محيي الدين عبد الحميد) ح (1481)، والترمذي (5/ 517 ت شاكر) ح (3477) وقال عنه:" حسن صحيح"، وابن خزيمة ط 3 (1/ 373) ح (710)، والحاكم - ط العلمية (1/ 354) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ط غراس (5/ 221) ح (1331). وقال محقق المسند:"إسناده صحيح .. ".
(2)
أخرجه البخاري (8/ 74 ط السلطانية) ح (6338).
(3)
أخرجه البخاري (8/ 74 ط السلطانية) ح (6339).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»
(1)
.
4 - الإلحاح في الدعاء مع إظهار الفقر والحاجة وعدم الاستعجال.
الإلحاح على الله في الدعاء مع إظهار فقره وحاجته إلى ربه، ومنه إظهار موسى لفقره إلى ربه في دعائه، قال تعالى:{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
والله يحب من عبد أن يتضرع له ويظهر فقره وذله ومسكنته
(2)
ويلح في طلبه من ربه، وهذا مما يجعل العبد يخشع في دعائه، ويشعر بقرب الله منه، فيزداد إقبالاً على الدعاء.
ومن ذلك الإكثار في الدعاء بقول: "ياذا الجلال والإكرام" وتكرار الدعاء به، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:" أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "
(3)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»
(4)
.
وهذا من موانع إجابة الدعاء لأنه يستحسر ويدع الدعاء، ولا يوفقه الله للدعاء بسبب ذلك.
(1)
أخرجه أحمد (11/ 235) ح (6655)، والترمذي واللفظ له (5/ 517) ح (3479) وقال:«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ، والحاكم (1/ 670) ح (1817) وقال:"هذا حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري، وهو أحد زهاد أهل البصرة، ولم يخرجاه "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 148) ح (17203):"رواه أحمد، وإسناده حسن". والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 108) ح (245) وذكره في السلسلة الصحيحة (2/ 141) ح (594).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (618).
(3)
أخرجه أحمد (29/ 138) ح (17596)، الترمذي (5/ 540) ح (3525)، وصححه الحاكم (1/ 676) ح (1836) وأقره الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 51) ح (1536)، وقال محقق المسند ح (17596):"إسناده صحيح، رجاله ثقات".
(4)
أخرجه البخاري واللفظ له (8/ 74 ط السلطانية) ح (6340)، ومسلم (8/ 87 ط التركية) ح (2735).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ»
(1)
.
5 - حضور القلب في الدعاء.
وهو من أعظم استجابة الدعاء، ومن أعظم آدابه، ويدل عليه الحديث السابق «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» .
"ولهذا فإن من الضوابط المهمة والشروط العظيمة التي لا بد من توفرها في الدعاء حضور قلب الداعي وعدم غفلته،؛ لأنه إذا دعا بقلب غافل لاه ضعفت قوة دعائه، وضعف أثره، وأصبح شأن الدعاء فيه بمنزلة القوس الرخو جداً، فإنه إذا كان كذلك خرج منه السهم خروجاً ضعيفاً، فيضعف بذلك أثره، ولهذا فإنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الحث على حضور القلب في الدعاء، والتحذير من الغفلة، والإخبار بأن عدم ذلك مانع من موانع قبوله"
(2)
.
6 - الدعاء في الرخاء والشدة.
"فمن آداب الدعاء المهمة أن لا يقتصر المسلم على دعائه ربه في حال الشدة فقط، بل الواجب أن يدعو ربه في سرائه وضرائه، وشدته ورخائه، وصحته وسقمه، وفي أحواله كلها، وملازمة المسلم للدعاء حال الرخاء، ومواظبته عليه في حال السراء سبب عظيم لإجابة دعائه عند الشدائد والمصائب والكرب"
(3)
، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (8/ 87 ط التركية) ح (2735).
(2)
فقه الأدعية والأذكار (2/ 150).
(3)
فقه الأدعية والأذكار (2/ 166).
(4)
أخرجه الترمذي (5/ 462 ت شاكر) ح (3382)، وقال:"هذا حديث غريب"، ومسند أبي يعلى (11/ 284 ت حسين أسد) ح (6397)، والمستدرك على الصحيحين للحاكم - ط العلمية (1/ 729) ح (1997) وصححه وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1078) ح (6290).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّة"
(1)
.
7 - الدعاء عبادة خالصة لله تعالى.
الدعاء من أعظم العبادات بل هو رأس العبادة، ولهذا فهو حق خالص لله تعالى، فلا يدعى إلا هو وحده لا شريك له، فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
(2)
.
قال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله في كتابه الماتع فقه الأدعية والأذكار كلاماً رائعاً في هذه المسألة أحب أن أنقله بطوله: " ولهذا فقد تواترت الأدلة وتضافرت النصوص في الكتاب والسنة على التحذير من صرف الدعاء لغير الله والنهي عن ذلك وذم فاعله بأشد أنواع الذم، حتى صار ذلك من ضروريات هذا الدين التي لا يرتاب فيها كل من فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تنوعت دلالات نصوص القرآن الكريم المشتملة على ذلك وتكررت في مواطن كثيرة، وذلك لشدة خطورة دعاء غير الله، ولكونه أكثر أنواع الشرك وقوعاً، حتى قال بعض أهل العلم: " لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه "
(3)
.
فمن هذه النصوص قول الله تبارك وتعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 55 وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 - 56]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا
(1)
أخرجه أحمد ط الرسالة (5/ 19)، وقال محقق المسند:"حديث صحيح".
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (30/ 340) ح (18391)، وأبو داود (2/ 76) ح (1479)، والترمذي (5/ 375) ح (3247) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1258) ح (3828)، والحاكم (1/ 667) ح (1802) وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 641) ح (3407)، وقال محقق المسند (30/ 340) ح (18391):"إسناده صحيح".
(3)
النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين، للشيخ حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر (ص: 37).
الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وقال تعالى:{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].
قال الشوكاني رحمه الله في رسالة له في وجوب توحيد الله عز وجل بعد أن أورد طرفاً من هذه النصوص: " فهذه الآيات البينات دلت على أن الدعاء مطلوب لله عز وجل من عباده، وهذا القدر يكفي في إثبات كونه عبادة، فكيف إذا انضم إلى ذلك النهي عن دعاء غير الله سبحانه، قال الله عز وجل:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدا} [الجن: 18]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14]، وقال سبحانه ناعياً على من يدعو غيره ضارباً له الأمثال:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22].
فكيف إذا صرح القرآن الكريم بأن الدعاء عبادة تصريحاً لا يبقى عنده ريب لمرتاب، قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، فقد طلب الله سبحانه من عباده في هذه الآية أن يدعوه، وجعل جزاء الدعاء له منهم الإجابة منه فقال:{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، ولهذا جزمه لكونه جواباً للأمر، ثم توعدهم على الاستكبار عن هذه العبادة أعني الدعاء بما صرح به في آخر الآية وجعل العبادة مكان الدعاء تفسيرا له وإيضاحا لمعناه، وبيانا لعباده بأن هذا الأمر الذي طلبه منهم وأرشدهم إليه هو نوع من عبادته التي خص بها نفسه وخلق لها عباده كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومع
هذا كله فقد جاءت السنة المطهرة بما يدل أبلغ دلالة على أن الدعاء من أكمل أنواع العبادة
…
"
(1)
، ثم ذكر رحمه الله ما يدل على ذلك من السنة.
إن الواجب على كل مسلم أن يدرك خطورة الأمر، وأن يعلم أن هذا حق خالص لله عز وجل لا يجوز أن يشرك معه فيه غيره، وكيف يشرك المخلوق الضعيف العاجز بالملك العظيم الذي بيده أزمة الأمور، المتفرد بإجابة الدعاء وكشف الكروب، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، الذي ما تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العزة، ولا فقير إلا أعطاه الغنى، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه، فهو سبحانه الذي يجيب المضطرين، ويغيث الملهوفين، ويعطي السائلين، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، لا إله إلا هو الملك الحق المبين.
وقد أجمع أهل العلم على أن من صرف شيئاً من الدعاء لغير الله فهو مشرك بالله العظيم، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولو صلى وصام؛ إذ شرط الإسلام أن لا يعبد إلا الله، فليحذر من يريد لنفسه الفوز والسعادة من هذا الإثم المبين والخطر العظيم"
(2)
.
8 - عدم الدعاء على الأهل، والمال، والولد، والنفس.
ومن الآداب المهمة: حرص الداعي على عدم الدعاء على أهله وولده، وماله، ونفسه، حين يحصل الغضب، فقد يستجاب له فيحصل له بذلك شقاء في نفسه أو ولده، فيتقطع قلبه حسرات على ما يحصل من آثار دعوته عليهم، وهذا يحصل بسبب عجلة الإنسان بسبب غضبه فيطلق الدعوات فيهلك نفسه، أو أهله أو ولده أو نحوه فيندم على ذلك ندماً عظيماً، قال تعالى:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، وقال ابن جرير في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره مذكراً عباده أياديه عندهم، ويدعو
(1)
رسالة في وجوب توحيد الله عز وجل، للشوكاني (ص: 56 - 58).
(2)
فقه الأدعية والأذكار (2/ 40 - 43).
الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر، فيقول: اللهم أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه، كدعائه بالخير: يقول: كدعائه ربه بأن يهب له العافية، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده، يقول: فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشر كما يستجاب له في الخير هلك، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل .. "
(1)
، ثم نقل بأسانيده عن أهل التفسير، ومن ذلك:"عن قتادة، قوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}: "يدعو على ماله، فيلعن ماله وولده، ولو استجاب الله له لأهلكه" عن مجاهد، {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} قال: "ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته، فيعجل: فيدعو عليه، ولا يحب أن يصيبه"
(2)
.
وجاء نص من السنة في التحذير من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:" .. لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ"
(3)
.
"ولهذا ينبغي على المسلم أن يعود نفسه الدعاء لنفسه وولده وماله بالخير والنماء والبركة والصلاح ونحو ذلك، وأن يملك نفسه ولا سيما عند غضبه من أن يدعو على نفسه أو ولده أو
ماله بالهلاك أو الشر أو الفساد، فقد يستجاب له في ذلك فيندم ويتحسر، مع أنه هو الذي
دعا بذلك وطلبه، وإنا لنرجو الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل، وأن يوفقنا لكل خير يحبه
ويرضاه في الدنيا والآخرة"
(4)
.
(1)
تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر (14/ 512).
(2)
تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر (14/ 513 - 514).
(3)
أخرجه مسلم (8/ 233 ط التركية) ح (3014).
(4)
فقه الأدعية والأذكار (2/ 259).
9 - خفض الصوت بالدعاء بين المخافتة والجهر.
وقد أدب الله عباده عند دعائهم وذكرهم لله أن يبتعدوا عن الجهر والعلانية التي يخاف منها الرياء، بل خفية وإخلاصاً لله تعالى
(1)
.
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
وقال تعالى: {وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
فأمر الله عبده ورسوله محمداً أصلاً وغيره تبعاً له، بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصاً خالياً
(2)
، لأن خفض الصوت بالدعاء أبعد عن الرياء، وأيضا قد جاء النهي عنه، ففي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الله عنه قال لهم رسول الله لما ارتفعت أصواتهم:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ»
(3)
.
يقول الحسن البصري رحمه الله: "ولقد أدركنا أقواماُ ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} "
(4)
.
قال ابن جريج رحمه الله: « .. يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة»
(5)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (192).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص 314).
(3)
أخرجه البخاري (4/ 57 ط السلطانية) ح (2992).
(4)
تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر (10/ 248).
(5)
تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر (10/ 249).
ودونك تلخيصاً لكلام شيخ الإسلام رحمه الله الرائع العميق في بيان فوائد إخفاء الدعاء، يقول: " وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنه أعظم إيماناً؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.
ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم، ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه وخشع صوته؛ حتى أنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. وقلبه يسأل طالباً مبتهلاً ولسانه لشدة ذلته ساكتاً وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلاً.
رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
سادسها: - وهو من النكت البديعة جداً - أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا} [مريم: 3].
سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه، وهذا نظير من يقرأ ويكرر فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له؛ بخلاف من خفض صوته.
ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره، وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولا
بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته؛ فيضعف أثر الدعاء ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة.
تاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] الآية. وكم من صاحب قلب [مجتمع على الله]، وحال مع الله تعالى قد تحدث بها وأخبر بها، فسلبه إياها الأغيار [لحسدهم له]؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى ولا يطلع عليه أحد والقوم أعظم شيئاً كتماناً لأحوالهم مع الله عز وجل، وما وهب الله من محبته والأنس به [واجتماع القلب عليه] "
(1)
إلى أخر كلامه رحمه الله.
وقد مر معنا قريباً كلام الحسن البصري رحمه الله في هذا المعنى الذي في آخر كلام شيخ الإسلام ونعيده هنا حيث يقول: "ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} "
(2)
.
10 - الاعتراف بالذنب، والاستغفار منه، والاعتراف بالنعمة، وشكر الله عليها.
كما في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (15/ 15 - 18) مع بعض التصرف، حيث أضفت بعض التفسيرات القليلة، وجعلتها بين معكوفتين [].
(2)
تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر (10/ 248).
يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»
(1)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: "فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق: أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وظلمها، وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه، وإحسانه، ورحمته، وجوده، وبره، وغناه، وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام
(2)
: "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل".
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، حديث " «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ".
فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: " أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي" بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان.
ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً.
(1)
أخرجه البخاري (8/ 67 ط السلطانية) ح (6306).
(2)
قال محقق الكتاب الوابل الصيب يقصد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وليس ابن تيمية. ينظر حاشية الوابل الصيب (10 - 11)
وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى باب الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً، ولا مقاماً، ولا سبباً يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك، وخسر خسارة لا تجبر؛ إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته"
(1)
.
11 - عدم تكلف السجع في الدعاء.
الدعاء عبادة لها تعلق وثيق بالقلب، وتكلف السجع في ذلك يخرجها إلى الاهتمام بالجانب اللفظي على حساب حضور القلب، فيفقد الدعاء أثره، ويصرفه عن مقصده إلى ألفاظ مسجوعة متكلفة بعيدة عن تعلق القلب بالله، ولذا جاء النهي عن ذلك، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ،» يَعْنِي: لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ
(2)
.
قال النووي رحمه الله: "ولا يتكلَّفُ السجعَ في الدعاء، فإنّه يُشغل القلبَ، ويُذهبُ الانكسار، والخضوعَ، والافتقار، والمسكنة والذلّة، والخشوع"
(3)
.
(1)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 10 - 12).
(2)
أخرجه البخاري (8/ 74 ط السلطانية) ح (6337).
(3)
الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص 198).
12 - التضرع، والخشوع، والرغبة، والرهبة.
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
ومعنى التضرع: التذلل والخشوع والاستكانة والخضوع، والإلحاح في المسألة
(1)
.
أي ادعوه حالة كونكم" متضرعينَ أذلَاّءَ خاشعينَ له - جل وعلا - مستشعرينَ ذُلَّكُمْ وفقرَكم وحاجتَكم، وعظمةَ ربكم وكبرياءَه، وشدةَ فقرِكم إليه، وشدةَ غِنَاهُ عنكم"
(2)
.
وقال تعالى في وصف حال عباده الصالحين عند دعائهم لربهم: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
"{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم"
(3)
.
13 - رد المظالم مع التوبة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»
(4)
.
(1)
ينظر: تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر (10/ 247)، زاد المسير في علم التفسير (2/ 129)، تفسير السعدي (291).
(2)
العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (3/ 398).
(3)
تفسير السعدي (ص 530).
(4)
أخرجه مسلم (3/ 85 ط التركية) ح (1015).
ومن أعظم موانع استجابة الدعاء الوقوع في الحرام كما في الحديث السابق الذي ذكر فيه مجموعة من الآداب التي لا يرد معها الدعاء إلا إذا سد الباب بالوقوع في الحرام كما بيّن الحديث، وعليه إذا أراد العبد أن يرفع هذه الموانع أن يبادر برد المظالم إلى أهلها ويحدث توبة إلى الله صادقة يندم فيها على ما حصل منه، ويقلع عن الذنب، ويعقد العزم على عدم العودة إلى الذنب، وإذا الذنب يتعلق بحقوق الآخرين فليرد حقوقهم عليهم، أو يطلب العفو والسماح، وبهذا تفتح له أبواب استجابة الدعاء، وسيأتي مزيد بيان لذلك.
14 - الدعاء ثلاثاً.
من آداب الدعاء أن يدعو ثلاثاً، وهذا يدخل في باب الإلحاح على الله في الدعاء، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلَاثًا، وَيَسْتَغْفِرَ ثَلَاثًا "
(1)
.
وهذا كذلك ادعى لحضور القلب وتدبره فيما يقوله اللسان من دعاء.
15 - استقبال القبلة.
من الآداب أن يستقبل الداعي القبلة عند دعائه، وهي قبلة الصلاة، وقد ورد في السنة ما يدل على ذلك، فعن عَبْدِ اللهِ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يُصَلِّي، وَأَنَّهُ لَمَّا دَعَا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ»
(2)
.
وثبت استقبال القبلة في الدعاء في الحج في كل المناسك التي يدعى فيها في الحج والعمرة.
ولما دعى على قريش في مكة حينما وضعوا سلا الجزور على ظهرة استقبل الكعبة
(3)
.
ولما دعى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر استقبل القبلة
(4)
.
كل هذه النصوص وغيرها تدل على أن قبلة الدعاء هي الكعبة، وهو من آداب الدعاء.
(1)
أخرجه أحمد (6/ 290 ط الرسالة) ح (3744)، وأبو داود (2/ 86 ت محيي الدين عبد الحميد) ح (1524)، وقال محقق سنن أبي داود الأرناؤوط:"إسناده صحيح".
(2)
أخرجه البخاري (2/ 31 ط السلطانية) ح (1028)، ومسلم (3/ 23 ط التركية) ح (894).
(3)
ينظر: صحيح البخاري (5/ 74 ط السلطانية) ح (3960).
(4)
ينظر: صحيح مسلم (5/ 156 ط التركية) ح (1763).
16 - رفع الأيدي في الدعاء.
ومن الآداب العظيمة التي لها أثر في إجابة دعوة الداعي رفع اليدين في الدعاء، وقد جاءت النصوص الكثيرة في إثبات رفع اليدين في الدعاء، وقد عده السيوطي رحمه الله في المتواتر المعنوي، وذكر أنه ورد فيه مائة حديث تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء
(1)
.
ما ورد في الصحيحين ونذكر منه على سبيل المثال:
بوب البخاري رحمه الله فقال: " بَابُ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ"
(2)
.
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ»
(3)
.
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: «دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ»
(4)
.
17 - الوضوء قبل الدعاء إن تيسر.
كما في الحديث السابق عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: «دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ» .
قال أبو العباس القرطبي معلقاً على هذا الحديث: " و (قوله: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ)، ظاهر هذا الوضوء أنه كان للدُّعاء، إذ لم يذكر أنه صلى في ذلك الوقت بذلك الوضوء، ففيه ما يدلّ على مشروعية الوضوء للدُّعاء ولذكر الله"
(5)
.
(1)
ينظر: تدريب الراوي (2/ 631).
(2)
صحيح البخاري (8/ 74 ط السلطانية).
(3)
أخرجه البخاري (8/ 74 ط السلطانية) ح (6341).
(4)
أخرجه البخاري (8/ 81 ط السلطانية) ح (6383)، (2498)، ومسلم (7/ 170 ط التركية) ح (2498).
(5)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 450).
وقال الشيخ محمد بن علي الإثيوبي رحمه الله في شرحه على مسلم عند ذكره لفوائد هذا الحديث: " ومنها: استحباب الطهارة عند إرادة الدعاء"
(1)
.
(1)
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (39/ 643).
18 - أن لا يعتدي في الدعاء.
وقد جاء النصوص بالنهي عن ذلك، ومنها الآية التي سبق الكلام عنها:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 55} .
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ، إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ»
(1)
.
وفي هذا الحديث مثال على الاعتداء في الدعاء كما نص عليه كلام راوي الحديث.
ومن أمثلة الاعتداء في الدعاء
(2)
:
• دعاء غير الله تعالى.
• الدعاء على المؤمنين بالشر.
• رفع الصوت والصياح في الدعاء.
• أن يسال ما لا يستحق له من منازل الأنبياء والمرسلين.
• أن يدعو الله في أن ييسر له محرماً، أو يعينه على فعل معصية.
• ويدخل في الاعتداء: الدعاء على نفسه أو أهله أو ماله بالشر.
• السجع المتكلف في الدعاء؛ خصوصاً في القنوت والبحث عن غرائب الأدعية والكلمات.
(1)
أخرجه أحمد (34/ 172 ط الرسالة) ح (20554)، وأبو داود (2/ 77 ت محيي الدين عبد الحميد) ح (1480)، وابن ماجه بهذا اللفظ (2/ 1271 ت عبد الباقي) ح (3864)، ومسند أبي يعلى (2/ 71 ت حسين أسد)، والحاكم ط العلمية (1/ 724) ح (1979) وصححه وأقره الذهبي، وذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود ط غراس (5/ 220) ح (1330) وقال:"حديث حسن"، وحسنه كذلك شعيب الأرناؤوط في تعليقه على سنن أبي داود (2/ 604 ت الأرنؤوط) ح (1480).
(2)
ينظر: الاعتداء في الدعاء (47 و ما بعدها) والكتاب رسالة علمية متخصصة في هذا الأمر، فقه الأدعية والأذكار (2/ 68 - 78).
• الإطالة المملة في دعاء القنوت والتي تشق على الناس وتثقل عبادتهم فيؤمّنون وقلوبهم قد كلت وسئمت، وهذا من فتنة الناس عن العبادة وتثقيلها عليهم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على معاذ إطالة قراءة القرآن في الصلاة فكيف بإطالة غيره.
• أن يتحرى بدعائه أماكن ليس للدعاء فيها مزية بدليل شرعي، كمن يتحرى بدعائه عند القبور أو عند غار حراء، أو غار ثور، أو عند الشاخص الذي على جبل عرفة.
• الدعاء الجماعي دبر الصلوات.
• تخصيص أدعية خاصة لكل شوط في الطواف والسعي.
19 - أن يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أو بعمل صالح قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح حي حاضر.
ومن آداب الدعاء العظيمة التوسل إلى الله بين يدي دعائه بما شرعه الله من التوسل إليه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أو بعمل صالح قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح حي حاضر، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، والوسيلة القربة والتقرب إليه بما يحبه، يقول السعدي رحمه الله: " ثم أخبر أيضاً أن الذين يعبدونهم من دون الله في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله وابتغاء الوسيلة إليه فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} من الأنبياء والصالحين والملائكة {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي: يتنافسون في القرب من ربهم ويبذلون ما يقدرون عليه من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى وإلى رحمته، ويخافون عذابه فيجتنبون كل ما يوصل إلى العذاب.
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} أي: هو الذي ينبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه.
وهذه الأمور الثلاثة الخوف والرجاء والمحبة التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده هي الأصل والمادة في كل خير.
فمن تمت له تمت له أموره وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات وأحاطت به الشرور.
وعلامة المحبة ما ذكره الله أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى الله وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلها لله والنصح فيها وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها، فمن زعم أنه يحب الله بغير ذلك فهو كاذب"
(1)
.
و
أنواع التوسل المشروع
ثلاثة
(2)
:
النوع الأول: التوسّل في الدعاء باسم من أسماء اللَّه تعالى،
أو صفة من صفاته، كأن يقول الداعي في دعائه: اللَّهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، أن تعافيني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني، وتغفر لي؛ ولهذا قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، ومن دعاء سليمان عليه الصلاة والسلام ما قال اللَّه تعالى:{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
وعن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه أن رسول صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول:"اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ: " قَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِ اللهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ"
(3)
.
النوع الثاني: التوسل إلى اللَّه تعالى بعملٍ صالح قام به الداعي نفسه،
كأن يقول المسلم: اللَّهم بإيماني بك، أو محبتي لك، أو اتباعي لرسولك أن تغفر لي.
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص 461).
(2)
ينظر: شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة (ص 40 - 44).
(3)
أخرجه أحمد (38/ 64 ط الرسالة) ح (22965)، وأبو داود (2/ 79 ت محيي الدين عبد الحميد) ح (1493)، وابن ماجه (2/ 1267 ت عبد الباقي) ح (3857)، والمستدرك على الصحيحين للحاكم - ط العلمية (1/ 683) ح (1858) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 280) ح (1640)، وصححه إسناده محقق المسند عند ح (22965).
أو يقول: اللَّهم إني أسألك بمحبتي لمحمد صلى الله عليه وسلم، وإيماني به أن تفرج عني، ومن ذلك أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بال، فيه خوفه من اللَّه سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسَّل به إلى اللَّه في دعائه؛ ليكون أرجى لقبوله وإجابته ويدل على مشروعية ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16].
وقوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].
ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار؛ فإن كلاً منهم ذكر عملاً صالحاً تقرب به إلى اللَّه ابتغاء وجهه سبحانه، فتوسل بعمله الصالح، فاستجاب اللَّه له، فكان كل واحد يقول بعد ذكر عمله الصالح:" .. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ .. "، وقد استجاب الله دعاءهم بسبب توسلهم بعملهم الصالح، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون من الغار، ولفظه عند البخاري
(1)
يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي، حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي
(1)
صحيح البخاري (3/ 91 ط السلطانية) ح (2272).
فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ أَدِّي إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ، مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ».
النوع الثالث: التوسّل إلى اللَّه تعالى بدعاء الرجل الصالح الحي الحاضر:
كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحلّ به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب اللَّه تبارك وتعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى اللَّه تعالى، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح، والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه.
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَبَعْدَ الْغَدِ، وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ، أَوْ قَالَ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا. فَمَا يُشِيرُ
بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ»
(1)
.
ومن ذلك سؤال أبي هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لأمه بالهداية إلى الإسلام، فدعا لها صلى الله عليه وسلم، فهداها اللَّه تعالى
(2)
.
ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطلب من العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم اللَّه عز وجل أن يغيثهم، فيغيثهم سبحانه
(3)
.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: " .. يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ .. "
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2/ 12 ط السلطانية) ح (933)، ومسلم (3/ 25 ط التركية) ح (897).
(2)
(3)
أخرجه البخاري (2/ 27 ط السلطانية) ح (1010).
(4)
أخرجه مسلم (7/ 189 ط التركية) ح (2542).
وما عدا ذلك فهو
توسل غير مشروع،
وله أمثلة كثيرة منها:
"الوجه الأول: التوسل إلى الله تعالى بذات وشخص المتوسل به.
كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان
- ولا يعني إلا ذاته وشخصه - أن تقضي حاجتي.
الوجه الثاني: التوسل إلى الله تعالى بجاه أو حقه أو حرمته أو بركته
كأن يقول المتوسل:
اللهم إني أتوسل إليك بجاه فلان عندك أو بحقه عليك، أو بحرمته، أو
بركته أن تقضي حاجتي.
الوجه الثالث: الإقسام على الله بالمتوسل به
كأن يقول:
اللهم أقسم عليك بفلان أن تقضي لي حاجتي.
وقد أجاز المستحلون للتوسل الممنوع كل هذه الأوجه الثلاثة، والحقيقة أنها جميعاً باطلة وفاسدة ومخالفة لأصول الدين ونصوصه.
وإليك البيان:
أخي القارئ الكريم: لا يستطيع المستحلون للتوسل بهذه الأوجه الثلاثة أن ينكروا بأنهم يستحلونها ويدعون الناس إلى التوسل بها بل ويقولون: إنها من القربات التي يتقبل الله بها الدعاء ويستجيبه.
بينما نقول نحن: بأنها باطلة ومنعها الشرع ولم يأذن بها إذن فإنه توسل ممنوع، فلا يجوز لأحد أن يعمل به؟ لا شك أننا قد تنازعنا في هذا الأمر واختلفنا فيه ولسنا أول من اختلف فقد اختلف من قبلنا فليس بدعاً أن نختلف وليس غريباً أن نتنازع، فما دامت المفاهيم مختلفة لا بد أن يقع الاختلاف فهذا مما قدره الله بين عباده، فكما أنه جل جلاله قدر وقوع الخلاف، فكذلك قد قدر سبحانه الوفاق وأوصانا عز وجل إن اختلفنا أن نحتكم إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقد قال عز من قائل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]،
فأكرم وأنعم وأعظم بهذا الحكم العدل والطرفان المتنازعان راضيان بحكمه وإطاعته وتنفيذه {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فما دام الخصمان راضيين بالحكم ونازلين على ما سيقرره ويحكم به ويطيعان الحكم وينفذانه، فليتقدم إذن الطرفان المتنازعان أمام الحكم العدل وليدل كل منهما بحجته وبرهانه.
أما نحن فقد سبق أن بينا في شرح التوسل المشروع ما ذكرناه ودللناه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأعمال السلف الصالح من الصحابة والقرون الخيرة على مشروعية ذلك التوسل وحض الشارع الحكيم عليه وعلى العمل به والتقرب إلى الله تعالى على أساسه لم نجد بين طيات الوحيين الأزهرين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكراً للتوسل الممنوع الذي يدعي الخصم حله وعده مشروعاً أيضاً، فلو كان مشروعاً حقيقة لذكره الشارع في زمرة ما ذكره وحض كذلك الناس عليه وليس معقولاً أن يهمله الله تعالى ولا يبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعمل به الصحابة والقرون الخيرة أيضلّ عنه صحابة رسول الله، ويهتدون هم إليه؟
إذن فعدم وجوده لا في كتاب ولا سنة دليل على عدم مشروعيته، وإذا لم تثبت مشروعيته فهو إذن ليس مشروعاً وبدهيّ إذا لم يكن مشروعاً أن يكون ممنوعاً وحراماً.
هذا دليل عام يشمل الأوجه الثلاثة للتوسل الممنوع على عدم مشروعيتها .. "
(1)
.
20 - أن يكون المطعم، والمشرب، والملبس من حلال.
ويعتبر هذا من أعظم موانع استجابة الدعاء كما نص على ذلك الحديث الذي سبق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(1)
التوصل إلى حقيقة التوسل (ص 186 - 185).
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».
21 - لا يدعو بإثم أو قطيعة رحم.
وقد سبق الحديث في هذا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» .
22 - أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ومن موانع استجابة الدعوة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلَا يُسْتَجَابَ لَكُمْ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (38/ 352 ط الرسالة) ح (23327)، والترمذي (4/ 468 ت شاكر) ح (2169) وقال:"هذا حديث حسن"، وابن ماجه واللفظ له (2/ 1327 ت عبد الباقي) ح (4004)، وحسنه الألباني في تخريجه لأحاديث سنن ابن ماجه برقم (4004)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 139 ت الأرنؤوط) ح (4004):" حسن لغيره ".
المسألة السادسة: طلب العلم الشرعي وصلته بالذكر.
ومن أعظم مجالس الذكر، مجالس طلب العلم الشرعي.
وهنا أحب أن انقل كلاماً متيناً لابن رجب رحمه في رسالته الموسومة" ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء" مع شيء من الاختصار والتصرف
(1)
، وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا» قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ»
(2)
.
وكان ابن مسعود إذا ذكر هذا الكلام يقول: "أما إني لا أعني القصاص
(3)
ولكن حلق الفقه".
وروي عن أنس معناه أيضاً.
وقال عطاء الخراساني: "مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا"
(4)
.
وقال يحيى بن أبي كثير: "درس الفقه صلاة"
(5)
.
(1)
ينظر: ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء (ص 21 - 37).
(2)
أخرجه أحمد (19/ 498 ط الرسالة) ح (12523)، والترمذي (5/ 532 ت شاكر) ح (3510) وقال حديث حسن غريب، وحسنه الألباني وذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 130) ح (2562) وذهب أكثر المحققين إلى تضعيفه، وفي لفظ كذلك فيه ضعف وهو عند الترمذي (5/ 532 ت شاكر) ح (3509) " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: «المَسَاجِدُ» ، قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» وقال الترمذي عنه مشيراً إلى ضعفه: " هذا حديث غريب"، وفي بعض طرقه الضعيفة وهو في المعجم الكبير للطبراني (11/ 95) ح (11158)«إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَارْتَعُوا» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ:«مَجَالِسُ الْعِلْمِ» ، والله أعلم.
(3)
لفظ يطلقه السلف على الوعاظ.
(4)
هذا اللفظ في تاريخ دمشق (40/ 432)، والجملة الأولى:"مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام " ذكرها أبو نعيم عن عطاء الخرساني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - ط السعادة (5/ 195)، وهي كذلك عنه في سير أعلام النبلاء - ط الرسالة (6/ 142).
(5)
أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه بنحوه (1/ 103) يَقُولُ: «تَعْلِيمُ الْفِقْهِ صَلَاةٌ، وَدِرَاسَةُ الْقُرْآنِ صَلَاةٌ» .
وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب، فقال لهم: قولوا: سبحان الله والحمد لله، فغضب أبو السوار، وقال:"ويحك، في أي شيء كنا إذاً"
(1)
والمراد بهذا أن مجالس الذكر لا تختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله بالتسبيح والتكبير والتحميد ونحوه؛ بل تشمل ما ذكر فيه أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وما يحبه ويرضاه، فإنه ربما كان هذا الذكر أنفع من ذلك؛ لأن معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم، بحسب ما يتعلق به في ذلك، وأما ذكر الله باللسان، فإن أكثره يكون تطوعاً، وقد يكون واجباً كالذكر في الصلوات المكتوبة.
وأما معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، وما يحبه ورضاه، وما يكرهه وينهى عنه فيجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلمه.
ولهذا روى: " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"
(2)
.
فإنه يجب على كل مسلم معرفة ما يحتاج إليه في دينه، كالطهارة والصلاة والصيام.
ويجب على من له مال معرفة ما يجب عليه في ماله من زكاة ونفقة، وحج وجهاد.
وكذلك يجب على كل من يبيع ويشتري أن يتعلم ما يحل ويحرم من البيوع.
كما قال عمر رضي الله عنه: "لا يبيع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين" خرجه الترمذي
(3)
.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل ما يجب عليه من طلب العلم؟ فقال: ما يقيم به الصلوات وأمر دينه من الصوم والزكاة، وذكر شرائع الإسلام. وقال: ينبغي له أن يتعلم ذلك.
(1)
أخرجه أحمد في الزهد (ص 257) رقم (1844).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1/ 81 ت عبد الباقي) ح (224)، وهو في مسند أبي يعلى (5/ 223 ت حسين أسد) ح (2837) وصححه الألباني في تحقيقه لسنن ابن ماجه ح (224) وفي صحيح الترغيب والترهيب (1/ 140) ح (72).
(3)
رقم (487).
وقال أيضاً: "الذي يجب على الإنسان من العلم ما لا بد له منه في صلاته وإقامة دينه"
(1)
.
واعلم أن علم الحلال والحرام علم شريف، ومنه ما تعلمه فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية.
وقد نص العلماء على أن تعلمه أفضل من نوافل العبادات، منهم أحمد وإسحاق.
ومن مجالس الذكر أيضاً: مجالس العلم التي يذكر فيها تفسير كتاب الله أو يروى فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن كانت رواية الحديث مع تفسير معانيه، فذلك أكمل وأفضل من مجرد رواية ألفاظه ويدخل في الفقه في الدين كل علم مستنبط من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان من علوم الإسلام التي هي الأعمال الظاهرة والأقوال، أو من علوم الإيمان التي هي الاعتقادات الباطنة، وأدلة ذلك وبراهينه المقررة في الكتاب والسنة، أو من علوم الإحسان التي هى علوم المراقبة والمشاهدة بالقلب، ويدخل في ذلك علم الخشية والمحبة والرجاء والإنابة، والصبر والرضا، وغير ذلك من المقامات.
وكل ذلك قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبرئيل له عنه: ديناً.
فالفقه فيه من الفقه في الدين، ومجالسه من أفضل مجالس الذكر التي هي من رياض الجنة، وهي أفضل من مجالس ذكر اسم الله بالتسبيح والتحميد والتكبير؛ لأنها دائرة بين فرض عين أو فرض كفاية، والذكر المجرد تطوع محض.
وروي عن أبي الدرداء قال: "مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة"
(2)
.
(1)
ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 104).
(2)
الفقيه والمتفقه - الخطيب البغدادي (1/ 102).
وعن أبي هريرة قال: "لأن أعلم باباً من العلم في أمر أو نهي أحب إلي من سبعين غزوة في سبيل الله عز وجل"
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها"
(2)
.
وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: "لمجلس أجلسه من عبد الله بن مسعود أوثق في نفسى من عمل سنة"
(3)
.
وعن الحسن قال: "لأن أتعلم باباً من العلم فأعلمه مسلما أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها أجعلها في سبيل الله عز وجل"
(4)
.
وعنه قال: "إن كان الرجل ليصيب الباب من العلم فيعمل به فيكون خيراً له من الدنيا وما فيها، لو كانت له فيجعلها في الآخرة"
(5)
.
وعنه قال: "مداد العلماء ودم الشهداء مجرى واحد"
(6)
.
وعنه: "ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب علم، لا حج، ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صدقة، ولا عتق، ولو كان العلم صورة لكانت صورته أحسن من صورة الشمس والقمر والنجوم والسماء والعرش".
(1)
أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 102).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 288 ط التأصيل الثانية) برقم (21543).
(3)
ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/ 153).
(4)
أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 102).
(5)
أخرجه الدارمي في مسنده - ت حسين أسد (1/ 383) برقم (397).
(6)
ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 150) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح رفعه بل هو من كلام الحسن رحمه الله.
قال الزهري: "تعلم سنة أفضل من عبادة مائتي سنة"
(1)
.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: "ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم"
(2)
.
قال الثوري: "لا نعلم شيئاً من الأعمال أفضل من طلب العلم والحديث لمن حسنت فيه نيته
(3)
. قيل له: وأي شيء النية فيه؟ قال: يريد الله والدار الآخرة".
وقال الشافعي: "طلب العلم أفضل من صلاة نافلة"
(4)
.
ورأى مالك بعض أصحابه يكتب العلم ثم تركه وقام يصلي، فقال: عجباً لك! ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي تركته
(5)
.
وسئل الإمام أحمد: أيما أحب إليك، أن أصلي بالليل تطوعاً، أو أجلس أنسخ العلم؟ قال: إذا كنت تنسخ ما تعلم أمر دينك فهو أحب إلي.
وقال أحمد أيضاً: "العلم لا يعدله شيء"
(6)
.
وقال المعافى بن عمران: "كتابة حديث واحد أحب إلي من قيام ليلة"
(7)
.
ومما يدل على تفضيل العلم على جميع النوافل أن العلم يجمع جميع فضائل الأعمال المتفرقة.
(1)
أورده ابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 6).
(2)
نسبه في المجموع شرح المهذب إلى الشافعي (1/ 20 ط المنيرية).
وفي تذكرة السامع والمتكلم نسبه إلى الثوري والشافعي (ص 12).
(3)
ينظر: مسند الدارمي - ت حسين أسد (1/ 352) رقم (335) وهو في جامع بيان العلم وفضله (1/ 123) برقم (119).
(4)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - ط السعادة (9/ 119).
(5)
ينظر: شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين (ص 54).
(6)
نسبوه في موسوعة أقوال الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث وعلله (4/ 389) لابن هانئ في مسائله.
(7)
أورده ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 120) برقم (112).
فإن العلم أفضل أنواع الذكر، كما سبق تقريره، وهو أيضا أفضل أنواع الجهاد.
وخرج الترمذي من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع"
(1)
.
انتهى المقصود من كلام ابن رجب رحمه الله نقلته بطوله لأهميته في هذا الباب
(2)
.
تنبيه مهم: وهنا ننبه على انحراف في بعض من ضل عن الصراط المستقيم، وذلك بكونهم يزهدون في العلم وأهله وينفرون اتباعهم عن الاقبال على العلم الشرعي وطلبه على يد العلماء
وذلك حتى لا ينكشف لاتباعهم ضلال مسلكهم، فإن العلم الشرعي نور ينقذ من سلك طريقه من الجهل والضلال"هذا وإن من عدم معرفة قدر أهل العلم وحفظ مكانتهم الإدعاء بأن علماء الأمة وفقهاء الملة وأهل الحل والعقد فيها لا يفقهون غير علم الحيض والنفاس، مما يترتب على ذلك الحط من شأنهم والتقليل من قدرهم، وصرف الناس عن الإفادة منهم، وهي مقالة فاسدة وكلمة خطيرة، نشأت قديماً عند أرباب البدع وأهل الأهواء، ولكل قوم وارث، وفي الغالب أن أهل هذه المقالة لا يسلم الواحد منهم من أحد توجهين:
- إما توجه صوفي، ينحى بهذه المقالة إلى الحط من قدر العلم والتنقيص من مكانته، ليخلص من ذلك إلى تفضيل العبادة والذكر عليه، وربما استشهد بعض هؤلاء على هذا بما يحكى عن رابعة العدوية أنها أتت ليلة بالقدس تصلي حتى الصباح، وإلى جانبها بيت فيه فقيه يكرر على باب الحيض إلى الصباح، فلما أصبحت رابعة قالت له: يا هذا وصل الواصلون إلى ربهم، وأنت مشتغل بحيض النساء؟
(3)
.
(1)
ح (2647) لكن الحديث ضعيف عند أهل العلم، والله أعلم.
ينظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (5/ 55) ح (2037).
(2)
ينظر: ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء (ص 21 - 37) مع بعض الاختصار، وقد بذلت الجهد في نسبة الأقوال لأصحابها، وبعضها لم أجده في مظانه فتركته بدون نسبه واكتفيت بذكر ابن رجب له.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 396).
ولهذا دأب هؤلاء على النهي عن العلم والتحذير منه وعده آفة من الآفات، كما يقول أحدهم:"آفة المريد ثلاث: التزوج، وكتابة الحديث، والأسفار".
- وإما توجه فكري ينحى بهذه المقالة إلى إقحام الناس في متاهات فكرية وتخرصات عقلية وظنون وأوهام، وهذا يكثر عند أهل الكلام الباطل كالمعتزلة وغيرهم.
روي عن إسماعيل بن علية، قال حدثني اليسع، قال: تكلم واصل ابن عطاء يوماً، فقال عمرو بن عبيد:"ألا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيض ملقاة"
(1)
.
وروي أن زعيماً من زعماء أهل البدع كان يريد تفضيل الكلام على الفقه فكان يقول: "إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة". ذكر هذا والذي قبله الشاطبي في كتابه الاعتصام، ثم قال:"هذا كلام هؤلاء الزائغين قاتلهم الله"
(2)
"
(3)
.
ومن أقوال أهل التصوف التي تزهد في طلب العلم:
"وكان الجنيد يقول: أحبّ للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بهذه الثلاث وإلا تغيّر حاله التكسب وطلب الحديث والتزوّج، وقال: أحبّ للصوفيّ أن لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمّه"
(4)
.
ورووا عن بشر بن الحارث الحافي أن سبب تركه طلب الحديث أنه سمع من ينصحه بترك الإكثار من طلب الحديث؛ لأنه يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟! فلما سمعه منه قال: انتهينا انتهينا، ثم ترك الرحلة في طلب الحديث، وأقبل على العبادة
(5)
.
(1)
ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 182).
(2)
الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني (3/ 177).
(3)
فقه الأدعية والأذكار (1/ 107 - 108).
(4)
قوت القلوب (1/ 443).
(5)
ينظر: كتاب دراسات في التصوف (ص 131).
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.
المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.
لقد اعتنى القرآن العظيم والسنة الشريفة بمسألة عمل القلب وأثره اعتناء كبيراً، فقد جاءت آيات كثيرة في إثبات أثر عمل القلب وتأثره بما يعمل صاحبه، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن قلوب المؤمنين يصيبها الوجل، وتطمئن بذكره، وأنها تخشع وتخضع لأمره، وغير ذلك كثير، وإذا تقرر هذا في حق المؤمنين، فإن القرآن الكريم قد ذكر في مقابل ذلك حال الكفار والمنافقين وتأثر قلوبهم بما يعملون، وذكر سبحانه وتعالى كذلك أثر أمراض قلوبهم عليهم؛ من الختم والطبع، وما أصابها من مرض النفاق، والزيغ عن الحق، والقسوة
…
وقد جاءت آيات كثيرة في بيان ذلك. وكذلك جاءت أحاديث كثيرة تثبت أثر عمل القلب، ودونك ملخص لإثبات ذلك:
أولاً: أمثلة على إثبات أثر عمل القلب على المؤمن مع ذكر شواهدها من القرآن العظيم.
وجل القلب وخوفه من الله، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2]. وفيها إثبات أثر ذكر الله على القلب بحصول الوَجَل، ومعناه: الخوف من الله
(1)
، ولا شك أن الذكر لا يحدث أثره في حصول وجل القلب من الله تعالى إلا إذا تواطأ القلب مع الحواس.
طمأنينة القلب، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 425).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (16/ 432).
ثانياً: أمثلة على إثبات أثر مرض القلب على صاحبه وردت في آيات الكتاب العزيز.
عقوبة الله لأصحاب القلوب التي كفرت بالله بالختم عليها، وزيغ القلوب عن الحق، فقال تعالى عنهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].
قال البغوي رحمه الله في تفسيره لمعنى الختم على القلوب: "فقال: {خَتَمَ اللَّهُ}: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيرًا ولا تفهمه"
(1)
.
وهذا الختم على القلوب عقوبة لهم بسبب منهم، قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
ومن آثار مرض النفاق على القلوب تقييدها عن الخير بما يحدث لها من التردد والتذبذب والشك والحيرة والكسل عن الطاعات وكرهها، قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. والريب هو الشك، وهو من أثر أمراض النفاق على القلوب، فيتولد منه أثره على القلب بالتردد والتذبذب والكسل عن الطاعة وكرهها، فقال تعالى في بيان أثر النفاق على القلب: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
(1)
تفسير البغوي (1/ 64 - 65).
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143].
وقال تعالى عن المنافقين: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
وقال تعالى في بيان أثر مرض النفاق على القلب وأن الله سبحانه وتعالى لا يمكِّن صاحبه من العمل، بل يقعده عنه عقوبةً له على ما في قلبه من مرض:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
وإذا وجد العبد أنه يثبَّط عن الطاعات، ويحال بينه وبينها، فليفتِّش عن مرض في قلبه.
أثر الذنوب على القلب في تغطيته وحجبه عن رؤية الحق، كما في قول الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14].
أثبت الله تعالى أن الذنوب تغطي على القلوب، فتحجبها عن رؤية الحق فلا تقبله، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ
(1)
فِي قَلْبِهِ
(1)
أي نُقِطَ نقطة في قلبه.
ينظر: الصحاح (1/ 269)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114) لابن الأثير، مادة (نكت).
نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ
(1)
قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]»
(2)
.
فإذا غطت الذنوب القلب عمي عن رؤية الحق وانطمست بصيرته، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ثالثاً: وقد ورد في السنة ما يبين مكانة عمل القلب وأثره على صاحبه،
ودونك إشارة لذلك:
أثر عمل القلب على صلاح الجسد أو فساده، ويدل عليه ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»
(3)
.
وفي الحديث إشارة -كما يقول ابن رجب رحمه الله: "إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍ للشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات.
(1)
وفي أكثر روايات الحديث: "صُقِلَ" بالصاد، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.
ينظر: الصحاح (5/ 1744) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1622)، تحفة الأحوذي (9/ 178) للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.
(2)
أخرجه أحمد (13/ 333) ح (7952)، والترمذي واللفظ له (5/ 434) ح (3334) وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4244)، وابن حبان في صحيحه (3/ 210) ح (930)، الحاكم في مستدركه (2/ 562) ح (3908) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 271) ح (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (13/ 334) ح (7952):"إسناده قوي".
(3)
أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599).
وإن كان القلب فاسدًا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب"
(1)
.
ارتباط التقوى بعمل القلب، يقول صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. الحديث
(2)
وذكر النووي في شرحه للحديث أن التقوى إنما تحصل بما في القلب من الأعمال، فيقول رحمه الله:"إن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته"
(3)
.
في بيان أثر مرض الكبر على القلب، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
(4)
.
وفي الحديث دليل على أثر آفة الكبر على من تلبس بها، وهو من أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم ما يصد القلوب عن الهدى.
(1)
جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 210).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 1986) ح (2564).
(3)
شرح النووي على مسلم (16/ 121).
(4)
أخرجه مسلم (1/ 93) ح (91).
المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.
وتتضح الدلالة على أهمية عمل القلب من خلال الأمور الآتية:
أولاً: كثرة ذكرها في القرآن العظيم، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك.
ثانياً: ويكفي في الدلالة على عظيم مكانة عمل القلب في السنة ماورد في الحديثين الآتيين:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
(1)
، فالقلوب وأعمالها هي محل نظر الرب سبحانه وتعالى،.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»
(2)
، فصلاح الجوارح مرتبط بصلاح القلب، وهذا له أثره الكبير على خشوع المؤمن في صلاته.
ثالثاً: تحدث ابن القيم عن أهمية عمل القلب، فقال رحمه الله: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح
…
ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان"
(3)
.
وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال القلوب، فلا تتم إلا بها
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 1987) ح (2564).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599).
(3)
بدائع الفوائد (3/ 192 - 193).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 184 - 185)، بدائع الفوائد (3/ 187 - 188).
المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات، ونجملها في الآتي:
قبول الله للعمل، وذلك يكون بشرطين:
الأول: مجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى، مما يثمر الحرص على سلامة المقاصد في العبادات من العجب والرياء والسمعة.
الثاني: مجاهدة النفس على اتباع الهدي النبوي في أداء العبادة والحرص على سلامتها من البدع.
طهارة القلب من التعلق بغير الله يثمر حضور القلب في العبادة وعدم تشتته في أودية الدنيا، ولايؤدي إلى ضيقه بالعبادة وثقلها عليه؛ لأنه اذا تعلق القلب بالله وحده لا شريك له صفا له قلبه وطهر وصار همه الآخرة، وسلم من التشتت والفتنة التي تضرب بها القلوب المتعلقة بغير الله، فتثبطها عن طاعة الله، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»
(1)
.
الحرص على إتقان العبادة وإتمامها، والاجتهاد في الوصول إلى مقام الإحسان في العبادات، كما قال صلى الله عليه وسلم عن مقام الإحسان:«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 642) ح (2465)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 266) ح (11690)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (2/ 633) ح (949)، وصححه في صحيح الجامع (2/ 1109) ح (6505).
وأخرجه ابن ماجه (2/ 1375) ح (4105) بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 634) ح (950)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 227) ح (4105).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 19) ح (50)، ومسلم (1/ 36) ح (8).
وهذه المرتبة العظيمة لا تحصل إلا إذا سلم القلب لله تعالى، واستحضر عظمة الله ومراقبته له وعلمه واطلاعه عليه، وجاهد العبد نفسه على إصلاح قلبه، وتنقيته من شوائب العجب والرياء والكبر والحسد، ومن بقية الآفات.
المبحث الثاني: من أعمال القلوب التي لها ارتباط وثيق بعبادة الذكر والدعاء، وفيه تمهيد وعدة مطالب.
التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب وعبادة الذكر والدعاء.
الذكر والدعاء من العبادات العظيمة التي لها ارتباط وثيق وعميق بعمل القلب كبقية العبادات، وذلك لأنه لعمل القلب أثر عظيم مبارك على هذه العبادة في شدة الاقبال عليها والاستمرار وعدم الانقطاع، فحين يرتبط اللسان مع القلب ويتصل كل منهما بالآخر عند الذكر والدعاء يكون لهذه العبادة لذة عظيمة وأثر مبارك على حياة العبد في الدنيا والآخرة، فإذا قوي الإخلاص والمتابعة ورزق العبد محبة الله والخوف والخشية والطمع فيما عنده، وتمكن اليقين من القلب وظهر أثره على العبد، فتجده يسارع ويسابق إلى كثرة ذكر الله وكثرة الدعاء والتضرع الخاشع، ودونك تفصيل لبعض أعمال القلب المرتبطة بعبادة الذكر والدعاء، والله الموفق والمعين.
المطلب الأول: الإخلاص والمتابعة.
المسألة الأولى: الإخلاص وأثره على عبادة الذكر والدعاء.
أولاً: تعريف الإخلاص:
لقد عرف الإخلاص بتعاريف كثيرة متقاربة، ومن أدقها تعريف الغزالي، فيقول رحمه الله عن الإخلاص بأنه:"تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب"
(1)
.
وعرفه ابن القيم رحمه الله بمجموعة من التعريفات من أدقها: "إفراد الحق بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله"
(2)
.
(1)
إحياء علوم الدين (4/ 379).
(2)
مدارج السالكين (2/ 91 - 92).
ثانياً: من أدلة الكتاب والسنة على الإخلاص:
لقد جاءت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة على هذا العمل القلبي العظيم، ومنها على سبيل المثال:
قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية: "أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى، وما جاءوا به عنه من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك"
(1)
.
ويقول السعدي رحمه الله: "أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه"
(2)
.
ومن الأدلة على الإخلاص قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، والإخلاص معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة، حقوق الله وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 403).
(2)
تفسير السعدي (286).
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين يكرهون الإخلاص لله وحده غاية الكراهة، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] "
(1)
.
ومن الأدلة على وجوب إخلاص النية لله تعالى في جميع العبادات الظاهرة والباطنة
(2)
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
ومما ورد في السنة عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
(3)
.
قال ابن رجب رحمه الله: "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:
أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؟ وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين"
(4)
.
(1)
تفسير السعدي (734).
(2)
ينظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 580)، تفسير السعدي (931).
(3)
أخرجه البخاري (8/ 140) ح (6689)، ومسلم (3/ 1515) ح (1907).
(4)
جامع العلوم والحكم (1/ 65 - 66).
ومما يدل على أن الإخلاص شرط لقبول العمل حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»
(1)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أَوْ: «نَفْسِهِ»
(2)
.
ودل الحديث على أمور، منها:
- أن الإخلاص في كلمة التوحيد من أعظم أسباب سعادة المؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
(3)
.
- وفي عون المعبود: "وفي قوله في حديث أبي هريرة: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله» سر من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا كان أحرى بالشفاعة"
(4)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ
(1)
أخرجه النسائي (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".
(2)
أخرجه البخاري كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (1/ 31) ح (99).
(3)
ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 194).
(4)
عون المعبود (13/ 56).
فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»
(1)
.
والحديث من أعظم الزواجر عن الرياء والسمعة التي هي من نواقض الإخلاص.
ثالثاً: أثر الإخلاص على عبادة الذكر والدعاء.
النية الخالصة لله تعالى من أعظم أسباب قبول العمل إذا كان معها موافقة الهدي النبوي، الذي سيأتي الكلام عليه.
قوة العبد في ذكره لله وفي دعائه، وإعانة الله له، وتوفيقه.
حذر العبد من أسباب فساد عبادته وردها عليه.
التلذذ بعبادة الذكر والدعاء، وإقبال القلب عليها، والاستمرار وعدم الانقطاع.
(1)
أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).
المسألة الثانية: المتابعة وأثرها على عبادة الذكر والدعاء.
أولاً: معنى المتابعة.
ومعنى المتابعة والاتباع- وهما بمعنى واحد-: هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه، واتباع سنته في القول والفعل بدون منازعة ولا ممانعة ولا مدافعة برأي أو عقل أو استحسان
(1)
.
وقد جاءت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة في الدلالة على هذا المعنى، ومنها على سبيل المثال:
قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما} [النساء: 65].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].
وقال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].
أما من السنة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ،
وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»
(2)
.
(1)
ينظر: ذكر الله تعالى بين الاتباع والابتداع (23).
(2)
أخرجه البخاري (9/ 92 ط السلطانية) ح (7280).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
(1)
.
وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»
(2)
.
ثانياً: الذكر من أعظم العبادات.
الذكر والدعاء من أعظم العبادات وقد جاءت النصوص الكثيرة في إثبات ذلك في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الكلام على ذلك في أول الكتاب بما يغني عن إعادته هنا.
ثالثاً: أثر المتابعة على عبادة الذكر.
- الحرص على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه واتباع سنته في كل العبادات، ومنها الذكر والدعاء، وهذا يوصل إلى أمر مهم عظيم وهو حرص المسلم الشديد على عدم الوقوع في البدع والمحدثات في عبادة الذكر والدعاء.
- ظهور آثار محبة الله ورسوله على العبد، وذلك بحرصه العظيم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل عباداته ومنها الذكر والدعاء، فأعظم علامة دالة على صدق المحبة لله اتباع رسوله كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
- قبول العمل عند الله تعالى إذا تمت متابعة النبي صلى الله عليه وسلم مع إخلاص العبد لربه.
- تحقيق التوحيد في عبادة الذكر والدعاء بصفائه ونقائه من شوائب الشرك.
(1)
أخرجه مسلم (3/ 1343) ح (1718).
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1343) ح (1718).
المطلب الثاني: المحبة وأثرها على عبادة الذكر والدعاء.
أولاً: تعريفها:
عرفها النووي رحمه الله بقوله: "المحبة: مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه، فيحب ما أحب ويكره ما كره"
(1)
.
وخلاصة القول كما قال ابن القيم رحمه الله: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.
وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة"
(2)
.
ثانياً: من أدلة الكتاب والسنة على المحبة:
ذكر سبحانه وتعالى أنه يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين.
قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
والآيات في ذلك يصعب حصرها لكثرتها.
وذكر أيضًا سبحانه وتعالى أنه لا يحب الكافرين، ولا يحب المعتدين، ولا يحب المسرفين، والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقوله تعالى وتبارك:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
(1)
شرح النووي على مسلم (2/ 14).
(2)
مدارج السالكين (3/ 11).
وجعل سبحانه وتعالى علامة على محبته اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
وذكر سبحانه وتعالى أن المؤمنين أشد حبًّا لله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وقال سبحانه وتعالى عن نفسه وعن عباده الصالحين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
(1)
.
دل الحديث على أن محبة الله ورسوله من أعظم أسباب حلاوة الإيمان، وهي جنة معجلة لمن حقق أسبابها.
ثالثاً: من أقوال العلماء في المحبة:
وقال ابن القيم رحمه الله: "المحبّة هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذّة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلّا بها.
وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمّه، واللّسان إذا فقد نطقه، بل فساد القلب إذا خلا من محبّة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الرّوح، وهذا الأمر لا يصدّق به إلّا من فيه حياة"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (9/ 20) ح (6941)، ومسلم (1/ 66) ح (43).
(2)
الجواب الكافي (1/ 545 - 546).
وقال ابن قدامة رحمه الله: "علامة المحبّة كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التّنعّم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كلّ ما ينقض عليه الخلوة، ومتى غلب الحبّ والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرّة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحبّ والأنس قلبه"
(1)
.
رابعاً: أثر المحبة على عبادة الذكر والدعاء.
من أعظم العلامات الدالة على صدق محبة العبد لربه كثرة ذكره ودعائه، وقال تعالى عن المؤمنين:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، ثم ذكر حالهم -مع ذكره ودعائه لشدة محبتهم له- بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
وقال تعالى عنهم في كثرة ذكرهم لله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35].
تلذذ القلب بكثرة تلاوة كلام الله تعالى، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:"لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله"
(2)
، وقال بعض من ذاقوا ذلك:"كيف يشبعون من كلام محبوبهم وهو غاية مطلوبهم"
(3)
.
حب مناجاة الله بكثرة ذكره ودعائه والخلوة به، والقيام بين يديه في ظلمة الليل، والتلذذ بذلك.
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: " أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء"
(4)
.
كلما قويت محبة العبد لربه ذاق حلاوة الطاعات من ذكر وصلاة وتلاوة ودعاء، وإذا ضعفت أغلق على قلبه الباب وحيل بينه وبين لذة الطاعة، كما يقول الحسن البصري رحمه الله: «تفقدوا
(1)
مختصر منهاج القاصدين (351).
(2)
ينظر: حلية الأولياء (7/ 272، 300).
(3)
نقله ابن القيم عن بعض العارفين، ينظر: مدارج السالكين (3/ 291).
(4)
تاريخ دمشق لابن عساكر (34/ 146).
الحلاوة في الصلاة وفي القرآن وفي الذكر، فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، وإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق»
(1)
.
وإذا أغلق الباب بالذنوب يحتاج إلى فتح بكثرة التوبة والاستغفار، والله المستعان.
إن المحب الصادق يرى آثار محبته لله على حياته، فيفرح بمحبوبه لما يراه ويشعر به في قلبه من توفيق وإعانة على عبادة ربه من ذكر ودعاء وقيام وتلاوة .. وغير ذلك من ألوان الطاعات التي يجد نفسه تسارع إليها وتسابق توفيقاً من الله وإعانة، ويجد كذلك حفظ الله له وحمايته من كل المضار والمكاره تحفه من كل جانب، كما يقول ابن القيم رحمه الله:"المحبّ الصّادق لا بدّ أن يقارنه أحيانًا فرح بمحبوبه، ويشتدّ فرحه به، ويرى مواقع لطفه به، وبرّه به، وإحسانه إليه، وحسن دفاعه عنه، والتّلطّف في إيصاله المنافع والمسارّ والمبارّ إليه بكلّ طريق، ودفع المضارّ والمكاره عنه بكلّ طريق"
(2)
.
(1)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - ط السعادة (10/ 146).
(2)
مدارج السالكين (2/ 339 - 340).
المطلب الثالث: الخوف والخشية والرجاء وأثرها على عبادة الذكر والدعاء، وفيه مسألتان.
المسألة الأولى: الخوف والخشية.
أولاً: التعريف:
عرفهما الراغب رحمه الله بقوله: "الخَوْف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أنّ الرّجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضادّ الخوف الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية"
(1)
. أما الخشية فقال عنها: "الخَشْيَة: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] "
(2)
.
وقال الجرجاني رحمه الله: "الخوف: توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب"
(3)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله عن معنى الخشية: "والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فهي خوف مقرون بمعرفة"
(4)
.
(1)
المفردات (303).
(2)
المفردات (283).
(3)
التعريفات (101).
(4)
مدارج السالكين (1/ 508).
ثانياً: من أدلة الكتاب والسنة على الخوف والخشية:
تنوعت نصوص القرآن الكريم في ذكر الخوف والخشية، فمن ذلك:
أمر الله به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]،، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
وتارة يجعل الله الخوف والخشية من صفات أوليائه وعباده المتقين، كما في قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21].
ويذكر الله سبحانه وتعالى أنه بسبب خوفهم منه أدخلهم الجنة كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وكما في قوله تعالى أيضًا:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
وتارة يذكر أن العاقبة في الدنيا لهم كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» وذكرهم، ومنهم:«رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له (1/ 133) ح (660)، ومسلم (2/ 715) ح (1031).
ومن أعظم ما يحجز العبد عن المعصية خوفه من الله؛ لما يترتب على ذلك من العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].
ثالثاً: من أقوال العلماء في الخوف والخشية:
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وقال:"يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل". وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضي الله عنهم
(1)
.
وقال عمر رضي الله عنه: "لو نادى منادي من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو"
(2)
.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: "يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكن شيئًا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسيًا منسيًّا"
(3)
.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: ضع رأسي، قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي"
(4)
.
وقال المسور بن مخرمة رضي الله عنه: لما طعن عمر قال: "لو أن لي طلاع الأرض
(5)
ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه"
(6)
.
(1)
ينظر هذه الآثار في: حلية الأولياء (1/ 33، 2/ 236)، إحياء علوم الدين (3/ 111)، مختصر منهاج القاصدين (313)، البداية والنهاية (1/ 95).
(2)
حلية الأولياء (1/ 53).
(3)
شرح السنة (14/ 373)، وينظر أيضًا: سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون/ 83).
(4)
حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).
(5)
قال الأصمعي: "طلاع الأرض: ملؤها". نقله عنه الجوهري في الصحاح (3/ 1254).
(6)
حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).
وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعدِ سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي"
(1)
.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار"
(2)
.
وقال الحسن أيضًا: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"
(3)
.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب"
(4)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط"
(5)
.
قال أبو عثمان رحمه الله: "صِدقُ الخوف هو: الورع عن الآثام ظاهرًا وباطنًا"
(6)
.
ويقول ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله"
(7)
.
(1)
حلية الأولياء (1/ 383)، شرح السنة (14/ 373).
(2)
البخاري (8/ 68)، والترمذي واللفظ له (4/ 658).
(3)
شرح السنة (14/ 374).
(4)
إحياء علوم الدين (4/ 162)، مدارج السالكين (1/ 509).
(5)
مدارج السالكين (1/ 510).
(6)
مدارج السالكين (1/ 510).
(7)
مدارج السالكين (1/ 511).
المسألة الثانية: الرجاء.
أولاً: تعريفه:
عرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: "هو النظر إلى سعة رحمة الله"
(1)
.
إذن، الرجاء الطمع في رحمة الله والنظر إلى سعتها.
ثانياً: من أدلة الكتاب والسنة على الرجاء:
أخبر سبحانه وتعالى عن سعة رحمته فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا من أسرف على نفسه بالمعاصي: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
دلت الآيات على سعة رحمة الله تعالى، مما يفتح باب الرجاء للعبد، ويحدوه إلى التوبة من ذنوبه، وعليه أن يحذر من اليأس والقنوط من رحمة الله.
وعن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ
(2)
خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»
(3)
.
(1)
مدارج السالكين (2/ 37).
(2)
"أي: بما يقارب ملأها" النهاية في غريب الحديث (4/ 34) مادة (قرب).
(3)
أخرجه أحمد (35/ 375) ح (21472) عن أبي ذر رضي الله عنه، والترمذي واللفظ له (5/ 548) ح (3540) من حديث أنس رضي الله عنه وقال:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والحاكم بلفظ مقارب عن أبي ذر رضي الله عنه (4/ 269) ح (7605) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 250) ح (127)، وحسنه محقق المسند (35/ 375) ح (21472).
وعنه رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ- لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللهَ لَغَفَرَ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ-، لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ»
(1)
.
دل الحديثان على رحمة الله الواسعة بعباده المذنبين إذا أقبلوا عليه تائبين مستغفرين.
ثالثاً: من أقوال العلماء في الرجاء:
قال الغزالي رحمه الله: "الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود"
(2)
.
وقال ابن القيم عليه رحمة الله: "الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير"
(3)
.
"وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه"
(4)
.
وقال شاه الكرماني رحمه الله: "علامة صحة الرجاء حسن الطاعة"
(5)
.
وقال أبو علي الروذباري عليه رحمة الله: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت"
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (21/ 146) ح (13493)، ومسند أبي يعلى (7/ 226) ح (4226)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 215) ح (17624):"رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجاله ثقات"، وقال محقق المسند (21/ 146) ح (13493):"صحيح لغيره".
(2)
إحياء علوم الدين (4/ 142).
(3)
مدارج السالكين (2/ 36).
(4)
مدارج السالكين (2/ 36).
(5)
مدارج السالكين (2/ 37).
(6)
مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (17/ 89) مدارج السالكين (2/ 37).
المسألة الثالثة: أثر الخوف والخشية والرجاء على عبادة الذكر والدعاء.
المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إلى الطاعات وعلى رأس ذلك كثرة ذكرهم ودعائهم لربهم على كل أحوالهم، ويسوقهم لذلك طمعهم في رحمة الله وثوابه وسعة فضله، وخوفهم من عقابه، وهم مع ذلك كانوا لربهم متواضعين متذللين، ولا يستكبرون عن عبادته ودعائه
(1)
، كما قال تعالى عن زكريا وأهله:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 55 وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 - 56].
وفي الآيتين مجموعة من آداب الدعاء المتعلقة بعمل القلب من: الإخلاص، والخوف والرجاء، والحذر من التجاوز في الدعاء والاعتداء فيه
(2)
، والحرص على الإحسان في العبادة لحصول رحمة الله.
(1)
ينظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (16/ 389 - 390).
(2)
ومن أمثلة الاعتداء في الدعاء: الدعاء على المؤمنين بالشر كالدعاء بالخزي واللعنة، وطلب ما لا يصلح له كطلب منازل الأنبياء، الجهر ورفع الصوت والصياح فيه، ومجاوزة المأمور به.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (7/ 226): " والاعتداء في الدعاء على وجوه: منها الجهر الكثير والصياح .. ، ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط.
ومنها أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك. ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا مُفَقَّرَةً وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً
قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام، وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء".
المطلب الرابع: اليقين وأثره على عبادة الذكر والدعاء.
أولاً: تعريفه:
يوجد ارتباط وثيق بين معناه في اللغة وفي الاصطلاح، فهو العلم الذي لا شك فيه.
وعرفه الجنيد رحمه الله بقوله: "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب"
(1)
.
وعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "أما اليقين فهو: طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه"
(2)
.
ثانياً: من أدلة الكتاب والسنة على اليقين:
لقد اعتنى القرآن الكريم بهذا العمل القلبي العظيم، فذكر اليقين في آيات كثيرة، ومن ذلك:
جعله الله من صفات عباده المتقين، فقال تعالى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
قال السعدي رحمه الله: "والآخرة اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل"
(3)
.
وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
وفي تفسير السعدي لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} : "أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله؟!
فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية، فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل
(1)
مدارج السالكين (2/ 375).
(2)
مجموع الفتاوى (3/ 329).
(3)
تفسير السعدي (41).
والقسط، والنور والهدى، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز بإيقانه ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين عقلًا وشرعًا اتباعه. واليقين هو: العلم التام الموجب للعمل"
(1)
.
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].
قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره: {فَاصْبِرْ} يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلِّغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض حقّ، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} يقول: ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله، الذين لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات، فيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته"
(2)
.
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
ومن هذه الآية استنبط شيخ الإسلام رحمه الله أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين
(3)
.
وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 2].
(1)
تفسير السعدي (235).
(2)
تفسير الطبري (20/ 120).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 358).
قال السعدي رحمه الله: "أي: {هَذَا} القرآن الكريم والذكر الحكيم {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه، ويحصل به الخير والسرور والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي الرحمة؛ فتزكو به نفوسهم، وتزداد به عقولهم، ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند"
(1)
.
ومما ورد في السنة عن اليقين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» .
دل هذا الحديث على أنَّ من شروط كلمة التوحيد اليقينَ.
وعن شَدَّاد بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، قَالَ:«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»
(2)
.
دل هذا الحديث على أن من شروط أثر سيد الاستغفار على صاحبه أن يقوله بيقين.
ثالثاً: أثر اليقين على عبادة الذكر والدعاء.
إذا تمكن اليقين من القلب طار فرحاً وشوقاً إلى ما يقربه من الله، وعلى رأس ذلك الإكثار من ذكره ودعائه، وشكره على نعمه.
وكذلك طار القلب خوفاً من عذاب الله، وليس شيء ينجي العبد من عذاب الله كمثل ذكر الله ودعائه.
(1)
تفسير السعدي (777).
(2)
أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6306).
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»
(1)
.
وعن سفيان الثوري رحمه الله قال: "لو أن اليقين، استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحًا .. وشوقًا إلى الجنة، أو خوفًا من النار"
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورًا وانتفى عنه كل ريب وشك، وعوفي من أمراضه القاتلة، وامتلأ شكرًا لله وذكرًا له ومحبة وخوفًا"
(3)
.
إذا دخل اليقين إلى القلب حضر الذهن واشترك اللسان والقلب في فهم ما يقوله من الذكر والدعاء، وأعظم مقام يحصل فيه ذلك الأمر: الصلاة، وتلاوة القرآن بتدبر.
المقام الأول: الصلاة
(4)
فقد جات نصوص نبوية في ذلك، فمنها:
حديث عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ رضي الله عنه الطويل وفيه: قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ فَالْوُضُوءَ حَدِّثْنِي عَنْهُ، قَالَ:«مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ، وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ، وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 459 ت شاكر) موقوفاً على معاذ رضي الله عنه، والبيهقي مرفوعاً في شعب الإيمان (2/ 62 ط الرشد) ح (519) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحكم الألباني بأنه صحيح لغيره كما في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 204) ح (1495)، وفي الحديث المرفوع زيادة ضعيفة جداً، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتاب
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/ 744) ح (4987).
(2)
حلية الأولياء (7/ 17).
(3)
مفتاح دار السعادة (1/ 154).
(4)
ينظر في ذلك كتابي أثر عمل القلب على عبادة الصلاة على موقع شبكة الالوكة وموقع صيد الفوائد، والمكتبة الشاملة.
(5)
صحيح مسلم (1/ 569) ح (832).
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»
(1)
.
وعن عقبة بن عامر يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ
(2)
الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ إِلَّا انْفَتَلَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ»
(3)
.
وعَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(4)
.
وهذه الأمور التي يقوم بها المسلم في صلاته من تفريغ القلب لله في صلاته، والإقبال على الله في صلاته بقلبه ووجهه، وأن يعلم ما يقوله لسانه في صلاته، ولا يحدّث نفسه في صلاته بأمور الدنيا، لا يكون كل ذلك إلا إذا حصل اليقين في القلب وتمكن منه، وتيقن المصلي أنه لابد من حدوث هذه الأمور وغيرها مما له صلة بالخشوع في الصلاة، وأن يجاهد نفسه لحضور قلبه
(1)
أخرجه مسلم (1/ 209) ح (234).
(2)
وإسباغ الوضوء: إتمامه وأكماله بغسل العضو الذي يغسل ثلاثًا، وقال ابن عبد البر رحمه الله في معنى الإسباغ:"الإكمال والإتمام من ذلك قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20]، يعني: أتمها عليكم وأكملها، وإسباغ الوضوء أن يأتي بالماء على كل عضو يلزمه غسله مع إمرار اليد، فإذا فعل ذلك مرة وأكمل فقد توضأ مرة".
ينظر: الاستذكار (2/ 302) لابن عبد البر.
(3)
أخرجه الحاكم (2/ 432) ح (3508)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 195) ح (190).
(4)
أخرجه البخاري (1/ 44) ح (164)، ومسلم (1/ 204) ح (226).
وذهنه في صلاته لتكون الصلاة له كما قال صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»
(2)
.
وقال ابن حجر رحمه الله عن الصلاة: "ولا شيء أقر لعين العبد منها، ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح، ومن كانت قرة عينه في شيء، فإنه يود أن لا يفارقه، ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمَه، وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرضُ الآفات والفتور"
(3)
.
والمعنى والله أعلم: أنه لا تحصل قرة العين في الصلاة إلا بمجاهدة النفس على الخشوع فيها وحضور القلب وإقباله عليها، وذلك يحتاج إلى كبير مجاهدة مع الاستمرار وعدم الانقطاع، واليقين بذلك يجعل المسلم يحصل على التلذذ بالصلاة، وأن تكون راحة وقرة عين له.
وقال بعض السلف رحمه الله: "كابدت
(4)
الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة"
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4/ 296) ح (4985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1307) ح (7892)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 338) ح (4985)"إسناده صحيح".
(2)
أخرجه أحمد (21/ 433) ح (14037)، والنسائي (7/ 61) ح (3940)، والحاكم (2/ 174) ح (2676) وصححه ووافقه الذهبي، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (11/ 345)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 599) ح (3124).
(3)
فتح الباري (11/ 345).
(4)
والمكابدة من كابد الأمر إذا قاساه بمشقة. ينظر: الصحاح (2/ 530)، مقاييس اللغة (5/ 153)، لسان العرب (3/ 376) مادة (كبد). أي: بمعنى: جاهد نفسه على بذل أسباب الخشوع فيها.
(5)
ذكره في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 321)، وسير أعلام النبلاء (5/ 224) والأثر مذكور عن ثابت البناني رحمه الله.
والمقام الثاني: تلاوة القرآن بتدبر
(1)
.
ولا شك أن لليقين أثر كبير على تلاوة العبد للقرآن العظيم مع حصول التدبر الذي أنزل القرآن من أجله، كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
ويكون اليقين له أثر على عبادة تلاوة القرآن وتدبره بعدة أمور، منها:
أولاً: اليقين بالثواب عند تلاوته أو سماعه والعمل به.
أما ثواب التلاوة، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ»
(2)
.
وقال تعالى عن أثر سماع القرآن على صاحبه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
أما مكانة الماهر في التلاوة، ففي لفظ البخاري عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ، مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ»
(3)
.
وفي لفظ مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ»
(4)
.
(1)
ينظر في ذلك كتابي أثر عمل القلب على تلاوة القرآن وتدبره على موقع شبكة الألوكة، وموقع صيد الفوائد، والمكتبة الشاملة.
(2)
أخرجه الترمذي (5/ 175 ت شاكر) ح (2910) وقال: "هذا حديث صحيح غريب"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2910).
(3)
أخرجه البخاري (6/ 166 ط السلطانية) ح (4937).
(4)
أخرجه مسلم (2/ 195 ط التركية) ح (798).
ومكانة قارئ القرآن العامل به، وأثر قراءة القرآن على صاحبها في الدنيا ولو كان منافقاً، فعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ، أَوْ خَبِيثٌ، وَرِيحُهَا مُرٌّ»
(1)
.
وعَنْه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ»
(2)
.
ثانياً: اليقين بعظمة القرآن له شأن عظيم في التأثير على القلب، الذي يجعله يتلو الآيات وهو يستحضر عظمة من قالها وأنزلها،
وعظيم منته من تمكين الإنسان من تلاوتها، وهي التي لو نزلت على الجبال لصدعتها، فيقينه بذلك يجعله يستشعر عظمة القرآن الموجه له، فيتأثر قلبه ووجدانه وجوارحه بالآيات، فيخشع قلبه وتدمع عينه، قال تعالى في بيان ذلك:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
(1)
اخرجه البخاري بهذا اللفظ (6/ 198 ط السلطانية) ح (5059).
(2)
أخرجه البخاري (7/ 77 ط السلطانية) ح (5427)، ومسلم (2/ 194 ط التركية) ح (797).
ومما يعين على الإكثار من ذكر الله تعالى، وكثرة دعائه، مع الاستمرار والحرص على عدم الانقطاع، اليقين بما رتّبه الله من أثر هذه العبادة على صاحبها في الدنيا والآخرة من ثواب عظيم وحفظ ورعاية في الدين والدنيا، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث خاص.
المطلب الخامس: التوكل وأثره على عبادة الذكر والدعاء.
أولًا: التعريف:
قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى التوكل: "هو الثقة بالله"
(1)
.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "وجملة التوكل: تفويض الأمر إلى الله -جل ثناؤه- والثقة به"
(2)
.
وعرفه ابن رجب رحمه الله بقوله: "التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وكلة الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه"
(3)
.
وقال الجرجاني عليه رحمة الله: "التوكل: هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس"
(4)
.
(1)
زاد المسير في علم التفسير (1/ 320) لابن الجوزي.
(2)
شعب الإيمان (2/ 390).
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 497).
(4)
التعريفات (70).
وقال بعضهم: "التوكل: التعلق بالله في كل حال"
(1)
.
وقيل: "التوكل: قطع علائق القلب بغير الله"
(2)
.
وقرب معناه ابن القيم رحمه الله بشيء من التوضيح، فقال:"هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينًا بكفايته لما توكل عليه فيه"
(3)
.
ثانيًا: التوكل في الكتاب والسنة:
جاء التوكل في القرآن الكريم على أحوال منها:
الأمر به كما في قوله تعالى لنبيه: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، وقوله تعالى للمؤمنين:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
جعله الله من صفات المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وذكره في مقامات متعددة منها:
الأمر بالتوكل في مقام العبادة، كما في قوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
الأمر به في مقام الدعوة، كما في قوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129].
(1)
مدارج السالكين (2/ 116).
(2)
مدارج السالكين (2/ 117).
(3)
مدارج السالكين (1/ 103).
التوكل في مقام الجهاد والقتال في سبيله، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 121، 122].
التوكل في مقام طلب الرزق، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3].
وغير ذلك من المقامات العظيمة التي ذكر فيها التوكل على الله
(1)
.
أما من السنة:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ؛ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»
(2)
.
وقال ابن رجب رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث: "وهذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق"
(3)
. وذلك أنه أثبت للطير مع توكلها على الله بذل السبب حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تغدو وتروح في طلب الرزق.
(1)
ينظر: أعمال القلوب للمنجد (138 - 145).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 332) ح (205)، والترمذي (4/ 573) ح (2344)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وابن ماجه (2/ 1394) ح (4164)، وصححه الحاكم في كتاب الرقائق (4/ 354) ح (7894) وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 932) ح (5254)، وقال شعيب الأرناؤوط محقق المسند (1/ 332) ح (205):"إسناده قوي"، وقال في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 266) ح (4164):"حديث صحيح".
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 496 - 497).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ -يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ-: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ» .
ثالثاً: أثر التوكل على عبادة الذكر والدعاء.
لا يحدث أثر الذكر والدعاء على حياة العبد إلا إذا حقق التوكل على الله تعالى، فالذكر والدعاء من أعظم الأسباب لحصول المقصود في الدنيا والآخرة، ودفع المكروه كذلك، ولكن لن يحدث ذلك التأثير إلا إذا حقق العبد التوكل على الله وتعلق قلبه به، مع بذل هذه الأسباب العظيمة.
الذكر والدعاء مع التوكل على الله له أثر عظيم في تعلق القلب بالله تعالى، والثبات على الحق، ودفع أذى الخلق وحصول النصر والتمكين، قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 173 فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174].
وقال تعالى بعد ذلك: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ 90 فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 90 - 91] الآيات.
ويقول ابن القيم رحمه الله: "التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه، أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه"
(1)
.
(1)
التفسير القيم (649) لابن القيم.
المطلب السادس: الورع وأثره على عبادة الذكر والدعاء.
أولًا: التعريف:
قال عنه شيخ الإسلام: "وأما الورع فإنه الامساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات والشبهات؛ لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه"
(1)
.
وقال ابن القيم في معناه: "يعني أن يتوقى الحرام والشبه، وما يخاف أن يضره أقصى ما يمكنه من التوقي"
(2)
.
وقال الجرجاني: "الورع هو: اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات"
(3)
.
ثانيًا: الورع في السنة:
ورد الورع في نصوص السنة، ومن ذلك:
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ-: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
(4)
.
قال الخطابي رحمه الله: "هذا الحديث أصل في الورع وفيما يلزم الإنسان اجتنابه من الشبهة والريب"
(5)
.
(1)
الزهد والورع والعبادة (50) لابن تيمية.
(2)
مدارج السالكين (2/ 25).
(3)
التعريفات (252).
(4)
أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم واللفظ له (3/ 1219) ح (1599).
(5)
معالم السنن (3/ 56).
وعَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ»
(1)
.
ودل الحديث على مكانة الورع، وأنه خير الدين، فعلى الداعية الموفق الحرص على هذا العمل القلبي العظيم والتخلق به، فإنه من الصفات العظيمة التي لها أثر في نجاح الداعية في دعوته.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]» ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ:«يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!»
(2)
.
قال ابن رجب رحمه الله: "ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله"
(3)
.
وهذا أعظم الورع الذي يثمر التوفيق للداعية في دعوته، وما قد يحصل من خلل في الدعوة وقصور، إذا فتشت وجدته من قبل عدم التورع عن المطعم أو المشرب أو الملبس أو المركب أو المال المشتبه فيه.
(1)
أخرجه الحاكم في كتاب العلم (1/ 170) ح (314)، وقال:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 50) ح (103)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 776) ح (4214).
(2)
أخرجه مسلم (2/ 703) ح (1015).
(3)
جامع العلوم والحكم (1/ 260).
وعَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْديِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما: مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْهُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»
(1)
.
وعلق ابن رجب على هذا الحديث فقال: "وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى"
(2)
.
وهذا الحديث قاعدة عظيمة في الورع.
ثالثًا: أقوال العلماء في الورع:
وقال رضي الله عنه: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل "
(3)
.
وقال حسان بن أبي سنان رحمه الله: "ما شيء أهون من الورع، إذا رابك شيء فدعه"
(4)
.
وعلق ابن رجب رحمه الله على مقولة حسان فقال: "وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله"
(5)
.
وقال الشافعي رحمه الله: "أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف"
(6)
.
وعن الضحاك قال: "لقد رأيتنا وما يتعلم بعضنا من بعض، إلا الورع"
(7)
.
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: "أفضل العبادة التفكر والورع"
(8)
.
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 668) ح (2518)، وقال:"وهذا حديث صحيح"، والنسائي واللفظ له (8/ 327) ح (5711)، وصححه الحاكم (2/ 15) ح (2169) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 637) ح (3377).
(2)
فتح الباري لابن رجب (1/ 226).
(3)
لم أعثر عليه في كتاب الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا، وقد نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 336) ونسبه إليه.
(4)
جامع العلوم والحكم (1/ 280).
(5)
جامع العلوم والحكم (1/ 280).
(6)
صفة الصفوة (1/ 435) لابن الجوزي، جامع العلوم والحكم (1/ 408).
(7)
الورع لابن أبي الدنيا (51).
(8)
الورع لابن أبي الدنيا (53).
قال الفضيل بن عياض رحمه الله عن الورع: "اجتناب المحارم"
(1)
.
وقال الفضيل أيضًا: "أشد الورع في اللسان"، وأثر هذا عن عبد الله بن المبارك عليه رحمة الله
(2)
.
وعن طاووس رحمه الله قال: "مثل الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا شيء سماه، وثمرها الورع لا خير في شجرة، لا ثمر لها، ولا خير في إنسان، لا ورع له"
(3)
.
رابعاً: أثر الورع على عبادة الذكر والدعاء.
لا تسهل عبادة الذكر والدعاء، ويظهر أثرها على صاحبها إلا على من رزقه الله الورع.
من أعظم أسباب قبول الذكر والدعاء عبادة الورع عما حرم الله، فعن عمر رضي الله عنه قال:"بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح"
(4)
.
الورع مما يعين على الاستمرار على الإكثار من عبادة الذكر والدعاء.
(1)
الورع لابن أبي الدنيا (60).
(2)
الورع لابن أبي الدنيا (77).
(3)
الورع لابن أبي الدنيا (109).
(4)
جامع العلوم والحكم (1/ 276).
المطلب السابع: الصبر وأثره على عبادة الذكر والدعاء.
أولاً: تعريفه:
من أدق تعاريفه تعريف الراغب رحمه الله بقوله: "الصَّبْرُ: حبس النّفس على ما يقتضيه العقل والشرع"
(1)
.
والذي يظهر لي أن تعريف الراغب تعريف دقيق؛ لأنه يشمل كل أنواع الصبر، فيكون حبسًا للنفس على الطاعة وترك المعصية، وعلى القدر المؤلم، والله أعلم.
وقيل: هو: "حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش"
(2)
. وهذا التعريف يصلح لنوع من الصبر وهو الصبر على القدر المؤلم
(3)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله عن حقيقة الصبر وفائدته: "خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها"
(4)
.
ثانياً: من أدلة الكتاب والسنة على الصبر:
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا"
(5)
.
وذكر ابن القيم أن الصبر مذكور في القرآن على ستة عشر نوعًا، وذكرها رحمه الله مع ذكر شواهدها، وأذكر منها على سبيل المثال، الآتي
(6)
:
الأمر به، نحو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
(1)
المفردات في غريب القرآن (474).
(2)
مدارج السالكين (2/ 155).
(3)
ينظر: أعمال القلوب للسبت (2/ 211، 212).
(4)
عدة الصابرين (16).
(5)
نقله ابن القيم عن الإمام أحمد في عدة الصابرين (71)، مدارج السالكين (2/ 151).
(6)
ينظر: مدارج السالكين (2/ 151 - 152).
النهي عن ضده، كقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقوله:{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة.
الثناء على أهله، كقوله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وهو كثير في القرآن.
محبته سبحانه وتعالى لهم، كقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
معيته سبحانه وتعالى لهم، وهي معية خاصة، تتضمن: حفظهم ونصرهم، وتأييدهم كقوله:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وهي ليست معية عامة، التي تتضمن: معية العلم والإحاطة.
الجزاء منه سبحانه وتعالى لهم بغير حساب، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وورد الصبر في السنة في عدة أحاديث منها:
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» الحديث
(1)
.
قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "والمراد: أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا"
(2)
.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: إِنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ
(1)
أخرجه مسلم (1/ 203) ح (223).
(2)
شرح النووي على مسلم (3/ 101).
عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»
(1)
.
دل الحديث على فضيلة الصبر ومكانته العظيمة، ومن يعالج نفسه على الصبر ويعودها عليه، فإن الله يمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وأن الصبر أفضل ما يعطاه المرء لكونه غيرَ محدودٍ جزاؤُه، فيوفيه الله أجره بغير حساب
(2)
، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
ثالثاً: أثر الصبر على عبادة الذكر والدعاء.
قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ 48 وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48 - 49].
قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئا، وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والاستقامة عليه، ووعده الله بالكفاية بقوله:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى منا وحفظ، واعتناء بأمرك، وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة، فقال:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي: من الليل.
ففيه الأمر بقيام الليل، أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس، بدليل قوله:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} أي: آخر الليل، ويدخل فيه صلاة الفجر، والله أعلم"
(3)
.
إذن هناك ارتباط وثيق بين الصبر والذكر والدعاء، فكل منهم يعين على الآخر، فالذكر والدعاء يعين على الصبر، والصبر أكبر معين للعبد على كثرة الذكر والدعاء، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (2/ 122) ح (1469)، ومسلم (2/ 729) ح (1053).
(2)
ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 304).
(3)
تفسير السعدي (818).
وقال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ 17 إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 17 - 18].
وقال تعالى عنه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 83 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83 - 84].
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130].
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55].
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ 48 وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48 - 49].
وفي هذه الآيات يظهر -والله أعلم- الارتباط الوثيق بين الصبر والذكر والدعاء.
المبحث الثالث: أعمال لها ارتباط وثيق بصلاح القلب وزيادة أثره على عبادة الذكر والدعاء،
وفيه عدة مطالب.
المطلب الأول: تحقيق التوحيد.
وتحقيق التوحيد له أثر عظيم على صلاح القلب، فكلما قوي تحقيق توحيد العبد أثمر في قلبه ثمرات جليلة، وعادت بآثارها المباركة العظيمة على ذكره لربه ودعائه، ومن ذلك:
تجرد القلب عن التعلق بغير الله أو الخوف من غيره، فلا يدعو إلا ربه في سرائه وضرائه، ولا يتعلق قلبه بسواه، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: "فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى، بل يفرد الله بالمخافة، وقد أمَّنه منه، وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد الله محبة وخشية وإنابة وتوكلًا واشتغالًا به عن غيره، فيرى أن إعمالَه فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا
(1)
، فإن كان مؤمنًا فالله يدافع عنه ولا بد، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه"
(2)
.
التوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، وعلى حسب قوته وكماله يكون انشراح صدر صاحبه، قال تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، ومنها: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر
ويوسعه ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه
(3)
.
(1)
يشير بذلك إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].
(2)
بدائع الفوائد (2/ 245).
(3)
ينظر: زاد المعاد (2/ 22 - 23).
وحين يكثر العبد من الذكر والدعاء مع صفاء التوحيد ونقائه، يجد العبد المؤمن لذة وحلاوة في قلبه، وانشراحاً في صدره، وهي جنة المؤمن المعجلة قبل جنة الآخرة التي تجعله يتشوق إلى الآخرة ويلتذ بذكره لله تعالى.
يحصل لصاحب التوحيد الهدى والكمال والأمن التّامّ في الدّنيا والآخرة.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. قال ابن كثير رحمه الله "أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك، له، ولم يشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة"
(1)
، فبالتوحيد يحصل الأمن والاهتداء التام في الدنيا والآخرة، وبالشرك تصرف الهداية عن العبد، ويذهب الأمن ويحصل الخلل فيه في الدنيا وفي الآخرة، وبالتوحيد يجد العبد المؤمن الذاكر لله كثيراً والذي تعلق قلبه بربه فلا يدعو أحداً سواه ولا يلتجئ إلى غيره، ويثمر ذلك أيضاً الهداية التامة والأمن التام في الدنيا والآخرة، فينجيه الله من الكربات والمضائق والشدائد في دنياه وأخراه.
التوحيد مع اعتراف العبد بظلمه وذنبه من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم، وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج، ولذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة ذي النون قوله:«دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ»
(2)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وأما دعوة ذي النون فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم، وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج"
(3)
.
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 294).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 65) ح (1462)، والترمذي (5/ 529) ح (3505)، والحاكم في المستدرك (2/ 637) ح (4121)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 637) ح (3383).
(3)
زاد المعاد (4/ 190).
المطلب الثاني: كثرة التوبة والاستغفار.
لا شك أن للذنوب والمعاصي أثرًا كبيرًا في إفساد القلب، وضررها عظيم عليه، "وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! "
(1)
.
ومن أكثر ما يعيق العبد عن ذكر الله والخضوع له في الدعاء: وقوعه في الذنوب، واستمراره عليها، وعدم التوبة والاستغفار، مع الإصرار على الذنب، وكل هذه الأدواء الخطيرة على القلوب قد جعل الله لها علاجًا نافغاً، وهو كثرة الاستغفار والتوبة.
قال تعالى في بيان آثار كثرة الاستغفار: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
وقال سبحانه وتعالى في بيان ثمرات الاستغفار والتوبة: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].
وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
والذي يظهر من أقوال المفسرين في زيادة القوة أنها قوة حسية ومعنوية، يجدون أثرها في حياتهم
(2)
.
ولا شك أننا بحاجة ماسة لهذه القوة التي يعينا الله بها على النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
(1)
الجواب الكافي (1/ 98).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (12/ 445)، تفسير البغوي (4/ 183)، تفسير ابن كثير (4/ 329)، فتح القدير للشوكاني (2/ 573)، تفسير السعدي (383).
ومما يدل على المكانة العظيمة للتوبة: أمر الله بها، فقال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وكذلك حين ننظر إلى حال القدوة صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يبذل جهدًا عظيمًا في كثرة الاستغفار والتوبة، فيقول أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»
(1)
.
ويَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ»
(2)
.
وذلك ما يجعلنا نسابق وننافس في هذا المضمار لنحصل على ثمرة التوبة والاستغفار في حياتنا، ونحمي أنفسنا من أسر قيود الذنوب التي يقيد الشيطان بها العبد ويستولي على قلبه، فينسيه ذكر الله، كما قال تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19].
ومن رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة، فعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
(3)
.
بل الأمر أعظم من ذلك، فالله يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا قرّبه النبي صلى الله عليه وسلم بمثال؛ ليظهر منه عظيم فرحة الرب سبحانه وتعالى بتوبة عبده.
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى
(1)
أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6307).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (30/ 226) ح (18294)، والسنن الكبرى للنسائي (9/ 168) ح (10205)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 435) ح (1452)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (30/ 226) ح (18294):"حديث صحيح".
(3)
أخرجه مسلم (4/ 2113) ح (2759).
مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»
(1)
.
وحتى يحصل من التوبة والاستغفار أثرهما على صلاح القلب فلا بد من مراعاة أمور، نجملها فيما يأتي:
1 -
الندم على ما حصل من الذنب.
2 -
الإقلاع عن الذنب.
3 -
العزم على عدم العودة للذنب.
4 -
وإذا كان الذنب في حقوق الآدميين، فلا بد من إرجاعها لهم أو طلب السماح
(2)
.
5 -
حضور القلب عند التوبة والاستغفار، فتكون التوبة والاستغفار باللسان والقلب، فيحدث أثر التوبة في القلب، وهذا الأثر يحدث -والله أعلم- مع كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه مع التكرار يحضر القلب ويحدث الأثر فيه، ولذا جاءت النصوص بالإكثار من التوبة والاستغفار، كما سبق في الأحاديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحثه لأمته.
6 -
البحث عن جلساء صالحين يعينونه على الخير، والاستمرار على التوبة، كما في حديث قاتل المائة، فقد حثه العالم على الذهاب إلى قرية الصالحين حتى يجد من يعينونه على توبته
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 2103) ح (2744).
(2)
ينظر: رياض الصالحين (33 - 34).
(3)
أخرجه مسلم (4/ 2118) ح (2766).
تنبيه لطيف: وبعد هذا الكلام عن عبادة الاستغفار والتوبة ننبه على أنهما يعدان من ذكر الله، ولكن لأثرهما العظيم على صلاح القلب جعلتهما في هذا المبحث والله الموفق والمعين، ولعلي أنبه أكثر على علاقتهما بعمل القلب في الجانب التطبيقي.
المطلب الثالث: مجاهدة النفس على الإخلاص والمتابعة ومحاسبتها على ذلك.
وقد سبق الكلام على الإخلاص والمتابعة، ولكن في هذا المسألة نركز على قضية مجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة الذكر والدعاء وغيرها.
والمقصود بالمجاهدة هنا: هو حمل النفس على عبادة الإخلاص والمتابعة وتفقدها في ذلك، وكفها عن ضد ذلك من: الرياء والعجب وتعلق القلب بغير الله، وتفقد القلب وتطهيره من الآفات التي تفسد الإخلاص والمتابعة، والمحاسبة الدقيقة المستمرة على ذلك حتى يتطهر القلب من الأمراض والآفات.
وقال تعالى لبيان أثر المجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
"وقيل: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة، والطريق المستقيمة هي التي يوصل بها إلى رضا الله عز وجل .. ، وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات، قال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى، .. وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا"
(1)
.
المسألة الثانية: محاسبة النفس على قضية الإخلاص والمتابعة في عبادة الذكر والدعاء وسائر العبادات.
محاسبة النفس على الإخلاص والمتابعة قبل العمل وأثناء العمل وبعده، من الأعمال التي لها أثر في صلاح القلب المؤدي إلى كثرة الذكر وخضوع القلب لله تعالى وتعلقه به.
ومحاسبة النفس تدخل تحت معنى قوله تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
قال ابن كثير رحمه الله: "أي: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم"
(2)
.
ويقول السعدي رحمه الله: "وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة"
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير البغوي (6/ 256).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 7).
(3)
تفسير السعدي (853).
قال قتادة رحمه الله في معنى قوله تعالى: {فُرُطًا} : "أضاع أكبر الضيعة، أضاع نفسه، [وغبن]
(1)
مع ذلك .. تجده حافظًا لماله، مضيعًا لدينه"
(2)
.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحُاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وَتَزَيّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذٍ تُعرَضون لا تخفى منكم خافية"
(3)
.
ومما نقله ابن الدنيا رحمه الله في محاسبة النفس عن الحسن البصري رحمه الله الأقوال الآتية: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته"
(4)
.
قال
(5)
: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما صلة إليك هيهات، حيل بيني وبينك.
ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: هيهات .. وما لي ولهذا؟! والله ما أعذر بهذا، والله لا أعود إلى هذا أبدًا إن شاء الله.
إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم.
إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله"
(6)
.
وهنا أحب أن أختصر كلاماً رائعاً نافعاً لابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن فوائد محاسبة النفس، فيقول: "وفى محاسبة النفس عدة مصالح:
(1)
في الأصل: (وعسى)، وفي إغاثة اللهفان (1/ 132):(وغبن)، وهو الصحيح الذي يستقيم به المعنى، والله أعلم.
(2)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (25) مع بعض التصرف اليسير.
(3)
الزهد لأحمد بن حنبل (99).
(4)
محاسبة النفس (25).
(5)
أي: الحسن رحمه الله.
(6)
محاسبة النفس (60).
منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مَقَتها في ذات الله.
وقال مُطرِّفٌ في دعائه بعرفة: «اللهم لا تَرُدَّ الناس لأجلي»
(1)
.
وقال أيوب السختياني: «إذا ذُكر الصالحون كنتُ عنهم بمعْزِل»
(2)
.
وقال يونس بن عبيد: «إني لأجد مئة خصلة من خصال الخير؛ ما أعلم أن في نفسي منها واحدةً»
(3)
.
وقال محمد بن واسع: «لو كان للذنوب ريح ما قَدَرَ أحد أن يجلس إليّ»
(4)
.
فالنفس داعية إلى المهالك، مُعينةٌ للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متَّبعة لكل سوء؛ فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.
فالنعمة التي لا خَطَر لها: الخروج منها، والتخلصُ من رِقِّها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله، وأعرفُ الناس بها أشدُّهم إزراءً عليها، ومقتًا لها.
و مَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه في لحظة واحدة أضعافَ أضعافِ ما يدنو بالعمل.
ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار، قال:«إن قومًا من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله إلى نبيهم أنّ فلانًا صدِّيق»
(5)
.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الحسن بن أَتَش، حدثنا منذر، عن وهب: «أن رجلًا سائحًا عبد الله عز وجل سبعين سنة، ثم خرج يومًا، فقلّل عمله، وشكا إلى الله منه، واعترف
(1)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 72).
(2)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 76).
(3)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 80).
(4)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 82).
(5)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص 77).
بذنبه، فأتاه آتٍ من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إليّ من عملك فيما مضى من عمرك»
(1)
.
وفى كتاب «الزهد» للإمام أحمد: «أن رجلًا من بني إسرائيل تعبَّد ستين سنة في طلب حاجة، فلم يظفر بها، فقال في نفسه: والله لو كان فيكَ خير لظفرتَ بحاجتك، فأُتي في منامه، فقيل له: أرأيت إزراءك على نفسِك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين»
(2)
.
ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه. ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تُجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدًّا.
فمِن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العبد؛ فإن ذلك يُورِثه مقتَ نفسِه، والإزراء عليها، ويُخلِّصه من العُجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته؛ فإن من حقه أن يُطاع ولا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
فمَن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلْمَ اليقين أنه غير مؤدٍّ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أُحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسَهم من أنفسهم، وعلَّق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
(1)
الزهد لأحمد بن حنبل (ص 47).
(2)
الزهد لأحمد بن حنبل (ص 303) لفظ الزهد فيه اختلاف وهذا لفظه: عَنِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ:" كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ تَعَبَّدَ زَمَانًا ثُمَّ طَلَبَ إِلَى اللَّهِ عز وجل حَاجَةً وَصَامَ سَبْعِينَ سَبْتًا يَأْكُلُ كُلَّ سَبْتٍ إِحْدَى عَشْرَةَ تَمْرَةً قَالَ: فَطَلَبَ إِلَى اللَّهِ حَاجَةً فَلَمْ يُعْطِهَا قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ مِنْ قِبَلِكِ أُتِيتُ، لَوْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ لَأُعْطِيتَ حَاجَتَكَ وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ سَاعَتَئِذٍ مَلَكٌ، فَقَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ سَاعَتُكَ هَذِهِ الَّتِي أَزْرَيْتَ فِيهَا عَلَى نَفْسِكَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَتِكَ كُلِّهَا الَّتِي مَضَتْ وَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ حَاجَتَكَ الَّتِي سَأَلْتَ ".
وإذا تأمَّلت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولًا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا؟ وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك؛ فإنه يسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلًا خاضعًا، منكسرًا كَسْرًا فيه جَبْرُهُ، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلًا ذلًّا فيه عِزُّه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل، فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى به.
ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه: أنه لا يتركه ذلك يُدِلُّ
(1)
بعمل أصلًا، كائنًا ما كان،
ومَنْ أدلّ بعمله لم يصعد إلى الله، كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله، أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي؛ فأبكي حتى يكاد ينبت البَقْل من دموعي، فقال له: إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك، خيرٌ من أن تبكي وأنت تُدِلُّ بعملك؛ فإن صلاة المُدلِّ لا تصعد فوقه، فقال له: أوصني، قال: عليك بالزهد في الدنيا، وأن لا تنازعها أهلَها، وأن تكون كالنّحلة، إن أكلت أكلت طيِّبًا، وإن وضعت وضعت طيبًا، وإن وقعت على عود لم تضرَّه ولم تكسره، وأوصيك بالنصح لله عز وجل نُصْح الكلب لأهله؛ فإنهم يُجِيعونه ويطردونه؛ ويأبى إلا أن يحوطَهم وينصحهم»
(2)
.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا الجريرى، قال: «بلغني أن رجلًا من بني إسرائيل كانت له إلى الله تعالى حاجة، فتعبد واجتهد، ثم طلب إلى الله حاجته، فلم ير نجاحًا، فبات ليلةً مُزريًا على نفسه، وقال: يا نفس! مالك لا تُقضَى حاجتك؟ فبات محزونًا قد أزرى على نفسه، وألزم الملامةَ نفسه، فقال: أما والله ما من قِبَل ربي أُتِيتُ، ولكن من قِبَل نفسي
(1)
أي: يعجب بعمله.
(2)
الزهد لأحمد بن حنبل (ص 81).
أُتيتُ، فبات ليلةً مزريًا على نفسه، وألزم الملامة نفسه، فقُضِيت حاجته» "
(1)
. انتهى ما اختصرته من كتاب إغاثة اللهفان
(2)
.
المطلب الرابع: تعلق القلب بالله وأثره على عبادة الذكر والدعاء.
من أبرز آثار محبة الله والخوف منه ورجائه ومعرفته حق المعرفة تعلق القلب به سبحانه وتعالى، وإذا تعلق القلب بالله ظهرت آثار ذلك على المؤمن، ومن تلك الآثار كثرة ذكره لله، مع كثرة إلحاحه على الله في دعاء خاشع مستمر لا يتوقف العبد عنه في كل الأحوال، وسيأتي مزيد بيان لهذا، ولتعلق القلب بالله علامات كثيرة، ودونك أبرزها في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: شدة محبته لله تعالى.
ومن العلامات الدالة على تعلق قلب المؤمن بربه شدة حبه له، قال تعالى عن المؤمنين بالله حقًّا:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه"
(3)
.
(1)
قال محقق إغاثة اللهفان: لم أقف عليه.
(2)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 143 - 154 ط عطاءات العلم).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 476).
المسألة الثانية: عدم خشيته وخوفه من غير الله:
إن القلب الذي تعلق بربه لا يخشى أحدًا سواه، ولا يرهب من صولة الباطل، بل يزيده ذلك ثباتًا وصدقًا مع الله، قال الله تعالى عن الصادقين الذين حاول الأعداء أن يخوفوِّهم بقوة أهل الكفر وإمكاناتهم وعدتهم وعددهم، فقال المؤمنون الصادقون كما ذكر الله عنهم:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 172 - 175].
المسألة الثالثة: كثرة ذكره لله تعالى:
ومما يدل على تعلق القلب بالله كثرة ذكر الله على كل الأحوال، كما قال تعالى عن القلوب التي أحبت الله وتعلقت به:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].
والآية تدل على حال أولي الألباب المحبين لله، في صلاتهم، وفي سائر أحوالهم؛ يدامون على ذكر الله بالقلب واللسان في جميع الأحوال؛ لأن الإنسان قلَّ أن يخلو عن واحد من هذه الحالات الثلاث
(1)
.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»
(2)
.
والحديث يدل على جواز ذكر الله على كل الأحوال وفي كل الأحيان: متطهرًا، ومحدثًا، وجنبًا، وقائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، وماشيًا، إلا أنه يستثنى من ذلك حال الجلوس على البول
(1)
ينظر: تفسير البغوي (2/ 152)، وتفسير السعدي (161).
(2)
أخرجه مسلم (1/ 282) ح (373).
والغائط، وحالة الجماع، فإنه يكره ذكر الله في هذه الحالات، والصحيح أن الكراهة كراهة تنزيه وليست كراهة تحريم، فلو ذكر الله في هذه الحالات، فلا إثم عليه
(1)
، والله أعلم.
وكثرة ذكر الله على كل الأحوال وفي كل الأحيان، لها أثرها على نفس المؤمن، فيجد من طمأنينة القلب والقوة والنشاط ما يعينه على القيام بعبادته خير قيام.
وذكر ابن القيم رحمه الله من فوائد الذكر: "أنه قُوتُ القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.
وحضرتُ شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلامًا هذا معناه"
(2)
.
والمؤمن المتعلق بالله تجده ذاكرًا لله بقلبه ولسانه في كل أحواله، قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، يجد فيه لذته، وطمأنينة قلبه، وما يعينه على أعباء طريقه إلى الله، ويجعله بإذن الله ثابتًا على مبدئه، صابرًا على ما يلقاه في ذات الله؛ لأنه يشعر بقرب الله منه ورعايته له وحفظه وحمايته، وكما في الحديث القدسي يقول الله تعالى:«وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي»
(3)
.
المسألة الرابعة: كثرة دعاء الله والالتجاء إليه في جميع الأحوال:
ومن آثار تعلق القلب بالله: كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله في جميع الأحوال، والمؤمن صاحب القلب الحي يدرك مكانة الدعاء وأثره على حياته وعلى عبادته، فقلبه موصول بالله، يشعر بقربه منه كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
(1)
ينظر: شرح النووي على مسلم (4/ 65، 68).
(2)
الوابل الصيب (42).
(3)
أخرجه البخاري (9/ 121) ح (7405)، ومسلم (4/ 2061) ح (2675).
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال سبحانه وتعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
فهو يشعر بحاجته الماسة لربه، فيقبل على الدعاء والتضرع والابتهال أن يعينه على عبادة ربه، وأن يوفقه ويسدده في كل تصرف يقوم به، وأن يفتح له أبواب الخير والتوفيق، ويسأل ربه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، وهو يعلم أثر الدعاء ومكانته العظيمة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاء» الحديث
(3)
.
وكثرة الدعاء والالتجاء إلى الله مرتبط كذلك بقضية عظيمة التي سيكون الحديث عنها في علامة تعلق القلب بالله الآتية:
المسألة الخامسة: يخاف على قلبه من التقلب، فلا يأمن مكر الله:
من العلامات الدالة على تعلق القلب بربه: خوفه على قلبه من التقلب، وعدم أمنه من مكر الله؛ لأن الأمن من مكر الله من صفات أهل الخسارة الذين غفلوا عن الله، ونسوا يوم الحساب، وتمادوا في غيهم وضلالهم، يقول تعالى محذرًا منهم ومنذرًا: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ
(1)
أخرجه أحمد في المسند (14/ 360) ح (8748)، والترمذي (5/ 455) ح (3370) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ القَطَّانِ .. "، وابن ماجه (2/ 1258) ح (3829)، وحسن إسناده الألباني في صحيح الجامع (2/ 951) ح (5392)، وكذلك شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 6) ح (3829).
(2)
أخرجه الترمذي (4/ 448) ح (2139) قال: "وهذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1271) ح (7687).
(3)
أخرجه أحمد (37/ 95) ح (22413)، وابن ماجه (1/ 35) ح (90)، وابن حبان في صحيحه (3/ 153) ح (872)، والحاكم في المستدرك (1/ 670) ح (1814) وصححه وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 279) ح (1638)، وقال محقق المسند (37/ 95) ح (22413):"حسن لغيره".
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
ومكر الله هو بأسه ونقمته وقدرته عليهم، فيستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويأخذهم في حال غفلتهم وسهوهم
(1)
، ولا يأمن ذلك إلا أهل الغفلة أصحاب القلوب المريضة، قال الحسن البصري رحمه الله:"المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن"
(2)
.
وقال أيضًا رحمه الله في مقارنة بين حال عباد الله المؤمنين وحال المنافقين، فذكر أن المؤمنين عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم:"إن المؤمن جمع إيمانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا"
(3)
.
وقال السعدي رحمه الله عن قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]: "وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنًا على ما معه من الإيمان"
(4)
.
بل لا يزال خائفًا وجلًا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيًا أن يثبت قلبه على دينه إلى أن يلقاه غير مغير ولا مبدل، دائمًا يلهج بالدعاء الذي كان يكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ: «نَعَمْ؛
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 451) تفسير السعدي (298).
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 451).
(3)
مدارج السالكين (1/ 507)، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (2/ 545) للفيروزآبادي.
(4)
تفسير السعدي (298).
إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»
(1)
. تجد المؤمن يعمل ويسعى في كل سبب يخلصه من الشر عند وقوع الفتن، فإن العبد -ولو بلغت به الحال ما بلغت- فليس على يقين من السلامة
(2)
.
ولذا يخاف المؤمن على قلبه من الزيغ، فهو دائم الدعاء بقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
المسألة السادسة: المسارعة والمسابقة إلى أسباب رضوان الله:
ومما يدل على تعلق القلب بالله المسارعة والمسابقة إلى أسباب مرضاة الله من الفرائض والنوافل، ولا شك أن العبد الذي يريد حياة قلبه لا بد أن يضرب في هذه الغنائم بسهم وافر ويجتهد في ذلك؛ ليكون هذا الزاد من أعظم الأسباب المعينة على القيام بمهمته في الحياة الدنيا والآخرة.
المسألة السابعة: كثرة تلاوة القرآن الكريم مع التدبُّر:
ومن العلامات الدالة على تعلق القلب بالله تعالى: كثرة تلاوة القرآن الكريم مع تدبره وحضور القلب والتأثر بآياته ونزولها إلى القلب، وهكذا الداعية صاحب القلب الحي يكون حاله مع القرآن الكريم كما قال الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقال تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وقال تعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
(1)
أخرجه أحمد (19/ 160) ح (12107)، والترمذي (4/ 448) ح (2140) وقال الترمذي:"هذا حديث حسن"، وابن ماجه (2/ 1260) ح (3834)، حكم الألباني بصحته في مشكاة المصابيح (1/ 37) ح (102)،، قال محقق المسند (19/ 160):"إسناده قوي على شرط مسلم".
(2)
ينظر: تفسير السعدي (298).
وقد نالوا بركة القرآن الكريم بتدبرهم لآياته كما قال تعالى، وهو يحث عباده على تدبر كتابه الذي أنزله من أجل ذلك، فقال سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وكيف لا يتأثرون بالقرآن وهو الذي لو نزل على الجبال لتصدعت من خشية الله؟! كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
فإذا تعلق القلب بالله أقبل على تلاوة كتابه متدبرًا له، يجد فيه طمأنينة قلبه وخشوعه، وزيادة إيمانه وثباته.
المسألة الثامنة: كثرة التوبة والاستغفار:
ومن علامات تعلق القلب بالله تعالى: كثرة التوبة والاستغفار، فقلب العبد الموصول بربه يشعر بتقصيره في حق ربه، ويشعر بأثر الذنب، فهو دائم الاستغفار والتوبة، كما قال تعالى عن عباده المتقين:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وها هو سيد المرسلين وإمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، يستغفر في المجلس الواحد ويطلب من ربه أن يتوب عليه مائة مرة، كما في الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ
لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: «رَبِّ، اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
(1)
.
وهو الذي قال الله له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، ومع هذا يستغفر ربه ويطلب منه أن يتوب عليه بهذا العدد في مجلس واحد، فكيف بمن عداه من أهل الذنوب؟!
فإذا أراد المؤمن أن يفتح الله عليه في عبادته والاقبال على ذكره ودعائه، ويزيده قوة إلى قوته، فليكثر من التوبة والاستغفار الذي يواطئ فيه القلب اللسان، قال تعالى:{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية [هود: 52].
وقد سبق الكلام على الاستغفار والتوبة.
المطلب الخامس: تعلق القلب بالدار الآخرة.
تعلق القلب بالدار الآخرة من الأعمال القلبية التي لها زيادة أثر كبير على العبد في الإقبال على كثرة ذكر الله تعالى والدعاء، وهي كذلك لها ارتباط وثيق بتعلق القلب بالله تعالى.
وتعلق القلب بالآخرة يجمع شمل القلب فلا يتفرق في أودية وشعابها، فيستحوذ عليه الشيطان، ويشغله عن ذكر الله وعن توجه القلب إليه في الدعاء، ولذا نجد القرآن يحذر من الاغترار بالحياة الدنيا قبل الاغترار بالشيطان في أكثر من آية، ومنه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ 5 إِنَّ
(1)
أخرجه أبو داود (2/ 85) ح (1516)، والترمذي (5/ 494) ح (3434)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب"، وابن حبان في صحيحه (3/ 206) ح (927)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (5/ 248) ح (1357)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (2/ 627) ح (1516):"إسناده صحيح".
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5 - 6].
وفي هذا والله أعلم إشارة إلى خطر الاغترار بالدنيا فهي مركب الشيطان الذي يخدع به الناس، فيسهل عليه أن يستحوذ على قلوبهم فينسيهم ذكر الله، ويطبق على قلوبهم، فتصيبها الغفل، وتنسى الله والدار والآخرة، وتتعلق بالدنيا ويحدث من آثار ذلك ما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "
…
وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» الحديث
(1)
.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بيان خطر التعلق بالدنيا على الأمة: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا
(2)
»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ
(3)
، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 642) ح (2465)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 266) ح (11690)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (2/ 633) ح (949)، وصححه في صحيح الجامع (2/ 1109) ح (6505).
وأخرجه ابن ماجه (2/ 1375) ح (4105) بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 634) ح (950)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 227) ح (4105).
(2)
الأَكَلَة: جمع آكِل والمراد من يأكل الطعام. ينظر: المفردات في غريب القرآن (81) لسان العرب (11/ 19) مادة (أكل).
والقصعة: إناء الطعام الضخم الذي يشبع عشرة. ينظر: لسان العرب (8/ 274) مادة (قصع).
(3)
غثاء السيل: ما يحمله السيل من رغوة وورق الشجر ووسخ ومن فتات الأشياء التي يجدها في مجراه.
ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 343)، لسان العرب (15/ 116)، المعجم الوسيط (2/ 645) مادة (غثا).
اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ:«حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (37/ 82) ح (22397)، وأبو داود واللفظ له (4/ 111) ح (4297)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ مقارب (7/ 287) ح (12244) وقال:"رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، وإسناد أحمد جيد"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 648) ح (958)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (37/ 82) ح (22397).
المبحث الرابع: أحكام تخص عبادة الذكر أو الدعاء ولها تعلق بعمل القلب، وفيه عدة مطالب.
المطلب الأول: أهمية ذكر القلب.
والذكر بالقلب واللسان هو أعظم الذكر وسيأتي الكلام عنه، ويليه في المرتبة ذكر القلب كما يقول ابن القيم رحمه الله:" وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويردع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من ذلك الإثمار، وإن أثمر شيئاً منها فثمرته ضعيفة"
(1)
.
وذكر القلب نوعان
(2)
:
الأول: وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة الله وجلاله وملكه وتدبيره وآياته في سمواته وأرضه.
والثاني: ذكره بالقلب عند أمره بالامتثال، وعند نهيه بالاجتناب، ويتوقف عما أشكل عليه.
المطلب الثاني: أعظم الذكر ما اجتمع فيه القلب واللسان.
وأعظم الذكر ما اجتمع فيه القلب مع اللسان لأنه بهذا يحدث أثر هذه العبادة العظيمة على حياة المسلم، فينتفع بذكره ويرتفع به عند الله؛ ولأن" المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه، فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود"
(3)
.
(1)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 221).
(2)
وينظر في ذلك: إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 189)، شرح النووي على مسلم (17/ 15).
(3)
الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص 12 - 13).
ويربط الله في القرآن بين ذكره سبحانه وتعالى ووجل القلوب بسبب تدبرها لما تقول، فيقول تعالى في أول صفات المؤمنين حقاٌ:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
وقال تعالى في أول صفات المخبتين: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35].
وذكر سبحانه أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكره، فقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وكل هذه الآثار تحدث إذا حضر القلب مع اللسان، فحدث تدبر القلب لذكر الله باللسان، وعند ذلك تظهر هذه الآثار من وجل القلب وخوفه من الله وطمأنينته واستقراره وسعادته وبهجته العظيمة وانشراحه، وكل هذه وغيرها من ثمرات تواطئ القلب واللسان على ذكر الله تعالى.
المطلب الثالث: ذكر اللسان والدعاء بدون حضور القلب.
وأقل أنواع الذكر أثراً على صاحبه ذكر اللسان فقط بدون حضور القلب، وإن كان فيه الأجر العظيم والثواب الجزيل المترتب على ذكر الله، لكنه أقل ممن حضر فيه القلب، يقول ابن القيم رحمه الله:" والله تعالى لا يضيع أجر ذكر اللسان المجرد، بل يثيب الذاكر وإن كان قلبه غافلاً، ولكن ثواب دون ثواب"
(1)
.
ويقول ابن علان في شرحه لأذكار النووي: " وأما ذكر اللسان مجرداً فهو أضعف الأذكار وفيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث"
(2)
.
(1)
روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص 309 ط العلمية).
(2)
الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (1/ 107).
وقد سبق الكلام عن فوائد الذكر، وكما ورد في الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ "
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم (9/ 153 ط السلطانية)، وأحمد (16/ 568 ط الرسالة) ح (10968)، وابن ماجه (2/ 1246 ت عبد الباقي) ح (3792)، والحاكم - ط العلمية (1/ 673) ح (1824) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 386) ح (1906)، وصححه محقق المسند ح (10968).
المطلب الرابع: التضرع في الدعاء وعلاقته بالقلب.
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
وقال تعالى: {وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
يقول الشنقيطي رحمه الله في معنى التضرع: " (التضرع): التذلل والخضوع لله، وكثيراً ما يظهر أثر ذلك في الدعاء بأن يبتهل ذلك الذليل الخائف من الله يبتهل متضرعاً يناجي ربه (جل وعلا). و (الضارع): هو الذليل الخائف، و (الضراعة): الذل والخشوع والخوف"
(1)
.
وعلى هذا فهناك ارتباط وثيق بين القلب والتضرع، فلا يكون العبد متضرعاً إلى ربه إذا كان القلب متوجهاً إلى الله ومتعلقاً به؛ لأن التضرع خضوع وتذلل لله في القلب يظهر أثره على الجوارح في شدة رفع اليدين والإلحاح على الله والإخلاص لله وسلامة القلب عند ذلك من التعلق بغير الله.
والله يحب من عباده أن يسمع تضرعهم ليرفع عنهم ما نزل بهم من بلاء، فقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 42 فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42 - 43].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].
ودونك هذه الأمثلة من القرآن العظيم لقوم هم أعداء لله ويعبدون غيره لكن في حالة الشدة تضرعوا إلى الله بإخلاص له، فاستجاب دعاءهم مع علمه سبحانه أنهم سيعودون إلى ما كانوا عليه؛ لكن لما حصل في الدعاء التضرع والإخلاص لم يرد الله دعوتهم، فكيف بك يا أخي
(1)
العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 246).
المسلم، وأنت تحب الله وتريد القرب منه، فإذا دعوت فتضرع وإخلص له واسمعه بقلبك، وهو يقول سبحانه وتعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
ووالله لن تجد قرباً من الله أشد وأعظم من هذا القرب منك فهينئاً لك أيها المسلم بهذه العطايا العظيمة من ربك تبارك وتعالى.
ونعود إلى ذكر الأمثلة التي سبق الكلام عنها قريباً:
وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 63 قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64].
وتأمل في هذه الأمثلة ترى مظاهر التضرع فيها واضحة وتعلق القلب بالله، مع الإخلاص لله تعالى، وهم مع ذلك في بعد عن الله ولكن من رحمته أنه إذا أخلص العبد في دعائه وتضرعه فمن رحمته أنه لا يرده، فافرح أيها المسلم بهذا الباب العظيم الذي فتح فادخل منه على ربك وعلق قلبك به ترى العجب من فضله وبركاته عليك.
المطلب الخامس: الخوف والطمع عند الدعاء.
وهذه حقيقة عظيمة ترتبط بهذه العبادة، قال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
"{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه، طمعاً في قبولها، وخوفاً من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاهٍ"
(1)
.
وفي هذه الحال حين يقع الدعاء على هاتين الصفتين العظيمتين {خَوْفًا وَطَمَعًا} فلا بد أن يكون هناك توافق بين القلب واللسان حتى يحصل هذا العمل القلبي الخوف من الله والرجاء.
ولهذا وصف الله الأنبياء ومن سار على طريقهم من عباده الصالحين بما يأتي:
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص 292).
فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
قال السعدي رحمه الله في معنى الآيات: "لما ذكر تعالى الكافرين بآياته، وما أعد لهم من العذاب، ذكر المؤمنين بها، ووصفهم، وما أعد لهم من الثواب، فقال:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا} أي: إيمانًا حقيقيًا، من يوجد منه شواهد الإيمان، وهم:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن، وأتتهم النصائح على أيدي رسل الله، ودُعُوا إلى التذكر، سمعوها فقبلوها، وانقادوا، و {خَرُّوا سُجَّدا} أي: خاضعين لها، خضوع ذكر لله، وفرح بمعرفته.
{وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} لا بقلوبهم، ولا بأبدانهم، فيمتنعون من الانقياد لها، بل متواضعون لها، قد تلقوها بالقبول، والتسليم، وقابلوها بالانشراح والتسليم، وتوصلوا بها إلى مرضاة الرب الرحيم، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة الله تعالى.
ولهذا قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي: في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما. {خَوْفًا وَطَمَعا} أي: جامعين بين الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذاب الله، وطمعًا في ثوابه.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الرزق، قليلًا كان أو كثيرًا {يُنفِقُونَ} ولم يذكر قيد النفقة، ولا المنفق عليه، ليدل على العموم، فإنه يدخل فيه، النفقة الواجبة، كالزكوات، والكفارات، ونفقة
الزوجات والأقارب، والنفقة المستحبة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي، خير مطلقًا، سواء وافق غنيًا أو فقيرًا، قريبًا أو بعيدًا، ولكن الأجر يتفاوت، بتفاوت النفع، فهذا عملهم.
وأما جزاؤهم، فقال:{16 فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} يدخل فيه جميع نفوس الخلق، لكونها نكرة في سياق النفي. أي: فلا يعلم أحد {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور، كما قال تعالى على لسان رسوله:"أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"
فكما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم، ولهذا قال:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "
(1)
.
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص 655).
المبحث الخامس: من فوائد وثمرات تحقيق عمل القلب في عبادة الذكر والدعاء، وفيه عدة مطالب.
المطلب الأول: الشعور بمعية الله لعبده.
ومعية الله هنا هي: المعية الخاصة التي تقتضي المحبة، والنصرة والتأييد، والمعونة والهداية، والحفظ والحماية، والقرب من عبده
(1)
، فذكر الله ودعاؤه، فبذلك تستجلب معية الله الخاصة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَاءٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَاءٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» الحديث
(2)
.
وأما الدعاء فقد قال الله تعالى عن قربه من عبده الذي يدعوه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
ويقولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي»
(3)
.
وللشعور بهذه المعية الخاصة من الله تعالى لعبده المؤمن الذاكر له والداعي، يظهر أثرها على حياته في زيادة إقباله على كثرة الذكر والدعاء الخاشع مع حضور القلب، وذلك يجعله يذوق حلاوة العبادة ولذتها، وهذه بعض آثار المعية الخاصة على العبد المؤمن، وسيأتي مزيد تفصيل لبعضها:
1. توفيق الله وإعانته له.
2. رعاية الله وعنايته وحفظه لعبده.
3. نصر الله وتأييده.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 250)، تفسير ابن كثير (4/ 615)، المعية الإلهية في ضوء القرآن الكريم معانيها ودلالاتها (60) للدكتور ناصر الماجد، بحث منشور في مجلة الدراسات القرآنية العدد (10) 1433 هـ.
(2)
أخرجه البخاري (9/ 121) ح (7405)، ومسلم (4/ 2061) ح (2675).
(3)
أخرجه مسلم (4/ 2067) ح (2067).
4. طمأنينة القلب، وانشراح الصدر، والثقة في وعد الله، وأوضح ما يكون عند الشدائد.
ودونك على سبيل المثال هذين الموقفين:
الموقف الأول: قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وهو في الغار يطارده أعداؤه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا! فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ -يَا أَبَا بَكْرٍ- بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟!»
(1)
.
وفي حديث الهجرة الطويل، في آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه:«أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟» ، قال: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُتِينَا، فَقَالَ:«لَا تَحْزَنْ؛ إِنَّ اللهَ مَعَنَا» فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا، أُرَى فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا اللهَ، فَنَجَا، فَرَجَعَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَاهُنَا، فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَى لَنَا
(2)
.
الموقف الثاني: قال تعالى عن موسى عليه السلام في ثقته بربه لما لحق بهم فرعون وجنوده، فصار العدو من خلفهم والبحر أمامهم، وليس معهم مراكب يجتازون بها البحر، فحصلت هزة قوية جعلت أصحاب القلوب التي ضعف تعلقها بالله تضطرب وتشعر بالهلاك، فقال الله عنهم وعن موسى الواثق بربه الذي تعلق قلبه به، وهو يشعر بقربه منه ومعيته له: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ
(1)
أخرجه البخاري (5/ 4) ح (3653)، ومسلم (4/ 1854) ح (2381).
(2)
أخرجه البخاري (4/ 201) ح (3615)، ومسلم واللفظ له (4/ 2309) ح (2009).
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 61 - 68] ..
5 - تثبيت الله للمؤمن عند لقاء العدو في ساحات الوغى:
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
وهذا النصر والثبات مشروط بنصرتهم لدين الله، فإذا فعلوا ونصروا دينه، وقاموا به في أنفسهم، ودعوا إليه وجاهدوا أعداءه مخلصين لله، كان الله معهم بالنصر والتثبيت.
قال السعدي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: "هذا أمر منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره"
(1)
.
بل ويسخر الله الملائكة تقف معه بالتثبيت والتأييد، كما قال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وهذا ما حصل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر.
6. الثبات على الحق إذا هبّت أعاصير الفتن:
ومن أسباب الثبات على الحق شعوره بمعية الله له، ولذا تجد العبد المؤمن يجتهد في إصلاح قلبه، و يتفقده وينقيه من الشوائب حتى يثبته الله على الحق إذا هبت أعاصير الفتن.
(1)
تفسير السعدي (785).
ومن آثار هذه المعية أنه يجد إعانة الله تجلي له طريق الحق فلا يلتبس عليه بطريق الباطل، وذلك بنور الوحي الذي يقذفه الله في قلبه، فيفتح الله له بنوره باب الحق، ويثبته الله عليه إلى أن يلقاه على الحق غير مغير ولا مبدل، قال تعالى عن آثار هذا النور:{أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا 174 فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيما} [النساء: 174 - 175].
وقال تعالى في بيان هداية الوحيين: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 52 صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52 - 53].
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
7. القوة في الحق وعدم الخوف من غير الله:
وهذه ثمرة من ثمرات معية الله الخاصة لعبده، وهو أحوج ما يكون لذلك؛ لأنه يواجه شياطين الإنس والجن، الذين يسعون في الأرض فسادًا، فهو بحاجة ماسة لرعاية الله وعنايته به، فإذا حصل ذلك وجد أثره قوة في قلبه، ولا يكون في قلبه خوف من أحد غير الله، قال الله تعالى لنبيه وكليمه موسى ووزيره هارون لما أرسلهما دعاة إلى الله تعالى إلى فرعون الطاغية المتجبر المتكبر:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 43 - 46].
ولما يشعر العبد المؤمن بقرب ربه منه، فيقبل عليه، ويزداد خشوعًا، وذلًّا وخضوعًا لربه، فيسارع ويسابق إلى مرضاته: قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وهذه من أعظم فوائد الذكر والدعاء التي تجعل العبد يلتذذ بخلوته بربه ويسعد بها ويجد فيها أنسه وراحة قلبه، ودونك هذه الآثار عن السلف في هذ المعنى التي أوردها ابن رجب رحمه الله في كتابه العظيم جامع العلوم والحكم:
"قال بكرٌ المزنيُّ: مَنْ مثلُك يا ابنَ آدم: خُلِّي بينَك وبينَ المحراب والماء، كلَّما شئتَ، دخلتَ على اللهِ عز وجل، ليس بينَكَ وبينَه تَرجُمان.
ومن وصل إلى استحضارِ هذا في حال ذكره لله وعبادته، استأنسَ بالله، واستوحش مِنْ خلقه ضرورةً.
قال ثور بن يزيد: قرأتُ في بعضِ الكُتب أن عيسى عليه السلام قال: يا معشر الحواريِّين، كلِّموا الله كثيرًا، وكلِّموا الناسَ قليلًا، قالوا: كيف نكلِّمُ الله كثيرًا؟ قال: اخلُوا بمناجاته، اخلوا بدُعائه. خرجه أبو نعيم.
وخرَّج أيضًا بإسناده عن رياح، قال: كان عندنا رجلٌ يصلِّي كلَّ يومٍ وليلةٍ ألفَ ركعة، حتَّى أُقعِدَ من رجليه، فكان يصلِّي جالسًا ألف ركعة، فإذا صلى العصر، احتبى، فاستقبل القبلةَ، ويقول: عجبتُ للخليقةِ كيف أَنسَت بسواك، بل عجبتُ للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكرِ سواكَ.
وقال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النَّضر الحارثيِّ، فرأيتُه كأنه منقبضٌ، فقلت: كأنَّك تكره أن تُؤتى؟ قال: أجل، فقلت: أوَ ما تستوحشُ؟ فقال: كيف أستوحشُ وهو يقولُ: أنا جليسُ مَنْ ذكرني.
وقيل لمالك بن مِغول وهو جالسٌ في بيته وحده: ألا تستوحشُ؟ فقال: ويستوحشُ مع اللهِ أحدٌ؟.
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته، ويقولُ: من لم تَقرَّ عينُه بكَ، فلا قرَّت عينُه، ومن لم يأنس بكَ، فلا أنِسَ.
وقال غزوان: إنِّي أصبتُ راحةَ قلبي في مُجالسة مَنْ لديه حاجتي.
وقال مسلم بنُ يسار: ما تلذَّذ المتلذِّذونَ بمثلِ الخَلْوة بمناجاةِ اللهِ عز وجل.
وقال مسلم العابد: لولا الجماعة، ما خرجتُ من بابي أبدًا حتى أموت، وقال: ما يجدُ المطيعونَ لله لذَّةً في الدُّنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيِّدهم، ولا أحسب لهم في الآخرة مِنْ عظيم الثَّواب أكبرَ في صدورهم وألذَّ في قلوبهم مِنَ النَّظر إليه، ثم غُشي عليه.
وعن إبراهيم بن أدهم، قال: أعلى الدَّرجات أن تنقطعَ إلى ربِّك، وتستأنِسَ إليه بقلبك، وعقلك، وجميع جوارحك حتَّى لا ترجُو إلَّا ربَّك، ولا تخاف الَّا ذنبكَ، وترسخ محبته في قلبك حتَّى لا تُؤثِرَ عليها شيئًا، فإذا كنت كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنت، أو في بحر، أو في سهلٍ، أو في جبلٍ، وكان شوقُك إلى لقاء الحبيب شوقَ الظَّمآن إلى الماء البارد، وشوقَ الجائعِ إلى الطَّعام الطيب، ويكونُ ذكر الله عندكَ أحلى مِنَ العسل، وأحلى من المَاء العذبِ الصَّافي عند العطشان في اليوم الصَّائف.
وقال معروف لرجلٍ: توكَّل على الله حتَّى يكونَ جليسَك وأنيسَك وموضعَ شكواكَ.
وقال ذو النون: مِنْ علامة المحبِّين لله أن لا يأنَسُوا بسواه، ولا يستوحشُوا معه، ثم قال: إذا سكنَ القلبَ حبُّ اللهِ تعالى، أَنِسَ بالله، لأنَّ الله تعالى أجلُّ في صُدورِ العارفين أنْ يُحبُّوا سواه" والى هنا انتهى المنقول من جامع العلوم والحكم
(1)
.
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 132 - 134 ت الأرنؤوط).
المطلب الثاني: تحقيق التوحيد.
وقد سبق الكلام عن هذه الفائدة العظيمة، وأضيف هنا أن الإخلاص لله تعالى والمتابعة لهدي النبي في عبادة الذكر والدعاء يثمر صفاء العقيدة من شوائب الشرك في هذا المجال، وتحقيق التوحيد والحرص على حماية جنابه من كل وسيلة وذريعة تؤثر عليه وتكدر صفوه.
المطلب الثالث: ذكر الله لعبده.
وفي الذكر فائدة عظيمة جليلة المقدار، وهي أن الله بجلاله وعظمته وكماله سبحانه وتعالى يتفضل على العبد الذي يذكره بذكره له، وهذا والله هو أعظم الشرف، وأي شرف يداني هذا الشرف؟ وأية عزة ورفعة تداني هذا الأمر؟ وقال الله تعالى في بيان ذلك:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
وكما سبق في الحديث: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
…
فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَاءٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَاءٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» الحديث.
وعَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل، أَنَّهُ قَالَ:" مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَطْيَبَ "
(1)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله عن هذه الفائدة العظيمة لذكر الله: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلًا وشرفًا"
(2)
.
وإذا أستشعر العبد هذا المعنى العظيم بقلبه زاد إقباله على كثرة ذكر الله؛ لأنه يريد الزيادة من هذا الشرف العظيم بذكر الله له في نفسه أو في الملأ الأعلى، وما يترتب عليه من خير عظيم جليل المقدار في الدنيا والآخرة.
(1)
أخرجه أحمد (14/ 291 ط الرسالة) ح (8650)، وقال محقق المسند:"حديث صحيح".
(2)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 96).
المطلب الرابع: يطرد الشيطان ويقمعه، ويكون العبد في حصن حصين منه.
وهذه من أعظم فوائد الذكر، فإن الذاكر لله تعالى في حصن حصين من الشيطان، قال تعالى:{وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ 36 وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37].
(1)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لَهِجًا بذكره؛ فإنّه لا يُحْرِزُ نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يَدْخُل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يَرْصُدُه، فإذا غفل وثَبَ عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع، حتى يكون كالوصْع
(2)
وكالذباب، ولهذا سُمِّي الوسواس الخناس، أي: يوسوس في الصدور؛ فإذا ذُكِر الله تعالى خَنَس، أي: كف وانقبض.
وقال ابن عباس: "الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفلَ وَسْوَسَ، فإذا ذكر الله تعالى خَنَس"
(3)
"
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد (28/ 404 ط الرسالة) ح (17170)، والترمذي واللفظ له (5/ 148 ت شاكر) ح (2863) وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب"، وأبو يعلى (3/ 140 ت حسين أسد) ح (1571)، وابن خزيمة ط 3 (2/ 914) ح (1895)، والحاكم - ط العلمية (1/ 582) ح (1534) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 358) ح (552)، وقال محقق المسند:"حديث صحيح".
(2)
طائر أصغر من العصفور. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 191) مادة (وصع).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 135 ت الحوت) رقم الأثر (34774)، الأحاديث المختارة (10/ 367) رقمه (393).
(4)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 83).
المطلب الخامس: خشوع القلب وطمأنينة التي تؤثر على الروح والجسد.
وللذكر أثر عظيم على طمأنينة القلب وخشوعه، وكذلك الدعاء له أثره الكبير على القلب والروح والجسد، وعلى حياة العبد في حصول المطالب وقضاء الحاجات، ودفع المصاعب والأخطار.
ودعاء الله على رأس الذكر لله تعالى، وقال تعالى في بيان أثر الذكر على القلب:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى
(1)
.
وهو يجلب لقلب الذاكر الفرح والسرور والراحة والطمأنينة والاستقرار واللذة والخشوع، ويزيل ما في القلوب من اضطراب وقلق وهم وحزن، ويبدل ذلك بالأنس والراحة والفرح، وحقيق بالقلوب وحري بها ألا تطمئن لشيء سوى ذكره تبارك وتعالى
(2)
.
بل إن الذكر هو حياة القلب حقيقة، وهو قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، فلا حياة للقلب حقيقة إلا بذكر الله، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء"
(3)
.
ومن أسباب الطمأنينة والسكينة والراحة النفسية مجالس الذكر، كما في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
(4)
.
(1)
ينظر: تفسير الطبري (16/ 432).
(2)
فقه الأدعية والأذكار (1/ 17 - 18).
(3)
ينظر: الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 96).
(4)
أخرجه مسلم (8/ 72 ط التركية) ح (2700).
المطلب السادس: زيادة تعلق القلب بالله والدار الآخرة.
إن القلب المقبل على ذكر الله ودعائه، يزيد فيه تعلقه بربه والدار الآخرة، ولا يلتفت إلى الدنيا ولا تغره ولا تخدعه، بل هو يعرف الدنيا على حقيقتها، ويعرف الآخرة على حقيقتها، ويزن الدنيا بميزان العدل، فيسخرها من أجل مرضاة ربه والفوز بجنته، فلا تشغله وتلهيه الدنيا عن كثرة ذكر الله والإقبال على الدعاء مع حضور القلب، بل قلبه متعلق بربه والدار الآخرة، كما قال تعالى عنهم:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ 36 رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37].
بل جاء التحذير من ذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
المطلب السابع: كثرة الذكر والدعاء أمان من النفاق.
قال ابن القيم رحمه الله عن هذه الفائدة العظيمة من فوائد كثرة الذكر: " أن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل.
قال الله عز وجل في المنافقين: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلا} [النساء: 142].
وقال كعب: من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق
(1)
.
ولهذا -والله أعلم- ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
(1)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 98 ط الرشد) رقم الأثر (572) وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح.
ينظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (11/ 203) ح (5120).
الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]؛ فإن في ذلك تحذيراً من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله عز وجل، فوقعوا في النفاق.
وسئل بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الخوارج: أمنافقون هم؟ قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً
(1)
.
فهذا من علامة النفاق: قلة ذكر الله عز وجل، وكثرة ذكره أمان من النفاق، والله عز وجل أكرم من أن يبتلي قلباً ذاكراً بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله عز وجل "
(2)
.
المطلب الثامن: من أسباب زيادة الإيمان.
وكثرة ذكر الله ودعاؤه من الأعمال الجليلة التي لها أثر كبير في زيادة إيمان العبد.
أجمع أئمة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص
(3)
، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا شك أن الذكر والدعاء من أعظم الطاعات التي بها يزيد الإيمان ولاسيّما إذا اتفق القلب واللسان.
قال تعالى في بيان ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا 108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 535 ت الحوت) رقم (37763) أثر عن علي رضي الله عنه بلفظ مقارب.
(2)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 195 - 196).
(3)
وممن ذكر الإجماع ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 832)، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 238)، والبغوي في شرح السنة (1/ 38 - 39)، وابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 672)، وابن كثير في تفسيره (1/ 165).
المطلب التاسع: الحفظ والحماية ورعاية الله له.
وإن كان هذا الأمر مرتبطاً بمعية الله الخاصة للذاكر والداعي التي سبق الكلام، إلا أن هناك أذكار وأدعية لها أثر كبير في حفظ الله وحمايته لعبده ورعايته له، وقد جعلها الله أسباباً لذلك، ومنها:
أذكار الصباح والمساء وبقية الأذكار المقيدة بزمان أو مكان.
الدعاء وأثره العظيم في جلب المنافع ودفع المكروه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاء» الحديث
(2)
.
أدعية لها أثر في الحفظ ورعاية الله لعبده كدعاء السفر ونحوه.
المطلب العاشر: وجل القلب والخوف من الله.
وقال تعالى في أول صفات المؤمنين حقاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآيات.
وهذه صفة عظيمة من صفات المؤمنين حقاً أنهم إذا ذُكِرَ الله خافت قلوبهم من خشية الله وتعظيمه، وذلك حين يسمع العبد المؤمن بقلبه وإذنه ويذكر الله ويتذكره بقلبه ولسانه، فيوجب ذلك له خشية الله التي تجعله ينكف عن المحارم، فإن الخوف من الله من أعظم علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 448) ح (2139) قال: "وهذا حديث حسن غريب"، والبزار في مسنده (6/ 501) ح (2540)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1271) ح (7687).
(2)
أخرجه أحمد (37/ 95) ح (22413)، وابن ماجه (1/ 35) ح (90)، وابن حبان (3/ 153) ح (872)، والحاكم (1/ 670) ح (1814) وصححه وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 279) ح (1638)، وقال محقق المسند (37/ 95) ح (22413):"حسن لغيره".
(3)
ينظر: تفسير السعدي (315).
وقال تعالى في أول صفات المخبتين: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ 34 الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34 - 35] الآية.
والمخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده، ومن أول صفاته أنه إذا ذكر الله وجل قلبه بمعنى خاف من الله تعظيماً له، فترك لذلك المحرمات لخوفه ووجله من الله وحده
(1)
.
المطلب الحادي عشر: الثقة بالله وحسن الظن به.
ومن أقبل على ذكر الله ودعائه بقلب حاضر قويت ثقته بالله، وتعلق قلبه به، وحَسُنَ ظنه بربه سبحانه وتعالى، وقد وربط الله بين حسن الظن به والذكر والدعاء، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي .. " الحديث.
ويقولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي» .
وقال تعالى عن قربه من عبده إذا دعاه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
ومما يدل على أهمية حسن الظن بالله وعظيم الثقة به، أن يعزم العبد في دعائه ويلح على ربه ويعظم الرغبة مع حضور القلب واستشعار عظمة الله وقدرته على كل شيء وأنه لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ»
(3)
.
وهذه المعاني العظيمة التي يدل عليها الحديث، تقوي ثقة العبد بربه وحسن ظنه به، فيتعلق قلبه به، ولا يلتفت إلى أحد غيره في الرغبة والرهبة.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (538).
(2)
أخرجه البخاري واللفظ له (8/ 74 ط السلطانية) ح (6339)، ومسلم (8/ 64 ط التركية) ح (2679).
(3)
أخرجه مسلم (8/ 64 ط التركية) ح (2679).
المطلب الثاني عشر: الثبات في المعركة والنصر والتأييد
(1)
.
لقد جاءت النصوص الكثيرة في بيان أن كثرة الذكر والتضرع إلى الله؛ من أعظم أسباب النصر والتأييد والتمكين والثبات في المعارك، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
وقال تعالى يصف دعاء المؤمنين في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9].
لقد كانت مشاعر المؤمنين قبل المعركة متوجهة إلى مالك النصر في لهفة واضطرار تطلب الغوث منه والنجدة، بنصر من عنده، فكان المدد بالملائكة والنصر من الله - سبحانه -، واستجابة الدعاء من الله، حتى لقد علم المؤمنون أنهم إنما نصروا بنصر الله، لا بعددهم ولا بسالتهم، ووصلوا إلى النصر بسهولة ودون عظيم خسارة هناك.
قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
أما الحال في حنين، فيصوره القرآن كذلك ويذكر حال الجماعة المؤمنة، فلا يذكر عنهم أنهم تضرعوا ولا دعوا، فقلت لديهم الضراعة، بل اضمحلت فيهم اضمحلالًا ظاهرًا، بل بالعكس وقع في النفوس العجب بكثرة العدد والركون إليها والتعويل عليها، وهنا يأتي سياق القرآن بذكر ما استكن في قلوب المؤمنين وهم يسيرون إلى عدوهم فلا يذكر إقبالًا على دعاء الله منها، ولا طلب نصر منه، ولا استغاثة بربهم كما كان الحال في بدر، بل يذكر ما استكن فيها من العجب بالكثرة والالتفات إليها أكثر من الالتفات إلى دعاء واهب النصر، حتى كانت الكلمة الرائجة في الجيش "لن نغلب اليوم عن قلة"
(2)
، فكانت الهزيمة الفاضحة في أول الأمر حتى أثبتت للمؤمنين أن الاعتماد يجب أن لا ينصرف إلى كثرة عدد ولا قوة مدد، ولا وفرة العتاد
(1)
ينظر: عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين (ص 171 - 175 بترقيم الشاملة آليا).
(2)
ينظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 390).
والآلة؛ وإنما الاعتماد إلى واهب النصر وحده، الذي نصرهم وهم أذلة في بدر حين قصدوه، ووجهوا القلوب متضرعة إليه.
وبعد أن تلقى أهل الإيمان درسًا فريدًا، وعلموا أن الكثرة ما أغنت ولا أجدت؛ شاء الله - سبحانه - أن يكمل لهم بقية الدرس ويريهم كيف ينزل النصر؟ وإذا أرادوه فمن أي باب يطرقونه؟ فهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في رجال معه، وينزل عن بغلته ويقول:"اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ"
(1)
، ويستنصر الله ويدعوه فينزل الله سكينته عليه وعلى المؤمنين، وينزل سبحانه جنودًا لم يروها، فيكون النصر المبين من الله، والذي صنعه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين دعوه وتضرعوا إليه وثبتوا على ذلك يدعون ويتضرعون، وهكذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت ويدعو الله ويستنزله نصره حتى كان النصر من الله الموصوف في الآية:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
إن الضراعة والابتهال إلى الله بإنزال النصر لم تكن شأن النبي صلى الله عليه وسلم في حنين فقط، بل "كان صلى الله عليه وسلم إذا لقي عدوه، وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله"
(2)
.
وهذا هو القرآن الكريم لا يكاد يذكر نصرًا وتمكينًا لدعوة الحق إلا ويذكر قبله أنه استنزل من خزائن مالك الملك بالضراعة والدعاء فهذا نبي الله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام
(1)
أخرجه مسلم (5/ 168 ط التركية) ح (1776).
(2)
زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (3/ 116).
وضراعته إلى ربه، فقال تعالى في شأنه:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ 10 فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ 11 وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ 12 وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ 13 تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ 14 وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 15 فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 10 - 16].
وقال تعالى في شأنه كذلك: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ 116 قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ 117 فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 118 فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ 119 ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ 120 إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 116 - 121].
وقال تعالى في بيان أثر الدعاء والضراعة فيه: {وَكَأَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ 146 وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 147 فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148].
والأدلة على إثبات ضراعة الأنبياء عليهم السلام في دعائهم ربهم لطلب النصر كثيرة جداً.
المطلب الثالث عشر: صلاح الظاهر والباطن.
الإقبال على كثرة ذكر الله تعالى وكثرة دعائه يؤدي إلى صلاح باطن العبد؛ لما في الذكر والدعاء من الأثر العظيم على صلاح القلب، الذي يترتب عليه صلاح ظاهر العبد، كما في الحديث الذي سبق مراراً، قال صلى الله عليه وسلم:«أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .
ومن علامات صلاح باطن العبد صلاح ظاهره للتلازم الكبير بين الظاهر والباطن، وكما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل
انتفاء الباطن"
(1)
، وعليه فكثرة ذكر الله على المنهج الذي يحبه الله كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم علامة صادقة على صلاح القلب وسلامته، وقال ابن القيم رحمه الله:" ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره؛ إلا بمن يَدُلُّهُ عليه، ويُذكِّره به، ويذاكره بهذا الأمر"
(2)
، وذكر الله تعالى في كتابه، حال عباده المؤمنين أولي الألباب الذين يذكرون الله على كل أحوالهم، وهذا يدل على سلامة قلوبهم وصلاحها، فقال تعالى عنهم في بيان ذلك:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
وقال سبحانه في أول صفة للمؤمنين حقاً تدل على ارتباط الظاهر بالباطن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآيات.
وقال تعالى في أول صفات المخبتين: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35] الآية.
(1)
الإيمان الأوسط - ط ابن الجوزي (ص 446).
(2)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 120 ط عطاءات العلم).
المطلب الرابع عشر: الثبات حتى الممات وحسن الخاتمة.
ومن أعظم أسباب الثبات الإكثار من ذكر الله تعالى ومنه الدعاء والتضرع، فقال تعالى في بيان ذلك:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، فرتب سبحانه الثبات عند مواجهة العدو على كثرة ذكر الله.
والثبات من الله عزوجل كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]
قال السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها.
وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح، إذا قيل للميت: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي. {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} عن الصواب في الدنيا والآخرة، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم"
(1)
.
وقال رحمه الله في موطن آخر: "وأصل الثبات: ثبات القلب وصبره، ويقينه عند ورود كل فتنة، فقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، فأهل الإيمان أهدى الناس قلوبًا، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات، وذلك لما معهم من الإيمان"
(2)
.
ومما يبرز أهمية توفيق الله للعبد للثبات على الدين الحق إلى الممات والتوفيق لحسن الخاتمة تكرار الدعاء العظيم في كل ركعة من الصلاة لطلب الهداية من الله والثبات عليها، قال تعالى:
(1)
تفسير السعدي (425).
(2)
تفسير السعدي (867).
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].
وإليك بعض الفوائد العظيمة حول الدعاء الذي ورد في آخر سورة الفاتحة:
إذا رسخ في قلب العبد أهمية هذا الدعاء وعظيم الحاجة إليه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، وأنه من أعظم الأدعية وأهمها على الإطلاق، حينها يقبل القلب عليه مستشعراً لفقره وحاجته لربه في أن يحقق له مطلبه ويجيب دعوته، والتي متى ما أجيبت نال سعادة الدارين، ولتكرار هذه الدعوة في كل ركعة من الصلاة سر عظيم، اسأل الله ان يوفقني للإشارة إليه في الفقرة الآتية.
فينبغي على المسلم أن يشعر بعظمة هذا الدعاء الذي يردده في كل يوم فقط في الفرائض سبع عشرة مرة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، وهذا يشعر بعظيم أهميتة في حياة المسلم؛ بل هو من أعظم ما يدعو به في نهاره وليلته؛ لأن هذا الدعاء يتضمن سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم، وكذلك سؤاله الثبات على الهداية إلى أن يلقى ربه، ويختم له بالحسنى.
والعبد المؤمن في هذه الدنيا على خطر عظيم، فالقلب كثير التقلب، وشياطين الأنس والجن متربصة به تنتظر زلته عن الصراط ليستثمروها، وفي المقابل نفس امّارة بالسوء، والصراط المستقيم على صعوبته، بجواره طرق مزينة مفروشة بالشهوات المحرمة المحببة للنفوس، فالخطر عظيم، وفتن الشبهات والشهوات تعرض على القلوب في كل وقت، فهنا يظهر أهمية وعظمة هذا الدعاء وجاجة الماسة إلى الدعاء به في كل ركعة، والله الموفق والمعين.
قال تعالى عن خطر الشياطين وتعاونهم على إضلال بني آدم: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} الأنعام: 112 - 113.
وذكر الله في كتابه دعاء المؤمنين الراسخين في العلم فقال سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آل عمران: 8.
وهذا يدل على أن القلب كثير الزيغ إذا لم يثبته الله، وجاء إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء بتثبيت القلوب على الدين؛ ليدل على كثرة تقلبها بسبب كثرة أمراضها، وهذا يجعل المؤمن مهتمًّا بالإكثار من هذا الدعاء متفهماً لحاجته له؛ لخوفه على قلبه من التقلب، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ:«نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»
(1)
.
وقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: لَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ خَيْرًا وَلَا شَرًّا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُخْتَمُ لَهُ، يَعْنِي بَعَدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: وَمَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا "
(2)
.
وكل ما سبق يدل دلالة قوية على عظيم أهمية هذا الدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الذي نكرره في كل ركعة، ولكن حجب الذنوب الكثيفة على القلوب أفقدت القلب الشعور بحاجته الشديدة والماسة جداً لتكرار هذا الدعاء في كل ركعة، وإلى الله المشتكى.
(1)
أخرجه أحمد ط الرسالة (19/ 160) ح (12107)، والترمذي (4/ 448) ح (2140) وقال الترمذي:"هذا حديث حسن"، وابن ماجه (2/ 1260) ح (3834)، حكم الألباني بصحته في مشكاة المصابيح (1/ 37) ح (102)، قال محقق المسند (19/ 160):"إسناده قوي على شرط مسلم".
(2)
أخرجه أحمد (39/ 239) ح (23816)، والحاكم (2/ 317) ح (3142) وصححه ووافقه الذهبي، وقال محقق المسند (39/ 239):" حديث حسن"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 374) ح (1772).
وكذلك يحضر قلبه عند التأمين، فهو كلمة بمعنى:"اللهم استجب" أي: استجب هذا الدعاء، وليتذكر وهو يقول:"آمين" حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(1)
.
قال شيخ الإسلام رحمه الله عن عظيم أثر هذا الدعاء: "والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين، كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائماً في أن يهديهم الصراط المستقيم، فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين.
قال سهل بن عبد الله التستري: ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار
(2)
، وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول: ثبتنا واهدنا لزوم الصراط. وقول من قال: زدنا هدى يتناول ما تقدم؛ لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم؛ فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد ولا يكون مهتدياً حتى يعمل في المستقبل بالعلم، وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب، وإن حصل فقد لا يحصل العمل فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه، وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة والله أعلم"
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن هذا الدعاء العظيم: " ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله إلى ذلك؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (8/ 85) ح (6402)، ومسلم واللفظ له (1/ 307) ح (410).
(2)
ينظر: الزهد والرقائق للخطيب البغدادي (ص 123).
(3)
مجموع الفتاوى (10/ 108 - 109).
(4)
تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 139).
وقال السعدي رحمه الله: "فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك"
(1)
.
ولهذا لا يحسن بالمسلم أن يغفل عن ذلك، بسبب تكرار هذا الدعاء في كل ركعة من صلاته، بل ينبغي أن يكون حاضر القلب، يجاهد نفسه على ذلك؛ ليتحقق أثر هذا الدعاء العظيم عليه ثباتًا على الحق إلى أن يلق الله، وصبرًا على ما يلقاه في طريقه إلى الله.
المطلب الخامس عشر: الشعور القلبي بالقيمة العظيمة لعبادة الذكر والدعاء، ومن ذلك:
وللذكر والدعاء الكثير من الفوائد، ذكرت بعضها فيما سبق، وأضيف هنا كذلك فوائد أخرى، ويصعب الإحاطة بهذه الفوائد لكثرتها جداً، وهناك بعض الكتب المتعلقة بالذكر والدعاء توسعت في ذلك، ولعل من أبرزها: الوابل الصيب للإمام ابن القيم رحمه الله، فقد في الذكر أكثر من سبعين فائدة.
ولكني أقصد هنا أن يستشعر المؤمن بقلبه هذه الفوائد ليزداد أقبالاً على الذكر والدعاء، والله الموفق والمعين، ودونك شيئاً من ذلك:
1 - خير من الدنيا وما فيها وما عليها.
وقد ورد ذلك في الحديث قيمة الكلمات الأربع ووزنها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها أحب إليه من الدنيا وما فيها، وما عليها، حيث يقول: يقول صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (39).
(2)
أخرجه مسلم (8/ 70 ط التركية) ح (2695).
2 - خير الأعمال.
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ» ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»
(1)
.
3 - الدعاء هو العبادة.
عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (36/ 33 ط الرسالة) ح (21702)، والترمذي (5/ 459 ت شاكر) ح (3377)، وابن ماجه (2/ 1245 ت عبد الباقي) ح (3790)، والحاكم (1/ 673) ح (1825)، وصححه وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 73):"رواه أحمد، وإسناده حسن"، وصححه الألباني في تخريجه للترمذي رقم ح (3377)، وقال محقق المسند:"إسناده صحيح".
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (30/ 340) ح (18391)، وأبو داود (2/ 76) ح (1479)، والترمذي (5/ 375) ح (3247) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1258) ح (3828)، والحاكم (1/ 667) ح (1802) وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 641) ح (3407)، وقال محقق المسند (30/ 340) ح (18391):"إسناده صحيح".
4 - أكرم شيء على الله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ»
(1)
.
5 - من أعظم الأعمال التي تنجي من عذاب الله.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ "
(2)
.
6 - لا يرد القدر إلا الدعاء.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ»
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاء» الحديث
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (14/ 360) ح (8748)، والترمذي (5/ 455) ح (3370) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ .. "، وابن ماجه (2/ 1258) ح (3829)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 276) ح (1629)، وكذلك شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 6) ح (3829).
(2)
أخرجه أحمد (36/ 396 ط الرسالة) ح (22079) عن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً، وضعف إسناده محقق المسند لانقطاعه، والطبراني في المعجم الأوسط (3/ 5) ح (2296) عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً، وقال عنه المنذري في الترغيب والترهيب للمنذري - ت عمارة (2/ 396) ح (13):" رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 74) ح (16749):"رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 205) ح (1496):"حسن لغيره".
وأخرجه موقوفاً على معاذ رضي الله عنه الترمذي (5/ 459 ت شاكر) ح (3377)، وابن ماجه (2/ 1245 ت عبد الباقي) ح (3790)، والحاكم (1/ 673) ح (1825).
(3)
أخرجه الترمذي (4/ 448) ح (2139) قال: "وهذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1271) ح (7687).
(4)
أخرجه أحمد (37/ 95) ح (22413)، وابن ماجه (1/ 35) ح (90)، وابن حبان (3/ 153) ح (872)، والحاكم في المستدرك (1/ 670) ح (1814) وصححه وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 279) ح (1638)، وقال محقق المسند (37/ 95) ح (22413):"حسن لغيره".
7 - غراس الجنة.
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ"
(1)
.
وعن أَبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ:" مَنْ مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: مُرْ أُمَّتَكَ فَلْيُكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ، وَأَرْضَهَا وَاسِعَةٌ قَالَ: وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ"
(2)
.
وعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ "
(3)
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟» قُلْتُ: غِرَاسًا لِي، قَالَ:«أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا؟»
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 510 ت شاكر) ح (3462) وقال: " هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 916) ح (5152)، والطبراني في الأوسط (4/ 270) ح (4170)، وفي المعجم الصغير (1/ 326) ح (539) وزاد فيه:" وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ".
(2)
أخرجه أحمد (38/ 533 ط الرسالة) ح (23552)، وابن حبان (3/ 103) ح (821)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 97) ح (16898) وقال:" ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة لم يتكلم فيه أحد، ووثقه ابن حبان"، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 103)، وقال الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (2/ 205) ح (818):"صحيح لغيره".
(3)
أخرجه الترمذي (5/ 511 ت شاكر) ح (3464) وقال: "حسن صحيح غريب"، والبزار (6/ 436) ح (2468)، وأبو يعلى (4/ 165 ت حسين أسد) ح (2233)، والطبراني في الصغير (1/ 181) ح (287)، والحاكم - ط العلمية (1/ 680) ح (1847) وصححه وأقره الذهبي، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 104)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 94) ح (16875):"رواه البزار وإسناده جيد"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 227) ح (1539):"صحيح لغيره".
قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:" قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ"
(1)
.
8 - به يحصل العبد على صلاة الله عليه وملائكته.
وقال ابن القيم رحمه الله: " ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز، قال الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا 41 وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 42 هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما} [الأحزاب: 41 - 43].
فهذه الصلاة منه تبارك وتعالى ومن ملائكته إنما هي على الذاكرين له كثيراً، وهذه الصلاة منه ومن ملائكته هي سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله تبارك وتعالى وملائكته وأخرجوا من الظلمات إلى النور فأي خير لم يحصل لهم بذلك؟! وأي شر لم يندفع عنهم؟! فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله!، وبالله التوفيق"
(2)
.
9 - مجالسه مجالس الملائكة.
وكما في الحديث الذي سبق: يقول صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلهِ تبارك وتعالى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَؤُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا، وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عز وجل، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ
(1)
أخرجه ابن ماجه (2/ 1251 ت عبد الباقي) ح (3807)، والحاكم - ط العلمية (1/ 693) ح (1887) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 510) ح (2613).
(2)
الوابل الصيب - ط عطاءات العلم (1/ 174).
جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا أَيْ رَبِّ قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (8/ 68 ط التركية) ح (2689).
المبحث السادس: من أسباب الانحراف في عبادة الذكر والدعاء، وفيه عدة مطالب
(1)
.
المطلب الأول: الجهل والإعراض عن الكتاب والسنة.
و الجهل أعظم بيئة تنشر فيها الانحرافات في قضايا العبادة كالذكر والدعاء، فإذا قل العلم الشرعي المبني على الدليل من الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وقل العلماء الحاملون له العاملون به القائمون بواجب النصيحة للأمة، فحينئذ تتفشى البدع والمحدثات، وينحرف الناس عن المنهج النبوي والصراط المستقيم الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وتركها عليها إلى طرق الضلال والبدع التي حذر منها أمته أعظم تحذير وأنذر وأعذر أمام ربه في حجة الوداع، ودونك النصوص الدالة على ذلك من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:«هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا» ، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ:«هَذِهِ السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} "
(2)
.
(1)
ينظر في هذه الأسباب الكتاب القيم الماتع وهو رسالة علمية متينة رصينة: الدعاء ومنزلته في العقيدة الإسلامية (1/ 438 - 479).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (7/ 436) ح (4437)، وابن حبان في صحيحه (1/ 180) ح (6)، والحاكم في المستدرك (2/ 261) ح (2938) وصححه ووافقه الذهبي، وقال في مجمع الزوائد (7/ 22) ح (11005):"رواه أحمد والبزار، وفيه عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه ضعف"، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 58) ح (166)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (7/ 436) ح (4437):"إسناده حسن من أجل عاصم، وهو ابن أبي النجود، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي بكر -وهو ابن عياش- فمن رجال البخاري، وأخرج له مسلم في المقدمة".
وقال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43].
وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
هذه الآيات تدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، فإنه لا نجاة للأمة من الفتن والبدع والمحدثات إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بهما، والتحاكم إليهما في صغير الأمر وكبيره، مع التسليم والانقياد التام لأمر الله ولأمر رسوله دون أدنى ضيق في القلب أو حرج.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:«اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. الحديث
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 38 ط التركية) ح (1218).
وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:«إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سببٌ، طَرفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وطَرفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تضلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أبدًا»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم» الحديث
(2)
.
وجاءت النصوص في التحذير من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
ونقل ابن بطة عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: "نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعًا"، ثم جعل يتلو:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وجعل يكررها، ويقول:"وما الفتنة؟ الشرك، لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ فيهلكه"، وجعل يتلو هذه الآية:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] "
(3)
.
(1)
أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/ 329) ح (122)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 41) ح (62):"رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد"، وقال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد في كتاب العلم، باب في العمل بالكتاب والسنة (1/ 169) ح (779):"رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 330) ح (713).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب العلم (1/ 171) ح (318) وصححه ووافقه الذهبي، وقال الذهبي:"وله أصل في الصحيح"، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب آداب القاضي (10/ 194) ح (20336)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 41) ح (66)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 124) ح (40).
(3)
الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 261).
فإذا اعتصمت الأمة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بفهم الصالح وقام العلماء بنشر العلم ضعف الجهل وانتشرت السنة، وقمعت البدعة وعبد المسلمون ربهم كما يحب ويرضى، فالتزم الناس بالكتاب والسنة في جميع العبادات، ومنها عبادة الذكر والدعاء، ولكن لما بعدت الأمة عن المنبع الصافي وذهبت إلى المنابع المتكدرة، وقل فيها دعاة العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة، وسعى دعاة الضلال في الانحراف بها عن الصراط المستقيم إلى طرق الضلال والبدع، فاخترعوا لها أنواعاً من الأذكار والأدعية والاوراد البدعية حتى تكدر مشربها وسرت فيها تلك الخرافات وانتشرت انتشار النار في الهشيم، وإن القلب ليحزن والعين لتدمع على بعض أمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف تركوا الطريق الواضح البين الذي رسمه لها النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الْعِرْبَاض بْنَ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ:" قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ"
(1)
.
ومن أسباب انتشار هذه الأذكار البدعية والأدعية المحدثة أن علماء السوء تبنوا ذلك وزينوا للعوام الاستمساك بهذه الأدعية المحدثة والأذكار البدعية واستمات علماء السوء في ترغيب العوام في هذه الأذكار البدعية ورهبوهم من تركها وبسبب جهل الناس وثقتهم في
(1)
أخرجه أحمد (28/ 367 ط الرسالة) ح (17142)، وابن ماجه (1/ 16 ت عبد الباقي) ح (43)، والحاكم - ط العلمية (1/ 175) ح (331) وصححه وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 132) ح (59)، وصححه الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (1/ 29 ت الأرنؤوط) ح (43).
علماء السوء انتشر هذا الضلال في كثير من بلاد الإسلام، وهذا السبب يحتاج إلى إفراد له وبسط الكلام فيه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في مطلب قادم.
وهذه بعض الأمثلة على الأذكار البدعية التي انتشرت عند الطرق الصوفية وروجوا لها بين الناس حتى أقبلوا عليها كأنها سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب داء الجهل وعلماء السوء، بل فضلوها على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" التي جاءت النصوص في الكتاب والسنة في فضلها.
ومن أمثلة الأذكار البدعية، كما في ذكرهم لله بالاسم المفرد (الله الله الله) أو بالضمير (هو هو هو) مع التكرار.
وأود هنا أن أنقل تلخيص الشيخ عبد الرزاق البدر لكلام شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على هذه البدعة حيث يقول حفظه الله: " وقد فند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دعاوى هؤلاء في ذكرهم المحدث هذا، وبين فساد ما قد يتشبثون به لنصرته وتقريره، قال رحمه الله: "وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك واستدل عليه تارة بوجد، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب، كما يروي بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن علي بن أبي طالب أن يقول:" الله، الله، الله، فقالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم أمر عليا فقالها ثلاثا"، وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، وإنما كان تلقين النبي صلى الله عليه وسلم للذكر المأثور عنه، ورأس الذكر لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي عرضها على عمه أبي طالب حين الموت، وقال:"يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله"، وقال:"إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجد روحه لها روحاً"، وقال:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، وقال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، والأحاديث كثيرة في هذا المعنى، ثم قال: فأما ذكر الاسم المفرد فلم يشرع بحال، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه، وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ
ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91]، ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم، فخطأ واضح، ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية، فإنه سبحانه قال:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91]، أي قل الله أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فهذا كلام تام، وجملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر، حذف الخبر منها لدلالة السؤال على الجواب، وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلام العرب
…
وذكر أمثلة على ذلك، إلى أن قال رحمه الله: وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنه غير مستحب أي الذكر بالاسم المفرد من غير كلام تام وكذلك بالأدلية العقلية الذوقية، فإن الاسم وحده لا يعطي إيمانا ولا كفرا، ولا هدى ولا ضلالا، ولا علما ولا جهلا
…
إلى أن قال: ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن الاسم وحده لا يحسن السكوت عليه، ولا هو جملة تامة ولا كلاما مفيداً ولو كرر الإنسان اسم الله ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا، ولم يستحق ثواب الله ولا جنته، فإن الكفار من جميع الأديان يذكرون الاسم مفردا، سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا، حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقوله:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وقوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقوله:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، ونحو ذلك كان ذكر اسمه بكلام تام مثل أن يقول: باسم الله، أو يقول: سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، ونحو ذلك، ولم يشرع ذكر الاسم المجرد قط، ولا يحصل بذلك امتثال أمر، ولا حل صيد ولا ذبيحة ولا غير ذلك.
إلى أن قال رحمه الله: فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحباً، فضلا عن أن يكون هو ذكر الخاصة، وأبعد من ذلك ذكر الاسم المضمر، وهو: هو، فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد من السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان
…
إلى أن قال: والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامة، وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقرب إلى الله ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا فلا أصل له، فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات، وذريعة إلى تصورات فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد
…
، وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع"
(2)
. اه كلامه رحمه الله، وفيه من التحقيق والبيان ما لا يدع مجالاً للتردد في الأمر، والحق أبلج.
إن تكالب هؤلاء على هذه الأذكار المحدثة، التي لا أصل لها في دين الله، ولا أساس لها من شرعه، وتركهم في مقابل ذلك السنن الصحيحة، والأذكار الشرعية، ليثير في المسلم تساؤلات وتساؤلات، ما الذي حمل هؤلاء على الانصراف عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم والرغبة عن سنته، إلى أمور ما أنزل الله بها من سلطان، وأذكار ليس عليها في الشرع أي دليل ولا برهان، ثم مع هذا يعظمونها غاية التعظيم ويفخمون شأنها، ويقللون من شأن الأدعية النبوية
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 557 - 565).
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 227 - 134).
والأذكار الشرعية التي كان يقولها سيد الخلق أجمعين، وخير الأنبياء والمرسلين، وإمام وقدوة المخبتين الذاكرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين"
(1)
.
والأمثلة على الأذكار الصوفية المبتدعة كثيرة ونكتفي بما سبق.
المطلب الثاني: من أسباب تعلق القلب بغير الله.
ومن الأسباب العظيمة المؤدية إلى الانحراف في عبادة الذكر والدعاء، تعلق القلوب بغير الله، وهذا التعلق له أسباب، منها:
الأول: عدم تقدير الله حق قدره، ونقل حقه تعالى- من التقدير له تعالى حق التقدير- لغيره.
وهذا هو السر العظيم وأعظم الأسباب الذي إذا اختل سقط الإنسان في الضلال العظيم، واحتوشته شياطين الإنس والجن، وقادوه إلى الضلال وهو يحسب أنه على الحق، لعدم تقديره لله حق التقدير يقول الله تعالى عنهم:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ 73 مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74].
ويقول سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
(1)
فقه الأدعية والأذكار (1/ 197 - 200).
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66].
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15 - 16].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]
(1)
.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَقْبِضُ اللهُ تبارك وتعالى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ "
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (6/ 126) ح (4811)، ومسلم واللفظ له (4/ 2147) ح (2786).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2787).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَطْوِي اللهُ عز وجل السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ "
(1)
.
وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" يَأْخُذُ اللهُ عز وجل سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللهُ - وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا - أَنَا الْمَلِكُ " حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟
(2)
.
ومن الأدلة على عظمة الله، عظمة مخلوقاته، ومن ذلك قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76].
وقال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ»
(3)
.
وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ"
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2788).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2788).
(3)
أخرجه أبو داود (4/ 232) ح (4727)، وقال ابن كثير في تفسيره (8/ 212):" وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات"، وقال الذهبي في العلو للعلي الغفار (97) ح (234):"إسناده صحيح"، وفي فتح الباري لابن حجر (8/ 665):"إسناده على شرط الصحيح"، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 282) ح (151).
(4)
أخرجه محمد ابن أبي شيبة في العرش (432) ح (58)، وابن حبان في صحيحه (2/ 76) ح (361)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (7/ 181) ح (136)، وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 411):"وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه بن حبان .. وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح عنه"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 226) ح (109).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ»
(1)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فالسموات السبع والأرضين السبع في كفه تعالى كخردلة في كف أحدكم، يعني: السموات السبع على عظمها والأرضين السبع مثلما لو وضع الإنسان في يده خردلة -وهي حبة الخردل التي بكبر حبة السمسم- وهذا أيضا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فالله تعالى أعظم وأجل، فكل المخلوقات بالنسبة له تعالى ليست بشيء"
(2)
.
فلو أن العبد عرف الله حق المعرفة وقدره حق قدره، ما صرف أي شيء من العبادات قل أو كثر لغيره لأن غير الله يقيناً مهما كانت منزلته عند الله، فإن المتفضل عليه بهذه المنزلة هو الله تعالى فأكرمه بالنبوة والرسالة أو بجعله من أوليائه الصالحين أو شرفه الله بأن خلقه من الملائكة المقربين فكل هؤلاء الذي تفضل عليهم بهذه الكرامة هو الله سبحانه، فكيف ينقل ما لله من حق التقدير إلى المخلوق الذي لا يملك ضراً ولا نفعاً لنفسه فضلاً لغيره، فهذا أكرم خلق الله، وأكرم من تفضل الله عليه بالرسالة والنبوة، وأكرمه بالمنزلة الرفيعة يقول عن نفسه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93].
وذكر الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم قوله: {قُل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
وأخبر الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من آية أن يقول للناس: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} ، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه لا يملك لأقرب الناس له شئياً، فكيف بالبعيد عنه، ومن تلك الآيات والأحاديث:
(1)
تفسير الطبري ط هجر (20/ 246).
(2)
تفسير العثيمين لسورة سبأ (171).
- قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
-قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]
وقال تعالى عن بقية الأنبياء: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 11 وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 11 - 12].
وقال تعالى عن الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ 26 لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ 27 يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28].
أما من السنة، فيقول صلى الله عليه وسلم لعشيرته وقرابته:«يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنَ اللهِ لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا»
(1)
.
وفي الحديث أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم لقرابته: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي قُصَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا
(1)
أخرجه البخاري (4/ 185 ط السلطانية) ح (3527).
وَلَا نَفْعًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، إِنَّ لَكِ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»
(1)
.
(2)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»
(3)
.
فإذا كان هذا حال الملائكة والأنبياء، فكيف بمن دونهم ممن يقال عنه أنه ولي صالح، فإذا عرف حق الله وقدره حق التقدير عرف قدر غيره، لكن الخلل العظيم وباب الشر المستطير ومفتاح الانحراف عن العقيدة الصحيحة، أن يجعل ما للخالق من حق للمخلوق الضعيف الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً أن يملك ذلك لغيره نعوذ بالله من الخذلان، ومن هذا الباب فتحت أبواب الشرك وتعلقت القلوب بغير الله وجعلت ما لله من حقوق لغيره، فوقعت في أعظم ظلم عرفته البشرية وهو الشرك الذي قال الله تعالى عنه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ونختم بقوله تعالى كما بدأنا بذلك:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
وسيأتي مزيد بيان لهذا في العنصر الآتي:
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 338 ت شاكر) ح (3185).
(2)
أخرجه النسائي (6/ 249) ح (3646).
(3)
أخرجه البخاري (4/ 167 ط السلطانية) ح (3445).
الثاني: الغلو في الصالحين من الأنبياء والملائكة والأولياء والجن، وهو أعظم باب للشرك والكفر بالله والانحراف في العبادات، ومنها عبادة الذكر والدعاء.
يقول الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171].
وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وهنا انقل ما كتبه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب المبارك كتاب التوحيد في هذه المسألة حيث بوب بقوله: " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.
وقول الله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171].
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا} [نوح: 23]، قال:"هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت"
(1)
.
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: "لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم"
(2)
.
(1)
صحيح البخاري (6/ 160 ط السلطانية) رقم (4920).
(2)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 184 ت الفقي).
وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»
(1)
أخرجاه.
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ»
(2)
.
ولمسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا»
(3)
"
(4)
.
الثالث: الغلو في قبور الصالحين والتعلق بها- ونقل حق الله من تقديره حق التقدير إلى أصحاب القبور-يجعلها من الأوثان التي تعبد من دون الله.
من أبواب الشرك العظيمة- التي وقع فيها من يقدرون غير الله حق التقدير ويتعلقون بهم من دون الله- الغلو في قبور الصالحين، الذى اصطاد به الشيطان أمماً كثيرة فأوقعها في ظلام الشرك، وجعلها تصرف ما هو حق خالص لله للمخلوق، ومن ذلك شرك الدعاء، ولذا توافرت النصوص في التحذير من هذا، وبينت أنها بسبب ذلك تصير أوثاناً تعبد من دون الله، فقد أوحى" عدو الله وعدو عباده المؤمنين إبليس إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بقبور الأنبياء والأولياء والصالحين، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم واتخذت أوثاناً، وبنيت عليها الهياكل، وصورت أربابها ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل، ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى، وكان أول وقوع هذا الداء في قوم نوح كما أخبر الله سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول"
(5)
: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا
(1)
أخرجه البخاري (4/ 167 ط السلطانية) ح (3445).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2/ 1008 ت عبد الباقي) ح (3029) وصححه الألباني في تحقيقه لابن ماجه ح (3029) وصحح إسناده الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (4/ 228 ت الأرناؤوط) ح (3029).
(3)
أخرجه مسلم (8/ 58 ط التركية) ح (2670).
(4)
التوحيد لابن عبد الوهاب (ص 56 - 57).
(5)
فقه الأدعية والأذكار (2/ 130).
وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا 23 وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23 - 24]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ، أَمَّا وَدٌّ: كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ: كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ: فَكَانَتْ لِمُرَادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَأٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ: فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ: فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ، لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ: أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ»
(1)
.
وروى ابن جرير رحمه الله بسنده إلى محمد بن قيس رحمه الله قال: " {وَيَعُوقَ وَنَسْرا} [نوح: 23] قال: كانوا قوماً صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم"
(2)
.
وفي هذا المقام أحب أن أنقل كلاماً متيناً شافياً كافياً في هذه المسألة العظيمة لابن القيم رحمه الله وسأنقله بطوله لأهميته
(3)
:
"وقال غير واحد من السلف: «كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمَدُ فعبدوهم»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (6/ 160 ط السلطانية) رقم الأثر (4920).
(2)
تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر (23/ 303).
(3)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 332 - 342 ط عطاءات العلم) واعتمدت على تخريجات هذه الطبعة في الأحاديث والآثار ونسبة الأقوال كسباً للوقت، وجزاهم الله جميعاً خيراً.
(4)
ينظر: الدر المنثور (14/ 713) ط. التركي.
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها: أن أمّ سَلَمَة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كَنِيسة رأتها بأرضِ الحبشة يقال لها: ماريةُ، فذكرتْ له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح؛ بَنَوْا على قَبره مسْجدًا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله»
(1)
.
وفى لفظ آخر في «الصحيحين» : أن أم حبيبة وأم سَلمة ذكرتا كنيسة رأينها
(2)
.
فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور.
وهذا كان سبب عبادة اللات. فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قال:«كان يَلُتّ لهم السّويق، فمات، فعكفوا على قبره»
(3)
.
وكذلك قال أبو الجَوْزاء عن ابن عباس: «كان يلتّ السويق للحاجّ»
(4)
.
فقد رأيتَ أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونَسْر واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخنا
(5)
: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور؛ هي التي أوقعت كثيرًا من الأُمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت
(1)
البخاري (434)، ومسلم (528).
(2)
البخاري (3873)، ومسلم (528).
(3)
تفسير الطبري (22/ 523)
(4)
رواه البخاري رقم (4859).
(5)
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 192 وما بعدها).
بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك؛ فإن الشّرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقربُ إلى النفوس من الشرك بخشَبة أو حَجَر.
ولهذا تَجد أهل الشرك كثيرًا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادةً لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد.
فلأجل هذه المفسدة حَسَم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلي بَرَكة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بَرَكة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذٍ، وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون، سدًّا للذريعة.
قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور، متبرِّكًا بالصلاة في تلك البُقعة، فهذا عين المحادّة لله ورسوله، والمخالفةِ لدينه، وابتداع دينٍ لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة عند القبور منهيّ عنها، وأنه لَعن من اتخذها مساجد، فمِنْ أعظم المحدثات وأسباب الشّرك: الصلاةُ عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، فقد صرّح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعةً منهم للسنة الصحيحة الصريحة.
وصرَّح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، والذي ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم؛ إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يُظَنّ بهم أن يُجوّزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنُ فاعله، والنهي عنه.
ففي «صحيح مسلم» عن جُندَب بن عبد الله البَجلي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله
قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت مُتخذًا من أمتي خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ألا وإن مَنْ كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ [53 أ] ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك»
(1)
.
وعن عائشة وعبد الله بن عباس، قالا: لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطرحُ خَمِيصةً له على وجهه، فإذا اغْتَمّ كشفها، فقال وهو كذلك:«لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يُحذّر ما صنعوا. متفق عليه
(2)
.
وفى «الصحيحين» أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتَل الله اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
(3)
.
وفى رواية مسلم: «لعن الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
(4)
.
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق مَنْ فعل ذلك من أهل الكتاب؛ ليُحذِّر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يَقُمْ منه: «لعن الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرهُ؛ غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجدًا. متفق عليه
(5)
.
وقولها: «خُشيَ» هو بضم الخاء؛ تعليلاً لمنع إبراز قبره.
وروى الإمام أحمد في «مسنده» بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود
(1)
برقم (532).
(2)
البخاري (435)، ومسلم (531).
(3)
البخاري (437)، ومسلم (530).
(4)
مسلم (530).
(5)
البخاري (1330)، ومسلم (529).
رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من شِرار الناس من تُدرِكهم الساعة وهم أحياءٌ، والذين يتخذون القبور مساجد»
(1)
.
وعن زيد بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لعن الله اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . رواه الإمام أحمد
(2)
.
وعن ابن عباس، قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج» . رواه الإمام أحمد، وأهل «السنن»
(3)
.
(1)
مسند أحمد (1/ 405، 435) من طريق زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن ابن مسعود، وبهذا السند رواه ابن أبي شيبة (3/ 30)، والبزار (1724)، وأبو يعلى (5316)، والشاشي (528)، والطبراني في الكبير (10/ 188)، وغيرهم، وصححه ابن خزيمة (789)، وابن حبان (2325، 6847)، وابن تيمية في شرح العمدة (4/ 428)، وحسنه في الاقتضاء (ص 330)، وقال الذهبي في السير (9/ 401):«هذا حديث حسن قوي الإسناد» ، وحسنه الهيثمي في المجمع (2/ 143) وقال (8/ 26):«عاصم ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح» ، وحسنه الشوكاني في شرح الصدور (ص 53)، والشنقيطي في الأضواء (2/ 296). وله طريق أخرى، فرواه أحمد (1/ 454) والبزار (1781) من طريق الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة السلماني عن ابن مسعود، وبمجموع الطريقين صححه الألباني في تحذير الساجد (ص 23). وفي الباب عن أبي عبيدة بن الجراح وعلي وعمران بن حصين رضي الله عنهم.
(2)
مسند أحمد (5/ 184، 186) من طريق عقبة بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن زيد به، وبهذا الإسناد رواه عبد بن حميد (244)، والطبراني في الكبير (5/ 150)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 143):«رجاله موثقون» ؛ وذلك لأن عقبة شيخ مجهول ذكره ابن حبان في الثقات، إلا أنّ الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، ففي الباب عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وأسامة وعلي وأبي بكر وعن عمر بن عبد العزيز والحسن بن الحسن وعبيد الله بن عبد الله وعمرو بن دينار مرسلًا.
(3)
مسند أحمد (1/ 229، 287، 324، 337)، سنن أبي داود (3238)، سنن الترمذي (320)، سنن النسائي (2043)، سنن ابن ماجه (1575) مقتصِرا على لعن زوارات القبور، ورواه أيضا الطيالسي (2733)، وابن الجعد (1500)، وابن أبي شيبة (2/ 151، 3/ 30)، وغيرهم من طريق محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس، قال الترمذي:«حديث حسن» ، وصححه ابن السكن كما في تحفة المحتاج (2/ 32)، وابن حبان (3179، 3180)، والحاكم (1384)، وابن دقيق العيد في الإلمام (574)، وحسنه البغوي في شرح السنة (510)، وقد اختُلف في أبي صالح من هو؟ فقيل: هو السمان، قال ابن رجب في الفتح (2/ 403):«وفيه بُعد» ، وأغرب ابن حبان فقال:«اسمه ميزان بصريّ ثقة» ، والجمهور على أنه باذان أو باذام مولى أم هانئ، قال ابن رجب:«ضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا، وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس» ، وهو في السلسلة الضعيفة (225). وفي الباب عن حسان بن ثابت وأبي هريرة رضي الله عنهما.
وفي «صحيح البخاري» : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبرَ، القبرَ
(1)
.
وهذا يدل على أنه كان من المُسْتَقرِّ عند الصحابة رضي الله عنهم: ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور، وفعلُ أنس لا يدل على اعتقاد جوازه؛ فإنه لعله لم يَرَهُ، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذَهل عنه، فلما نبَّهه عمر تنبَّه.
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرضُ كلها مسجد إلا المقبرة والحمَّام» رواه الإمام أحمد، وأهل «السنن الأربعة» ، وصححه أبو حاتم بن حبان
(2)
.
وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القِبلة.
فروى مسلم في «صحيحه» عن أبي مَرْثَد الغَنَويّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تجلسوا على القبور، ولا تصلُّوا إليها»
(3)
.
(1)
هذا الأثر معلّق في أبواب المساجد من صحيح البخاري، باب: هل تُنبش قبور مشركي الجاهلية ويُتخذ مكانها مساجد؟ ورواه عبد الرزاق (1/ 404) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 186) عن معمر عن ثابت عن أنس، صححه الألباني في تحذير الساجد (ص 35). ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (2/ 153) وابن منيع كما في المطالب العالية (3/ 417) والبيهقي في الكبرى (2/ 435) من طرق عن حميد عن أنس قال: قمت يوما أصلي وبين يديّ قبر لا أشعر به، فناداني عمر: القبر القبر. ورواه ابن أبي شيبة وابن منيع كما في المطالب العالية عن هشيم عن منصور عن الحسن عن أنس عن عمر، قال ابن حجر:«هذا خبر صحيح» .
(2)
رواه أهل السنن كلهم إلا النسائي.
(3)
برقم (972).
وفى هذا إبطالُ قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عِدّة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلَّها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعلِّلون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة؛ فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، ليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طرِيُّون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرةَ والحمامَ، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحُشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
ومنها: أن موضع مسجده صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين، فنَبَش قبورَهم وسَوّاها واتخذه مسجدًا، ولم ينقل ذلك الترابَ، بل سوى الأرض ومهّدها وصلى فيه.
كما ثبت في «الصحيحين» عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فنزل بأعلى المدينة في حَيٍّ يقال لهم: بنو عمرو بن عَوْف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا مُتَقَلِّدين السيوفَ، وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر دونه، وملأُ بَنِي النجار حوله، حتى ألْقى بفناء أبي أيوب، وكان يُحبّ أن يصلِّي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مَرابِض الغنم، وإنه أمَر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأ بني النجار، فقال:«يا بني النجار! ثامِنُوني بحائطكم هذا» ، قالوا: لا والله، لا نطلبُ ثمنه إلا إلى الله، فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خَرِب، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور
المشركين فنُبِشت، ثم بالخَرب فسُوِّيت، وبالنخل فقُطع، فصفّوا النخل قِبْلَة المسجد، وجعلوا عِضادَتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يَرْتَجزون. وذكر الحديث
(1)
.
ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عُبّاد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر، فإذا نهى عن ذلك سدًّا لذريعة التشبه الذي لا يكاد يخطر ببال المصلي؛ فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرًا ما تدعو صاحبها إلى الشرك، ودعاء الموتى، واستيجابهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد، وغير ذلك، مما هو محادّة ظاهرة لله ورسوله؟
فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منع الأمة من الفتنة بالقبور؛ كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم؟
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعًا.
ومنها: أنه قرن في اللعنة بين متخذي المساجد عليها، وموقدي السُّرُج عليها، فهما في اللعنة قرينان، وفى ارتكاب الكبيرة صِنوان؛ فإن كل ما لَعَن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السُّرج عليها إنما لُعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نُصُبًا يُوفِضُ إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها، ولهذا قرن بينهما؛ فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها، وتعريض للفتنة بها، ولهذا حكى الله سبحانه عن المتغلِّبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم قالوا:{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21].
(1)
البخاري (428)، ومسلم (524).
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، فذِكْرُهُ ذلك عَقيبَ قوله:«اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»
(1)
تنبيه منه على سبب لحوق اللعن بهم، وهو توسُّلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تُعبد.
وبالجملة؛ فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفَهِمَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه واللعن والنهي بصيغتيه صيغة «لا تفعلوا» ، وصيغة «إني أنهاكم» ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربَّه ومولاه، وقلّ نصيبه أو عُدِمَ من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانةٌ لحِمَى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريدٌ له وغضب لربِّه أن يُعدَل به سواه.
فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابًا لنهيه، وغَرّهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشدَّ لها تعظيمًا، وأشدَّ فيهم غلوًّا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.
ولعَمْرُ الله مِنْ هذا الباب بعينه دُخِلَ على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دُخِلَ على عبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهَدَى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم، وإنزالِهِمْ منازَلُهمْ التي أنزلهم الله إياها، من العبودية وسلب
(1)
رواه مالك (414) ومن طريقه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 240) عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار به مرسلا، ورُوي موصولا من طريق أخرى عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد. ورواه الحميدي (1025) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 317) وابن سعد (2/ 241) وأحمد (2/ 246) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 47) والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51) وأبو يعلى (6681) وغيرهم عن ابن عيينة عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (3/ 260):«رجاله ثقات» ، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص 217). وفي الباب عن عمر وعن سعيد بن أبي سعيد مولى المهري.
خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم. وأمّا المشركون فعصوا أمرهم، وتنقَّصوهم في صورة التعظيم لهم" انتهى بطوله من كتاب إغاثة اللهفان
(1)
.
(1)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 332 - 342 ط عطاءات العلم).
المطلب الثالث: دور علماء السوء وأئمة الضلال
(1)
.
وهذا السبب من أعظم أسباب الانحراف في الأمة، حينما زين لها دعاة السوء وعلماء الضلال طرائق الشرك واجتهدوا في إبعاد الأمة عن الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ونفروها من العلماء الصالحين المعتصمين بالكتاب والسنة تارة بتشويه سمعتهم وزعمهم انهم يكرهون الأنبياء والأولياء، وتارة بنسبتهم إلى فرق الضلال التي تحارب الله ورسوله، ويزعمون لاتباعهم أن هؤلاء كذلك يحاربون الله ورسوله مثل نبزهم لمن يتبعون مذهب السلف بالحشوية
(2)
قديماً وبالوهابية
(3)
(1)
ينظر في هذا: الدعاء ومنزلته الشرعية في العقيدة (1/ 448 - 452).
(2)
وهي كلمة ذم عند الفرق المنحرفة لأهل المنهج الحق السنة والجماعة يصفونهم بضعف العقل وضعف الفهم لتنفير الناس منهم.
(3)
ويقصدون بهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأئمة الدعوة السلفية الذين ينشرون العقيدة الصحيحة في الأرض، فيسمونهم بمثل هذه المسميات لتنفير الناس عنهم وعن دعوة الإسلام التي يدعون إليها، يقول الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر في مقدمة كتابه تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية (ص 9 - 10) عن" سبب التأليف
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد،
كنت قد أخرجت كتاباً صغيراً باسم تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية يقع في 110 صفحات تقريباً وطبع للمرة الأولى بتطوان بالمغرب عام 1407 هـ وطبعته دار المعارف بالرياض الطبعة الثانية عام 1413 هـ، أوضحت فيه بأن خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأعداء دين الله الحق، من أرباب المصالح الدنيوية ممن يريدون إطفاء نور الله والتصدي لمن يريد أن يحقق التوحيد الذي أمر به الله وأرسل به رسله من أولهم إلى آخرهم: دعوة وتطبيقاً وتنقية من مداخل الشرك.
فوجدوا دعوة خارجية أباضية في شمال إفريقيا نشأت في القرن الثاني الهجري باسم الوهابية نسبة إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم الخارجي الأباضي، ووجدوا فتاوى من علماء المغرب والأندلس ممن عاصرها أو جاء بعدها فأرادوا شيئاً عاجلاً يحقق الغرض وينهض الهمم لإسكات الدعوة الجديدة خوفاً من توسع الدائرة الإسلامية حيث قامت الدولة السعودية الأولى مناصرة للدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب - فتصافحت يداً الإمامين: محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله في عام 1157 هـ على القيام بهذه الدعوة نصرة لدين الله وأداء لأمانة التبليغ.
فوفق الله ولقيت الدعوة قبولاً وتأييداً حيث امتدت إلى العام الإسلامي كله وتأثر بها العلماء من الحجاج وبدأوا في نشرها في بلادهم .... فخاف المنتفعون دنيوياً من آثارها ووجدوا الضالة في الوهابية الرستمية، المدفون خبرها في سجلات التاريخ فنبشوا في فتاوى العلماء حولها وكانت فرصة بإلباس الثوب القديم للدعوة الجديدة ووجدت الإشاعة صدى في النفوس لأن أرباب المنافع الدنيوية جهدوا في التمويه والتشويه والناس عادة يتلقفون الكذب أكثر من اهتمامهم وتحريهم للصدق .. ". للتوسع في هذا ينظر لزاماً: كتاب تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية.
حديثاً في سلسلة من التعاون الشيطاني على ذلك، واستغلال الوسائل المتاحة لهم في تنفير الناس من أهل العلم الذين على المنهج الحق، واليوم تمكنوا من وسائل الإعلام بكل أنواعها لصد الناس عن الحق وربطهم بأهل الباطل والضلال، في حركة فكرية لا تكل ولا تمل يمدها شياطين الإنس والجن، وينفخون فيها بقوة لينشروا باطلهم وضلالهم، كما قال الله تعالى عنهم وعن اتباعهم الذين يصغون لهم بأسماعهم:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 112 وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113].
وبعد أن كان العلماء العاملون بعلمهم هم الذين الحكام ويوجهون الشعوب، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، وكانوا يحاربون الشرك والبدع، وهم ولله الحمد يوجدون في تاريخ الأمة في كل الأوقات، إلا أنه تمر بالأمة بعض الازمان يتمكن فيها علماء السوء في بعض بلدان المسلمين، فيتركوا هذا الواجب الديني المنوط بهم ويرضوا بالحياة الدنيا ويركنوا إليها طمعاً في زهرتها، فيتقربوا إلى بعض أئمة الضلال بتحوير نصوص الكتاب والسنة والإفتاء على حسب أهواء العوام والسلاطين لينالوا حظوة وقربى لديهم ويبحثون عن الرخص، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى تصنيف كتب لأهل الأهواء، وبعض علماء السوء يتقرب إلى العوام والجهال بتبرير وإجازة ما يفعلونه من بدع وشركيات وخرافات، فتارة يؤولوه بالمجاز، وتارة بالتوسل، وتارة يؤيدوه بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، وتارة بحجج فلسفية، ومنهم من يؤلف في إباحة دعاء الموتى وإنزال الحوائج بهم مؤلفات، وينشرها بين الجهال؛ لينال حظوة عندهم بذلك، وللتقرب لذوي السلطة ليمكنوه من صناديق النذور
والانتفاع بما فيها من الأموال، فهؤلاء الذين ابتليت بهم الأمة في الكثير من ديار المسلمين هم من جملة أسباب انتشار دعاء الموتى والاستعانة بهم.
وقد عكسوا القضية من حيث أن الله أمرهم بتبليغ الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما من شك أن أعظم المنكرات الشرك بالله تعالى.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
وقد خاف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من أئمة الضلال، فقال محذراً منهم:" وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ"الحديث
(1)
.
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ»
(2)
.
وقد وقع ما خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم وحذر الأمة منه، فوقع في بعض فترات ضعف الأمة وغفلتها عن الاعتصام بالكتاب والسنة، تسلط بعض أئمة الضلال من الرافضة والباطنية والزنادقة، فنشروا العقائد الضالة والأفكار المنحرفة بكل ما أمكنهم من وسائل، فتسلطت الدولة العبيدية
(1)
أخرجه أبو داود (4/ 98 ت محيي الدين عبد الحميد) ح (4252)، والترمذي (4/ 504 ت شاكر) ح (2229) وقال:"حسن صحيح"، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (10/ 431) ح (4570)، والمستدرك على الصحيحين للحاكم - ط العلمية (4/ 496) ح (8390) وصححه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 239) ح (9215):" رواه أحمد ورجاله ثقات "، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 364) ح (1773)، وقال الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود ح (4252):"إسناده صحيح".
(2)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 289) ح (143)، وابن حبان في صحيحه (1/ 281)، ح (80)، وقال في مجمع الزوائد (1/ 187) ح (886):"رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورجاله موثقون"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 107) ح (239)، وقال محقق مسند أحمد (1/ 289):"سنده قوي".
المسماة زوراً بالفاطمية ونشرت بقوة السلطان المعتقدات الباطلة وبنت المشاهد على القبور ودعت إلى عبادة قادتها، وسهلت للناس عبادة القبور والتعلق بها.
وهناك من الفرق الضالة من غلوا في أئمة آل البيت، وبنوا على قبورهم أو الأماكن التي يزعمون أنها قبورهم المشاهد والقباب والأضرحة المزخرفة ولا يزالون إلى يومك هذا ينشرون في بلاد المسلمين ويفسدون عقائد الأمة بشتى الوسائل.
وكذلك بعض من نشر دعاء غير الله زنادقة يحاربون الإسلام وأهله ويتخفون تحت مسميات تروج على العامة، ولذلك عدة أمثلة، منها:
8.
ومنها ما ذكره ابن الجوزي عن ابن عقيل الحنبلي أنه ذكر أن الملاحدة لما رأوا انتشار الإسلام ولم يستطيعوا مقاومته اندسوا بين المسلمين فعملوا حيلاً منها ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن المغيبات عن كثير من الكهنة والمنجمين، وبالغوا في تقرير ذلك، وذلك ليقول من رأى ذلك مع عدم علمه لقصدهم وهل ما جاء به الأنبياء إلا مقارب هذا
(1)
.
9.
ومن ذلك ما ذكره ابن حزم أن بعض الفرس لما عجزوا عن مقاومة انتشار الإسلام أظهروا التشيع، وذلك لكيد الإسلام وأهله
(2)
.
10.
وذكر ابن الجوزي في تاريخه أن اتباع القرامطة والعبيدين طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس فهؤلاء حاقدون على الإسلام كما ذكر أن منهم من قصد إبطال الإسلام ورد الدولة الفارسية وأظهر مذهب الإمامية
(3)
.
(1)
ينظر: تلبيس إبليس (63).
(2)
الفصل (2/ 91).
(3)
المنتظم (12/ 299).
11.
وكذلك كان للصوفية دور كبير في نشر دعاء غير الله من الأولياء المقبورين، وكان منهم زنادقة تخفوا تحت مسمى التصوف ليتمكنوا من هدم الدين الحق في قلوب اتباعهم
(1)
، وكان لهم دور كبير في إبعاد الأمة عن عقيدة التوحيد وتزيين عقائد الشرك والتلبيس على الناس بأن ذلك هو الحق الذي جاء به الكتاب والسنة، وتزهيد الناس في العلم الصحيح الذي يرفع الجهل عنهم، وتنفيرهم من العلماء الصالحين العاملين، وإبعاد الناس عن الفهم الصحيح للقرآن والسنة بحجة صعوبة فهم القرآن والسنة، وأنه لا يستطيع فهمهما إلا من درس كل العلوم من نحو وصرف وبيان ومعان ولغة والفقه وأصوله والمنطق، وغير ذلك مما يضعونه من عوائق في طريق تدبر القرآن وفهمه وفهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في الصحيحين وفي غيرهما، وقل ربط القرآن بواقع الناس ولبس عليهم أن آيات الشرك إنما هي في كفار قريش، وأن ما يفعله الناس عند القبور لا يدخل تحت الشرك بل عملهم هذا من الدين وتقدير الأنبياء والصالحين وهكذا يلبس على الناس الباطل، حتى يتمكن دعاته من صد الناس عن الحق، والله المستعان.
(1)
من أمثال الحلاج، وابن سبعين، وابن العربي، والسهردوري، وابن الفارض، وغيرهم.
المطلب الرابع: تزيين دعاة الباطل للأدعية المحدثة، واشغال اتباعهم بها عن الذكر الشرعي.
وقد مر معنا الكلام على أنه ينبغي على المسلم أن يحرص على الأدعية الثابتة بنصوص الشرع، ولا يحيد عنها إلا إذا احتاج إلى دعاء خاص في رغبته وحينها لا بأس أن يدعو بمطلبه الخاص بأسلوبه الخاص؛ ولكن لا بد أن يراعي الضوابط الشرعية في ذلك الدعاء الذي ينشؤه من نفسه، وقد سبق الكلام عليها.
ولقد زين أهل الضلال ودعاة الباطل لاتباعهم بأن يلتزموا بأدعية محدثة ويواظبوا عليها كأنها جاء بها النص الشرعي، وهي أدعية لا تخلوا من المحاذير الشرعية، لأن الدعاء عبادة كما نعرف والعبادة لا تأخذ إلا من الكتاب والسنة، ومن تلك الأدعية ما يرتبه أصحاب الطرق الصوفية لاتباعهم من أوراد بدعية محدثة ليس عليها دليل من كتاب أو سنة، وإنما اخترعها من يسمونهم الأولياء، وصار الاتباع يلتزمون بها أكثر من الأوراد الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، بل أنهم يهجرون لأجلها ما جاء به الكتاب والسنة رغبة عنه لما زين لهم أهل الباطل من أن تلك الأوراد أفضل مما ورد في الكتاب والسنة، والله المستعان.
وذلك لأن القلوب خلت من تعظيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعلقت بغير الله، وترتب على ذلك الكثير من الآثار السئية على أصحاب هذه الأوراد المحدثة، ومن ذلك:
يقول الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله: " وما من ريب أن هذه الأدعية المبتدعة لها نتائجها المؤسفة وآثارها السيئة على المسلم في عقيدته وأعماله التعبدية، وهي آثار كثيرة يطول حصرها، لكن قد أوجزها ولخصها الشيخ جيلان بن خضر العروسي في كتابه القيم: " الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية "
(1)
، في النقاط التالية:
أولاً: أن الأدعية المبتدعة لا تفي بالغرض المطلوب من العبادات من تزكية النفوس وتطهيرها من الرعونات،
وتقريبها إلى باريها، وتعلقها بربها رجاء ورغبة ورهبة، فهي لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ولا تهدي سبيلاً.
(1)
ينظر: الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية (592 - 598).
وأما الأدعية المشروعة فهي الدواء الناجع والبلسم الشافي للأدواء النفسية والأمراض القلبية والأهواء الشيطانية، فمن استبدل بها الأدعية المبتدعة فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ثانياً: أن الأدعية المبتدعة تفوت على العبد الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي يحصل لمن التزم بالأدعية الواردة وحافظ عليها وطبقها
كما وردت، فإنه يحوز السبق، ويتعرض لنفحات الرب وجوده، بخلاف من يدعو بالأدعية المبتدعة، فإنه يفوت على نفسه الأجر والثواب ويعرضها لسخط الله وغضبه.
ثالثاً: عدم إجابة الأدعية المبتدعة
مع أن الهدف والأساس للداعي في الغالب هو إجابة مطلوبه، ونيل مرغوبه، ودفع مرهوبه، والأدعية المبتدعة لا يجاب الداعي بها، ولا تكون متقبلة منه، وفي الحديث:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "1.
رابعاً: أن الأدعية المبتدعة تشتمل غالبا على محذور شرعي،
وقد يكون ذلك المحذور من وسائل الشرك وذرائعه؛ إذ البدعة تجر إلى الشرك والضلال، فمن الأدعية البدعية التي تجر إلى الشرك: التوسل البدعي، فهو الذي فتح الباب لدعاء غير الله والاستغاثة والاستمداد بغيره، وقد يكون ذلك المحذور اعتداء في الدعاء ومجاوزة للحد، وسوء أدب في خطاب الرب ومناجاته، وقد يكون ذلك المحذور ما يصحب تلك الأدعية من بدع أخرى من تحديدها بأوقات معينة وبصفات خاصة، ورفع الأصوات على نغمات معينة، وإيقاعات خاصة وأسجاع مصطنعة، وتراكيب ركيكة تمجها الأسماع، وتستقبحها القريحة السليمة.
خامساً: أن الأدعية المبتدعة من التزم بها واعتادها قلما يرجع عنها إلى الأدعية المشروعة،
إلا إذا وفقه الله وأعانه وهداه إلى الخير، وذلك لأن القلوب متى اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، حيث إن الملتزم بتلك الأدعية المبتدعة يعتقدها مشروعة ويدافع عنها، ولا يسمع إلى حجة ولا برهان.
سادساً: أن استعمال الأدعية البدعية، وترك الأدعية المشروعة من باب استبدال الخبيث بالطيب،
والضاربالنافع، والشر بالخير، وهذا ولا ريب غبن فاحش، وتهور ظاهر، وخسارة فادحة.
سابعاً: أن في الأدعية المبتدعة المخترعة تشبها بأهل الكتاب في اختراعهم للأدعية المخالفة لما جاءت به رسلهم،
وفيها أيضا تشبه بهم في النغمات والإيقاعات والتمايلات وغير ذلك.
ثامناً: أن الذي يلازم الأدعية المبتدعة المخترعة لا سيما التي هي مؤلفة من أحزاب وأوراد يكون في الغالب جاهلاً لمعناها،
وتنصرف همته إلى ألفاظها، وإلى سردها سرداً بدون تدبر، مع أن المطلوب في الدعاء إحضار القلب والإخلاص في السؤال، ولا سيما أن كثيراً من هذه الأدعية عبارة عن كلمات مرصوصة خفية المعنى غامضة الدلالة، وهذا الداعي بمثل هذه الأدعية غير سائل ولا داع، بل هو حاك لكلام غيره، ثم إن اختياره ذلك الدعاء على غيره من الأدعية لأجل الذي نظمه وإعجابه به، ففي ذلك تقديس لهذا الذي جمعها، ورفع له فوق منزلته من حيث يعتقد الداعي أن لأدعيته خاصية لا توجد في غيرها، وإلا لما داوم عليها ليل نهار، بل بعضهم يصرح أن ورد شيخه أفضل الأوراد وأتمها وأكملها.
وبهذا يعلم مدى جناية هذه الأدعية المخترعة على المسلمين وعظم خطورتها عليهم، وأن الواجب على كل مسلم الحذر منها والبعد عنها ومجانبتها، وأن يقتصر على الوارد والمأثور عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإنه أقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً"
(1)
.
(1)
فقه الأدعية والأذكار (2/ 55 - 57).
المطلب الخامس: التعصب، والتقليد الأعمى، والتشبه بأهل الكفر.
ومن مصائد الشيطان التي اصطاد بها جبلاً كثيراً من الناس وأوقعهم في الضلال ومنه الشرك في الدعاء وفي غيره، تزيينه لما عليه الآباء والأجداد والمشايخ من الضلال والعادات المخالفة لشرع الله وما يقومون به من أمور وعقائد يعتقدها الآباء والأجداد في أهل القبور ودعائهم من دون الله، فيتعصب الأبناء والاتباع لذلك ويقلدون تلقيداً أعمى حتى لا يوصمون بأنهم يعادون الآباء والأجداد والمشايخ، وهذه طريقة أبليسية قديمة متجددة في إضلال الناس وإيقاعهم في شراك الشرك بمثل هذه الوسائل، وقد جاءت النصوص ببيان ذلك، فقال تعالى عن حال المشركين وبيان السبب الذي صدهم عن الحق المبين:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70 قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 71 فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 70 - 72].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله.
أما السنة فقد ورد فيها ما يدل على خطورة التقليد الأعمى، ومن ذلك:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ فَمَنْ؟»
(1)
.
ومن أعظم الأمثلة على خطورة التعلق بما عليه الآباء والأجداد ما حصل مع عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب، فعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]»
(2)
.
ويدخل في هذا التشبه بأمم الكفر وعلى رأسهم اليهود والنصارى كما سبق في الأحاديث، وقال صلى الله عليه وسلم في تحذير أمته من التشبه بالكافرين:
(1)
أخرجه البخاري (4/ 169 ط السلطانية) ح (3456)، ومسلم (8/ 57 ط التركية) ح (2669).
(2)
أخرجه البخاري (5/ 52 ط السلطانية) ح (3884).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
(1)
.
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4/ 44 ت محيي الدين عبد الحميد) ح (4031)، وفي تخريج أحاديث الإحياء (ص 318) قال العراقي:" أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بسند صحيح"، وحسنه إسناده ابن حجر في الفتح (10/ 271)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1059) ح (6149).
(2)
أخرجه الترمذي (4/ 475 ت شاكر) ح (2180) وقال: "حسن صحيح"، والنسائي في السنن الكبرى - ط الرسالة (10/ 100) ح (11121)، وصححه الألباني في تحقيقه لسنن الترمذي ح (2180).
المطلب الخامس: اتباع الهوى ومجالسة أهل البدع والأهواء.
اتباع الهوى من الأبواب التي يحصل من خلالها الانحراف عن العقيدة الصحيحة، وحصول الشرك من دعاء غير الله والأذكار المحدثة، وكذلك مما يلحق باتباع الهوى مجالسة أهله الذين يزينون للناس الباطل واتباع الأهواء، قال الله تعالى محذراً من اتباع الهوى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
وذكر الله في كتابه ثمرة الخوف من الله ونهي النفس عن الهوى، فقال سبحانه:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى 40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41].
أما مجالسة أهل الاهواء فهي الداء الدوي والسم القوي الذي يسري إلى القلوب فيدمر ما فيها من خير ويجذبها إلى أهل الباطل ويزين مجالسهم، فحينئذ يصاب من يجالسهم بقسوة القلب وظلمته وتنفذ إلى قلبه وتتخطفه الشبه، ويصير القلب مثل الإسفنجة التي تتشرب بما حولها من القذى والقذر، فيحدث الهلاك والخسارة، ولهذا لا تستغرب تحذير السلف من مجالسة أهل الأهواء، والتنفير الشديد عن ذلك، مع قوة علمهم وقوة إيمانهم إلا أنهم كانوا يحذرون ويجذّرون من مجالسة أهل الأهواء؛ لأن القلوب ضعيفة والشبه خطافة.
لإن مجالسة أهل الأهواء تفسد القلب وتمرضه، فلا يجد لذة في العبادة، وتذهب منه حلاوتها، وتجعله يفهم القرآن والسنة على منهج أهل البدع الذين يجالسهم فيتشرب فهمهم المنحرف للقرآن والسنة، ويصبح من دعاة الباطل المدافعين عنه وهو لا يشعر، ولذا ينبغي الحذر من مجالستهم لمن أراد السلامة لقلبه، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من هؤلاء، وبين خوفهم على أمته منهم، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ»
(1)
.
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ»
(2)
.
كان من منهج السلف رحمهم الله الحذر من مجالسة أهل البدع والأهواء والتحذير من ذلك أشد التحذير؛ لأن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة، من تعرض لها تعلقت بقلبه وأفسدته.
وقبل ذكر أمثلة من حياة السلف تبين شدة تحرزهم وتحذيرهم من أهل والأهواء، أود أن أقدم بهذا التنبيه المهم.
تنبيه مهم: وهذه المجالسة في زمننا لا يلزم منها حضور مجالسهم أو قراءة كتبهم؛ لأن مفهوم المجالسة تغير في زمننا بسبب ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة نتاجهم الفكري الموجود على شبكة الإنترنت، أو المتابعة التي تتم من خلال البث الفضائي.
فيستطيع الواحد في هذا الزمن أن يجالس أهل البدع والأهواء ويرى ويسمع دروسهم وخطبهم ومحاضرتهم ويقرأ كتبهم وهو في بيته، وبينه وبينهم المسافات الشاسعة، وأضف إلى هذا ضعف العلم الشرعي وضعف التمسك بالدين عند المتلقين، وقدرة أصحاب الباطل على المحاجة وتلبيس الحق بالباطل؛ ولذا كان الخطر عظيمًا والخطب جليلًا، وحينها نعرف لماذا يحذر السلف من مجالسة أهل الأهواء، ويحرصون على عدم سماع كلامهم مع قوتهم العلمية، وتمكن
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له (6/ 34) ح (4547)، ومسلم (4/ 2053) ح (2665).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 289) ح (143)، وابن حبان في صحيحه (1/ 281)، ح (80)، وقال في مجمع الزوائد (1/ 187) ح (886):"رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورجاله موثقون"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 107) ح (239)، وقال محقق مسند أحمد (1/ 289):"سنده قوي".
الدين من قلوبهم، وقدرتهم على المحاجة والمجادلة، إلا أن السلامة لا يعدلها شيء، والقلوب ضعيفة، والشبه خطافة، والشياطين حاضرة تمد أصحابها بزخرف القول الذي قال الله عنه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
قال إبراهيم النخعي رحمه الله: "لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البِغْضَة في قلوب المؤمنين"
(1)
.
وذكر الذهبي رحمه الله: "عن سفيان الثوري عليه رحمة الله: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه.
وعنه: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم.
قلت
(2)
: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة"
(3)
.
ومعنى كلام الإمام الذهبي رحمه الله: أن السلف يحذرون من سماع كلام أهل البدع؛ لأن القلوب ضعيفة سريعة التأثر بما تسمع، والشبه تخطف القلوب، وتميل بها عن طريق الهدى، ويزينها الشيطان فتزل القدم بعد ثبوتها.
(1)
الإبانة الكبرى (2/ 439). والبِغْضَة أي: لا تحبه قلوب المؤمنين. ينظر: الصحاح (3/ 1066 - 1067) مادة (بغض).
(2)
القائل الإمام الذهبي رحمه الله.
(3)
سير أعلام النبلاء (7/ 261).
وذكر العلماء رحمهم الله
(1)
آثارًا عن السلف في التحذير من مجالسة أهل الأهواء لخطورتها على القلوب، ومن ذلك: "قال أبو قلابة رحمه الله: لا تجالسوا أهل الأهواء -أو قال: أصحاب الخصومات-؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا، لتقومان عني، أو لأقومنَّهْ، فقاما. فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟!
…
وقال: خشيت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي.
وقال رجل من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر، أسألك عن كلمة؟ فولى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة.
وكان الحسن يقول: شر داء خالط قلبًا -يعني: الأهواء-.
وقال حذيفة: اتقوا الله، وخذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا -أو قال: مبينًا-"
(2)
.
قال رجل لابن سيرين: "إن فلانًا يريد أن يأتيك، ولا يتكلم بشيء، قال: قل لفلان: لا، ما يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة، فلا يرجع قلبي إلى ما كان"
(3)
.
(1)
ينظر: الشريعة (1/ 435 - 440)، الإبانة الكبرى (5/ 2544 - 2546)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 101، 150 - 151).
(2)
كل هذه الآثار عن السلف ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 285).
(3)
الإبانة الكبرى (2/ 446).
ويروي الآجري بسنده عن مهدي بن ميمون قال: "سمعت محمدًا -يعني ابن سيرين- وماراه
(1)
رجل في شيء، فقال محمد: إني أعلم ما تريد، وأنا أعلم بالمراء منك، ولكني لا أماريك"
(2)
.
وانظر إلى هذا الإمام العظيم من أكابر أهل السنة علماً وعملاً، ومع هذا العلم العظيم والقدرة على المجادلة خاف على قلبه من أن تنفذ إليه شبهة فلا يعود كما كان، وتذهب رقته وخشوعه وتلذذه بالعبادة بسبب سماع كلام أهل الباطل، فإنه يمرض القلوب ولو كانت صحيحة، ويفسدها ولو كانت سليمة فالحذر الحذر فإن سماع أو رؤية أهل الباطل تعد عقوبة عند أهل القلوب الحية، فقد دعت أم جريج الراهب على ابنها -لما انشغل بصلاة النافلة عنها- بأن يعاقبه الله برؤية وجوه العصاة من المومسات أي الزانيات، وقد عاقبه الله بذلك لأن رؤية الوجوه المظلمة يسري أثرها على القلب بشيء من الغبش في رؤية الحق، فمن سرح طرفه في تلك الوجوه وسمع لكلامها أصابت بقدر القرب ظلمة في قلبه ينعكس أثرها على نفوره من القرآن وأصحابه، وتؤثر كذلك على صفاء القلب، فتصيبه الكدورة التي تضعف فهمه للقرآن ويعجز عن تدبره، ويضيق الصدر بتلاوته، فلا يجد لذة في تدبره وفهمه، ولا ينتفع بمواعظه وزواجره ووعده ووعيده، وقد يصل الحال بقلبه أن يتلذذ بالشهوة الحرام من سماع المعازف ما لا يجده عند تلاوته أو سماعه، نسأل الله العافية والسلامة.
(1)
أي جادله.
(2)
الشريعة للآجري (1/ 453).
المبحث السابع: من آثار عدم تحقيق عمل القلب في الذكر والدعاء، وفيه تمهيد وعدة مطالب.
التمهيد:
كما سبق معنا مراراً ارتباط عبادة الذكر والدعاء بعمل القلب وبالأخص محبة الله والخوف منه ورجاؤه، ولهذا إذا حصل الخلل في هذه العبادات القلبية، أدى ذلك إلى الانحراف في هذه العبادة، وإليك بعض التفصيل في ذلك، في هذه المطالب:
المطلب الأول: الوقوع في الشرك
(1)
.
إذا حصل خلل في العبادات القلبية من الحب والخوف والرجاء والتوكل ونحو ذلك انعكس أثرها على عمل الجوارح لأن القلب هو المحرك لها كما مر معنا مراراً حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .
فيقع في القلوب تعلق بغير الله في عبادة الدعاء التي هي من أعظم العبادات بنص الحديث «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، فيقع الإنسان في الشرك بدعاء غير الله والاستغاثة والاستعانة بغيره فيما لا يقدر عليه إلا الله كسؤال الأموات والغائبين من الجن والملائكة والاستغاثة بهم، وطلب كشف الضر منهم ويجعلونهم وسائط بينهم وبين الله في قضاء الحوائج.
ويدخل في ذلك طلب قضاء الحوائج من شخص حاضر مما لا يقدر عليه إلا الله، كسؤالهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات ونحوه، وسبق الكلام عن أن الدعاء حق خالص لله، فمن دعا غيره فقد وقع في الشرك.
(1)
ومن أراد التوسع في هذا الموضوع العظيم فعليه بكتاب (شبهات المبتدعة في توحيد العباده) عرض ونقد رسالة علمية متينة للدكتور عبد الله الهذيل. تقع في 3 مجلدات ط الرشد.
و"سؤال الميت والغائب نبيًاً كان أو غيره من المحرمات المنكرة؛ باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين، فإن أحدًا منهم ما كان يقول إذا نزلت به تِرة أو عرضت له حاجة لميت يا: سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.
ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته؛ ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال، ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون، ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين"
(1)
.
"فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على الله كما تقدم، فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء - هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة، ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند الله"
(2)
.
المطلب الثاني: الوقوع في البدعة.
وقد مر معنا أن الذكر والدعاء عبادة لا تقبل إلا بتحقيق شروط قبول العبادة، والتي منها متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة وعدم الخروج عن سنته صلى الله عليه وسلم، وإلا وقع الإنسان في البدعة.
وسبق توضيح ذلك فيما سبق.
(1)
الاستغاثة في الرد على البكري (ص 221 - 222).
(2)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد (ص 179).
المطلب الثالث: حصول الرياء والسمعة والعجب.
إذا ضعف عمل القلب من الإخلاص والصدق ومراقبة الله في السر والعلن دبت أمراض القلوب المفسدة للعبادة والمؤدية إلى وقوع العبد في أمراض الرياء والسمعة والعجب، بسبب تعلق القلب بغير الله، ونحو ذلك من أمراض القلوب، ومظاهر ذلك كثيرة منها على سبيل المثال:
1 -
أنه يريد بعمله من ذكر ودعاء مدح الناس وثناؤهم عليه.
2 -
كثرة ذكره ودعائه إذا علم أن الناس يرونه، وهو بخلاف ذلك إذا علم أنه لا يراه أحد.
3 -
يحرص على أذكار وأدعية مبتدعة لم ترد في الكتاب والسنة من أجل التقرب من الناس كمثل مشايخ الطرق الصوفية، فإن من يتبعهم يردد ما يعلمونه من أذكار مبتدعة لأجل إرضائهم، وهو يعلم أن فيها مخالفة للسنة، وهكذا أصحاب البدع يرهبون اتباعهم حتى لا يفارقوا طريقهم.
ومن أعظم ما يخيف المؤمن من هذه الآفات ما يحدث من خطر عظيم على من يقع فيها وما يحدث له يوم القيامة من موقف مخيف تنخلع منه القلوب من شدة هوله، وتأمل معي في هذا الحديث العظيم الذي ينقل هذا المشهد من يوم القيامة، هذا المشهد الذي أبكى الصالحين بكاء عظيماً وهم قد بلغوا في الصلاح مبلغاً عظيماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بكى منه أبو هريرة رضي الله عنه واغمي عليه، وبكى منه معاوية رضي الله عنه بكاء شديداً، فكيف بمن عداهم؟ دَخَلَ شُفيٌ الأصبحي المَدِينَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثْنَا قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَا
مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ "، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» وَقَالَ الوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ «أَنَّ شُفَيًّا، هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا» قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي العَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: " قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ؟ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16] "
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ"
(2)
.
قال سفيان الثوري رحمه الله عند قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]: "ويل لأهل الرياء! ويل لأهل الرياء! هذه آيتهم وقصتهم"
(3)
.
وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»
(4)
.
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 591) ح (2382)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"، وابن حبان (2/ 136) ح (408)، والحاكم في المستدرك (1/ 579) ح (1527) وصححه وأقره الذهبي، وابن خزيمة (2/ 1188) ح (2482)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 114) ح (22)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (2/ 137) ح (408).
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).
(3)
تفسير القرطبي (15/ 265).
(4)
أخرجه البخاري واللفظ له (8/ 104) ح (6499)، ومسلم (4/ 2289) ح (2986).
وذكر الخطابي رحمة الله في معني الحديث: أن من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جزاه الله على ذلك بأن يشهره ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه
(1)
.
وأضاف ابن حجر إلى ما ذكره الخطابي، فقال:"وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة ومعنى «يرائي»: يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه"
(2)
.
وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ:«الرِّيَاءُ؛ إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!»
(3)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(4)
.
(1)
ينظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي (3/ 2257).
(2)
فتح الباري (11/ 336).
(3)
أخرجه أحمد (39/ 43 - 44) ح (23636)، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 34) ح (50)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب الإيمان، باب ما جاء في الرياء (1/ 102) ح (375):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 120) ح (32)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (39/ 44) ح (23636):"إسناده حسن".
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (4/ 2289) ح (2985).
وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ
(1)
.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (11/ 430) ح (6839)، وقال في مجمع الزوائد في كتاب الزهد، باب ما جاء في الرياء (10/ 222) ح (17660):"رجال أحمد، وأحد أسانيد الطبراني في الكبير رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (11/ 430) ح (6839):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(2)
أخرجه أحمد في المسند (11/ 566) ح (6986)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 117) ح (25)، وقال محقق المسند (11/ 566) ح (6986):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
المطلب الرابع: تسلط الشيطان عليه، وتمكنه منه.
وحين يضعف تعلق القلب بالله تعالى، ويضعف حب الله في القلب، حينها يعاقب بالغفلة عن ذكر الله الذي يحبه ويرضاه فتتسلط عليه الشياطين بسبب ذلك، قال تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19].
وهذا التسليط للشياطين عليهم عقوبة لهم لأنهم أعرضوا عن ذكر الله وعميت قلوبهم عنه.
وقد سبق في فوائد الذكر ما يغني عن اعادته هنا.
وكما سبق الحديث حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ» .
المطلب الخامس: الغفلة عن الآخرة.
إذا مرض القلب وتسلطت على صاحبه الشياطين فأنسته ذكر الله غفل ولا شك عن الاستعداد لآخرته، وركن إلى هذه الحياة الدنيا وتعلق قلبه بها، فغرته عن آخرته، ونسي الله والدار الآخرة، فنسيه ربه وتركه للهوى والشياطين، كما قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
"والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا، لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن
طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم - مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - ومن غفل عن ذكر الله، ونسي حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون"
(1)
.
وقال تعالى لمن غفل عن الآخرة: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14].
"أي: يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له؛ إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له، {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي: إنا سنعاملكم معاملة الناسي؛ لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء، بل من باب المقابلة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] "
(2)
.
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص 853).
(2)
تفسير ابن كثير - ت السلامة (6/ 362).