المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كتاب الجامع - شرح المحرر في الحديث - عبد الكريم الخضير - جـ ٦٠

[عبد الكريم الخضير]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ كتاب الجامع

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح: المحرر -‌

‌ كتاب الجامع

(1)

الشيخ: عبد الكريم الخضير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي هذه الدورة الثانية من الدورات العلمية المباركة التي تقام في هذا المكان لطلاب العلم اقترح الإخوة أن يكون المشروح كتاب الجامع؛ لكثرة ما يشرح ويسمع ويقرأ في أحاديث الأحكام، اقترحوا أن يكون في هذا الباب أو في الكتاب الجامع من هذا الكتاب النافع، وهذا الكتاب يضم ما يقرب من مائة حديث، مائة إلا ثلاثة أحاديث، الأربعون الأولى منها في الصحيحين متفق عليه، ولذا لما يشر المؤلف إلى تخريجه، الأربعون الأولى في الصحيحين، يليها ثلاثة عشر حديثاً في البخاري، يعني من مفرداته، أربعة عشر حديثاً، ثم ثلاثة وعشرون حديثاً من مفردات مسلم، وعشرون حديثاً متفرقة، فجل الأحاديث وغالبها مما اتفق على صحته؛ لوجوده في الصحيحين أو في أحدهما، والضعيف منها يسير جداً، وفيها الحسن وهو قليل، وما بقي من ذلك فهو صحيح.

ص: 1

هذا الكتاب اعتاد أهل العلم ممن يصنف في الأحكام أن لا يخلو باب الآداب والرقاق، وما يكون دواء للقلوب مما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام اعتادوا أن لا يخلو كتبهم من هذا الباب، أو من هذا الكتاب الجامع؛ لأن طالب العلم إذا عرف الأحكام تأهل للخدمة؛ لتحقيق ما خلق من أجله وهو العبودية، لكن من الذي يضطره إلى العمل بهذه الأحكام؟ تضطره أحاديث الرقاق، وفي هذا الكتاب الجامع منها ما يجعل طالب العلم يعمل بعلمه؛ لأنه في غمرة الأحكام العملية المتعلقة بالبدن، ومعلوم أن الأحكام العملية البدنية إذا أديت على الوجه المشروع لا شك أنها حياة للقلوب، لكن في الغالب والمشاهد في كثير من الناس أنه يأخذ هذه الأحكام ويغرق في بحث هذه الأحكام وأقوال أهل العلم فيها، ويغفل عما يصلح قلبه، ولذا يوجد الجفاء بين كثير من طلاب العلم، بل ممن ينتسب إلى العلم أحياناً، وعدم الإقبال على الله -جل وعلا- في عباداته، ولهذا الثمرة المرجوة من هذه العبادات ضعيفة، فالصلاة تثمر التقوى والخشية والمراقبة لله -جل وعلا-، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، فنجد من طلاب العلم من يصلي ويحرص على الصلاة، ومع ذلك توجد منه بعض المخالفات فضلاً عن عامة الناس، والسبب في هذا الخلل الموجود في هذه الصلاة {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [(45) سورة العنكبوت] فالصلاة إذا أُديت على الوجه المطلوب، ووجد لبها وهو الخشوع، وتدبرت وعقلها صاحبها أثمرت الثمرة المرجوة، وإلا ماذا يتوقع من صلاة لم يخرج صاحبها إلا بعشر أجرها، هذه الصلاة هل يتوقع أن تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ((الصلوات الخمس كفارات لما بينهما ما لم تغش الكبيرة)) هذه الصلاة تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى؟! شيخ الإسلام يقول: إن كفرت نفسها فبها ونعمت، وكذلك بقية الأركان.

ص: 2

الصوم إنما شرع للتقوى، لتحقيق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] يصوم كثير من المسلمين بما في ذلك بعض طلاب العلم ولا يورث هذا الصيام شيئاً، بحيث إذا انتهى رمضان، أو أفطر من صوم النفل عاد يزاول ما كان يزاوله في شعبان، لماذا؟ لأنه لم يؤدَ على الوجه المطلوب.

وأيضاً الغفلة عن الأحاديث التي تعالج أمراض القلوب، والعناية بالحديث ظاهرة ولله الحمد، لكن يبقى أن كثيراً من أبواب الدين مهجورة، على طالب العلم أن يُعنى بالفقه بالدين، والدين يشمل جميع أبواب الدين، ليس معنى هذا في قوله عليه الصلاة والسلام:((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) .. فهل معنى هذا أنه يعرف الأحكام العملية ويغفل عن غيرها؟ الفقه العلم بالله، وما يجب لله من .. ، هذا هو الفقه الأكبر عند أهل العلم، ثم بعد ذلك بقية أبواب الدين، ولذا لما جاء جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان قال:((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فهذه الأمور مجتمعة هي الدين، والعلم بها هو الفقه في الدين، وما وجد هذا الخلل إلا بإهمال بعض أبواب الدين، ومن أعظم الأبواب أبواب الرقاق، وتعريف الإنسان بحقيقة هذه الدنيا ليزهد فيها ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) كان الراوي ابن عمر يقول:"إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" الذي يتصور الدنيا على حقيقتها لا شك أنه سوف يتجافى عنها، ويعمل لآخرته محققاً ما خلق من أجله.

والكتاب هنا كتاب الجامع مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتباً، وأصل المادة تدور على الجمع، تكتب بني فلان إذا اجتمعوا، وجماعة الخيل كتيبة، والمراد به هنا اسم المفعول المكتوب الجامع لما تحته من أبواب من الآداب والزهد والرقاق وغيرها.

سم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

ص: 3

كتاب: جامع باب الزهد والورع

وعن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال.

في حديث عمر؟!

نعم.

ولا في باب؟!

نعم يا شيخ؟

كتاب الجامع عن عمر بن الخطاب.

إيش الطبعة التي معك؟

هذه الطبعة مخرجة ....

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) " هذا الحديث حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات)) حديث مشهور عند أهل العلم تلقوه بالقبول، وبنوا عليه أحكام عظيمة جداً، بل بُني عليه الشرط الأول مع ما جاء في بابه من الآيات والأحاديث، بُني عليه الشرط الأول لقبول الأعمال وهو الإخلاص لله تعالى، هذا الحديث عظم العلماء من شأنه، حتى قال قائلهم: إنه ينبغي أن يكتب هذا الحديث في بداية كل باب من أبواب العلم؛ لماذا؟ ليستحضر طالب العلم النية التي عليه مدار تصحيح العمل، فالنية كما هو معروف شرود والمؤثرات والخوادش عليها كثيرة جداً، فإن استحضرنا هذا الحديث وجعلناه في بداية كل باب ما غفلنا عنها، وصدر به جمع من أهل العلم كتابه، وأول حديث في الصحيح هذا الحديث في البخاري:((إنما الأعمال بالنيات)).

وقال الشافعي: إنه يدخل في سبعين باباً من أبواب العلم، وجزم بعضهم بأنه ربع العلم، فالعلم والدين يدور على أربعة أحاديث هذا أولها.

عمدة الدين عندنا كلمات

مسندات من قول خير البرية

اتقِ الله وازهد وادع ما

ليس يعنيك واعملن بنية

ص: 4

المقصود أن هذا الحديث شأنه عظيم، ورغم عظمته ومسيس الحاجة إليه لم يثبت عن أحد من الصحابة إلا عن عمر بن الخطاب، ولم يثبت عن عمر إلا من طريق علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا من طريق محمد إبراهيم التيمي، ولا يروى عنه بسند صحيح أو مقبول إلا من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعنه انتشر، حتى بلغ رواته عند يحيى بن سعيد فيما قيل سبعمائة، وإن كان الحافظ ابن حجر ينازع في بلوغ العدد، وأنه حرص وتعب على جمع طرقه ورواته عن يحيى بن سعيد فما استطاع تكميل المائة، فالمقصود أن هذا مجمع على صحته، ومتلقىً بالقبول، ومخرج في الصحيحين فلا كلام لأحد، وإن كان فرداً مطلقاً، بل هو مثال للفرد المطلق.

وكون الحديث لا يروى إلا من طريق عمر، ولا يروى عنه إلا من طريق علقمة، وتتلقاه الأمة بالقبول فيه الرد العملي على من يرد الخبر الواحد أو يرد ما تفرد بروايته راوٍ واحد، وإن قال بهذا بعض العلماء، وأن هذا شرط لصحة الخبر أن يروى عن اثنين فأكثر، أو شرط للبخاري في صحيحه، لكن هذا الكلام ليس بصحيح، وفي هذا الحديث رد على من يقول بذلك.

وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ

وقد رمي من قال بالتوهمِ

يعني: تعدد الرواة، ويفهم ويومئ كلام الحاكم إلى اشتراط العدد، والبيهقي أيضاً أشار إلى شيئاً من ذلك، والكرماني الشارح -شارح البخاري- أشار في مواضع إلى أن شرط البخاري أن يروي الحديث أكثر من واحد، ابن العربي في عارضة الأحوذي قال: إن حديث: ((هو الطهور ماؤه)) لم يخرجه البخاري لأنه لم يثبت إلا من طريق واحد، لكن ماذا يصنع بهذا الحديث؟! أول حديث في الصحيح، وآخر حديث في الصحيح فرد مطلق في هذا رد على من اشترط العدد في الرواية، رد عملي.

فالحديث أو الخبر عموماً إذا بلغ من طريق من يقبل قوله وتقبل روايته صار حجة ملزمة ولو تفرد به، ما لم يخالف من هو أوثق منه، حجة ملزمة؛ لأن هذا يثير إشكال عند بعض الناس، يعني: هل يتردد أحد في صحة حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) بل لو أقسم أحد على أنه صحيح ما حنث.

ص: 5

وقال أهل العلم: لو طلق شخص زوجته أن هذا الحديث صحيح ما طلقت زوجته، وتوجد الدعاوى من المعتزلة وأتباع المعتزلة أن خبر الواحد لا يقبل، وهذه حكمة، هذا الحديث خطب به على المنبر ومع ذلك لا يثبت إلا من طريق واحد، حكمة إلهية أن يبرهن على قبول الخبر الواحد بمثل هذا الخبر، بمثل هذا الحديث، وإذا بلغ الخبر لزم العمل به إذا كان ممن تقبل روايته، ولا يلزم في ذلك التعدد في الرواة، ويستشكل كثير من الباحثين ما يُذكر عن الأئمة من مئات الألوف من الأحاديث التي يحفظونها، فالإمام أحمد سبعمائة ألف، وأبو داود خمسمائة ألف، والبخاري مائة ألف، وغيرهم كثير، أين ذهبت هذه الأحاديث؟ لو جمعنا ما في كتب السنة ما بلغت هذا القدر ولا عشره، ولا عشر هذا العدد، هل نقول: إن الأمة فرطت بشيء من دينها؟ كلا، الدين محفوظ، والأمة معصومة من أن تفرط بدينها؛ لأنه محفوظ، ضمان بقائه إلى قيام الساعة معلوم، هو من هذا النوع، الحديث خطب به على المنبر فحفظه المئات، ثم بعد ذلك عند الأداء أداه من تقوم به الحجة، فلا يلزم أدائه من جميع الناس، فالخبر إذا أداه من تقوم به الحجة يكفي، على أن الأعداد المذكورة عند أهل العلم هي بالتكرار، رُب حديث يروى عن طريق مائة فيكون مائة حديث عندهم، ويدخل فيه أيضاً فتاوى الصحابة والتابعين.

وفيه ما فيه لقول الجعفي

أحفظ منه عُشر ألف ألفِ

ولعله أراد بالتكرارِ

لها وموقوفٍ وفي البخاري

المقصود أن مثل هذه الأعداد لا تشكل علينا، بأن يقول قائل أو يثير من يريد أن يشكك، من أراد أن يشكك يقول: الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث وين الأحاديث؟ الدين ضاع، ولعل ما ينصره من قول مخالف للشرع على حد زعمه في حديث ضُيع أو الحديث الذي يستدل به عليه معارض بحديث ضيع في ضمن ما ضيع من مئات الألوف من الأحاديث التي يحفظها الأئمة، نقول: هذا الكلام ليس بصحيح، الأمة معصومة من أن تفرط بدينها، والدين محفوظ ومضمون بقاؤه إلى قيام الساعة، لكن لا يلزم أن يروي الحديث كل من سمعه لا يلزم؛ لأن الأمر بالتبليغ:((بلغوا عني ولو آية)) ((وليبلغ الشاهد الغائب)) هذا إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ولا يلزم الباقين أن يبلغوا.

ص: 6

"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) " إنما: أداة حصر، فالأعمال محصورة بنياتها، فوجود العمل وجوده حقيقة العمل الشرعية مرتبطة بالنية، قد توجد صورة العمل، لكن هذا الوجود لا قيمة له؛ لأن العبرة بالوجود الشرعي، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام للمسيء:((صل فإنك لم تصل)) لقائل أن يقول: صلى ركع وسجد وقام وقرأ، لكن نقول: لا، هذه الصلاة لا قيمة لها، وإن وجدت صورتها، العبرة بالحقيقة الشرعية، فالأعمال الشرعية وجودها الشرعي بالنيات، بنياتها، ويختلف أهل العلم في تقدير متعلق الجار والمجرور، فمنهم من يقدر الصحة، ومنهم من يقدر الكمال، لكنهم لا يختلفون في اشتراط النية لصحة المقاصد، وإن اختلفوا في اشتراطها بالنسبة للوسائل، الصلاة لا يصححها أحد من أهل العلم بغير نية، لكن يوجد من يصحح الوضوء بغير نية لأنه وسيلة، وعامة أهل العلم على أن الوضوء عبادة تشترط لها النية داخلة في الحديث، والذي لا يشترط النية في الوضوء يشترطها للتيمم مع أنه وسيلة، بل بدلاً عن وسيلة، فاشتراط النية والصدق فيها والإخلاص لله -جل وعلا- أمر معلوم عند أهل العلم، وبه يقول الكافة، إذا أنضاف إلى هذا الشرط الشرطُ الثاني الذي يدل عليه الحديث الثاني وهو أن يكون العمل موافقاً لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، ويأتي ذكره في الحديث الثاني.

ص: 7

((إنما الأعمال)) الأعمال: الأصل أن (أل) هذه جنسية، يصلح أن يكون مكانها (كل) كل الأعمال "إنما كل الأعمال أو جميع الأعمال بالنيات" أو يكون المقصود بها العهد، وهي الأعمال المعهودة الشرعية صحتها بالنية، الذي يقدر اللام جنسية يطرد قوله في الأعمال الشرعية وغير الشرعية، فالشرعية تشترط النية لصحتها، وغير الشرعية تشترط النية لترتب الثواب عليها فتكون الجنسية، جميع الأعمال تفتقر إلى نية، فإن كان العمل شرعي مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- توقفت صحته على النية، وإن كان العمل عادي من أمور الدنيا توقف ثوابه على النية وإن صح بغير نية، فالذي يطلب العلم الشرعي والعلم الشرعي المبني على الوحيين عبادة لا يصح إلا بنية خالصة لله -جل وعلا-، وإذا دخلت هذه النية لا شك أن المتعلم في هذه الحالة على خطر، وإذا انعدمت هذه النية وتعلم لينال بذلك الدنيا أو الشرف أو ليقال: صار من الثلاثة الذي هم أول من تسعر بهم النار -نسأل الله السلامة والعافية-، لكن انظر إلى الطبيب والمهندس هذه من أمور الدنيا لا يشترط في صحة العمل نية، فلو طلبه للدنيا طبيب ليرتزق، مهندس يقصد بذلك الدنيا ليعيش، مزارع كذلك، صانع كذلك، لكن من الذي يرتب الثواب على هذه الأعمال النية، إذا طلب هذا العلم أو هذا العمل بنية خالصة صالحة أثيب عليه وإلا خرج منه كفافاً.

((وإنما لكل امرئ ما نوى)) عرفنا أن صحة الأعمال وترتب الثواب على الأعمال إنما هو بالنيات ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) ليس له من العمل غير ما نواه، فهذه منطوق هذه الجملة يؤكد مفهوم الجملة الأولى، فإذا لم ينو شيئاً لم يحصل له شيء، وإن نوى غير ما تدل عليه الجملة الأولى هذا الذي يطلب العلم لا لشيء مثلاً ليس له شيء، والذي يطلبه للدنيا {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ} [(16) سورة هود] هذا طلب للدنيا.

ص: 8

((فمن كانت)) الفاء هذه التفريعية ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) (من) شرطية، ومنهم من يقول: موصولة مشربة معنى الشرط، ولذا اقترن جوابها بالفاء ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) الهجرة في الأصل: الترك، وهي في الشرع: الانتقال من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام إلى بلاد الإسلام، وهي واجبة إلى قيام الساعة، وحديث:((لا هجرة بعد الفتح)) إنما هو بعد الفتح لأن مكة صارت دار إسلام فلا هجرة بعد الفتح.

((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) فعل الشرط: من كانت هجرته إلى الله ورسوله، وجواب الشرط:((فهجرته إلى الله ورسوله)) العلماء يشترطون تغاير الشرط مع الجزاء، واتحاد الشرط مع الجزاء ممنوع عندهم، لا يصح عندهم أن تقول: من قام قام، ومن أكل أكل، من أكل فقد أكل، ومن قام فقد قام، يصح أو ما يصح؟ لا يصح عندهم، اتحاد الشرط مع الجزاء، هنا لتعظيم الأمر وتهويله ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله)) إذا أريد تعظيم الأمر كرر بحروفه:

أنا أبو النجم وشعري شعري

. . . . . . . . .

((من كانت هجرته إلى الله ورسوله)) لا بد من التقدير هنا ليتغاير الشرط مع الجزاء نية وقصداً ((فهجرته إلى الله ورسوله)) حقيقة وحكماً أو ثواباً وأجراً، جاء في الحديث:((من رآني فقد رآني)) يعني: رأى حقيقتي؛ لأن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام.

ص: 9

((فهجرته إلى الله ورسوله)) هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة مرتين، وهاجروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، ووجبت الهجرة على من أسلم أن يهاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ومنُع المهاجر أن يمكث في البلد الذي هاجر منه، الذي تركه لله، ولم يستثن من ذلك إلا المستضعف الذي لا يستطيع حيلة، ولم تذكر الحيلة في شيء من النصوص صراحة إلا في الهجرة؛ لماذا؟ لعظم الأثر المترتب على إقامة المسلم بين الكفار، فالحيلة الصريحة إنما جاء التنصيص عليها في الهجرة، والسبب في هذا عظم الأثر المترتب على إقامة المسلم بين ظهراني الكفار، وكم من أخبار وكم من قصص يندى لها الجبين بالنسبة لمن يقيم بين ظهراني الكفار، وكم من شخص ارتد -نسأل الله السلام والعافية- بسبب ذلك، وأولاد المسلمين يؤخذون قهراً منهم، ويعلمون في مدارس غيرهم، السبب في هذا إقامتهم بين ظهراني الكفار إلا العاجز، العاجز الذي لا يستطيع حيلة مثل هذا معذور، جاء التنصيص عليه في آية النساء، أما الذي يستطيع أن ينتقل من بلاد الكفر إلى بلاد المسلمين يجب عليه ذلك.

وقد برئ المعصوم من كل مسلم

يقيم بدار الكفر غير مصارم

المقصود أن الأمر ليس بالسهل لعظم الأثر المترتب عليه، والحيلة الشرعية إنما تجوز وتكون شرعية إذا كانت مما يتوصل به إلى فعل الواجب أو ترك المحرم، أما إذا كانت الحيلة على العكس يتوصل بها إلى ترك واجب أو إلى فعل محرم هذه حيل اليهود التي نُهينا عن التشبه بهم فيها ((لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)) فالذي يتحايل على الواجبات فيتركها، أو يتحايل على المحرمات فيرتكبها هذا فيه شبه من اليهود.

ص: 10

((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) هجرته إلى ما هاجر إليه، سياق الشرط الثاني في مقابل الشرط الأول، الشرط الأول مدح والثاني ذم أو ليس بذم؟ الذي يقابل المدح الذم، ولا شك أن السياق يشعر بالذم، لكن من هاجر إلى بلد من البلدان لأنه ضاقت به المسالك في بلده، وانتقل إلى بلد آخر طلباً للزرق أو ماتت زوجته أو بحث عن زوجة فلم يجد ما يتزوجه في بلده فانتقل إلى بلد آخر لأنه يجد امرأة يتزوجها هناك يذم أو ما يذم؟ يذم؟ لا يذم؛ لماذا؟ لأنه هاجر طلباً للمباح، وأحياناً يكون طلباً لمستحب، وأحياناً يكون طلباً لواجب على حسب الحكم الشرعي بالنسبة له إلى طلب الدنيا ليتعفف بها عن سؤال الناس، أو طلب الزوجة ليحصن نفسه، لكن السياق هنا سياق ذم، وهو محمول على من تظاهر بالهجرة إلى الله ورسوله وحقيقة الأمر أنه إنما أراد الدنيا أو المرأة.

ص: 11

ذكرنا مثالاً في الدورة الماضية يصور لنا أو يقرب لنا هذه الهجرة، يعني الحديث محمول على شخص هاجر وفي نيته أنه يطلب المال، ثم يقول للناس: والله هذا البلد ليس فيه ما يعين على العبادة، أو تحصيل العلم، أو ما أشبه ذلك، أنا انتقل إلى البلد الفلاني، انتقل من المدينة إلى الرياض أو إلى كذا؛ لأن المشايخ والعلماء متوافرون هناك، ويتيسر لي أن أطلب العلم وهو في الحقيقة لأن فرص العمل الدنيوي أكثر في حقيقة الأمر، وكذلك إذا قال: يذهب هناك للبلد الفلاني لأن العُباد أكثر يعينونه على تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، وفي حقيقة الأمر أنه ذكر له امرأة تناسبه هناك، فيتظاهر بغير الواقع، والمثال الذي كررناه: لو افترضنا أن شخصاً إذا بقي على غروب الشمس ربع ساعة نصف ساعة من يوم الاثنين أخذ التمر والقهوة والماء وذهب إلى المسجد وبسط سماطه في المسجد ووضع التمر وانتظر حتى يؤذن وهو ما صام، وكل من دخل من باب المسجد: تفضل أفطر معنا، هو ما صام، إذا نظرنا إلى أصل المسألة الأكل في المسجد مباح، وكونه لا يأكل إلا في وقت معين ما لم يتعبد به ينتظر مباح، لكن كونه يرتبط بهذا الوقت بهذه المدة على هيئة الصائمين، ويدعو الناس ليفطروا الناس معه، وينتظر حتى يؤذن، هذا يتظاهر للناس، بل يظهر للناس خلاف ما هو عليه، فيذم من هذه الحيثية، وإلا الأكل في المسجد ما فيه شيء، يعني: لو جاء بعدته من التمر والشاي والقهوة الضحى مثلاً، وصلى ركعتي الضحى وجلس يذكر الله حتى يؤذن لصلاة الظهر، ومعه التمر والشاي والقهوة وكذا ما يلومه أحد، لكن كونه يتحين هذا الوقت ويتظاهر للناس الذي يدخلون مع الأبواب أنه إنما يستعد للفطور من الصيام من هذه الحيثية يذم، ولذا الذي هاجر للدنيا أو هاجر من أجل المرأة، وقد أظهر للناس بقوله أو بفعله، بلسان حاله أو مقاله أنه إنما هاجر لله ولرسوله الذم من هذه الحيثية ((ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها)) دينا الدنيا ما قبل الآخرة، وما قبل الموت بالنسبة للأفراد، سميت بذلك لدنوها وقربها، أو لدناءتها وحقارتها.

ص: 12

((أو امرأة)) المرأة ومرأة مؤنث المرء والامرأ، وهذه الكلمة يقولون: إنها من الغرائب الامرأ، يقولون: لأن عينه تابعة للامه في الحركات، الراء تابعة للهمزة، جاء امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئ، فالعين تابعة للام.

((فهجرته إلى ما هاجر إليه)) والحديث متفق عليه، متلقىً بالقبول، مجمع على صحته.

والوقت لا يستوعب أكثر من هذا.

نعم.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثاني:

"وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) " الإحداث والابتداع والتجديد لأن الحديث هو الجديد، والإحداث يطلق ويراد به الإنشاء والاختراع، ويطلق ويراد به التجديد.

((في أمرنا)) يعني في الدين، أما الإحداث والابتداع في أمور الدنيا، والإبداع والتجديد لا يدخل في هذا الحديث؛ لأنه يقول:((في أمرنا)) يعني: في ديننا وفي شأننا.

ص: 13

((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) الإحداث والابتداع في الدين مردود على من فعله كائناً من كان ((كل بدعة ضلالة)) والبدعة مردودة ممن جاء بها، لكن إذا أُثرت عمن أُمرنا بالاقتداء به فإنها حينئذٍ لا تكون بدعة ولا إبداع ولا إحداث، فمثلاً في قول عمر -رضي الله تعالى عنه-:"نعمت البدعة" يعني: صلاة التراويح التي جمع الناس عليها، نعمت البدعة، بعض الشراح أساء الأدب وقال:"والبدعة مردودة ولو كانت من عمر" عمر أُمرنا بالاقتداء به والاستنان بسنته ((اقتدوا باللذين من بعدي)) ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) إذاً كيف يحدث ويبتدع عمر؟ ونقول: هذه بدعة لكنها من عمر فهي مقبولة، ومعلوم أن الأمر بالاقتداء باللذين من بعده والاهتداء بهديهم إنما هو فيما لا معارضة له مع ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:((كل بدعة ضلالة)) عمر -رضي الله تعالى عنه- لما جمع الناس على صلاة التراويح وخرج ورآهم يصلون وأعجبه جمعهم على الإمام الواحد وعدم تفرقهم، الذي يترتب عليه اجتماع وأتلاف القلوب قال: نعمت البدعة، الشاطبي يقول: مجاز، استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: بدعة لغوية وليست شرعية، البدعة اللغوية ما عمل على غير مثال سابق، والشرعية ما دل عليها الحديث، ما أحدث في الدين مما لم يسبق له شرعية من كتاب أو سنة، فهل جمع عمر الناس في صلاة التراويح على إمام واحد من باب البدعة اللغوية أو الشرعية؟ هل عمل عمر على غير مثال سبق؟ هل أحدث في الدين ما لم يسبق له شرعية في الكتاب والسنة؟ النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم ثلاث ليالٍ ثم ترك، ترك نسخ وإلا خشية أن تفرض مع بقاء الحكم؟ نعم، خشية أن تفرض وليس نسخاً لها، تركها لسبب، فإذا ارتفع السبب ارتفع الترك، آمنا من فرضيتها بموته عليه الصلاة والسلام فيعود الحكم الذي هو الترك، فليست ببدعة شرعية قطعاً؛ لأنها عُملت على مثال سبق بأن سبق لها شرعية من عمله عليه الصلاة والسلام، وليست ببدعة لغوية لأنها مثل ما ذكرنا لا ينطبق عليها حد البدعة اللغوية؛ لأن أكثر ما يتمسك به المبتدعة

ص: 14

بقول عمر، ومن يقسم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يستند إلى قول عمر، ومن يقسم البدع إلى الأحكام التكليفية الخمسة يستند إلى قول عمر، فإذا أجبنا عن قول عمر انتهى الإشكال.

قال: وهذه بدعة لكنها حسنة، فما المانع من أن يحدث بدع حسنة بخلاف البدع السيئة؟ هذه بدعة مستحبة فلماذا لا نبتدع بدع واجبة؟ إلى غير ذلك مما يحتمله أحكام التكليف، نقول: أصلاً هذه ليست ببدعة، طيب تقولون: ليست ببدعة وصاحبها يقول: بدعة؟ نقول: ليست ببدعة، طيب كيف يقول: بدعة؟ نقول: هذه ليست بمجاز لأنه لا مجاز، وهذه أيضاً ليست ببدعة لغوية لأنها سبق لها شرعية، ولم تعمل على لا مثال سبق، إنما سبق لها التشريع من المصطفى صلى الله عليه وسلم، فليست ببدعة لا لغوية ولا شرعية، وإنما هي من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] الأولى سيئة بالفعل والثانية حسنة؛ لأن معاقبة الجاني ليس بسيئة، هذه مشاكلة في التعبير، مجانسة، وهذا أسلوب معروف في البديع من علوم البلاغة.

قال: اقترح شيئاً نجد لك طبخه

قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا

مشاكلة، والمشاكلة: أن يأتي المتكلم بكلام له مشاكل ومجانس في السياق حقيقة أو حكماً، يعني: هل يوجد من قال لعمر: ابتدعت يا عمر فقال: نعمت البدعة؟ لا يشترطون أن يكون المجانس والمشاكل مذكور، بل لو وجد حكمه كأن عمر -رضي الله تعالى عنه- خشي أن يقول قائل: ابتدعت يا عمر، فقال: نعمت البدعة، وعلى هذا التقسيم تقسيم البدع إلى ما يمدح وما يذم أو إلى ما يجب ويستحب ويباح تقسيم لا أصل له، والشاطبي في الاعتصام رده رداً قوياً، وقوض دعائمه، وإن قال به بعض العلماء، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:((كل بدعة ضلالة)) وهنا (من) من صيغ العموم.

ص: 15

((من أحدث)) مهما كان المحدث ومهما كان الحدث ((في أمرنا)) في ديننا هذا ((ما ليس منه فهو رد)) يعني: مردود عليه، رد مصدر يراد به اسم المفعول كالحمل يطلق ويراد به المحمول، فكل من أحدث في الدين فهو في ضلالة؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، هل المراد أن هذا الضلالة نفسها البدعة نفسها في النار مع سلامة صاحبها، أو المراد أن صاحبها في النار؟ نعم المراد صاحبها ((ما أسفل من الكعبين ففي النار)) يعني: الثوب في النار وإلا صاحب الثوب؟ صاحب الثوب بلا شك.

والحدث والإحداث في الدين شأنه خطير لأنه تشريع، ومشاركة لله -جل وعلا- في شرعه، وصد عن دينه؛ لأن كل بدعة توجد تكون في مقابل سنة، كل من ابتدع أو عمل ببدعة حرم من العمل بالسنة بقدرها، ولذا جاء في الحديث الصحيح:((الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يُحدث، ما لم يؤذِ)) الحدث هذا يحتمل أن يكون إبطال الطهارة، ويحتمل أيضاً أن يكون إحداثه في الدين، فيحرم من هذا الدعاء، المقصود أن الحوادث والبدع شأنها عظيم، وأمرها خطير، وله قواعد، ولها ضوابط، ولها أمثلة كثيرة في كلام أهل العلم، وألفت فيها الكتب، ولا داعي للإطالة بتفصيلها.

هذا الحديث مع الرواية الأخرى: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) عليه الشرط أو منه يؤخذ الشرط الثاني لقبول الأعمال وهو المتابعة، فكل عبادة يشترط لها شرطان: الإخلاص كما دل عليه الحديث الأول، والمتابعة وهو ما دل عليه الحديث الثاني {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [(7) سورة هود] يعني ما قال: أكثر، أحسن.

ص: 16

يقول الفضيل بن عياض: {أَحْسَنُ عَمَلاً} [(7) سورة هود] أخلصه وأصوبه، الخالص هو الشرط الأول أخلصه، يكون العامل مخلصاً لله -جل وعلا- في عمله، صواباً على سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وإذا اختل شرط من هذين الشرطين لم يقبل العمل، منهم من يقول: يكتفى بالشرط الثاني، وهو أن يكون موافقاً لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، يكفي أن تصلي كما رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، يكفي أن تأخذ عنه المناسك، يكفي أن تأخذ عنه الصيام، وغير ذلك لأنه هو الأسوة والقدوة يكفي هذا الشرط؛ لأنك إذا عملت مثل ما عمل غير مخلصاً لله -جل وعلا- ما تحقق الشرط الثاني، فلن يتحقق الشرط الثاني إلا بتحقق الشرط الأول، فعلى هذا يكتفى بالشرط الثاني، ويشترط لصحة العمل أن يكون صواباً على هدي النبي عليه الصلاة والسلام ومن هديه الإخلاص، إذاً لا داعي لأن يشترط الشرط الأول، وأقول: أهل العلم يؤكدون على الشرط الأول، وهو وإن دخل من حيث العموم والجملة في الشرط الثاني إلا أنه لا بد من التنصيص عليه؛ لأن الغفلة عنه تجعل العمل على نقيض المقصود مقصود العامل، لا يكفي أن تكون مثلاً الصلاة باطلة إذا لم يكن الرجل مخلصاً فيها، ولا يكفي أن يكون حكمه حكم العوام إذا لم يكن مخلصاً في علمه، إنما يكون وبالاً على صاحبه -نسأل الله السلامة والعافية-، فالتنصيص على الإخلاص والتذكير به في كل مناسبة أمر لا بد منه، ولذا قال أهل العلم ما ذكرناه في أول الدرس: أن هذا الحديث حديث عمر ينبغي أن يجعل في صدر كل باب من أبواب الدين.

ص: 17

((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) يستدل به من يبطل جميع التصرفات الشرعية إذا وقع فيها ما ليس من أمره عليه الصلاة والسلام، أو ما ليس من فعله صلى الله عليه وسلم، فيستدل بهذا من يرى عدم وقوع الطلاق إذا لم يكن سنياً إذا كان بدعياً، فالثلاث المجموعة لا تقع كيف لا تقع؟ لأنها بدعة، لكن هل يقول قائل: إنها لا تقع بالكلية أو تقع واحدة؟ الطلاق في الحيض لا يقع لأنه بدعي، وليس عليه أمرنا فهو مردود على صاحبه، الطلاق في طهر جامعها فيه لا يقع لأنه بدعي وليس عليه أمر النبي عليه الصلاة والسلام، طلاق الثلاث مقتضى هذا أن لا يقع به شيء صح وإلا لا؟ مثل الطلاق في الحيض، لكن هل يقول قائل: إن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً لم يتخللها رجعه أنه لا يقع شيء لأنه بدعي أو يقع واحدة؟ يقع واحدة، لكن لو قلنا بالتطبيق الحرفي لهذا الحديث على هذه المسألة فالمقتضى أن لا يقع شيء لأنه بدعي مردود نرده بالجملة، بالكلية، كيف نرد طلقتين ونقبل واحدة؟ جاء الخبر الصحيح أن الطلاق الثلاث على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر واحدة، وعلى هذا يعول من يقول: إن الطلاق الثلاث إنما يقع واحدة، وهو القول المرجح عند شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم، وإن كان الجمهور على خلافه؛ لأن عمر أوقعه لما رأى الناس يتتابعون عليه، ويتلاعبون بحدود الله أوقعه عليهم، وعمل به جماهير أهل العلم تبعاً لعمر، والمفتى به والمرجح عند أهل التحقيق أن الثلاث تكون واحدة، والعمدة في هذا حديث الباب مع ما يفسره من كونهم يجعلون الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر الثلاث واحدة، وإذا كان هذا هو الموجود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام فهو الحجة وهو المعتبر، وكون عمر يمضيه على الناس من باب التعزير ليس معنى هذا أنه يستقر حكماً شرعياً، يعني: مثل ما جاء في الأمر بقتل المدمن ((إذا شرب الرابعة فاقتلوه)) قالوا: إن حده الأربعون جلدة، أو الثمانون على خلاف بين أهل العلم، وأما قتله فمن باب التعزير، إذا لم يرتدع الشُرّاب بالحد يقتل من يرتدع بهم الباقي.

ص: 18

الزيادة على المشروع، الأعداد المقدرة شرعاً مثل ركعات الصلوات، شخص صلى الظهر متعمد خمس ركعات، أو صلى الصبح ثلاث ركعات، أو المغرب أربع ركعات متعمداً هذا صلاته باطلة اتفاقاً؛ لأنه أحدث في الدين فهو مردود عليه؛ لأن هذا حد محدد ومقدر شرعاً لا تجوز الزيادة عليه والنقص منه.

زاد على الأذكار المطلوبة قلنا: الزيادة في الأعداد في أعداد ركعات الصلوات تبطلها، فإذا زاد على الأذكار هل يترتب الوعد من الثواب أو الحفظ على هذه الزيادة، أو نقول: إن هذه الزيادة كأعداد الصلوات تبطل المزيد؟ مثلاً: ((من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) لو قالها مائة وعشر، قال: ما من زيادة التسبيح إلا خير، تأتي عليها بالبطلان ولا يترتب عليها أثرها؟ أو نقول: المقصود حصل بالمائة والزيادة قدر زايد الأولى أن لا يزاد وإن زيْد فلا أثر له؟ ولذا جاء في حديث: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة كتب له .. ومحي عنه .. وحفظ .. وكانت حرزاً له من الشيطان، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا شخص عمل مثله أو زاد)) يعني هل معنى هذا أن من قال: لا إله إلا الله إلى آخر المائة وعشرة يحوز على هذه الآثار المترتبة على هذا الذكر والزيادة مقبولة في مثل هذا لأنه ذكر ((وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) فالزيادة تكون من المطلق، أو نقول: لا بد أن يتقيد بالعدد كأعداد الصلوات؟ وما معنى: أو زاد؟ هل المراد به زاد على المائة أو زاد في المئات؟ يعني: قالها مائة، ثم قالها مائة ثانية، ثم قالها مائة ثالثة، وهكذا؟

طالب: ثانية.

ص: 19

الذي يظهر أنه زاد على المائة، فتكون المائة محققة للوعد، وما زاد عليها له أجره، ولم يأت على المزيد بالبطلان، وهذا يخفف في هذا الباب، وإلا فالأصل أن الأعداد التي جاءت عن الشارع ورتب عليها بعض الأمور أن قائلها لا بد أن يتقيد بها، وإلا ما صار للعدد فائدة، هل يدخل قولهم الزيادة مطلوبة أو الزيادة من الثقة مقبولة في مثل هذا؟ يعني سبحان الله وبحمده مائة مرة قالها مائة وعشرة، أو قال: لا إله إلا الله مائة وعشرة أو مائة وعشرين هل نقول: هذا يدخل فيمن زاد؟ ويترتب عليه الأثر والأجور المرتبة في الحديث والزيادة لها أجرها تكون من المطلق؟

قوله: "أو زاد" هل يحمل على المئات أو على العشرات أو الآحاد؟ إذا جاء بمائة حقق ما طلب منه، وترتب عليه آثاره، لكن لو نقص واحدة أو زاد واحدة، يعني: هل العدد له مفهوم أو لا مفهوم له؟ جاء بمائة في أول النهار، جاء بمائة بعد الظهر، جاء بمائة بعد العصر، جاء بمائة بعد المغرب، جاء بمائة بعد العشاء، هل نقول: إن هذا يدخل فيمن زاد، أو نقول: إن المطلوب مائة في اليوم؟ أو كما جاء في بعض الروايات: في اليوم مرتين، يعني: في النهار وفي الليل، جاء في بعض الروايات ما يدل على هذا، فعلى هذا من جاء بها ثلاث مرات، يعني: هل الزيادة عليها مؤثرة؟ لا، ليست مؤثرة، بدليل قوله:((أو زاد)) لكن هل هذه الزيادة غير المؤثرة في المئات كما يقول بعضهم: إن العدد المحدد ما فيه زيادة عليه، مائة مائة لا تزيد ولا تنقص، لكن إن زدت مئات دخلت في قوله:"أو زاد" لكن إن زدت آحاد أو عشرات زدت على القدر المحدد شرعاً فلا يثبت لك الأجر إن سلمت من الوزر.

طالب:. . . . . . . . .

ما دام اللفظ محتمل واللفظ صحيح ما الذي يجعلنا نضيق على أنفسنا، نعم الأعداد التي لم يأتِ فيها مثل هذا لا يزاد عليها ولا ينقص، لكن من جاء بهذا الذكر الذي فيه:((أو زاد)) ما المانع أن يأتي بالمائة، ويضمن ما رتب عليها، وبعد ذلك يقول ما شاء ليزيد.

طالب:. . . . . . . . .

نعم.

ص: 20

وعن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه:((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعن الشعبي" عامر بن شراحيل التابعي الجليل "عن النعمان بن بشير" الصحابي الجليل يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه" ليبين أنه متحقق من ضبط هذا الخبر وحفظه وإتقانه، وأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من غير واسطة، سمعه بأذنيه، لكن هل الخبر يسمع بأذنين أو بأذن واحدة؟ يعني: أشار بأذنيه {وَتَعِيَهَا} [(12) سورة الحاقة].

طالب:. . . . . . . . .

إيش؟

طالب:. . . . . . . . .

{أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} هل الخبر يسمع بأذن واحدة أو بأذنين؟

طالب:. . . . . . . . .

نعم؟

طالب:. . . . . . . . .

تظن الأخبار بالهدفون تجي بالأذنين! النعمان أهوى رضي الله عنه بأصبعيه، الصحابي يقول: سمعته أذناي، لا شك أن وصول الخبر إلى الحاسة حاسة السمع على حسب موقع المخبر، إذا كان المخبر من جهة اليمين فالأذن اليمنى، وإن كان من جهة الشمال فالتي تسمع الأذن اليسرى، وإن كان في المقابل من الأمام أو من الخلف بحيث يكون بعد الصوت عن الأذنين على حد سواء يسمع بأذنيه أو تسمعه الأذن الأقوى في السمع دون الأخرى.

"وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه" لبين أنه سمعه من النبي عليه الصلاة والسلام من دون واسطة.

ص: 21

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين)) الحلال بين وواضح، الحرام بين واضح لا خفاء فيه، وهذا من باب المقابلة بين المتضادين، هذا حلال وهذا حرام، فالحلال ضد الحرام، والحرام ضد الحلال، ولذا لما جاؤوا في ترجمة حرام بن عثمان قالوا: بلفظ ضد الحلال ليضبط اسمه لئلا يصحف، حرام إيش معنى حرام؟ شخص يسمى حرام؟! يهجم عليه من يصححه فيقول: حزام مثلاً، لا، قالوا: بلفظ ضد الحلال، وهذه طريقة لهم في ضبط الأسماء، الحكم بن عتيبة كثير من الكتب مصحف فيها إلى عيينة، لكن الشراح يقولون: بتصغير عتبة الدار وينتهي الإشكال، ما نحتاج إلى أن نقول: بضم العين المهملة ولا .. ، أبد، تصير معروفة، وهذه من طرقهم في ضبط الألفاظ.

((إن الحلال بين)) تأكيد ((وإن الحرام بين)) واضح لا اشتباه فيه، وأيهما الأصل الحظر أو الحل؟

طالب:. . . . . . . . .

أيهما الأصل؟

طالب:. . . . . . . . .

الحل الأصل.

طالب:. . . . . . . . .

تفصيل.

طالب:. . . . . . . . .

أبو حنيفة يقول: الحلال ما أحله الله، والشافعي ومن معه يقولون: الحرام ما حرمه الله، الذي يسمع هذا الكلام يقول: ما في فرق، في فرق بين المذهبين؟

طالب:. . . . . . . . .

أبو حنيفة يقول: الحلال ما أحله الله، مفهومه أن ما عدا ما أحله الله فهو حرام، إذن الأصل الحظر.

وقول الشافعي: الحرام ما حرمه الله، يكون الأصل الحل، ثم إن وجد ما يرفع هذا الأصل إلى التحريم انتقل عن الأصل، لو خرجت في نزهة إلى البر فوجدت نباتاً أو حيواناً لا تعرف حكمه ما عندك فيه دليل لا دليل يبيح ولا دليل يمنع تأكل أو لا تأكل؟ على رأي أبي حنفية ما تأكل؛ لأن الحلال ما أحله الله، وليس عندك نص يدل على أن الله أحل هذا، وعند الشافعي تأكل حتى تقف على نص يمنعك منه.

ص: 22

((إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)) بعض الروايات: ((مشبهات)) بعض الروايات: ((متشابهات)) وهنا يقول: ((مشتبهات)) يعني: ملتبسات ((لا يعلمهن كثير من الناس)) يلتبس الأمر فيهن على كثير من الناس، كون الأمر يلتبس على العامة هذا هو الأصل؛ لأنهم لا علم لهم بالحلال والحرام إلا ما علم من الدين بالضرورة، لكن كون الأمر يشتبه ويلتبس على طلاب العلم أو بعض أهل العلم، والاشتباه أمر نسبي قد يكون هذا مشتبه وملتبس على زيد من الناس ولا يلتبس على عمرو، يلتبس على هذا العالم، ويظهر الحكم لآخر، يلتبس فهم الخبر على هذا العالم ويتجلى لغيره، فهذه الأمور نسبية، وعلى كل حال إذا كان الشخص من أهل النظر فالمشتبهات بالنسبة له، هذه الأمور المشتبه منهم من يقول: هي المكروهات، فهذه المكروهات تتقى خشية أن تكون من المحرمات في حقيقة الأمر، وإن لاح للمجتهد أنها لا تصل إلى التحريم فهذه شبهة، برزخ بين الحلال والحرام، ومنهم من يقول: المشتبهات ما يختلف فيه بين العلماء من غير ترجيح، فيخشى أن يكون القول الراجح مع من حرم، ومنها أقوال كثيرة لأهل العلم لكن الخلاصة: أن على المسلم أن لا يقرب المحرمات الواضح تحريمها، البين تحريمها، وعليه أن يتقي الشبهات استبراءاً لدينه وعرضه؛ لئلا يقع في المحرمات، ومن ورع السلف رحمهم الله أنهم يتركون الحلال الذي يخشى منه أن يجر إلى الحرام، فالاستمرار والإكثار من مزاولة المباحات وتعويد النفس عليها لا شك أنه يجر إلى المكروهات، ويجر إلى الشبهات، متى وصل بنو إسرائيل إلى الجريمة العظمى قتل الأنبياء؟ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [(112) سورة آل عمران] تبدأ الأمور بالشيء السهل، ثم يتطور يتجاوزه إلى ما عداه؛ لأن عقوبات المعاصي معاصي أكبر منها، السيئة تقول: أختي أختي، فإذا عمل هذه المعصية جرته هذه المعصية عقوبة له إلى المعصية التي تليها {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [(112) سورة آل عمران] إلى أن وصل الأمر إلى قتل الأنبياء، ووصل الأمر بغيرهم إلى قتل الذين يأمرون الناس بالقسط، وهو مقرون بقتل الأنبياء -نسأل الله السلامة والعافية-، تجد هذا يبدأ بمعصية

ص: 23

صغيرة، ثم التي تليها، ثم التي تليها، ثم يستمرئ الكبائر والجرائم، ثم يعتادها فتجره إلى ما هو أعظم، فعلى الإنسان أن يجعل لنفسه حداً وسداً منيعاً لئلا يُستدرج بسبب ما يقع فيه من معاصي يظنها سهلة إلى ما هو أعظم منها، وإلا هل يتصور مسلم يعقل ما يقول والله -جل وعلا- يقول:{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [(28) سورة الرعد] أن يقول:

ألا بذكر الله تزداد الذنوبُ

وتنطمس البصائر والقلوبُ

يتصور؟! لا، هل هذه أول ما قال؟ لا، ليست أول ما قال، هل يتصور مسلم يصلي يسجد لله يقول: سبحان ربي الأسفل؟ إلا أنه قد قال قبلها كلمات، وأنتم وفي هذه الأيام التي نعيشها نفاجأ بأن فلان قال كذا، ونستعظم هذا الأمر، لكنه قال قبله كلمات رققت مثل هذه الكلمة، وتصرف هذه التصرفات التي سهلت عليه مثل هذا الكلام، ولذا هذا الاحتياط في هذا الحديث ينبغي أن يكون نصب عيني المسلم وبالذات طالب العلم.

((وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات)) أو ((المشتبهات)) أو ((المتشابهات)) اتقاها جعل بينه وبينها وقاية، كيف تجعل وقاية؟

طالب:. . . . . . . . .

نعم؟

طالب:. . . . . . . . .

ص: 24

بالابتعاد عنها تجعل هناك سد واقي، ولا يكون إلا بترك شيء من المباحات، الآن تصور المحرمات بعيدة عنك لأنك مسلم تتدين بقال الله وقال رسوله، تتدين بقوله: افعل ولا تفعل، المحرمات في أول الأمر بعيدة عنك، دونها الشبهات البرزخ، ثم دونها مباحات، ثم دونها ما دونها، حتى لا تصل إلى الشبهات تترك شيء من المباحات؛ لتضمن أنك بعيد عن الشبهات، وبعدك عن الشبهات دليل على أنك للمحرمات أبعد، نضرب مثال: المساهمة في شركة فيها الحرام بين، الربا الصريح مهما قلت نسبته هل هذا من الشبهات أو من الحرام البين؟ هذا حرام بين، دون هذه الشبهة دون هذا الحرام البين شركات أو مؤسسات تتعامل بأمور يختلف فيها العلماء، منهم من يجيز، ومنهم من يمنع، وقد يدخل بعض عقودهم شيء يغطي ويلبس أمر هذه العقود، ويخفي وضعها على بعض الناس، هذه شبهات، قد يرد على هذه الشركات أو هذه المؤسسات شيء ما حسبت له حساب، هذه شبهات يمكن أن يُتخلص منها، والأولى أن لا يدخل في شيء فيه شبهة، فضلاً عن كونه يدخل في شيء ويقدم على محرم، يعني: يقدم على محرم يقول: يتخلص منه؟ ليس بصحيح، الإقدام على المحرم حرام، لكن تقدم على شيء مباح حلال بين، ثم يرد عليك من غير قصد شيء فيه شبهة هذا تتخلص منه.

ص: 25

((فمن اتقى الشبهات)) جعل بينه وبين هذه الشبهات وقاية، الآن لو أن شخصاً سكن سواء كان في بيت، أو في محل تجاري بجوار مطعم أو بجوار مخبز، في وقاية بينه وبين المخبز جدار، لكن إذا وضعت يدك على الجدار تحس بالحرارة وإلا ما تحس؟ تحس بالحرارة، تحتاج إلى عوازل، لا بد من عوازل تقيك هذه الحرارة، وقد يحتاط فيضع عوازل وعوازل أخرى، هذا لأمر دنياه يحتاط؛ ليش؟ لأنه ما يريد الحرارة، ويحتاط أيضاً لئلا يحمل الكهرباء أكثر مما تتحمله؛ لأنه بدل ما يحتاج إلى مكيف يضع اثنين إذا صار بجواره مخبز، لكن إذا وضع العوازل ووضع .. اتقى هذا الحر بما يستطيعه من وقاية ابتعد عن الحرارة، وهنا نقول: اتقى الشبهات، كيف يتقي الشبهات؟ يتقيها بترك ما يقرب منها من مباحات، فيقع في المحرم وهو لا يشعر، تستدرجه هذه المقدمات إلى النتائج المحرمة، فهذا معنى:((استبرأ لدينه)) طلب البراءة لدينه فلم يرتكب محرم بسبب تجاوزه هذه الشبهة، واستبرأ أيضاً لعرضه لئلا يقع فيه من يقع، يعني: إذا رأى الناس شخص يتساهل في معاملاته، لا يأتي إلى المحرم الصريح، لكنه لا يتورع عن أمور قد لا يتبينها، أو قد يرد عليه أشياء أو قد .. ، المقصود أن مثل هذا يكون فرصة لكلام الناس، يتحدث الناس فيه، فلان لا يتورع، فلان لا .. إلى أن يقال: إن فلان يأكل الحرام، وإن كانت حقيقته لا يأكل الحرام البين، لكنه هو الذي عرض نفسه لكلام الناس.

((استبرأ لدينه وعرضه)) يعني: قطع ألسنة الناس عنه، لكن هل هذا يبرر للناس أن يقعوا في عرضه؟ لا، ليس بمبرر، ومثل هذا لا يبيح عرضه، بل هو مسلم له حقوقه، وعرضه مصان، وغيبته حرام، وجاء في المماطل:((مطل الغني ظلم، يبيح عرضه وعقوبته)) هل معنى هذا أن الناس يجعلونه مادة لأنسهم وحديثهم؟ لا، إنما أبيح .. ، أهل العلم قالوا: إن الحديث يبيح من عرضه أن يقول المظلوم المُماطل: مطلني فلان، لا يزيد على ذلك، ومثل هذا لا تجوز غيبته، يعني كونه يقع لا يعني أنه يباح.

ص: 26

((استبرأ لدينه وعرضه)) وكثير من الناس يعرض نفسه وعرضه للقيل والقال، ومن كف الغيبة عن نفسه وأعان على كف الغيبة عن نفسه هذا لا شك أنه يسلم من الناس وأذاهم، ومع ذلك يسلم غيره من معرة غيبته، فالمسألة فيها طرفان: هذا الشخص الذي عرض نفسه لغيبة الناس يتوجه إليه الخطاب بهذا الحديث، والذي وقع في عرضه له نصوص يواجه بها، وقل مثل هذا: عالم زل مثلاً أو كثر منه الشذوذ مثلاً، لا شك أنه ما استبرأ لعرضه، هذا هو الذي صار في طريق الناس يطئونه ذهاباً وإياباً، لكن ليس هذا بمبرر أن يطأه الناس، أو يلوكون عرضه، أو يتكلمون فيه، هذا ليس بمبرر، فكل له من خطاب الشرع ما يخصه، وعلى الإنسان إذا أراد أن يتكلم سواء كان هذا الشخص الذي وقع في الشبهات، أو الشخص الذي كثر منه الشذوذ في الفتوى بحيث صار فاكهة في مجالس الناس عليه أن يراقب الله -جل وعلا-، فلا يعرض إخوانه المسلمين لأن يقعوا في عرضه، ويأثمون بذلك، وعلى الآخرين أيضاً أن يحاسبوا أنفسهم، وعلى كل أحد أن يجعل المراقبة والخشية لله -جل وعلا- حق، نصب عينيه، وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار

ص: 27