المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على - شرح المطلع على متن إيساغوجي - جـ ١٥

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

وقفنا عند قول المصنف رحمه الله تعالى: (أو من متصلة ومنفصلة) وهذا كله بيان لما يتركب منه القياس الاقتراني؛ حيث قال: (القياس الاقتراني يتركب إما من الحمليتين -كما مر-، وإما من المتصلتين، وإما من المنفصلتين، أو من حمليَّة ومتصلة، أو من متصلة ومنفصلة).

إذاً: جاء دَور المنفصلة والمتصلة معاً، وحينئذٍ يتألف القياس الاقتراني منهما.

قال: (أو من متصلة ومنفصلة).

(سواءٌ كانت المتصلة صغرى والمنفصلة كبرى. وهذا هو المطبوع، أمْ بالعكس).

العكس بأن تكون المنفصلة صغرى والمتصلة كبرى، هذا هو العكس.

(كقولنا: كلما كان هذا إنساناً فهو حيوان) هذه متصلة (وكل حيوانٍ فهو إما أبيض أو أسود) وهذه منفصلة (يُنتِج: كلما كان هذا إنساناً فهو إما أبيض أو أسود) مركباً من نوعين.

قال هنا: (واعلم أن الاشتراك الواقع بين الشرطيتين إما في جزء تامٍ بهما) أي: أو بين الشرطية والحمليَّة، وليس الحكم خاصاً بالشرطيتين؛ لأن الجزء غير التام لا يخص الشرطيتين، بل يكون في الحمليَّة والشرطية أيضاً.

قوله: (التام) أي: فيهما. يعني: في الشرطيتين أو في الشرطية والحمليَّة.

(وهو) أي: الجزء التام.

(المقدَّم أو التالي بكماله) لا جزءٌ منه يعني: الجزء هنا المقصود به المقدَّم أو التالي، إمَّا أن يؤخذ بكماله فهو التام، أو جزءٌ منه فهو غير التام.

قال: (إما في جزءٍ تامٍ فيهما وهو المقدَّم) أي: الجزء التام الذي اشترك فيه المقدِّمتان.

(وهو المقدَّم أو التالي بكماله، وإما في جزءٍ غير تامٍ) كذلك فيهما نقدِّر، يعني: في المقدَّم والتالي.

(وإما في جزءٍ غير تامٍ فيهما من ذلك) أي: المقدَّم والتالي.

(فالتامُّ كقولنا: كلما كان ألف باء فجيم دال، ودائماً إما جيم دال أو هاء زاي).

كلما كان ألف باء أي: الشمس طالعةً، فجيم دال: الأرض مضيئة.

ودائماً إما جيم دال أي: الأرض مضيئة مثلاً.

أو هاء زاي: أو الليل موجود.

(يُنتج دائماً: إما ألف باء) الشمس طالعة أو الليل موجود.

كلما كانت الشمس طالعة فالأرض مضيئة، وكلما كانت الأرض مضيئة فالليل موجود، يُنتج دائماً: الشمس طالعة أو الليل موجود؛ باعتبار ما مضى.

(وغير التام. كقولنا: كلما كان ألف باء -الشيء حيواناً- فكل جيم دال -فكل ناطق إنسان-.

ودائماً إما كل دال هاء -كل ناطق إما أبيض أو أسود- كل دال هاء أو زاي. يُنتج: كلما كان ألف باء -أي: الشيء حيواناً- فإما كل جيم هاء أو زاي -كل إنسان إما أبيض وإما أسود-).

هم يقولون: الحروف هذه ميسِّرة للمبتدئ، والظاهر أنها العكس، الظاهر أنها ليست تسهيلاً، التسهيل إنما يكون الاختصار في ذِكر المسميات لا الكناية، كل حيوان .. إلى آخره.

ص: 1

على كلٍ هنا: (كلما كان الشيء حيواناً فكل ناطقٍ إنسان، ودائماً إما كل ناطقٍ إما أبيض أو أسود يُنتج: كلما كان الشيء حيواناً، وإما كل إنسانٍ إما أبيض أو أسود، وتفصيلُ ذلك وبيان شروطه يُطلَب من المطولات).

قال: (وشرطُ الحمليَّة والمتصلة -فيما ذُكر-: لزوميتُهما) يعني: لزومية الحمليَّة والمتصلة، هذا الأصل.

فخرج الاتفاقية في المقدمتين أو إحداهما، وفيه بسطٌ يُعلَم من المطولات، لكن وصفُ اللزومية لا يأتي في الحمليَّة، لكن ظاهر كلام المصنف .. لو قال: وشرطُ الحمليَّة والمتصلة أو والحمليَّة والمتصلة وشرطُها لزوميتها، لاختص الشرط بالمتصلة، لكن قال:(وشرطُ الحمليَّة والمتصلة لزوميتُهما) أي: الحمليَّة والمتصلة، فقدَّم الشرط على الحمليَّة، والحمليَّة يُشترط فيها على كلامه.

لكن المشهور أنه لا يتأتى في الحمليَّة، وإنما اللزوم يكون في المتصلة فقط.

قال: (وأما القياسُ الاستثنائي) هذا شروعٌ فيما يتعلق بالنوع الثاني.

(وأما القياس الاستثنائي) وهذا لا يكون من حمليات محضة.

(وتنعقد فيه الأشكال الأربعة، وأقسامُه خمسة؛ لأنه إما من متصلتين، أو منفصلتين، أو متصلة ومنفصلة، أو حمليَّة مع إحداهما) منفصلة أو متصلة.

(وشروطُه ثلاثة:

الأول: كون المتصلة لزومية والمنفصلة عنادية) على الأصل فيها.

(فإن كانت إحداهما اتفاقية فهو عقيم، والثاني كون الشرطية موجبة؛ إذ مدلول السالبة رفعُ اللزوم أو العناد، فلا يلزم من وضْع أحدهما وضع الآخر ولا رفعه) وضْع يعني: ثبوت .. لا يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ولا رفعه.

(والثالث: كليتُهما أو كُلِّيَّةُ وضع أحد الطرفين أو رفعِه؛ إذ لو كانتا جزئيتين لجاز أن يكون اللزومُ فيهما في بعض الأوقات والحالات.

وثبوتُ المقدَّم في وقتٍ أو حالٍ آخر فلا يلزم ثبوتَ الآخر.

قال السنوسي: المدار على كون الاستثناء في وقت اللزوم وإن لم يُصرَّح بالكُلِّيَّة).

لزوم وقت ماذا؟ على كون الاستثناء في وقت اللزوم يعني: الاستثناء حاصلٌ مقيَّداً باللزوم، أما في غير اللزوم فهذا ليس مراداً هنا.

(وأما القياس الاستثنائي فيتركَّب من مقدمتين: إحداهما شرطية، والأُخرى وضعُ أحدِ جزئيها أي: إثباتُه أو رفعُه) يتركب من مقدمتين.

(إحداهما شرطية أي: وهي ما قبل لكن، والأخرى ما بعد لكن) هذا الفرق بين المقدمتين .. ما قبل لكن هذه مقدمة، وما بعد لكن هذه مقدمة أُخرى.

(والأخرى) يعني: مقابل الشرطية.

(وضعُ أحدِ جزئيها) إما المقدَّم أو التالي.

وضع يعني: إثبات، ولذلك قال:(أي: إثباتُه) يعني: يقول: كذا لكنَّ النهار موجود، هذا إثبات.

(أو رفعُه) يعني: رفع أحد الجزأين: المقدم أو التالي، يقول: لكنه ليس بموجود أو ليس النهار موجوداً .. وهكذا.

فالرفع المراد به السلب، والوضعُ المراد به الإثبات.

لأحد جزئيها يعني: إما المقدَّم وإما التالي.

قال: (ورفعُه أي: نفيُه؛ ليلزم وضعُ الجزء الآخر أو رفْعَه) لفٌّ ونشرٌ مرتَّب.

(أي: يلزم من وَضْعِ أحد جزئي الشرطية وضعُ الجزء الآخر، ومِن رفْعِه رفعُ الجزء الآخر. وهذا إنما يتأتى في القياس الاستثنائي الذي تكون إحدى مقدمتيه متصلة.

فأما إذا كانت منفصلة فإنَّ الوضع يستلزم الرفع وبالعكس) يأتي مثالُه.

ص: 2

قال هنا: ليلزم وضعُ الجزء الآخر أو رفعُه راجعان للوضع وللرفع.

قال رحمه الله تعالى: (فالشرطية الموضوعة فيه إن كانت متصلة).

(الشرطية الموضوعة) أي: المذكورة في القياس.

(فيه) أي: القياس الاستثنائي.

قلنا: مِن شرطية، الأُولى شرطية وهي ما قبل لكن.

(فيه) أي: القياس الاستثنائي.

(إن كانت متصلة) وسيأتي ذِكرُ المنفصلة.

(فاستثناءُ عين المقدَّم ينتج عين التالي).

استثناء عين المقدَّم: لكنَّه أو لكنَّ، تأتي بعين المقدَّم لا بنقيضه .. بعينه بذاته، يُنتِج ماذا؟ يُنتِج عين التالي.

أمَّا أن نقول: أنه مؤلَّف من مقدَّم وتالي، إذا استثنينا عينَ المقدَّم لا نقيضَه أنتَج عينَ التالي لا نقيضَه.

(وإلا) أي: بأن لم ينتِج استثناء عين المقدَّم عينَ التالي.

(لزم انفكاكُ اللازم عن الملزوم فيبطُل اللزوم) لأن المقدَّم ما علاقته بالتالي؟ يستلزمه، المقدَّم ملزوم واللازم تالي، فإذا أثبتنا المقدَّم .. عين المقدَّم إذا لم يستلزم، النتيجة تكون التالي .. عين التالي بطَل اللزوم.

إذْ العلاقة بينهما التلازم، فالمقدَّم ملزوم والتالي لازم: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، النهار موجود هذا لازم، والشمس طالعة هذا ملزومٌ.

لكن الشمس طالعةٌ فالنهار موجود، هكذا .. استثناء.

إذا كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ.

فتقول: لكنَّ الشمس طالعةٌ، يُنتج: فالنهارُ موجودٌ.

قال: (وإلا) يعني: وإن لم يكن النتيجة كالسابق -استثناء عين المقدّم ينتج عين التالي- (لزم انفكاكُ اللازم) الذي هو التالي.

(عن الملزوم) الذي هو المقدَّم.

(فيبطُل اللزوم) أي: كون التالي لازماً للمقدَّم. وهذا فيه إشكال.

قال العطار: (قولُه: وإلا يُنتج عين التالي بل أنتج نقيضَه، لزم .. إلى آخره).

(كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه إنسان فهو حيوان).

انظر: إن كان هذا إنساناً، هذا مقدَّم فهو حيوان .. حيوان التالي، لكنه إنسان أين الصغرى وأين الكبرى؟

لكنه إنسان كبرى، فهو حيوان هذه النتيجة.

إذاً: عندنا مقدمتان هنا ليس مقدمة واحدة:

المقدمة الأولى: ما قبل لكن، المقدمة الثانية: ما دخلت عليه لكن: لكنه إنسان.

(فهو) الفاء دخلت على النتيجة، فهو حيوان.

هنا انظر: إن كان هذا إنساناً هذا مقدَّم، فهو حيوان هذا التالي، استثنيتَ بلكن عينَ المقدَّم: إنسان، ما قلت: لكنه ليس بإنسان، استثنيت عين المقدَّم أنتَج: فهو حيوان. عين التالي.

(فلا يُنتج استثناء عين التالي عينَ المقدَّم).

إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه حيوان فهو إنسان. لا ينتج، استثنينا المقدَّم .. عين المقدَّم أنتج عين التالي، لو عكسْنا يعني: استثنينا عين التالي: لكنه حيوان فهو إنسان؟ لا. كذَبَت ليس بإنسان.

(فلا يُنتج استثناءُ عين التالي عينَ المقدَّم؛ إذ لا يلزم من وجود اللازم) الذي هو التالي (وجود الملزوم) الذي هو المقدَّم .. (لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم).

أي: لجواز كون اللازم أعم من الملزوم، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص، كالإنسان الملزوم للحيوان، فيلزم من وجود الإنسان وجود الحيوان ولا يلزم من وجود الحيوان وجود الإنسان.

ص: 3

لأنه إذا ثبَت الأعم لا يثبت الأخص، فقد تقول: هذا حيوان والمراد به فرس ولا يرد الإنسان .. ليس عندنا إنسان. نقول: ما دخل هذا البيت إلا كذا ولا يكون إنساناً، وهو كذلك.

قال هنا: (وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقيضَ المُقَدَّمِ).

(وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي) إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه ليس بإنسان فهو ليس بحيوان.

إذاً: استثناء نقيض المقدم، النقيض يكون بالسلب، يُنتج ماذا؟ نقيض التالي.

(وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقيضَ المُقَدَّمِ).

(وإلَاّ يُنتِج نقيض المقدَّم لزِم وجود الملزوم بدون لازمه وهو محال، فيبطُل به قاعدة اللزوم.

وإلا لزم وجود الملزوم وهو المقدَّم بدون اللازم وهو التالي، فيبطل اللزوم.

كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه ليس بحيوان) استثنى نقيض التالي: ليس بحيوان (فلا يكون إنساناً) نقيض المقدَّم.

(فلا يُنتِج استثناءُ نقيض المقدَّم نقيضَ التالي) عكْسُه.

(إذ لا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم) أي: لجواز كون الملزوم أخص من اللازم، ولا يلزم من عدم الأخص عدم الأعم، بخلاف العكس فهو لازم.

قال: (والحاصل) هذه الخلاصة.

(أنه يلزم من إثبات عين المقدَّم إثبات عين التالي ولا عكْس، ويلزم من إثبات نقيض التالي إثبات نقيض المقدَّم ولا عكس.

فللمتصلة أربعة أضرُب: ضربان منتجان وضربان عقيمان).

ما أثبته -ضربان منتجان- عكسُهُما لا يُنتج وهما ضربان عقيمان.

قال هنا: (وشرطُ إنتاج المتصلة لزوميتُها، وإيجابُ الشرطية وكليتُها أو كُلِّيَّةُ الاستثناء) هذا مر معنا.

قال الرازي في شرح الشمسية: ويُعتبر لإنتاج هذا القياس شرائط:

يعني: وشرط إنتاج المتصلة، ذَكَر ثلاثة شروط: لزوميتها، وإيجاب الشرطية، وكليتها أو كُلِّيَّة الاستثناء.

قال: (أحدُها: أن تكون الشرطية موجبة، فإنها لو كانت سالبة لم تُنتج شيئاً لا الوضع ولا الرفع، فإن معنى الشرطية السالبة: سلب اللزوم أو العناد.

وإذا لم يكن بين أمرين: لزومٌ أو عناد، لم يلزم من وجود أحدهما أو عدمِه وجود الآخر أو عدمه) وهو كذلك.

إذا لم يكن بينهما تلازم فحينئذٍ لا يأتي عندنا رفعٌ ولا إثبات، لأنَّ الإثبات يلزم منه رفع المقابل، إذاً: ليس عندنا تلازم، فإذا لم يكن بينهما تلازم فحينئذٍ لا إثبات ولا رفع.

ولذلك قال: (فإنها لو كانت سالبةً لم تُنتِج شيئاً) فاشترطنا أن تكون موجبة، لماذا؟ (فإنَّ معنى الشرطية السالبة سلبُ اللزوم أو العناد.

وإذا لم يكن بين أمرين: لزومٌ أو عناد، لم يلزم من وجود أحدهما أو عدمِه وجودُ الآخر أو عدمه.

(وثانيهما) الشرط الثاني (أن تكون الشرطية لزومية إن كانت متصلة، وعنادية إن كانت منفصلة؛ لأنَّ العِلم بصدق الاتفاقية أو كذبها موقوفٌ على العلم بصدق أحد طرفيها أو كذِبه، فلو استُفيد العلم بصدق أحد الطرفين أو بكذبه من الاتفاقية للزم الدور.

ص: 4

(ثالثُها: أحد الأمرين: وهو إما كُلِّيَّة الشرطية، أو كُلِّيَّة الاستثنائية) أي: كُلِّيَّة الوضع أو الرفع، الاستثنائية المقصود بها الوضع أو الرفع (فإنه لو انتفى الأمران، احتمل أن يكون اللزوم، أو العناد على بعض الأوضاع والاستثناء على وضعٍ آخر –افترقا-، فلا يلزم من إثبات أحد جزئي الشرطية أو نفيه ثبوتُ الآخر أو انتفاءه، اللهم إلا إذا كان وقت الاتصال والانفصال ووضعُهما هو بعينه وقت الاستثناء ووضعِه.

فإنه يُنتِج القياس ضرورة. كقولنا: إن قدِم زيدٌ في وقت الظهر مع عمروٍ أكرمتُه) قيَّده: وقت الظهر (لكنه قدم مع عمروٍ في ذلك الوقت فأكرمتُه.

والمراد بكُلِّيَّة الاستثناء ليس تحقق الاستثناء في جميع الأزمنة فقط، بل هو مع جميع الأوضاع التي لا تنافي وضع المقدَّم). انتهى كلامه.

إذاً: وشرطُ إنتاج المتصلة لزوميتها، فإن لم تكن فحينئذٍ لا تلازم؛ لأن الوضع والرفع إنما يتصف به ما كان بين المقدمتين تلازُم.

وإيجابُ الشرطية وكليتُها أي: الشرطية، أو كُلِّيَّةُ الاستثناء.

قال: (وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً) انتهى من المتصلة.

(وَإِنْ كَانَتْ)(أي: الشرطية الموضوعة في الاستثناء)

(مُنْفَصِلَةً حَقِيقِيَّةً) يعني: مانعة جمعٍ وخلو المعنى، يعني: المركبة من الشيء ونقيضه أو الشيء ومساوي النقيض.

قال هنا: (وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً)(أي: الشرطية الموضوعةُ في الاستثناء منفصلة).

(حَقِيقِيَّةً فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْئَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الجُزْءِ التَّالِي).

(فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْئَيْنِ).

العدد إما زوجٌ أو فردٌ، لكنه زوجٌ فليس بفردٍ. هنا الاستثناء لأي شيء؟ لعين المقدَّم، وهنا قيل: مقدَّم وتالي لا أثَر له، العدد إما زوجٌ وإما فردٌ، لكنه فردٌ فليس بزوجٍ. هذا المراد هنا.

قال: (فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْئَيْنِ) مقدَّماً كان أو تالياً.

(يُنْتِجُ نَقِيضَ الجُزْءِ التَّالِي) ليس بزوجٍ ليس بفردٍ.

(أي: الآخر) التالي يعني: الآخر، عبَّر بالآخر هنا المراد به أنَّ المقدَّم والتالي ليس بوصفٍ لازم، كما هو الشأن في المتصلة.

(لامتناع الجمع بينهما) لأنها مانعة جمع وخلو (كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ لكِنَّهُ زَوْجٌ، يُنْتِجُ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْدٍ، أَوْ لكِنَّهُ فَرْدٌ يُنْتِجُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ.

وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي) يعني: أحد جزئي الحقيقية.

(أي: الآخر؛ لامتناع رفْعِهما) لأنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان .. لا ينتفيان معاً، هذا الكلام في الحقيقية.

(كقولنا في هذا المثال: لكنه ليس بزوجٍ يُنتج أنه فردٌ) استثنى نقيض المقدَّم، أصل المثال: العدد إما زوجٌ. إذاً: نقيض المقدَّم.

ولكنه ليس بفردٍ يُنتج أنه زوجٌ، هذا في الحقيقية.

(وأما مانعةُ الخلو -أي: فقط- وهي المركبة من قضيتين، كلٌ منهما أعم من النقيض).

قال: (فاستثناء نقيض أحد الطرفين يُنتج عينَ الآخر؛ لامتناع الخلو عنهما).

قال هنا في الحاشية: كلٌ منهما أعم من نقيض الأُخرى نحو: هذا إما لا شجر وإما لا حجر.

ص: 5

كلٌ منهما أعم من نقيض الآخر: لا شجر أعمُّ من حجر، ولا حجر أعم من شجر. هكذا متقابلان، إما لا شجر وإما لا حجر، لا شجر أعم من حجر الذي هو نقيض لا حجر، ولا حجر أعم من شجر الذي هو نقيض لا شجر.

فلا شجر يشمل الحيوان والحجر الذي هو نقيض لا حجر، ولا حجر يشمل الحيوان والشجر الذي هو نقيض لا شجر.

فكلٌ من لا شجر ولا حجر أعم من نقيض الآخر، وهو كذلك .. لا شجر أعم من نقيض لا حجر الذي هو حجر، ولا حجر أعم من نقيض لا شجر الذي هو الشجر.

قال: (فكلٌ مِن لا شجر ولا حجر أعم من نقيض الآخر، ونحو: زيد إما في البحر وإما ألا يغرق).

فنقيض لا يغرق: يغرق، والكون في البحر، في البحر يشمله ويشمل السلامة من الغرق، ونحو: السفينة، أو عومٍ.

ونقيضُ في البحر: ليس في البحر، لا نقول في البر؛ هذا ضده، إنما نقول: نقيضه تسلّط النفي فقط، في البحر ليس في البحر هكذا، وإن كان يصدق على البر، فالبر قد يقال بأنه مساوي للنقيض كما مر معنا: ليس المنقسم المتساويين هذا مساوٍ لزوج.

قال هنا: (ونقيض في البحر: ليس في البحر، ونفيُ الغرق يشمل السلامة المذكورة.

فكلٌ منهما أعم من نقيض الآخر، ويلزم من نفي الأعم نفيُ الأخص، فيلزم من انتفائهما انتفاءُ النقيضين وهو محال.

فلذا أنتج رفْعُ أحدهما وضْعَ الآخر) الخلو ممنوع، والاجتماع جائز: يكون في البحر ولا يغرق.

مانعة الخلو مباشرة تفهم منْع الخلو –الانتفاء يعني- لا يرتفعان وإنما يجتمعان.

قال هنا: (فاستثناءُ نقيض أحدِ الطرفين يُنتِج عينَ الآخر) لاستلزامه الخلو عن النقيضين.

مثالُه: هذا الشيء إما لا شجر أو لا حجر، لكنه شجر. استثنى نقيض أحد الطرفين الذي هو المقدَّم فهو لا حجر، يُنتج عين الآخر.

استثناء نقيض أحد الطرفين: هذا الشيء إما لا شجر أو لا حجر، لكنه شجر. هذا نقيض لا شجر الذي هو المقدَّم، فهو لا حجر يعني: يُنتج عينَ التالي.

(فاستثناء نقيض أحد الطرفين يُنتج عين الآخر) لماذا؟ (لامتناع الخلو عنهما.

واستثناءُ العين) يعني: عين أحدهما.

(لا يُنتج) استثناء العين لا ينتج، وإنما الذي يُنتج استثناء النقيض -نقيض العين-.

قال: (واستثناء العين) أي: عين أحدهما (لا يُنتج).

فضُرُوبُه أربعة: اثنان منتجان واثنان عقيمان؛ لأنك تستثني نقيض المقدَّم، تستثني نقيض التالي. هاتان صورتان، تستثني عين لا يُنتج. إذاً: ضُروبه أربعة: اثنان منتجان واثنان عقيمان.

قال هنا: (لا يُنتج لاحتمال اجتماعهما على الصدق) أي: لاستلزامه اجتماع النقيضين على الصدق، ليلزم من صدق الأخص صدقُ الأعم.

فلو صدَقا معاً لصدَق كلٌ منهما مع صدق نقيضه وهو محال.

قال: (كقولنا: هذا الشيء إما لا شجر أو لا حجر، لكنه شجرٌ فهو لا حجر، أو لكنه حجرٌ فهو لا شجر. بخلاف: لكنه لا شجر عين المقدَّم فلا يُنتج فهو حجر.

أو لكنه لا حجر فلا يُنتج فهو شجر.

وأما مانعةُ الجمع وهي المركَّبة من قضيتين كلٌ منهما أخص من نقيض الأخرى.

فاستثناءُ أحدِ الطرفين يُنتِج نقيض الآخر؛ لامتناع اجتماعهما على الصدق، واستثناء النقيض لا يُنتج؛ لاحتمال اجتماعهما على الكذب).

مانعةُ الجمع تمنع الجمع فقط وأما الخلو فجائز، إذاً: يرتفعان لكن لا يجتمعان.

ص: 6

قال: (لاحتمال اجتماعهما على الكذِب؛ إذْ لا يستلزم ذلك كذب النقيضين) إذ لا يلزم من كذب الأخص كذب الأعم.

قال هنا: (واستثناء النقيض لا يُنتج لاحتمال اجتماعهما على الكذب. كقولنا: هذا الشيء إما شجرٌ أو حجرٌ) نقيض شجر: لا شجر، وهو أعم من التالي الذي هو حجر؛ لشمول الحيوان أيضاً.

ونقيض حجر: لا حجر، وهو أعم من شجر؛ لانفراده عنه بالحيوان.

قال هنا: (الشيء إما شجرٌ أو حجر) طبِّق القاعدة السابقة: استثناء أحد الطرفين يُنتج نقيض الآخر: إما شجرٌ أو حجر، لكنه شجر. استثنى عينَ المقدَّم، أنتج نقيض التالي: لا حجر.

أو لكنه حجراً استثنى عين التالي، أنتج نقيض المقدَّم فهو لا شجر، بخلاف لكنه لا شجر فلا يُنتِج، فهو حجر، إذا قيل: لا شجر إذاً: فهو حجر، كل ما ليس بشجر فهو حجر، أنت لست بشجر وأنت إنسان فهو لا حجر، أو لكنه حجر فهو لا شجر. بخلاف: لكنه لا شجر فلا يُنتج لا حجر، أو لكنه لا حجر فلا يُنتج: فهو شجر.

هذا ما يتعلق بالقياس الاستثنائي.

قال: (الْبُرْهَانُ).

(هذا البرهان) أي: هذا باب بيان البرهان، البرهان هذا عندهم من أعلى الدرجات.

قال: (الْبُرْهَانُ هو ترجمةٌ، وذكَر معه أقسام الحجة الباقية، اقتصر عليه لأنه العمدة).

فيما سبق قال: القياس لأنه العمدة، وهو البرهان قياسٌ، والفرق بين هذا وذاك قد يقال بأن ذاك أعم؛ لأنه لا يختص من حيث المقدمات من كونها يقينية أو ظنية.

وقلنا: الكاذبة تدخل كذلك فهو عام، لكن البرهان خاص باليقينيات، أو ما كان مآلها إلى ذلك.

حينئذٍ هو أخص من مطلق القياس السابق.

إذاً: (الْبُرْهَانُ هو ترجمةٌ، وقد ذَكَر معه أقسام الحجة الباقية، اقتصر عليه لأنه العمدة).

قال: (وهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ).

قال: (الْبُرْهَانُ: وهُوَ) يعني: حقيقتُه وتعريفه.

(قِيَاسٌ) هذا النُّسخ اختلفت فيه، في بعض النسخ (قولٌ) هنا قال: قياس ولا إشكال فيه.

(قِيَاسٌ) هذا جنس شمل البرهان والجدل والخَطابة والشعر والسفسطة.

(قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) مقدِّمات أي: مقدمتين فأكثر على ما سبق: البسيط والمركب وكل ما قيل هناك يقال هنا.

(مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) أي: مقدمتين توطِئة لقوله: (يَقِينِيةٍ) لأن مؤلَّف يكفي، وقياس يكفي.

(قِيَاسٌ) مضمونُه أنه من مقدمته، وإلا لم يكن قياساً.

(مُؤَلَّفٌ) يعني: مركّب من مقدمتين، والمؤلَّف يرادف القياس، والقياس والمؤلف يرادفان القول .. كلُّها بمعنى واحد، وزد عليها القضية كذلك.

(مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) ذكَر المقدمات هنا تمهيداً –توطئة- لقوله: (يَقِينِيةٍ).

يَقِينِيةٍ نسبة إلى اليقين، فصْلٌ مخرجٌ الأربعة الأخيرة) يعني: الجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة.

دخل في قوله: قياس الخمسة: البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة.

(يَقِينِيةٍ) هذا احتراز عن الأربعة الأخيرة: الجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة.

مُخرجٌ الأربعة الأخيرة. نحو ماذا اليقينية؟ سقفُ البيت جزءٌ منه، هذا يقين .. مقدمة يقينية، وكل جزءٍ أصغرُ من كله، هذه مقدمة يقينية يعني: لا تحتمِل.

ص: 7

(مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ)(نسبةً إلى اليقين أي: معتقَد اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع عن دليل، فصلٌ مُخرجٌ ما عدا البرهان).

وقوله: (لِإِنْتَاجِ الْيَقِينِيَّاتِ)(ذكَره تكميلاً لأجزاء حد البرهان، لأنه عِلَّةٌ غائية له) يعني: لإنتاج يقينيات (قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ لِإِنْتَاجِ الْيَقِينِيَّاتِ) هذا ليس من الحد، وإنما هو غاية.

(ذكَره تكميلاً لأجزاء حد البرهان؛ لأنه عِلَّةٌ غائيةٌ له) يعني: الغاية أو الهدف من تأليف هذا القياس هو الوصول إلى يقينيات.

قال: (واليقين اعتقاد أن الشيء كذا) الشيء: أي شيءٍ كان (كذا) على حالةٍ ما.

(معَ) زيادةً على ذلك (اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا) يعني: لا يحتمِل النقيض؛ لأن ما احتمل النقيض، هذا خرج عن كونه يقينياً، صار ظناً أو غيرَه.

قال: (مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا) ولذلك قال: (فصلٌ مُخرِجٌ الظنَّ).

واعتقاد أن الشيء كذا دخل فيه جميع الإدراكات الذي هو اليقين، والظن، والتقليد، والجهل المركب .. كلها إدراكات، إدراك الشيء على ما هو عليه هذا إدراك، وإدراك التقليد كذلك يسمى اعتقاداً، والاعتقاد يعم الجهل المركب، ويعم الظن، ويعم كذلك التقليد.

(مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا) يعني: رفَعَ عنه احتمال النقيض، (فصلٌ مُخرِجٌ الظنَّ).

قال: (مع مطابقته للواقع) أخرج الجهل المركب؛ لأنه غير مطابق للواقع. ولو اعتقد في ظنه أنه كذا، اعتقاد الفلاسفة قِدَم العالم هذا دين عندهم، حينئذٍ يعتقد أنه مطابق للواقع، لكنه في نفس الأمر لا.

قال: (مع مطابقته للواقع فصْلٌ مخرجٌ الجهلَ المركب، وامتناع تغيّره) هذا قيْد، امتناع تغيّره أي: الاعتقاد (فصلٌ مخرجٌ التقليد) التقليد قابل للتشكيك .. المقلِّد مسكين كلما لاحَت له بادرةُ حجة مضى معها، وإذا لم يكن كذلك بقي على ما هو عليه، فيُنظر في حاله، إذا لاحت له بادرة حجة قوية ظنَّ أنها هي الحق، فانتقل عن قوله السابق .. وهكذا.

قال هنا: (والبرهان قسمان: أحدُهما: لِمِّيٌّ) لِمِّيٌّ بكسر اللام وتشديد الياء، لِمِّيٌّ نسبة إلى لِمَ.

(لِمِّيٌّ) بكسر اللام والميم مشددة مع الياء، نسبةً لـ (لِم) كما يأتي، بكسر اللام والميم المشددة.

(لِمِّيٌّ وهو) أي: اللِمِّيّ (ما كان الحدُّ الوسط فيه عِلَّةً لنسبة الأكبر إلى الأصغر في الذهن والخارج) عِلَّة في الذهن والخارج، هذا الفرق بين اللِمِّي والإنّي، كلٌ منهما يشتركان أن الحد الوسط "عرفنا المراد بالحد الوسط المكرر" فيه عِلَّة لنسبة الأكبر إلى الأصغر، وعرفنا كيفية النسبة.

(في الذهن والخارج معاً) هذا هو اللِمِّيّ، في الذهن فقط لا في الخارج هو الإنّي، هذا فرقٌ بينهما.

يعني: كونه عِلَّةً له في الذهن فقط لا في الخارج، هذا يسمى إنِّيّاً، وإذا كان في الذهن والخارج معاً فهو اللِمِّي.

قال هنا: (كقولنا: زيدٌ متعفِّن الأَخلاط، وكل متعفّن الأخلاط محمُوم، فزيدٌ محموم.

فتعفُّن الأخلاط) هذا الحد الأوسط؛ لأنه هو المتكرر.

(زيدٌ متعفِّن الأخلاط) صار محمولاً.

(وكل متعفِّن الأخلاط محمُوم) هذا الشكل الأول.

ص: 8

(فزيدٌ محمومٌ، فتعفُّن الأخلاط) الذي هو الحد الأوسط، الأخلاط قالوا: هي الدم والسواد، والبلغم والصفراء، وتعفُّنُه: خروجُه عن الكيفية فقط لاهي والكمية.

يعني: دليل المرض.

(فتعفُّن الأخلاط عِلَّةٌ لثبوت الحُمى لزيدٍ في الذهن والخارج معاً).

إذاً: لمَ ثبتت له الحمى؟ لتعفُّن الأخلاط، هذا عِلَّةٌ له في الذهن وفي الخارج، في الذهن كذلك وفي الخارج كذلك، لكنْ التلازم في الذهن هنا ليس من جهة العقل، لا تلازم بينهما، وإنما عادة أو تجرِبة أو نحو ذلك، وأما في الخارج فهو ثابتٌ.

قال هنا: (وسُمّي لِمِّيّاً لإفادته اللِمِّيّة) أي: العِلَّة (إذ يجاب بها السؤال: بلِمَ كان كذا) نسبة لـ (لِم) التي أصلها اللام الجارّة وما الاستفهامية، ومعلوم أن ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر حُذِفت الألف ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)) [النبأ:1] أصلُها (عمَّا) بالألف، لكن القاعدة هنا إذا دخل حرف الجر على ما الاستفهامية حُذِفت ألفها ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)) [النبأ:1]، ليس عندنا التقاء ساكنين حتى تُحذف الألف، وإنما حُذفت هكذا قاعدة، والحُجة للسماع، الاستقراء دل على ذلك.

إذاً: لِم .. السؤال عنها بلِم: لِم كان كذا؟ فيكون الجواب: لتعفُّن الأخلاط.

(والثاني) أي: القسم الثاني من البرهان.

(إِنِّيٌ) نسبةً إلى إِنَّ وسيأتي لأنه.

(وهو ما كان الحد الوسط عِلَّةً لذلك في الذهن لا في الخارج) كسابقه (كقولنا: زيدٌ محمومٌ، وكل محمومٍ متعفِّن الأخلاط) ليس تلازم بينهما، ليس كالسابق .. كل متعفّن الأخلاط هنا محموم فَجَعلة عِلَّةً، هنا عِلَّة لكنه ليس فيه تلازم، ولذلك اكتفينا به في الذهن دون الخارج.

قال: (وكل محمومٍ متعفُّن الأخلاط فزيدٌ متعفّن الأخلاط، فالحُمَّى عِلَّةٌ لثبوت تعفُّن الأخلاط) وفيما سبق قال: تعفّن الأخلاط عِلَّة للحمى، فرْق بين التركيبين.

(فالحمى عِلَّةٌ لثبوت تعفّن الأخلاط لزيدٍ في الذهن وليست عِلَّة له في الخارج، بل الأمر بالعكس؛ إذ التعفّن عِلَّةٌ للحمى) فرْق بينهما كما مر.

(وسُمّي إنّيّاً لاقتصاره على إنّيّة الحكم أي: ثبوتِه دون لِمِّيّته من قولهم: إنَّ الأمر كذا، فهو منسوبٌ لـ"إنَّ"، والأول لـ"لِم").

قال رحمه الله تعالى: (وَالْيَقِينِيَّاتُ أَقْسَامٌ).

هذا شروعٌ بعدما عرَّف لنا البرهان أنه: القياس المؤلَّف من مقدمات يقينية، وقسَّمه إلى لِمِّيّ وإنّي، شرع في ذكر المواد التي تتركب منها الأقيسة.

(بعد الفراغ من الكلام على الصورة التي هي شرائط الإنتاج.

فإنه كما يجب على المنطقي النظر في صورة الأقيسة، كذلك يجب عليه النظر في موادها؛ حتى يُمكنَه الاحتراز عن الخطأ في الفكر من جهة الصورة والمادة).

يعني: الخطأ إما من جهة الصورة يعني: الهيئة .. التأليف.

وإما في المادة: التركيب يعني: اللفظ نفسه.

والقياس المؤلَّف من هذه الست يسمى: برهاناً، واعترض السعد حصْرهم اليقينيات في الست بأنَّ اليقينيات قد تكون مكتسَبة بالبرهان.

وأجاب: بأن المقصود اليقينيات الأُوَل تنحصر في الست، وأما المكتسَبات فهي ليست أُوَل بل ثواني.

إذاً: (وَالْيَقِينِيَّاتُ أَقْسَامٌ)(ستةٌ).

ص: 9

قال المحشي هنا: (ظاهر كلام المصنف أن مقدمات البرهان يجب أن تكون من هذه الست وليس هذا مرادَه؛ فإن مقدماته قسمان: مقدمات أَوَّلِيَّة) دون نظر للكسب (ومقدمات ثواني أو فوقها.

فالأول: الضروريات الست، والثواني وما فوقها هي المكتسبات.

(وأما ما يقال من أن البرهان لا يتألف إلا من الضروريات، فمعناه: أنه لا يتألف إلا من قضايا يكون التصديق بها ضرورياً "أي: واجباً"، سواءٌ كانت ضرورية في نفسها "أي: نسبتها واجبة"، أو كانت ممكنة "أي: نسبتها غير واجبة".

أو كانت وجودية "أي: نسبتُها واقعةٌ بالفعل من غير تعرُّض فيها للوجوب والدوام، ولا غيرِهما، وسواءٌ كانت بديهية أو مكتسبة.

قال السعد في شرح الشمسية: أقول: مقدمات البرهان لا يجب أن تكون من الضروريات الست، بل قد تكون من الكسبيات المنتهية إليها.

فمرادُ المصنف: أن القياس الذي مواده الأُوَل من الضروريات الست، سواءٌ كانت مقدمتاه ضروريتين أو مكتسبتين أو مختلفتين يسمى: برهاناً.

وما يقال: إن البرهان لا يتألف إلا من الضروريات فمعناه: أنه لا يتألف إلا من قضايا يكون التصديق بها ضرورياً، سواءٌ كانت ضرورية في نفسها، أو ممكنة، أو وجودية.

وسواءٌ كانت بديهية أو مكتسبة، فهو إذاً قياسٌ مؤلَّفٌ من يقينياتٍ لإفادة اليقين، سواءٌ كانت ابتداءً أو انتهاءً).

(أَوَّلِيَّاتٌ) بفتح الهمز والواو، وكسر اللام مثقَّلاً.

(وهي) هذه المقدمات اليقينية: النوع الأول: أَوَّلِيَّاتٌ.

(وهي) حقيقتُها (ما يَحكُم فيه العقل بمجرد تصور طرفيه).

(ما يحكم فيه العقل) العقل المراد به هنا التعقُّل.

(ما يحكم فيه العقل) جنس يشمل الأقسام الستة وغيرها، وهو أراد أن يجعلها أشبه ما يكون بالتعاريف، لا بد من الإدخال والإخراج، مع أنها واضحة لا تحتاج إلى احترازات.

(بمجرد تصور طرفيه. فصْلٌ مخرجٌ ما سوى المعرَّف) المراد بالطرفين: الموضوع والمحمول في الحمليَّة، والمقدَّم والتالي في الشرطية.

(وسواءٌ كان تصور الطرفين ضرورياً نحو: الواحد نصف الاثنين).

الواحد هذا موضوع ومحمول، الواحد نصف الاثنين. الواحد موضوع، نصف الاثنين هذا محمول.

بمجرد تصوُّر الطرفين، حصل ما لا يمكن دفعُه وهو العلم به، ولا يحتاج إلى إثبات .. لا يحتاج إلى بحث ولا إلى نظر.

(أو نظرياً نحو: الإنسان حيوان) هذا هو الأصل فيه.

قال هنا: (وقد يتوقف العقل في الحكم الأَول بعد تصوُّر طرفيه لعارضٍ كنقصان غريزة كحال الصبيان، والبُلْهِ، أو تدنس الفطرة بالعقائد المضادة للأوليّات كحال بعض العوام) والأشاعرة مثلُهم (والجهل، فلا يُخرجها ذلك عن كونها أوّليّات).

لأنهم يقولون: هؤلاء حصل عندهم خلل في تصور المسائل، طيب وأنتم على أي مستوى يعني، هل تفترقون عن العامة أو لا؟ العامة حالُهم أحسن.

إذاً: قال: (ما يحكم فيه العقل بمجرد تصور طرفيه) فقط، لا يحتاج إلى أمرٍ خارج أو زيادة على ذلك.

(كَقَوْلِنَا: الوَاحِدُ نِصْفُ الاِثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنَ الجُزْءِ) لا يحتاج إلى دليل (والسواد والبياض لا يجتمعان.

ص: 10

(فالمراد ببداهة تلك المقدمات: هو أنه بعدَ تصور الطرفين يكون الحُكم بالنسبة بديهياً أي: لا يحتاج لشيءٍ بعد تصور الطرفين، وإن كانت الأطراف قد تكون نظرية) يعني: النسبة بينهما.

قال: (والسواد والبياض لا يجتمعان).

(وَمُشَاهَدَاتٌ) هذا النوع الثاني.

(وهي: ما لا يَحكم فيه العقل بمجرد ذلك) يعني: تصور طرفين.

(بل يحتاج إلى المشاهدة بالحس) خرج به المجرَّبات وما يليها.

قال: (فإن كان الحس ظاهراً، كالبصر والسمع، واللمس فتُسمى حسِّيات)(كَقَوْلِنَا: الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ).

الشمس مشرقة هذا يُدرك بالبصر مثلاً، رأيتَها أشرقت الشمس.

والنار محرقة باللمس، هذه حِسيّات.

(وإن كان باطناً) يعني: الحس الباطن.

(فوُجدانيات كقولنا: إن لنا جوعاً وغضباً) الجوع باطن، والغضب كذلك باطن.

قال هنا: (جعَلَ الشارح المشاهدات شاملة للحسيات والوجدانيات) والكثير منهم يفْصِلون بينها، يجعلون الحسيّات هذه منفصلة والوُجدانيات هذه منفصلة.

قال: (جعلَ الشارح المشاهدات شاملة للحسيات والوجدانيات، كما في الشمسية.

ومنهم من جعل الحسيات قسماً مستقلاً، وخصص من المشاهدات بالوجدانيات.

والأحكام الحسية والوجدانية كلها جزئيات) هذه قاعدة.

الأحكام الحسيّة كل ما كان مدركاً بالحس فهو جزئي؛ لأنه خاص ليس كلّي، يعني: لِمس بارد، فنقول: هذا حكمٌ جزئي؛ لأن اللمس منك خاص والنار خاصة، أنت ما لمست مثلاً الماء البارد كله في العالم حتى يكون كلّي لا، وإنما شيءٌ خاص.

كذلك النار محرقة، حينئذٍ الذي لمَس هذا جزئي، والنار خاصة .. جزئية؛ لأنها شيءٌ معيّن ليست كل النار.

إذاً: الأحكام التي تترتب على الحس كلها جزئية، والأحكام الحسية والوجدانية كلها جزئيات، فإن الحس الباطني مثلاً لا يفيد إلا أن هذا الجوع مؤلِم لزيد، هو الذي شعر به ولم يشعر به غيره، وإن شَعر غيره بالجوع -بمطلق الجوع- لكن بجوعٍ خاص، الذي شعر به زيد هذا لا مؤلم، وأما الحكم على كل جوعٍ أنه مؤلم فعقليٌ.

كقاعدة كُلِّيَّة: الكُلِّيَّات التي بُنِيت على الحسيات هذه عقليات، ولذلك نقول: النار محرقة. هذه جزئية حسية، وقد تكون عقلية.

أنت الآن تعرف أن النار محرقة، لكن ما جرّبت "عافاك الله" لكن تحكم، حكمك هذا عقلي ليس بحسي؛ لأنك ما جربت، لو لمست ووجدت الحرارة والحُرقة، حينئذٍ هذا يسمى حسيّاً، وأما أن تحكم بأن الماء بارد أو المكيف بارد وأنت ما جرّبت، نقول: هذا يسمى حكماً عقلياً.

فالقواعد العامة والكُلِّيَّات المأخوذة من الحسيات هذه عقليات، وأما الجزئي فهو حسي.

ولذلك قال: (وأما الحكم على كل جوعٍ أنه مؤلم فعقليٌ، استُفيد من الإحساس بجزئيات ذلك، والوقوف على عِلَّته، وكذا الحس الظاهر كاللمس، لا يفيد إلا أنَّ هذه النار حارة) فقط .. خاصة جزئية.

(وأما الحكم على كل نارٍ بأنها حارة فحُكم عقليٌ مبدأُه الحس).

يعني: فلان أحرقته، وزيد وعبيد .. إلى أن صار حكماً عاماً فاستقر.

قال هنا: (فحكم عقليٌ مركب من الحسي والعقلي لا حسي مجرد، ولا تقوم حجة على الغير بالحس إلا إذا شارك في إحساس الشيء؛ إذْ إنكارُه حينئذٍ مكابرة).

ص: 11

إذا شارك حينئذٍ لا يمكن نفيه، ونفيه حينئذٍ يكون مكابرة، لو لمس النار قال: ليست محرقة، فحينئذٍ نقول: يكون هذا من باب المكابرة.

إذاً قال: (فإن كان الحس ظاهراً فتسمى حسيّات)(كَقَوْلِنَا: الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ).

(وإن كان باطناً فوُجدانيات كقولنا: إن لنا جوعاً وغضباً).

إذاً: النوع الأول: أَوَّلِيَّات هذه قضايا يحكُم فيها العقل بمجرد تصور طرفيه، والمشاهدات: قضايا يُحكم بها بواسطة الحس الظاهرة، وتسمى حسيات كالحكم بأن الشمس مضيئة، أو الحواس الباطنة وتسمى وجدانيات كالحكم بأن لنا خوفاً وغضباً.

(وَمُجَرَّبَاتٌ) وهي ما يحتاج العقل في جزم الحكم به إلى تجرِبة، إلى تَكرار المشاهدة مرة بعد أخرى).

التجربة لا تكون إلا بالتكرار. يعني: مرة واحدة تقرأ كتاب لا تقول: جربتُ، قرأتُ كذا. لا، لا بد من مرة بعد أخرى؛ حتى تستنبط حكماً مبناه على التجربة، أما مجرد كتاب وتحكم جربتُ كذا!

قال هنا: (إلى تَكرار المشاهدة، مُخرجٌ الأَوَّلِيَّات والمشاهدات، والحدَسيات وما يليها.

وتفيد المجربات اليقين بواسطة قياسٍ خفي) هو ذكَرها من اليقينيات.

(بواسطة قياسٍ خفي وهو الوقوع المتكرر على وجهٍ واحد لا بد له من سبب).

يعني: إلى تكرار المشاهدة مرة بعد أخرى، لا بد مع انضمام قياسٍ خفي، وهو أنه لو كان اتفاقياً، لما كان دائماً أو أكثرياً، هذا القياس الخفي.

لأنه كلما تكرر مرة بعد مرة حصل نفس الحكم. إذاً: ثم سبب ومسبَّب، فالقياس الخفي هو أنه لو كان اتفاقياً لما كان دائماً أو أكثرياً.

قال هنا: (لا بد له من سبب، ومتى وُجد السبب وجد مسببُه يقيناً، وهي قسِمان –المجربات-: خاصة نحو: السَّقَمُونِيَا) بفتح السين والقاف (السَّقَمُونِيَا تسهل الصفراء) نبتٌ له دَورٌ (تسهل الصفراء، وعامة نحو: الخمر مسكر).

قال: (إلى تَكرار المشاهدة مرة بعد أخرى)(كَقَوْلِنَا: السَّقَمُونِيَا مُسَهِّلَةٌ لِلصَّفْرَاءِ) هذه مجربة لكنها خاصة، والعامة: الخمر مسكرٌ.

(وَحَدْسِيَّاتٌ)(وهي ما يحكم فيه العقل بحدْسٍ مفيدٍ للعلم) يعني: ظن وتخيُّل وتخمين.

قال: السَّقَمُونِيَا: نبتٌ يستخرج من تجاويفه شيءٌ رطبٌ، ويُجَفَّف مضادٌ للمعدة والأحشاء، أشد من جميع المسهِّلات تُصلحه الأشياء العطرة كالفلفل والزنجبيل .. إلى آخره.

(بحدْسٍ) أي: حَرْزٍ وتخمين قوي مُخرج لباقي اليقينيات.

قوله: (مفيدٌ للعلم) أي: دُفعة، بخلاف الحاصل بالتجربة فتدريجي، الذي يحصل بالتجربة، العلم الحاصل منه اليقيني -على كلامه ليست بظنية- نقول: هذا يحصل تدريجياً ليس دفعياً (ولذا اختلف الناس فيه بُطئاً وسرعة).

قال هنا: (وهي ما يحكم فيه العقل بحدْسٍ مفيدٍ للعلم) حدْسٍ بإسكان الدال.

(كقَوْلِنَا: نُورُ القَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ).

هذا حدسية .. ظن، ما رأوها .. قديماً هذا، قد يكون الآن أثبت شيء الله أعلم به، لكن قديماً هذا من باب الظنيات .. التخيُّل.

(لاختلاف تشكُّلاته) صوره وهيئته النورية المنسوبة إلى النور (بحسب قُربه) أي: القمر (من الشمس، وبُعده) أي: القمر (عنها).

(وفُرِّق بينها وبين المجربات بأنها واقعة بغير اختيارٍ بخلاف المجربات).

ص: 12

يعني: الحدسيات هذه ليس فيها اختيار، بخلاف المجربات فإنه يختارها، يعني: بفعل الفاعل .. اختيار الفاعل.

قال: (وفُرِّق بينها) أي: الحدسيات.

قال السعد: الحدسيات كالمجربات في تكرر المشاهدة، ومقارنة بالقياس الخفي، إلا أن السبب في المجرَّبات معلوم السببية، مجهول الماهية، وفي الحدسيات معلومٌ بالوجهين.

قال هنا: (وفُرِّق بينها وبين المجربات بأنها) أي: الحدسيات.

(واقعة بغير اختيارٍ بخلاف المُجربات فإنها بالاختيار).

قال هنا: (قال الرازي: الفرق بين التجرِبة والحدْس: أن التجربة تتوقف على فعلٍ يفعله الإنسان حتى يحصلَ المطلوب بسببه، فإن الإنسان لم يجرب الدواء بتناوله وإعطائه غير مرة بعد أخرى، لا يحكم عليه بإسهالٍ أو عدمه) مرة واحدة لا يحكم، ولو حصل شيءٌ لا يجزم به.

ولذلك هنا ترتبط قاعدة السببية في باب التوحيد: كل ما لم يثبته الشرع سبباً شرعاً أو قدراً، فالاعتماد عليه يُعتبر إما: شركٌ أكبر وإما شركٌ أصغر، وإن كان الأصل في إطلاق القاعدة الشرك الأصغر، لكن قد يكون، على حسب الاعتقاد هنا؛ لأنه كلما كان الشرك أصغر لا يمنع أن يكون أكبر، كلما يقال فيه أنه من صور الشرك الأصغر لا يمنع أن يكون من الشرك الأكبر.

ولذلك الرياء الذي لا يستمر شرك أصغر، لكن قد يكون أكبر .. إذا غلب على الإنسان قد يكون أكبر.

قال: (بخلاف الحدْس فإنه لا يتوقف على ذلك، وهو قريبٌ مما ذكره الشارح).

قال هنا: (والحدْس سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب، ويقابله الفكر، فإنه حركة الذهن نحو المبادئ، ورجوعِها عنه إلى المطالب، فلا بد فيه من حركتين بخلاف الحدْس؛ إذ لا حركة فيه أصلاً، والانتقال فيه ليس بحركة).

قال: (سُرعة الانتقال) قال: (فيه تسامح؛ لأن الانتقال في الحدس دفعي من المبادئ إلى المطالب) عرَفنا المبادئ والمطالب، وحقيقتُها: أن تسنح المبادئ المرتبة في الذهن فيحصل المطلوبُ.

قال: (والمجربات والحدسيات لا يُحتج بها على الغير؛ لجواز ألا يكون له شيءٌ منهما) يعني: إذا عندك مقدمة ثبتت عن تجربة، هل تحتج بها على الغير؟ لا؛ لأنه قد يكون لم يجرب هو، فكيف يسلِّم بها؟ المناظرة يستلزم تسليم المقدمات.

(وَمُتَوَاتِرَاتٌ)(وهي ما يحكم فيه العقل بواسطة) هي (السماع) يعني: إضافة بيانية.

(من جمعٍ يُؤمن تواطؤهم على الكذب) كما هو الشأن في باب المصطلح.

(فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة الشهادات الموجبة لليقين، كالعلم بوجود مكة) يعني: الذي لم يرى مكة فحينئذٍ العلم بوجود مكة يقين؛ لأنه أخبره زيد وعمرو وشاع .. إلى آخره، فإذا كان كذلك كثُرت المشاهدات والإخبار، فصارت كل واحدة في قوة قضية، هذا يسمى تواتراً.

قال: (فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة الشهادات الموجبة لليقين، كالعلم بوجود مكة، وحصول اليقين يتوقف على أمرين: الأمن من التواطؤ على الكذب) يعني: اتفاق (واستناد الخبر إلى المحسوس، ولا ينحصر مبلِّغ الشهادات في عددٍ، بل القاضي بكمال العدد حصولُ اليقين).

والمسألة خلافية كذلك في علم المصطلح.

(قال السعد: وشرطُه الاستناد إلى الحس؛ حتى لا يُعتبر التواتر إلا فيما يستند إلى المشاهدة).

قال: (كَقَوْلِنَا) يعني: في مثاله على اليقينيات.

ص: 13

(مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ادَّعى النُّبُوَّةَ، وَظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ) وظهرت المعجزة على صدقه -نسختان يعني-. هذا يقيني؟ نعم يقيني قطعاً.

(مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ادَّعى النُّبُوَّةَ، وَظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ) ادعى النبوّة وظهرت المعجزات. هذه نسخة.

(أي: الأمور المخالفة للعادة المقرونة بالتحدي بها، على صدقه أي: على تصديقه في دعواه النبوة).

"على يده، على صدقه" صِدقه أحسن، أما "على يده" ما يكفي يعني: تظهر المعجزة على يده فتدل على كذِبه، لكنها دلَّت على صِدقه.

قال: (وَقَضَايَا قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا) وتسمى القضايا النظرية .. نظرية القياس.

(وَقَضَايَا) نظرية ليست فطرية.

(والمحققون على أنها ليست من الضروريات بل هي كسبية، لكن لما كان برهانُها ضرورياً لا يغيب عن الخيال عند الحكم عُدّتْ من الضروريات، فكأنها لا تحتاج إلى ذلك البرهان).

قال: (وَقَضَايَا قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا)(وهي ما يحكم فيه العقل بواسطةٍ لا تغيب عن الذهن عن تصور الطرفين) يعني: الأصغر والأكبر.

(بواسطةٍ لا تغيب) مُخرجٌ لباقي اليقينيات.

(أي: بسبب قياسٍ متوسط بين الأصغر والأكبر) يعني: قياس خفي كالسابق.

قال: (وهي ما يحكم فيه العقل بواسطة لا تغيب عن الذهن، عند تصور الطرفين) هذه يسمونها قضية قياسُها معها، لا يَتصور الطرفين إلا ويَتصور هذا القياس المتوسط بينهما.

(كَقَوْلِنَا: الْأَرْبَعَةُ زَوْجٌ بِسَبَبِ وَسَطٍ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الاِنْقِسَامُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ) كلما قلت: زوج استحضرت انقسام إلى متساويين.

إذاً: هذا الذي يكون وسطاً خارجاً.

(وَهُوَ الاِنْقِسَامُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ) والوسط ما يُقرَن بقولنا: لأنه .. لأنه ينقسم إلى متساويين.

(كَقَوْلِنَا: الْأَرْبَعَةُ زَوْجٌ)(لأنها منقسمةٌ بمتساويين) هذا الوسط.

(وكل منقسمٍ بمتساويين زوجٌ، وهذا الوسط متصورٌ في الذهن عند تصور الأربعة زوجاً) هذا ما يتعلق باليقينيات الستة.

ثم قال: (ثم أخذ في بيان غير اليقينيات فقال)(وَالجَدَلُ) أعاذنا الله وإياكم من الجدل الباطل، ليس كل جدلٍ يكون باطلاً، وإنما الجدل منه حقٌ ومنه باطل، وما أكثر الاشتغال بالجدل الباطل العقيم، الذي ليس فيه إلا هم إثبات الرأي المختار وإبطال قول الآخر من أجل إسقاطه، لا من أجل الوصول إلى الحق.

قال: (وَالجَدَلُ: وَهُوَ قِيَاسٌ) إذاً: أَخَذه جنساً، لا بد أن يكون قياساً.

(وَالجَدَلُ: وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ أو مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ عِنْدَ الخَصْمَيْنِ).

(قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) انظر البرهان هناك مؤلَّف من مقدمات يقينية، هنا (مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ أو مُسَلَّمَةٍ).

(مشهورة فصْلٌ مخرجٌ البرهان والخطابة والشعر والمغالطة، وسبب شُهرتها: اشتمالُها على مصلحة عامة نحو: العدل حسن) هذه مقدمة مشهورة.

(والظلم قبيح) وهذه كذلك مشهورة.

(أو مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ عِنْدَ الخَصْمَيْنِ)(ويسمى صاحبُه مجادلاً).

ص: 14

(كَقَوْلِنَا: الْعَدْلُ حَسَنٌ وَالظُّلُمُ قَبِيحٌ)(ومراعاة الضعفاء محمودة، وكشفُ العورة مذموم) هذه أربعة أمثلة، كلها على المشهورة، ولم يأت بمثال للمسلَّمة؛ لأنها تختلف، التسليم هذا خاص، مسلَّمة عند الخصمين، وهذان يختلفان من شخصين إلى شخصين آخرين.

(الأمثلة المذكورة للمقدمات المشهورة، لم يذكر مثالاً للمسلَّمة لعدم تعيُّنها؛ إذْ المدار فيها على تسليم الخصم لها، وإن لم تكن حقةً عنده) إذاً: لا مثال له إلا ما يكون في باب المناظرات في الفقهيات وغيرها.

(والغرض منه: إلزام الخصم وإفحامُه، واعتيادُ النفس تركيب المقدمات على أي وجهٍ شاء وأراد.

وإقناع من هو قاصرٌ عن إدراك مقدمات البرهان) يعني: إقناع القاصرين عن درجة البرهان.

قال هنا العطار: (مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ أَو مُسَلَّمَةٍ) قال في شرح المطالع: (المشهورات قضايا يحكم العقل بها بواسطة اعتراف عموم الناس بها، إما لمصلحة عامة كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح، أو بسبب رقة "في الطبع يعني" كقولنا: مواساة الفقراء محمودة، أو حمِيَّة. كقولنا: كشف العورة مذموم.

أو بسبب عادات وشرائع وآداب. كقولنا: شكر المنعم واجب.

وقد تشتبه بالأَوَّلِيَّات –المشهورات-، والفرق بينهما: أنَّ الإنسان لو قُدِّر .. ) انتبه لهذا المثال (أنَّ الإنسان. ز) أراد أن يفرق بين الأَوَّلِيَّات وبين المشهورات.

(أن الإنسان لو قُدِّر أنه خُلِق دَفعة واحدة من غير مشاهدة أحدٍ وممارسة عمل) هكذا دون أن يتعلق بشيء.

(ثم عُرض عليه هذه القضايا توقَّف فيها بخلاف الأَوَّلِيَّات).

الأَوَّلِيَّات يقبلها يعني: الجزء أكبر من الكل، وإذا ما رأى جزءاً ولا كلاً، كيف يحكم بأن الجزء أصغر من الكل والكل أكبر من الجزء؟ هذا فيه إشكال.

قال: (فإنه لم يتوقف فيها، والمشهورات قد تكون حقة وقد تكون باطلاً).

اليقينيات هناك في الأصل فيها أنها حقة، إذا كان يقين عند أهل الإسلام مثلاً حينئذٍ تكون حقة، لكن المشهورات لا، اشتهر .. مقدمة مشهورة، ثم قد تكون حقة وقد تكون باطلة.

(والأَوَّلِيَّات لا تكون إلا حَقَّةً.

والمسلَّمات قضايا تؤخذ من الخصم مسلّمة فيما بين الخصوم، فيبني عليها كل واحدٍ منهم الكلام في دَفع الآخر حقّةً كانت أو باطلة، كحُجية القياس والدوران ونحوها).

(المشهورات إما مشهورة على الإطلاق أو بحسب صناعةٍ كقولنا: التسلسل باطل، أو عند أرباب مِلَّةٍ كقول: الإله واحد، والربا حرام.

فإن قلتَ حينئذٍ: لا تكون من المشهورات، إلا أنها هي التي يعترِف بها عموم الناس -على ما قالوا- قلتُ: إن الناس إما جميع أفراد الناس وهي المشهورات على الإطلاق، أو جميع أفراد طائفة، وهي المشهورات عند طائفة من الناس) يعني: عند فئة معيّنة.

قال هنا: (والغرض منه) يعني: من الجدل (إلزام الخصم).

قال السعد في شرح الشمسية: الغرض من الجدل إقناع من هو قاصرٌ عن إدراك البرهان، وإلزام الخصم؛ فالجدلي قد يكون مجيباً حافظاً لرأيه، وغايةُ سعيه ألا يصير ملزوماً.

وقد يكون سائلاً معترِضاً هادماً لوضعٍ ما، وغاية سعيه أنه يُلزِم خصمَه.

قال: (وَالخَطَابَةُ) بفتح الخاء.

ص: 15

(وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ مِنْ شَخْصٍ مُعْتَقَدٍ فِيهِ أَوْ مَظْنُونَةٍ).

قال هنا: (ظاهر صنيع المصنف أن الخَطابة مغايرة للجدل، فلا تجتمع معه، وقد يقال: المقدمات المقبولة تكون مشهورة أيضاً، ويسمى قياسُها جدلاً وخطابة) يعني: يشتركان.

(والمظنونة تكون مسلَّمةً عند الخصم) إلا أن يقال بأن ثم حيثية تعتبر في محالّها.

قال: (وَالخَطَابَةُ: وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ مِنْ شَخْصٍ مُعْتَقَدٍ فِيهِ) كما هو معروف (مُعْتَقَدٍ فِيهِ) المراد به: (أي: لسببٍ إما سماوي كالمعجزات) الأنبياء كذلك، معتقدٍ فيه النبوة والرسالة، هذا حقٌ.

(أي: لسببٍ إما سماوي كالمعجزات "للأنبياء" والكرامات "للأولياء"، أو اختصاصه بمزيد عقلٍ ودين) كأهل العلم.

قال: (والخَطابة نافعةٌ جداً في تعظيم أمر الله تعالى والشَّفَقِة على خلقه تعالى).

ولذلك الخَطَابَةُ تتنوع، فالخَطابة: سياسية وخَطابة شرعية، خَطابة اجتماعية، اقتصادية .. تختلف باختلاف المراد طرحُه.

قال: (أو مقدمات مظنونة أي: معتقَدٍ فيها اعتقاداً راجحاً، وقضية العطف أن المقبولة من شخصٍ معتقَد فيه، لا تكون مظنونة وفيه نظر، بل قد تكون ظنية أيضاً، وقد تكون يقينية، خصوصاً المقبولةُ من نبيٍّ، إلا أن يقال: قيْدُ الحيثية معتبر كما تقدم).

قال السعد: وقد تقبل الخَطَابَةُ بدون نسبتها إلى أحد كالأمثال السائرة.

قال هنا: (كقولنا: فلانٌ يطوف بالليل، وكل من يطوف بالليل سارقٌ) يطوف بالليل في غير الكعبة يعني.

(كقولنا: فلانٌ يطوف بالليل، وكل من يطوف بالليل سارقٌ، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم كما تفعله الخطباء والوُعَّاظ).

قال: (وَالشِّعْرُ: وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ تَنْبسِطُ مِنْهَا النَّفْسُ أَوْ تَنْقَبِضُ) يعني: تتسع أو تنشرح؛ للرغبة فيها، أو تضيق عنه وتنفُر منه.

(فالغرض منه انفعال النفس ببسطٍ أو قبضٍ بسبب ترغيبٍ أو ترهيب؛ ليصير ذلك مبدأ الفعل أو ترْكٍ، أو مبدأ فعلٍ أو تركٍ، أو رضاً أو سُخطٍ.

ولذا يفيد في بعض الحروب والاستعطاف ما لا يفيد غيرُه) يعني: هذا النوع.

(فإنَّ الناس أطوع للتخيُّل منهم للتصديق لكونه أعذب وألذ، وفي الخبر: إنَّ من البيان لسحراً. أي: يَعملُ عمل السحر في سَرِقة القلوب، "ومن الشعر لحكمة" والحكمةُ شأنُها رغبةُ النفوس فيها وميلُها إليها).

قال هنا: (وَالشِّعْرُ: وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ تَنْبسِطُ مِنْهَا النَّفْسُ) تنشرح (أَوْ تَنْقَبِضُ).

(كما إذا قيل: الخمر ياقوتة) أي: حمراء كالياقوتة.

(الخمر ياقوتة سَيّالة) يعني: سريعة السيلان والجريان في الحلق (انبسطت النفس) ليس بأي نفس.

(انبسطتْ النفس ورغِبتْ في شُربها، وإذا قيل: العسل مِرَّةٌ)(مِرّة) بكسر الميم وتشديد الراء: ماءٌ مرٌ أصفر.

(مُهَوِّعَةٌ) يعني: مُقِيئَة.

(انقبضتْ النفس ونفرت عنه) عن العسل، هذا مثال [وَالشَّأنُ لَا يُعْتَرَضُ المِثَالُ].

(والغرضُ منه: انفعال النفس بالترغيب والترهيب.

ص: 16

قال العلامة الرازي: ويزيد في ذلك) يعني: الترغيب والترهيب (أن يكون الشعر على وَزْنٍ أو يُنشَدُ بسوط.

مقتضاه: أن الشعر قد لا يكون موزوناً، وهو كذلك).

الشعر عند المتقدمين من المناطقة، بل عند المناطقة عموماً إذا قيل: الشعر. ليس المراد به الشعر الموزون، قد يكون وقد لا يكون، بل الأصل فيه هو المنثور.

(مقتضاه: أن الشِّعر قد لا يكون موزوناً. وهو كذلك؛ فإنَّ المراد به هنا: قياسٌ مؤلَّفٌ من مقدِّماتٍ مُتخَيّلَة، وهو لا يكون موزوناً، فإنَّ شِعر اليونانيين محض مقدمات متخيلة فقط) ليس فيه وزن (أو يُنشد بسوطٍ).

قال: (طيب) يعني: حسَن جميل.

قال هنا: (والقدماء لم يعتبروا في الشعر إلا التخيل، والمحدَثُون اعتبروا كونَه مزوناً أيضاً، فحينئذٍ يكون قياساً بالقوة).

إذا جاء موزوناً يكون قياساً بالقوة، بمعنى: أنه لو حُلِّلت تلك المقدمات الموزونة ورُكِّبت على صورة القياس كان قياساً.

فلا يقال: إذا نحَى به نحوَ الشعر العربي وَوُزِن خَرج عن أن يكون قياساً؛ إذ لا تُطابق صورة القياس موازين الشعر.

قال: (وَالمُغَالَطَةُ: وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مَقَدِّمَاتٍ كَاذِبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْمَشْهُورِ أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ) المقدمات الوهمية قال: (هي قضايا كاذبة يحكُم بها الوهمُ الإنساني في أمورٍ غير محسوسة كقولنا: لكل موجودٍ مُشارٌ إليه) يعني: نقول: هذا فرس .. يأتي يرسِم إنسان يقول: هذا فرس، أو يَرسِم فرس يقول: هذا فرسٌ يجري. هذا كذِب .. سفسطة هذه.

(أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ).

(ولولا دفعُ العقل والشرع لها لعُدَّت من الأَوَّلِيَّات، وإنما قيَّد الأمور بالغير المحسوسة؛ لأن أحكام الوهم والمحسوسات غير كاذبة).

قال هنا: (مُؤَلَّفٌ مِنْ مَقَدِّمَاتٍ كَاذِبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْمَشْهُورِ أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ).

قال السَّعد في شرح الشمسية: الوهْمِياتُ قضايا كاذبة، يحكُم بها وهم الإنسان في غير المحسوسات؛ قياساً عليها، كما يقال: إن وراء العالم خلاء لا يتناهى.

كما يُحكَم على كل جسمٍ بأنه متحيِّز؛ لإدراكِه أن كل جسمٍ مشاهد محسوس متحيّز، ولولا دفع العقل والشرع لكانت من الأَوَّلِيَّات .. إلى آخر كلامه.

قال: (وهي) أي: المغالَطة.

(بقسميها لا تُفيد يقيناً) قسميها أي: المؤلَّف من شبيهة بالحق أو المشهورة، والمؤلَّف من وهمية كاذبة. يعني: فيما يتضمنه الحد السابق.

(لا تُفيد يقيناً ولا ظناً).

قال السعد: والغرض منها إسكاتُ الخصم وتغليطُه، وأقوى منافعها الاحتراز عنها.

عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيْهِ

وَمَنْ لَمْ يَعْرِفَ الخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ يَقَعْ فِيْهِ

إذاً: دراستُها لماذا؟ للحذر منها، كما يقول بعضهم: تعلَّم السحر لئلا يقع فيه! هذا غريب هذا!

قال: (لا تُفيد يقيناً ولا ظناً، بل مجرد الشك والشبهة الكاذبة، ولها) أي: المغالطة (أنواعٌ) ظاهرُها أنها متباينة، وكلامُ السعد يفيد أنها متحدة الذات مختلفة بالاعتبار.

ص: 17

قال السعد: المفيد للتصديق الجازم غير الحق هو السفسطة، وللتصديق الجازم الذي لا يُعتبر فيه كونُه حقاً أو غير حق، بل عموم الاعتراف هو المُشاغبة، وهما تحت قسمٍ واحد وهي المغالَطة.

قال: (ولها أنواعٌ بحسب مُستعمِلها، وما يستعملها فيه.

فمن أوهم بذلك. أي: المذكور من الشبيه بالحق: ما مضى .. المقدِّمات.

(فمن أوهم بذلك العوام أنه حكيم يعني: عالمٌ بالحِكمة الطبيعية والإلهية.

(مستنبطٌ للبراهين يسمى سُفسطائياً أي: منسوباً للسُفسطاء وهي: الحِكمة المُمَوِّهَة والعِلمُ المُزَخْرَف؛ لأن معنى سُوف: العِلم، ومعنى سطا: مزخرف وباطل وغَلطٌ).

قال: (ومن نصَب نفسَه للجدال وخِداع أهل التحقيق، والتشويش عليهم بذلك يسمى مشاغباً مهيِّجاً للشر ممارياً) أي: مجادلاً.

(ومنها نوعٌ يستعمله الجهَلة وهو: أن يَغيض أحدُ الخصمين الآخر بكلامٍ يُشغِل فِكرَه ويغضبه كأنْ يسُبَّه أو يعيبَ كلامَه أو يُظهرَ له عيباً يعرِفُه فيه) يعني: خارج عنه: كُنتَ وكنتَ.

(أو يقطع كلامه، أو يغلب عليه بعبارة غير مألوفة، أو يخرج به عن محل النزاع .. ) هذا كله مغالطة.

(ويسمى هذا النوع المغالطة الخارجية؛ لكونها بأجنبيٍ خارجٍ عن المتكلَّم فيه) إذا تكلَّم في موضوع يسبُّه، يتكلم في موضوع أَخْذ وعطاء في إثبات الأدلة، ومن أنت؟ وكيف تعترض؟ .. إلى آخره، كل هذا خروجٌ عن المقصود.

(وهو مع أنه أقبحُ أنواع المغالطة لقصدِ فاعلِه إيذاءَ خصْمه، وإيهامِ العوام أنه قَهَره وأسكتَه، أكثرُ استعمالاً في زماننا؛ لعدم معرفة غالب أهله بالقوانين ومحبتِهم الغلبة، وعدم اعترافِهم بالحق) نعم هذا يُنتبه له، حتى طلاب العلم، إذا أراد أن يناقش مسألة لا بد أن يستحضر في قلبه أنه لا يريد إلا الحق، لا يريد إفحام من هو أمامه ولو كان لا يُحبه أو يبغضُه أو يكرهه؛ لأنَّ الحق هنا ليس مناطاً أو مُعلَّقاً بالأشخاص، وإنما مردُّه إلى الكتاب والسنة.

ولذلك ابن القيم له كلمة جميلة جداً في مدارج السالكين، يقول -يقرِّب مسألة وهي-: أنَّ الحق لا يجوز ردُّه، وأن الحكمة ضالة المؤمن ولو نطق بها كافِر.

نقول: لماذا؟ ما العِلَّة هنا؟

يقول: لأنه ما من حقٍ في السماء والأرض إلا وهو أَثَرٌ من آثار اسم الله الحق، فإذا ردَدْتَه رَدَدْتَ على الله تعالى.

ولذلك الإنسان يوطِّن نفسه، أنه ما يسمع قولاً وتظهر عليه أدلة الحق إلا ويُسرِع إليه، ولو كان هو يعتقد، أو أنه يجادل أو يناظر في قول، فتبين له خلافُه يرجع مباشرة؛ الرجوع للحق فضيلة وليس بعلامة جهل. ولذلك من الأمور المكتسَبة عند الناس هنا: أن الشخص إذا رجع عن قوله، أو تبيّن له غلطُه أنه نوع نقص، وأنه يدل على عدم ضبطٍ للعِلم لا، ليس كذلك.

الإمام أحمد وهو إمام له قولان وثلاثة وأربعة، يقول في عامٍ قولاً، ثم في عامٍ آخر .. وما أدراك لعلَّه بعده بأيام رجَع عن قوله، وكذلك الإمام أبو حنيفة والصحابة .. ابن عباس كم من مسألة له قولان، عمر له قولان!

ص: 18

هذا لا يدل على جهل أو نقص في العلم، بل الرجوع يدل على كمال العِلم؛ لأن العِلم المراد به العِلم النافع الذي يُوجِب العملَ الصالح، وأما العلم مجرد المسائل وإدراكُها، والتبجُّح بذكرها وأدلتها دون عمل، هذا عليك لا لك، ولا يكون عِلماً نافعاً.

ولذلك شاعتْ هذه الأمور حتى في زماننا. يعني: حُبُّ الغلبة وعدم الاعتراف بالحق، ولو ظاهر أن هذا القول هو الصحيح أو أنه الحق، لكنه لا يريد أن يَرجع أمام الناس، ويرى أنه عيب ونقْص، وماذا يقولون؟ لعلَّه نقصٌ في العِلم، أو أنه ما تأمَّل، أو ما قرأ، أو نقصٌ في الاطلاع .. كل هذه تجعلُه تحت قدميك؛ لأنَّ هذه من حُظوظ النَّفْس، والنَّفْس إذا لم تضْعَها تحت قدميك لن تنجُو.

قال هنا: (والغلطُ إما من جهة الصورة) الغلط مبتدأ.

(إما من جهة الصورة. كقولنا: في صورةِ فرسٍ منقوشةٍ على جدارٍ أو غيرِه: هذه فرس، وكل فرسٍ صهَّال، يُنتِج هذه الصورة صَهَّالة) هذا كذِب. يعني: يرسِم صورة ثم يقول: هذا فرس "صورة فرس"، ثم يقول: وكل فرسٍ صهّال إذاً: هذا صهّال.

إذاً: تركيب المادة هنا .. التأليف غلط (وسبب الغلط فيه اشتباه الفرس المجازي) قوله: هذا فرس، هو ليس حقيقة؛ هذه صورة فرس ليس فرساً.

(وسبب الغلط فيه اشتباهُ الفرس المجازي الذي هو محمولُ الصُّغرى) هذه فرس (بالحقيقي الذي هو موضوع الكبرى) اختلفا، ولذلك قال هنا: من جهة الصورة أي: عدم شرط الإنتاج. ككون صغرى الشكل الأول سالبة أو كبراه جزئية، أو عدم تكرُّر الحد الأوسط فيه.

أي: وأما من جهة المادة بأن تكون المقدمتان أو إحداهما كاذبة شبيهةً بالحق.

قال هنا: (إما من جهة الصورة، وإما من جهة المعنى. كقولنا: كل إنسانٍ وفرسٍ إنسانٌ) حكم على جزئين: كل إنسانٍ وفرسٍ -معطوف على إنسان .. مضاف إلى كل- إنسان.

هذه شبيهة بالقضية الصادقة. نحو: كلُّ حيوانٍ ناطقٍ حيوانٌ. صحيح؟

"كل إنسان حيوان" إنسان ضع مكانه تعرِيفَه: كل حيوانٍ ناطقٍ حيوان، التي هي أَوَّلِيَّة؛ لأن كل من تَصور الكل والجزء جزم بأن الجزء لازمٌ لكله، فموضوع كلٍ من القضيتين كلٌ وله أجزاء.

إذاً: بعض الأجزاء قد تصدُق وبعض الأجزاء قد لا تصدق.

قوله: "كل إنسانٍ وفرس إنسان" غلَط؛ لأنه حَكَم بإنسان -بمفهومه على جزئين مختلفين بينهما تفاوت، "وكل إنسانٍ وفرسٍ فرسٌ" مثلُها، يُنتج: بعض الإنسان فرس.

أي: لأنَّ المثال المذكور من الشكل الثالث .. إلى آخره.

قال هنا: (وسبب الغلط فيه: أن موضوع المقدمتين -إنسان وفرس- فيهما غير موجود؛ إذ ليس لنا موجودٌ يصدُق عليه أنه إنسانٌ وفرس، وهو إنسان.

وكقولنا: كل إنسانٍ بشر، وكل بشر ضحَّاك يُنتِج: كل إنسانٍ ضحَّاك.

وسبب الغلط فيه: ما فيه من المصادرة على المطلوب أي: جَعْلِ الأوسط نفسَ الأصغر) كل إنسانٍ بشر وكل بشرٍ ضحاك، كل إنسانٍ بشر ما الفرق بين إنسان وبشر؟ هوَ هُو .. عينُه.

إذاً: المصادر على المطلوب (سببُ الغلط فيه: ما فيه من المصادرة على المطلوب) ما هو المطلوب؟ النتيجة.

قال هنا: (أي: جعلُ الأوسطِ نفس الأصغر كمثال الشارح).

أين الأوسط؟ بشَر، أين الأصغر الذي هو موضوع النتيجة؟ إنسان، هو عينُه، لم يتغايرا.

ص: 19

(لِما مر في تعريف القياس أن النتيجة يجب أن تكون قولاً آخر، وهي هنا ليست كذلك، بل هي عينُ إحدى المقدمتين لمُرادَفةِ الإنسان للبشر) لا فرْق بينهما.

قال: (ومن غير اليقينيات الاستقراءُ الناقص) تقدَّم أنه والتمثيل خرجا من تعريف القياس بقوله: لزم عنه لذاتها قولٌ الآخر.

ومثال الاستقراء الناقص: كل حيوانٍ إما إنسان، أو فرس، أو حمار.

وكل إنسانٍ يحرِّك فكَّه الأسفل عند مضغه، وكل فرسٍ كذلك، وكل حمارٍ كذلك، فكل حيوانٍ كذلك، وهي كاذبة لكذب الصغرى؛ لأن الحيوان ليس محصوراً في المذكورات، قولُه: الحيوان إما إنسان أو فرس أو حمار فقط، ما صح هذا، هذه كاذبة.

(فقد يكون من أفراده الخارجة عنها ما ليس كذلك، لا سيما وقد ذكروا أن التِّمساح يحرِّك فكَّه الأعلى عند مضغه.

واحترز بالناقص عن التام؛ فإنه من اليقينيات. نحو: كل كلمة إما اسمٌ أو فعلٌ أو حرف، وكلٌ منها قولٌ مفرد فهي قولٌ مفرد).

قال: (الاستقراء الناقص وهو) أي: الاستقراء الناقص.

(حُكمٌ على كُلِّيٍّ لوُجُوده في أكثر أجزائه) أكثر أجزائه هذا احترازاً عن التام، لو قال: في جميع أجزائه لصار تاماً، والتام من اليقينيات وهو أراد غير اليقينيات.

قال: (حُكمٌ على كُلِّيٍّ لوجودِه) أي: الحُكم (في أكثر جزئياته).

قال السعد: وفي تفسيرهم تسامح ظاهر؛ لأن الاستقراء حُجةٌ مُوصلةٌ إلى التصديق الذي هو الحُكم الكُلِّيّ، فإثبات الحكم الكُلِّيّ هو المطلوب وليس هو الاستقراء.

الاستقراء قال: (هو حُكمٌ) لكن ليس هو الحكم، الاستقراء هو البحث والنظر .. التصفُّح. هذا هو الاستقراء، قد يكون تاماً وقد يكون ناقصاً.

يُنتِج حُكماً وليس الاستقراء هو الحكم، ولذلك قال: هذا فيه تسامح ظاهر.

قال السعد: وفي تفسيرهم تسامح ظاهر؛ لأن الاستقراء حجةٌ موصِلةٌ إلى التصديق) هو يوصل إلى الحكم وليس هو عين الحكم (الذي هو الحكم الكُلِّيّ، فإثبات الحكم الكُلِّيّ هو المطلوب من الاستقراء لا نفْسُه، فكأنهم أرادوا أن إثبات المطلوب بالاستقراء هو إثبات حُكْمٍ كُلِّيٍّ لوجوده في أكثر الجزئيات.

والصحيح في تفسيره ما ذكرَه الإمام حجةُ الإسلام الغزالي، وهو: أنه عبارةٌ عن تصفُّحِ أمورٌ جزئية. هذا جيد.

تصفُّح أمورٍ جزئية ليُحكَم بحكمها على أمرٍ مشتملٍ على تلك الجزئيات وهو الموافق لكلام أبي نصر الفارابي من أنه عبارة عن تصفُّح شيءٍ من الجزئيات الداخل تحت أمرٍ كلي لتصحيح حكمٍ ما حُكِم به على ذلك الأمر بإيجابٍ أو سلبٍ.

قال: (فتَصَفُّحُنا جزئياتِ الداخل تحت أمر كلي لِطلبِ الحُكم فيه في واحدٍ هو الاستقراء) التصفح هو الاستقراء (فيُنتج الحكم وليس الحكم هو عين الاستقراء.

وإيجابُ الحُكم بذلك الأمر الكُلِّيّ أو سلْبُه عنه هو نتيجةُ الاستقراء، سمّي بذلك لأن المستقري يستتْبِع الجزئيات، جزئياً فجزئياً ليحصُل المطلوب، تقول: استقرأتُ البلاد إذا تتبعتَها قريةً فقرية من أرضٍ إلى أرض).

إذاً: حُكمٌ على كلي لوجودِه أي: الحُكم في أكثر جزئياته، قلنا: هذا فيه نظر، بل هو تسمُّحٌ، والأصح أن يقال: تصفّحٌ .. إلى آخر ما ذكره الغزالي.

ص: 20

(كقولنا: كل حيوانٍ يحرِّك فكَّه الأسفل عند المضغ؛ استقراءً) يعني: استدلالاً بالاستقراء (بما شاهدنا.

ويجُوز في بعض الأفراد ما يخالف ذلك) أي: تحريك الأسفل بأن يحرِّك الأعلى.

قال: (ويجوز في بعض الأفراد) يعني: الحيوان.

(ما يخالِف ذلك) أي: تحريك الأسفل بأن يحرِّك الأعلى (كالتمساح؛ لما قيل: إنه يحرِّك فكَّه الأعلى).

قال: (والتمثيل) هذا الثاني، مما لا يدل على اليقين، عندهم أنه ظني.

قال: (والتمثيل) أي: قياس التمثيل.

(وهو) عَطْفٌ على الاستقراء الناقص، فهو من غير اليقينيات.

(وهو -أي: التمثيل- إثبات حُكمٍ واحدٍ في جزئيٍ؛ لِثُبُوتِه) يعني: ذلك الحُكم (في جزئيٍ آخر، لمعنًى مشتركٍ بينهما) أي: الجزئين، فهو عِلَّة للإثبات.

(والفقهاء يسمَّونه قياساً) يعني: القياس التمثيلي: حملُ معلومٍ على معلومٍ لعلةٍ جامعة بينهما في الحُكم. إلحاقُ فرعٍ بأصل؛ لعلة جامعة في الحكم.

قال السعد: فسَّروا التمثيل بإثبات الحكم في جزئي؛ لثبوته في جزئيٍ آخر، لمعنًى مشترك بينهما وفيه تسامح، مثلُ ما مر في تفسير الاستقراء.

والأصوَب أنه تشبيه جزئيٍ بجزئيٍ في معنًى مشترَك بينهما؛ ليثبُت في المشبَّه الحُكم الثابت في المشبَّه به المعلَّل بذلك المعنى.

إذاً: هو تشبيهٌ وليس فيه حُكمٌ.

قال رحمه الله تعالى: (وَالْعُمْدَةُ)(أي: ما يُعتَمَد عليه من هذه القياسات)(هُوَ الْبُرْهَانُ) يعني: كلُّ ما مر من أول باب القياس، ولذلك قلنا: القياس وما يتعلَّق به تَقْدُمَة للبرهان، وهو العُمدة عنده.

(وَالْعُمْدَةُ)(أي: ما يُعتمد عليه من هذه القياسات)(هُوَ الْبُرْهَانُ).

(من هذه القياسات أي: البرهان والجدل والخَطابة والشعر والمغالطة).

(لتركُّبِه من المقدمات اليقينية، ولكونه كافياً في اكتساب العلوم التصدِيقية أي: المنسوبة للتصديق نسبة الجزئيات لكلِّيها).

قال: (والله سبحانه وتعالى أعلم).

وبهذا نكون قد انتهينا من التعليق على هذا الكتاب، وإن كان تعليقاً ليس مَرْضِياً، لكن نحاول إن شاء الله أن نُتَمِّمَه، وجزاكم الله خير، وجزى الله القائمين على هذه الدورة ومن سعى في ذلك خير الجزاء.

ولا تنسوا إخوانكم بالدعاء لهم في ظهر الغيب

!!!

ص: 21