المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على - شرح المطلع على متن إيساغوجي - جـ ٢

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

قال المصنف رحمه الله تعالى: قال رحمه الله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) أي: أبتدئُ.

قال المصنف: (قال رحمه الله هذا فيه إشارة، وهذا نشير إليه لأنه كثُر تغيير هذه العبارة بحجة أنها أبلغ وأفصح، قال: فلانٌ يرحمه الله. عُدولاً عن رحمه الله، الصواب أن يقال: أن رحمه الله أفصح.

يعني: إذا كان يراد بأن يرحمه الله فعلٌ مضارع أفصح من الفعل الماضي هذا غلط ليس بصحيح، بل الصواب أن يقال: هذه الجملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى، يراد بها الدعاء، وأهل العلم قديماً وحديثاً -ولذلك تجد حتى في الحواشي- لا يعترضون هذا التركيب؛ لأنه موافقٌ على مقتضى البلاغة، وموافقٌ للفصيح من كلام العرب.

حينئذٍ تُطلق هذه الجملة ويراد بها الدعاء، فهي خبرية لفظاً إنشائية معنى، وليس المراد القطع بكون الرحمة حاصلة، لا يُفهم هذا. وإنما يُعبِّر بالفعل الماضي من باب حسن الظن بالباري جل وعلا .. أن الرحمة حاصلة، وإلا القطع بأنها حاصلة بدلالة الفعل الماضي ليس هذا المراد.

ولذلك نقول: هذه الجملة كغيرها من الجمل، هي خبرية لفظاً إنشائية معنى؛ لأن المراد بها: اللهم ارحمه.

حينئذٍ ليس ثم نكتة في العدول عن الفعل الماضي إلى الفعل المضارع.

ليس ثم نكتة يعني: فائدة في العدول عن الفعل الماضي إلى الفعل المضارع، يشهد لهذا: أن أئمة اللغة وغيرهم أجمعوا على هذا التعبير: ما من مصنَّفٍ إلا ويُذكر فيه: رحمه الله.

حينئذٍ نقول: هذا يُعتبر هو المقدَّم.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) قال الشارح: (أي: أَبتدئُ).

(أي) هذه حرف تفسيري. يعني: ما بعده مفسِّرٌ لما قبله، وليس هذا المراد هنا، وإنما المراد تفسير المتعلَّق؛ لأن البسملة هنا: الباء حرف جر، وما بعده مجرور بحرف الجر الأصلي، وحرف الجر الأصلي لا بد أن يكون له متعلَّق، القاعدة:

لَا بُدَّ لِلجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ

بِفِعْلٍ اَوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرْتَقِي

يعني: بالمشتقات العشرة المشهورة عند الصرفيين ليست عند النحاة، حينئذٍ كل جار ومجرور وإن كان الجار حرفاً أصلياً لا بد له من متعلَّق.

الباء هنا أصلية على الصحيح ومعناها الاستعانة، حينئذٍ إذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم. أين المتعلَّق؟

(بسم) هذا متعلِّق بكسر اللام، أين المتعلَّق؟ نقول: مقدَّر محذوف، ولذلك أراد المصنف هنا أن يفسِّره .. يبيّن هذا المتعلَّق.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ)(أي) هذا حرف تفسير وليس بحرف عطف خلافاً للكوفيين.

ولذلك تقول: اشتريتُ عسجداً أي: ذهباً. فيُعرب ما بعد أي على أنه بدل كل من كل، أو عطف بيان. ولا يُعرب على أنه معطوف ومعطوف عليه مثل: جاء زيدٌ وعمرٌ، هذا مذهب الكوفيين، لكنه مذهبٌ مرجوح، الصواب أن يقال: بأن (أي) حرف تفسير، ويُعرب ما بعده بدلاً مما قبله. وهذا مذهب البصريين.

ص: 1

لكن (أي) يؤتى بها في التفسير في المفردات: اشتريتُ عسجداً أي: ذهباً ولا تقل: يعني ذهباً، وإنما: أي ذهباً.

وأما إذا أُريد التفسير للمعاني فيؤتى بالعناية. يعني المصنِّف كذا، إذا أُريد المفهوم التركيب وليس المراد تفسير لفظ بعينه يؤتى بلفظ العناية تقول: يعني المصنف كذا، وأما (أي) الأصل فيها أنها لتفسير المفردات.

هذا هو الأصل وهو الغالب في استعمال أرباب الحواشي والمصنَّفات، لكن قد يحصل تغاير فيؤتى بأي في المعاني الكبار المركبات، ويؤتى بأعني في المفردات، وهذا موجود.

(أبتدئ) هنا بيانٌ لمتعلَّق الجار والمجرور، قدَّره المصنف هنا فعلاً بناءً على الأصل، ما هو الأصل في العمل؟ نقول: للفعل.

فالأصل هنا أن يقدِّره فعلاً؛ لأن الأصل في العمل للأفعال، وقدَّره مؤخراً، ما قال: أبتدئ أي: باسم الله، أو باسم الله وقدَّم الفعل عليه نقول: لا، وإنما يؤخَّر لما سيأتي.

ومؤخراً لإفادة الحصر، وكان الأولى تقديره خاصاً كـ: أؤلف .. بسم الله الرحمن الرحيم أي: أؤلف، أكتُب.

لأن كل شارع في شيء أو حَدثٍ يُضمر ما جُعلت التسمية مبدأً له.

حينئذٍ قوله: (أي أبتدئ) هذا صحيحٌ من وجهين:

الوجه الأول: أنه قدَّره فعلاً، وافق الأصل أو لا؟ نقول: نعم وافق الأصل، يُسلَّم له .. التقدير هنا كونه فعلاً هذا مسلَّمٌ له؛ لأن المتعلَّق عاملٌ في المتعلِّق، والأصل في العمل أن يكون للأفعال، يؤيد ذلك أنه جاء مصرَّحاً به لقوله:((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1].

((اقْرَأْ بِاسْمِ)) باسم هذا متعلِّق باقرأ وهو فعلٌ، كذلك:{باسمك ربي وضعتُ جنبي} الحديث، وضعتُ باسمك، وضعتُ هذا فعل.

إذاً: جاء مصرَّحاً به في موضعين: في القرآن وفي السنة.

فحينئذٍ القاعدة هنا: أن كل شيءٍ احتمَل وجهين وجاء مصرحاً في بعض المواضع فما احتمل الوجهين يُحمل على المصرَّح، فإذا صرَّح ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)) حينئذٍ نقول: كل متعلَّقٍ للجار والمجرور فالأصل أن يكون فعلاً للقاعدة النحوية: أن الأصل في العمل إنما يكون للأفعال، وعمل الأسماء هذا يعتبر فرعاً.

ثانياً التصريح به، ولذلك كل (ما) في القرآن فهي حجازية لا تميمية، كل لفظ ((مَا)) في القرآن فهي حجازية لا تميمية؛ لأنه جاء مصرَّحاً به في موضعين:((مَا هَذَا بَشَرًا)) [يوسف:31]، ((مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ)) [المجادلة:2].

حينئذٍ ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ)) [البقرة:74] يحتمِل أنها تميمية والأصل فيها عدم العمل، والباء هذه زائدة للتوكيد، ويحتمل أنها حجازية ودخلت الباء كما دخلت في قوله:((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)) [التين:8].

حينئذٍ نقول: ما احتمَل كقوله: ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ)) [البقرة:74] نقول: (ما) هنا حجازية؛ لأنه جاء إعمالها في مواضع أُخر، وهي قوله:((مَا هَذَا بَشَرًا)) [يوسف:31]، ((مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ)) [المجادلة:2] فما احتمَل يُحمل على المصرَّح، كذلك الوضع هنا.

مؤخراً يُسلَّم له؟ المصنَّف قدَّره مؤخراً نقول: نعم يسلَّم له.

ص: 2

لماذا مؤخراً؟ قالوا: لفائدتين، ذَكر إحدى الفائدتين وهي الحصر، والحصر هو: إثبات الحكم في المذكور ونفيُه عما عداه، هذا مهمٌ حتى في قواعد التفسير.

حينئذٍ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] قدَّم ما حقُّه التأخير فأفاد القصر والحصر ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].

((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] ما وجهُ الحصر هنا؟ في تقديم ما حقّه التأخير، ما هو الذي حقه التأخير هنا؟ المفعول وهو إيَّاك .. إيَّا والكاف هذا حرف خطاب.

فالمعنى حينئذٍ يكون: لا نعبدُ إلا إيَّاك. إثبات ونفي، حصرنا ونفينا، حصرنا العبادة في الباري جل وعلا، ونفينا العبادة عن كل ما سوى الباري جل وعلا، هذا يسمى حصراً.

هنا كذلك قال: بسم الله الرحمن الرحيم أبتدئ. على ما ذكره المصنف، حينئذٍ باسم الله لا باسم غيره، هذا فيه تحقيق للاستعانة، وإن شئت قل: توحيد الاستعانة لأن الباء هنا للاستعانة، هذا معنى لطيف يستحضره من يُبسمل بأنه يقدِّر في نفسه ما جعل البسملةَ مبدأً له وأنه مؤخَّر، وأن الاستعانة هنا محصورة في الباري جل وعلا، ومنفية عمَّا سواه ولذلك قال:((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].

إذاً: بسم الله الرحمن الرحيم مثل: إيَّاك نستعين. إيّاك نستعين .. نستعينُك، (إيَّاكَ) أي: لا نستعين إلا بك، وهنا لا نستعين إلا بالله تعالى؛ لأن الباء هنا للاستعانة.

الأمر الثاني الذي يُزاد: بأن التقديم قد لا يكون للحصر وإنما يكون للاهتمام بالشيء؛ لئلا يتقدم عليه لفظٌ آخر، وهنا كذلك لئلا يتقدم على اسم الباري جل وعلا شيء قدَّمه، فحينئذٍ تكون للفائدتين.

وَقَدْ يُفِيدُ فِي الجَمِيعِ الاِهْتِمَامْ

تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ

بِهِ وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ

مُؤَخَّرًا ........................

هذا ذكره السيوطي في عقود الجمان.

يعني: من فوائد تأخير متعلَّق الجار والمجرور هنا في البسملة أنه يفيد الاهتمام.

وَقَدْ يُفِيدُ فِي الجَمِيعِ الاِهْتِمَامْ

تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ

تَقْدِيمُهُ فِي سُورَةِ اقْرَا .....

بِهِ وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ

مُؤَخَّرًا، فَإِنْ يَرِدْ بِسَبَبِهْ

((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)) [العلق:1] لماذا قُدِّم؟

نقول: لأن القراءة هنا هي الأهم، وإذا كان كذلك فحينئذٍ بلاغةُ الكلام أن تطابِق مقتضى الحال، فمقتضى الحال هنا جبريل عندما جاء "كما جاء في سبب النزول" إنما أراد ابتداءً ليس أن يحقق الاستعانة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المراد أن يقرأ {اقرأ، ما أنا بقارئ .. } إلى آخره.

إذاً:

..........................

تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ

تَقْدِيمُهُ فِي سُورَةِ اقْرَا فَهُنَا

.. وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ

مُؤَخَّرًا، فَإِنْ يَرِدْ بِسَبَبِهْ

كَانَ القِرَاءَةُ الأَهَمَّ المُعْتَنَى

إذاً: لهذين السببين نقول: يتعيَّن أن نجعل المتعلَّق "متعلق الجار والمجرور" مؤخراً لا مقدماً.

ص: 3

بقي شيءٍ واحد وهو الذي يُعترض به على المصنَّف وهو أنه عامٌ لا خاص، والأصح أن يُقدَّر خاصاً لا عاماً؛ لأن ابتدئ .. الابتداء هذا يصدق على كل حدث: يصدق على شرب الماء، ويصدق على الأكل، ويصدق على النوم، وعلى القراءة، وعلى الكتابة والتصنيف، والخروج والدخول ..

أبتدئ، أبتدئ ماذا؟ فيحتاج إلى تعيين.

حينئذٍ الأفصح والأولى أن يُجعل خاصاً: بسم الله الرحمن الرحيم أؤلف.

والحجة هنا: أن يقال: كل من تلبَّس بحدثٍ فلا بد أن يستحضر في قلبه ما جعل البسملة مبدأً له، ولا يمكن أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم وهو يريد الشرب ويستحضر في قلبه أنه يأكل. يمكن؟ لا يمكن، إلا إذا سمَّى الشرب أكلاً.

فحينئذٍ إذا أراد أن يأكل واستحضر في قلبه الأكل لا يمكن أن يقدّر ابتدَأَ أو أيبتدئُ أو نحو ذلك، وإنما يقدَّر الفعل الخاص الذي تلبّس به. وهذا أفصح.

إذاً: لَا بُدَّ لِلجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ.

أن يكون فعلاً لا اسماً، أن يكون مؤخَّراً لا متقدِّماً، أن يكون خاصاً لا عاماً.

قال: (أي أبتدئ).

قال رحمه الله: (وابتدأَ بالبسملة).

يعني: المصنّف ابتدأ كتابه المحقَّق "يعني: الموجود" إن كانت الخطبة لاحقةً أو المقدَّر إن كانت سابقة. فلسفة يعني: ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة.

أيّ كتاب؟

هو الآن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ويشرع في المقدمة، طيب الكتاب قد لا يكون موجوداً، فيقول: ابتدأ كتابه المحقَّق إن كان موجوداً، والمقدَّر إن كان غير موجوداً.

ابتدأ بالبسملة، البسملة هذا مصدر لبسمل يبسمل بسملة، والبسملة هذا قياسي، وإنما بسمل هو الذي وقع فيه النزاع هل هو قياسي أم لا؟

قال: (عملاً بكتابه العزيز) ولو قال: اقتداءً لكان أحسن؛ لأن العمل إنما يكون في الأقوال يعني: يأتي أمر فيحتاج إلى امتثال فيقال: عملاً يعني: امتَثل، ولذلك في قوله: كل أمرٍ ذي بال الأولى أن يقال: وعملاً بخبَرِ كل أمرٍ ذي بال، وأما التأسي والاقتداء هذا لا يكون في الأقوال وإنما يكون في الأفعال.

حينئذٍ الأولى أن يقال: عملاً بكتابه "يعني: اقتداءً" بكتابه العزيز؛ لأنه ابتدأ بالبسملة ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:1 - 2] أول القرآن البسملة.

(وبخبر كل أمرٍ ذي بالٍ) يعني: وعملاً.

عملاً هذا مفعولٌ لأجله أو حال من فاعل ابتدأ .. ابتدأ بالبسملة حال كونه عاملاً، أو مفعولاً لأجله يعني: لأجل العمل بكتابه العزيز، وبخبر، وهو مضاف وكلِّ على الإضافة.

(وبخبر كلِّ أمرٍ) يعني: شيء (ذي) يعني: صاحب (بالٍ) يعني: شرف.

(كل أمرٍ ذي بال) يعني: كل شيءٍ يُهتم به شرعاً.

(لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم) أي: بهذا اللفظ، هنا بباءين: ببسم الله. أي: بهذا اللفظ.

(وفي روايةٍ باسم الله) هل يتعين اللفظ؟ على الرواية الثانية باسم الله. لا يتعين اللفظ، لو قال: الرحمن كفى، لو قال: الجبّار العزيز كفى، ولذلك رواية الباءين أصح، وعليه يكون المراد به عين اللفظ.

أي: بهذا اللفظ، وفي روايةٍ (بسم الله) بباءٍ واحدةٍ أي: بأي اسمٍ من أسمائه.

قال: (كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم. أي: مقطوع البركة).

ص: 4

أجذمُ بالذال المعجمة، وهو في اللغة مقطوع الأنف يسمى أجذم.

والكلام من باب التشبيه البليغ أو استعارةٌ على مذهب السعدي في نحو: زيدٌ أسد، فهو أجذم يعني: فهو كالأجذم، التشبيه البليغ يحذف ذات التشبيه، حينئذٍ فهو أجذم أي: فهو كالأجذم هذا التشبيه.

أو استعارة مثل: زيدٌ أسدٌ.

وقوله: (أي: مقطوع البركة) بيانٌ لما آل إليه المعنى؛ لأن قوله: (فهو أجذم) هذا مقطوع الأنف، وهو ليس مقطوع الأنف وإنما المراد به التشبيه.

ما المراد هنا؟

(كل أمرٍ ذي بالٍ) الذي لا يبدأ بالبسملة ما شأن هذا الأمر الذي هو ذو بال؟ نقول: ما شأنه؟ أنه ناقص البركة، مقطوع البركة.

ولذلك قال: وهو وإن تم حساً إلا أنه ناقصٌ من جهة المعنى. يعني: لا يكون فيه بركة، إذا لم يكن فيه بركة يكون عنه الانصراف، فلا يشتغل به الناس.

إذاً: مقطوع البركة هذا تفسيرٌ من المصنِّف، ولذلك قال:(أي) لأنه فسَّر لفظاً مفرداًً (أجذم. أي: مقطوع البركة).

ويحتمل أنه فسَّر مركباً؛ لأنا قلنا: (فهو أجذم) تشبيه بليغ هنا إلى أي شيءٍ يئول؟ إلى كونه ناقص البركة، وحينئذٍ يحتمل الوجهين، وقلنا بعضهم يتوسع في (أي).

إذاً: قوله: (أي: مقطوع البركة) هذا بيانٌ لما آل إليه المعنى.

وفي روايةٍ أخرى للحديث السابق: (بحمد الله) يعني: كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه بحمد الله، وفي رواية:(بالحمدُ لله) بالرفع. رواه أبو داود وغيره وحسَّنه ابن الصلاح وغيره.

والحديثان ضعيفان كما هو معلومٌ في محله، قوله: حسَّنه ابن الصلاح وهو لا يرى التصحيح قيل: نقَل تحسينه، وقيل: إنما يمنع التصحيح دون التحسين.

هذا أو ذاك غلقُ باب التحسين والتصحيح هذا غير مسلَّم عند أهل العلم، سواء حسّنه ابن الصلاح أو غيره فالحديث فيه ضعف.

لكن العمل بهما من حيث المعنى من أدلة أخرى ثابت، لا يلزم أنه إذا ضعف الحديث قلنا: حديث ضعيف، أن مدلول الحديث الضعيف ألا يكون ثابتاً بحديثٍ صحيح.

ولذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {بسم الله الرحمن الرحيم إلى هرقل عظيم الروم .. } .

بدأ رسالته بالبسملة، وبدأ في خطبة النكاح بالحمدلة، وكذلك جرى عليه الصحابة والتابعون والأئمة .. إلى آخره، بل قال الشافعي: يستحب لكل دارسٍ ومدرسٍ وخطيبٍ وخاطبٍ .. إلى آخره أن يبدأ بالحمدلة، دل ذلك على أن الحكم ثابت، ولكن هم يتوسعون في العمل بالحديث الضعيف، أنه في مقام الأعمال التي هي ليست بإيجابٍ ولا تحريم، والعمل بالحديث الضعيف في مثل هذا مقبولٌ عندهم، الصواب المنع منه.

قال: (نَحْمَدُ اللهَ) بعدما بدأ بالبسملة ثنى بالحمدلة.

قلنا: تُورد في مقدمات الكتب ثمانية أشياء .. مقدمة الكتاب تشتمل على ثمانية أشياء:

أربعة واجبة وهي: البسملة، والحمدلة، والشهادتان، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

وأربعة مستحبة: أما بعد، تسمية نفسِه، تسمية كتابِه، براعة الاستهلال. هذه أربعة.

ص: 5

إن أتى بها خاصةً الواجبة لأنه يُلام في تركها فعلى ما جاء به، وإن لم يأت بها فحينئذٍ نعتذر عنه نقول: لعله أتى بها لفظاً؛ لأن النص هنا {كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه} فيه عموم، قال:{لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم} هذا يحتمل الكتابة ويحتمل النطق.

إذاً: لو بدأ كتابه ونطق بالبسملة لا مانع منه؛ لأنه أطلق النص، وأنت إذا قيّدته في الكتابة دون النطق حينئذٍ صار تقييد بغير مقيِّد، فيحتاج إلى دليل ولا دليل. إذاً: فيه عموم.

قال: (نَحْمَدُ اللهَ)(أي: نثني عليه بصفاته).

يعني: فسّر الجملة الفعلية "نحمدُ" بنثني عليه "على الباري جل وعلا" بصفاته.

صفاته الذاتية وصفاته الفعلية على الصحيح، هو لم يرد ذلك، بصفاته أي: بصفات الباري جل وعلا.

الذاتية والفعلية، المتعدية واللازمة.

اشتهر عندهم أن الحمد في العرف: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعمٌ على الحامد أو غيره. "من حيث إنه منعم" هذه حيث هنا للتقييد.

حيث تأتي في الكلام لثلاثة أشياء: تأتي للتقييد، وتأتي للتعليل، وتأتي للإطلاق. ثلاثةٌ لا رابع لها.

من حيث ُكذا.

الإنسان من حيث هو إنسان. هذا للإطلاق.

من حيث إنه منعِمٌ. هذه تكون للتقييد.

حينئذٍ من حيثُ نقول: له مفهوم، من حيث إنه منعمٌ.

إذاً: من جهة الإنعام يعني: الصفات المتعدية، وأما الصفات غير المتعدية هذه ليست داخلة في الحد، وهذا سبب الخلل في هذا التعريف من كونه غير مقبول عند أهل السنة والجماعة: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعمٌ، إذا لم ينعم لا يُحمد؟ نعم لا يُحمد، وإنما يُمدح أو شيءٌ آخر.

ولذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: الحمدُ هو ذكرُ محاسن المحمود، مع حبه وتعظيمه وإجلاله.

شيخ الإسلام لا يسير على الطريقة المعهودة: الجنس وإلى آخره وفصل، وإنما يبيِّن ما دل عليه الكتاب والسنة.

"ذكر محاسن المحمود" الذكر قد يكون باللسان وقد يكون فالفعل.

"محاسن المحمود" أطلق رحمه الله تعالى وهو الصحيح، فيشمل حينئذٍ الصفات الذاتية كالكبرياء، هل يُحمد الله تعالى على كبريائة؟ نعم، هل هو متعدي؟ لا.

هل يُحمد على استوائه على العرش؟ نعم يُحمد.

هل يُحمد على إنعامه؟ نعم يُحمد وهذا محل وفاق، لكن تقييد الحمد أنه يكون في مقابل الإنعام فقط، هذا ليس بصواب.

إذاً: نُثني عليه بصفاته.

(إذْ الحمد هو الثناء) إذ هذا للتعليل، يعني: لماذا فسَّرت؟ هو يعلل لنفسه، لماذا قلت:(نَحْمَدُ اللهَ)(أي: نثني عليه) لماذا فسَّرت الحمدَ بالثناء؟

والثناء معلومٌ أنه الذكر بالخير على قول الجمهور أنه يختص بالخير، يعني: إذا قال: يثني زيدٌ على عمرٍ هكذا أثنى، ولم يقيده بخيرٍ ولا شر يُحمل على الخير. يعني: ذكره بخير؛ لأن الثناء محصورٌ في الذكر بالخير، لكن ذهب بعضهم إلى أنه ليس خاصاً، وإن كان أكثر الاستعمال إنما يكون الثناء في الخير، استدل على ذلك بحديث:{مُرَّ بجنازةٍ فأثنَوا عليها خيراً، قال: وجبت .. فأثنوا عليها شراً} هذا الشاهد {أثنوا عليها خيراً} ، {أثنوا عليها شراً} إذاً الثناء يكون في الخير ويكون في الشر، وهذا مذهب ابن عبد السلام رحمه الله تعالى.

(إذ الحمدُ هو الثناء باللسان) وهذا في اللغة، الثناء عرفنا المراد.

ص: 6

(باللسان) المراد به الحمد هنا حمد المخلوق، وإذا كان كذلك فالثناء إنما يكون باللسان، واللسان هو آلة النطق المعهودة.

إذا كان الثناء لا يكون إلا باللسان حينئذٍ يكون قوله: (باللسان) هذا قيدٌ لبيان الواقع. يعني: كالصفة الكاشفة.

الصفة الكاشفة التي يؤتى بها لتأكيد المعنى فقط، أو لتوضيح المعنى لا للاحتراز، فإذا لم يكن إلا زيدٌ العالم، إذا قلت: جاء زيدٌ العالم. ليس احترازاً ليس عندنا زيد آخر ليس بعالم، فحينئذٍ صارت للكشف والإيضاح ليس للاحتراز.

لكن لو عندنا زيد عالم وزيود جهلاء، وقلت: جاء زيدٌ العالم. صارت للاحتراز.

إذاً: زيدٌ العالم لا غيرَه، زيدٌ الجاهل لم يأتِ.

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) [البقرة:21]((الَّذِي)) نعت ((رَبَّكُمُ)) هذه صفة كاشفة.

لو قلت: للاحتراز. جاءت مصيبة.

((رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) إذاً: ربَّك الذي لم يخلقك لا تعبده، يكون فيه إثباتٍ لربٍ ليس بخالق! لا ليس هذا المراد، وإنما المراد به للكشف فقط والإيضاح والتأكيد.

إذاً: باللسان يكون للتوكيد .. يكون لبيان الواقع.

(الثناء باللسان على الجميل الاختياري) على هنا للتعليل، وعلى تأتي للتعليل كاللام أي: لأجل فعل الجميل. "فعلى" بمعنى لام التعليل.

وقوله: (على الجميل الاختياري) أي: حقيقة.

قال العطّار: أي حقيقة كأفعالنا الصادرة عنَّا، وأفعالِه تعالى الصادرةِ عنه.

(أو حُكماً كحمده تعالى على صفاته الذاتية، فإنها كانت منشأ أفعالٍ اختيارية نُزِّلت مُنزلتها) هذا جئنا في المحذور.

أنه جَعلَ حمد الباري جل وعلا يعني: حمد المخلوق للباري. جعله منصبّاً ابتداءً حقيقة على الصفات المتعدية، وأما الصفات غير المتعدية فهذه لأنها منشأ للصفات المتعدية، حينئذٍ صار حمدُها تبعاً لا أصالة، ولذلك يقول:(أو حكماً) يعني: لا حقيقة.

(كحمده تعالى على صفاته الذاتية، فإنها) تعليل (كانت منشأ أفعالٍ اختيارية نُزّلت منزلتها) والأفعال الاختيارية يقصد بها هنا المتعدية كالإنعام ونحوه.

(على الجميل الاختياري) احترز به عن الجميل الاضطراري كالجمال، فإذا أثنيت على زيدٍ بكونه جميلاً أو طويل القامة أو نحو ذلك، هذا لا يسمى حمداً وإنما يسمى مدحاً؛ لأنه ليس له فِعلٌ فيه.

الذي يُثنى ويُنسب للعبد هو الفعل الاختياري له الذي فعَله وصنَعه هو الذي يُثنى عليه، وأما الشيء الذي يكون بفعل غيرِه كفعل الباري جل وعلا بأنْ خلقَه جميلاً مثلاً أو طويلاً، أو كان طوله محموداً فحينئذٍ إذا أثنى عليه بذلك يسمى مدحاً لا حمداً.

إذاً: (الاختياري) احترازاً عن الاضطراري والقهري.

(على جهة التبجيل والتعظيم) والتعظيم هذا عطف تفسير، لأن التبجيل هو عينُه التعظيم يعني: نفسّره به، ما معنى التبجيل؟ هو التعظيم.

قال: (على جهة التبجيل والتعظيم).

هذا القيد قوله: (على جهة التبجيل) ليس مِن ماهيِّة الحمد. يعني: ليس داخلاً في الماهيّة، بل شرطٌ إما لتحقُّقه أو للاعتداد به .. إما ليتحقق وإما ليُعتدَّ به.

والجار والمجرور حال من الثناء أي: حالة كون ذلك الثناء واقعاً على جهة التبجيل، وعلى للاستعلاء المجازي.

ص: 7

قال: (سواءٌ تعلَّق بالفضائِل أم بالفواضل) هذا بيانٌ لمتعلَّق الحمد.

تصريحٌ بمتعلَّق الحمد، وإلا فالتعريف تصويرٌ لماهيّة المحدود لا بيانُ عمومه، فيكون هذا خارجاً عن التعريف، وسواء هنا بمعنى الاستواء.

(سواءٌ تعلَّق بالفضائل) تعلَّق ما هو الذي تعلّق؟ الثناء.

(سواءٌ تعلَّق) الثناء على الوجه المذكور السابق بالقيود السابقة (بالفضائل).

قال هنا: أي وقعَ الثناء على جميلٍ من الفضائل، وقوله: الفضائل جمع فضيلة أي: الصفة التي يتوقف إثباتُها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره.

هي التي لا يتوقف إثباتها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره كالعلم والتقوى؛ فإنها لازمةٌ في الأصل، هذه غير متعدية، ولذلك قال: لا يتوقف.

(أم بالفواضِل) جمع فضيلة أي: الصفة التي يتوقف "عكس السابقة" إثباتُها لموصوفها على ظهور أثرها في غيره كالشجاعة، الشجاعة هذه ما يكون شجاع وهو في بيته أغلق الباب، لو ادَّعى الشجاعة ما يُقبل منه؛ لأنه لا بد من دليل. هذه دعوى فلا بد أن يثبتها بالقول أو بالفعل.

قال: (كالشجاعة والكرم والعفو والحِلم) هذه كلها صفاتٌ متعدية.

إذاً: (الفضائل) المزايا الغير متعدية كالعلم والقدرة، (والفواضل) عكسها: المزايا المتعدية.

بمعنى أن النسبة إلى الغير مأخوذةٌ في مفهومها كالإنعام.

إذاً: عرَّف المصنف الحمد هنا -الحمد اللغوي- بقوله: (الثناء باللسان على الجميل الاختياري) إلى هنا انتهى الحد.

(على جهة التبجيل والتعظيم) هذا قلنا ليس من ماهيِّة الحمد، وإنما هو بيان شرطٍ إما للاعتداد به أو لتحقُّقه.

(سواءٌ تعلَّق .. ) إلى آخره، هذا بيانٌ وتصريحٌ بمتعلَّق الحمد.

وسواءٌ هنا قيل مرفوعٌ على الخبرية للفعل المذكور بعده، كأنه قال: تعلُّقُه بالفضائل وتعلقه بالفواضل سواءٌ، وهو خبرٌ مُقدَّم وما بعده ..

قال هنا: (وابتدأ ثانياً بالحمد لما مرَّ).

ما هو الذي مر؟ ابتداءً بالقرآن وعملاً بالحديث .. السنة، جمَع بينهما.

(وجمع بين الابتدائين عملاً بالروايتين السابقتين).

جمعَ المصنِّف بين الابتدائين. يعني: ابتدأ بالبسملة وابتدأ بالحمدلة. لماذا؟

(عملاً بالروايتين السابقتين) يعني: الجمع بين الحديثين أولى من أن يَعمَل بأحدهما ويَهجُر الآخر.

(وإشارةً إلى أنه لا تعارض بينهما) نعم لا تعارض بينهما؛ لأنه متى ما أمكن .. هذا بناءً على التسليم بصحة الحديث وإلا ما جاء في القرآن يكفي ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:1 - 2] وجرى على ذلك أهل العلم وهو محل إجماعٍ عملي.

ولذلك ذكر ابن حجر في الفتح قال: وقد استقر عمل الأئمة المصنِّفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية، وهذا محل وفاق ولا إشكال فيه، لكن الكلام في الحديث.

قال: (وإشارةً إلى أنه لا تعارض بينهما) يعني: بين الحديثين.

(إذْ) للتعليل (الابتداء نوعان: ابتداءٌ حقيقي وابتداءٌ إضافي).

ابتداءٌ حقيقي هو الذي لم يُسبَق بشيء البتة ولا حرف. (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) هل سبقه شيء؟ لا.

ص: 8

الابتداء الإضافي يعني: بالإضافة إلى ما بعده، بالنسبة إلى ما بعده، حينئذٍ الابتداء الإضافي هو الذي لم يُسبَق بشيءٍ من المقصود، وقد يسبقه شيءٌ من غير المقصود، فإذا قال:((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:1 - 2].

((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) هل سبقها شيءٌ مما يتعلق بشرح الكتاب أو المنطق؟ لا لم يسبقه شيء، لكن هل سبقه شيءٌ آخر غير المقصود؟ نعم.

هذا يسمى ابتداءً إضافياً يعني: بالنسبة إلى ما بعده.

إذْ الابتداء حقيقي وإضافي، فالحقيقي حصل بالبسملة، والإضافي بالحمدلة جمعاً بين النصين.

(وقدَّم البسملة) هذا سؤال أو اعتراض، إذا أمكن الجمع بين النصين.

قلنا كلٌ منهما يصح الابتداء به، لماذا قدَّم البسملة وأخّر الحمدلة، لم لا يعكس؟ ما دام هذا ابتداءٌ حقيقي وهذا ابتداءٌ إضافي لماذا لا يعكس؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، بسم الله الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله. يصح أو لا يصح؟

من حيث الجواز لا إشكال فيه، لكن من حيث الترتيب الشرعي الذي هو المستحب فيقدِّم البسملة ثم الحمدلة؛ اقتداءً بالكتاب، لأننا وجدنا الكتاب العزيز الذي هو القرآن جمعَ بين الابتدائين: الابتداء بالبسملة والابتداء بالحمدلة، وقدَّم البسملة على الحمدلة، وهذا محل وفاق.

قال: (وقدَّم البسملة عملاً بالكتاب والإجماع) لو قال: اقتداءً بالكتاب لكان أولى أو تأسياً بالكتاب "يعني: بالقرآن" حيث بدأ أول الكتاب بالبسملة ثم ثنَّى بالحمد ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] أول آية في الفاتحة.

قال هنا: (واختار الجملية الفعلية على الاسمية هنا وفيما يأتي قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).

قال: (نَحْمَدُ اللهَ) جاء بالجملة الفعلية، ولم يأت بالجملية الاسمية.

قال: (واختارَ الجملية الفعلية).

اختار يعني: قدَّم.

يعني: يجُوز الوجه الآخر وهو الجملة الاسمية، لكن اختارَ يعني: قدّم.

قدّم الجملية الفعلية يعني: المبدوءة بالفعل وهي: (نَحْمَدُ اللهَ) على الاسمية وهي: الحمد لله، وإن كانت هي الصيغة الشائعة، ولذلك جاء في القرآن دائماً في أول الآيات وفي خواتمها يأتي: والحمدُ لله رب العالمين، الحمدُ لله رب العالمين. يأتي بالجملة الاسمية.

لكن قد يُعدَل عن الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية لنكتة، ولذلك جمع بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: إنَّ الحمدَ لله. هذه جملة اسمية.

"إنَّ" إذا دخلت على المبتدأ لا تخرجه عن أصله.

"إن الحمد لله" جملة اسمية، "نحمده" جملةٌ فعلية.

إذاً: لو كانت الجملة الفعلية هي عين الجملة الاسمية في المعنى والدلالة لكان هذا حشواً، إذاً: لا بد من الفرق بينهما، وإلا لقلتَ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد زاد جملة هنا وهو أفصح البشر عليه الصلاة والسلام، فحينئذٍ نحكم عليه بكونها حشواً لأنها لا فائدة فيها، ولذلك نقول: الجملة الفعلية تغاير الجملة الاسمية.

الجملة الاسمية قالوا تدل بالوضع على مطلق الثبوت، والمراد بالثبوت الحصول.

لو قلت: زيدٌ قائم. دلت الجملة الاسمية على ثبوت قيام زيد، وعرفنا كيف أخذنا ثبوت قيام زيد.

ص: 9

زيدٌ قائمٌ: ثبوت قيام زيد. دلَّت على الحصول يعني: وُجد.

تَفهَم من هذا التركيب: زيدٌ قائمٌ. أنَّ زيداً لم يكن قائماً ثم قام، حينئذٍ نقول: دلَّت الجملة الاسمية على مطلق الثبوت والمراد به الحصول يعني: الإيجاد.

هل تدل على الاستمرار؟

الجواب: لا. لا تدل على الاستمرار.

اتَّصف زيدٌ بالقيام فقط، هل قيامه مستمر إلى زمن التكلُّم أو ما بعده؟ الجملة لا تدل على ذلك، هل هذا القيام مقيَّد بزمن؟ الجواب: لا. ليس مقيداً بزمن وإنما قائم إذا أردنا النظر فيه على حد ذاته فهو اسم فاعل ويدل على الحال فقط، قائمٌ يعني: في وقت، هـ قائمٌ هو زيدٌ، زيدٌ قائمٌ هو.

إذاً: الجملة الاسمية لا تدل على الزمن ولا تدل على التجدُّد، وإنما تدل على حصول الشيء بعد أن لم يكن .. اتصف زيدٌ بالقيام بعد أن لم يكن.

زاد هنا -كما قال هنا-: (على وجه الثبات والدوام) ولذلك لعله يمر بك أن الجملة الاسمية تدل على الدوام، الدوام هذا كيف نأخذه؟

يعني: زيدٌ متصفٌ بالقيام على جهة الدوام. أحدُ احتمالين:

إما أن يؤخذ هذا الدوام والثبات أن القيام استقر لزيد حتى يأتي دليل آخر يدل على أن زيد تركَ القيام، هذا المراد بالدوام هنا.

زيدٌ قائمٌ. إذاً: ثبت له القيام، فنحتاج إلى دليل آخر يدل على عدم القيام؛ على أنه تركَ القيام، من أين نأخذه؟

قالوا: من غلبة الاستعمال. يعني: أكثرُ استعمال العرب الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت والدوام، الدلالة على الثبوت هذا لازمٌ لأنه في أصل الوضع. يعني: الحصول.

لكن بقرينة خارجية وهي غلبةُ الاستعمال نقول: تدل على الدوام، فحينئذٍ (الحمدُ لله) نقول: الحمد دائمٌ ما دام الله تعالى موجود وهو باقٍ. إذاً: الحمد هنا رُكِّب هنا وعُلِّق على لفظ الجلالة، الحمدُ هذا يُعتبر محمولاً وللهِ يُعتبر موضوعاً.

ولما كانت الذات مستمرة باقية أبد الآباد بصفاته جل وعلا وأسمائه ناسب أن يأتي بما يدل على الثبوت والدوام، لكن الثبوت والدوام ليس من أصل وضعِ الجملة الاسمية وإنما هو بغلبة الاستعمال.

والغالب عند أهل البلاغة يقولون: الجملة الفعلية أصلٌ للجملة الاسمية. يعني: الجملة الاسمية معدولة يعني: حُوِّلت الجملة الفعلية فصارت جملة اسمية، كيف؟

قالوا: أصلُ "الحمدُ لله": حمدتُ حمداً لله، حُذِف الفعل اكتفاءً بدلالة المصدر .. حُذف الفعل استغناءً عنه واكتفاءً بدلالة المصدر؛ لأنهما متحدان من حيث الدلالة، صار: حمداً لله.

النصب هنا يُشعر بوجود الفعل ونحن نريد أن يكون الفعل نسياً منسياً .. ذهب في خبر كان، إذاً: ماذا نصنع؟

قالوا: إذاً نعدل عن النصب إلى الرفع للدلالة على الدوام، فقيل: حمدٌ لله، ثم دخلتْ أل المعرِّفة فقيل: الحمدُ لله، هذا إذا صح أن يُقدَّر بهذه السهولة في هذه الجملة، لكن العشرات بل مئات الجمل لا يمكن أن تأتي بالجملة الاسمية وتكون معدولة عن الجملة الفعلية.

وإنما نقول الصواب -فراراً من التكلُّف والتعسّف-: أن الجملة الاسمية تدل بالوضع على مطلق الثبوت الذي هو الحصول وتدل على الدوام لكن من جهة غلبة الاستعمال، أما العدول هذا وإن أكثر منه البيانيون إلا أن فيه تكلفاً واضحاً بيِّن.

الجملة الفعلية تدل على التجدد والاستمرار.

ص: 10

أي جملة هذه؟ جملة فعلية يعني: مبدوءة بفعل، ومعلوم أن الفعل إما ماضي وإما مضارع؛ لأنه هو الذي يدل على الحدوث، أما صلِ لم يكن هو في المستقبل، قم هذا ليس الحدث موجوداً، إنما الذي يدل على وجود الحدث هو الفعل الماضي والفعل المضارع.

"قام زيد" ماذا تفهم لو قيل لك: قام زيدٌ، صلى عمروٌ؟

حدوث القيام، قام زيدٌ حدَث القيام، حدث بعد أن لم يكن .. نتركُ الزمن.

حدث بعد أن لم يكن، لم يكن قائماً ثم قام.

إذاً: هذا تجدُّد أو لا؟ تجدد. بمعنى أن زيداً لم يكن متصفاً بالقيام ثم كان.

فنقول: حدث له قيامٌ لم يكن، وهنا نقف نرجع إلى درس أمس قلنا: أنواع العلم الحادث.

الحادث قالوا: هذا احترازاً عن علم الله عز وجل، وهذا خطأ.

هل يَلزم من كون الشيء حادثاً أن يكون مخلوقاً؟ الجواب: لا.

حتى في اللغة حدث حادث المرور مثلاً تقول: شيءٌ لم يكن ثم كان، يسمونه حادث، سواء كان في الأرض أو في الجو .. حدث حادث يعني: لم يكن ثم كان، هذا معناه اللغوي والاصطلاحي.

هل يدل على أنه مخلوق؟ الجواب: لا؛ لأننا قد نصفُ بعض صفات الباري جل وعلا بأنها لم تكن ثم كانت، وهذا هو المعنى: لم يكن القيام ثم قام.

"قام زيدٌ" لم يكن متصفاً بالقيام ثم قام، هذا تغيُّر، قد يوجد هذا المعنى في صفات الباري جل وعلا، في صفات المخلوق، الحدوث هذا مخلوق لم يكن ثم كان، قيام فعلٌ له وهو حادث إذاً مخلوق.

لم يكن مستوياً ثم استوى. حدَث؟ حدث نعم، لم يكن ثم كان.

الآن نجزِم ونحن هنا بأن الباري لم ينزل النزول اللائق به جل وعلا في ثُلث كل ليلة، الآن نعتقد عدم النزول أو النزول؟ نعتقد عقيدة ما فيه شك لم ينزل، إذا جاء ثلث الليل الأخير نزل، إذاً لم يكن ثم كان .. لم يكن النزول ثم كان.

إذاً: العالم متغيِّر، وكل متغيرٍ حادث فالعالم حادث هذا فيه نظر، ليس بصحيح.

فقولهم: احترازاً عن علم الله عز وجل. نقول: هذا ليس مسلَّماً؛ لأن مرادهم أن الحدوث ملازمٌ للخلق والإيجاد، فكل حادثٍ فهو مخلوق.

ولذلك يقال: سبحانه الذي لا يتغيَّر. ويلتقطها بعض عوام أهل السنة .. سبحان الذي لا يتغير نقول: لا. هذا غلط، هذا على عقيدة الأشاعرة وليس على عقيدة أهل السنة والجماعة.

"قام زيدٌ" قلنا هذا فيه تجدُّد وهو عدم القيام ثم كان.

يقوم زيدٌ. ماذا تفهم منه؟ ثبوت القيام، وباعتبار التجدُّد: لم يكن القيام ثم كان.

إذاً: يتحد الفعل الماضي والفعل المضارع في الدلالة على التجدُّد بمعنى واحد وهو لم يكن ثم كان، ثم يزيد الفعل المضارع بالدلالة على الاستمرار، وهو الذي يُعنَى به بأن الجملة المضارعية تدل على التجدد والاستمرار، ومرادهم بالتجدد ليس هو التجدد الذي يدل عليه الفعل الماضي، الفعل الماضي كذلك يدل على التجدد لكن بمعنى: لم يكن ثم كان. وهذا القدر مشترك مع الفعل المضارع كذلك ولكن يزيد على الماضي بكونه يقع مرة بعد أخرى، فرْقٌ بين النوعين.

ولذلك قال: إن الحمد لله نحمده، حَمِد أولاً بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام لتعليق الحمد بالذات الدائمة المستمرة، ونحمده المراد هنا بالحمد المتعلق بالإنعام المتجدد مرةً بعد مرة، فحصل الفرق بين الجملتين.

ص: 11

هنا قال: (واختار الجملة الفعلية على الاسمية هنا) يعني: في الحمد وفيما يأتي، قوله: نصلي ونسأله لكن ليس بظاهر، الصواب أنه مخصوصٌ هنا، وأما نصلي ونحوه فهذا الأولى أن يقال بأنه للمُشاكلة فقط، لو أسقطه لكان أولى، والأولى في توجيه الاختيار فيها بمُشاكلته جملة الحمد لتناسُق الجُمل، ويحسن العطف.

قال هنا: (قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).

والدوام هذا قيل: تفسيرٌ للثبات.

يعني: لماذا لم يأت بالجملة الاسمية؟ وهذا فيه تكلُّف وإلا النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الحمد لله، والصحابة يحمَدون الله تعالى، والتابعون كذلك، والقرآن أوله ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] ففيه تعليمٌ للناس أن يقولوا: الحمدُ لله رب العالمين.

ولذلك قدَّر بعضهم في أول الفاتحة: قولوا: الحمد لله رب العالمين، والجملة في محل النصب.

إذاً لا إشكال فيه، لكن هذا التعسُّف من أجل الاعتذار عن المصنف.

قال: (قصداً) العدول هذا قصداً (لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها) لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام، فإذا حمِد وأثنى على الله تعالى بهذه الجملة هو عاجز لا يستطيع أن يُثني على الباري جل وعلا بما دلت عليه هذه الجملة، فعَدل عنها إلى ما يفيد التجدد تارة بعد أخرى، فقد يقع منه حمدٌ ثم يقف، ثم يقع منه حمدٌ ثم يقف .. إلى آخره.

لكن نقول: هذا فيه شيءٌ من التعسُّف لأنه مخالفٌ للسنة أصلاً، ومخالفٌ لتعليم القرآن.

(قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).

وأتى بنون العظمة: نحمد، النون هذه تدل على المتكلم ومعه غيرُه إما حقيقة وإما ادعاءً، وهنا يحتمل أنه تكلم واستشعر معه غيرَه، من باب التواضع والانكسار، وأنه لا يستطيع بنفسه أن يحمَد الله تعالى، وإنما يُشرِّك معه غيره.

فنقول: لو شَرَّكت معك غيرك هل أعطيت الباري جل وعلا حقه من التعظيم والتبجيل؟ إذاً: فيه شيءٌ من التكلف.

قال: (إظهاراً لملزومها) الذي هو العظمة.

(الذي هو نعمة من تعظيم الله تعالى له بتأهيله للعلم امتثالاً).

يعني: ليس المراد هنا أن معه غيرَه، وإنما فيه شيءٌ من التعظيم: عظَّم نحمد الله، يعني: فيه إشارة إلى تعظيم نفسه، لماذا تعظيم نفسه؟

لأن الله تعالى هو الذي عظَّمه، عظّمه بأن جعله من أهل العلم، وقال تعالى:((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) [الضحى:11] ولذلك قال: (إظهاراً) أي: قصداً لإظهار ملزومِها الذي هو التعظيم.

ولا شك أن تعظيم الله تعالى للعبد بتأهُّله للعلم من أجل النعم، فيكون التعظيم من أفراد النعم. ففيه إشارة إلى هذا المعنى.

(إظهاراً لملزومها الذي هو نعمة من تعظيم الله تعالى).

من تعظيم. هذا بيانٌ للملزوم، فتكون العظمة لازمة والتعظيم ملزوم.

امتثالاً لقوله تعالى: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) [الضحى:11].

ثم قال: (أي: نحمده حمداً بليغاً) أعاد نحمده لطول الفصل.

(نحمَده) يعني: نحمد الله تعالى أي: نُثني عليه الثناء اللائق به جل وعلا.

ص: 12

(حمداً بليغاً) أي: بالغاً غاية الكمال؛ حيث صدر عن كمال الحضور القلبي بحسب الظن يعني: حسن الظن بالمصنِّف، مع ما أفادته الجملة الفعلية التجدُّد والحدوث.

(عَلَى تَوْفِيقِهِ) ومر معنا التوفيق كلام ابن القيم رحمه الله تعالى: أن لا يكلك الله إلى نفسك. يعني: أن لا يُخلي بينك وبين نفسك؛ لأنه لو خُلِّي بينك وبين نفسك فإن النفس لأمّارة بالسوء.

والخذلان عكسُه: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فيُخلي بينك وبينها. فحينئذٍ النفس تكون هي الآمرة والناهية، فإذا كان كذلك هلك الإنسان.

قال هنا: (أي خلقِه قدرة الطاعة فينا عكسُ) يعني: ضد "خلاف"(الخذلان، فإنه خلق قدرة المعصية).

وهذا بناءً على طريقة الأشاعرة، وهو المراد بالكسب، لذا قال هنا: أي الكسب المقارِن لها.

الاستطاعة والطاقة والقدرُ والوسعُ هذه ألفاظٌ متقاربة. يعني: إذا تكلَّم أهل السنة في هذا المقام قالوا: الاستطاعة مرادهم القُدرة، ومرادهم كذلك الطاقة، ومرادهم كذلك الوُسع.

فإذا جاء اللفظ في الكتاب والسنة بالوسع والقدرة .. كلها بمعنى واحد.

وتنقسم الاستطاعة -أي: القدرة- إلى قسمين عند أهل السنة والجماعة، وهو قول عامة أهل السنة والجماعة، أشار إلى ذلك التفصيل الطحاوي رحمه الله تعالى في قوله: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق، الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به تكون مع الفعل.

وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكُّن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، إذاً: المسلم عنده استطاعتان: استطاعة مع الفعل لا يكون الفعل إلا بها، وهذه التي عناها المصنف وينفُون ما قبلها، واستطاعة قبل الفعل وهي كونُه أهلاً بالتكليف.

حينئذٍ عنده من سلامة الآلات ما يُقبِل على الصلاة، ما يُقبل على الحج ونحو ذلك.

هذه تسمى استطاعة أو لا؟ تسمى استطاعة، عند بعضهم لا تسمى استطاعة وهو الذي قدَّمه المصنف هنا.

قال هنا: وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى:((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة:286] يعني: ما في وسعها، والذي في وسعها هو الذي تقدِر على التلبُّس به.

فالعبد له قدرةٌ هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرةٍ معدومة، وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع والتمكُّن وسلامة الآلات فهذه قد تتقدم الأفعال، وهذه القدرة هي المذكورة في قوله تعالى:((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)) [آل عمران:97] إلى آخر الكلام الذي ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية فليُرجَع إليه.

والمراد هنا التشويش على المصنف فقط، ليس المراد تحقيق المسألة.

أي: (خلقِه قدرة الطاعة فينا عكس الخذلان، فإنه خلق القدرة المعصية) هذا تفسير الكسب عند الأشعرية.

قال: (وإنما حمِد الله على التوفيق أي: في مقابلته لا مطلقاً).

يعني: الحمد هنا مقيَّد أو مطلق؟ مقيّد (نَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِهِ) إذاً قيَّده.

أيهما أفضل الحمد المطلق أو الحمد المقيّد؟ قولان: منهم من قدّم المقيد، ومنهم من قدّم المطلق.

ص: 13

لكن ظاهر الكتاب والسنة التقييد كثير فيه .. في القرآن أكثر الحمد مقيّد.

قال هنا: (وإنما حمد الله على التوفيق أي: في مقابلته لا مطلقاً؛ لأن الأول واجب) يعني: المقيَّد (والثاني مندوب).

(الأول واجب) أي: اعتقاد كون النعمة من الله تعالى واجب.

(والثاني مندوبٌ) أي: يثاب عليه ثواب المندوب.

فقد ظهر أن الحمد المقيَّد أفضل من المطلق، ولأنه أكثرُ ما ورد في القرآن والسنة، وقيل: المطلق أفضل لصِدقه على جميع المحامد كلها معلومِها وغير معلومها. والحمد المطلق أن لا يلاحِظ شيئاً من النعم، والحمد المقيّد بأن يلاحظ نعمة معيّنة.

قال هنا: (وَنَسْأَلُهُ طَرِيقةً هَادِيةً) أي: دالّة على الطريق المستقيم.

(نَسْأَلُهُ) هذا الذي قال هناك، هنا وفيما يأتي نسأله، داء بالنون الدالة على العظمة، لماذا؟ للعلة السابقة، لكن الصواب أن يقال هنا: من باب المشاكلة يعني: ليوافق العطف. يعني: يعطف جملة فعلية مضارعية مبدوءة بالنون على سابقتها.

(نَسْأَلُهُ طَرِيقةً هَادِيةً) أي: دالةً لنا على الطريق، هذا بيان لمتعلَّقها لا تفسيرٌ لكلمة طريق في كلام المصنف.

قال: وفي نسخة (وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ) وهذه أحسن لأنها مراعاة للسجع (عَلَى تَوْفِيقِهِ.

وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ).

توفيقه .. طريقه. فهي أولى.

قال: (وَنُصَلَّي) كذلك جاء بالنون الدالة على العظمة للمشاكلة.

(عَلَى مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم، قلنا: هذا علمٌ شخصي منقولٌ من حُمِّد المضاعف.

قال: (من الصلاة عليه) يعني: نصلي ليست الصلاة التي هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، وإنما المراد من الصلاة عليه المأمور بها في خبر {أَمرنا الله أن نصلي عليك. فكيف نصلي عليك؟

فقال: قولوا: اللهم صل على محمدٍ .. } إلى آخره.

(وَنُصَلَّي عَلَى مُحَمَّدٍ).

قال: (من الصلاة) يعني: مأخوذةٌ من الصلاة، وقيّد بالظرف (من الصلاة)؛ لإخراج الصلاة بمعنى الأقوال والأفعال، ولإخراج الصلاة بمعنى الرحمة.

وقوله: (المأمور بها في قوله كذا) نقول: قبل ذلك قوله تعالى: ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56] فحينئذٍ نقول: صلَّوا. هذا أمرٌ، وجاء النص في الخبر المذكور الذي ذكره المصنّف، فحينئذٍ امتثالاً لهذين الأمرين في الكتاب والسنة نقول: نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك قدَّمه المصنف وهو يعتبر من الأمور الواجبات في مقدمة الكتب كما مر معنا.

قال: {فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمدٍ .. } إلى آخره.

قال المحشي هنا: وهو كما في رواية ابن سعدٍ رضي الله عنه قلت: {يا رسول الله! أَمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فسكت ثم قال .. } الحديث.

وفي رواية: {عرفنا كيف نسلِّم عليك فكيف نصلي؟} .

هذا أخذ منه بعض أهل العلم أن الصلاة كما تكون في التشهد الأخير تكون كذلك في التشهد الأول؛ لأنه هنا ليس فيه تفصيل قال: {إذا نحن صلينا} إذاً: ما قيَّد، هل الصلاة تكون في التشهد الأول أو تكون في التشهد الثاني؟

ص: 14

حينئذٍ جاء الاحتمال، الاحتمال قائم والسؤال وارد، وتركَ النبي صلى الله عليه وسلم الاستفسار، هذا يُحمل على العموم.

وَنَزِلَنَّ تَرْكَ الاِسْتِفْصَالِ

مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ

حينئذٍ يعم النص يعني: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول بعد السلام، ويصلي في التشهد الأخير. وهذا مذهب بعض أهل الحديث وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وكذلك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وهو ظاهر النص أنه يُصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والثاني.

وأما أنه {كأنه قاعدٌ على جمرٍ} الحديث ضعيف هذا، ثم لو صحَّ لا يدل على أنه لا يُصلَّى وإنما يُكتفى بالسلام، وإنما يدل على الخفَّة كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في ركعتي الفجر:{لا أدري هل قرأ بأم الكتاب أم لا} هل معنى ذلك أنه لا يقرأ بالفاتحة في ركعتي الفجر السنة؟ يعني: تقول: لا أدري هل قرأ بالفاتحة أم لا؟

يدل ذلك على الخفَّة فقط "السرعة يعني" تكون خفيفة، كذلك لو صلى في التشهد الأول يكون خفيفاً إذا صحَّحنا الحديث.

قال: (وهي من الله رحمةٌ).

(وهي) يعني: الصلاة.

(من الله رحمةٌ) لعبده.

(ومن الملائكة استغفار، ومن الآدميين تضرعٌ ودعاء) دعاء هذا عطف وتفسير، وهذا هو المشهور وهو ما حكاه الجوهري عن أئمة اللغة، ولكن ذكر أبو العالية معلَّقاً في البخاري {صلاةُ الله تعالى على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى} .

ولابن القيم رحمه الله تعالى كلامٌ كثير في هذه المسألة.

(وَعلى عِتْرتِهِ) عِتْرتِهِ بالمثناة فوق.

(أي: أهلُ بيته لخبرٍ وردَ به).

يعني: يُفسّر عِتْرتِهِ –العترة- بأهل بيته، قال: (هم عليٌ وفاطمة والحسن والحسين، أمهات المؤمنين، وقدّم هذا لوروده في الحديث.

وقيل: أزواجُه وذريته، وقيل: أهله وعشريته الأدنَيْن، وقيل: نسله ورهطه الأدنين. وعليه اقتصر الجوهري).

على كلٍ المسألة فيما يتعلق بالعِترة مسألة فقهية يتعلق بها مسألة الزكاة وغيرها، وذكر أقوالاً هنا.

قال هنا: (الأدنين) هذا قيدٌ لإخراج الأباعد (أهله وعشريته الأدنين) الأدنين هذا جمع أدنى، ذكره في الحاشية في التصنيف.

(وقيل: نسلُه ورهطه الأدنين) كذلك فيه احتراز عن الأباعد.

قال: (أَجْمَعِينَ) تأكيد.

(أَمَّا بَعْدُ) هذا من المستحبات، وذكرناها في مقدمات الكتب.

(يؤتى بها للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر).

يعني معناها الذي يؤتى به لأجله هو: أنه يُنتقل بها من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخر، أُسلوب بضم الهمزة يعني: نوعاً من الكلام، وليس المراد هنا أسلوب المدح أو الأمر إلى أسلوب النهي أو العكس، أو العام إلى الخاص لا، ليس هذا مرادهم.

وإنما مرادهم أنه ينتقل من المقدمة إلى الشروع في المقصود، وعملُهم جارٍ على هذا .. أنه يؤتى بها في ذكر أو الانتقال من المقدمة يعني: انتهت المقدمة (أَمَّا بَعْدُ) فحينئذٍ تشرع في المقصود بعد ذكر (أَمَّا بَعْدُ).

وهذا أسلوب في المقدمة، لها أسلوب، وكذلك المقصود له أسلوبٌ خاص، فحينئذٍ لا إشكال في أن كلاً منهما أسلوب.

هذا أسلوبٌ يعني: نوعٌ من الكلام وهذا أسلوبٌ يعني: نوعٌ من الكلام، فلا إشكال فيه ولا اعتراض.

ص: 15

قال: (يؤتى بها) يعني: بلفظ (أَمَّا بَعْدُ) وهي السنة، وإن اشتهر:(وَبَعْدُ).

وهي سنة يعني: مستحبة عند المصنفين، وهي سنة كذلك نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر) يعني: من أسلوب المقدمة إلى أسلوب الشروع في المقصود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بها في خُطبه يعني: على ما هي عليه (أَمَّا بَعْدُ) فصارت سنّة من جهتين: شرعية وسنّة اصطلاحية.

قال: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها).

(أَمَّا) هذا حرف شرطٍ وتفصيل، لكن التفصيل ليس لازماً لها في جميع أحوالها واستعمالاتِها، فهي هنا لمجرد التأكيد وهو تحقُّق وجود ما بعد الفاء لا محالة؛ لأنه عُلِّق على محقق الوقوع سواء جُعل بَعْدُ من متعلقات الشرط أو الجزاء، هذا أمّا، وهي ضُمِّنت معنى الشرط. ولذلك لزمها الفاء في الجواب.

(أَمَّا بَعْدُ. فَهذِهِ) الفاء هذه واقعة في جواب الشرط، أين الشرط؟

نقول: أمَّا مضمنة معنى الشرط؛ لأنها نائبةٌ عن: (مهما يكن من شيء) مهما، يكن، من شيء. هذه ثلاثة أشياء.

حُذِفت مهما، مهما هذا اسم شرط، وحُذف فعل الشرط، وحُذف ما تعلَّق به وهو قوله: من شيء.

وأُنيبت أمَّا مُنابها، ولذلك قال ابن مالك: أَمَّا كَمَهْمَا. أما مثل مهما ليست مثلها في الاسمية، أمّا هذا حرفٌ باتفاق، ومهما فيه خلاف والصحيح أنه اسم.

إذاً: أَمَّا كَمَهْمَا يعني: مثلها في الشرط.

قال هنا: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها) من الصلاة، والسلام .. ونحو ذلك.

(فَهذِهِ) الفاء واقعة في جواب الشرط.

هنا المصنّف فيما مضى -ما نبّهنا عليه- قال: نصلي ولم نقل ونسلّم، والمشهور عند كثير من المتأخرين أن إفراد الصلاة عن السلام مكروه والعكس بالعكس، فهل وقع في المكروه؟ نقول: الجواب: لا؛ لأن الصحيح أنه لا يُكرَه إفراد الصلاة عن السلام، يصح أن نقول: صَلَّى اللَّهُ على محمد. يصح وبدون كراهة، ولا إشكال فيه.

ويصح أن نقول: سلَّم الله على محمد، سلّم تسليماً. لا إشكال فيه، لا نقول بالكراهة.

وأما ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] نقول: هنا جمع بين أمرين، كما قال:((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [النور:56] فالمراد هنا المقارنة في الذكر كما قال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [النور:56] الواو دلَّت على المقارنة في الذكر يعني: ذُكِرا معاً.

كذلك ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] يعني: اجمع بين الأمرين.

ولا تعرُّض هنا لكراهة ولا غيرها، إن جَمع بينهما لا شك أنه كمال الامتثال، لو ترك أحدهما حينئذٍ نقول: لا إشكال فيه ولا نقول بالكراهة؛ لأن الكراهة هذه نهيٌ خاص. أين دليل النهي؟ من أين أخذتَه؟

إن أخذه من الجمع من الواو نقول: هذه دلالة اقتران، ودلالة الاقتران في الأصل أنها ضعيفة، لكن ليس مطلقاً.

ص: 16

دلالة الاقتران ضعيفة في الأصل، لكن قد يحتف بها قرينة فيُعمل بها كما إذا وقع على المقترِنين خبر موحَّد .. إذا جمعت بين متعاطفات وحكمت عليها بخبر واحد، الأصل فيها دلالة الاقتران معتبرة، ولذلك ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ)) [المائدة:90] رجسٌ هذا خبر الخمر، وما عُطف عليه داخلٌ تحته.

الأصل في مقتضى اللغة وكذلك في الشرع أنه إذا حُكم على متعددٍ بحكمٍ واحد الأصل فيه الاستواء.

على كلٍ المراد هنا: التنبيه إلى أن دلالة الاقتران لا تؤخذ من هذا النص ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] فيقال بكراهة إفراد أحدهما على الآخر؛ لأن دلالة الاقتران ضعيفة في الجملة "يعني: في الأصل" وقد يحتف بها قرينة فيُعمل بها، وذلك فيما إذا حُكم على المقترِنات بحكمٍ واحد.

قال: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها).

(فَهذِهِ) اسم الإشارة هنا قال: (المؤلفة الحاضرة ذهناً) يعني: الألفاظ الذهنية.

وإذا كان كذلك فحينئذٍ اسم الإشارة يكون مجازاً؛ لاستعماله في المعقول، والأصل أن يُستعمل في المحسوس، نقول: هذا زيدٌ، هذا الأصل في وضع الإشارة. يعني: لا يُستعمل في المعقولات، فإن استُعمل في المعقولات حينئذٍ نقول: هذا من قبيل المجاز.

(فَهذِهِ)(المؤلفة الحاضرة ذهناً، إن أُلِّفت بعد الخطبة، وخارجاً أيضاً) أي: كما أنها موجودة ذهناً فاسم الإشارة حقيقة حينئذٍ إن أُلِّفت قبلها.

هذا في التفصيل على المشهور.

والصحيح: أن المشار إليه ما في الذهن مطلقاً تقدَّمت الديباجة أو تأخرت؛ إذ لا حضور للألفاظ المرتبة ولا لمعانيها في الخارج.

إذا قيل: وجود ذهني ليس المراد أن هذه الألفاظ موجودة بذاتها في الذهن، وإنما المراد بها الملاحظة والاعتبار.

فالوجود الذهني عند بعض الحكماء: أنه يوجد لكل شيء مرسوم في الذهن "محسوس" وليس الأمر كذلك، وإنما المراد به: معانٍ قامت بالذهن -يعني: في الذهن- والمراد الملاحظة.

وإذا كان كذلك فلا إشكال في تسميته وجوداً ذهنياً.

قال: (فَهذِهِ رِسَالَةٌ) مبتدأ وخبر.

(رِسَالَةٌ) بكسر الراء مشتقةٌ من الرَسْلِ بفتح الراء وسكون السين، وهو الانبعاث على تُؤدَة يقال: ناقتٌ رَسْلٌ أي: سهلة السير.

(ففيه إشارة واضحةٌ إلى سهولة هذا المؤلَّف وقلّته كماً وإن عظُم كيفاً) لأن الرسالة في عُرف أصحاب التدوين: اسمٌ لأوراقٍ قليلة تحتوي على مسائل من العلم، لكنها من أنفس ما يُصنَّف في العلم، ومن أشد ما يزهد فيه طلاب العلم الآن ..

الرسائل المختصرات هذه من أنفس ما يُعتنى به؛ لأنها تشتمل على جمهور المسائل العلمية التي يكثر استعمالها. يعني: لو نظرت في الآجرومية أكثر ما يحتاجه الناطق المتكلم مما يتكلم به الكثير: مبتدأ وخبر وفعل وفاعل، ومتعلَّقات الجميع. تجدها كلها مفصَّلة في الآجرومية

وما قلَّ كالتنازع والاشتغال ما تجده؛ لأن التنازع قد يبقى الإنسان أيام هذا إن درى أنه قد تنازع عنده فعلان أو أكثر، حينئذٍ نقول: هذا قليل. فلا يحتاجه الإنسان.

ص: 17

ولكن هذه المؤلفات الصغيرة كالورقات، والآجرومية، والرحبية، والرسالة التي معنا .. هذه من يعتني بها عناية فائقة، يستحضرها استحضاراً. هذا ينطلق في العلم انطلاق كبير جداً، بخلاف الموجود الآن، يريدون العكس: فتح الباري، والمطولات، والألفية قبل أن يتقن الآجرومية، ويستعجل الآجرومية ومباشرة الألفية، لا بد من واسطة أو لا. على كلٍ تشويش .. الذهن مشوش عندهم.

فأقول: هذه الرسائل وإن صغُرت لكنها عظيمة لما اشتملت عليه من المسائل، فيحتاج الطالب أن يقرأها مرة ومرتين وثلاث وأربع .. حتى يضبطها حفظاً وفهماً، الفهم ليس بالهيّن.

يعني: لا يظن الظان أنك الآن تسمع هذا الكلام تفهمه مباشرة وانتهيت لا، بعض الفهوم تحتاج إلى تدرج يعني: قد تفهم فهماً عاماً ابتداءً، لكن الفهم العميق والغوص في المعاني هذا ما يأتيك، كمبتدئ تحلم إذا أردت أن تفهم كالمتكلم.

يعني: كتاب درسه المعلِّم قبل ثلاثين سنة ويعيده ويكرره تأتي أنت أول مرة تجلس وتريد تفهم مثله؟ يعني: لو نظرنا بمسألة عقلية هكذا صحيح؟ يعني: يدرس الآجرومية ويدرّسها عشرات السنين ثم تأتي أنت مباشرة ورِجل على رِجل وتريد .. ما فهمت الدرس، فيغضب ويمشي إلى آخره، أو يتكلم، هذا خطأ هذا غفلة.

لا يمكن أنك تفهم ابتداءً من أول مرَّة كفهم المتكلم، فهم المتكلم هذا طبَخ واحترق عنده. فمع السنين، ومع النظر، ومع التدريس، ومع التأليف، ومع الكتابة والإعادة، والنظر والمراجعة، والسؤال والنقاش نضجت المعلومات، ما تأتي هكذا في يوم وليلة.

فهذه الرسائل انتبهوا لا تزهدوا فيها يا إخوة، وأكثر ما ضيّع الطلاب الآن هو هذا: العزوف عن الرسائل، ما يريد ورقات يريد مراقي وكوكب .. مباشرة، ما فيه بأس صحيح. الهمّة لا بد أن تكون متعلقة بمعالي الأمور.

لكن هناك سلَّم، هناك طريقة لأهل العلم لا يمكن أن يصلوا إلى هذه المطوَّلات إلا بعد إتقان، لو نظرت في أول الحاشية التي بين يديك يقول: كتبتها للمبتدئين، وأنا كنت أريد أن أعلِّق عليها لكن الوقت.

كتبتها للمبتدئين، هذه الحاشية للمبتدئين، ونحن تركنا كل الحاشية، أحاول أني ما أطالع حتى لا أقرأ؛ لأن فيها تشتيت، المبتدئون السابقون يختلفون عن المبتدئين الحاضرين، بل لعل المتصدِّرين الآن كالمبتدئين السابقين، ما هو بعيد؛ لأنك تجد الآن بعض المتون المختصرات تُشرَح بشروح مطولات.

يعني: لو وجدت مثلاً الورقات. العبَّادي شرحها في مجلدين وحققها أربعة.

كذلك حاشية النفحات للجاوَى من أصعب ما يُقرأ، ومع ذلك تعتبر للمبتدئين.

حواشي إيساغوجي الموجود: العطَّار والذي معنا، هذا يُعتبر للمبتدئين؛ لأن المبتدئ في السابق ليس كالمبتدئ الحاضر، كان يترقى في دراسة المتن مرة ومرتين، وشرح وشرحين .. ثم إذا قرأ الحواشي هذه من أسهل ما يكون عنده، فإذا وصل إلى المطولات من أسهل ما يكون عنده.

ص: 18

ولذلك لو رجعتم إلى السير والتراجم تجدون أنهم كانوا يبرزون قبل العشرين، نحن نبدأ بعد العشرين، هم يبرزون ويتصدرون قبل العشرين يعني: العقلية مهما كانت هذا أمر فطري .. العقلية مهما كانت ابن عشرين هذا فيه شيءٌ من القصور، لكن مع ذلك بفضل الله عز وجل أولاً وآخراً عليهم، ثم بطريقتهم المثلى في التعلُّم استطاعوا أن ينتجوا.

السيوطي يقول في الأشباه: وكتبتُ رسالة في إعراب البسملة ومعانيها. وعمرُه تسع سنين، بلاستيشن يلعب تسع سنين عندنا.

خمسة عشر سنة الآن يعتبر نفسه صغير، يبتدئ العلم عمره ثمانية عشر سنة يقول: بدأت العلم وأنا صغير، كيف صغير؟ خلاص.

قال: (رِسَالَةٌ) وهي في عرف أصحاب التدوين: اسمٌ لأوراقٍ قليلة تحتوي على مسائل من العلم.

(لطيفة) رسالةٌ لطيفة يعني: حسنَة .. حسنةُ الوضع، بديعةُ الصنع.

(فِي المَنْطِقِ) في علم المنطق.

هذا تقييدٌ لموضوع الرسالة، في أي فن؟ قال: في علم المنطق.

هذا شروعٌ من المصنف -رحمه الله تعالى- فيما يتعلق بذكر بعض المبادئ العشرة، سيذكر التعريف والموضوع، وأظنه ذكر الثمرة، هذه مجموعة في قول الصبَّان:

إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَةْ

الحَدُّ وَالمَوْضُوعُ ثُمَّ الثَّمَرَةْ

وَفَضْلُهُ وَنِسْبَةٌ وَالْوَاضِعْ

وَالاِسْمُ الاِسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِعْ

مَسَائِلٌ وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ اكْتَفَى

وَمَنْ دَرَى الجَمِيعَ حَازَ الشَّرفَا

وهذه كذلك من الأشياء التي يُفرَّط فيها الآن، يعني يظن أن هذا تحصيل حاصل، اتركنا منه ندخل في الكتاب مباشرة! وهذا غلط، لماذا؟

لأنه مهما أُوتي الإنسان من ذكاء إذا لم يضبط -على جهة العموم- الفن الذي سيدرسه وفائدة الفن لن يمشي فيه، لن يستمر.

ولذلك من الأسباب أن الطالب يبدأ ويرجع، يبدأ ويرجع، يبدأ وينقطع .. إلى آخره، من الأسباب أنه لا يدري ماذا يطلب، فلا يعرف النحو، قد يدرس الآجرومية وينتهي قل له: ما هو النحو؟ صوِّر لي النحو؟ ما يستطيع أن يعبّر.

ما الفائدة؟ لا يستطيع أن يعبِّر.

كيف تطلب علم وتنتهي وتقرأ وتحفظ وأنت ما تعرف الفائدة المرجوَّة من هذا الفن، ما هي الثمرة.

الذي ينبغي أن يُعتنى في كل فنٍ أن يكون لك دراسة معيَّنة في كل فنٍ تدرسه على نمط هذه المسائل العشرة.

"إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَةْ" والتي يسمونها مقدمة العلم، وما مضى الثمانية الأمور .. الأربعة المستحبات هذه مقدمة كتاب، وأما مقدمة العلم فيذكرون فيه الحد والموضوع.

قال: (في علم المنطق).

المنطق على وزن مَفْعِل.

قال في الإيضاح في شرح السلَّم: مصدر ميمي، وتلقاه البعض على أنه مصدرٌ ميمي.

وهذا فيه إشكال عندي، كيف يكون مصدراً ميمياً وفعلُه ينطق؟ منطِق مفعِل، كيف يكون مصدراً ميمياً وفعلُه المضارع على وزن يَفْعِل.

((هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ)) [الجاثية:29]، ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)) [النجم:3] إذاً من باب يَفْعِل، وباب يفْعِلُ -بكسر العين- المصدر الميمي منه على وزن مفْعَل ليس على وزن مفعِل؛ لأنك تقول: يفعُل يفعَل يفعِل. ثلاثة أبواب.

ص: 19

المصدر الميمي في الجميع مفْعَل، يفعُل المصدر الميمي مفْعَل، يفعَل المصدر الميمي مفعَل بالفتح، يفعِل كينْطِق المصدر الميمي منه مفْعَل، وهذا محل وفاق.

بقي اسما الزمان والمكان، اسم الزمان واسم المكان من يفعُل على وزن مفعَل كالمصدر الميمي.

وكذلك اسم الزمان والمكان من يفْعَل مفْعَل إذاً اتحدت.

إذاً القاعدة هكذا رتَّبها حتى تكون مرتَّب: يفعُل وهو أول الأبواب، المصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعَل، لا فرْق، الثلاثة.

الباب التالي: يفعَل وهو متأخر، يفْعَل المصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعل.

إذاً: اتحد البابان في الثلاثة الأبواب.

الإشكال في يفْعِل كينْطِق، المصدر الميمي كسابقه: مفعَل، الذي اختلف هو اسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعِل.

إذاً: نطَق ينطِق مفعَل مصدرٌ ميمي، مفعِل هذا اسم مكان أو اسم الزمان، ولذلك الأولى أن نقول: منْطِق هذا اسم مكان وليس بمصدرٍ ميمي، وإن شاع كثير يقال: مصدر ميمي، لكن فيه إشكال الذي ذكرتُه.

إذاً الأولى أن يقال: إنه اسم مكانٍ؛ لأن المنطق يقال بالاشتراك في اللغة عندهم على ثلاثة أمور.

"بالاشتراك" يعني: يُطلق تارة على الأول، ويطلق تارة على المعنى الثاني الآتي، وتارة على المعنى الثالث.

لأن المنطق يقال بالاشتراك في اللغة عندهم على ثلاثة أمور:

الأول: يُطلق على الإدراكات الكلِّية كثيرة أي: على نفس الإدراكات.

الثاني: على القوة العاقلة التي هي محل صدور الإدراكات، ومر معنا هذا بالأمس قلنا: وآلتها العقل. ولا إشكال فيه .. القوة العاقلة التي هي النفس.

وقلنا الإدراك هو: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، ما معنى النفس؟ هي القوّة العاقلة التي هي محل الإدراكات، وآلتُها العقل.

حينئذٍ محلُ الإدراك غير العقل والعقل آلة ولا إشكال، تقول: زيدٌ يمشي. وصفتَ زيد كله ذاته بيمشي، صح الوصف أو لا؟ صح الوصف، لكن يمشي بيديه؟ برجليه.

إذاً آلة المشي الرجلان، ووصفتَ زيداً بكونه يمشي. إذاً لا إشكال فيه .. زيدٌ يمشي وآلة المشي الرجلان لا إشكال فيه.

النَّفس تدرك -التي هي النفس العاقلة- وآلتُها العقل، كما أن زيداً يمشي وآلة المشي الرجلان لا إشكال فيه، تأمل هذا المثال.

النوع الثالث أو الإطلاق الثلاث: على النطق والتلفظ؛ لأن الإدراكات هذه أمور معنوية داخلية، فإذا أراد الإنسان أن يكتفي بدلالة الألفاظ أو بما يسمعه أو بما يفكِّر فيه هو لنفسه لا يحتاج إلى تلفُّظ، وإنما يحتاج إلى تلفُّظ إذا أراد أن يخبر غيره، ولذلك اللفظ ومباحث الألفاظ هذه تعتبر متممة؛ لأن بحث المنطق في المعقولات، ولا يُشترط في المعقولات في إثباتها أن يحدِّث بها غيرَه وإنما هي ثابتة في نفسها، إذا أراد أن يعلِّم غيره فحينئذٍ لا بد من لفظٍ، فصار اللفظ وسيلة، ليس مقصوداً لذاته وإنما هو وسيلة.

ولذلك كل بابٍ في علم المنطق يتعلق بالبحث في الألفاظ وما يدور حولها، فهو بحثٌ في وسائل ليس بحثاً في المقاصد؛ لأن اللفظ غير المعقول، المعقول محله النفس فحينئذٍ لا يحتاج إلى اللفظ.

ص: 20

ولذلك نحن نقول -فيما مضى ويأتي إن شاء الله تعالى-: أن الإنسان إذا نظر حينئذٍ رتَّب أمرين فأكثر ليصل بهذين الأمرين المعلومين إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، هذا لا يحتاج إلى لفظ، قد يحتاجه في نفسه ليرتب الأمرين، ثم يصل نتيجة ويكتفي بها، لكن إذا أراد أن يخبر لا بد من لفظٍ.

إذاً: المعنى الثالث: على النطق والتلفظ؛ لأن هذه الإدراكات إنما تبرز وتظهر بالنطق والتلفظ، فالتلفظ هو الذي يُظهِر هذه الإدراكات لأنك تدرك الأمر في نفسك أولاً ما الذي أدرانا أنك أدركت؟ عندما تُخبر باللفظ، فصار اللفظ وسيلة إليه.

قال هنا: (على الثاني والثالث يمكن اعتبار أن يكون المنطق اسم مكان).

إذا أطلقنا المنطق وأردنا به النَّفس العاقلة أو القوة العاقلة. منْطِق مفْعِل اسم مكان، وهذا لا إشكال فيه واضح.

(على النطق والتلفظ محلُّه) إذاً اسم مكان لا إشكال فيه، أما على الأول فلا؛ لأن الإدراك هو نفسُه المصدر الميمي.

ولذلك قال هنا -في الحاشية-: (المنطق يُطلق في الأصل على النطق اللساني، وعلى إدراك المعقولات.

وهذا العلم يقوِّي هذين المعنيين ويسلك بهما سبيل السداد، فلذا سُمِّي منطقاً).

هذا باعتبار المعنى اللغوي، أما في الاصطلاح عندهم فاختلفوا في حدِّه بناءً على اختلافهم في المنطق، هل هو علمٌ في نفسه أو أنه آلة لغيره؟

فاختَلف أهل التعريف بناءً على هذا الاختلاف، فإذا مر بك حينئذٍ تنظر: هل صدَّره بعلم أو صدَّره بآلة، بناءً على هذا الخلاف.

إذاً: هذا التعبير والاختلاف في التعبير من كونه عِلماً أو آلة هذا مبنيٌ على خلافٍ آخر وهو: هل المنطق علمٌ في نفسه أم أنه آلةٌ لغيره، ونحن نقول: لا خلاف بينهما، فقد يكون العلم آلة وهو علمٌ في نفسه.

ولذلك النحو مثلاً -باعتبار طالب العلم الشرعي-: وسيلة إلى الشرع، وهو علمٌ في نفسه مستقلٌ بكتبه وتعاريفه .. إلى آخره، وحينئذٍ كونه آلة لا ينفي كونه عِلماً بنفسه، كذلك هنا المنْطِق هو وسيلةٌ إلى الحكمة أو جزءٌ منها، ولا يلزم ألا يكون عِلماً في نفسه.

قال: (بناءً على اختلافهم في المنْطِق هل هو علمٌ في نفسه أم آلةٌ لغيره؟) هذا فيه نزاع.

(من قال: إنه علمٌ في نفسه عرَّفه بأنه: عِلمٌ يُبحث فيه).

صدّره بعِلمٍ، ثَم خلافٌ بماذا يُفسّر لفظ العلم في الحدود؟ هل يُفسَّر بالإدراك أو يفسّر بالقواعد والمسائل، أو المسائل التي هي القواعد والأصول، أو يفسَّر بالملكة؟

منهم من يحمله على الثلاثة المعاني، ومنهم من يحمله على الإدراك، ولكن إذا أردنا التخصيص حملُه على الثلاثة لا إشكال فيه؛ لأنه صار العلم يُطلق على الإدراك ويسمى علماً، وعلى القواعد ويسمى علماً، وعلى الملَكة وتسمى علماً. لكن إذا أردنا التخصيص فتقييده بالقواعد والأصول أولى.

(علمٌ) يعني: قواعد (يُبحثُ).

قال: (علمٌ يُبحثُ فيه) أي: في هذا العلم (عن المعلومات التصورية والتصديقية).

المعلومات التصورية نسبة للتصور يعني: المفردات.

والمعلومات التصديقية يعني: المُركَّبات، والمراد بالمركبات هنا التامة يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

هذه معلومة يعني: موجودة عندك حاضرة في الذهن في القوة.

ص: 21

(عن المعلومات التصورية) يعني: المفردات التي معانيها قائمة بالنفس عندك.

والمعلومات التصديقية يعني: التراكيب، الجملة الاسمية والجملة الفعلية التي معانيها ومضامينها قائمة بالنفس، فلا إشكال فيها، ليس البحث في هذا، وإنما هذه وسيلة للوصول إلى شيءٍ آخر.

إذاً: نبحث في المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية من أي جهة؟

قال: (من حيثُ) وهذا تقييد.

(من حيث إنها تُوصِل إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي).

وهذا سيأتي معنا إن شاء الله تعالى أن الذي يوصل إلى المجهول التصوري هو المعرِّفات وهو مر معنا كذلك بالأمس.

والذي يوصل إلى المجهول التصديقي هو الحُجة أو القياس أو البراهين. كلها بمعنى واحد.

البحث في هذين البابين هو بحث المناطقة، مُعرِّفات ولها مبادئ، وكذلك الأقيِسة لها مبادئ.

فكل ما يُذكر غير هذين البابين فهي متممة لهذين البابين، والبحث عنها يكون عن أحوالها الذاتية.

إذاً: ما هو المنْطِق من حيث كونُه علماً؟

(علمٌ) يعني: قواعد وأصول، (يُبحث فيه عن المعلومات التصورية) يعني: المفردات التي معانيها قائمة بالنفس.

(والمعلومات التصديقية) يعني: الجمل والتراكيب التي معانيها قائمة بالنفس ولا إشكال فيها، من أي جهة؟ من أنها موجودة؟ من أين أخذتَها؟ هل بينها ترابط؟ لا. ليست من هذه الحيثية.

من حيث إنها توصل إلى مجهول تصوري أو مجهولٍ تصديقي. يعني: نستفيد من هذه المفردات المعلومة التصديقية ومن هذه المركبات المعلومة التصديقية أن نصل بها على جهة معيّنة إلى استخراج معانٍ لمفردات مجهولة لا نعرفها، ونصل بها إلى مركباتٍ كذلك مجهولةٍ إلينا.

حينئذٍ المفردات على نوعين: مفردٌ معلومٌ عندك، ومفردٌ مجهول لديك. المركبات منها ما هو معلومٌ عندك، منه ما هو مجهولٌ لديك.

فحينئذٍ المعلوم من النوعين على تركيبٍ معيَّن تدرسه في باب المعرِّفات والأقيسة، تصل بهما إلى المجهول في المفردات والمجهول في التصديقات.

وقيل "تعريف آخر": المنْطِق علمٌ تُعرَف به كيفية الانتقال من أمورٍ حاصلةٍ في الذهن إلى أمورٍ مستحصلة. هو بعينه السابق.

علمٌ "يعني: قواعد" تعرِف بهذا القواعد ماذا؟

كيفية الانتقال من أمورٍ حاصلةٍ "يعني: معلومة" والأمور المراد بها هنا المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية.

حاصلةٍ في الذهن "موجودة عندك" لن تتعب في إيجادها، إلى أمورٍ مستحصلة يعني: مطلوبة الحصول، ومطلوب الحصول والإيجاد لئلا يكون من باب تحصيل الحاصل يُشترط فيه أن يكون غير معلوم وإلا صار من قبيل تحصيل الحاصل وهو محال.

وهو معنى التعريف السابق لكن بعبارة أُخرى.

وأما باعتبار كونه آلةً "وهو الذي قدَّمه المصنف هنا" فيقال: المنْطِق آلةٌ قانونية تعصِم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر.

آلة قانونية، والآلة ما يكون واسطةً بين الفاعل ومنفعله. قالوا: كالمنشار للنجار.

ص: 22

عندنا فاعل وهو النجار، وعندنا منفعل وهو الخشب نفسُه والآلة، إذاً: الآلة التي هي المنشار واسطة بين الفاعل وبين المنفعل الذي يَقبل، والمراد بالمنفعل هنا المراد به: معنى المطاوعة وهو ما يقبل الأثر، كما تقول: كسرتُ الزجاج بالحجر فانكسر الزجاجُ يعني: قَبِل الانكسار "رحَّب به" لكن بواسطة الحجر. فكلما كان الحجر حجراً كان الانكسار مقبولاً.

قال هنا: كالمنشار للنجار، ومعنى المنفعل هو معنى المطاوعة وهو ما يقبل الأثر، والفاعل هو الذي أحدث الحدث، والمنفعل هو الذي قبل الأثر كالزجاج بالنسبة للانكسار.

وعلم المنْطِق كيف يكون واسطة؟

يكون واسطة بين النفس العاقلة وبين المجهولات .. المطالب الكسبية، هذه القواعد واسطة، كما أن النجار يأتي إلى المنشار فيمسك، لا بد أن تكون المسكة لها طريقة ليس يمسك أي مسكة لا، لا بد أن يكون ماسكاً بطريقته المعروفة عنده، حينئذٍ صار المنشار واسطةً بين الفاعل وبين المنفعل.

طيب المنْطِق: قواعد وأصول، يكون واسطة بين النفس العاقلة وبين المجهولات، حينئذٍ لا بد للماسك أن يكون ماسكاً.

قال: وعلم المنْطِق كيف يكون واسطة؟ نقول: يكون واسطةً بين النفس العاقلة التي هي محلٌ للتفكير وبين المطالب الكسبية وهي الأمور المجهولة التصورية والتصديقية، التي نريد أن نصل إلى العلم بها، والنفس هي محل صدور الإدراكات، وتلك المجهولات نريد أن نصل إليها ونخرجَها إلى المعلومات.

والواسطة في ذلك هو فن المنْطِق، قواعد وأصول وقوانين تُطبَّق "يعني: تطبقها النفس" لتصل إلى إخراج هذا الأمر المجهول التصوري أو التصديقي من الجهل إلى العلم.

إذاً: لماذا سُمّي المنْطِق آلة؟ لأنه واسطةٌ بين النفس العاقلة وبين المطالب الكسبية.

آلةٌ قانونية؛ نسبةً إلى القانون، والقانون المراد به القاعدة، هو لفظٌ يوناني، لكن المراد به هنا القانون القاعدة والضابط والأصل هذه ألفاظ في الاصطلاح مترادفة، تصدق على شيءٍ واحد وهو قضيةٌ كليّة يُتعرَّف بها أحكام جزئيات موضوعها ..

(قضية) يعني: مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل.

(كليّةٌ) يعني: ليست جزئية.

(يُتعرّف بها) يعني: بواسطتها، (أحكام جزئيات موضوعها)، وهذا شأن القواعد كما هو معلوم.

إذا قلت: الفاعل مرفوع "كمثال" هذه قضية مبتدأ وخبر، الفاعل مرفوع.

كُلّيّة لأنها غير مختصة يعني: ليس مختصة بزيد أو عمرو أو بكر لا، وإنما الفاعل كل من أحدث فعلاً.

(يُتعرَّف بها أحكام جزئيات موضوعها) يعني: بواسطة هذه القضية الكُلّيّة إذا جعلناها مقدمة كبرى في قياسٍ مقدمتُه الصغرى الفرد الخاص، فإذا قلت: خالد أو زيد .. زيدٌ من الناس.

زيدٌ من قولك: جاء زيدٌ فاعل، هذه مقدمة صغرى هكذا التركيب: زيدٌ من قولك جاء زيدٌ فاعلٌ. كيف نثبت بأن زيداً من قولنا جاء زيدٌ فاعل؟ هذا يحتاج إلى دليل.

ما دليل المقدمة الصغرى؟ حدُّ الفاعل، تعريف الفاعل ينطبق عليه أو لا؟ تقول: جاء زيدٌ، زيدٌ اسم مرفوعٌ بعد الفعل، اختصاراً.

حينئذٍ نقول: إذاً زيدٌ من قولنا: جاء زيدٌ فاعل؛ لأنه ينطبق عليه حد الفاعل .. صدق عليه.

إذاً: دخل في حد الفاعل، إذاً: زيدٌ من قولنا جاء زيدٌ فاعل. هذا دليلها.

وكل فاعلٍ مرفوع أو الفاعل مرفوع.

ص: 23

إذاً: زيدٌ مرفوع، زيدٌ مرفوع هذه شخصية مخصوصة يعني: آحاد، تدخل تحت الفاعل مرفوع أو كل فاعل مرفوع.

إذاً: كل فاعل مرفوع هذا يسمى قاعدة كُلِّيّة ولها جزئيات، الجزئيات هي أفراد الموضوع المحكوم عليه، كذلك مطلق الأمر للوجوب .. إلى آخر ما يُذكر من قواعد.

قال: (تعصم) يعني: هذه القواعد.

والعصمة في اللغة: الحفظ فتحفظ الذهن عن الخطأ في الفكر.

والفكر في اللغة: حركة النفس في المعقولات، هو عبَّر بالذهن وإلا الأولى التعبير بالفكر.

وفي الاصطلاح: ترتيب أمرين معلومين يُتوصل بهما إلى أمرٍ مجهولٍ تصوري أو تصديقي، هذا مر معنا .. ترتيب أمرين معلومين.

كيف ترتِّب؟ هو الذي سيأتينا في باب المعرِّفات وفي باب القياس، الترتيب الذي سيذكره المناطقة، (بين أمرين معلومين) إما تصور وإما تصديق.

(يتوصل بهما إلى أمرٍ مجهول تصوري أو تصديقي) هذا الترتيب قد يكون صحيحاً وقد يكون خطأ فاسداً.

فإن رتَّبته على ما وضعه المناطقة من قواعد وأصول حينئذٍ تصل إلى النتيجة الصحيحة، وهو الذي مر معنا من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: أن القياس في نفسه صحيح النتائج، بل قال: قطعي. لكن متى؟ إن رُكِّبت نتائجُه مستوفيةً لشروط الإنتاج على الوجه الصحيح. حينئذٍ يُنتج الفكر الصحيح.

وإن حصل فيه خلطٌ بتقديم وتأخير أو عدم استيفاء بعض شروط الإنتاج حصل الخلل في النتيجة، فصار فكراً فاسداً قطعاً.

إذاً: في نفسه هو صحيح، ولكن الخطأ إنما يعتريه من جهة المستعمل له لا من جهة نفسه أما نفسه فهو منتج.

فحينئذٍ تصل إلى النتيجة الصحيحة وإن لم ترتِّب تلك المعلومات على الترتيب المعهود عنده فحينئذٍ يكون الفكر ليس صحيحاً بل فاسداً.

ولذلك قال: (تعصم) يعني: تحفظ هذه القواعد الذهن والفكر عن الوقوع في الخطأ؛ لأن الفكر يحتمل الصحة ويحتمل الخطأ، ولذلك اختُصر حد علم المنْطِق فقيل:(علمٌ يُعرَف به الفكر الصحيح من فاسده) هذا سهل حتى في حفظه.

(علمٌ) يعني: قواعد وأصول.

(يُعرف به) يعني: بواسطة هذا العلم وهي القواعد والأصول.

(الفكر الصحيح من الفاسد).

إذاً: الفكر فكران: فكرٌ صحيح وفكرٌ فاسد، الذي يستوفي الشروط هو الصحيح والذي يخالف هو الفاسد.

قال هنا: (وهو آلةٌ قانونية) عرَفنا المراد، (تعصمُ) زاد قيداً وهو لا بد من زيادته وقد نبهنا عليه فيما مضى.

(تعصم) يعني: تحفظ.

(مراعاتُها) أي: تلك القواعد أو الآلة (الذهن عن الخطأ في الفكر).

زاد المراعاة؛ لأن العلم إذا لم تكن معه مراعاة "يعني: علم رعاية" حينئذٍ لا فائدة فيه، كما قلنا فيما لو حفظ الألفية ولا يُحسن الإعراب "سلامٌ عليكم" هذا لا يستفيد شيئاً؛ لأنه لم يمارِس النحو.

كذلك القواعد المنطقية لا فائدة منها من حيث أنك تحفظ دون أن تمارس، فحينئذٍ لا بد من مراعاتها بمعنى: أن تكون النفس قد مارست هذا الفن بحيث صار لها ملكة، هذه الملكة حينئذٍ يستوفي بها استعمال القواعد في مظانِّها دون تكلُّف، ولذلك ابتداءً الذي يُعرِب في الفاعل يَرفع مرة ويَنصب أخرى، وجار ومجرور .. ولكنه إذا اعتاد بعد ذلك حينئذٍ يستقيم لسانه، أما في البداية فيتعب قليلاً، ثم بعد ذلك يستريح.

ص: 24

كذلك القواعد المنطقية عند مراعاتها في التفكير ونحوه، أو النظر فيما كتبه أهل العلم من حيث تطبيق القواعد قد يتعب أولاً ثم بعد ذلك يستريح.

(تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ) قال في الحاشية: فصلٌ مخرجٌ ما عدا المنْطِقَ.

ومعنى تعصم: تحفظ.

مراعاتها: إشارة إلى أن نفس المنْطِق لا يعصم الذهن عن الخطأ، وإلا لم يقع من منطقي خطأٌ أصلاً، واللازم باطل.

فكثيراً ما أخطأ من لم يراعِ المنْطِق وهو عالمٌ به وحافظٌ لقواعده.

قوله: (الذهن) أي: القوَّة المهيئِة للنفس لمعرفة المجهولات التصورية والتصديقية.

قال: (وموضوعُه المعلومات التصورية والتصديقية).

وهذا فيه شيءٌ من الخلل؛ لأن موضوع المعلومات التصورية والتصديقية فقط هكذا لا، هي مقيَّدة: من حيث صحة إيصالها إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، لا بد من زيادة هذا القيد.

(المعلومات التصورية والتصديقية) زِد عليه: من حيث إنها توصل إلى المجهول، أو يكون لها نفعٌ في ذلك الإيصال.

(فن المنْطِق يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال) مطلق الإيصال بأي استعمال استعملتَ القياس وصلت "هذا مطلق إيصال"، سواءٌ استعملت المنْطِق على الوجه الصحيح أو على الوجه الخطأ بقطع النظر عن النتيجة صائبة أم خاطئة.

حينئذٍ نقول: هذا مطلق إيصال. وليس هذا المراد، وإنما المراد صحة الإيصال ليس مطلق الإيصال، يعني: أن تصل تركِّب هكذا من عندك لا، وإنما صحة الإيصال. إذاً: هذا قيدٌ لا بد منه.

قال: (فن المنْطِق يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال).

(لأن الخطأ في الفكر هو وصولٌ) من أخطأ في الفكر كذلك وَصَل، رتَّب مقدِّمات ظن أنها موصلة، حينئذٍ وصل، لكن وصل بصحة أو خطأ؟ خطأ، والمنْطِق لا يبحث عن هذا، وإنما يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال، فإن من ركَّب تركيبات أوصلته إلى خطأ في النتيجة ولو ظن صحتها وأخطأ في النتيجة، المنْطِق لا يبحث عن هذا، وإنما يبحث عن صحة الإيصال بحيث أنه يلزم من ترتيب هذه المقدمات هذه النتيجة الصحيحة، فإن أخطأتَ فحينئذٍ نقول: لم تستعمِل القواعد المنطقية على وجهها الصحيح فقد أخطأتَ في الاستعمال.

(لأن الخطأ في الفكر هو وصولٌ) لكنه وصولٌ من جهة ترتيبٍ لمقدِّمات لم تقع على الوضع السليم، حينئذٍ هو وصولٌ، احترازاً من هذا نقول: موضوع فن المنْطِق المعلومات التصورية والتصديقية من حيث صحة الوصول إلى مجهول تصوري أو تصديقي.

والذي يُوصل إلى المجهول التصوري هو المعرِّفات، وليس له طريق إلا هذا عن المناطقة، والذي يوصل إلى المجهول التصديقي هو الأقيسة والبرهان. وليس لهم إلا هذا الطريق فقط.

قال هنا: (وفائدته الاحتراز عن الخطأ) هذا واضع من التعريفات السابقة.

(وفائدته الاحتراز عن الخطأ في الفكر).

فَيَعْصِمُ الأَفْكَارَ عَنْ غَيِّ الخَطَا

وَعَنْ دَقِيقِ الفَهْمِ يَكْشِفُ الغِطَا

نزيد بعض المواضع، قال:(وفضلُه) هل له فضلٌ أم لا؟

يقولون -وأنا حاكي-: (كونه عام النفع تتوقف عليه سائر العلوم) هذا فيه شيءٌ من الغلو، لذلك سمَّاه الغزالي معيار العلوم يعني: الميزان الذي يُعرف به صحيح العلم من فاسده هو فن المنْطِق. وهذا لا يُسلَّم.

ص: 25

ولذلك قال في الكلمة الجائرة: من لا علم له بالمنطق لا ثقة في علمه. وهذا ليس بصحيح، هذا غلو.

سمَّاه: معيار العلوم وميزان العلوم، وكل علمٍ سواءٌ كان من الوحيين -من الكتاب والسنة- والعقيدة والنحو وأصول الفقه .. وغيرها، كلها متوقفةٌ على هذا الفن، لذلك عظَّموه أكبر من حجمه، وهذا التعظيم لا يُسلَّم، وإذا عظَّموه وأخطئوا نترك المنْطِق ونمشي ولا ندرسه؟ نقول: لا.

ندرُسه ونحترز عن هذا الخطأ وهو: أنه قد رُفِع فوق شأنه، وإنما نستفيد منه بالفائدتين المذكورتين السابقتين.

(نسبتُه لسائر العلوم: أعم مطلقاً، فكلُّ فنٍ داخلٌ تحت فن المنْطِق).

نعم هذا صحيح (كل فنٍ فهو داخلٌ تحت فن المنْطِق). كيف؟ كل علم يبحث في تصوُّرات وتصديقات، يبحث في معنى العام، معنى الخاص، معنى الناسخ .. ثم يُثبت لها أحكام.

البحث في التعاريف هذا يسمى تصورات، البحث في إثبات الأحكام لهذه التعاريف تصديقات.

إذاً: كل علمٍ فهو مشتمل على تصورات وتصديقات، لكنها تصوراتٌ خاصة وتصديقات خاصة، وكذلك عند النحاة والفقهاء والمحدِّثين كلهم يبحثون في التصورات لكنها خاصة، وفي التصديقات لكنها خاصة.

بحثُ المنْطِق يبحث في مطلق التصور من حيث هو، ومطلق التصديق من حيث هو. إذاً: صار أعم، فكل فنٍ صار داخلاً تحته؛ لأنه إذا جاء يعرِّف هناك لا بد أن يعرِّف على طريقة المناطقة.

وإذا أراد أن يثبت على أنها قاعدة كليَّة مطّردة لا بد أن يُثبت على طريقة المناطقة، فدخل كل فنٍ تحت المنْطِق.

من هذه الحيثية لا إشكال فيه ولا نزاع، ولكن كونه يفتقر إليه من حيث القواعد والتطبيق هذا فيه إشكال.

قالوا: لأن بحث الأصولي مثلاً يبحث عن الشيء الذي يتعلق به فن أصول الفقه، والعلم نوعان لا ثالث لهما: إما تصورٌ وإما تصديق.

فبحث الأصولي في التصورات والتصديقات هل هو من جهة الإطلاق أو من جهة ما يتعلق بفنه؟ الثاني.

فحينئذٍ صار كل تصورٍ أصولي داخلاً تحت التصور المنطقي، فبحثُ الأصولي في التصور الخاص، وبحثُ المنطقي في مطلق التصور.

بحثُ الأصولي في التصديقات الخاصة، وبحث المنطقي في مطلق التصديقات، ولذلك دخل تحته.

وَاشْتَهَرَتْ بِنِسْبَةِ العُمُومِ

نِسْبَتُهُ لِسَائِرِ العُلُومِ

(الواضعُ) هذه فائدة هكذا، من هو واضع المنْطِق؟

قالوا: الفيلسوف اليوناني إِرَسَطَاطَاليس قيل: وُجد قبل المسيح بثلاثمائة سنة، وهو واضع هذا الفن.

قال عبد السلام:

أَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ اليُونَانِي

فِي الكُفْرِ قَبْلَ مَبْعَثِ العَدْنَانِ

ثم جاء إِرَسَطُو -بكسر الهمزة وفتح الراء والسين وضم الطاء إِرَسَطُو هكذا وليس أُرُسْطُو-.

وهو يونانيٌ أيضاً؛ لأن الفنون أول ما توضع توضع عشوائية، ثم لا بد من ترتيبٍ وتفصيلٍ وتهذيبٍ وتحقيقٍ .. ونحو ذلك.

وجاء إِرَسَطُو هذَّب وعدَّل، ولذلك يسمى المعلم الأول. هذا في عهد اليونان، ثم بعد ذلك لما تُرجم في عهد المأمون هارون الرشيد ونُقل إلى العربية قيل: أول من وضعه في الإسلام الفارابي: محمد أبو نصر الفارابي.

ثُمَّتَ فِي الإِسْلَامِ لِلْفَارَابِي

حَكِيْمِ الَاتْرَاكِ أَخِي الإِغْرَابِ

ص: 26

وهذا الذي يُذكَر في هذا الباب، ثم الفارابي كتُبه قالوا ذهبت احترقت، وجد الآن من كتاب أو كتابين طُبعت.

فجاء الرئيس فأحيا الفتنة وأججها، ذهبت كتب الفارابي فأحياها .. سَن سُنة سيئة، حينئذٍ إذا أُطلق عندهم الشيخ انصرف إلى ابن سينا، وإذا أُطلق الرئيس انصرف إلى ابن سينا، وكثيراً ما يذكرونه باسمه لعله إجلالاً له إنما يقال: قال الرئيس، وهذا ما اختاره الرئيس، قال الشيخ .. إلى آخره.

قال هنا: فتبنى أبو علي حسين بن عبد الله بن علي البخاري المعروف بابن سينا المسمى بالرئيس، فإذا أُطلق الشيخ عند المناطقة هكذا: قال الشيخ فاعلم أنه ابن سينا، وابن سينا أعاد الفتنة فأجج كتب الفارابي فردها كما كانت توفي سنة 428هـ .. إلى آخر ما ذكره.

اسمه كما مر معنا المنْطِق.

ثُمْ اسْمُهُ يَدْعُونَهُ بِالمَنْطِقِ

وَبِاسْمِ مِعْيَارِ العُلُومِ يَرْتَقِي

الاستمداد من العقل.

قال هنا: (أَوْرَدْنَا فِيهَا مَا يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ).

(أَوْرَدْنَا) أي: ذكرنا.

(فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة، هو قال:(فَهذِهِ رِسَالَةٌ فِي فَنِّ المَنْطِقِ) وذكر المصنف الشارح بعض ما يتعلق بمبادئ العلم.

(أَوْرَدْنَا) أي: ذكرنا، والظرفية من ظرفية المدلول في الدال.

(فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة.

و (أَوْرَدْنَا) هذه الجملة يحتمل أنها نعت للرسالة.

(مَا يَجِبُ) يعني: معاني.

(مَا) هنا اسم موصول بمعنى الذي يصدق على المعاني.

(يَجِبُ) اصطلاحاً يعني: لا شرعاً وهو كذلك، يجب اصطلاحاً يعني: لا شرعاً.

يعني: بحيث يوبَّخ إذا أخطأ أو لم يأت بها فحينئذٍ يوبَّخ .. يُعاتب، فإذا كان كذلك قالوا: يجب اصطلاحاً.

(اسْتِحْضَارُهُ) هذا فاعل (يَجِبُ).

(يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ) يعني: معرفتُه وملاحظته، والضمير عائد على (مَا).

(لِمَنْ يَبْتَدِئُ) يعني: يشرع.

أي: الشخص الذي أراد أو يبتدئ أو يشرع.

(فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ) هل كل العلوم؟ هو ظاهر كلامه أنه كل العلوم، جميع العلوم حتى العقيدة، يجب وجوباً أن يشرع في فن المنْطِق (لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ).

حينئذٍ "أل" هنا للاستغراق يعني: كل علم سواءٌ كان عقيدة أو غيره من الفنون.

ولكن بعضهم ذهب إلى أن المراد بأل هنا العهدية، والمراد بالعلوم هنا العلوم الحِكمية يعني: الحِكمة، إذا أراد الحِكمة فلا بد أن يُقدِّم، لكن هذا ليس هو، هذا مسلك العطَّار هكذا، وبَّخ من حمل "أل" هنا للاستغراق وقال: هذا غلط في الفهم، وإنما المراد بها العلوم الحِكمية، لكن هذا ليس بوارد.

لأن المصنف وصاحب الأصل ومن كتب من المتأخرين في المنْطِق إنما أرادوا ما يُستعمل في العلوم الشرعية، لم يريدوا بها علوم الحِكمة؛ لأن الأصل فيها قالوا التحريم، والخلاف الوارد إنما هو في تلك لا في هذا النوع. حينئذٍ كيف يُصرف العلوم هنا إلى الحكمة؟ هذا فيه شيءٌ من البُعد.

نحن ما نحمله على المتن، لو حملناه على المتن أشياء كثيرة خرجت، لكن باعتبار الشرح، باعتبار الشرح نقول: لا، مراد المصنف هنا إنما شرح ما يسلكه صاحب الأصل فيما يخدم الشريعة، ليس على العموم.

ص: 27

وإلا لو أردنا أنه على جهة الاستقلال، لو شرحنا متن إيساغوجي فقط، والماتن ليس له خبرة في الشرعيات لا إشكال فيه، لكن توجيه العطَّار كثير أنا أُثني على حواشيه ودائماً أنصح الطلاب بالنظر فيها وخاصةً في المنْطِق، لكن عنده شيءٌ من الجمود، وعنده أمر ثاني: أنه يقدِّس المناطقة الأصول: ابن سينا، والفارابي .. إلى آخره.

فيحمِل على من يسعى في تعديل وتطوير بعض المصطلحات المنطقية بأنهم خالفوا الأصول.

يعني: من أنت تخالف ابن سينا مثلاً إذا أراد أن يخصِّص، فكثيراً ما يتحامل على الشُرّاح وعلى المحشِّين بأنه جهلٌ، وما تأملوا، وما فكّروا.!! إلى آخره؛ بناءً على أنهم قد خالفوا ما اشتهر، حتى أنهم يسلكون مسلك متقدمين ومتأخرين، المنْطِق موجود المتقدم والمتأخر.

فإذا جاء المتأخر وخالف المتقدم، هناك من المتأخرين من يشن حملة على بعض المتأخرين لمخالفة المتقدمين كما هو الشأن في المصطلح الآن. هذا موجود والعطَّار منهم، يشن حملة كبيرة على من يخالف المتقدمين، حتى يُخَطئ التفتازاني أحياناً يقول: لا. هذا خالف المتقدمين، وهذا فيه شيءٌ من النظر.

قال هنا: (أَوْرَدْنَا فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة.

(مَا يَجِبُ) وجوباً اصطلاحياً، عرفنا المراد بالاصطلاح هنا، بحيث يُحكم بإصابة من قام به وخطأ من لم يقم به، وفاعل (يَجِبُ):(اسْتِحْضَارُهُ) أي: معرفتُه وملاحظته والهاء عائدٌ على ما.

وذكَّره مراعاة للفظه وتنازَع (يَجِبُ) و (اسْتِحْضَار) في قوله: (لِمَنْ) .. يجب لمن - استحضار لمن، من باب التنازع.

حينئذٍ قدَّر للأول وحذَفه، وجعَل الثاني متعلقاً بالمتأخر.

فقد قال "تعليل هذا" عِلَّةٌ لقوله: (يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ) يعني: يجب استحضاره ما الدليل؟ قال الغزالي "يعني: أبو حامد" الملقَّب بحجة الإسلام وليس بحجَّة.

قال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه.

إن كان المراد به العلم الشرعي الصحيح الصافي هذا كلام فاسد، إن كان المراد به ما دوَّنه المتأخرون الذين جعلوا المنْطِق في كثيرٍ من فنون العلم فحينئذٍ قد يقال بأنه على وجه التمام على ما ينبغي، نعم قد يقال بهذا، لكن ليس هذا مراده.

ولذلك اعتُرض عليه بالعقيدة والصحابة ونحوها، فقال: أولئك الأقوام كان علم المنْطِق لهم سجية وطبيعة، هذا يدل على أنه ما أراد المتأخرين، وإنما أراد عموم البشرية.

ولذلك قال بعضهم: من أُوتي علم الشريعة دون منطقٍ فهو من خوارق العادات.

نعم. من تعلم علم الشريعة يعني: الإمام أحمد من خوارق العادات، لماذا؟ لأنه بدون منطق، كذلك أبو هريرة وابن عباس حَبر الأمة في التفسير هذا أُوتي علم الشريعة ولا شك، هذا من خوارق العادات؛ لأنه استطاع أن يصل إلى النتيجة بدون واسطة "بدون آلة" كمن وُلِد له بدون زواج هذا مثلُه، فلا فرق بينهما! كله كلام فاسد لا نؤيده.

فقد قال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه، وسمَّاه معيار العلوم أي: ميزانها التي تُعرَف بها الأفكار الصحيحة من الفاسدة؛ لعرضِها على قواعده، فما وافقها فصحيح وإلا ففاسد.

ص: 28

قال الشارح: (وحصرَ المصنف) يعني: الأبهري (المقصود في رسالته) المقصود في الرسالة من علم المنْطِق أو ما أراده من الرسالة .. من التأليف؟ الثاني.

يعني: (المقصود في رسالته) ليس هو المقصود من علم المنْطِق؛ لأن المقصود من علم المنْطِق هو اثنان –بابان-: المعرِّفات والأقيسة، وهو قد زاد على هذين البابين.

إذاً: لم يعتنِ بمقاصد علم المنْطِق.

فالمراد هنا: (المقصود في رسالته) لا يلزم من كونه مقصوداً من الرسالة أن يكون مقصوداً من العلم، فإن مباحث الألفاظ ليست من مقاصد علم المنْطِق، فقد جعلها المصنف هنا في أول بحثه، بل وجعلها مقصودة من الرسالة.

ولأن المراد بالمقصود من الرسالة ما عدا الديباجة، وبالمقصود من العلم مسائلُه كما قيل: إن حقيقة كل علم مسائلُ ذاك العلم. فخرجت المبادئ فإنها ليست مقصودةً بالذات، بل مما يَتوقف عليه المقصود، ومباحث الألفاظ ملحقةٌ بالمبادئ.

إذاً: كل بابٍ ليس هو المعرِّفات ولا الأقيسة فليس من مقاصد الفن البتة، إما أنه يتوقف عليه مباشرة أو بواسطة.

في خمسة أبحاث: بحثِ الألفاظ أولُّها، والدلالة كذلك.

والبحث أصله التفتيش في الأرض بنحو عودٍ ثم نُقِل إلى المسألة الخفية لعلاقة المجاورَة، والبحث في اللغة: الفصح والتفتيش.

والمراد هنا: إثبات النسبة الإيجابية والسَّلبية بطريق الاستدلال، فالمراد بالأبحاث المسائل مجازٌ من إطلاق اسم الحال وإرادة المحل؛ لأن المسائل والقضايا محلٌ لذلك الإثبات.

إذاً: المبحث الأول: بحثُ الألفاظ ومعه الدلالة.

الثاني: بحث الكُلِّيّات الخمس.

الثالث: بحث التصورات. ومراده به هنا المعرِّفات.

الرابع: بحث القضايا، ويتبعها التناقض والعكس .. وما سيأتي.

الخامس: بحثُ القياس.

هذه خمسة أبحاث.

(مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالى)(أي: طالباً منه المعونة على إكمالها) أي: إكمال الرسالة.

(مُسْتَعِينًا) حالٌ من فاعل (أَوْرَدْنًا).

(طالباً منه) يعني: من الله تعالى.

(المعونة) يعني: الإعانة.

(على إكمالها) أي: الرسالة.

خصَّه الشارح لقرينة المقام والاهتمام بما هو بصدده وإن كان حذفُ المعمول يفيد العموم.

(مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالى) على ماذا؟ ما قيَّده.

لكن قال: (على إكمالها) يعني: إكمال الرسالة فقيَّده بقرينة المقام، والأولى العموم.

(إِنَّهُ) هذا تعليل، لماذا استعنت بالله؟ (إِنَّهُ) أي: لأنه.

"إنَّ" بعد الخبر تُحمل على التعليل.

(إِنَّهُ) أي: إن الباري جل وعلا.

(مُفِيضُ) أي: معطي عطاءً كثيراً.

(مُفِيضُ) اسم فاعل أصله: مُفْيِض مُفعِل، أي: معطي عطاءً كثيراً.

(الْخَيْر وَالجَودِ) أي: العطاء على عباده.

(الْخَيْر) أي: ما فيه نفع.

(وَالجَودِ) أي: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي على وجهٍ ينبغي، عطفٌ خاصٍ على عام. يعني: عطَف الجود على الخير من عطْف الخاص على العام.

لعدم تخصيص الخير بما ينبغي، أما الجود فهذا بما ينبغي، لكن هذا لا يقال في شأن الباري جل وعلا.

أي: العطاء على عباده.

هذا (إِيسَاغُوجِي) هكذا قال المصنف أول ما قال: (إِيسَاغُوجِي).

وقدَّر له المصنف هنا مبتدأ محذوفاً: (هذا إيساغوجي)، (إِيسَاغُوجِي) هذا خبر لمبتدأ محذوف.

ص: 29

هو لفظٌ يوناني معناه الكُلِّيّات الخمس وهذا مر معنا: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام. هذه خمس هي الكُلِّيّات الخمس.

وهي من مبادئ المعرِّفات يعني: تُدرس قبل المعرِّفات؛ لأن التعريف يشتمل على كليٍّ، واحدٍ أو اثنين من هذه المذكورات.

هذا القول الأول: أن معنى إيساغوجي الكُلِّيّات الخمس، وهذا هو المشهور.

وقيل معناه: المَدخل أي: مكانُ الدخول في المنْطِق، وهذا وجهٌ كذلك مشهور .. القول الأول والثاني يعني: مقدِّمة.

(سُمي ذلك به) هذا قولٌ ثالث، كأن المصنف جعله تعبيراً أو تعليلاً لما سبق، لكن هو قولٌ ثالث.

(سُمي به باسم الحكيم الذي استخرجه ودوَّنه) يعني: هذا قولٌ ثالث.

وقيل: باسم متعلمٍ كان يخاطبه معلّمه في كل مسألة بقوله: يا إِيسَاغُوجِي! الحال كذا وكذا.

وذلك أن حكيماً استخرج الكليات الخمس وجعلها عند رجلٍ اسمه إيساغوجي -هذا كله قبل اليونان .. قديم يعني-، فطالعها فلم يفهمها، فلما رجع الحكيم قرأها عليه فصار يقول له: يا إيساغوجي الحال كذا وكذا، فسُمِّيت باسمه للمناسبة بينهما في الجملة. هذا هو المشهور.

أربعة أقوال وما عداها فهو تعسُّف، كونه مشتق من إيسا وأنا وأُغُوجي .. إلى آخره، كل هذا كلام لا أصل له.

قال هنا: (وفي نُسخ هذا الكتاب اختلافٌ كثير).

يعني: المتن قد اختُلف في نقله، ففيه تصحيفات وفيه خلاف، فإذا وَجدت في هذا الموضع -الكتاب- شيئاً يخالف متناً آخر أو شارحاً آخر لا تقُل: قد أخطأ زكريا الأنصاري، إنما تقول: هذه النسخة التي شَرح عليها.

ولذلك قال: (وفي نُسخ هذا الكتاب) يعني: متن إيساغوجي (اختلافٌ) وليس اختلافاً فحسب، بل (اختلافٌ كثير).

فإذا وَقفتَ على خلافٍ بين النُّسخ وبين الشُرَّاح فلا تقل: هذا أخطأ .. إلى آخره، وإنما تقول: لعله وقف على نُسخةٍ وشرح عليها، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

!!!

ص: 30