الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
سبق أن المصنف رحمه الله تعالى قال: (وحصَر المصنف) يعني: صاحب المتن.
والحصرُ هنا حصرٌ استقرائي وهو جَعْلي وليس عقلياً؛ لأنهم يختلفون في الأبواب.
(حصَر المقصود في رسالته في خمسة أبحاثٍ): بحث الألفاظ "قلنا يدخل فيه الدلالة"، وبحث الكُلِّيّات الخمس، وبحث التصورات والمراد به المعرِّفات، وبحث القضايا، وبحث القياس. هذه خمسة أبحاث.
البحث الأول: الألفاظ، ويشمل بابين أو فصلين.
الباب الأول: فيما يتعلق بالدلالة وأنواعها.
والثاني: في تقسيم اللفظ إلى كلي وجزئي، ثم الكلي إلى أنواع .. إلى آخر ما سيذكر.
ولذلك قدَّم هنا بمقدِّمة قال: (ولما كانت معرفة الكُلِّيّات الخمس تتوقف على معرفة الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن، والالتزام وأقسامِ اللفظ).
بدأ ببيانها فقال: (ولما كانت) هذا تمهيد لوجه ذكر مباحث الألفاظ في كتب المنْطِق، مبحث المناطقة في المعاني فقط "في المعقولات"، هذا الأصل فيه، وهذه المعاني لا يمكن أن تؤخذ إلا عن طريق -خاصة من جهة الإخبار شخص لشخص وهو التعلم- لا يمكن أن تكون إلا في قالَب الألفاظ.
حينئذٍ لا بد أن يُبحث في الألفاظ؛ إذ الألفاظ قوالب المعاني، والمعاني لا يمكن أن يوصل إليها إلا من جهة الألفاظ.
إذاً: لزِم البحث فيما يتعلق بالألفاظ فيما يُوصل إلى المعاني الكُلّيّة أو الجزئية التي يبحث عنها أو فيها المنْطِقي استقلالاً أو استطراداً.
إذاً: (هذه المقدمة تمهيدٌ لوجهِ ذِكر مباحث الألفاظ في كتب المنْطِق، وبيان أنها ليست من مقاصده بل من مبادئه لخروجها عن موضوعه.
والتوقُّف هنا توقف شروع أي: أن الشروع في علم المنْطِق يتوقف على معرفة هذه المباحث اللفظية؛ لأنها وسائل له ومبادئ، فمبحث المناطقة يكون في اللفظ من جهة الدلالة؛ إذ الألفاظ قوالب المعاني) لأن بحثهم كما ذكرنا إنما هو في المعاني والمعقولات.
(فلا يمكن التوصُّل إلى المعنى إلا بالنظر في اللفظ، فالألفاظ دلائل المعاني، والألفاظ لها دلالات والدلالات تختلف، وحينئذٍ لا بد من النظر في أنواعها).
ولذلك قدَّم المصنف كغيره البحث في أنواع الدلالات على البحث في أقسام اللفظ؛ لأن عندنا دال وعندنا مدلول، وكلٌ منهما ينقسم كما سيأتي.
والأهم هنا في هذا الباب أن هذا الباب متفق عليه ليس مما يختص به المنْطِقي، ولذلك بعينه الدلالات الثلاثة: المطابقة، والتضمن، والالتزام. تُذكر في كتب المنْطِق وتذكر في كتب الأصول، وتذكر كذلك في كتب البيان والبلاغة.
وهذا يدل على أنها من الأمور المسلَّمة ليست من الأمور الدَّخيلة يعني: بمعنى أنها فلسفية بحتة وأنها مما جاء به الفلاسفة لا، وإنما هي في الأصل من مباحث اللغة.
ولذلك ابن القيم حتى أنه نظمها في النونية وطبَّقها -الدلالات الثلاث- طبّقها على أسماء الله عز وجل: الرحمن يقول: دلالة مطابقة يدل على الذات والصفة. والتضمن يدل على الذات فقط دون الصفة، أو على صفة الرحمة دون الذات. والالتزام يدل على العلم والحياة .. ونحو ذلك.
إذاً: هذه الدلالات الثلاث تُطبّق في كل لفظٍ، وهذا اللفظ سواء تعلق به حكمٌ شرعي أو لا. يعني فيما يتعلق بالناس .. أحادِيثِهم، وفيما يتعلق بالشرعيات.
أما ما يتعلق بالشرعيات فلا شك أن الدلالات الثلاث تتأتى فيه: دلالة المطابقة، والتضمن، والالتزام. ولا إشكال فيه.
لأن لازم الحق حق، أما ما يتعلق بالبشر فلا، دلالة الالتزام هذه يُنظر فيها، يتوقف فيه حتى يثبت أن هذا لازمٌ ويُسلِّم به صاحبه.
ولذلك اختلفوا: هل لازم المذهب مذهب أو لا؟ خلافٌ بينهم.
وأما في الشرع فلا، كل ما كان لازماً لحرفٍ "يعني: كلمة" في كتاب الله تعالى فهو حق، فيقال به، على أنه حكمٌ شرعي، وكل ما كان كذلك في السنة يقال به كذلك على هذا الوجه؛ لأن لازم الحق حقٌ.
وأما في البشر فيما يتعلق بينهم فلا، إنما يُنظر فيه ويتوقف، وأما التضمن والمطابقة فهذه واضحة بيّنة.
ولذلك التضمن وضعية "يعني: من جهة الوضع اللغوي" والمطابقة وضعية كذلك، وأما الالتزامية فهذه عقلية كما سيأتي.
(ولما كانت معرفة الكُلِّيّات الخمس تتوقف على معرفة الدلالات).
الكُلِّيّات الخمس قال هناك: (عبارة الشارح فيها قصور؛ لأن المتوقف هو التصورات والتصديقات) ليست الكُلِّيّات الخمس فحسب، وإنما التصورات والتصديقات، ولا شك أن قَصْر المصنف الكُلِّيّات الخمس فقط فيما تتوقف على الدلالات فيه شيءٌ من القصور، بل هو كُلِّيّات وزيادة.
إذاً: ما الذي يتوقف على فهم الدلالات أو الدلالة وأنواعِها؟
نقول: المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية، وليس التوقف هنا خاصاً بالكُلِّيّات الخمس.
قال: (فيه قصورٌ لأن المتوقف هو التصورات والتصديقات، بما أن الكل من قبيل المعاني لا خصوص الكُلِّيّات الخمس. ففي عبارته قصور).
قال: (تتوقف على معرفة الدلالات الثلاث) حصرُ الدلالة الوضعية في الثلاثة هذا عقليٌ.
ثم فسَّر هذه الثلاث: (المطابقة، والتضمن، والالتزام).
وإنما خصَّ هذا النوع من أنواع الدلالة لأن بحث المنْطِقي في هذا النوع، سيأتي أن الدال إما لفظي أو غير لفظي، وكلٌ منهما إما بالوضع وإما بالعقل وإما بالطبع.
إذاً: هي ستة، والذي يعتني به المناطقة هنا هو الدلالة اللفظية الوضعية فحسب، وهذا النوع هو الذي ينقسم إلى: المطابقة، والتضمن، والالتزام.
نص عليها هنا الشارح بناءً على أن المنْطِقي إنما يبحث في هذا النوع فحسب، وأما ما عداها فلا يبحث فيها البتة.
إذاً: معرفة الدلالات الثلاث التي هي أنواعٌ للدلالة اللفظية الوضعية، ثم فسَّرها الثلاث قال:(المطابقة، والتضمن، والالتزام).
(المطابقة) إعرابُه هذا بدل بعض من كل، أو يكون خبر مبتدأ محذوف وهي: أولُّها المطابقة، والتضمن، والالتزام.
قال: (وأقسام اللفظ) المراد بأقسام اللفظ من حيث الإفراد والتركيب.
مُسْتَعْمَلُ الأَلْفاظِ حَيْثُ يُوجَدُ
…
إِمَّا مُرَكَّبٌ وَإِمَّا مُفْرَدُ
إذاً: ينقسم مستعمل الألفاظ .. يعني: اللفظ المستعمل إما أن يكون مفرداً وإما أن يكون مركباً، والمفرد إما كُلِّي وإما جزئي، والكلي إما جنس وإما فصل .. إلى آخر ما سيأتي.
إذاً يبحثون عن هذا كذلك فيما يُعنوِن له بمباحث الألفاظ.
(وأقسامِ اللفظ) أي: من الإفراد والتركيب وغيرهما، وهو عطفٌ على قوله:(الدلالات) هذان بابان.
بدأ ببيانها أي: الدلالات وما عُطِف عليه فقال: (اللفظ الدال بالوضع وهو ما وضع لمعنى يدل بتوسط الوضع على تمام ما وضع له بالمطابقة؛ لمطابقته أي: موافقته له من قولهم: طابق النعل النعل إذا توافقتا).
هذا هو النوع الأول من أنواع الدلالة الوضعية اللفظية.
والمصنف هنا –الشارح- لم يجرِ على ما اشتهر عند أرباب التصنيف، حيث الأصل أنه يقدِّم تعريف الدلالة، ثم يبيِّن الأقسام، ثم يبيّن أقسام بعض الأقسام، ثم يعرِّف كل قسمٍ من هذه الأقسام.
هذا هو الأصل: أن يأتي بالتعريف "تعريف الدلالة" أولاً، ثم بعد ذلك يأتي بالأقسام، ثم بعد ذلك يأتي بأنواع الدلالة الوضعية اللفظية، ثم يبيّن تعريف كل واحدٍ منها. لكنه بدأ بالعكس فقدّم تعريف الدلالة المطابقية، ثم الدلالة التضمنية، ثم الدلالة الالتزامية، ثم بعد ذلك ذكر تعريف الدلالة.
قال هنا -ونبدأ بما بدأ به؛ لئلا يكون ثَم تشويش-.
قال: (اللفظ الدال بالوضع).
إذاً: البحث في الدال اللفظي، إذاً البحث في الألفاظ، وأما ما عدا ذلك من الدلالات فلا بحث للمنطقي فيها، ولذلك قلنا: الدال إما لفظي وإما غير لفظي.
غير لفظي كالمفهِمات الأربع التي يذكرها النحاة: الإشارة مثلاً هذا دال لكنه غير لفظي، الإشارة لو قال له هكذا .. أشار له، تَفهَم ماذا؟ تفهم معنًى، تواضع الناس فيما بينهم أنه إذا أشار شخصٌ لشخصٍ هكذا يعني: قُم، والعكس يعني: اجلس، أو اذهب أو تعال.
حينئذٍ نقول: هذه الإشارة لها معنى ولها إِفهام، إذاً: هي مُفهِمة دلّت أو لا؟ نقول: دلّت، بدليل الاستجابة، إذا قال لك هكذا تستجيب فتقوم. حينئذٍ نقول: هذا له معنى، لكن ليس من جهة الوضع اللغوي؛ لأنه ليس عندنا صوت وإنما عندنا إشارة، والإشارة ليست بلفظ ولذلك يحترز عنها النحاة في تعريف الكلام، يقول: الكلام هو اللفظ؛ احترازاً عن غير اللفظ كالكتابة، والخط، والإشارة .. ونحوها.
هذا يؤكد أن كلام المصنف إنما هو في الدلالة الوضعية اللفظية.
(اللَّفْظْ) معلومٌ حدُّه كما هو في النحو.
قال: (الدَّالُّ) بشد اللام أي: المُفهِم، والدلالة هي الإفهام هذا الأصل يعني، إذا جئنا للتقرير: إذا دل الشيء على شيءٍ ما إذا أفهم أمراً ما.
قال: (اللَّفْظْ الدَّالُّ) أي: المفهم.
(بالوضع) الباء سببية يعني: بسبب الوضع.
إذاً: الوضع له تأثير هنا بسبب الوضع يعني: الوضع اللغوي ليس الوضع التعارفي، وليس الوضع الطبيعي أو العادي، إنما الوضع الذي يُستقى من لغة العرب. ولذلك قال:(بالوضع).
قوله: (بالوضع وهو ما وضع لمعنى) هذا تفسيرٌ لأي شيء؟ وهو ضمير يعود على ماذا؟
على الدال بالوضع (اللفظ الدال بالوضع) كيف نفسِّره؟
قال: (ما) أي: لفظٌ، ما تصدق على لفظ.
وُضع هذا اللفظ لمعنى، ما هو المعنى؟
المعنى هو ما يُقصد من اللفظ، حدُّ المعنى عند النحاة هناك وهو كذلك هنا: ما يُقصد من اللفظ. فكل ما يُقصد من اللفظ يسمى معنى، انتبه هنا إطلاق، الإطلاق يشمل ما إذا كان اللفظ مفرداً أو مركباً، مفرداً كزيد هذا نقول: أفهم وهو دلالته على ذات مشخَّصة مشاهدة في الخارج، كذلك زيدٌ قائمٌ .. قام زيدٌ لفظٌ، وله معنى: ثبوتُ القيام لزيد في الزمن الماضي في الجملة الفعلية، وثبوت القيام لزيد في الحال في الجملة الاسمية.
إذاً: هذا المعنى من أين أخذناه؟ أخذناه من اللفظ، ما هو اللفظ؟ زيد وزيدٌ قائمٌ، وقام زيدٌ.
زيدٌ لا شك أنه موضوع وهذا محل وفاق؛ لأنه من قبيل المفردات، وهو موضوعٌ بالوضع العربي، وهو تعيين اللفظ بإزاء المعنى.
أما التراكيب فهذه محل نزاع عندهم، هل هي موضوعة أو لا؟ وسيأتي كلام العطّار.
والصواب: أنها موضوعةٌ لكن وضعُها نوعي لا شخصي، وهذا فرقٌ بين النوعين.
المفردات كل لفظٍ كزيد، وبيت، وسماء، وأرض .. وقل ما شئت، كل لفظٍ نطقت به العرب يعني: وضعه الواضع. هذا يسمى شخصياً يعني: تعيينُ معيَّن لمعيَّن.
وأما ما يتعلق بالكلام فهنا وضْعان: وضعٌ نوعي من جهة كون العربي إذا أراد أن يحكم على شيءٍ ما بشيءٍ فيأتي بالمحكوم عليه أولاً وهو الذي يسمى بالمبتدأ، ثم يأتي بالمحكوم به ثانياً وهو المسمى بالخبر، ويقدِّم المبتدأ على الخبر على مقتضى القواعد التي قررها النحاة في باب المبتدأ والخبر.
حينئذٍ نقول: هذه يُعتبر وضعاً، لكن هذا الوضع نوعياً؛ لأنه يتعلق بقواعد، وأما الوضع الشخصي للكلام فهذا لا يقول به أحد بأنه موضوعٌ وضع من جهة المتكلم أو الواضع العربي؛ لأنه يلزم منه ألا يتكلم متكلمٌ "بلغة العرب" إلا بما أُثر عن العرب، فكل اسمٍ محدثٍ بعد ذلك لا يصح أن يُسنَد إليه ولا أن يُسنَد هو؛ لأن العرب ما نطقت بهذا.
ولذلك دائماً نقول مثلاً: قال ابن باز مثلاً رحمه الله تعالى، العرب نطقت بقال، لكن هل وَضَعت عَلَماً ابن باز؟ ما وَضَعت علم.
إذاً: لو قلنا: كل تركيبٍ لا بد أن يكون منقولاً عن العرب لقلنا: هذا ليس بتركيبٍ لغوي، وإنما نقول: لا. هذا تركيبٍ لغوي؛ لأن هذا اللفظ: قال. فعلٌ وأُسند إلى الفاعل، وتقدم عليه وجئنا بالقواعد على ما هي عليه، ونطقنا بالفعل الماضي مبنياً على الفتح: قال، ونطقنا بالفاعل بعده على أنه مرفوعٌ بالفعل السابق .. إذاً: جئنا به على مقتضى القواعد العربية. وهذا لا شك أنه لا يقول به أحدٌ البتة، وإنما نقول: هو موضوعٌ وضعاً نوعياً يعني: العرب تحكمت بأنه إذا أُريد التركيب سواء كان التركيب إسنادياً تاماً كالكلام أو التركيب الإضافي أو التركيب التوصيفي، فعندنا في لغة العرب إذا أراد المركب الإضافي قدَّم المضاف على المضاف إليه، هل يجوز العكس؟ لا يجوز، لو نطق به ناطق قلت: أخطأ، لماذا خطَّأْتَه؟ لأنه خالف القواعد.
لو لم يكن ثَم قواعد لصح له أن يأتي بما شاء متى شاء، لكن نقول: هذه قواعد وهي أن المضاف مقدمٌ على المضاف إليه أولاً. غلامُ زيدٍ.
ثُم حركة غلام على حسب العوامل التي تقدمت عليه، وأما زيد ملازم لِ "وَالْثَّانِيَ اجْرُرْ" إذاً: فهو ملازمٌ للجر، حينئذٍ نقول: ملازمٌ للجر ولا يجوز رفعه ولا نصبه؛ لأن العرب نطقت به هكذا.
أما غلامُ زيدٍ، غلامُ هندٍ، غلامُ أحمد، غلامُ بكرٍ .. قل ما شئت.
ولا يُشترط فيه أن يكون المضاف والمضاف إليه بالتركيب المعيّن أن يكون منقولاً عن العرب، هذا نسميه وضعاً شخصياً لكنه ليس موضوعاً يعني: لا نقول بأن هذا الوضع قد نُقل عن العرب وإنما المراد به الوضع النوعي.
ولذلك الخلاف الذي يوجد في كتب النحاة عند تعريف الكلام: هل الكلام موضوع بالوضع العربي يعني: دلالة وضعية أم عقلية؟
نقول: لا شك أن الخلاف هنا إذا حُمل على النوع والتفصيل لا يبقى خلاف؛ لأن ابن مالك وأبا حيان يريان أن الدلالة عقلية، إن كان المراد دلالة عقلية بحيث أنك تستعمل القواعد وتطبقها على المفردات التي قد تكون أنت أحدثتها، فلا إشكال في أنه عقلي.
دلالة الكلي على الجزئي وانسحاب الجزئي من تحت الكلي هذا لا شك أن العقل هو الذي يُعمِله، فإعمال العقل هنا لا إشكال فيه، لكن ليس هذا المراد وإنما المراد القواعد العامة هذا متفق عليه لا يقول به قائل البتة لا من أهل العلم ولا من غيرهم، أنه لا يتكلم إلا بما نُطق عن العرب، نقول: هذا ليس بصواب.
إذاً: قوله: (ما وُضع) ما أي: معنى، سواءٌ كان هذا المعنى مفرداً دل عليه لفظٌ مفرد يعني: موضوع بالوضع العربي، أو كان مركباً دل عليه بالتركيب، سواء كان تركيباً تاماً أم ناقصاً.
(وهو ما) أي: لفظٌ.
(وُضِع لمعنى) والمعنى ما يُقصَد من اللفظ. هذا تفسيرٌ للفظ الدال.
الوضع -العطَّار له كلام جميل لا بد من الوقوف معه- الوضع في اللغة: جعْل الشيء في حيِّز، وضعتَ هذا في هذا المكان، هذا يسمى وضعاً وضعُ الشيء في حيِّز، تضع هذا في الجيب مثلاً، تقول: هذا وضعٌ يسمى وضعاً في لسان العرب، سواء كان متعلقاً بالمفردات أو بغيرها، في حيِّز.
وعرفاً له معنيان:
أحدُهما: جعلُ الشيء بإزاء المعنى ليدل عليه بنفسه.
جعل الشيء بإزاء المعنى يعني: بمقابلة المعنى، إذا أُطلق اللفظ أُريد به هذا المعنى. هذا المراد بالإزاء، إزاء يعني: مقابِل.
إذا أُطلق زيد له معنى، إذاً: من الذي وَضع هذا اللفظ لهذا المعنى؟ نقول: من جهة العرب.
الإزاء هنا المراد به المعنى المنفهِم عند إطلاق اللفظ، فكل لفظٍ له معنى خاص سواء كان مفرداً أو مركباً، لا يمكن أن يختلط، إذا قلت: جاء زيد معناه تفهم الجِرم الذي هو السماء لا، وإنما تفهم المدلول الذي وضِع له هذا اللفظ وهو الذات المشخَّصة.
شربتُ ماءً، الماء معلوم، كذلك: أكلتُ خبزاً، الخبز معلوم.
إذاً: كل لفظٍ له معنى يختص به، وضعُ هذا اللفظ لهذا المعنى توقيفي، لا شك فيه؛ لأن الذي تحكَّم في ذلك وقرن بين اللفظ والمعنى هو الواضع سواءٌ قلنا الواضع هو الله عز وجل وهو قول الجمهور وهو الصحيح.
وَاللُّغَةُ الرَّبُّ لَهَا قَدْ وَضَعَا
…
وَعَزْوُهَا لِلاِصْطِلَاحِ سُمِعَا
أو قلنا بأن العرب أو غيرهم تواطئوا .. إلى آخره مما هو خلافهم مشهور عند أهل العربية، والأول كما قلنا الصواب، سواء قلنا هذا أو ذاك.
فحينئذٍ نقول: اللفظ بإزاء المعنى، بمعنى أن الواضع -بقطع النظر عن الوضع- قال: بأنه إذا أُطلق هذا اللفظ فيُرادُ به هذا المعنى، فإذا أردتَ هذا المعنى أطلِق هذا اللفظ، سواء كان في المفردات أو في المركبات.
جعْلُ الشيء بإزاء المعنى ليدل عليه بنفسه، ليدل عليه بنفسه يعني: بذاته بدون واسطة "بدون قرينة"، لا نحتاج إلى معونة.
وهذا احترازاً من المجاز؛ لأن المجاز لا يدل عليه بنفسه اللفظ بذاته، زيدٌ أسدٌ لا بد من قرينة. جاء أسدٌ لا بد من قرينة، رأيتُ أسداً يخطب لا بد من قرينة.
لكن المراد هنا في النوع الأول -أن يدل عليه بنفسه- يعني: بذاته، لا حاجة إلى قرينة أو معونة تبين المعنى الذي أُطلق اللفظ من أجله.
قال: وهذا هو المعنى الأخص المتبادر منه عند الإطلاق المُعْتَبر في اصطلاحاتهم وتنبني عليه الأحكام اللفظية من الدلالات الثلاث والترادف والاشتراك وغيرها، الفارق بين الحقائق والمجازات.
هذا النوع الأول جعلُ الشيء بإزاء المعنى ليدل عليه بنفسه.
يعني: لا نحتاج إلى قرينة أو معونة قرينة.
النوع الثاني: جعلُ الشيء بإزاء المعنى ليدل عليه ولو بمعونةِ قرينة، الفرق بينهما القرينة وعدم القرينة، وهذا المعنى الأعم الشامل للحقيقة والمجاز.
إذاً: الفرق بينهما: المعونة في القرينة، وينقسم كلٌ منهما إلى وضعِ العين للعين "يعني: الذات للذات نفسِها" كما في المفردات، وإلى وضعِ الأجزاء للأجزاء كما في المركبات.
وهذا جرْياً على الصحيح، أن المركبات موضوعة والدلالة فيها دلالةٌ وضعية لا دلالة عقلية؛ لأن الذي وَضع الأجزاء للأجزاء هو العربي بالمعنى النوعي، والذي وضع المفردات هو كذلك العربي.
وأيضاً ينقسم إلى الوضع الشخصي وهو ما وُضِع الشيء الملحوظ بخصوصه للمعنى كوضع الإنسان للحيوان الناطق، وإلى الوضع النوعي.
والتقسيم هذا عند العطَّار متقاربان يعني: وضع العين للعين والأجزاء للأجزاء قد يقال بأن الأول هو الشخصي والثاني هو النوعي، لكنه كان ناقلاً عن غيرِه وغيَّر في العبارات.
إلى الشخصي "الوضع الشخصي" وهو وضعُ الشيء الملحوظ بخصوصه للمعنى كوضع الإنسان للحيوان الناطق.
وإلى الوضع النوعي وهو وضع الشيء الملحوظ مع أشياء أُخر بوجهٍ عام، يعني: القواعد العامة التي تكون منوطةً بالجملة الاسمية، وهذا الوضع النوعي هو القواعد التي ينص عليها النحاة في باب المبتدأ والخبر، وكذلك في الجملة الفعلية.
فكل قاعدة رجَّح النحاة أنها على وَفق ما نطق به العرب فهي وضعية، لكن وضعيةٌ من حيث النوع. ولذلك قلت: يجب أن يتقدم الفعل على فاعله، هذه قضية عامة لا تتعلق بقام زيد ولا مات عمروٌ .. إلى آخره، إنما القضية عامة.
هل يجوز تقديم الفاعل على الفعل؟ لا يجوز، إذاً: هذه قضيةٌ عامة وقُل ما شئت في ذلك.
قال: كوضع المشتقات.
كذلك المشتقات وضعُها نوعي يعني: إذا أردت اسم الفاعل فتأتي به على زِنة فاعل إن كان من باب فعل المتعدي إلى آخره.
إن كان أكثر من الثلاثي فتأتي به على زنة الفعل المضارع بإبدال الياء ميم مضموماً وكسر ما قبل آخره، هذه تتعلق بقاعدة عامة.
ثم نوع الفاعل أو اسم الفاعل أنت تأتي به على ما تراه، حينئذٍ نقول: القاعدة العامة هذه موضوعة، من وضعها؟ الواضع، سواءٌ قلنا الله عز وجل أو غيره.
وهل الوضع فيها نوعي يعني: يتعلق بالآحاد .. بالمفردات؟ الجواب: لا.
لو لم نقل ذلك لقلنا بأنه إذا لم تنطق العرب باسم فاعلٍ لفعلٍ ما لا يصح .. لو قلنا بأن كل اسم فاعل لا بد أن يكون وضعياً، فحينئذٍ اسم الفاعل على نوعين:
منه ما نطقت العرب باسم الفاعل، ومنه ما لم تنطق. قطعاً هذا.
حينئذٍ يرد السؤال فيما لم تنطق به العرب، هل يجوز أن نأتي به على وَفق ما نطقت؟
نقول: نعم يجوز.
لو قلنا الوضع للآحاد لما جاز، جاز من باب معرِفة القاعدة ومن باب القياس، فهو يعتبر تنظيراً.
وقل ما شئت في الصفة المشبَّهة، وأفعل التفضيل .. كلها قواعد عامة، والآحاد بعضُها نُقل عن العرب .. نطقت به العرب، وبعضها لم تنطق به العرب.
فحينئذٍ ما لم تنطق به العرب نأتي به على وِزَان ما نطقت به العرب، هذا معنى الوضع النوعي. يعني: النظر فيه يكون إلى القواعد العامة.
كوضع المشتقات والمركبات والمجازات.
والمجاز كذلك على الصواب أنه موضوع، على القول بوجوده وهو الصحيح وهو كذلك نقول: موضوع يعني: وضعاً نوعياً، بمعنى أن العرب نطقتَ قالت: يجوز استعمال اللفظ في غير ما وضع له لكن لقرينة، وهذه القرينة لا بد أن تكون صحيحة وعلاقة بين المعنيين .. إلى آخر ما يُذكر من قواعد عامة في باب المجاز، وهذا لا إشكال فيه.
قال العطَّار: (والمراد بالوضع هنا ما يعم الشخصي والنوعي).
يعني: في قوله: (اللفظ الدال بالوضع) ما المراد بالوضع هنا؟
نقول: النوعي والشخصي، يشمل النوعين، فدَخَلت المركبات.
إذاً: الكلام قد يظن الظان -وهذا يظنه بعض طلاب العلم-: أن دلالة المطابقة لا تكون إلا في المفردات لا، تكون في المفردات وتكون في الجمل سواءٌ كانت اسمية أو فعلية، وهذا تستفيد منه في التفسير.
يعني: إذا أردت تفسير بعض المفردات والتفسير بالمفردات هذا لا يحسُن، وإنما تنظر إلى المركبات، حينئذٍ قد يدل المركب على معناه دلالة مطابقة، هل دلالة المطابقة تجري في المركبات كما تجري في المفردات؟ نقول: نعم، والدليل هو الذي يذكره أهل العم في مظانه؛ لأنه هو الأصل.
يعني: استعمال الشيء على وفق ما نطقت به العرب، ونطقت العرب بالمفردات، ونطقت العرب بالمركبات أو نطقت العرب بالمركبات ثم أُخذ بعد ذلك منها المفردات.
والمراد بالوضع هنا ما يعم الشخصي والنوعي، فدخلت المركبات بناءً على ما هو التحقيق "يعني: القول الحقّ المثبَت بالدليل" من أن دلالتها وضعية لا عقلية، خلافاً لابن مالك رحمه الله تعالى.
وأنها داخلةٌ في دلالة المطابقة؛ إذِ أن المعنيَّ من الوضع في تعريف دلالة المطابقة ليس وضع عين اللفظ لعين المعنى فقط. لو قيل: عين اللفظ لعين المعنى فقط اقتصر على المفردات.
لو قلنا المراد هنا (اللفظ الدال بالوضع) يعني: الوضع الشخصي اختصت حينئذٍ دلالة المطابقة بالمفردات وليس المراد ذلك.
ليس وضعَ عين اللفظ لعين المعنى فقط، بل أحدُ الأمرين: إما وضع عينه لعينه، أو وضع أجزائه لأجزائه.
عبَّر بالأجزاء هنا عن الوضع النوعي.
بحيث تطابق أجزاء اللفظ أجزاء المعنى، والثاني متحققٌ في دلالة المركب الأجزاء للأجزاء فلا تكون خارجة عن الدلالات، وهذا هو الحق الذي ينبغي اعتماده في هذا الموضع.
وقلتُ: هذا يفيدك كقاعدة عامة في باب التفسير، إذا أردت أن تفسّر آية أو جملة من القرآن أو من السنة، فحينئذٍ تنظر هل المعنى الذي أخذته مطابق أو لا؛ بحيث لا يزيد المعنى عن اللفظ.
لأن البعض قد يستنبط شيئاً والنص لا يدل عليه، فيكون المعنى فيه زيادة عن اللفظ، ما نوع الدلالة؟ لا بد أن تذكر ذلك.
فكل معنًى تأخذه من آية، كل معنى تأخذه من حديث يرِد السؤال: هذا المعنى الذي أخذتَه من هذا النص النبوي أو القرآني هل الدلالة عليه بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام؟ لا بد من جواب، إن قلت: ما أدري. تبقى مشكلة هنا، كيف تستنبط وكيف تقول: هذا قاله الله تعالى أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تقول: ما أدري بأي دلالة! هذه مشكلة.
والحاصل: أن دلالة المركب وضعية؛ لأن دلالة الوضعية ليست هي عبارةً عن دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له، وإلا لما كانت دلالة التضمن والالتزام وضعية، بل ما يكون للوضع مَدخلٌ فيها على ما فسّرها القوم به، فتكون دلالة المركبات وضعية ضرورة أن لأوضاع مفرداته دَخَلاً في دلالته.
إذاً: نخلُص من هذا البحث: أن قول المصنف هنا .. وهذا تحمِله في باب الأصول؛ لأنه قل من نبّه على أن الوضع هنا يشمل المركبات، ولذلك وقع الوهم عند كثير من طلاب العلم أن دلالة المطابقة خاصةٌ بالمفردات وليس الأمر كذلك، بل القرآن لو أردت أن تفسّره ما تفسّره بالمفردات وإنما تنظر إلى المركبات جمل؛ لأنه مبتدأ وخبر، فعل وفاعل. حينئذٍ كيف تفسّره بالمفردات؟ هذا خطأ، يعتبر خَللاً في التفسير، إلا إذا أُريد تحقيق معنى لفظي حُكِم عليه فلا إشكال في أن يُنظر إلى ذلك المعنى الذي وُضع له ذلك اللفظ في استعمال العرب.
وأما الأصل كقاعدة عامة: التفسير هو ما يؤخذ من المركبات وإلا ما صار تفسيراً، وإنما ذاك يكون معجمَاً أو يكون نظراً إلى لمفردات بحد ذاتها.
إذاً: قوله: (وهو) أي: اللفظ الدال بالوضع (ما) أي: لفظٌ.
(وُضِع لمعنى) وهذا المعنى سواءً كان مفرداً أو مركباً؛ لأن القسمة رباعية عندهم، اللفظ إما أن يكون مفرداً أو مركباً، والمعنى إما أن يكون مفرداً وإما أن يكون مركباً .. المعنى قد يكون مركباً وقد يكون مفرداً.
مركباً كما لو "وسيأتينا هذا كمثال في دلالة التزام" العمَى، العمى له معنى ما معناه؟ سلبُ البصر، سلب البصر هذا مركب؛ لأنك لا بد أن تفهم معنى سلب ولا بد أن تفهم معنى البصر. إذاً: معناه مركب واللفظ واحد.
كذلك المفرد على المفرد زيد يدل على ذات مشخّصة واحدة.
إذاً: الدال إما أن يكون مفرداً وإما أن يكون مركباً، المدلول عليه المعنى إما أن يكون مفرداً وإما أن يكون مركباً.
قال: (ما وُضع لمعنى).
قال: (يدل بتوسطِ الوضع) ما الذي يدل؟ اللفظ، الكلام على اللفظ .. يدل هو أي: اللفظ.
(يدل) أي: يُفهِم، الدال يعني: الإفهام، ويدل يعني: يُفهم.
(يدل بتوسط الوضع) يعني: بواسطة الوضع، وعرفنا معنى الوضع والمراد بالوضع.
(يدل بتوسط الوضع على تمام ما وُضع).
(على تمام ما) أي: المعنى الذي (وُضِع) ذلك اللفظ.
(له) لذلك المعنى (بالمطابقة) يعني: بدلالة تسمى دلالة المطابقة.
إذاً: (يدل) ذلك اللفظ (بتوسط الوضع) لأنا قلنا الباء هنا في قوله: بالوضع سببية. إذاً: بسبب الوضع، فالواسطة بينهما هو الوضع.
(على تمام) يعني: لا بعض.
(مَا) أي: المعنى الذي (وُضِعَ لَهُ) وضع ذلك اللفظ له (بِالمُطابَقَةِ).
(وُضِعَ) بضمٍ فكَسْر، نائب فاعله ضمير اللفظ .. وضع هو أي: اللفظ.
(لَهُ) لذلك المعنى، ولم يُبرزه المصنف مع جريانه على غير ما هو له لأمن اللبس.
والأصل أن يقول: (مَا وُضِعَ) هو أي: اللفظ.
(لَهُ) أي: لذلك المعنى.
لم يكتفِ بقوله: (مَا وُضِعَ) مع أن ما وُضع له لا يصدق إلا على تمام ما وضِع له. يعني: زاد الشارح هنا لفظاً، صاحبُ الأصل قال:(يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ بِالمُطابَقَةِ).
قوله: (تَمَامِ) هل هي من باب التأكيد أو للاحتراز؟
قلنا: (عَلَى تَمَامِ) يعني: لا على بعض. هل هي للاحتراز لا بد منها، أم أن ما وضع يكفي؟
نقول: الأصل أن ما وُضِع يكفي؛ لأنه إذا أُطلق اللفظ بأنه استُعمل فيما وُضِع له، الأصل فيه حملُه على كماله.
حملُ اللفظ على بعض ما وُضِع له هذا خلاف الأصل، ولذلك لا نقول بأن الدلالة -دلالة التضمن- مرادة في لفظٍ ما إلا إذا دلّت قرينة، وإلا الأصل أن يُحمل اللفظ على تمام ما وُضِع له.
قال هنا: (لم يكتفِ بقوله: ما وُضِع مع أن ما وُضِع له لا يصدق إلا على تمام ما وُضِع له قصداً إلى التأكيد).
إذاً: من باب التوكيد لا من باب الاحتراز.
(أو رعايةً لما يقتضيه حسن التقابل بجزء) يعني: بجزء ما وُضِع له فيما سيأتي؛ لأنه قال: وعلى جزئه.
إذاً: (تَمَامِ مَا وُضِعَ) حصل من باب التقابل والمشاكلة فقط في التصنيف.
(بحسب العرف ولم يقل على جميع ما وُضِع له "كما قال بعضهم" للإشعار بالتركيب، فلا يشمل الدلالة على البسيط).
قال: (بِالمُطابَقَةِ) أي: بدلالة تسمى مطابقة، لماذا سُمِّيت دلالة مطابقة؟
قال: (لمطابقته) مطابقة المدلول (أي: موافقتِه له) للفظ حصل تتطابق يعني: توافق.
توافق بين ماذا؟ بين الدال "الذي هو اللفظ" والمدلول، بحيث الذي يُفهَم من اللفظ هو عينُ ما وُضِع اللفظ له.
بحيث ما يُفهَم من اللفظ "الذي يفهمه السامع سواءٌ كان اللفظ مركباً أو مفرداً" هو عين "يعني: نفس" ما وُضِع اللفظ له، لا يزيد المعنى عن اللفظ ولا اللفظ عن المعنى، إنما يكون بينهما مطابقة، ولذلك قيل:(من قولهم: طابق النعلُ النعلَ) كيف طابق النعل النعل، كيف وافقَه؟
حصل تساوي يعني: النعل هكذا يكون، ما تكون واحدة طويلة وواحدة قصيرة، فالنعل دائماً يكونان متساويين.
حينئذٍ (طابق النعل النعل) تطابقا، ولذلك الإنسان يستدل على أن خللاً حصل بعدم التطابق، كذلك اللفظ والمعنى يتطابقان، لا يزيد أحدهما عن الآخر.
قال: (لمطابقته) أي: موافقتِه (له) أي: المعنى للفظ.
(من قولهم: طابق النعلُ النعلَ إذا توافقتا) إذاً: هذا النوع الأول وهو دلالة المطابقة.
دلالة اللفظ على تمام ما وُضِع له، قالوا: كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق كما سيأتي.
دلالة الإنسان .. لفظ إنسان هذا مفرد، ما معناه على ما يذكره المناطقة هنا؟
معناه الذي وُضِع اللفظ له مركب من شيئين وهو: حيوان، وناطق. حيوان فَعَلان يعني: مما فيه الحياة وليس المراد بالحيوان المتعارف ((وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)) [العنكبوت:64] اللفظ هذا لا إشكال فيه، حيوان يعني: فيه روح فيه حياة، ولذلك عُبِّر بفَعَلان التي تدل على الغليان.
ناطق المراد به القوة العاقلة وليس المراد به النطق الكلام، وإلا من وُلد أخرس لا يكون إنساناً، وإنما المراد القوّة العاقلة "القابلية عنده للتفكير" يعني: يفكِّر، وهذه هي الميزة بين الإنسان والبهيمة.
حينئذٍ إذا قيل: إنسان فُهِم منه حيوانٌ ناطق، إذا كان كذلك نقول: طابق اللفظ -الذي هو لفظ إنسان- المعنى .. تطابقا؛ لأنه قد يُستعمل اللفظ في بعض معناه، كيف يُستعمل اللفظ؟
قد يستعمل لفظ الإنسان ويراد به الناطق فقط دون حيوان، حينئذٍ لم يُستعمل على تمام ما وُضِع له وإنما في بعض ما وُضِع له، وإذا استُعمل الإنسان في الحيوان فقط دون الناطق أو بالعكس، وقد يُستعمل الإنسان في الدلالة على شيءٍ خارجٍ عنه كالكتابة والعِلم ونحو ذلك مما يتصف به الإنسان.
حينئذٍ نقول: لفظ الإنسان له عدة استعمالات، عدة إطلاقات لكن الأصل الذي يكون عمدة في حمل اللفظ على معناه أن يُحمَل اللفظ على معناه الذي وُضِع له في لسان العرب ابتداءً، ولذلك قال: ما وُضِع لمعنى ثم قال: (بتوسُّط الوضع على تمام ما وُضِع له).
فنقول: وُضِع في لسان العرب ويراد به الحيوان الناطق، فيُحمَل عليه. هذا النوع الأول.
وسُمِّي مطابقة لما ذكرنا سابقاً.
قال: (ويدلُّ على جزئه) ما هو الذي يدل؟
اللفظ، كأنه يقول: واللفظ الدال بالوضع يدل باعتبار وضعه لتمام ما وُضِع له على جزئه.
وهذا إنما يتأتى إذا كان المعنى مركباً، متى نقول: المعنى له جزء؟ إذا كان مركباً، فإن لم يكن له جزءٌ انتفت دلالة التضمن هذا النوع الثاني وهو دلالة التضمن.
متى نقول بدلالة التضمن؟ نقول: إن كان المعنى له جزء وإن لم يكن له جزء بل هو جزءٌ واحد لا يتجزأ، حينئذٍ لا تتأتى دلالة التضمن.
ولذلك قال: (ويدل على جزئه) أي: على جزء ما وُضِع له.
(جزء ما) أي: المعنى؛ لأن الجزئية هنا باعتبار ماذا: اللفظ أو المعنى؟ الجزئية هنا .. النظر للجزء –بعض- باعتبار اللفظ أو المعنى؟ المعنى، بحثُنا في المعاني.
إذاً: (على جزء ما) المعنى الذي (وُضِع اللفظ له) لذلك المعنى، انتبه هذه ضمائر هي التي تفتِّح الذهن.
(على جزء ما) أي: على جزء المعنى.
(الذي وُضِع اللفظُ) الضمير هنا -نائب الفاعل- يعود إلى اللفظ.
(له) أي: لذلك المعنى.
قال: (بِالتَّضَمُّنِ) يعني: يدل على جزئه بدلالةٍ تسمى دلالة التضمن، لماذا سُميت دلالة تضمن؟ لتضمُّن المعنى لجزئه وهو كذلك، المعنى الكلي المركب يتضمن جزءه، كتضمن لفظ الإنسان للحيوان فقط، أو تضمن لفظ الإنسان للناطق فقط، أو دلالة الأربعة على الواحد فقط مثلاً، أو على الاثنين فقط، أو على الثلاثة فقط. نقول: هذه دلالة تضمن.
إذاً: اللفظ إن كان له معنى مركباً واستُعمل اللفظ مراداً به بعض أو جزء هذا المعنى، تسمى الدلالة دلالة تضمن. ولذلك يُمثَّل له عند المناطقة بالأربعة وبالإنسان.
دلالته على الأربعة مطابَقة، يعني: إذا عندك أربعة أشياء وقلت: هذه أربعة، أربعة أصابع نقول: هذا مطابقة؛ لأن اللفظ طابق ما وُضِع له، هذا الأصل.
لو استعملت دلالة الأربعة على الواحد: تضمُّن، على الاثنين: تضمُّن، على الثلاثة: تضمُّن.
ولذلك قال الشيخ الأمين في المقدمة: لو قال قائل: عندي أربعة. فقال له: أعطني واحداً قال: ما عندي. أنا قلت أربعة ما قلت واحد، صح نفيه؟ ما صح نفيه.
نقول له: لا. أنت قلت: عندي أربعةُ "مليارات مثلاً" أعطني واحداً، قال له: أنا ما قلت واحد أنا قلت عندي أربعة.
قال: دلالة الأربعة على الواحد بدلالة التضمن، فهو داخل تحتها، فالذي عنده أربع عنده واحد وعنده اثنان وعنده ثلاثة.
قال هنا: (إِنْ كَانَ لَهُ جُزْءٌ) هذا شرط. (إن) بالكسر ..
(إِنْ كَانَ لَهُ جُزْءٌ) يعني: إن كان المعنى له جزءٌ، بمعنى أن يكون المعنى مركباً، ولذلك قال: بخلاف البسيط كالنقطة، النقطة مسماها النقطة لا تتجزأ.
حينئذٍ لا تستعمل دلالة التضمن فيها، يعني: دلالة التضمن ليست لازمة لدلالة المطابقة؛ لأن دلالة المطابقة قد يكون معناها بسيطاً لا يتجزأ وهي مطابَقة، فتنتفي في هذا الموضع دلالة التضمن، وقد تكون دلالة المطابقة تدل على شيءٍ مركَّب، حينئذٍ نقول: دلالة التضمن توجد في مثل هذه التراكيب ولذلك قال: (إِنْ كَانَ لَهُ جُزْءٌ) يعني: المعنى الذي دل عليه اللفظ وكان المعنى يتجزأ يتبعَّض، حينئذٍ يصح استعمال اللفظ في بعض المعنى دون بعضه الآخر، ونسمي هذه الدلالة دلالة تضمن، بخلاف البسيط كالنقطة.
قال: البسيط هنا بالمعنى المقابل للتركيب اللفظي لا للتركيب الطبيعي، ولو قال بخلاف المفرد لكان أولى، لكن ليس كل مفردٍ يكون معناه بسيطاً، قد يكون وقد لا يكون.
قال: (وَعَلَى مَا يُلَازِمُهُ) هذا النوع الثالث: دلالة اللفظ (عَلَى مَا يُلَازِمُهُ) يعني: واللفظ الدال بالوضع.
يدل باعتبار وضعه لتمام ما وُضِع له (عَلَى مَا) أي: المعنى الذي (يُلَازِمُهُ) يلازم اللفظَ ذلك المعنى، فاعله المستتر عائدٌ على ما، ومفعولُه البارز ضمير المعنى الذي وُضِع اللفظ له.
قال: (وَعَلَى مَا يُلَازِمُهُ) على المعنى الذي يلازمه أي: ما يلازم (مَا) أي: المعنى الذي وُضِع له اللفظ.
عرفنا فيما سبق اللفظ (يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ) دلالة مطابقة، اللفظ يدل على جزء المعنى الذي وُضِع له.
هنا لا يدل على المعنى، وإنما يدل على شيءٍ خارجٍ عن المعنى لازمٍ لهذا المعنى، مثلاً مر معنا الأربعة تدل بالمطابقة على الأربعة .. العدد، تدل بالتضمن على الواحد والاثنين .. إلى آخره.
الأربعة عدد زوجي يعني ينقسم على اثنين، العدد إما فردٌ وإما زوجٌ لا ثالث لهما. الفردية لازمةٌ للعدد كالثلاث، والزوجية لازمة للعدد كالأربعة، لكنها هل هي داخلة في مفهوم اللفظ؟ الجواب: لا.
فالأربعة ما وُضِعت إلا لعدد الأربعة، أما كونه زوجاً هذا مفهومٌ من خارج، هذا الخارج لازمٌ لهذا المسمى الذي وُضِع اللفظ له، داخلٌ تحت المسمى؟ الجواب: لا. خارجٌ عنه لكنه لازمٌ له؛ بحيث لا توجد الأربعة إلا وهي زوج، وقد توجد الزوجية لا في الأربعة. يعني: إذا قيل زوجٌ هذا اللازم، حينئذٍ إذا قيل: هذا عدد زوج، لا يستلزم الأربعة قد يكون ثمانية.
إذاً الزوجية لا تستلزم الأربعة، لكن إذا قيل أربعة لزم منه الزوجية، فالزوجية هذا معنى وهو لازمٌ لا ينفك عن الشيء، لكنه ليس داخلاً تحت مسماه وإنما هو خارجٌ عن مسماه. هذا يسمى دلالة التزام.
كدلالة الإنسان على العلم.
"حيوان ناطق" ما وُضِع حيوان ناطق متعلم أو قابل للعلم، لكن معلوم بدلالة الالتزام من خارجٍ أن الإنسان قابلٌ للعِلم، وقابلٌ لصَنْعَة الكتابة .. إلى آخر ما يختص به الإنسان.
فدلالة الإنسان على العِلم التزامية، دلالة الإنسان على صنعة الكتابة وقَبوله لها هذه التزامية، لكن هل اللفظ وُضِع لصناعة الكتابة والعِلم؟ الجواب: لا. هذا نسميها دلالة التزام.
قال هنا: (وَعَلَى مَا يُلَازِمُهُ) أي: ودلالة اللفظ بتوسط الوضع على معنًى يلازم ذلك المعنى الذي وُضِع له اللفظ يعني: يلزم من العلم بالملزوم كالأربعة .. الأربعة ملزوم، الذي هو مفهوم اللفظ الموضوع له العِلمُ باللازم الذي هو الزوجية، من غير احتياجٍ إلى واسطةٍ كما هو حقيقة اللزوم البيِّن بالمعنى الأخص، وسيأتي اللزوم البيّن بالمعنى الأخص.
قال في الحاشية هنا: (وَعَلَى مَا يُلَازِمُهُ) أي: معنىً تصوُّره لازمٌ لتصور المعنى الذي وُضِع اللفظ له بلا احتياجٍ إلى واسطة، واللزوم والملازَمة عدمُ الانفكاك بين شيئين.
الزوجية والأربعة هل يمكن أن تنفك الزوجية على الأربعة؟ الجواب: لا.
الإنسان والعلم هل يمكن أن ينفك عنه؟ لا .. القابلية دعك من الوجود. يعني: بالقوة لا ينفك عنه، كل إنسان قابل للعلم، كل إنسان قابل للكتابة هذا الأصل فيه، وحينئذٍ نقول: لا ينفك عنه.
فاللازم والملزوم نقول: لا ينفك اللازم عن ملزومه، هذا الأصل فيه .. لا يتصور، إن تُصوِّر فليس بلازمٍ .. إن تُصوِّر الانفكاك حينئذٍ لا يكون لازماً.
ولذلك قال: عدم الانفكاك بين شيئين، والمقتضِي منهما للآخر يسمى ملزوماً، والآخر يسمى لازماً.
الأربعة ملزوم أو لازم؟
ملزوم، والزوجية؟ لازم.
الإنسان ملزوم والعلم لازم. إذاً: فرِّق بينهما.
المقتضِي هو الملزوم، والمقتضى هو اللازم .. المقتضي للآخر يسمى ملزوماً، والآخر يسمى لازماً.
(وَعَلَى مَا يُلَازِمُهُ) أي: ما يلازِم ما وُضِع له.
قال: (فِي الذَّهْنِ) هذا متعلق بالفعل (يُلَازِمُهُ) يلازمه أين؟ أين الملازَمة؟
الملازمة قد تكون في الذهن والخارج معاً، وقد تكون في الذهن فقط، وقد تكون في الخارج فقط.
وقوله: (فِي الذَّهْنِ) وأطلقه المصنف هنا، فدخل فيه نوعان .. ما قيَّده.
فدخل فيه: ما يكون التلازم في الذهن والخارج معاً، وما يكون في الذهن فقط؛ لأن العبرة بالتلازم في الذهن بقطع النظر عن الخارج، سواء وافقه في الخارج أو لا، أما أن يكون التلازم في الخارج لا في الذهن. هذا الممنوع عند المناطقة فلا يسمى دلالة التزام.
وهذا سيأتي أنواع التلازم.
قال: (فِي الذَّهْنِ) وهي القوة التي تهيئ النفس لمعرفة المجهولات التصورية والتصديقية.
قال: (بِالاِلْتِزَامِ) يعني: يسمى بدلالة الالتزام.
وهو دلالة اللفظ على شيءٍ خارجٍ عن مسماه لازمٍ له.
على شيءٍ خارجٍ عن معناه يعني: لم يوضع له، لم يدل عليه المعنى لا بالتمام ولا بالتضمن، لكنه لازمٌ له لا ينفك عنه، نسميها دلالة التزام.
لالتزام المعنى أي: استلزامه له يعني: لا يتم المعنى من حيث هو إلا بفهم هذا اللازم يعني: سبب التسمية هنا قال: لالتزام المعنى. أي الموضوع له اللفظ عِلَّة لتسميتها التزاماً.
أي استلزامِه له. أي: اللازم الذي دل عليه اللفظ.
قال: سواءٌ لازَمه في الخارج أيضاً أم لا.
هذا فيه تعميم أم تخصيص؟ تعميم.
لأنه أطلق قال: (فِي الذَّهْنِ) يعني: يلازمه في الذهن.
إذاً: ما لازم في الذهن قد يطابقه الخارج وقد لا يطابقه؛ لأن العبرة بما في الذهن.
يُفهم من هذا أنه لو كان التلازم في الخارج لا في الذهن غير معتبر، لا يسمى دلالة التزام عند المناطقة، وإن سمَّاه دلالة التزام عند الأصوليين والبيانيين.
قال: (سواءٌ لازَمه في الخارج أيضاً) أي: كما لازمه في الذهن، فيكون اللزوم ذهنياً وخارجياً.
مثاله: كلزوم الزوجية للأربعة، هذا في الذهن؛ لأن الزوجية هو العدد المنقسم إلى اثنين أو ما قبِل القسمة على اثنين، هذا العقل أدرك ذلك وموجودٌ في الذهن، وقلنا الوجود المراد به الملاحظة، وهو في الخارج كذلك.
إذاً: اتفقا اللازم في الذهن وفي الخارج. يعني: المعنى هذا كون الأربعة زوجاً أو الزوجية للأربعة هل هو في الخارج فقط أم في الخارج وفي الذهن؟ تقول: معاً.
قال: (سواءٌ لازمه في الخارج أيضاً) أي: كما لازمه في الذهن، فيكون اللزوم ذهنياً وخارجياً. كلزوم الزوجية للأربعة.
وقوله: (أم لا) أي: لم يلزمه في الخارج بل الملازمة ذهنية فقط كلزوم البصر للعمَى، فإن اللزوم بينهما ذهنيٌ فقط.
العمى لفظٌ مفرد، وضعته العرب لمعنى، ما هو المعنى؟ سلب البصر، أو عدم البصر.
إذاً: معناه مركّب، ما نوع التركيب هنا؟ تركيب إضافي: سلبُ البصرِ، ولا يُتعقَّل معنى المضاف والمضاف إليه، أو المركَّب الإضافي إلا بتعقُّل الجزأين.
كيف تَتعقَّل يعني تفهم معنى المضاف المركب الإضافي، بالمضاف فقط .. إليه فقط؟ لا. لا بد من الأمرين.
سلب- يعني: عدم. الأمر واضح، إذاً فهِمتَ المراد به.
الثاني الذي هو البصر، البصر نقيض أو ضد العمى، فعندما يقال: عين زيدٍ عمياء. الكلام في مثال واحد ليس على الإطلاق، لو قال لك قائل: عَمِيَت عين زيد، أنت تستحضر عميت مباشرة سلب البصر، العين نفسُها عمياء سُلب عنها البصر، وأنت تتخيل البصر وهو نقيض للعمى لا يجتمعان.
حينئذٍ في الذهن وُجد البصر واجتمع مع العمى وهو لازمٌ له؛ لأنه لا يتم فهم معنى العمى إلا بفهم معنى البصر، متلازمان.
يعني: لا يمكن أن يوجد معنى العمى في الذهن إلا ومعه معنى البصر، لكن في الخارج؟ متعاندان، قلتُ المثال في واحد .. ممكن أن تقول زيد وبكر وتفصِل المسألة، لكن عين زيدٍ عمِيت، إذا قيل لك هذا التركيب، أو عين زيدٍ عمياء مباشرة تستحضر في ذهنك عمياء يعني: سُلب بصرها.
إذاً: ذات العين عمياء وهي مبصِرة، لكنه لا في الخارج وإنما يكون في الذهن، هذا يسمى لازماً ذهنياً فقط ولا وجود له في الخارج البتة؛ لأن بينهما معاندة، يتعاندان إذا وُجد العمى ارتفع البصر، وإذا وُجد البصر ارتفع العمى.
حينئذٍ لا يمكن أن يُفهَم معنى العمى إلا بفهم معنى البصر؛ لأن البصر جزءٌ من مدلول العمى، وهو مركب إضافي.
قال: (كَالْإِنْسَانِ. فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالمُطَابَقَةِ، وَعَلَى أَحَدِهِمَا) أي: الحيوان أو الناطق (بِالتَّضَمُّنِ).
(وَعَلَى قابِلِ التَّعَلُّمِ) يعني: الإدراك المطلق.
(وَصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ) صنعةٍ هي الكتابة الإضافة للبيان (بِالاِلْتِزَامِ).
هذا مثال واحد جمَع فيه أنواع الدلالات الثلاث:
الدلالة الأولى: المطابقة وهي دلالة اللفظ على تمام ما وُضِع له اللفظ، واللفظ –الإنسان- وُضِع لحيوان ناطق فأُطلق الإنسان وأُريد به الحيوان الناطق، هذه دلالة مطابقة.
و (بِالتَّضَمُّنِ) أي: وعلى أحدهما.
يعني: الناطق فقط أو الحيوان فقط، هذه دلالة تضمن، ولذلك قال:(بِالتَّضَمُّنِ).
(وَصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ بِالاِلْتِزَامِ).
والمراد هنا (وَصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ) يعني: القابلية، كل إنسان قابل ولو كان أُمِّياً هو كاتب بالقوة لا بالفعل، الوصف للشيء قد يكون بالفعل يعني: يكتب، وقد يكون بالقوة يعني: لو تعلَّم قبِل.
إذاً: الإنسان من حيث هو يقبل الكتابة، كما أنه يقبل الكلام، ولذلك هو متكلم ولو كان أخرس.
تنبيه: معنى اللزوم عدمُ الانفكاك؛ لأن اللازم عند المناطقة في هذا الموضع فيه تفصيل، والتفصيل كالآتي:
معنى اللزوم: عدم الانفكاك، كما ذكرنا سابقاً.
قال: فإن لم يحتج لدليلٍ يعني: لا يحتاج إلى إثبات، إذا قيل: الشيء لازمٌ للشيء، قد يحتاج لدليل وقد لا يحتاج.
لا يحتاج لدليل كالزوجية للأربعة؛ لأنه كالشمس في السماء، إيضاحُ المُوضَحات من أَشكَل المُشكِلات، فلا يحتاج إلى دليل.
قال: فإن لم يحتج لدليلٍ فبيِّن .. يسمى بيّناً، لازماً بيِّناً .. واضح.
وإن احتاج له "للدليل" كلزوم الحدوث للعاَلم بفتح اللام فغير بيِّن.
يعني: ما احتاج لدليلٍ غير بيّن، وما لم يحتج لدليلٍ فهو بيّن.
إذاً: اللازم ينقسم إلى نوعين باعتبار الاحتياج للدليل أو لا، هل يحتاج إلى إثبات أو لا، هل كل من ادعى أن هذا الشيء لازمٌ لشيءٍ ما يحتاج إلى إثبات؟ لا. قد يكون واضحاً كالشمس فلا يحتاج إلى إثبات، وقد يحتاج إلى إثبات، ما لا يحتاج يسمى بيّناً والتسمية واضحة.
وما يحتاج يسمى غير بيِّن يعني: ليس واضحاً بذاته.
(وإن كفى في جزم العقل به تصوُّر الملزوم فهو أخص).
البيّن نوعان: بيِّنٌ أخص وبيّنٌ أعم.
(إن كفى) كما قال هنا: (وإن كفى في جزم العقل به تصوُّر الملزوم) يعني: دون اللازم، تصور الملزوم الأربعة فقط، دون اللازم. هذا يسمى أخص.
(وإن توقف على تصور الملزوم ولازِمه –طرفين- فهو أعم).
والذي يُعتبر شرطاً هنا في تحقُّق دلالة الالتزام هو البيِّن بالمعنى الأخص لا الأعم، يعني: لا يحتاج إلى دليل ثم يكفي في جزم العقل به أن يتصوَّر الملزوم فقط دون اللازم، فإن احتاج إلى تصور الملزوم واللازم معاً نقول: هذا بيّنٌ أعم، وهذا لا يُشترط في دلالة الالتزام، ولذلك لو وُجد لا يسمى دلالة التزام.
قال: (وإن توقف على تصور الملزوم ولازمه كلزوم التعجُّب للإنسان فهو أعم).
وشرطُ دلالة الالتزام: اللزوم البيّن الأخص، وأما الأعم فليس بلازم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ودلالة العام على بعض أفراده كجاء عبيدي مطابقة؛ لأنه في قوة قضايا بعدد أفراده أي: جاء فلانٌ وجاء فلان .. وهكذا).
هذا من فوائد علم المنْطِق، وهذه ما يذكرها المنطقيون أصالة وإنما أهل الشرع هم الذين يذكرون هذه المسألة، وهو أراد أن يرد على القرافي.
هذا شروعٌ من المصنف رحمه الله تعالى في تقرير جواب الأصفهاني عن النقض الذي أورده القرافي على حصر الدلالات في الثلاث بمادة لم يتحقق فيها أقسامها.
قلنا: الدلالة محصورة في ثلاثة أنواع:
لفظ على مسماه: إما مطابقة، وإما تضمن، وإما التزام.
سؤال: هل يوجد عندنا لفظٌ يدل على معنى وليس بواحد من الثلاث؟ لا ليس عندنا، العدم هنا "عدم الوجود" دليلٌ على صحة التقسيم، لو أثبتنا قِسماً رابعاً انتقض التقسيم.
القرافي أتى بقسم رابع قال: القسمة ثلاثية فيها نظر.
وعنده مثال لدلالةٍ تدل على معنى ليست مطابَقية، ولا التزامية، ولا تضمنية.
إذاً: هذا الحصر الذي اشتهر عند المناطقة والبيانيين والأصوليين. هذا الحصر ليس بصحيح عند القرافي، وهذا الذي أراد أن يرد على القرافي، وهو قوله مردود لا شك؛ لأن ما ذكره من مثالٍ هو دلالة تضمن.
قال هنا: (ودلالة العام) يعني: اللفظ العام، اللفظ المستغرق الدال .. إلى آخره، هذا مصطلحٌ أصولي.
اللفظ الذي يستُعمل في مجموع الأفراد التي يصلح لشمولها بلا حصرٍ لها في عددٍ خاص، (المؤمنون) هذا لفظٌ له مدلول، ما هو مدلوله؟ المؤمنون هذا لفظٌ عام؟ كيف عرفنا أنه عام؟
جمعٌ محلى بأل، ولك وجهٌ آخر تقول: مؤمنون جمع مؤمن اسم فاعل، اسم الفاعل إذا دخلت عليه أل فهو ..
وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَةُ أَلْ
…
وَكَوْنُهَا بِمُعْرَبِ الأَفْعَالِ قَلّ
صفةٌ صريحة قال: "وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَةُ أَلْ".
إذاً: المؤمنون أل هذه موصولة، والموصولات من ألفاظ العموم.
صِيَغُهُ كُلٌّ أَوْ ?لجَمِيعُ
…
وَقَدْ تَلَا ?لَّذِي الَّتِي الفُرُوعُ
إذاً: أل موصولة وهي تدل على العموم.
إذاً النتيجة: المؤمنون لفظٌ عام، ما مدلوله؟ ما معنى العام؟
العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له.
إذاً: مدلوله: أفرادٌ آحاد، ذُكوراً أو إناثاً، اتصف كلُّ فردٍ من هذه الأفراد بصفة الإيمان، لهم حصر؟ لا حصْر لهم.
حينئذٍ هذا المعنى .. يقول هنا: (دلالة العام على بعض أفراده) على تمام الأفراد مطابَقة، على بعض الأفراد "هو محل الإشكال عند القرافي" هل هو دلالة تضمن أو لا؟
يقول: اللفظ ما وُضِع ليدل على بعض ما استُعمل فيه، وإنما وُضِع اللفظ للدلالة على استعماله في تمام ما وُضِع له.
الكلام الآن في العام قبل الحكم عليه، أو في العام بعد الحكم عليه؟ فرقٌ بين مسألتين.
نبحث في العام قبل أن تحكم عليه، المؤمنون هذا لفظٌ عام له مدلول ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] لفظٌ عام له مدلول آخر، إذا قيل: المؤمنون هذا دون إثبات حكم، هذا من باب التصورات؛ لأنه إثباتٌ لمفرد دون إثبات حكمٍ له.
((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] هذا من باب التصديقات، ما معنى ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1]؟
معناه: كل فردٍ من أفراد لفظ المؤمنون يصدُق عليه ويتْبعُه الحكم فرداً فرداً، فـ: زيدٌ المؤمن مفلح في الدنيا وفي الآخرة. هذا الأصل لأنه أطلق قال: ((قَدْ أَفْلَحَ)) [المؤمنون:1] ما قيده قال: في الآخرة، حتى في الدنيا ولو كان مُعذَّباً فهو مفلح ولا شك.
((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] إذاً: كل فردٍ فردٍ من أفراد المؤمنون يترتب عليه الحُكم.
فحينئذٍ يكون المعنى: زيدٌ مفلح، عمروٌ مفلح، بكرٌ مفلح .. هذه قضايا؛ لأن عندنا محكومٌ ومحكومٌ عليه.
زيدٌ مفلح، عمرو مفلح .. وقل ما شئت.
إذاً: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] في الظاهر أنه جملة واحدة، لكنه في الباطن وفي المعنى أنه عِدة قضايا بلا حصر.
قال الشارح هنا: (دلالةُ العام على بعض أفراده كجاء عبيدي مطابَقة؛ لأنه في قوة قضايا) يعني: جُمل (بعدد أفراده) إذا قلت: جاء عبيدي .. هذا نحن نأتي بالقرآن أحسن: جاء عبيدي، عبيدي هذا جمعٌ مضاف فيعم دخل فيه زيدٌ وبكر وعمر .. إلى آخره.
جاء عبيدي يعني: جاء زيدٌ، وجاء عمروٌ، وجاء بكرٌ إلى آخره، كما نقول: أفلح زيدٌ، وأفلح بكرٌ وأفلح عمروٌ، أو زيدٌ مفلحٌ .. إلى آخره.
نقول: هذا التركيب في الحكم على اللفظ العام يتضمن عدة قضايا "يعني: جُمل" كل موضوعٍ من هذه القضايا هو فردٌ من أفراد العام، ويُحكم عليه بالحكم الذي سُلِّط على العام وهو الفلاح فيما ذُكر.
حينئذٍ الدلالة هنا دلالة مطابقة، وهذا لا إشكال فيه أنه دلالة مطابقة ولذلك قال:(بعدد أفراده أي: جاء فلانٌ وجاء فلان .. وهكذا).
لكن ليس هذا محل البحث، المصنف سها رحمه الله تعالى، البحث في العام دون حُكمٍ. يعني: في عبيدي فقط لا في جاء عبيدي، البحث مع القرافي وكلامُ القرافي كما سيأتي وبعض كلامه يشير إلى ذلك أن البحث في عبيدي قبل تسلُّط الحكم عليه، أما بعده فلا إشكال فيه أنه كُلّيّة. بمعنى أن الحكم يُسلَّط على كل فردٍ من أفراد الموضوع، هذا لا إشكال فيه، وُيسلِّم به حتى القرافي.
لكن المراد هنا البحث في العام دون تسليط حُكمٍ عليه.
(مادة النقض هي: عبيدي فقط من جاء عبيدي) بدليل قوله (لأن بعض أفراده) وإذا قيل: بعض أفراده المراد به اللفظ دون الحكم، وقوله: بل هو جزئيٌ .. إلى آخره فيما سيأتي.
وحينئذٍ فقول المجيب: (إنه في قوة قضايا .. ) إلى آخره ممنوع، ليس بصحيح.
إذا قيل: بأن المؤمنون فقط أو عبيدي في قوة قضايا ممنوع؛ لأن مصدَق اللفظ –المؤمنون- ليس فيه حكمٌ، من أين جاءت القضايا؟
إذا قلت: المؤمنون دون إثبات حُكمٍ هذا تصَوُّر، من أين جاءت القضايا عندما تقول: أفلح المؤمنون؟ أنت ما سلَّطت حكماً على اللفظ العام.
فقوله: (في قوة قضايا) إذا قلنا البحث في اللفظ العام فقط دون تركيبه مع حُكمٍ آخر نقول: هذا ليس بسديد، بل هو ممنوع.
وحينئذٍ فقول المجيب: (أنه في قوة قضايا .. إلى آخره ممنوع؛ لأن الذي في قوة قضايا هو: جاء عبيدي، وليس الكلام فيه) وإنما الكلام في المفرد اللفظ العام قبل أن يُركَّب في جملة أو يُحكم عليه.
(على أنه لو سُلِّم جدلاً أنه في قوة قضايا فلا يلزم من كون الشيء في قوة الشيء أن يكون مثله في الدلالة، وبأن الكلام في دلالة المفرد الوضعية لا في دلالة القضايا. فالحق أنه من قبيل دلالة التضمن).
إذا قلنا البحث في عبيدي فقط، فهو من دلالة التضمن؛ لأن اللفظ وُضِع لمركبٍ، وإذا استُعمل اللفظ وأريد به بعض أو جزء المعنى المركب الذي وُضِع له اللفظ، قلنا هذه دلالة تضمن.
إذاً: لا إشكال فيها في كونه دلالة تضمن، وأما الوهَم بأنه في قوة قضايا نقول: هذا بعد تسلُّط الحكم عليه، وأما قبل ذلك فلا.
فالحق أنه من قبيل دلالة التضمن؛ لأنه جزءٌ لدلالة العام على مجموع الأفراد.
إذاً: قول المصنف: (دلالة العام على بعض أفراده كجاء عبيدي مطابَقةٌ).
(دلالة) هذا مبتدأ، (مطابَقة) هذا خبره. لماذا .. ما التعليل في كونها مطابقة؟
(لأنه في قوة قضايا بعدد أفراده أي: كجاء فلانٌ وجاء فلان .. وهكذا).
(فسقط) يعني: بهذا الجواب.
(سقط ما قيل) يعني: ما قاله القرافي، ماذا قال القرافي؟
قال: (إنها خارجةٌ) ..
قال هنا في الحاشية: مطابقة خبر دلالة، والجملة جوابٌ عما أورده الإمام شهاب الدين القرافي في محصوله من أن دلالة العام على بعض أفراده خارجةٌ عن الدلالات الثلاثة .. دلالة العام على بعض أفراده خارجةٌ عن الدلالات الثلاثة؛ إذ الفرد ليس تمام المعنى العام، فتكون دلالته عليه مطابقة. مُسلَّم؟ مُسلَّم هذا.
(دلالة العام على بعض أفراده) ليس من دلالة المطابقة مُسلَّم؟ مسلَّم.
(وليس جزءه فتكون تضمناً) وهذا غير مسلَّم بل نمنعه.
(بل جزئيٌ له ولا خارجاٌ لازماً) وهذا مسلّم.
إذاً: الأول نفْي كونها دلالة مطابقة مسلَّم.
ونفي كونها دلالة التزام مسلَّم.
بقي البحث معه في: هل هي دلالة تضمن أو لا؟ والصحيح أنها دلالة تضمن.
قال هنا: (فسقط) بهذا الجواب (ما قيل) يعني: ما قاله القرافي، انظر هنا ما ذكره احتراماً وتقديراً له لمكانته في علم الأصول.
(ما قيل: أنها خارجةٌ عن الدلالات الثلاث).
(فسقط ما قيل أنها خارجةٌ) يعني: دلالة العام على بعض أفراده (خارجة عن الدلالات الثلاث).
لماذا؟ أراد أن يعلِّل: (لأن بعض أفراده) هذا تعليلٌ لخروجها من الثلاث.
(لأن بعض أفراده) يعني: أفراد العام.
(ليس تمام المعنى للعام) وهذا مسلَّم.
(حتى تكون دلالته) أي: العام (عليه) على هذا البعض، بعض أفراده (مطابقة).
وهذا لا إشكال فيه، نُقيِّد أن هذا مسلَّم.
الثاني: (ولا جزءَهُ حتى تكون تضمُّناً) يعني: ليست دلالة العام على بعض أفراده تضمنية؛ لأن هذا الفرد ليس جزءاً من العام، بل هو جزئيٌ وهذا ممنوع .. لا يُسلَّم.
(وهذا ممنوع، بل هو جزءٌ؛ لأن العام بحسب مدلوله كلٌ) اللفظ العام قبل تركيبه، البحث في العام قبل تركيبه، وأما بعد التركيب فهو كُلّيّة، ما معنى كُلّيّة؟ يعني: في قوة قضايا.
مَدْلُوْلُهُ كُلِّيَّةٌ إِنْ حَكَمَا
…
عَلَيْهِ فِي التَّرْكِيْبِ مَنْ تَكَلَّمَا
(مَدْلُوْلُهُ) أي: العام.
كُلِّيَّةٌ إِنْ حَكَمَا
…
عَلَيْهِ فِي التَّرْكِيْبِ مَنْ تَكَلَّمَا
إذاً: بعد التركيب العام يكون من قبيل الكُلّيّة، وهو الذي فسّره سابقاً بكونه في قوة قضايا ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] أفلح زيد، أفلح عمرو .. إلى ما شاء الله.
وأما قبل ذلك فالمؤمنون زيدٌ مؤمن لم يَثبت له حكمٌ، عمروٌ مؤمن لم يثبت له حكمٌ. هذا البحث الذي فيه دلالة (المؤمنون) على زيدٍ المؤمن، نقول: من دلالة الكل على جزئه فهي دلالة تضمن ولا إشكال في هذا.
(ولا جزءه حتى تكون تضمناً) نقول: هذا ممنوع، (بل هو جزءٌ؛ لأن العام بحسب مدلوله كلٌ، وأفراده التي تحته أجزاءه إما جموعٌ أو آحاد) على الخلاف.
(وأيَّاً كان فعبدٌ جزءٌ من آحاد هذا الجمع وهو عبيدي).
إذاً: عبيدي .. المؤمنون اللفظ العام كلٌ، قيِّد هذه: المؤمنون عبيدي هذا لفظٌ عام وهو كلٌ وله أجزاء، فدلالة العام على أجزائه من دلالة الكل على أجزائه فهي دلالة تضمن.
وأما القول بأنها كُلّيّة نقول: كُلّيّة معناها محكومٌ ومحكومٌ عليه، والمؤمنون ليس عندنا حكم هنا، عندنا محكومٌ عليه وهو المؤمنون، لكن أين الحكم؟ لم يأت بعد.
(ولا جزءه حتى تكون تضمناً) إذاً: هذا ممنوع.
(ولا خارجاً) يعني: دلالة العام على الفرد ليست دلالة على شيءٍ خارجٍ عن مسماه وهو كذلك؛ لأن هذا الفرد داخلٌ تحت المسمى وهو جزءٌ من المسمى.
(ولا خارجاً حتى تكون التزاماً) وهذا مسلَّم.
قال: (بل) هذا انتقال أو إضراب عما سبق.
(بل هو جزئيٌ) وهذا فيه تفصيل، الجزئي سيأتينا أنه ما قابل الكلي.
إن أراد أنه جزئيٌ باعتبار مفهومه وهو الذات المشخَّصة فمسلَّم: عبد، زيد الذي دخل تحت عبيدي أو دخل تحت المؤمنون هل هو جزئيٌ أم جزء؟ نقول: يحتمل.
إن نظرنا إلى ذاته بكون اللفظ دل على مسماه، على أنه ذاتٌ مشخَّصة فهو جزئي؛ لأنه يقابل الكلي، سيأتينا الجزئي أنه ما لا يقبل اشتراك. إذاً: هو جزئي.
لكن باعتبار دخوله تحت اللفظ العام لا، ليس جزئياً بل هو جزءٌ؛ لأن الجزئي إنما يُنظر فيه باعتبار ذاته لا باعتبار كونه داخلاً تحت عامٍ.
إذاً: المؤمنون، زيدٌ المؤمن دخل تحت اللفظ، هل هو جزئي أم جزء؟
نقول: لنا تفصيل الآن، أول في مقام الرد، هو يقول:(بل هو جزئي) نقول: ماذا تعني بجزئي؟
إن قصدتَ أنه باعتبار ذاته لا باعتباره فرداً من العام هو جزئيٌ، لذلك زيد وحده هو كلي أو جزئي؟ جزئي أي: لا يقبل اشتراكاً.
إذاً: ما لا يقبل الاشتراك هذا جزئي، إذاً: زيدٌ جزئيٌ، لكن إذا أدخلتَه تحت المؤمنون ونُظِر إليه كفرد من اللفظ العام نقول: هو جزء، باعتبار نسبته إلى كونه فرداً من أفراد العام فهو جزءٌ لا جزئي، وباعتبار الحكم عليه بذاته فهو جزئيٌ، هذا قوله:(بل هو جزئيٌ) إن أراد أنه جزئيٌ باعتبار مفهومه وهو الذات المشخَّصة فمسلَّم. وليس الكلام فيه .. ليس الكلام والبحث في هذا، هذا سيأتي في مباحث الألفاظ.
وإن أراد أنه جزئيٌ بالنظر لكونه فرداً من أفراد الجمع فممنوعٌ، فاللفظ نفسُه له اعتباران:
باعتبار ذاته لا باعتبار كونه فرداً من أفراد العام فهو جزئيٌ ولا إشكال فيه؛ لأنه دالٌ على ذات مشخَّصة لا تقبل الاشتراك.
وأما بالنظر إلى كونه فرداً من أفراد العام نقول: لا، ليس جزئياً بل هو جزءٌ.
الْكُلُّ حُكْمُنَا عَلَى المَجْمُوْعِ
…
كَكُلُّ ذَاكَ لَيْسَ ذَا وُقُوْعِ
بل هو جزءٌ وحينئذٍ تكن الدلالة تضمنية.
قال: (بل هو جزئيٌ؛ لأنه في مقابلة الكلي) هذا تعليلٌ للحكم عليه بأنه جزئي، لماذا حكمتَ عليه بأنه جزئي؟ قال:(لأنه في مقابلة الكلي).
أين الكلي هنا؟
إذا أراد به اللفظ العام، هما ليسا متقابلان وإنما هو فردٌ اتصف بالوصف الذي اشتمل عليه اللفظ العام.
هذا تعليلٌ للحكم عليه بأنه جزئي.
(وفيه) يعني: يرِد عليه (أنه إن أراد بالكلي الذي جُعل في مقابلته لفظ عبيدي، الذي هذا العبد المخصوص وهو زيدٌ مثلاً من أفراده، فذلك المفهوم كليٌّ. وليس الكلام فيه إنما الكلام في لفظ عبيدي).
يعني: عبد وحده، ليس زيد وإنما عبد.
هذا بالنظر لذاته لأنه يصدُق ويقبل الاشتراك فهو كليٌّ، لكن لا باعتبار كونه فرداً من أفراد العام.
قال: (لأن دلالة العموم من باب الكُلّيّة لا الكل).
(بل هو جزئي) قلنا هذا فيه نظر لإطلاقه.
(لأنه في مقابلة الكلي) ليس عندنا كلي.
قال: (لأن دلالة العموم) دلالة العموم أو اللفظ؟ اللفظ. يعني: اللفظ العام هذا المقصود.
(لأن دلالة العموم) أي: العام وهو مثال عبيدي هنا.
(من باب الكُلّيّة) صحيح هذا؟ لا. دلالة العموم يعني: اللفظ العام "المؤمنون".
قال: (لأن دلالة العموم من باب الكُلّيّة) يصح؟ لا يصح؛ لأنه في المركبات.
مَدْلُوْلُهُ كُلِّيَّةٌ إِنْ حَكَمَا
…
عَلَيْهِ فِي التَّرْكِيْبِ مَنْ تَكَلَّمَا
والبحثُ ليس فيه، ليس في ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] أو جاء عبيدي، البحث في عبيدي فقط، وفي المؤمنون فقط.
حينئذٍ لا يكون من باب الكُلّيّة بل هو من باب الكل.
قال: (من باب الكُلّيّة) وهذا ممنوعٌ أيضاً؛ لأن العام له اعتباران:
فباعتبار الحكم عليه يكون كُلياً وليس الكلام فيه. يعني: إدخالُه في جملة مفيدة وهو من باب الكُلّيّة وليس الكلام فيه، وباعتباره في حد ذاته قبل الحكم عليه الذي هو المراد هنا يكون كلاً لا كلّيّاً.
فقوله: (من باب الكُلّيّة) ممنوع، وقوله:(لا الكل) ممنوع، بل الصواب أنه كلٌ.
بل هو من قبيل الكل لأن لفظ عبيد وُضِع للمجموع من حيث هو مجموعٌ فهو كلٌ، وكل واحدٍ من الأفراد جزءٌ.
إذاً: هذا البحث يتعلق بما أورده القرافي رحمه الله تعالى من أن دلالة العام قبل التركيب في دلالته على بعض أفراده، أو على فردٍ من أفراده ليست مطابقية، ولا تضمنية، ولا التزامية.
فحينئذٍ هذا مثالٌ لنقض حصر الدلالة الوضعية اللفظية في ثلاث، بل بقي عليهم رابع أين هو؟ يحتاج إلى مصطلحٍ خاص، والصواب أنه لم يخرج عن الدلالات الثلاث، بل هو دلالة تضمن وما أورده من حُجج ونحوها فإنما يُرَد عليها بما ذُكر.
قال رحمه الله تعالى: (والدلالةُ) هنا جاء إلى تعريف الدلالة، وهذا قلنا خلاف الأصل، الأصل أن يقدِّم التعريف على الأقسام، يعرِّف أولاً الدلالة، ثم بعد ذلك يُورِد الأقسام، فعكس المصنف هنا تمشِّياً مع صاحب المتن.
(والدلالةُ) الدلالة مُثلثةُ الدال يعني: تُفتح وتُكسر وتُضم الدال، قالوا: دَلالة ودِلالة ودُلالة.
أفصحُها الفتحُ ثم الكسر وأردؤها الضم، هكذا قال الشيخ الأمين: أفصحُها الفتحُ ثم الكسر وأردؤها الضم، أردؤها الضم لا يلزم أن لا يكون مسموعاً.
يعني: نُقِل لكنه لغة قليلة ضعيفة، وإلا هو مسموعٌ.
الدلالة مصدر دل، وعرَّفها المصنف هنا بقوله:(كونُ الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر).
(كون الشيء) يعني: وجود الشيء، والشيء المراد به هنا الدال.
(كون الشيء) أي: الدال.
وقال الشيء من أجل أن يعم، ما قال اللفظ .. كون اللفظ، لو قال: اللفظ لخَص الدلالة بالدلالة اللفظية، وقلنا: الدال ليس خاصاً باللفظ، قد يكون لفظاً وقد يكون غير لفظٍ.
(كون الشيء) أي: وجود الشيء الدال يعني لفظاً كان أو غيرَه.
(بحالة) الباء هذه للمُلابَسة، وإضافته لما يليه للبيان.
(بحالة) هي (يلزم).
(بحالة يلزم من العلم) بحالة تلك الحالة ما المراد بها؟
هي وضعُ اللفظ بإزاء المعنى؛ ليُفهَم منه عند إطلاقه سواءٌ فُهِم بالفعل أو لم يُفهم، فإنِّ الدال يسمى دالاً ولو لم يُفهم منه شيء، ويُطلق عليه أنه دالٌ حقيقة وهذا محل نزاعٍ بينهم في بعض التعاريف.
ولذلك بعضهم يفسِّر الدلالة بأنها: فهمُ الشيء من الشيء، أو فهم أمرٍ من أمرٍ.
سواءٌ فُهِم منه بالفعل أو لم يُفهم، فيسمى دلالة. قد يقرأ الآية ولا يفهم منها شيئاً، ويقرأها آخر عالِم ويستنبط منها ويستدل بها، حينئذٍ في الثاني هي دالة ولا شك، وفي الأول هي دالة كذلك ويسمى دليلاً ولو لم يَفهم منها شيء.
(بحالة) عرفنا المراد (يلزم من العلم به) الضمير يعود إلى ماذا؟ (به) أي: بهذا الشيء (كون الشيء بحالةٍ يلزم من العلم به) أي: بهذا الشيء (العلمُ بشيءٍ آخر).
أي: بسبب تلك الحالة وبواسطتها العلمُ بشيءٍ آخر.
والمراد باللزوم في قوله: (يلزم) اللزوم مطلقاً بيِّناً أو غيرَه، عرفنا البيِّن: الذي لا يحتاج إلى دليل، وغيره .. غير البيِّن: الذي يحتاج إلى دليل.
إذاً: (كونُ الشيء) فيه عموم لفظاً أو لا.
(يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر) اللزوم هنا لا يختص بالبيّن، بل يشمل البيّن الذي لا يحتاج إلى دليل، وغير البيّن الذي يحتاج إلى دليل.
والمراد بالعلم: ما يشمل التصور والتصديق؛ لأن الدلالة قد تكون إفرادية، وقد تكون تركيبية، فليست خاصة بالمفردات.
والمراد بالعلم: ما يشمل التصور والتصديق يقينياً أو ظنياً، لكن هذا البيان للتعريف يخصِّص التعريف بالدلالة اللفظية الوضعية، فينافيه ما سيأتي من تقسيمها إلى اللفظية وغيرها، ولا يقال إن المعرَّف هاهنا خصوصُ الدلالة اللفظية والمنقسم هناك مطلق الدلالة؛ لأنا نقول: تفسير الشارح للدلالة -الدلالة اللفظية الوضعية- بعد التقسيم يأبى ذلك.
يعني: إذا قلنا (كون الشيء) بعضُهم حمَل الشيء على الشيء اللفظي.
وعليه تكون الدلالة هنا -تعريف الدلالة-: مطلق الدلالة أو الدلالة اللفظية؟ الدلالة اللفظية.
إذا خصَّصنا العلم وخصصنا الشيء بكونه متعلقاً باللفظ، فحينئذٍ التعريف هنا للدلالة الوضعية وسيُعرِّفها المصنف فيما يأتي فيكون تَكراراً، لكن المراد أن يعرِّف المصنف الدلالة من حيث هي، ولذلك قدَّمنا الأصح: أن الشيء يُحمَل على ماذا؟ لفظاً كان أو غيرَه، فلا نخصِّصه باللفظ ليكون التعريف عاماً، ثم بعد ذلك يقسِّم أنواع الدلالة، ثم يأتي ويعرِّف الدلالة اللفظية الوضعية.
قال هنا: فالأولى أن تفسير الحالة بما يعم الوضعَ وغيرَه، كالعلاقة الذاتية بين الدال والمدلول في الدلالة العقلية، أو الوضع كما في اللفظية، أو اقتضاء الطبع كما في الطبيعية، فيكون التعريف لمطلق الدلالة.
يعني: لا نخص الحالة بكونها وضعُ لفظٍ بإزاء معنى، بل نعمم من أجل إدخال العقلية والطبيعية، والشيء كذلك لا نخصُّه باللفظ من أجل أن نعمِّم الدال إذا كان عقلياً أو طبَعِياً.
قال: (بحالةٍ يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر) والأول ما هو؟ الملزوم .. (كون الشيء بحالةٍ يلزم من العلم به) هذا الملزوم.
(العلم بشيءٍ آخر) هذا اللازم.
يلزم من العلم بالأربعة: العلم بالزوجية.
فالأول -الذي هو الملزوم-: الدالُّ، فالأربعة دال، والثاني: المدلول.
فسَّر ذلك وأكَّد قال: فالدال هو الذي (يلزم من العلم به العلمُ بشيءٍ آخر) يلزم من العلم بالأربعة العلم بشيءٍ آخر وهو لازِمُه وهو الزوجية.
والمدلول العكس، والمدلول هو الذي يلزم من العلم بشيءٍ آخر كالأربعة العلم به كالزوجية.
يلزم من العلم بشيءٍ العلمُ بشيءٍ آخر، الأول الدال والثاني المدلول، كما قال بعضهم: فهمُ أمرٍ من أمرٍ.
قال: وقد بيَّنتُها في شرح آداب البحث، وفي نسخة: بيّنتُهما بضمير التثنية وهي أظهر، هكذا قال العطَّار.
أي: الدال والمدلول، والنسخة التي معنا هنا: بيّنتُها أي: الدلالة.
أو هي مع الدليل والمدلول وفيه إشكال؛ لأنه لم يتعرض للدلالة في ذلك الشرح.
على كلٍ بيّنتُها أو بيّنتُهما الأمر واسع، وأنت تنظر في المسألة من حيث هي.
قال: (والدلالة تنقسم إلى: فعلية كدلالة الخط والإشارة، وعقلية) أراد أن يقسِّم لك الدلالة إلى ثلاثة أنواع: إما دلالة وضعية غير لفظية، ولذا قال: فعلية، هذه التسمية غير مشهورة عند المناطقة ولا غيرهم، ولذلك أُنكر عليهم في هذا.
(والدلالة تنقسم إلى: فعلية) أي: وضعية، المراد بها الوضع.
سؤال: هل يلزم من الوضعية أن تكون لفظية؟ لا يلزم، قد تكون كتابة، قد تكون بالوضع كالإشارة.
قلنا هذا تواضعَ عليها الناس، حينئذٍ هي وضعية وليس كل وضعية لفظية.
إذاً: دلالة الوضع قد تكون باللفظ وقد تكون بغير اللفظ.
إذاً قوله: (والدلالة تنقسم إلى: فعلية) أي: وضعية، هل المراد بها الوضعية اللفظية أو غيرَها؟ يحتمل، لكن ننظر إلى المثال.
ماذا قال؟ قال: (كدلالة الخط والإشارة) وضعية دلالة الخط؟ نعم وضعية. يعني: الزاي كيف نكتبه؟ تواضعَ الناس ما تكتب على كيفك الزاي تقول: أنا أكتب الزاي على هذا الشكل، وإنما تواضعَ الناس (زَ) يُكتب كما هو معلوم.
فتواضعَ الناس على أن مسمى الزاي يُكتب على الهيئة المعروفة، وحينئذٍ نقول: هذا يسمى وضعاً، هل هو لفظ؟ لا. ليس بلفظ .. إذا كتبته يعني.
والإشارة كذلك: قم، اجلس .. إلى آخره.
نقول: هذه وضعيةٌ تواضعَ الناس عليها وليست بلفظٍ.
(كدلالة الخط) أي: النقوش ومدلول تلك النقوش الألفاظ، ومدلول الألفاظ المعاني. فهذه الثلاثة الأمور مرتبةٌ بعضُها ببعض.
النقوش تدل على الألفاظ يعني: الكتابة التي تراها أمامك الآن هذه تسمى نقوش، هل هي ألفاظ؟ ما هو اللفظ؟ هل هذا له صوت الكتاب؟
كيف تقول ألفاظ؟
نقوش تدل على الألفاظ، والألفاظ تدل على المعاني .. مرتَّبة هكذا، لذلك قال العطّار:(كدلالة الخط) أي: النقوش، ومدلول تلك النقوش الألفاظ.
فليس هو اللفظ، أنت لا ترى اللفظ الآن ترى نقوشاً، ومدلول الألفاظ المعاني، فهذه الثلاثة أمور مرتبةٌ بعضُها ببعضٍ.
(والإشارة) كذلك على ما ذكرنا.
هذا النوع الأول فعلية لكنها غير لفظية بدليل المثال.
قال المحشُّون: لم نرَ تسمية غير اللفظية فعلية لغير الشارح .. ما رأيناه إلا هنا.
قال: وهو مُطَّلِعٌ. هكذا دائماً يأتي الجواب، ما يُخطِّئُون أحداً البتة.
وهو مُطَّلِعٌ يعني: لعله اطَّلع على شيءٍ فأثبته، لكن يرد السؤال كذلك: لو اطَّلع هل الأحسن والأفضل والأكمل أن يوافِق ما اشتهر من المصطلح أم يخالِف؟ لا شك أن الموافقَة مقدمة، فالاعتراض في محله سواء اطّلع أو لا، ولذلك هذا الكتاب يُعتبر للمبتدئين وإنما يأتي به على وِزان ما اشتهر عند المناطقة، هذا هو الأصل.
قال: (وعقلية) المراد بها: ما ليس للوضع وللطبع مدخلٌ فيها.
يعني: دل العقل عليها، وإلا لزم كون الدلالات كلها عقلية؛ إذْ للعقل مدخلٌ في جميعها.
يعني: العقل يفهم حتى من دلالة المطابقة، إذا أُطلق اللفظ فُهِم منه المعنى على كماله.
العقل له مدخل أو لا؟ قطعاً له مدخل، لكن ما تسمى عقلية؛ لأن العقل هنا ليس له مدخلية في الوضع، كذلك دلالة الكل على البعض التضمنية، العقل له مدخل ومع ذلك لا تسمى عقلية، ولذلك قال هنا: المراد بها ما ليس للوضع وللطبع مدخلٌ فيها، وإلا لزم كون الدلالات كلها عقلية؛ إذ للعقل مدخلٌ في جميعها.
قال: (كدلالة اللفظ على لافِظِه) دلالة اللفظ على لافظه عقلية؟ المثال صحيح أو ليس بصحيح؟ دلالة اللفظ على لافظه عقلية؟
أنت الآن تراني أتكلم، عقلية أو حسيَّة هذه؟ الآن أنت تحكم أني أتكلم بالعقل أو بما تشاهده بالحس؟ بالحس، طيب! كيف نقول عقلية؟
إذاً: لا بد أن يقيَّد المثال، يقولون:(كدلالة اللفظ على لافظه من وراء جدار) يعني: لا تراه، لو سمعتَ أحداً يتكلم الآن من وراء جدار، تقول: هذا دل على شخص وهو حيٌ يتكلم يُرزَق، ولا زال إلى هذه الساعة بدليل اللفظ، ما الذي دلَّك؟ اللفظ.
حكمت بالعقل أنه حي، يتكلم في أي موضوع؟ لو يثرثر نقول: دل اللفظ على أنه حي، الاستدلال على الحياة بالعقل، أما إذا رأيته هذا بالحس.
إذاً يُقيَّد (وعقلية) أي: لفظية بدليل المثال .. عقلية لفظية بدليل المثال، تُقيِّدُها.
(كدلالة اللفظ على لافظه من وراء جدار) وأما إذا كنت تراه لا، هذه حسية أو إن شئت سمها طبيعية.
قال: (وطبيعية) أي: لفظية بدليل المثال أيضاً، وهذه طريقة النحاة .. دائماً يقيِّدون القواعد والشروط والقيود يأتون بالمثال، فلا اعتراض "لا يُعترض".
يعني: يأتي باللفظ ويقيده بالمثال ولا إشكال فيه، وأكثر النحاة على هذا: أنه يأتي بالمثال.
قال: (وطبيعية) أي: لفظية.
(كدلالة الأنين) إذا كان يَئِنُّ (على الوجَع) آه تسمع أنه يشتكي، فهذا لفظٌ: آه أو أح .. أو نحو ذلك، نقول: هذه طبيعية، هي لفظية –باللفظ- لكن دل على أنه مريض، من أين أخذتَه؟ من لفظه، لكن هل اللفظ يدل على المرض .. مفهومُه؟ لا. ليس مفهومَه، فحينئذٍ نقول: هذه دلالة طبيعية لكنها لفظية كدلالة الأنين على الوجع.
المصنف ذكر بعض الدلالات، ونحن نقول: الدال إما لفظٌ وإما غير لفظٍ، والدلالة إما بالوضع وإما بالطبع وإما بالعقل. ثلاثة في اثنين بستة.
قال هنا: (والحاصل أن أقسام الدلالة ستة؛ لأنها إما لفظية وإما غيرُها) يعني: غير لفظية.
إذاً: حصر الدال في نوعين لا ثالث لهما: إما باللفظ وإما بغير اللفظ.
وانحصار كلٍ من القسمين في الأقسام الثلاثة المذكورة الآتية استقرائي. هذا سيأتي.
(وكلٌ منهما إما وضعية وإما عقلية وإما طبيعية).
الاستقراء دل على أن حصر الدال في اثنين من جهة الاستقراء، ودل على أن الدلالة محصورة في الثلاثة من جهة الاستقراء.
قال: (لأنها إما لفظية وإما غيرها، كلٌ منهما) يعني: اللفظية وغيرُها (إما وضعية وإما عقلية وإما طبيعية، وقد علمتَ أمثلتها مما تقدم).
قيل: إن دلالة الطبيعية منحصرة في اللفظية، بخلاف اللفظية والعقلية، وعليه تكون الأقسام خمسة لكن المشهور هو أنها ستة، وكلام الشارح يقتضي ذلك، والتحقيق عدمُ الحصر، فإن دلالة الحُمْرة على الخجل والصُّفرة على الوجل من الدلالة الطبيعية الغير اللفظية، وهذه لم يذكرها المصنف .. دلالة طبيعية غير لفظية لم يذكرها المصنف.
كدلالة الحُمرة على الخجل، ودلالة الصُّفرة على الوجل، هذه طبيعية لكنها غير لفظية. قيل: أنه أدخلها في نوع من الأنواع لكن المشهور هو أنها سِتة.
قال: (وهي كون اللفظ بحيث متى أُطلق فُهِم منه المعنى وهي المرادة هنا).
بقي واحدة: (كدلالة الأنين على الوجع ووضعية).
هو الآن يقسِّم، تنقسم إلى فعلية كدلالة الخط، قال بعد ذلك: ووضعية.
قلنا: الفعلية المراد بها وضعية، ثم قال: ووضعية.
قيَّد الأُولى بالمثال: وضعية غير لفظية، إذاً: الوضعية الثانية المراد بها اللفظية.
قال: (إلى فعلية كدلالة الخط) إذاً: وضعية غير لفظية.
ثم قال: (ووضعية) هذا القسم الأخير السادس.
وأخرَّه لأنه يريد أن يعرِّفه، وأما تلك لا بَحْثَ للمنطق فيها البتة لا العقلية ولا الطبيعية، وإنما البحث في الدلالة الوضعية اللفظية؛ لأنها هي المقصِد في الوصول إلى مقاصدهم، ومقصِدهم الأول والأخير هو المعقولات، وهذه يوصَل إليها بالدلالة الوضعية وهي المنقسِمة إلى الثلاثة الأنواع يعني: المطابَقية، والتضمنية، والالتزام هي أقسام للوضعية التي يريد أن يعرفها.
(ووضعية) أي: لفظية.
(وهي) أي: هذه الوضعية اللفظية.
(كونُ اللفظ بحيث متى أُطلق فُهم منه المعنى).
(كونُ اللفظ) يعني: وجودُ اللفظ.
(بحيثُ) هذه قيْد، حيث هنا للتقيد يعني: قيَّد كون اللفظ.
(بحيث متى أُطلق) متى ما أطلقه المُطلِق المُتكلِّم.
(فُهم منه المعنى) وضعُ اللفظ بإزاء المعنى، متى ما أَطلَق المتكلم اللفظَ فهم السامع منه مقتضى اللفظ، لكن فيه بعض الإشكال في قوله:(متى أُطلِق).
قال هنا .. قال الملَّوي: أتى بمتى الذي هو سور الكُلّيّة.
(متى أُطلق) هذا سُور؛ لأن بعضهم يقول: إذا أُطلِق، هذا فيه خلل؛ لأن إذا أُطلق هذه مهملة ليست مسوَّرة، والمهملة في قوة الجزئية، فحينئذٍ (متى أُطلق) فيها عموم لا يخرج عنه الأفراد، إذا أُطلق في الجملة خرج عنه بعض الأفراد.
فحينئذٍ التعريف بمتى أُطلق أولى، وأنت احفظها هكذا: متى أُطلق هذا سُورٌ كُلي، فحينئذٍ لا يَخرُج عنه فردٌ من الأفراد البتة، إذا أُطلق هذا لا إشكال فيه، إن وإذا في اللغة بينهما فرقٌ، كذلك متى أُطلق وإذا أُطلق.
قال: (أتى بمتى الذي هو سور الكُلّيّة إشارة إلى أنه يُشترط في دلالة الالتزام .. ) لأن هذا التعريف لا بد أن يكون مشتملاً على الأنواع الثلاثة، فلا بد من إدخال دلالة التزام.
(إشارة إلى أنه يشترط في دلالة الالتزام كون اللزوم بيِّناً بالمعنى الأخص؛ لأنه الذي بحيثُ متى أُطلق اللفظ الدال على ملزومه فُهِم هو بخلاف ما لو أتى بإذا التي للإهمال، فلا يُفهَم ذلك لأن المهملةَ في قوة الجزئية).
إذاً: متى أُطلق "هكذا احفظها" فيها عموم، ويُشترط فيه أن يكون مشتملاً على الشرط المتحقِّق في دلالة الالتزام، متى إذا أُطلق بإذا هذه مهملة. وكما سيأتي أنها في قوة الجزئية بمعنى أنها ليست بعامة .. ليست كُلّيّة.
قال هنا العطار: قوله: (متى أُطلق) قال في شرح المطالع: (الدلالة مقُولَة بالاشتراك على معنيين).
يعني: تُطلق ويراد بها معنى، وتطلق ويراد بها معنى آخر، هذا في اصطلاح علم وهذا في اصطلاح علمٍ آخر.
(الأول: فهمُ المعنى من اللفظ متى أُطلق.
الثاني: فهمُ المعنى منه إذا أُطلق).
الفرق بينهما: متى وإذا.
قلنا: متى هذه سُور الكُلّيّة، (إذا أُطلق) مهملة وهي في قوة الجزئية، أيهما أعم؟
متى أُطلق، وأما إذا أُطلق هذه خاصة.
قال: والاصطلاح على المعنى الأول (متى أُطلق)، وإن اعتُبر في بعض العلوم المعنى الثاني. انتهى.
قال: والفرق بينهما: أن متى سُور الإيجاب الكلي، كما هو الشأن في ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185] هذا سُور كلي، "بعض الحيوان إنسان" هذا سورٌ جزئي.
إذاً: متى سور الإيجاب الكلي، وإذا للإهمال يعني: لا تفيد كُلّيّةً ولا جزئية، فيُشترط في دلالة الالتزام التي هي فردٌ من أفراد الدلالة الوضعية أن يكون اللازم بيّناً بالمعنى الأخص.
ولذلك بيَّناه فيما سبق، قلنا: دلالة الالتزام لا بد أن يكون اللازم بيّناً بالمعنى الأخص. فإن لم يكن بيّناً فليست دلالة التزام، فإن كان بيّناً بالمعنى الأعم كذلك ليست دلالة التزام.
قال هنا: أن يكون اللازم بيِّناً بالمعنى الأخص، ولو عبَّر بإذا لأفادت الدلالة في الجملة .. متى ما حصل التزامٌ بقطع النظر عن كونه بيّناً خاصاً أو بيّناً عاماً. وهذا ليس مراداً.
قال: لو عبَّر بإذا لأفادت الدلالةَ في الجملة ولو في بعض الصُّور، وهذا صادقٌ باللازم البيِّن الأعم وليس مراداً؛ لأن المهملة في قوة الجزئية، وأيضاً الجزئية غير معتبرة في مسائل العلوم الحِكْمية التي المنْطِق مقدمةٌ لها أو جزءٌ منها.
فإن قلتَ: قد يكون المدلول معلوماً قبل سماع الدال.
إذاً: (كون اللفظ بحيث متى أُطلق فُهِم منه المعنى).
متى ما أطلَقتَ اللفظ فهِم السامع المعنى، متى ما تكلم المتكلم باللفظ فهمتَ أنت المعنى.
يرد إيراد: قد يكون المدلول معلوماً قبل سماع الدال، هل تتحقق الدلالة أم لا؟ نقول: نعم تتحقق، لو سَمِع السامع اللفظَ ثم لم يأت بجديد، هذا كالمسألة التي يذكرها النحاة وهي: السماء فوقنا.
يعني: هل يُشترط في الفائدة أن تكون متجددة أو لا؟
فإذا قيل: يُشترط تجدُّد الفائدة، فإذا قال قائل: السماء فوقنا، كلكم تعرفون هذا، هذا ليس بكلام، الأرض تحتنا، نحن الآن في المسجد وبعد العشاء .. هذا كله لا يسمى كلاماً؛ لأنه ما أفاد فائدة جديدة باعتبار السامع. والصحيح أنه يُعتبر كلاماً.
هنا إذا صحَّحنا هناك أنه يُعتبر كلاماً ولو كانت الفائدة غير متجددة، كذلك لو أَطلَق الدال والسامع قد فَهِم، هل دل أو لا؟ نقول: نعم دل؛ لأن المراد به دل ولو في الجملة.
فإن قلتَ: قد يكون المدلول معلوماً قبل سماع الدال فلا يتحقق حينئذٍ فَهمُ ذلك المعنى عند إطلاق ذلك اللفظ، وإلا لزم فهمُ المفهوم وهو تحصيلٌ للحاصل.
أُجيبَ بأجوبة أحسنُها: أنه يلزم من العلم بالدال العِلمُ بالمدلول بوجهٍ ما، ولو كان ذلك المدلول معلوماً، فكل ذلك لجواز أن يُعلمَ شيءٌ واحدٌ بوجوه متعددة متعاقبة.
على كلٍ يسمى دالاً ولو كان المعنى أو المفهوم ليس جديداً على السامع بل سمِعَه فيما قبل.
قال: (وهي المرادة هنا) هنا أين؟ هنا بماذا نُفسرها؟
(هنا) يعني: في هذا العِلم، عند المناطقة يعني.
(وهي المرادة هنا) أي: الدلالة اللفظية الوضعية التي تعريفُها: كونُ اللفظ بحيث متى أُطلِق فُهِم منه المعنى هي المرادة هنا.
متى ما أُطلقت الدلالة انصرف إلى هذا المعنى، فليست العقلية ولا الطبيعية.
(وهي المرادة هنا) لأن كلاً من الدلالة العقلية والطبيعية غير منضبط، العقول تختلف والطبيعة تختلف فليست منضبطة، وأما وضعُ اللفظ بإزاء المعنى فهذا منضبط، ودائماً المناطقة يريدون أن يقعِّدُوا على شيءٍ منضبط؛ لتكون قواعد منضبطة.
لأن كلاً من الدلالة العقلية والطبيعية غير منضبط، يختلفُ باختلاف الطبائع والأفهام، فاختص النظر بالدلالة الوضعية لانضباطها والاحتياج إليها في العلوم.
قال رحمه الله تعالى: (ولمَّا كانت الدلالة نسبةً بين اللفظ والمعنى).
(ولما كانت الدلالةُ نسبةً) الدلالة أي: لا بالمعنى الكلي، عرَّف الدلالة مرتين: التعريف السابق والتعريف اللاحق.
التعريف السابق: (كونُ الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر) هذا مُطلق الدلالة.
فدخل فيه الوضعية والعقلية والطبيعية.
ثم عرَّف الوضعية خاصة: كونُ اللفظ بحيث متى أُطلق .. إلى آخره.
ثم قال: (هي المرادة هنا).
ثم قال: (ولما كانت الدلالة) أيُّ دلالةٍ؟ مطلق الدلالة أو الدلالة المعيَّنة الوضعية؟ المعيَّنة.
لأنه لما قال: (وهي المرادة هنا) انتهى، ما لا بحث لنا فيه انتهينا منه، أُلغي، وأما الذي لنا بحثٌ فيه فهو الذي نفصِّل فيه.
قال: (ولما كانت الدلالة) أي: لا بالمعنى الكلي السابق، بل بمعنى أخص منه وهي الدلالة اللفظية الوضعية.
(نسبةً بين اللفظ والمعنى) بل بينهما وبين السامع، اعتُبرت إضافتها تارة إلى اللفظ فتُفَسَّر بذلك، وتارة إلى المعنى فتُفَسَّر بفهم المعنى منه أي انفهامِه، وتارة إلى السامع.
اختلف أهل العلم -يعني: المناطقة وغيرهم- في تعريف الدلالة.
المصنف قال: (كون الشيء بحيثُ يَلزم) واشتهر عند المتقدمين: فهمُ أمرٍ من أمرٍ بالفِعْل.
هل الخلاف في تعريف الدلالة خلافٌ جوهري أم أنه خلافٌ لفظي؟
هو يريد أن يبيِّن أن الخلاف في تعريف الدلالة خلافٌ لفظي، وإنما هو بالاعتبار والنسبة فقط.
ولذلك قال: (ولما كانت الدلالة) أي: المعتبَرة هنا. وهي اللفظية الوضعية بدليل ما تقدم، وما يأتي ففيه إظهارٌ في محل الضمير لمزيد الإيضاح، ما قال ولما كانت هي، قال:(ولما كانت الدلالة).
قال: (نسبةً بين اللفظ والمعنى).
قال المحشِّي: قصَد به توجيه اختلاف المتقدمين والمتأخرين في تعريف الدلالة، هل هذا الخلاف خلافٌ جوهري أم خلافٌ صُوري لفظي؟
قال: في تعريف الدلالة وأنَّ كلا التعريفين صحيحٌ.
إذاً: لا نخطِئ أحد التعريفين، مبنيٌ على اعتبارٍ صحيح غيرِ الاعتبار الذي بنا عليه الآخر مع زيادة اعتبارٍ صحيح ينبني عليه تعريفٌ ثالث صحيح أيضاً، يفيد أنها صفةٌ للسامع.
إذاً: الدلالة نسبةٌ بين اللفظِ والمعنى، ونسبةٌ كذلك مع السامع.
فعندنا ثلاثة أشياء: فمُمْكن أن تنظر إلى الدلالة من جهة اللفظ، ويمكن أن تنظر إلى الدلالة بجهة المعنى.
فمن عرَّف الدلالة بأنها فهمُ أمرٍ من أمرٍ نظَر إلى المعنى، والعكسُ نظَر إلى اللفظ. وكلٌ منهما لا بد منهما في الدلالة؛ إذ لا يكون الدال دالاً إلا إذا كان لفظاً واشتمل على معنى، ولا يكون المعنى المدلول عليه إلا بلفظٍ.
إذاً: من نظر إلى اللفظ فعرَّف الدلالة فهو صحيح، ومن نظر إلى المعنى فعرَّف الدلالة فهو صحيح، ومن نظر إلى السامع باعتبار تعلُّقه باللفظ والمعنى فهو صحيح. هذا الذي أراد.
قال القُطْب في شرح المطالع: التحقيق أن هاهنا أموراً أربعة.
يعني: عندنا في مسألة الدال والمدلول أربعة أشياء.
اللفظ. وهو نوعٌ من الكيفيات المسموعة.
والمعنى. الذي جُعل اللفظ بإزائه، هذا واضح لفظٌ ومعنى.
وإضافةٌ عارضةٌ بينهما التي نعبّر عنها بإزاء، مر معنا .. وضعُ اللفظ بإزاء المعنى، هذه نسبة بين اللفظ والمعنى.
وإضافةٌ عارضةٌ بينهما وهي الوضع أي: جعلُ اللفظ بإزاء المعنى.
وإضافة ثانيةٌ بينهما عارضةٌ لهما بعد عروض الإضافة الأولى وهي الدلالة.
حينئذٍ عندنا لفظٌ، وعندنا معنى، وعندنا وضعُ اللفظ بإزاء المعنى.
فإذا قلت: عندنا لفظ وعندنا معنى المراد هنا من باب الفك الاعتباري يعني: اللفظ دون نظرٍ للمعنى، والمعنى دون نظرٍ للَّفظ، وعندنا لفظٌ وتناسى المعنى، وعندنا معنى وتناسى اللفظ، وعندنا مناسَبةٌ بين اللفظ والمعنى، وعندنا مفهوم دل عليه اللفظ وهو الدلالة.
عندنا أربعة أشياء: أساس وهو اللفظ، أساسٌ ثانٍ وهو المعنى، ثم إضافة عارضةٌ بين اللفظ والمعنى، ثم إضافة أخرى وهي دلالة هذا اللفظ على المعنى.
ولذلك قال: وهي الدلالة، فإذا نُسِبَت إلى اللفظ قيل: إنه دالٌ على معنى كونه بحيث يُفهم منه المعنى العالم بوضعه له عند إطلاقه، وإذا نُسبت إلى المعنى قيل: إنه مدلول هذا اللفظ بمعنى كونه -يعني: المعنى- مُنفَهِماً منه عند إطلاقه.
وكلا المعنيين لازمٌ لهذه الإضافة، فأمكن تعريفُها بأيِّهما كان، فمن عبَّر بالفهم فنظر إلى المعنى، ومن عبّر باللفظ الدال نظر إلى اللفظ.
قال هنا: (ولما كانت الدلالة نسبةً بين اللفظ والمعنى، بل بينهما) بين اللفظ والمعنى وبين السامع.
هذا معنى آخر زاده الشارح غير المشهور عند المناطقة (اعتُبرت إضافتها) على ما سبق.
(اعتُبرت إضافتها) تارة إلى اللفظ (فتُفسَّر بذلك) يعني: باللفظ.
(اعتُبِرت إضافتها) أي: نسبتُها، الإضافة بمعنى النسبة.
(اعتُبرت إضافتها) أي: نسبتها (وملاحظة وصف اللفظ بها. وكذا يقال في البقية).
قال: (فتفسَّر بذلك) يعني: بكون اللفظ بحيث متى أُطلق، النظر إلى اللفظ فتصدِّر به الحد.
كون اللفظ بحيث متى أُطلق فُهم منه المعنى، وتارة تضاف إلى المعنى -يعني: تُنسب إلى المعنى- فتفسَّر بِفَهم المعنى منه -أي: من اللفظ- أي انفِهَامِهِ.
وتارة إلى السامع فتُفَسَّر بفَهمه المعنَى أي: انتقالُ ذهنه إليه.
وهذا الثالث زاده المصنف من عنده، وإلا المشهور هو: إما اللفظ وإما المعنى.
وأما السامع فهو منفكٌ عن اللفظ والمعنى؛ لأن الوضع إنما وَضع اللفظ بإزاء المعنى بقطع النظر عن السامع، هذا الأصل فيه، فاعتبار السامع هذا شيءٌ زائدٌ على مدلول اللفظ.
قوله: (أي انفِهَامِهِ) أشار به إلى أن الفهم القائم بالمعنى أثرُ المعنى المصدري، فالمعنى المصدري أي: الفهم القائم بالسامع وأثره وهو الحاصل بالمصدر قائمٌ بالمعنى.
قال هنا العطار: قوله: بل بينهما وبين السامع. التعبير السابق.
بل بينهما "بين اللفظ والمعنى" وبين السامع، هذا زاده المصنف.
فهمُ السامع صفةٌ له، كما تقول: فهمتُ الدرس، وصفٌ لك أو للمعلم أو للألفاظ؟ وصفٌ لك أنت.
إذاً: فهمُ السامع صفةٌ له، قائمةٌ بالسامع نفسه.
فهمُ السامع صفة له قائمةٌ به، لكنها متعلقةٌ بالمعنى بلا واسطة؛ لأن الفهم إنما يحصل للسامع الذي هو الإدراك للمعنى مباشرة بدون واسطة.
وباللفظ يعني: تعلُّقها باللفظ.
بتوسُّط حرفِ الجر كما يدل عليه قولُك: فهم السامع المعنى من اللفظ. جاءت واسطة.
فهمتُ "السامع" المعنى من اللفظ، لما قال: من اللفظ إذا: ثم واسطة بين السامع وبين اللفظ وهو حرف الجر، وأما المعنى المُنفهَم فهذا يكون مباشرة مع السامع.
فعندما تستمع إلى حديثٍ ما فتفهم المعنى المراد ابتداءً، إذاً: علاقة مباشرة، أما اللفظ فهذا يحتاج إلى واسطة، فتقول: فهمت هذا المعنى من لفظه. إذاً: يحتاج إلى حرف جر.
فهناك ثلاثة أشياء: الفهم، وتعلقه بالمعنى، وتعلقه باللفظ.
فالأول -الذي هو الفهم- صفةٌ للسامع، والأخيران صفتان للمعنى.
وحينئذٍ فمعنى كون الدلالة نسبة بين المعنى واللفظ والسامع هو: أنه عند فهم السامع المعنى من اللفظ بالفعل تتحقق نسبةٌ أخرى غير النسبة التي بين اللفظ والمعنى. وهو كذلك.
نسبة يعني: إضافة، إذا سمعت اللفظ والمعنى نقول: تحقَّقَت وحصل الانفهام، تحققت نسبة بينك وبين اللفظ والمعنى، غيُر النسبة بين المعنى واللفظ. هذا لا إشكال فيه.
ثم نسبتان: نسبةٌ بين اللفظ والمعنى وهو الواضع .. وضَعَ اللفظ بإزاء المعنى.
ثم نسبةٌ أخرى بين السامع وبين اللفظ والمعنى، مع المعنى مباشرة بالانفهام بدون واسطة، ومع اللفظ بواسطة حرف الجر.
قال هنا: وحينئذٍ فمعنى كون الدلالة نسبة بين المعنى واللفظ والسامع هو: أنه عند فَهم السامع المعنى من اللفظ بالفعل "حقيقةً يعني .. وُجِد" تتحقق نسبةٌ أخرى غير النسبة التي بين اللفظ والمعنى، وتلك النسبة الأخرى أحدُ طرفيها اللفظ والمعنى، والطرف الآخر السامع، لكن هذه النسبة متوقِّفةٌ على الفَهم بالفعل، وأما النسبة الأولى التي بين اللفظ والمعنى فهي متوقفةٌ على وضعِ اللفظ لمعناه فقط. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: (وأَفهَم قوله إن كان له جزءٌ أنَّ المطابقة) يعني: دلالة المطابقة.
(لا تستلزم التضمن) هذا أراد أن يبيّن لنا .. شروعٌ منه في بيان النسب بين الدلالات الثلاث باللزوم وعدمه.
(وهي باعتبار مقايسة كلٍ منهما إلى الآخرين ستة:
فالتضمن والالتزام يستلزمان المطابقة) عندنا ثلاث دلالات: مطابقة، تضمن، التزام.
ما معنى الاستلزام هنا؟
يعني: إن وُجدت إحداهما وُجدت الأخرى، يعني: يجتمع عندنا الدلالتان في موضعٍ واحد، هل كلما وُجِدت المطابقة وجد التضمن؟ لا يلزم، قد تُوجَد المطابقة ولا توجد تضمن، العكس "محل خلاف": هل يلزم كلما وُجدت دلالة التزام وُجدت المطابقة؟ هذا المراد بحثُه هنا في هذا الموضع.
هل بين هذه الدلالات تلازم في الوجود والانتفاء أم لا؟ هذا شروعٌ منه.
قال: (التضمن والالتزام يستلزمان المطابَقة) لأننا نقول في حد التضمن ما هو؟ دلالة التضمن ما حدُّها ما تعريفها؟ دلالة اللفظ على جزء المسمى، أي مسمى؟ الكلي المطابقي.
حينئذٍ يُفهَم المعنى المطابقي ثم تقول: دل اللفظ أو استُعمل اللفظ في جزئه.
إذاً: التضمن تستلزم المطابقة؛ لأن المعنى هنا جزءٌ لكل، وجزء الكل إنما يكون للمطابقة. إذاً: إذا وُجدت دلالة التضمن وُجدت دلالة المطابقة.
الاستلزام ما حقيقتُها وتعريفها؟
دلالة اللفظ على خارجٍ عن مسماه لازمٍ له، فحينئذٍ كلما وُجدت دلالة الالتزام وجدت دلالة المطابقة.
ولذلك قال هنا: (فالتضمن والالتزام يستلزمان المطابقة؛ لأنهما تابعان لها والتابع من حيث هو تابع لا يُوجد بدون المتبوع).
والمطابقة هل تستلزم التضمن؟ لا تستلزم؛ لأن مدلولها بسيط.
مدلولُ المطابقة قد يكون بسيطاً وقد يكون مركباً، إذاً: إذا كان مدلول المطابقة بسيطاً حينئذٍ لا يُتصور وجود التضمن لأن دلالة التضمن لا تكون إلا في المعاني المركبة.
قال: (والمطابقة لا تستلزم التضمن؛ لأن مسمى اللفظ قد يكون بسيطاً كالوحدة والنقطة، فهو يدل عليه بالمطابقة، ولا تضمن لانتفاء الجزء، ولا الالتزام).
هل المطابقة تستلزم الالتزام؟ لا تستلزم؛ لأنه قد يكون المعنى لا لازمَ له.
فلا تلازم بينهما لانفكاك التضمن عن الالتزام في المركبات الغير الملزومة، والانفكاك عنها في البسائط الملزومة ولم يتعرض الشارح لهذه لِفهْمِها مما ذُكر.
قال رحمه الله تعالى: (وأفهم قولُه إن كان له جزءٌ) يعني: في تعريف دلالة التضمن.
(أن المطابقة لا تستلزم التضمن) أي: لا يلزم من وجود المطابقة في كل مادة وجود التضمن.
إذ قد توجد المطابقة بدونها كما في البسائط، لفظ نقطة مدلول النقطة، شيءٌ واحد لا يتجزأ، فحينئذٍ ليس له جزء.
إذاً: هذه دلالة مطابقة ولا يمكن أن يكون عندنا دلالة تضمن.
إذاً: وُجدت المطابقة دون التضمن "يكفي هذا"، قد يجتمعان، لكن المراد هنا انفراد المطابقة عن التضمن.
قال هنا: (وكذا لا تستلزم الالتزام خلافاً للفخر الرازي).
(وكذا لا تستلزم الالتزام) هنا فصَلها عما سبق، الحديث في المطابقة (لا تستلزم التضمن) قال:(وكذا) يعني: جاء بالكَذْلَكة، لماذا جاء بالكذلكة؟ الشُرَّاح هؤلاء لا يأتون بلفظٍ في الأصل إلا له مغزى .. له معنى.
لما أراد أن يفصِل الثانية عن الأخرى لذكر خلاف الرازي لئلا يُتوهم أن خلاف الرازي للمعنيين، ففصَلها قال:(وكذا) وإلا الأصل أن يقول اختصاراً: أن المطابقة لا تستلزم التضمن والالتزام خلافاً للرازي. يظن الظان أنه خالف في المسألتين وليس الأمر كذلك.
ولذلك في مثل هذه المواضع يأتي بالكذلكة يسمونها الكذلكة: وكذا، وكذلك .. إلى آخره.
قال: (وكذا لا تستلزم) يعني: المطابقة (الالتزامَ خلافاً للفخر الرازي) فإنه قال: إن المطابَقة يلزمها الالتزام، كلما وُجدت المطابقة لزمها الالتزام.
لأن لكل ماهيّة لازماً ذهنياً .. كل ماهيّة لها لازم.
وأقلُّه أنها ليست غيرها. هذا تكلُّف، فإذا قلت: هذا ماء مسماه الماء، إذاً: ليس بأكلٍ ولا شرب .. إلى آخره، فليست غيرها.
إذاً: يلزم من مسمى هذا الماء، هذا معنى ماء هذا لفظٌ مسماه هذا.
له لازم وهو أنه غير فرش، وغير مسجد، وغير خبزٍ .. وقُل ما شئت؛ لأنه لا تتصور الماء إلا إذا تصورت هذه الأشياء ونفيتها، هل هذا وارد؟ قد يرد في بعض الأحوال لكن الغالب لا يرد، إذا قيل: هذا ماء اكتفيت بمدلوله وانتهى الأمر.
لكن ما يتصور الإنسان في نفسه أنه ماء إلا إذا تصور أن هذا المسمى غيرُ غيرِه! نقول: هذا ليس بوارد.
قال: وأقله أنها ليست غيرَها، والدال على الملزوم دالٌ على لازمه البيّن بالالتزام.
وأُجيب عن قول الفخر: بأن قوله: كونُ المعنى ليس غيره لازماً بيناً، إن أراد أنه بيّنٌ بالمعنى الأخص فممنوع.
إن كان بيِّناً بالمعنى الأخص يعني: الذي يُتصور فيه الملزوم دون الطرفين فهذا ممنوع.
إذْ كثيراً ما نتصور شيئاً ويخطر ببالنا غيره، وإن أراد أنه بيّنٌ بالمعنى الأعم فمُسلَّمٌ، ولكن لا يفيد؛ إذ المُعْتَبر في دلالة الالتزام هو المعنى الأخص.
يعني: إن سُلِّم له فهو باللازم البيِّن الأعم، وليس هو شرطٌ في دلالة الالتزام، لكن هذا كذلك لا يُسلَّم.
إذاً: (وكذا لا تستلزم) يعني: المطابقة (الالتزام خلافاً للفخر الرازي) حيث قال بالالتزام.
قال في الحاشية هنا: لأن كل ماهيّة لها لازمٌ ذهني، لأن تصور كل ماهيّة يستلزم تصور أنها ليست غير نفسها، ورُدَّ بأن هذا ليس لزومه بالمعنى الأخص؛ إذ لا يكفي تصور الماهيّة في جزم العقل بلزومه لها، إذ لا يلزم من تصورها خطورُ غيرها بالبال فضلاً عن سلب كونِها غيرَها.
وعُلم من هذا أن التضمن لا يستلزم الالتزام، إذا نُفي المطابقة ولا تستلزم الالتزام كذلك التضمن؛ لأنها جزءٌ من المطابقة.
لأن لازم الجزء لازمٌ لكله فيلزم من نفيه عن الكل نفيه عن جزئه.
قال هنا: (خلافاً للفخر الرازي.
وأما التضمن والالتزام فيستلزمان المطابقة) كما مر معنا.
(ضرورة) يعني: ليس المراد به ما قابل النظر .. علم نظري وعلم ضروري؛ لأن هذا المطلب استدلالي بل المراد بها الوجوب، فيستلزمان المطابقة وجوباً.
قال: (ودلالة المطابقة لفظية) وهذا محل وفاق.
(لأنها بمحض اللفظ) دلالة اللفظ المطابَقية هذه لفظية محل وفاقٍ هذا بين البيانيين والمناطقة والأصوليين: أن دلالة المطابقة لفظية ولا إشكال فيه.
قال: (لفظية) الأَولى وضعية أي: اتفاقاً.
(لأنها بمحض اللفظ) أي: ليست متوقفةً على غير معرفة الوضع، لا بمعنى أنه ليس للعقل مدخلٌ فيها؛ لأن له مدخلاً في جميع الدلالات.
ما المراد بالمدْخَلِيَّة هنا؟
الاستفادة، العقل هل يُستفاد منه في فهم اللفظ الدال على جميع المعنى؟ يستفاد منه، كذلك في البعضية، كذلك في اللازم.
حينئذٍ العقل له مدخلٌ في الجميع، لكن في الدلالة اللفظية الأصل فيه ملاحظة الوضع .. هذا الأصل فيه، ولذلك قال:(بمحض اللفظ) أي: ليست متوقفةً على غير معرفة الوضع، فقط تعرِف هل العرب نطقت بهذا اللفظ مراداً به هذا المعنى أو لا؟ هذا المراد.
(والأُخريان) وهما التضمن والالتزام.
(عقليتان) يعني: مردُّهما إلى العقل.
لأن اللفظ الموضوع للمجموع لم يوضع للجزء، ولا للازم، فلا يدل عليهما بالوضع بل بالعقل؛ لأن فَهْم المجموع بدون فهم جزئه محالٌ عقلاً ومثله اللازم، وهذا القول اختاره صاحب المحصول والسُبكي والهندي وغيرهم: أن دلالة التضمن عقلية، دلالة الالتزام عقلية؛ لأن اللفظ ما وُضع للجزء وإنما وُضع للكل، فهمُك للجزء هذا بالعقل ليس للوضع مدخل، الوضع إنما وَضع اللفظ للمعنى جميعه ما وضعه لبعضه، وإنما أنت فهمت بعقلك البعض أو الجزء، واللازم واضح أنه عقلي، هذا لا إشكال فيه.
قال هنا: (لتوقُّفهما) أي: التضمنية والالتزامية (على انتقال الذهن من المعنى المطابَقي إلى جزئه) أي: جزء المعنى.
فعندنا انتقال، والذي انتقل هنا من الدلالة على الكل "جميع" مطابقي إلى الجزء هو العقل (أو لازمِه الخارج عن المعنى) وهذا عقلي.
(وقيل: وضعِيتان) وعليه أكثر المناطقة.
هنا خالفهم المصنف قال في الأُولى: (والأخريان عقليتان) جزم به، قدَّم هذا القول.
وهنا قال: (وقيل) تضعيف أو حكاية قول.
(وضعيتان؛ لأن وضْع اللفظ للمجموع كما أنه واسطةٌ لفهم المجموع منه، واسطةٌ لفهم الجزء واللازم. وعُزِي هذا لقول للأكثرين).
يعني: دلالة التضمن وضعية، ودلالة الالتزام وضعية.
أما القول بأن دلالة التضمن وضعية فهذا هو الأصح وهو قول الأصوليين؛ لأن الكل وضْع، وجزء الوضعي وضعيٌ.
فالذي وَضَع اللفظَ للمعنى المركب هو الواضع، ثم هذا الاستعمال من أين أخذناه؟ استعمال الكل في البعض، سواءٌ كان حقيقة أو مجازاً من أين أخذناه؟ من الواضع نفسه.
فالذي وَضَع اللفظ للكل كذلك وضعه للجزء، لكن باعتبار أن جزء الوضع وضعي.
فحينئذٍ نقول: دلالة التضمن الصحيح أنها وضعية؛ لأن اللفظ استُعمل في بعض ما وُضع له.
لم نخرج عن الوضعي، وأما العقلي الذي يستند إلى العقل فهذا إنما يكون لشيءٍ خارجٍ عن اللفظ، فدلالة الالتزام لا شك أنها عقلية؛ لأن الواضع وَضع اللفظ للمعنى، ثم هذا المعنى له لازمٌ خرجٌ عنه.
الواضع وضَعَ اللفظ للمعنى للملزوم لا للازم، فانتفى عندنا الوضع، وإنما كان المدار على العقل.
قال هنا: (وقيل: وضْعِيتان؛ لأن وضعَ اللفظ للمجموع كما أنه واسطةٌ لفهم المجموع منه واسطةٌ لفهم الجزء واللازم، وعُزي هذا لقول الأكثرين، وعليه أكثر المناطقة).
ولم يذكر قول الأصوليين، وهذا غريب، قول الأصوليين هو: التضمنية وضعية والالتزامية عقلية، فهي ثلاثة مذاهب.
والذي قدَّمه المصنف (والأُخريان عقليتان) مذهبُ البيانيين.
عندنا ثلاثة مذاهب: مذهب المناطقة: أن الكل وضعي: المطابقية والتضمنية والالتزامية. كلها وضعية.
مذهب البيانيين: أن المطابَقية وضعية، والتضمنية والالتزامية عقلية، وهو الذي قدَّمه المصنف قال:(والأُخريان عقليتان) وهذا مذهب البيانيين، أكثر البيانيين على هذا.
مذهب الأصوليين وهم أهل التحقيق في هذا المقام في المعاني، هم غوَّاصون في المعاني وهو صحيح: أن المطابقية والتضمنية وضعية "وهذا هو الصحيح"، وأن الالتزامية عقلية. هذا هو المرجَّح.
قال هنا: وقيل: التضمنية وضعية كالمطابَقة، والالتزامية عقلية؛ لأن الجزء داخلٌ فيما وُضع له بخلاف اللازم، فإنه خارجٌ عنه. واختاره الآمدي وابن الحاجب وهو الصحيح.
قال هنا: (واللوازم ثلاثةٌ: لازمٌ ذهناً وخارجاً) هذا أراد به تفسير .. يدل على ما يلازمه في الذهن.
قال هناك: (سواء كان خارجاً أو لا) أراد هنا أن يفصِّل لنا اللازم وهي ثلاثة أنواع قال: (واللوازم ثلاثة) هذا شُروعٌ في تقسيم اللازم إلى الأقسام المذكورة، وبيان أن المراد منها عند المناطقة هو اللزوم الذهني.
ولذلك قال: (واللوازمُ ثلاثة: لازمٌ ذهناً وخارجاً).
عرفنا المراد لازماً ذهناً وخارجاً.
(كقابِل العلم، وصنعة الكتابة للإنسان) هذا في الذهن وفي الخارج.
(وكالزوجية للأربعة) يعني: في الذهن العقل يلزم منه كون الإنسان حيواناً ناطقاً أنه قابل للعلم وقابل لصنعة الكتاب، في الخارج الوجود كذلك.
الداخل والخارج واضح المعنى؟
الداخل يعني: في الذهن، ولو لم يوجد له شيءٌ في الخارج، وفي الخارج لا بد أن يكون له لازمٌ في الذهن عند المناطقة.
قال هنا: (ولازمٌ خارجاً فقط) يعني: لا في الذهن.
(كسواد الغراب) كلُّ غرابٍ أسود، لا يوجد غراب غير أسود.
الصبي لو قلت له: غراب يتصور أنه أحمر أو أبيض، الذي لا يعرف الغراب ما يتخيل أنه منحصرٌ في السواد.
حينئذٍ اللزوم هذا في الذهن أو في الخارج؟ العقل لا يمنع أن يكون غراب أحمر.
إذاً: ليس هذا اللازم بذهني وإنما هو لازمٌ في الخارج فقط.
قال: (كسواد الغراب، والزنجي) الزنجي لا يلزم أن يكون أسوداً في الذهن، لكن في الخارج لا وجود له إلا وهو أسود.
نقول: هذا لازمٌ، فإذا أُطلق لفظ الغراب دل على السواد، أين الملزوم؟
غراب أسود أين الملزوم؟ الغراب ملزوم، واللازم أسود.
هذا اللازم خارجي أو ذهني؟ خارجي فقط، والذهن لا يجوِّز أن يكون الغراب غير أسود، كذلك الزنجي.
(ولازمٌ ذهناً فقط) أي: لا خارجاً، في الذهن فقط، لا وجود له في الخارج.
مثاله: (كالبصر للعمى) وعرفنا المراد بالبصر للعمى؛ لأن معنى العمى سلبُ البصر، سلبُ البصر هذا مركَّبٌ إضافي لا يمكن أن يُتعقَّل إلا بتعقل مفرديه .. سلبُ والبصر.
حينئذٍ إذا قيل: عين زيدٍ عمياء، تتخيل أنها عمياء وأنها مبصرةٌ، لكن في الذهن البصر وأما في الخارج فمتضادان.
(كالبصر للعمى، فإنه يلزم من تصوُّر معنى العمى معنى البصر ذهناً، مع أن بينهما معاندة في الخارج).
قال العطَّار: (فقد استفدت أن النسبة بين اللزوم الذهني واللزوم الخارجي إنما هو التباين الجزئي) يعني: العموم والخصوص الوجهي.
(فإنه قيَّد القسمين بقيد: فقط، وأطلق الثالث).
قال رحمه الله تعالى: (والمعتبر في دلالة الالتزام اللزوم الذهني) يعني: مطلقاً، الصادق بقسمين، يعني: الذي وافق الخارج والذي لم يطابِق. هذا يسمى لازماً ذهنياً.
(والمُعتبَر في دلالة الالتزام اللزوم الذهني كما ذكره المصنف كغيره) كغيره أشار به إلى أنه لم يهِم .. دفعُ ما يتوهم من نسبة المصنف إلى سهو أو خطأ في ذلك.
لأن البيانيين والأصوليين يعتبرون اللزوم مطلقاً، فاللازم الخارجي كدلالة الغراب على السواد هذه دلالة التزام عند الأصوليين وعند البيانيين، وأما عند المناطقة فلا .. لا تسمى دلالة التزام.
إذاً: الثلاثة الأنواع هي مُعتبرة في دلالة الالتزام عند الأصوليين والبيانيين، وأما عند المناطقة لا، لا بد أن يكون اللزوم ذهنياً سواء كان كذلك في الخارج أو لا.
قال هنا: (لأن اللزوم الخارجي) يعني فقط، يبيِّن لماذا المناطقة لم يعتبروه، إن وُجد اللازم الخارجي دون الذهني؟
(لأن اللزوم الخارجي لو جُعل شرطاً في تحقُّق دلالة التزام لم تتحقق دلالة الالتزام بدونه).
لو جَعَلنا اللزوم الخارجي شرطاً في تحقُّق دلالة الالتزام، هل توجد دلالة التزام دون الشرط الخارجي .. اللزوم الخارجي؟ الجواب: لا.
المشروط هل يوجد دون شرطه؟ لا، هل توجد الصلاة دون طهارة؟ لا توجد؛ لأن الطهارة شرطٌ فيه، لو قلنا اللزوم الخارجي شرط في تحقق دلالة الالتزام، إذاً: لا توجد دلالة الالتزام إلا مع الخارجي، لكن وجدنا أن دلالة الالتزام وجدت دون الخارجي وهو البصر بالنسبة للعمى.
حينئذٍ نقول: دلالة التزام أو لا؟ دلالة التزام، لكنه لم يوجد إلا في الذهن.
هذا هو التعليل.
قال: (لأن اللزوم الخارجي فقط لو جُعل) هذا اللزوم الخارجي (شرطاً في تحقق دلالة الالتزام لم تتحقق دلالة الالتزام بدونه؛ لامتناع تحقق المشروط بدون الشرط) كالصلاة بالنسبة للطهارة، لا تتحقق الصلاة بدون الطهارة.
(كذلك لا تتحقق دلالة التزام بدون اللازم الخارجي، واللازم باطل، فكذا الملزوم).
قال: (اللازم باطل) أي: انتفاء تحقق دلالة التزام بدون اللزوم الخارجي فقط.
(فكذا الملزوم) لأن بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
أي: كون اللزوم الخارجي فقط شرطاً في دلالة الالتزام، ما الدليل على البطلان؟
قال: (لأن العدم كالعمى يدل على الملَكة كالبصر التزاماً) لأن العمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيراً، مع أن بينهما معاندة في الخارج.
(لأن العدم) يعني: اللفظ الدال على العدم.
(كالعمى) العمى هذا سَلْب معناه سلبٌ، عدم بصرٍ إذاً معناه: عدم.
(يدل على الملكة) يعني: الشيء الموجود (كالبصر) لأن العمى معناه: سلبُ البصر.
إذاً: عدمٌ دل على وجود، لكن وجود البصر في الذهن، أما في الخارج فهما متنافيان.
لأن العمى عدم البصر -معناه- أو سلب البصر، عمّا من شأنه أن يكون بصيراً. يعني: كالإنسان، الحيوان مثلاً وأما الجدار فلا يوصف لأنه غير مهيأ، ولذلك قال هنا:(عمَّا من شأنه) إشارة إلى أن الجماد لا يوصف بالعمى، مع أن بينهما معاندة في الخارج.
هذا المثال يبطل اشتراط اللزوم الخارجي في دلالة الالتزام، يعني: كما أراد هناك القرافي أن يأتيَ بمثال يبطل حصر الدلالة في الثلاث.
هنا جئنا بمثال يدل على وجود اللزوم الذهني دون الخارجي، فبطَل الاشتراط من أصله، هذا المراد بهذا المثال، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!