الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
قال المصنف رحمه الله تعالى بعدما ذكر ما يتعلق بالدلالة.
وعرفنا أن الدلالة ومباحث الألفاظ إنما يذكرها المنطقي تبعاً لا استقلالاً يعني: الأصل أنه لا يَبحث في الألفاظ ولا في الدلالات؛ لأن بحثَهم إنما هو في المعقولات "يعني: في المعاني"، إذا كان كذلك فحينئذٍ كل ما يُفيد في إظهار المعنى حينئذٍ يُبحث فيه تبعاً لا استقلالاً. هذه قاعدة.
كل فصلٍ، كل بابٍ، كل مسألة تتعلق بالألفاظ في علم المنْطِق إنما هي تبعاً لا استقلالاً، وهو يريد أن يمهِّد للوصول إلى الكُلِّيّات، ما المراد بالكُلِّيّات، إذا أراد أن يفسِّر معنى الجنس، ومعنى الفصل .. وهذه تعتبر من مبادئ التصورات، نحن عندنا مبادئ ومقاصد.
مبادئ التصورات الكُلِّيّات الخمس: الجنس، والفصل، والنوع، والخاصة، والعرض العام. هذه خمسة.
والمقاصد التي هي المعرِّفات -التعريفات .. الحدود-، هل يمكن أن نصل إلى معرفة الجنس وحقيقة الجنس دون أن نعبِّر عنه بلفظ؟ الجواب: لا.
إذاً: لا بد أن نبحث في كيفية التعبير عن الكُلِّيّات الخمس، ثم إذا كان البحث في لسان العرب لا شك أنه محصور، لا بد له من ضوابط: متى نقول هذا اللفظ كُلّي ومتى نقول هذا اللفظ جزئي.
وحينئذٍ التمييز هذا عن ذاك يُعتبر من مباحث علم المنْطِق لكن تبعاً لا استقلالاً، ليس هو استطرادي بمعنى أنه يُذكر الشيء لا لفائدة أو يُذكر لِذكرِ الشيء الآخر لا، إنما يُذكر قصداً لكن لا يُذكر من جهة أن المقاصد تتعلق به.
قال هنا: (ثُمَّ اللَّفْظُ).
ثم هنا للترتيب الإخباري أو الرُتْبي باعتبار أن وصف اللفظ بالإفراد والتركيب متأخِّرٌ في الرتبة عن الدلالة لأنه فرعٌ عنها.
ولذلك قدَّموا باب أنواع الدلالات على باب مباحث الألفاظ.
(ثُمَّ اللَّفْظُ) وهذا كما ذكرنا شروعٌ منه في مباحث الألفاظ، والنظر هنا في هذا الباب في جزئيتين أو إن شئت قل: مسألتين.
يعني: يُنظر فيه من حيثيتين: من حيث الإفراد والتركيب.
مُسْتَعْمَلُ الأَلْفَاظِ حَيْثُ يُوْجَدُ
…
إِمَّا مُرَكَّبٌ وَإِمَّا مُفْرَدُ
(ثم المفرد) .. المركب هذا لا بحث لهم فيه؛ لأنه ليس المجال فيه، وإن كان التقسيم واردٌ عليه كما هو واردٌ على المفرد، حينئذٍ مفرد مركب من حيث الإفراد والتركيب، ثم دلالة المفرد من حيث الكُلّيّة والجزئية.
إذاً هكذا: الدلالة؛ لنعرف كيف نستدل باللفظ أو ماذا يُفهم من اللفظ، ثم بعد ذلك تقسيم اللفظ إلى: مركب ومفرد، نُخرِج المركب، ثم يأتي المفرد وينقسم إلى: كلي وجزئي، نخرج الجزئي يبقى الكلي.
ثم ننظر في الكلي "الكُلِّيّات الخمس" ثم ننتهي من المبادئ ونشرَع في المعرفات.
إذاً: هذا التدرج مقصود.
وكل شيءٍ يُترك ذكره في هذا المقام "يعني: في كتب المنْطِق" كالتركيب مثلاً، أو البحث فيما يتعلق بالجزئيات على جهة التفصيل الموسع، يُترك لكونه لا علاقة للمنطقي بهذا البحث.
إذاً: مبحث الألفاظ من حيثيتين:
أولاً: من حيث الإفراد والتركيب.
ثانياً: من حيث الكُلّيّة والجزئية، إلا أن إطلاق الإفراد والتركيب على الألفاظ حقيقي. تقول: هذا لفظٌ مفرد وهذا لفظٌ مركب، هذا إطلاقٌ حقيقي.
وعلى المعاني مجازٌ، عرفنا بالأمس أن التركيب والإفراد باعتبار النوعين: لفظٌ مفرد ولفظ مركب، معنًى مفرد ومعنًى مركب. كلاهما استعمالٌ حقيقي؟ الجواب: لا، وإنما يكون استعمالاً حقيقياً في وصفِ اللفظ بالإفراد والتركيب، نقول: هذا لفظٌ مفرد وهذا لفظٌ مركّب.
وأما المعنى يصح أن يوصف فيقال: هذا المعنى مفرد، والمناطقة على ذلك والنحاة على ذلك، فيقال: هذا معنى مفرد وهذا معنى مركب، إلا أنه على جهة المجاز يعني: لا حقيقة. إذاً هكذا: لفظٌ ومعنى.
يوصف اللفظ بالإفراد والتركيب حقيقة، ويوصف المعنى بالإفراد والتركيب مجازاً.
(من إطلاق ما لِلدال على المدلول) الدال هو اللفظ، وهو الذي يُوصَف بالإفراد والتركيب، من باب إطلاق ما للدال يعني: الذي يُطلق على الدال أصالةً يُطلق على المدلول، وحينئذٍ نقول: هذا مجاز.
والكُلّيّة والجزئية بالعكس يعني: يُوصَف بهما المعنى حقيقة واللفظ مجازاً .. العكس الكُلّيّة والجزئية يوصف بهما المعنى فيقال: هذا معنى كلي، وهذا معنى جزئي على جهة الحقيقة.
وأما وصف اللفظ بأن هذا اللفظ كلي وهذا اللفظ جزئي، هو مستعمل للمناطقة، هذا يُعتبر مجازاً من إطلاق ما للمدلول على الدال .. عكس الأول؛ لأن الأصل هو وصف المدلول بالكُلّيّة والجزئية، هذا الأصل فيه.
ثم من باب إطلاق ما للمدلول على الدال استُعمل لفظ الكُلّيّة والجزئية في اللفظ، لكن على جهة المجاز.
إذاً: (يوصف اللفظ بالإفراد والتركيب، وبالكلية والجزئية) لكن وصفُه بالإفراد والتركيب حقيقي، وبالكلية والجزئية هذا مجازي.
ويوصف المعنى كذلك بالإفراد والتركيب والكُلِّيّة والجزئية إلا أن الإفراد والتركيب هذا مجازي، والكُلّيّة والجزئية هذا حقيقي.
واللفظ المستعمل له عدة تقسيمات منها بحسب دلالته الإفرادية والتركيبية، فينقسم إلى مفرد ومركب، وهو الذي قدّمه المصنف هنا ابتداءً.
قال: (ثُمَّ اللَّفْظُ) ثم قلنا للترتيب الإخباري، أو الرُّتبي باعتبار أن وصف اللفظ بالإفراد والتركيب متأخرٌ في الرتبة عن الدلالة لأنه فرعٌ عنها.
قال: (ثُمَّ اللَّفْظُ) وصفَه الشارح هنا بالدال .. وصَف اللفظ بالدال، هو عين اللفظ الذي مر معنا .. اللفظ نفسُه الذي قسَّمه فيما سبق إلى: دلالة تضمن، ودلالة مطابقة، ودلالة التزام. هو عينُه.
ولذلك أعاد المعرفة معرفة، والمعرفة إذا أُعيدت عينُها معرفة حينئذٍ الثاني عينُ الأول.
(ثم اللفظ الدال) وصف اللفظ بالدال مأخوذٌ من إعادة اللفظ معرفة، وقد قال فيما سبق: اللفظ الدال بالوضع.
فأل هنا تسمى: للعهد الذكري. أي: اللفظ المذكور سابقاً؛ لأن المعرفة إذا أُعيدت معرفة كانت عين الأُولى ما لم تقم قرينة على خلافه، ولا قرينة هنا.
والمراد بالدال هنا الدال بالمطابقة لا التضمن ولا الالتزام، إذاً: نقيِّده: اللفظ الدال أي: بالمطابقة، لا بالتضمن ولا بالالتزام.
قال: (إِمَا مُفْرَدٌ) إما هذا للتفصيل.
(وَهُوَ الَّذِي لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).
إما مفردٌ وإما مركب يعني يقابله.
قال: (إِمَا مُفْرَدٌ) وأراد أن يفسِّره بتفسيرٍ يختص بهذا العلم؛ إذ المفرد من المصطلحات التي شاع استعمالها عند النحاة وغيرهم كالمناطقة.
فحينئذٍ كل فنٍ له اصطلاحٌ خاصٌ به وهنا في فن المنْطِق أراد أن يفسِّر المفرد بالمعنى المراد عند المناطقة، يعني: هو حقيقة عرفية خاصة، ومعلوم أن الحقائق العرفية منها ما هو عام ومنها ما هو خاص، والخاص هذا يتنوع باختلاف الفنون والعلوم، فالخاص عند الأصوليين ليس كالخاص عند النحاة .. وهكذا.
إذاً: المفرد هنا: حقيقةٌ عرفيةٌ خاصة عند المناطقة، وهذا نَفْهم منه أنه لا يفسَّر المفرد عند النحاة بهذا التعريف الذي سنذكره، وإنما يُفسَّر النحاة عندهم بالنوع الخاص به.
وإذا كان كذلك فقد يوجد في الفن الواحد المصطلح الواحد وله عدة اصطلاحات في مواضع مختلفة كما هو الشأن في المفرد هنا معنا في باب التصور وفي هذا المحل يختلفان.
كما أن المفرد في باب الإعراب وفي باب اسم لا والمناداى، هذا مختلف، في باب المبتدأ ليس هو المفرد في باب الإعراب، مع كونه مصطلحاً واحداً.
إذاً: تختلف المصطلحات من فنٍ إلى فن، بل قد يختلف الفن الواحد باستعمال المصطلح في عدة مواضع، في عدة أبواب، يختلفون في لفظٍ واحد على اصطلاحات متعددة. ولا إشكال في هذا، لا مشاحة في الاصطلاح.
قال: (إِمَا مُفْرَدٌ: وَهُوَ).
(أي: حقيقةُ المفرد اللفظ الدال بالوضع)(الَّذِي) يعني: الذي هذا صفةٌ لموصوف محذوف؛ لأنه أراد كما قلنا: (إِمَا مُفْرَدٌ) هذا تقسيمٌ "وإن شئت قل: تعريف" لقوله: (اللفظ الدال) واللفظ الدال المراد به اللفظ الدال بالوضع فيما سبق بيانه فيما يتعلق بالدلالات.
إذاً: (وَهُوَ)(أي: حقيقةُ المفرد اللفظ الدال بالوضع).
(الَّذِي لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) الذي هذا يصدق على المفرد والمركب، يعني: اسم موصول يعتبر جنساً في الحد؛ لأن هذا تعريف يُعتبر جنساً.
قوله: (لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) إن جعلناه فصلاً كاملاً أَخرج المركب، فاختص حينئذٍ الحدُّ بالمفرد؛ لأنهما حقيقتان: إما مفرد وإما مركب، فإذا كان كذلك فحينئذٍ قوله:(الَّذِي) اسم موصول وهو عامٌ "هو جنس في التعريف" يشمل المفرد والمركب.
قال: (الذي جنسٌ شمل المفرد والمركب) والمصنف لم يقل: مركب، وإنما قال: مؤلَّف؛ لأنه يرى الترادف بين المؤلَّف والمركب، ولا إشكال فيه كما سيأتي.
(الَّذِي لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).
قال المحشِّي: (الَّذِي) واقعٌ على لفظ، فهو جنسٌ شاملٌ للمفرد والمؤلف.
وقوله: (لَا يُرُادُ) فصلٌ مخرجٌ للمؤلَّف؛ لأن المؤلَّف يراد وهذا لا يراد .. متقابلان: هذا عدم وهذا ملَكَة.
(لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ) المراد بالجزء هنا: ما صار به اللفظ مركباً، يحتمل هو .. يحتمل أن يراد به ما صار اللفظ به مركباً.
يعني: الجزء الذي هو كالمبتدأ مع الجزء الآخر الذي هو الخبر: زيدٌ قائمٌ، زيدٌ جزءٌ، وقائمٌ هذا جزءٌ آخر، لا إشكال، هذا اعتبار، واعتبره العطّار بل جعلَ الحد في هذا النوع لكن ليس على إطلاقه، بل الصواب أنه يعُم.
قد يكون جزءاً في الإسناد التام نحو: زيدٌ قائمٌ، فزيدٌ جزءٌ وقائم ٌهذا جزء.
وكذلك شاع عندهم بل أطبقوا على أن (ز، ي، د) هذه أجزاء لزيد، فيذكرون من أنواع المفرد ما له جزءٌ لا معنى له، ويمثِّلون لزيد يقول:(ز)، (ز) هذا جزءٌ من زيد لأنه تألَّف منه، تركَّب من ثلاثة أحرف (ز، ي، د) حينئذٍ (ز) هذا جزء، و (ي) جزءٌ و (د) هذا جزءٌ.
إذاً: يُحمل الجزء هنا على ما يُراد بالحرف الذي يكون جزءاً من الكلمة الذي يسمى حرف مبنى، ويُحمل كذلك على ما ذكره العطّار من كون الجزء المراد به هنا: الجزء الذي يُبنى عليه الحكم أو يكون هو الحكم الذي بني على غيره. يعني: كالموضوعي والمحمول.
لذلك قال: المراد بالجزء إن كان مرادُه بالمراد أنه محصورٌ فيه ففيه نظر، لكن إن كان أنه داخلٌ فلا إشكال فيه "يعني: يشمل هذا ويشمل ذاك فلا إشكال فيه" أما الحصر فلا.
فالجزء ليس خاصاً بالكلمات "مفردات" وإنما يُحمَل كذلك الجزء على حروف المباني مثل: (ز، ي، د).
المراد بالجزء ما صار به اللفظ مركباً كزيدٌ قائمٌ، والزاي ونحوُها لم يصر به المركب مُركَّباً، فلا يصدُق الجزء عليها.
وهذا فيه إشكال، بل الصواب أنه يُحمل على ذا وذاك، ولذلك أورد الجزء معرفاً بأل العهدية أي: الجزءُ المعهودُ الذي حصل به التركيب.
يُرَد على هذا الكلام –التخصيص-: أن المركب أو المؤلَّف هنا فيما يقابل المفرد لا يختص بالإسناد التام، وإنما يدخل فيه النسبة التقييدية التي هي المركب التوصيفي والمركب الإضافي، فيشمل المركب في هذا المقام ثلاثةَ أشياء:
المركب الإسنادي التام يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وكذلك المركب الإضافي كغلامِ زيد، وكذلك المركب التوصيفي، المركب التوصيفي نحو: حيوانٌ ناطق، ما هو الإنسان؟ حيوانٌ ناطق، يعني الموصوف مع صفته يسمى مركباً تقييدياً، وبعضهم يسميه مركباً توصيفياً، وهذا واضح أن بينهما نسبة وهو استلزام الصفة للموصوف.
قال هنا: (وَهُوَ الَّذِي لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).
قوله: (دَلَالَهٌ) بالرفع ما إعرابه؟ نائب فاعل ليراد.
إذاً الترتيب: (الذي لا يُراد دلالة على جزء معناه بالجزء منه) لا يراد دلالة؛ لأن (عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) متعلق بدلالة، (بِالجُزْءِ مِنْهُ) هذا يكون متأخراً.
إذاً: فسَّر لنا الجملة، كلام الشارح ترجع إلى هذا التعريف فتفهمه على وجهه.
قال: (بأن) الباء هذه ما نوعها؟ للتصوير، ما معنى التصوير؟
يعني: صوَّر لك المسألة يعني: ذكر لك محالَّها أو مصدَقَها.
ولذلك إذا جائت الباء وأُريد بها التصوير فحينئذٍ ما بعد الباء يكون هو تفسيراً لما سبق، فبماذا تفسِّر: بأن (لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ)؟ تفسِّره بما بعد الباء.
قال هنا: (بألا يكون له جزءٌ) يعني: هذا المفرد أن لا يكون له جزءٌ.
(كقِي علماً) وهمزة الاستفهام أوضح، هو عدل عن المشهور.
يعني: المفرد النوع الأول منه الذي لا يدل جزءه ما لا جزء له "ما ليس له جزء" بمعنى أنه لم يتألف من حرفين فأكثر بل هو حرفٌ واحد، همزة الاستفهام لها جزء؟ لا. ليست لها جزء؛ لأنه إذا قيل لها جزء معناه: جزءٌ آخر وتركبت منه، وهو ليس كذلك، وإنما هي بنفسها جزءٌ واحد، همزة الاستفهام، ولام الجر، وباء الجر كذلك .. هذه أحرف مؤلفة من حرفٍ واحد.
حينئذٍ هل لها جزء؟ نقول: لا جزء لها.
(قي) أصله وقَى يقِي قِي، قال:(عَلماً) هذا احترازاً، لأنه لو كان قي المراد به فعل الأمر صار جملةً فعلية، فحينئذٍ صار مركباً مثل زيدٌ قائمٌ وليس مراداً، لكن لما قال:(علماً) علمنا أنه أراد الحرف فقط يعني: نُقل، صار علماً بالنقل.
حينئذٍ (قي) حرفٌ واحد، له جزء؟ لا جزء له؛ لأنه هو جزءٌ واحد، إذا قلت: له جزء إذاً ثم جزءٌ آخر تركَّب معه فصار قي وليس كذلك.
(بألا يكون له جزءٌ كقِي علماً) إذاً: قيّده بالعلَمية (احترازاً عن كونه فعل أمرٍ).
وإن كان فعلُ الأمر إذا كان على حرفٍ واحد فالأفصح أن يقال: (قِهْ) بهاء السكت، يعني: يمكن أن يقال بأنه لو قال: قِه لقيل: فعل أمر، لكن لما قال: قي فحينئذٍ هو محتمِل.
(احترازاً عن كونه فعل أمرٍ؛ لأنه إذا كان كذلك كان للفظه جزءٌ فهو مركبٌ من فعلٍ وفاعل فليس من قبيل المفرد، بل من قبيل المركب).
هذا النوع الأول: بأن لا يكون له جزء.
(أو) هذا للتنويع.
(أو يكونَ له جزءٌ لا معنى له) يعني: مؤلَّف، كلمة مؤلفة من أحرف، وهذه الأحرف تسمى حروف مبنى مثل: زيد الذي ذكرناه.
فحينئذٍ قي هذا لا جزء له؛ لأنه حرف واحد، قد يكون من حرفين فأكثر، له جزء أم لا؟ نقول: نعم له جزء.
زيد له أجزاء ثلاثة (ز، ي، د) إنسان له أجزاء (الهمزة، والنون، والسين، والألف، والنون) حينئذٍ نقول: هذا له جزءٌ.
لكن لو فصَلت وفكَكْت الجزء هذا هل له معنى؟ ليس له معنى. "ز" هل له معنى؟ ليس له معنى.
(أو يكون له جزءٌ لا معنى له) يعني: غير موضوع لمعنى، ما وضعتَه العرب لمعنى، وإنما هو حرف مبنى يؤلَّف منه الكلام.
(كَالإِنْسَانِ) كالإنسان هذا له أجزاء، كل حرفٍ منها يسمى جزءاً ولكن ليس له معنى.
قال: (كَالإِنْسَانِ)(أو له جزءٌ ذو معنى) أي: في وضعه الأصلي.
(لكن لا يدل عليه) يعني: على المعنى.
(كعبدِ الله عَلماً) عبدُ الله عَلماً قبل جعلِه علماً هو مركب إضافي، المقصود هنا المركب الإضافي إذا نُقل "وَشَاعَ فِي الأَعْلَامِ ذُو الإِضَافَهْ".
إذاً عبدُ الله أصله: عبدُ اللهِ مضاف ومضاف إليه كغلام زيد.
إذاً: عبد هذا جزء، ولفظ الجلالة هذا جزء.
حينئذٍ هذا له معنى، عبد له معنى، وهو عبد للإيجاد، ولفظ الجلالة له معنى.
(لما نُقل فصار علماً صارت دلالة الأجزاء على معانيها نسياً منسياً) نحن نشرح كلام المناطقة هنا.
فحينئذٍ إذا اعتبرنا -على كلام العطّار- عبد جزء ولفظ الجلالة جزء، حينئذٍ عبد لا معنى له؛ لأنه مثل "ز" من زيد لا معنى له، وإذا اعتبرنا كل جزء منه "ع ب د" .. إلى آخره، فحينئذٍ هذا واضح لا إشكال فيه، أنه ليس له معنى.
لكن أحدُ التوجيهين في هذا المقام أن يقال: المعنى الذي كان قبل النقل وهو المعنى الإضافي: كل جزءٍ يدل على معناه، هذا صار نسياً منسياً بعد النقل والعلَمية. هذا وجه.
هنا قال: (أو له جزءٌ ذو معنىً، لكن لا يدل عليه) لا يدل عليه على ماذا؟ على مفهوم عبد الله عَلماً؛ لأنك لو نظرت زيد له مفهوم، يدل على ذات مشخَّصة، فتقول: هذا زيد.
عبد الله يدل على ذاتٍ مشخَّصة، إذاً: الذات المشخَّصة هي مسمى عبدِ الله، والذات المشخَّصة المعيَّنة المشاهدَة في الخارج هي المسماة زيد.
إذا قلت (ز) لا يد على معنى، بمعنى: أنه لا يدل على معنى في نفسه، ويستلزم ذلك ألا يدل على معنى مما دل عليه كلمة زيد، لا يشاركه.
كذلك عبد الله، عبد جزءٌ له معنى قبل العلمية، لكن العبودية أو الإيجاد هذا أو ذاك هل هي من مفهوم عبد الله عَلماً؟ ليست داخلة في مفهومه، لا تُفسَّر به؛ لأن مفهومه شيءٌ واحد وهو الذات المشخَّصة.
إذاً: الذات المشخَّصة لا يلزم منها أن توصف بالعبودية أو بمسمى لفظ الجلالة، هذا قطعاً لا إشكال فيه، فحينئذٍ نقول: هذا جزءٌ ولا يدل "هذا الجزء" على شيءٍ مما دل عليه لفظ عبد الله عَلماً، كذلك لفظ الجلالة -إن صح التعبير- جزءٌ وله معنى، لكن ليس داخلاً في مفهوم عبد الله.
إذاً: له معنى ولكنه ليس هذا المعنى داخلاً في مفهوم ما دل عليه اللفظ قبل التجزئة.
إذاً: عبد الله نقول: هذا مركَّبٌ إضافي.
قبل جعله عَلماً لكل جزءٍ له معنى يختص به، ثم لما نُقل إلى العلمية يرِد السؤال: هل المعاني قبل النقل باقيةٌ؟
المعاني التي دل عليه عبدُ ولفظ الجلالة، هل بعد النقل المعاني موجودة؟ لا. ليست موجودة، سواء اعتبرناها موجودة في ذاتها عند الانفكاك، أو قلنا: صارت نسياً منسياً؛ لأن لها توجيهين عند المناطقة هنا، بعضهم يرى أنه لا معنى لها الأصل، وبعضهم يرى أن المعاني باقية لكنها ليست داخلةً فهي غير مقصودة، وهذا تعليل الشيخ الأمين في المقدمة.
إذاً قال: (أوْ لَه) يعني: اللفظ المفرد .. الذي نُعبِّر عنه بأنه مفرد.
(له جزءٌ ذو معنى) صاحب معنى. يعني: وُضِع له معنًى لسان العرب.
(لكن) حرف استدراك.
(لا يدل) نفيٌ للدلالة بالمطابقة.
(لا يدل عليه) على المعنى.
(كعبد الله عَلماً لإنسانٍ) لماذا؟
قال: (لأن المراد) يعني: من عبد الله علماً. المراد ماذا؟
(ذاتُه، لا العبودية والذات الواجب الوجود) ليس هذا المراد، وإنما المراد أنه صار عَلماً، وأما بعد كونِه عَلماً المعاني السابقة كلها صارت نسياً منسياً.
فليس المراد العبودية ولا الذات الواجب الوجود.
(أوْ) للتنويع، هذا النوع الرابع.
(أو له جزءٌ ذو معنى دالٌ عليه، لكن لا يكون مراداً. كالحيوان الناطق عَلماً لإنسان).
كالكلام السابق، لكن الكلام السابق: العبودية ومدلول لفظ الدلالة ليست داخلة في المسمى، مع وجود المعنى، هذا بناءً على القول بأن "عبد" له معنى لكنه غير مقصود.
يعني: لا يدل على شيءٍ مما دل عليه عبد الله.
هنا حيوانٌ ناطق "مركب توصيفي ليس إضافي" حيوانٌ ناطق سُمِّي زيد من الناس، حينئذٍ نقول: هذا حيوانٌ ناطق التي هي الذات المشخَّصة.
الاسم: حيوانٌ ناطق، المسمَّى: الذات المشخَّصة.
حيوان جزء له معنى، هل المسمى "الذات المشخَّصة" دخل مفهومُ الحيوان فيها أم لا؟ زيد من الناس هل هو حيوان أم لا؟
حيوان؛ لأن الإنسان حيوانٌ ناطق، فإذا قلت: زيدٌ اسمه حيوان ناطق.
إذاً: كما قلنا في عبد الله لما نُقل: هل المعاني التي دل عليها المضاف والمضاف إليه موجودة تحت مسمى عبد الله عَلماً أم لا؟ ليست موجودة، فزيدٌ من الناس ليس عبد وليس هو مفهوم الجلالة -اسم الله-.
هنا حيوانٌ ناطق لا، المعنى موجود، فإذا قلت: زيدٌ من الناس أو شخصٌ ما اسمه حيوانٌ ناطق، الجزء الأول حيوان وله مفهوم، هل هو داخلٌ في المسمى؟ نعم داخل قطعاً، ناطق هل هو داخلٌ في المسمى؟ نعم.
إذاً: هو جزءٌ من المعنى، لكنه هل هو مقصودٌ بالأصالة؟ الجواب: لا.
إذاً: يُشترط هنا أن يكون الجزء قد دل على بعض معنى المفرد لكن بالأصالة، يعني: يكون مقصوداً، وهنا ما قُصِد بحيوان ناطق أن يبيّن بأن هذا المسمى -الذات المشخَّصة- بأنها متصفة بهذين الوصفين، وإنما قُصد العلَمية، والمراد بالعلَمية التشخيص فقط، ما معنى التشخيص؟ يعني: التعيين.
هذه الوظيفة، سمَّيت هذا زيد يعني: ميَّزته عن غيره، بقطع النظر عن المعاني التي يدل عليها اللفظ فقط، ولذلك باتفاق عند النحاة وغيرهم أن الأسماء المشتقة في المخلوقِين -واختُلف في النبي صلى الله عليه وسلم يُستثنى- في المخلوقين أنها لا تدل على معاني.
لو سُمِّي صالح قد يكون طالحاً، إذاً: صالح هل يلزم منه أن يكون المسمى فيه شيءٌ من الصلاح؟ الجواب: لا، بخلاف أسماء الباري جل وعلا فهي أعلامٌ وأوصاف، أما صفات المخلوقين عدا النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة ففيهم خلاف ..
عدا الباري جل وعلا من المخلوقِين عدا النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة، نقول: كل من سُمِّي باسمٍ مشتق فهو جامد لا يدل على ذات وصفة.
الرحمن دل على ذات وصفة، ذات متصفة بصفة.
الرحيم دل على ذات وصفة، العليم .. وقل ما شئت.
أما في شأن البشر لو سُمِّي محمود لا يلزم أن يكون محمود، محمد لا يلزم أن يكون محمد، قد يكون مذموم، هذا في غير النبي صلى الله عليه وسلم.
حينئذٍ نقول: لا يلزم، إذا سُمِّي الشخص باسم مشتق أن يدل على الوصف؛ لأنه جامد، لماذا؟
لأنه قُصد بالعلَم "علم الشخص" تمييزه عن غيره فحسب، لا للدلالة على وصفٍ البتة.
هنا إذا قيل: سُمِّي به حيوانٌ ناطق -بهذا التركيب-، حينئذٍ نقول: المقصود به العلمية الشخصية، بأن يكون هذا الاسم معيِّناً له ومشخصِّاً له عن غيره، أما كون حيوان يدل على معنى والمسمى له حظٌ من هذا المعنى. فهذا غير مقصود، فإذا كان غير مقصودٍ فحينئذٍ لا يكون مركباً، وإنما هو مفرد.
قال هنا: (أو له جزءٌ ذو معنى دالٌ عليه، لكن لا يكون مراداً) يعني: لا يكون جزء المعنى مراداً من جزء اللفظ كالحيوان الناطق علماً لإنسان.
قال هنا: (الفرق بين عبد الله عَلماً يدل جزءه على جزء معناه، لكن تلك الدلالة سُلبت حالة العلمية) هذا وجه.
(وحيوانٌ ناطقٌ علماً يدل جزءه على جزء معناه، لكن تلك الدلالة ليست مرادة) هي داخلة لكنها ليست مرادة، هذه أربعة أنواع للمفرد.
إذاً: المفرد هو الذي لا يراد بالجزء منه، إذاً: ليس له جزءٌ أو له جزء.
(لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).
يعني: لا يدل جزءه على جزء معناه؛ لأن معنى اللفظ .. عندنا لفظٌ وعندنا معنى، حينئذٍ إذا كان جزء اللفظ يدل على بعض المعنى، حينئذٍ نقول: هذا مركّب، وإذا كان لا يدل حينئذٍ صار مفرداً.
قوله: (دِلَالَهٌ) أورده منكَّراً إشارة إلى اعتبار عموم سلب الدلالة في تعريف المفرد بأي دلالة كانت، سواءٌ كانت مطابقة أو تضمناً أو التزاماً.
قال هنا: لكن لا يدل عليه. أي: بعد نقله وجعله عَلماً لصيرورة كلمتيه اللتين تركب منهما كحرفي هجاءٍ كزاي زيدٍ ويائه. هذا قول.
استدراكٌ على قوله: ذو معنى لِرفع إيهامه دلالتَه عليه.
قال الشيخ في الشفاء "إذا أطلق الشيخ المراد به ابن سينا": إنه لا يصدُق على عبد الله علماً أنه يدل جزءه على معنى، صارت نسياً منسياً، بل كل جزءٍ من أجزائه عند قصد معناه العلَمي بمنزلة زاي زيد.
يعني: صار المعنى السابق نسياً منسياً .. عبد الله عَلماً عبدُ مثل زاي زيد لا معنى لها، هذا قولٌ.
وقولٌ آخر: أن المعنى مراد موجود كما هو، لكنه غير مقصود.
وهذا توجيه الشيخ الأمين رحمه الله تعالى في المقدمة.
قال: (كالحيوان الناطق علماً لإنسان؛ لأن المراد ذاتُه لا الحيوانيةُ والمناطقيةُ) يعني: لم تُقصَد بالذات، مع أنه حيوان ٌناطق، لو سُمِّي أي شخصٍ من بني آدم حيوان ناطق لا بد أن يكون حيواناً ناطقاً لأنه إنسان، وإلا لخرج عن كونه إنساناً، لكنه لم يُقصَد أن يوصف بهذه المعاني، وإنما قُصِد علم الشخص.
هذا التعريف أخذه بعض النحاة، جاءت العدوى عند بعض النحاة، فعرَّف به المفرد في باب الإعراب، قال: المفرد هو ما لا يدل جزءه على جزء معناه، هذا التعريف موجود في قطر الندى وفي غيره .. ما لا يدل جزءه على جزء معناه يعني: ليس له جزء أو له جزءٌ ليس له معنى، أو له جزءٌ وله معنى، ولكنه لا يدل على جزء معنى اللفظ المفرد.
يعني: زيد هذا لفظ مفرد، له معنى أو لا؟ له معنى، هل جزءه يدل على شيءٍ مما دل عليه اللفظ؟ لا، حينئذٍ نقول: هذا مفرد.
لكن التعبير بكونه لا يدل جزءُه على جزء معناه، محل الخلاف هنا في: عبد الله عَلماً ونحوه. يعني: في المركبات الإضافية أو التوصيفية أو الجمل إذا نُقلت فصارت أعلاماً.
عبدُ الله علماً "وَشَاعَ فِي الأَعْلَامِ ذُو الإِضَافَهْ" إذاً: عندنا عَلمٌ ذو إضافة، إذا قلنا: صار نسياً منسياً ما صار مضافاً.
إذاً: القول بأن المفرد في باب الإعراب هناك عند النحاة: ما لا يدل جزءُه على جزء معنا، نقول: هذا من تداخل الحدود وهو حد فاسد، وقد نص غير واحد على ذلك.
الصبّان في حاشيته على الأشموني والبيجوري في شرح نظم الآجرومية للعمريطي، وكذلك الفُتوحي في مقدمة أول شرح المختصر، وابن اللَّحام في مختصر أصول الفقه، وياسين في حاشيته على مجيب الندا قالوا: هذا خطأ، نُغلِّطه لا نقول خلاف سائغ .. لا. غلط من أصله؛ لأن عبد الله هذا مؤلف من كلمتين، عبد الله وهو مضاف ومضاف إليه.
ولذلك حتى السيوطي وافقهم في هذا "وافق المناطقة هنا" في همع الهوامع، وكذلك الأشموني في شرح الألفية وهو غَلَط.
قالوا: هذا يُعتبر كأنه كلمةٌ تقديراً، كيف يكون كلمة والإعراب يكون في وسَطِه؟ إذا قلت: جاء عبد الله قالوا: هذا كلمة واحدة مفرد، عند المناطقة كزيد، زيد وعبد الله لا فرق بينهما.
طيب. إذاً نقول: عبدُ الله، رأيت عبدَ الله، مررت بعبدِ الله؟ أين ظاهر الإعراب؟ والإعراب ما هو؟
أثرٌ ظاهرٌ أو مقدَّرٌ يجلبه العامل في آخِر، آخر المراد به محل الإعراب، عبد الله أين ظهر الإعراب؟ ظهر في محلين .. عندنا إعرابان هنا: الدال من عبد، والهاء من لفظ الجلالة، فكيف يقال بأنه مفرد .. كلمة واحدة؟ هذا يُعتبر غلطاً.
وإنما النحاة لهم اصطلاحٌ خاص في المفرد وهو اللفظ الواحد، أو التلفظ بالكلمة الواحدة عُرفاً، أو كما قال ابن اللحام في المختصر: الكلمة الواحدة، أو اللفظة الواحدة.
إذاً: هذا الذي يُراد به عند النحاة.
زيدٌ كلمة واحدة، عبدُ الله كلمتان. فالنُّطق فيه إخراجُ كلمتين، فحينئذٍ نقول: هذا يُعتبر مركباً ولا يُعتبر مفرداً، وإن كان مفرداً عند المناطقة، ونحن ليس بحثَنا في فن النحو.
إذاً: (ثُمَّ اللَّفْظُ.
إِمَا مُفْرَدٌ: وَهُوَ الَّذِي لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).
وهذا قلنا دخل تحته أربعة أنواع، إذاً: المفرد أربعة أنواع: إما أن لا يكون له جزءٌ، أو له جزءٌ لا معنى له، أو له جزءٌ وله معنى لكنه غير مراد، أو له جزء وله معنى ويدل على جزء المعنى لكنه غير مقصود. فهذه أربعة أنواع.
والفرق بين عبد الله عَلماً وحيوان ناطق فرقٌ دقيق.
قال هنا: (وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ) وهذا يقابل: (إِمَا مُفْرَدٌ)، (وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ) النوع الثاني.
والمشهور عند كثير من المناطقة التعبير بالتركيب: إما مؤلَّف وإما مركَّب؛ لأن الذي يقابل المفرد هو المركب.
(وَإِمَّا) بكسر الهمزة.
(مُؤَلَّفٌ) مثقَّلاً، زِنة اسم المفعول.
قال: (وَهُوَ) أي: المؤلَّف، حقيقتُه: اللفظ الدال بالوضع.
(الَّذِي) هذا قلنا جنس يشمل المفرد والمؤلَّف كسابِقه.
(لَا يَكُونُ كَذلِكَ) هذا تعريف (الَّذِي لَا يَكُونُ كَذلِكَ).
الكذلكة هنا إشارة إلى: ما لا يدل جزءه على جزء معناه يعني: يدل جزءه على جزء معناه، عكسُه .. هناك نفي وهنا إثبات.
إذا قلت المفرد: لا يدل جزءه على جزء معناه، ما هو المركب والمؤلَّف؟ احذف "لا" فقط قل: ما دل أو يدل جزءه على جزء معناه.
إذاً: له جزءٌ ولهذا الجزء معنى، وهذا المعنى جزءٌ من معنى اللفظ. هذا المراد هنا.
له جزءٌ وهذا الجزء له معنى وُضع له في لسان العرب، ثم هذا المعنى داخلٌ في مفهوم اللفظ العام، أما إذا كان خارج لا يكون مركباً.
(وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذلِكَ) المشار إليه: قول المصنف في تعريف المفرد: (لا يراد بجزئه .. ) إلى آخره.
فهذا النفي منفي، ونفيُ النفي إثبات.
قال: (لَا يَكُونُ كَذلِكَ) انتبه: لا يكون، كذلك هذا مردُّه ومرجِعُه إلى (لا يدل).
إذاً نفيُ النفي إثبات.
وقول الشارح: بأن يراد بالجزء منه دلالة على جزء معناه. هو العكس السابق.
(بيانٌ لما تئول إليه عبارة المصنف وحاصلُه: أن القيود المنفية في تعريف المفرد) هو قيْدٌ واحد، لكن قيود باعتبار التوسِعة.
(وحاصلُه: أن القيود المنفية في تعريف المفرد ثابتة للمركب، كما هو تعريف الأمور المقابِلة.
وتلك القيود: هي أن يكون للفظ جزءٌ، وللمعنى جزءٌ، ويدل جزء اللفظ على جزء المعنى دلالةً مقصودة).
التعبير واضح بيِّن.
(أن يكن للفظ جزءٌ، وللمعنى جزء، ويدل جزءُ اللفظ على جزء المعنى دلالة مقصودة) ولذلك قال هنا: (كَرامِي الْحِجَارَةِ).
وصوَّر لنا حدَّ المؤلَّف بقوله: (بأن يُراد بالجزء منه) أي: بهذا المؤلَّف .. الذي نحكُم عليه بأنه مؤلَّف.
(دَلَالَهٌ) هذا نائب فاعل (يُرُادُ).
(عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) إذاً: له معنى وهذا المعنى له جزء، يعني: يتبعَّض.
(كَرامِي الْحِجَارَةِ) رامي الحجارة يعني: مضاف ومضاف إليه، أو عبد الله قبل جعلِه عَلماً، أو حيوانٌ ناطق قبل جعله عَلماً. هنا له جزءٌ، وهذا الجزء له معنى، والمعنى له جزءٌ -معنى اللفظ-، ثم هذا اللفظ الذي هو جزءٌ له معنى هو جزءٌ من ذلك المعنى، هذا يسمى مؤلَّفاً .. يسمى مركَّباً.
قال: (كَرامِي الْحِجَارَةِ)(لأن الرامي مراد الدلالة على ذاتٍ ثبت لها الرمي) وفي نسخةٍ (ثبتَ له).
رامي الحجارة. رامي اسم فاعل دل على ذات متصفة بصفة الرمي.
والحجارة اسمٌ مسماه الحجر المعلوم أو الشخص المعيَّن.
حينئذٍ كل منهما مراد، وهو داخلٌ تحت مفهومه، رامي الحجارة هذا معناه: شخصٌ متّصفٌ برميٍ لشيءٍ معيَّن، إذا قلت: رامي. دل على الرمي، هل هو جزءٌ من ذلك المعنى العام الذي دل عليه رامي الحجارة؟ نعم جزءٌ منه.
كذلك الحجارة دلَّت على الشيء المعين المعلوم، حينئذٍ لها معنى، ثم هذا المعنى هو جزءٌ من المعنى العام لرامي الحجارة، هذا يسمى مؤلَّفاً.
إذاً: يُشترط في المركب أن يكون المعنى له جزء، وأن هذا الجزء له معنى وهو داخلٌ تحت المعنى العام، حينئذٍ يتحقق أنه مؤلَّف وإلا فلا.
قال: (لأن الرامي مراد الدلالة على ذاتٍ ثبت لها الرمي) لأنه اسم فاعل.
(والحجارة مرادة الدلالة على جسمٍ معيّن).
قال هنا: (كَرامِي الْحِجَارَةِ)(أي: مركباً إضافياً لا عَلماً) لو كان عَلماً لرجعنا إلى عبد الله.
قال: (وإلا فهو مفرد) يعني: لو كان علماً كما تقدم.
فلفظ رامي يدل على ذاتٍ وقع منها رميٌ .. دلالة مرادة، ولفظ الحجارة دل على الجسم المخصوص كذلك.
(ومجموع المعنيين معنى رامي الحجارة) مجموع المعنيين من المضاف والمضاف إليه (معنى رامي الحجارة.
فيتوقف التركيب على كون اللفظ له جزءٌ) هذا أولاً.
(وكون جزئه له معنى) هذا ثانياً.
(وكون معناه جزء معنى المركب) ثالثاً.
(وكونه دالاً عليه دلالة مقصودة) فشروطه أربعة لتحقُّق المؤلَّف.
قول الشارح هنا: الأولى حذف أل لأن جزء المركب رامي بدون أل؛ لتمثيل المصنف برامي الحجارة للمؤلَّف.
قوله: (له) أي: لذات وذكَّر ضميره لأن الذات مُذكَّر، وتاءه ليست للتأنيث ولذا أُطلق على الله جل ثناؤه، هذا فيه تفصيل.
إذاً: عرفنا أن اللفظ إما مفرد وإما مركب، على التفصيل الذي ذكره المصنف، وهذه التعاريف كما قلنا أنها خاصةٌ بهذا الفن.
قال: (وقدّم المفرد على المؤلَّف) لماذا قدَّم المفرد على المؤلَّف؟
قال: (لأنه مقدمٌ طبعاً فقُدِّم وضعاً ليوافق الوضع الطبع).
قال: (ضابطُ التقدم بالطبع: أن يكون المتقدِّم بحيث يوجد بدون المتأخر، ولا عكس).
قالوا: كالواحد للاثنين، الواحد متقدم على الاثنين (أن يكون المتقدم بحيث يوجد بدون المتأخر) والواحد يوجد دون الاثنين.
قال: (ولا عكس) الاثنين لا توجد دون الواحد.
(ولا يكفي في وجود المتأخر -الاثنين- وجود المتقدم، ولا يكون المتقدم عِلَّةً تامة لوجود المتأخر كتقدم الواحد على الاثنين، والجزء على كله. ويسمى تقدماً بالذات أيضاً).
إذاً: قدَّم المفرد على المؤلَّف لأنه مقدّمٌ طبعاً.
(فقُدِّم وضعاً) يعني: في الذِّكر، ولذلك دائماً تكون التصورات مقدَّمة على التصديقات؛ لأن التصورات مفردات، والتصديقات كُلِّيّات فحينئذٍ الجزء مقدمٌ على الكل.
وَقُدِّمَ الأَوَّلُ عِنْدَ الوَضْعِ
…
لأَنَّهُ مُقَّدَّمٌ بِالطَّبْعِ
كذلك المفرد مقدَّمٌ على المركب؛ لأن المؤلَّف يتركب من المفردات.
(فقُدِّم وضعاً ليوافِق الوضع الطبع).
قال هنا المحشِّي: تقدم المفرد على المركب باعتبار ذاته أي: أفراده التي يصدُق عليها؛ لأنه جزءه، وأما بحسب المفهوم فإنه مؤَّخرٌ عن المركب.
يعني: التقدم الذي ذكره المحشّي هنا يُعتبر باعتبار الأفراد، ونحن هنا لا ننظر إلى الأفراد وإنما ننظر إلى المفاهيم. يعني: مفهوم المفرد بقطع النظر عن أفراده، لا نتكلم عن زيد وقام وإلى، وإنما ننظر إلى مفهوم "يعني: معنى" المصطلح هذا المفرد.
وكذلك مصطلح المؤلَّف ما المراد به.
إذا كان البحث في المفاهيم فحينئذٍ لا يتأتى أن نقول بأن المفرد مقدّم على المؤلَّف؛ لأن المفرد سلبٌ "سلبُ شيء"، والمؤلف إثباتٌ. وأيهما أولى بالتقديم؟ عندما نقول: لا يدل جزءه، هذا سلْبٌ، يُثبَت الشيء أولاً ثم بعد ذلك يُسلب. هذا المراد يعني: ملَكَة وما يقابلها.
قال هنا: تقدّم المفرد على المركب باعتبار ذاته أي: أفراده التي يصدُق عليها؛ لأنه جزءه. وهذا لا إشكال فيه، باعتبار الأجزاء نقول: المفردات مقدَّمة على المركبات؛ لأنك أولاً قبل أن تقول: زيدٌ قائمٌ لا بد من استحضار زيد واستحضار قائم، وبعد ذلك تركِّب بين المفردين.
إذاً: الفرد "زيد" والفرد "قائم" تقدما في الوجود على المركب، لا إشكال فيه، هذا باعتبار الأفراد والمَصْدَقَات.
وأما بحسب المفهوم "يعني: التعريف والذي يُتصور في الذهن من أجل أن تعرِفه"، وأما بحسب المفهوم فإنه مؤخَّرٌ عن المركب؛ لأن التقابل بينهما تقابُل العدمِ والملَكَة.
العدم النفي، والملكة الوجود، والأعدام إنما تُعرَف بملكاتها، ولذلك قدَّم أكثر المناطقة تعريف المركب على تعريف المفرد، العكس هو الأولى مما صنعه المصنف.
قال والحاصل: أن ذات المركب "أي: مصدوقه" كزيدٌ قائمٌ ونحوه متأخرٌ عما صدق المفرد عليه كزيد وعمرو .. ونحوهما.
ومفهوم المركب وهو ما دل جزءه على جزء معناه متقدِّمٌ على مفهوم المفرد وهو ما لا يدل جزءه
…
إلى آخره.
لأن الثاني سلْبٌ للأول، وسلب الشيء فرعٌ عن وجوده، والكلام هاهنا في الثاني دون الأول.
إذاً: البحث في المفاهيم لا في الأفراد والمصدَقات، لو كنا في الأفراد والمصدقات قلنا: المفرد مقدَّمٌ على المركب؛ لأن معرفة الجزء مقدَّمةٌ على معرفة الكل، ولكن البحث في المفاهيم.
حينئذٍ مفهوم المفرد سلبٌ ومفهوم المركب إثباتٌ، والإثبات مقدّمٌ على السلب؛ لأنه لا يمكن أن يسلب شيئاً إلا بعد معرفته، فيكون العكس هو أولى.
قال هنا: (مقدّمٌ طبعاً فقُدّم وضعاً ليوافق الوضعُ الطبعَ).
قال -هذا تعليلٌ آخر-: (ولأن قيوده عدمية والعدم مقدمٌ على الوجود).
قيود ماذا؟ المفرد، إذاً: قدَّم المفرد على المركب لأن قيوده عدَمية.
(والعدم مقدم على الوجود) هذا لا يُسلَّم كذلك؛ لأن هذا إنما هو في العدم المطلق، وليس مما نحن فيه بل العدم هنا إضافي؛ لأنه عدم ملكة ليس سلباً مطلقاً، ليس نفياً مطلقاً وإنما مقيد.
(بل العدم هنا إضافيٌ لأنه عدم ملَكَة وهو متأخرٌ في التعقُّلِ عن الملكة).
إذاً: الأصل فيما ذكره المصنف أنه قدَّم المفرد على المركب للعلتين المذكورتين، والصواب أن المركب هو الذي يقدَّم على المفرد.
قال هنا: قوله (ولأن قيوده) أُورد عليه أن المتقدم قيد واحد لا يدل أو لا يُراد.
وأُجيب بأنه في قوة قيودٍ، وبأن الجمع للتعظيم.
قال: (وأراد بالمؤلَّف المركب، فالقسمة ثنائية) أراد المصنف هنا بالمؤلَّف المركّب؛ جرياً على المشهور بين المناطقة من أنه لا فرق بين التأليف والتركيب.
(فالقِسمة) الفاء للتفريع.
(ثنائية) يعني: القسمة للفظ ثنائية: إما مركَّب، وإما مفردٌ.
وبعضهم يقول: إما مركب، وإما مؤلَّف، وإما مفرد .. القسمة عنده ثلاثية، لكن المشهور بين المناطقة هو أن التأليف والتركيب بمعنى واحد هما مترادفان، ولذلك قال في الحاشية: جرياً على المشهور بين المناطقة من أنه لا فرق بين التأليف والتركيب.
قال: (وذهب بعض المناطقة وأهل العربية إلى أن التأليف أخص من التركيب) فكل مؤلَّف مركب من غير عكس، إذا قيل: أخص حينئذٍ يجتمعان وينفردان، إذا كان بينهما عموم وخصوص وجهي.
(إلى أن التأليف أخصُّ من التركيب لاشتراطهم في التأليف الأُلفة والمناسبة دون التركيب).
هذا ما ذكرناه في ما ذُكر على تبويب ابن مالك رحمه الله تعالى: باب الكلام وما يتألف منه، قيل: ابن مالك رحمه الله يرى التفرقة بين التأليف والتركيب، فالتأليف يُشترط أن يكون ثَم أُلفة ومناسبة بين الجزأين، وأما التركيب فلا يُشترط.
إذاً: التركيب قد يكون مع ألفة ودونها فهو أعم، والتأليف لا يكون إلا مع الألفة والمناسبة فهو أخص، فكل مؤلَّف مركب ولا عكس.
قال هنا: (فالقسمة ثنائية، ومن أراد به ما هو أخص منه فالقسمة عنده ثلاثية).
(ومن أراد به) أي: المؤلَّف.
(ما) أي: معنى.
(هو) أي: المعنى المراد من المؤلَّف.
(أخص منه) أي: من المركب.
فالقسمة حينئذٍ ثلاثية مفرد، ومركب، ومؤلَّف.
والفرق بين عبدِ الله علماً وحيوانٍ ناطق عَلماً، هذا الذي هو محل إشكال، عبدُ الله عَلماً صار نسياً منسياً، فالمعنى لو سُلِّم به ليس داخلاً في المفهوم، وأما حيوانٌ ناطق فهو داخلٌ في المفهوم، فمن فرَّق جعل القسمة ثلاثية، ومن سوَّى جعل القسمة ثنائية.
ولذلك قال هنا -أراد التعريف على التقسيم الثلاثي-: (فالقسمة عنده ثلاثية: مفردٌ) هذا بيان الأقسام الثلاثة، بدل بعض من كل.
(وهو) أي: المفرد على هذا الوجه.
(ما لا يدل جزءه على شيء كزيد) خصَّه بنوعٍ واحد.
(ما لا يدل جزءه على شيء) دخل فيه نوعان: ما ليس له جزء، أو له جزء ولا معنى له. اختص هذا النوع بهذا التعريف فهو المفرد.
(ومركَّب وهو ما لجزئه دلالةٌ على غير المعنى المقصود كعبدِ الله علماً) عبد له معنى، ولفظ الجلالة له معنى. لكنه ليس داخلاً تحت عبد الله علماً.
(ومؤلَّف وهو ما دل جزءه على جزء معناه) يعني "بالمعنى السابق": أن يكون له جزء، وهذا الجزء له معنى، ثم اللفظ له جزء معنى كذلك ويدل هذا الجزء على جزء معنى اللفظ، فيصدُق على ما سبق.
فحينئذٍ اختُص عبدُ الله علماً بكونه "على هذا التعريف أو هذا التقسيم" بكونه مركّباً لا مؤلَّفاً.
قال هنا: (وإذا تأملت في التعريفين الآتيين وجدتهما متباينين) هو يقول: من أراد به ما هو أخص منه، جعَلَ بينهما علاقة يعني: بين المركب والمؤلَّف، لكن إذا نظرت في التعريفين وجدت بينهما تباين.
(لأنه اعتبر في المركب دلالة الجزء على غير المعنى المقصود، وفي المؤلَّف دلالة الجزء على جزء المعنى المقصود).
ولعل المراد بالأخصية هنا قلة الأفراد "يعني: اعتذار عنه" إذ المؤلَّف على هذا القول أقل أفراداً من المركب؛ إذ المركب صادقٌ بصورتين كما سيأتي، والمؤلف خاصٌ بصورة واحدة.
على كلٍ الصحيح: أنه لا فرق بين المركب والمؤلَّف، كلاهما سيّان.
سواءٌ كان له معنى وهذا المعنى غير مقصودٍ أو لا، نقول: هذا لا يسمى مركباً وإنما يسمى مفرداً على اصطلاح المناطقة.
فعبد الله علماً يسمى مفرداً سواء كان له معنى سلّمنا له أو قلنا صار نسياً منسياً، حيوانٌ ناطق له معنى نعم لكنه غير مقصود باللفظ، فهو كذلك مفردٌ غير مركّب.
قال هنا: (والمراد بالإرادة الإرادة الجارية على قانون اللغة).
أين الإرادة (المراد بالإرادة)؟ الذي تضمنها قوله: يراد، لا يراد. في التعريف.
ما المراد بالإرادة؟ يعني: كل واحد يريد من عنده فيجعل للَّفظ معنًى وأجزاءً أم أنه لا بد أن يجري على قانون اللغة؟ لا بد أن يجري على قانون اللغة، فلا يدَّعي مدَّعٍ بأن زيد (ز) لها معنى عنده هو، ثم دل جزءه على جزء المعنى.
فأراده، إرادتُك هذه نقول لا قيمة لها؛ لأن العبرة بقانون اللغة، هذا المراد هنا.
(والمراد بالإرادة) يعني: في الحد السابق.
(الإرادةُ الجاريةُ على قانون اللغة) أي: القواعد المأخوذة من تتبع كلام أهلها -العرب يعني- (وهي الإرادة الجارية على مقتضى تلك القواعد).
لكن ليس المراد هنا اللغة العربية على جهة الخصوص؛ لأن المنْطِق ليس خاصاً باللغة العربية، وإنما كل لغة على حسب ما عندهم من قواعد، ولذلك قال العطّار: أي: قواعدها وما يقتضيها اصطلاحُها.
وليس المراد هنا باللغة خصوصَ اللغة العربية، بل المراد عموم اللغات؛ إذ بحث المنْطِق عن اللفظ ليس مختصاً بلغة من اللغات بل عام.
(حتى لو أراد أحدٌ بألف الإنسان) لو أَسقط "أل" لكان أو لى (مثلاً معنىً، لا يلزم أن يكون مؤلَّفاً) صحيح؟
لو أراد أحدٌ أن يجعل إنسان إنسان، الألف قال: لها معنى عندي، وأنه دالٌ على جزء المعنى الذي دل عليه إنسان، الألف هذه أكني بها عن حيوان، وهو داخلٌ تحت معنى إنسان، يُقبل؟ لا يُقبل؛ لأن هذه ألف حرف مبنى، وكل حرف مبنى لا معنى له.
إذاً: إرادتُه غير معتبرة.
قال: (حتى لو أراد أحدٌ بألف الإنسان) قلنا الأولى إسقاط حرف التعريف.
(مثلاً معنىً، لا يلزم أن يكون مؤلَّفاً؛ لأنها ليست جارية على قانون اللغة).
ثم استطرد المصنف وأراد أن يبيِّن الألفاظ الجارية المشهورة على الألسنة وفيها معنى الضم "ضم شيءٍ إلى شيءٍ آخر" الذي هو التركيب، والتأليف .. ونحوها.
(والألفاظ الموضوعة للدلالة على ضم شيءٍ إلى آخر ثلاثة) مشهورة يعني، هي أكثر من ذلك، لكن المشهورة الكثير الاستعمال الدائر على الألسنة ثلاثة:
(التركيب، والتأليف، والترتيب) أراد أن يبيّن علاقة ومعاني كلٍ.
(فالتركيب ضم الأشياء مؤتلفةً كانت أو لا، مرتبةً الوضع أو لا).
التركيب ضم الأشياء، المراد بالجمع ما فوق الواحد يعني: شيئين فأكثر، لو قلتَ: على ظاهره، لا بد أن يكون من ثلاثة وليس مراداً.
(فالتركيب ضمُّ الأشياء) شيئين فأكثر.
(مؤتلفة كانت) يعني: بينهما ألفة وجرت على قواعد اللغة نحو: قام زيدٌ، وزيدٌ قائم. مؤتلفة أو لا؟ مؤتلفة، ضمُّ أشياء وهي مؤتلفة.
إذاً: قام زيدٌ نقول: هذا تركيب، زيدٌ قائمٌ هذا تركيب، وحيوانٌ ناطق هذا تركيب .. وكل هذه الأمثلة مؤتلفة بين الجزأين.
قال: (مؤتلفة كانت أو لا) نحو: إنسان، لا إنسان. هذا سيأتي في المقدمات إنسان لا إنسان، هل بينهما ألفة؟ لا. إنسان إثبات، والثاني لا إنسان يعني: نفى عنه الإنسانية. وهذا أثبتَها، إذاً: ليس بينهما ألفة.
ولذلك قال: (مؤتلفة كانت أو لا) نحو: إنسان، لا إنسان. فإنهما نقيضان لا أُلفة بينهما. هذا التركيب.
قال: (مرتبة الوضع أو لا) مرتبة الوضع يقصد به إذا كان ثم قواعد كالتعاريف مثلاً، حيوانٌ ناطق جنسٌ ثم فصْل، مرتَّبة أو لا؟ مرتبة: حيوان ناطق، ناطق حيوان؟ غير مرتّبة، بينهما ألفة؟ نعم بينهما ألفة، في الموضعين: حيوانٌ ناطق، ناطق حيوان .. بينهما ألفة، لكن الأول على الترتيب -حيوانٌ ناطق- والثاني لا على الترتيب.
يعني: خالف الترتيب، الأصل تقديم الجنس على الفصل.
إذاً: (مرتبة الوضع) نحو: حيوان ناطق فإن الجنس رتبتُه متقدمة على الفصل (أو لا) نحو ناطقٌ حيوان.
قال: (فهو أعم من الأخيرين مطلقاً) ما هما الأخيران؟ التأليف والترتيب.
(مطلقاً) يعني: غير مقيّد، وبينهما عموم وخصوص مطلق يعني: لا وجهي.
والمطلق هذا يحتاج إلى مادتين فقط. يعني: مادة الاجتماع ومادة الانفراد، ما الذي ينفرد؟ الأعم ينفرد عن الأخص بصورة، وهل الأخص ينفرد عن الأعم بصورة؟ الجواب: لا.
إذاً: العموم والخصوص المطلق نحتاج فيه إلى مادتين يعني: مثالين: مثال الاجتماع، ومثال انفراد الأعم عن الأخص، وأما الأخص فلا ينفرد. ولعله يأتي معنا.
قال: (والتأليف ضمُّها) أي: ضم الأشياء، شيئين فأكثر.
(مؤتلفةً) هذا شرط، ما قال سواء كان مؤتلفة أو لا، لا بد أن يكون بينهما أُلفة كزيدٌ قائمٌ قام زيدٌ، حيوان ناطق .. وما سبق من الأمثلة.
سواء كانت مرتبة الوضع -حيوانٌ ناطق- كما في الترتيب.
(وهو) أي: الترتيب (جعلُها بحيث يُطلَق عليها اسمُ الواحد) أين اسمُ الواحد؟
يعني: إنسان، حيوانٌ ناطق هذه بينهما ألفة ومرتبة، الترتيب هنا جاء على وفق القواعد، فحينئذٍ يُطلق عليها اسمُ الواحد وهو إنسان.
إذاً: إنسان أُطلِق على: حيوانٌ ناطق، هذا يسمى ترتيباً.
(وهو) أي: الترتيب.
(جعلُها بحيث يُطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعضها نسبةٌ إلى بعضٍ بالتقدم والتأخر في الرتبة العقلية) وهذا ما يتعلق بالقواعد التي يذكرها المناطقة في باب الحدود وكذلك في الأقيسة، من حيث التقديم والتأخير.
قال هنا: (بحيث يُطلق عليها اسم الواحد) هذه حيثية تقييد، والباء للملابسة أي: جعلِها ملتبسة بحالة تقتضي تلك الحالة أن يُطلَق عليها اسم مخصوصٌ من غير أسمائها الموضوعة لمفرداتها.
كحيوانٍ ناطق فإنه يُطلَق عليه أنه تعريفٌ واحد، وكقولنا: العالم متغيِّر، الإطلاق هنا لكونه يسمى تعريفاً لا أنه إنسان.
وكقولنا: العالَمُ متغيِّر، وكل متغيِّرٍ حادِث فإنه يُطلَق عليه اسم القياس والدليل -هذا ترتيب- ونحو ذلك، فعُلِم أن تلك الحالة هي عُروض الجزء الصوري للجزء المادي.
إذاً: (وهو) أي: الترتيب.
(جعلُها بحيث يُطلق عليها اسم الواحد) وهذا خاصٌ هنا في فن المنْطِق.
(ويكون لبعضها نسبةٌ إلى بعضٍ بالتقدم والتأخر في الرتبة العقلية).
قوله: (بالتقدم) متعلِّق بالنسبة، وفي الرتبة العقلية متعلقٌ بها أيضاً، وذلك كحيوانٍ ناطق مثلاً، فإن الترتيب العقلي يقتضي تقدم الحيوان لأنه جنس، كما سيأتي.
وتأخُّر الناطق لأنه فصْل، فيقدَّم الجنس على الفصل.
قال: (وإن لم تكن مؤتلفةً كإنسان لا إنسان) هذا في الترتيب أو لا؟
(فإنه يُطلق على مجموعهما لفظٌ مركّب، ولبعضهما نسبةٌ إلى البعض بالتقدم والتأخُّر، فإن ثبوت الشيء مقدَّمٌ على نفيِه).
إذاً: وهو جعلُها بحيث يُطلق عليها اسمُ الواحد ويكون لبعضها نسبةٌ إلى بعضٍ بالتقدم والتأخر في الرتبة العقلية.
قوله: (وإن لم تكن مؤتلفةً) هذا عائدٌ إلى الترتيب.
(وإن لم تكن مؤتلفة) يعني: ليس بينهما أُلفة، فالترتيب لا يُشترَط فيه الائتلاف.
"إنسان لا إنسان" مركَّب وترتيب، لكنه لا أُلفة بينهما هذا نفي وهذا إثبات.
(ولبعضهما نسبةٌ إلى البعض بالتقدم والتأخر، فإن ثبوت الشيء مقدّمٌ على نفيه) فيه ترتيب (كذا قالوا.
ولعل الأنسب: أن المراد باسم الواحد نقيضان) اسم الواحد هنا في هذا المقام نقيضان: إنسان لا إنسان نقيضان.
على كلٍ سُمِّي مركباً أو سُمّي نقضيان المراد اسمٌ واحد.
(فإن المراد باسم الواحد هو الاسم المخصوص بذلك المركب الذي عرَض له الترتيب، وقولنا: لفظٌ مركّب ليس مختصاً به، بل يشمله وغيرهَ).
(أم لا) هذا عائدٌ للتأليف: ضمُّها مؤتلفة سواءٌ كانت مرتبة الوضع أم لا، فهو مرتبطٌ بقوله السابق في تعريف التأليف: سواء كانت مرتبة الوضع أم لا، وما بينهما اعتراضٌ. وهذا الذي شوَّش.
مثاله: ناطقٌ حيوان، فإن بينهما ألفة، هل بينهما ترتيب؟ الجواب: لا.
إذاً: (أم لا) يعني: بينهما ألفة لا ترتيب، ناطقٌ حيوان بينهما ألفة، لكن ليس بينهما ترتيب؛ لأن فيه تقدُّم وتأخُّر.
(فهو أعم) فهو أي: التأليف، أعم من الترتيب من وجهٍ.
(لأنه اعتُبر في التأليف وجود الألفة وفي الترتيب وضعُ كل شيءٍ في مرتبته، فيجتمعان في ضم أشياء مؤتلفة مرتبة كحيوانٍ ناطق وينفرد التأليف فيما لا ترتيب فيه كناطق حيوان، والترتيب بما لا أُلفة فيه كإنسان لا إنسان).
قال هنا: (وأخص من التركيب) أخص يعني: التأليف من التركيب.
هذا أعاده يعني: مفهومٌ مما سبق، ولذلك قال: لا حاجة إليه لنصه عليه فيما سبق.
(وأخص من التركيب) أي: خصوصاً مطلقاً.
(فيجتمعان في نحو حيوانٍ ناطق أو ناطقٌ حيوان، وينفرد التركيب عن التأليف في إنسان لا إنسان، والنسبة بين التركيب والترتيب كذلك، فالترتيب أخص منه مطلقاً، ويجتمعان في نحو حيوانٌ ناطق، وينفرد التركيب في نحو: ناطقٌ حيوان).
قال: (وبعضهم جعل الترتيب أخص مطلقاً من التأليف) على ما ذكرناه سابقاً أيضاً.
(وبعضهم جعلهما مترادِفَينِ) يعني: بعض أرباب التصنيف، هذا البحث ليس خاصاً بالمناطقة، هو عام يذكرُه النحاة وغيرهم.
(وبعضهم جعل الترتيب أخص مطلقاً من التأليف) أي: لاعتباره فيه الأُلفة، ووضع كل شيءٍ في مرتبته اللائقة به.
(من التأليف) أي: لاعتباره فيه الألفةَ أيضاً.
أي: كما هو أخص من التركيب.
(وبعضهم جعلهما) أي: التأليف والترتيب (مترادفين).
على كلٍ هذا بحثٌ استطرادي المراد به أن ثَم ألفاظ وضعها الواضع من باب التعارف، وقد يكون لبعضها شيءٌ من المعاني اللغوية تدل على ضم شيءٍ إلى شيءٍ آخر، سواء كان بينهما ألفة أو لا، ترتيب وضعي .. إلى آخره، هذه كلها تُعتبر بما ذُكر سابقاً.
قال: (وَالمُفْرَدُ) أيُّ مفرد هذا؟ (إِمَا مُفْرَدٌ، وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ) قال: (وَالمُفْرَدُ) أعاد النكرة معرفة فهي عينُها، إذا أُعيدت النكرة معرفة فهي عينُها. حينئذٍ تكون أل للعهد الذكري.
ثم أربعة مواضع ذكرناها مراراً.
(والمفرد بالنظر إلى معناه) أراد أن يقسِّم المفرد هنا إلى كُلّي وجزئي، انظر: أولاً قسّم اللفظ إلى مفرد ومؤلَّف، مؤلَّف ومركب كل الأبحاث التي مرت لا عناية للمنطق بها، استطراداً تُذكر.
بقي معنا: المفرد، المفرد إما كُلّي وإما جزئي.
قال: (والمفرد إما كُلّي أو جزئي).
قال: قوله: (بالنظر إلى معناه) أراد أن يقيده المصنف هنا.
(وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) قيل: لا وجهَ لتخصيص المفرد بهذا التقسيم.
يعني: التقسيم هنا -الكُلّيّة والجزئية- هل هي خاصةٌ بالمفرد، أم أن المركب كذلك كُلّي وجزئي؟ كذلك المركب كُلّي وجزئي.
لكن لماذا المصنف هنا ذكَر المفرد فقط؟ هذا محل البحث إذاً، لا اعتراض .. يعترض لماذا؟ ليس بحث المنطقي في المركبات، وإنما بحثه في المفردات.
فينظر في المفرد من أجل أن يصل إلى معرفة الكلي من الجزئي؛ لأنا نريد أن نستنبط هذه الكُلِّيّات لنجعلها مواداً للحدود.
حينئذٍ البحث في المركب هذا استطرادي.
(قيل: لا وجه لتخصيص المفرد بهذا التقسيم، فإن المركب ينقسم إلى جزئي كـ: زيدٌ كاتب، وكُلِّي كـ: حيوان ناطق.
ووُجِّه بأنه لكون الكلام هنا في بيان الكُلِّيّات الخمس وهي مفردات).
وهذا واضحٌ بيّن، أما المركب فهذا لا بحث له هنا البتة.
قوله: (وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ) هنا جعل مورِد القسمة المفرد.
جعل مورد القسمة "يعني: محل القسمة" المفرد، والمفرد عند النحاة: إما اسم وإما فعل وإما حرف، يعني: يقسَّم بما تُقسَّم به الكلمة، الكلمة هي لفظٌ مفرد.
حينئذٍ ما أقسام المفرد عند النحاة؟ إما اسم، وإما فعلٌ، وإما حرفٌ.
هنا المفرد عند المناطقة: إما اسم، وإما كلمة، وإما أداة. هذا التقسيم عند المناطقة.
الاسم هنا كالاسم هناك، يعني نعرِّفه في الاصطلاح: ما دل على معنى ولم يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة وضعاً.
نقول: هذا يسمى اسماً عند المناطقة وعند النحاة، الفعل واضح عند النحاة، الكلمة عند المناطقة: ما دلَّت على معنى واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة وضعاً.
والكلمة عند المناطقة أخص من مطلق الفعل عند النحاة. يعني: الفعل عند النحاة ثلاثة أنواع.
لو أخرجنا الأمر لأنه لا يدل على الخبر من حيث الإيجاد، بقي معنا الماضي والمضارع، حينئذٍ الماضي هذا فعلٌ وكلمة؛ لأنه كلمة دلّت على معنى واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة، ثم هو مفرد؛ لأن ضرب مثل زيد (ض، ر، ب).
إذاً: له جزءٌ لا معنى له، هو مفرد، وله جزء (ض) له معنى؟ ليس له معنى، إذاً: هو مفرد. إذاً: اشتركا في ضربَ وأكل وشرب .. الفعل الماضي.
بقي الفعل المضارع، الفعل المضارع عند النحاة مفرد، وهذا من الخلط .. ترجع إلى التعريف السابق تعرف أن المسألة فيها خلط.
وعند المناطقة الفعل المضارع مركب وليس مفرد؛ لأنه مؤلَّف من كلمتين، وهذا باتفاق النحاة والمناطقة أنه مؤلَّف من كلمتين.
فـ: أضرِبُ وتضرب ونضرب هذه مؤلفة من كلمتين، حرف المضارعة وهو حرف معنى ليس حرف مبنى، إذاً: له معنى.
وضرب في الأصل كذلك له معنى، إذاً هو مؤلَّف من كلمتين، فأضرب يعني: متكلمٌ أو أتكلم بإخبار إيقاع الضرب مني.
إذاً: "أَضرِب" الهمزة جزءٌ له معنى، هل دل على جزء معنى أضرب؟ نعم دل. ما معنى أضرب؟ هذا فعل مضارع، أضرب زيداً يعني: أنا المتكلم.
من أين أخذنا أنا المتكلم؟ من همزة المتكلم، أما نقول: الهمزة للمتكلم والنون لمن معه .. إلى آخره؟ نقول: همزة المتكلم دلّت على أن الضرب وقع مني، فمعنى: أضرب. أنا المتكلم أُوقِع ضرباً.
إذاً: الهمزة دلت على جزء المعنى، وضرب دلّت على جزء المعنى، هذا يسمى مركباً ولا يسمى مفرداً. إذاً: خرج هذا النوع.
فحينئذٍ صارت الكلمة التي هي عند النحاة أخص من مطلق الفعل عند النحاة؛ لأن النحاة عندهم الفعل يشمل المضارع فهو مفردٌ عندهم، وعند المناطقة لا.
النحاة نظروا إلى وظيفتهم، وهنا نظروا إلى وظيفتهم .. كلٌ ينظر إلى مصلحته في النظر إلى الألفاظ.
النحاة قالوا: العبرة بالعمل، نحن نتكلم عن عاملٍ ومعمول وما يقتضيه، وجدنا أن العامل يدخل على أضرب ويؤثر في الفعل، فإذا قلت: لم أضربْ -بإسكان الباء-.
فحينئذٍ السكون هذا ما الذي أحدثه؟ "لم" وهي حرف، وأضرب الهمزة حرف، لو اعتبرتَ أن أضرب مؤلَّف من حرفٍ وفعلٍ لدخل الحرف على الحرف ولم يدخل على الفعل، لكن لما أثَّر في آخر الكلمة علِمنا أن لم دخلت على فعل.
إذاً: كيف ننظر إلى الهمزة مع الفعل؟ نقول: صارت كالجزء، كما أن أل إذا دخلت على الاسم صارت كالجزء فتخطَّاها العامل، هكذا يقولون.
"مررت بالرجل" أل حرف معنى، وإذا دخلت على رجل صارت الرجل، الرجل هذا مؤلَّف من كلمتين هذا قطعاً مؤلَّف من كلمتين، لكن هذه الكلمة الأولى مُزِجت يعني: صارت كالأصل، والدليل على ذلك: أن العامل إذا دخل ما دخل على أل، وإلا قلنا أل اسمٌ وليست بحرف لدخول حرف الجر عليها وليس كذلك، وإنما نقول: نُزِّلت مُنزلة الجزء من الكلمة، ولذلك تخطاها العامل.
فلما نظروا إلى العامل أنه تخطَّى هذه الحروف قالوا: إذاً هي ليست حروفاً مستقلة، وإن كان لها أثر في المعنى بدليل تخطي العامل فحينئذٍ نقول: صارت كالجزء من الكلمة، المناطقة أبوا ذلك؛ لأنهم لا يلتفتون إلى العمل، إنما ينظرون إلى الأصل .. مركب، وهذا مسلَّم أنه مؤلَّف من كلمتين، ولكلٍ وجهة هو مولّيها.
إذاً: الكلمة عند المناطقة أخص من مطلق الفعل عند النحاة، فيشتركان في ضرَبَ ونحوه، وينفرد الفعل النحوي في بِأضرب ونحوه.
فهذا فعلٌ لا كلمة؛ لأنه مركبٌ عندهم لا مفرد.
الأداة هي: ما يقابِل الحرف، هكذا قيل: ما يقابل الحرف، بل هي أعم.
لو قيل: الأداة ما ليست اسماً ولا كلمة لكان أولى؛ لأنه سيأتي أن الروابط في القضايا أنها تسمى أداة، ومنها ضمير فصل.
إذاً: الأداة ما يقابل الحرف عند النحاة، والأولى أن يقال: غير الاسم والكلمة أداةٌ.
قال: (وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ).
عرفنا أن المفرد يصدُق على: الاسم، والكلمة، والأداة.
المفرد، وأطلق المصنف هنا كعادة غيره، وقسَّم هذا المفرد إلى كُلّي وجزئي، هل دخل الفعل والحرف فينقسم إلى كُلّي وجزئي، أم المراد بعض المفرد؟ المراد بعض المفرد.
يعني: ليس المفرد هنا دخل فيه الأنواع الثلاثة: اسم وكلمة وأدة، لأن الأداة لا تنقسم إلى كُلّي وجزئي، والفعل لا ينقسم إلى كُلّي وجزئي على المشهور، وسيأتي كلام آخر، فحينئذٍ المراد هنا بالمفرد: الاسم، والاسم نوعان: اسمٌ اتحد معناه، واسمٌ تعدد معناه، المراد بالثاني "من باب الاحتراز": المشترَك اللفظي، المشترك اللفظ تعدَّد معناه، اتحد في اللفظ: عَين عين عين، هذه عين هذا عين، الشمس عين، القمر عين، المسجد عين، أنت عين ..
إذاً: اللفظ واحد والمعنى متعدِّد، هل هذا المعنى ينقسم إلى كُلّي وجزئي لا، إذاً بعض الاسم خرج كما خرج الفعل وكما خرج الحرف، أو إن شئت قل: الأداة.
إذاً: قوله: (المُفْرَدُ) ليس على إطلاقه؛ لئلا يهِم الناظر بأن كل ما يصدُق عليه لفظ المفرد أنه منقسِم إلى كُلّي وجزئي لا، بل المنقسم في الاستعمال عندهم والذي عليه العمل هو الاسم، وليس كل الاسم وإنما بعض الاسم؛ لأن الاسم على مرتبتين: منه ما اتحد معناه كرَجل وإنسان اتحد المعنى.
الإنسان الذي تقول: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان، بكرٌ إنسان .. اتحد المعنى، المعنى هو نفسه، لكن إذا قلت: هذا عين، وهذا عين، وهذا عين، والعين باصرة والشمس عين، معاني متحدة؟ ليست متحدة، هذا يسمى لفظاً، أو اشتراكاً لفظياً. ليس مراداً هنا.
قال هنا: (جعلُ مورِد القسمةِ المفرد يعم الاسم والفعل والحرف).
يعني على ظاهر كلامه "هذا إيراد": (جعلُ مورد القسمة المفرد يعم الاسم والفعل والحرف) وليس المراد أن كل واحد من الثلاثة فيه قسمان، ليس مراداً أن الفعل كُلّي وجزئي، والحرف كُلّي وجزئي، والاسم مطلقاً دون تفصيل كُلّي وجزئي، وإنما المراد بعضُ الاسم.
وليس المراد أن كل واحدٍ من الثلاثة فيه قسمان، بل المراد أن المفرد من حيث هو قِسمان، فإذا قيل: من حيث هو يعني: الصادق بالبعض.
إذا قلت: المفرد من حيث هو، حينئذٍ يُفسَّر بماذا؟ لا يفسّر بأنه صدق على مجموع ما يصدُق عليه لفظ المفرد وإنما في بعض الأحوال، كما تقول في الجملة وبالجملة.
بالجملة يعني: في جميع الصور، وفي الجملة يعني: في بعضها.
إذا قلنا: المفرد من حيث هو قسمان يعني: المفرد في بعض ما يصدُق عليه أنه مفرد، ثم نأتي ونفصِّل.
(المراد أن المفرد من حيث هو قسمان أما الاسمُ فيوجدان فيه) يعني: الكلي والجزئي، لكن نقيِّده: بما اتحد معناه، أما ما تعدد معناه فلا.
وأما الفعلُ، الفعل قيل: كل فعلٍ كُلّي، المشهور أنها كُلِّيّات الأفعال. يعني: لا توصف إلا بالكلي؛ لأنها تقع محمولاً، وكل محمول "قد يأتينا" كل محمول لا يكون إلا كلياً.
محمول يعني: خبر، وإذا كان كذلك فلا يكون إلا كلياً.
إذاً: الفعل لا يكون إلا كُلّيّا، لأنه لا يقع محكوماً عليه وإنما يقع محكوماً به، وأما الفعل فهو كُلّي، ثَم تفصيلٌ عند العطار قال: باعتبار الحدَث الواقع في أحد الأزمنة، وهو لا يمنع نفسُ تصوُّرِه من صدقِه على كثيرين، ولذا صح اتصاف أي فاعلٍ كان بذلك الحدث. وهذا صحيح.
قام دل على القيام، تصوُّر معنى القيام في الذهن هل يمنع الشرِكة؟ هل يختص بواحد دون آخر؟ ما يصدر القيام إلا من زيد وسائر زيد لا يقوم؟ لا، إذا تصورتَ معنى القيام تصورت معنى الشركة فيه، إذاً: يقبل الشركة. هذا كُلّي أو لا؟ صدَق عليهم معنى الكلِّي؛ لأن الكلِّي هو ما أفهم اشتراكاً، كل ما يُفهم اشتراكاً بين أفراده نقول: هذا يسمى كلياً.
قام دل على القيام، القيام صادق على الجميع، هذا هو معنى الكلِّي، ولذلك قال هنا: وأما الفعل فهو كُلّيٌ باعتبار الحدث الواقع في أحد الأزمنة، وهو لا يمنع نفسُ تصوره من صِدقِه على كثيرين، ولذا صح اتصاف أي فاعلٍ كان بذلك الحدث "قام زيدٌ، قام عمروٌ" مشترَك، لا يختص بزيد دون آخر.
وجزئي باعتبار دلالته على نسبةٍ معيَّنة لذلك الحدث إلى فاعل مخصوص، وهذه النسبة غيرُ مقصودة بالذات، بل هي بيْن الفعل وفاعِله تابعةٌ في القصد لهما، فيكون كمعنى الحرف.
الخلاصة: فالفعل كُلّيٌ باعتبار دلالته على الحدث وجزئي باعتبار دلالته على هذه النسبة.
إذا قلت: قام زيدٌ، ثَم نسبة بين الفعل والفاعل، هذه النسبة جزئية؛ لأنها تكون بعد الإسناد، ولذلك عند بعض من يحرِّر العبارة: قام زيدٌ مؤلفٌ من ثلاثة أجزاء، وهذا يذكرونه في قولهم: أصول الفقه مركَّب من جزأين، اعترض بعضهم قال: لا. بل هي ثلاثة.
الجزء الأول: قام، الجزء الثاني: زيدٌ، الجزء الثالث: أمرٌ عقلي وهي النسبة .. نسبة الإضافية بين قام وبين زيد.
هذه جزئية وليست كُلّيّة؛ لأنها هنا مقيَّدة بزيد، كذلك إذا قلت: أصول الفقه. هنا ثلاثة أجزاء التي هي: أصول، والفقه، ثم النسبة التقييدية.
ولذلك نعرِّف الإضافة في باب الإضافة في النحو: نسبةٌ تقييدية.
ما المراد بالنسبة التقييدية؟ هو تقييد الأول بالثاني، هذه أمرٌ عقلي يعني: لها صورة لكنها صورة عقلية، وأما الذي يُلفَظ هو الجزء الأول والجزء الثاني.
إذاً: الفعل له جهتان: جهة يوصف بكونه كُلياً. وهذا هو المشهور وهو الذي يُطلقه أكثر المناطقة.
وجهة يوصف بكونها جزئي وهو باعتبار النسبة إلى فاعل مخصوص.
وأما باعتبار الحدث بقطع النظر عن الفاعل المخصوص فهو كُلِّي، ولذلك تقول: ضرب، وأكل .. وإلى آخره، هذا لا يختص به زيد دون عمرو، وإنما يتصور العقل وقوع الشرِكة فيه.
وأما الحرفُ، فالحقُّ "مع وجود الخلاف فيه" أنه جزئي لا غير؛ لأنه موضوعٌ وضعاً عاماً لمعنى مخصوص.
فـ: مِن دالةٌ على ابتداءٍ معيّن هو ابتداء المتكلِّم السير من البصرة. إذا قيل: "مِن" مِن حرف ابتداء. ابتداء ماذا لماذا؟ البصرة إلى الكوفة، مكة إلى جدة .. إلى آخره، نقول: هل المسافة أو الابتداء ابتداءً وانتهاءً هل هو مقصودٌ مخصوص أم أنه مطلق؟
لا يظهر الابتداء إلا بعد الاستعمال، إذا كان كذلك فحينئذٍ صار مخصوصاً؛ لأن الابتداء لا يتعين تقول: ابتداء ولا يُلتفت أصلاً إلى الحرف إلا بعد التركيب، وإذا كان كذلك فنظراً إلى كونه لا يُستعمل إلا جزئياً حُكِم عليه بكونه جزئياً.
وأما باعتبار الوضع فقد قيل أنه كُلّي، ولذلك قال: أنه مطلق عام لأي ابتداء يعني: صالح لأي ابتداء .. لا يختص به.
فإذا استُعمل من البصرة إلى الكوفة معناه أنه لا نستعمل من ابتداءً إلى كذا في غير البصرة إلى الكوفة أم أنه يُستعمل؟ نقول: يستعمل، هذا معنى الكُلّيّة باعتبار الأصل والوضع.
كل متكلم إذا أراد الابتداء (من، إلى) يأتي بلفظ مِن، ويُراد بها الابتداء الزماني أو المكاني، لكن إذا استعملها صارت جزئياً، وأما قبل ذلك فهي قابلةٌ للاشتراك.
وأما الحرف فالحق فيه أنه جزئي لا غير؛ لأنه موضوع "هنا باعتبار الوضع لا باعتبار الاستعمال" موضوع وضعاً عاماً لمعنًى مخصوص، فمِن دالةٌ على ابتداء معيّن هو ابتداء المتكلم السير من البصرة، وجُعِل آلةً لتُعرَف حالهما فهو غير مستقل بالمفهومية، ولذا لم يصح الإخبار به ولا عنه، والتُزِم أن يُذكر معه متعلَّقُه ومجرورُه، وهذا الابتداء المعنى الذي هو معنى مِن مثلاً ممتنع صدقُه على كثيرين. فهو جزئي وهو كذلك.
إذا قيل: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ)) [الإسراء:1] هذا ابتداءٌ معيَّن، خاصٌ ولا بد له من جار ومجرور، ولا بد له من متعلَّق.
فحينئذٍ نقول: هذا لا يحتمل الشرِكة، هل يحتمل الشركة؟ لا يقبل، ما أَفهم اشتراكاً الكلُّي، والذي لا يُفهم اشتراكاً هو الجزئي، وهذا لا يُفهم اشتراكاً لأنه اختص بالاستعمال.
فهل النظر "هنا محل الخلاف" هل النظر إلى الوضع فقط، أو الاستعمال فقط، أو لهما معاً؟
فمن نظر إلى الوضع فقط قال: الحروف كُلّيّة، وقد قيل به.
ومن نظر إلى الاستعمال فقط قال: جزئية فقط ولا تأتي كُلّيّة؛ لأن الوضع هذا شيءٌ مهجور .. أمر عقلي اعتباري فقط.
ومن نظر إلى النوعين قال: هي كُلّيّةٌ وضعاً جزئيةٌ استعمالاً، والخلاف لا ينبني عليه شيء.
إذاً: (وَالمُفْرَدُ) عرَفنا المراد به.
قال: (بالنظر إلى معناه) هذا فيه إشارة إلى ما ذكرناه سابقاً: أن الكُلّيّة والجزئية وصفان للمعنى حقيقةً، ووصفُ اللفظ بهما مجازٌ من وصفِ الدال بصفة مدلوله، وهذا واضح من حيثُ .. (بالنظر إلى معناه) لا بالنظر إلى لفظه وإنما بالنظر إلى معناه.
ينقسم من جهة المعنى إلى: كُلّي وجزئي.
إذاً: الكلِّي وصفٌ للمعنى، والجزئي وصْفٌ للمعنى.
قيل: أُورِد على قوله: (بالنظر إلى معناه) أن معنى المفرد ما لا يدل جزءه على جزء معناه بالإرادة. وهذا كُلّي، مفهومُ المفرد كُلِّي أو جزئي؟ كلِّي، فكيف ينقسم إلى الكلي إلى كلي؟ هو كلي كيف ينقسم إلى كُلِّيٍّ وجزئي؟
قال: فكيف يقسِّمه إلى كُلِّيٍّ وجزئيٍّ؟ وأُجيب بأن المراد بالمفرد مصدقُه -كإنسان وزيد- لا لفظُه ولا مفهومُه.
ليس التقسيم للمفهوم هنا، وإنما التقسيم باعتبار المصدَق يعني: الآحاد والأفراد هي التي يُحكَم عليها بكونها كُلّيّة أو جزئية.
قال رحمه الله تعالى: (وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) وجهُ التسمية بالكلي والجزئي.
قيل: الكلِّي كالحيوان مثلاً منسوبٌ إلى الكلِّي الذي هو الإنسان مثلاً، والجزءُ كزيدٍ منسوبٌ إلى جزئه الذي هو الإنسان أو الحيوان، فمصدوقُ الكلِّي جزءٌ إليه ينسب الجزئي، ومصدوق الجزئي كلٌ نُسِب إليه الكلِّي.
هذا المراد به "الكلِّي" الياء هذه هل هي ياء النسبة أو لا؟ فيها خلاف.
هل هي أصلية كياء الكرسي، أم أنها زائدة للنسبة؟ محل نزاع.
من قال بأنها للنسبة ذكَر ما ذكرتُه سابقاً وهو قول العطار.
من قال بأنها ليست للنسبة كما قال المحشِّي هنا: الظاهر أن الياء فيهما ليست للنسَب، وأنها من حروف الاسم الأصلية كياء الكرسي.
ورَدَّ على الكلام السابق.
قال: (إِمَّا كُلِّىٌّ) وعرَّف هذا الكلِّي قال: (وَهُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ. كَالْإِنْسَانِ).
ما لا يمنع تعقُّلُه من وقوع الشَّرِكة فيه، من حيث المعنى إذا تصوره العقل يعني: فَهِم المعنى، فهم المدلول لا يمتنع في العقل أن يصدُق على أفراد، وأقل الأفراد اثنان فصاعداً.
ولذلك بعضهم يعرِّف الجنس بأنه ما عم شيئين فصاعداً، أقل ما يُضم شيء إلى شيء اثنان، أقل الجمع في هذا الموضع عند المناطقة على جهة الخصوص اثنان.
إذاً: ما لا يمنع تصوُّر مفهومه (وَهُوَ) أي: الكلِّي.
حقيقتُه (الَّذِي) هنا جنس يشمل الكلِّي والجزئي.
(لَا يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ) نفس هنا بمعنى الذات، لا يمنع ذاتُ تصوُّرِ يعني: فَهْمِ.
(مَفْهُومِهِ) يعني: مدلوله، إضافة بيانية، والمراد بتصور المفهوم حصولُه في الذهن.
أي: ارتسامُ المعنى فيه، فإن التصور -كما مر معنا-: هو حصول صُورة الشيء في النفس (لَا يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ) إذا تصوَّرَه العاقل -النفس العاقلة- تصوَّر مفهوم هذا المفرد (وَقَوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ) بحيث يصح حملُه على كل فردٍ من أفراده حمْلَ مواطئة.
ما معنى مواطئة؟ يعني: موافقة، احترازاً عن حمل الإضافة والاشتقاق.
فعندنا ضابطان: إما أن يُنظر إلى المعنى، وإما أن يُنظر إلى الاستعمال. إذا أردتَ أن تحكم على الشيء بأنه كُلّي أو لا، وضابطها ما أسهلهما.
الأول: أن تنظر في المعنى. هذا المعنى: حيوان ناطق، هل هو يختص بواحدٍ من الأفراد أم العدد؟
إن كان الثاني فهو الكلِّي، العقل لا يمنع أن يتعدد فيه، أن لا يختص هذا المعنى بفردٍ دون سائر الأفراد.
النوع الثاني "في الحُكم على الكلِّي بأنه كُلّي": أنه يصح أن تنظر إلى الأفراد وتخبِر عنه باللفظ، فإن صح فهو كُلّي وإلا فلا.
إذا قلتَ مثلاً: إنسان. لو نظرنا إلى المعنى السابق: ما لا يمنع تعقُّل مدلوله من وقوع الشرِكة فيه.
إنسان معناه: حيوان ناطق، حيوان ناطق هذا لا يختص بزيد ولا عمرو، بل كل ما هو فردٌ تحت هذا اللفظ، حينئذٍ يصدُق عليه أنه إنسان.
عند الاستعمال ماذا تقول؟ تقول: أفراد زيد، وعمرو، وبكر .. إلى آخره.
فتأتي بالآحاد فتجعلُه موضوعاً –مبتدأً-، وتأتي باللفظ الذي تريد أن تحكم عليه بأنه كُلّي تجعله خبراً. فتقول: زيدٌ إنسانٌ، عمروٌ إنسانٌ، بكرٌ إنسانٌ .. إلى الصباح، صح أو لا؟ صح.
حينئذٍ إذا صحَّ نقول: هذا كُلّيٌّ، وهذا الذي عناه:(بحيث يصح حملُه) حَمْل الكلِّي (لفظاً) من حيث اللفظ (على كل فردٍ من أفراده حملَ) مواطئة يعني: بدون واسطة .. مباشرة؛ احترازاً عن الاشتقاق أو الإضافة.
قالوا: عِلْم
…
تصور العلم في الذهن لا يمنع الشرِكة، وحينئذٍ تقول: النحوُ علمٌ، والتفسير علمٌ، والحديث عِلمٌ، والطب علم، والهندسة علم .. إلى ما شاء الله.
إذاً: كُلِّي؟ كُلّي. لماذا؟ لا يمنع تعقله من وقوع الشركة فيه، لكن: مالِك "الإمام مالك رحمه الله تعالى" عِلمٌ؟ ماذا تقول؟ عالم، جئتَ بالاشتقاق، جئت بمادة عِلم الذي هو المصدر واشتققتَ منه اسم فاعل وقلت: عالم.
أو تقول: مالكٌ ذو علمٍ بالإضافة، هنا صح الحملُ أو لا؟ صح الحمل، حملتَ العلم على مالك وقلتَ: مالكٌ عالم، أبو حنيفة عالم، أحمد عالم .. إلى آخره.
أو مالكٌ ذو علمٍ، أبو حنيفة ذو علم .. إلى آخره، صح الحمل، كما صح: النحو علم، والتفسير علم .. إلى آخره.
لكن عِلمٌ صح حملُه على التفسير ونحوه -الذي هو الفنون- مباشرة، هذا يسمى حمل مواطئة، وأما على الأشخاص فلم يصح مباشرة إلا بواسطة إما الاشتقاق كعالِم أو بالإضافة كذي علم.
حينئذٍ عِلم باعتبار الفنون كُلِّي، وباعتبار الأشخاص جزئي لانتفاء الشرط؛ لأن الشرط هنا الذي يتحقق في الحكم عليه بكونه كلياً أن يُحمَل عليه مباشرة دون واسطة اشتقاق ولا إضافة.
وأما مالكٌ عالم أو ذو علمٍ لم يُحمل مباشرة وإنما حُمِل بواسطة إما الاشتقاق وإما الإضافة، وحينئذٍ نقول: باعتبار الأشخاص هو جزئيٌ وباعتبار الفنون هو كُلِّيٌ.
(وَهُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ)(نَفْسُ) قلنا: ذات، (تَصَوُّرِ) يعني: فَهْم.
(مَفْهُومِهِ) أي: مدلوله.
قوله: (من حيث إنه متصوَّر) دفَعَ به ما أورد من أن قابل الاشتراك المفهوم الكلِّي المتصوَّر، لا تصوره .. تصوُّر مُتصوَّر.
التصور فعل الفاعل .. أنت، فعلُك جزئي لأنك أنت جزئي، ومن قام بالجزئي جزء.
والذي يَمنع نفسُ تصور مفهوم وقوع الشركة فيه هو المعنَى، هو المتصوَّر لا فِعل الفاعل.
فعل الفاعل وما قام به جزئيٌ، ولذلك قيَّده هنا قال:(من حيثُ) هذه للتقييد.
(من حيث إنه متصوَّر) يعني: باعتبار ما تُصوِّر لا باعتبار التصور نفسِه أو المتصوِّر فإنه جزئيٌ في الحالين، وأما المتصوَّر هو الذي عليه الحُكم، ولذلك قيَّده.
قال هنا: (دَفَع به ما أُورد من أن قابل الاشتراك) الذي يقبل الاشتراك الذي هو معنى الكلِّي (المفهوم الكلِّي المتصوَّر) اسم مفعول بالفتح.
(لا تصوُّره) تصوره هذا فعلُك أنت .. فعل الفاعل وهو جزئي، كل حدثٍ يقع منك فهو جزئي؛ لأنه صادرٌ عن جزئي.
فإنه جزئي لا يقبل الاشتراك لقيامه بالنفس الجزئية، وجزئية المحل تستلزم جزئية الحالّ.
وحاصل الجواب: أن المراد لا يمنع مفهومُه من حيثُ تصورُه.
يعني: العبرة بالمتصوَّر لا بالتصوُّرِ.
قال: وقوع الشرِكة فيه بحيث يصح حملُه على كل فردٍ من أفراده.
قال: (والمعتبر هنا في الحمل هو الاتحاد في الخارج، وهذا لا ينافي التغاير في العقل، بل لا بد له من التغاير فإن الحملَ هو اتحاد المتغايرَين ذهناً في الخارج محقَّقاً أو موهُوماً).
(بحيث يصح حملُه) أي: الكلِّي، تصويرٌ للشرِكة فيه، على كل فردٍ من أفراده بأن تقول: زيدٌ إنسان، وعمروٌ إنسان، وبكرٌ إنسان.
قال: (فإن مفهومه) يعني: مفهوم الإنسان (إذا تُصوِّر) يعني: تُعقِّل في العقل، عُرِف المراد به، ومعناه ومدلوله (لم يمنع من صدقه على كثيرين) يعني متعدِّد: اثنان فأكثر، ولا يستلزم أن يكون ثم عدد لا نهاية له.
قال: (سواءٌ وُجِدت أفرادُه في الخارج وتناهت كالكواكب أم لم تتناهى).
(سواءٌ) هذا راجعٌ لقول المصنف: (الكلِّي) وليس لقوله: (فإن مفهومه).
يعني: أراد هنا أن يشرَع في تقسيم الكلِّي إلى ستة أنواع، لا تقسيم المفهوم وإنما في تقسيم الكلِّي، فيقال: الكلِّي له تقسيمات باعتبارات مختلفة، وهنا التقسيم باعتبار أفراده.
قال: (سواءٌ) راجِعٌ لقول المصنف: الكلِّي، وليس لقوله: فإن مفهومه .. إلى آخره، كما قد يتوهم، وإلا لزم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.
(سواءٌ وُجدت أفرادُه) أي: الكلِّي.
قال: أراد به تقسيم الكلِّي ستة أقسام. على المشهور عند المتأخرين.
وذلك أن المتقدمين قسَّمُوه إلى ثلاثة أقسام، المتقدمين يعني: من المناطقة، والمتأخرون خالفُوهم.
يعني: فصَّلوا ما أجملوه، هذا المراد.
قسَّموه إلى ثلاثة أقسام على جهة الإجمال، وجاء المتأخرون فصَّلوا فجعلوا كل قسمٍ قسمين فصارت ستة.
وذلك أن المتقدمين قسّموه إلى ثلاثة أقسام:
ما وُجد له أفراد .. كُلّي له أفراد.
وما وُجد له فردٌ. يعني: كُلّيٌ له فردٌ واحد فقط.
وُجد له فرد ليس في الذهن، الذهن اتفقنا على أنه متعدد، وإنما الكلام في الخارج، الآن عندنا داخل وخارج، داخل يعني: في الذهن، هذا محل اتفاق، ما أفهم اشتراك اثنين فصاعداً .. له أفراد في الذهن.
لكن: هل في الخارج طابَق ما في الذهن أو لا؟ هذا البحث.
إذا قيل: أفراد آحاد يعني: باعتبار الخارج، فهل تطابقا أم لا؟ هذا محلُ الإيراد هنا.
لأنه قد يوجد كُلّي له أفراد ولا وجود له في الخارج، أين هو؟ في الذهن فقط، هذا مركزُه ومحله، أما في الخارج لا وجود له البتة.
إذاً: إذا قيل: أفراد آحاد فالمراد به في الخارج، هل تطابقا أم لا؟ هذا المراد.
ما وُجد له أفراد: كُلّي له أفراد، وما وُجد له فرد: كُلّيٌ له فرد -واحد يعني-، وما لم يوجد له فردٌ.
له أفراد .. له فردٌ .. لا فرد له. هذه ثلاثة.
(فقسَّم المتأخرون كل قسمٍ منها قسمين فصارت ستة، فقسَّموا ما له أفراد إلى ما لم تتناهى أفرادُه).
يعني: جاءوا للقسم الأول: ما له أفراد، فقالوا: الأفراد هذه قد تتناهى .. تنتهي .. تتقلص، وبعضُها لا، يبقى .. لا نهاية له، فقسَّموه إلى قسمين: ما له أفراد إلى ما لم تتناهى أفرادُه كشيء وموجود.
وإلى ما تناهت أفرادُه كحيوان وإنسان ورَجل. حيوان له أفراد لكن تتناهى، وكذلك إنسان له أفراد لكنها تتناهى، ورجل .. إلى آخره.
(وما له فردٌ إلى ما قام البرهان على امتناع غيرِه كإله) يعني: ما له إلا فردٌ واحد في الخارج، وهذا على نوعين: منه ما يمتنع وجودُ فردٍ آخر .. ماله فردٌ هذا على مرتبتين: له فرد يمتنع وجود فردٍ آخر .. دل العقل على امتناع وجود فردٍ آخر مثل: إله .. الإله الحق.
النوع الثاني: ما له فردٌ ولا يمنعُ العقل وجود فردٍ آخر كشمس، شمس هذا نكرة والعقل يقبل التعدُّد، لا يمنع العقل أن يكون شمسان، ثلاثة، أربعة .. إلى آخره، لكن في الخارج ما وُجد إلا شمس واحدة، أين الثانية؟ ما أراد الله. لو شاء الله لكان، فحصل تآلف بين الشمسين، لكن نقول: ما شاء الله.
فحينئذٍ هل يمنع العقلُ وجود شمسٍ ثانية؟ الجواب: لا.
إذاً: له فردٌ واحد وهو على قسمين: ما دل العقل على امتناع فردٍ آخر، وما جوَّز العقل وجود فردٍ آخر لكنه لم يوجَد.
قال: (إلى ما قام البرهان على امتناع غيره كإله، وإلى ما لم يقم البرهان على ذلك كشمس.
وما لم يوجد له فردٌ إلى ما استحال وجودُ فرده كجمع ضدين أو نقيضين، أو عدم وملكة.
وإلى ما يمكن وُجد فرده كبحرٍ من لبنٍ، وجبلٍ من سُكَّر).
قال هنا: (سواءٌ وُجدت أفرادُه في الخارج وتناهَتْ) هو سيذكرها على طريقة المتأخرين.
(سواءٌ وُجدت أفرادُه في الخارج وتناهت) أي: وقَفَت عند حدٍ وانحصَرَت في عددٍ معلوم، هذا المراد بالتناهي: أنها معلومة العدّ.
(كالكواكب) كالكواكب مثال غلط هذا، وإنما الأصل: ككوكبٍ، الكواكب هي الأفراد، لأن المثال يكون بالكلي لا بالأفراد، الكواكب جزئيات هذه، وإنما المثال الصحيح: ككوكب، كوكب هذا كُلّي لا يمنع العقل وقوع الشركة فيه.
ووُجِد في الخارج، وله أفراد متناهية، ولذلك قال:(كالكواكب) مثالٌ للأفراد لا للكل المتناهي الأفراد، فإن مثاله كوكب، والمراد بالكواكب السيارة وغيرها.
(أم لم تتناهى) أي وُجدت ولكن بدون تناهٍي، لم تتناهى يعني: غير محصورة، لم تقف عند حدٍّ.
قال: (كنعمةِ الله) نعمةُ الله تعالى لا تتناهى يعني: لا تنتهي في المستقبل، ولا يُعلم عدها ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)) [إبراهيم:34] هذا في الدنيا، وكذلك في الآخرة لا نهاية لها.
إذاً: ذكَر في هذا الشطر نوعين من الكلِّي: له أفراد في الخارج تناهت ككوكب، لم تتناهى كنعمة الله. وكلٌ منهما له أفراد.
قال: (أم لم توجد فيه لامتناعها في الخارج) يعني: كُلّيٌ لم توجد فيه، لم توجد في الخارج يعني .. كُلّيٌ لا فرد له.
(لامتناعها في الخارج كالجمع بين الضدين، أو لعدم وجودِها وإن كانت ممكِنة).
إذاً: ما لا فرد له على مرتبتين:
المرتبة الأولى: (لامتناعها في الخارج) يعني: يمتنع وجودُها في الخارج.
(كالجمع بين الضدين) مثل القيام والجلوس، الجمع بين الضدين اللفظ التركيب هذا كُلّي، له أفرادٌ في الخارج لكن لا يجتمعان.
يعني: "قائم جالس" هذان نقيضان أو ضدان، هل يجتمعان في صورة واحدة؟ لا يجتمعان.
إذاً: لا مثال له في الخارج، وإنما يمنع العقل الجمعَ بين الضدين، كيف يَقبل الاشتراك؟
نقول: نعم. يقبل الاشتراك في قيام وقعود، نزول وطلوع، النوم والاستيقاظ .. هذا أفراد، كل ما يتقابل الشيئين فيه نقول: هذا متقابلان إما تقابُل ضد أو نقيض.
حينئذٍ نقول: هذا فردٌ، فالتقابل بين القيام والجلوس فرد، والتقابَل بين الصعود والنزول هذا فرد، والتقابل بين الحياة والموت هذا فرد. إذاً: أفراد.
العقل لا يمنع هذه الأفراد، وأما في الخارج هذا لا يمكن تصوُّر عدة أمثلة في موضع واحد.
(أم لم توجد فيه) يعني: في الخارج (لامتناعها في الخارج) هنا في الخارج أعادَه من باب الإيضاح يعني: أظهر في مقام الإضمار (كالجمع بين الضدين).
(أو لعدم وجودِها وإن كانت ممكنة) يعني: يتصور العقل وقوع الشرِكة فيها، ولكن في الخارج لا وجود لها قالوا: كجبلٍ من ياقوت، وبحرٍ من زئبق.
"بحر من زئبق" العقل يتصوَّر .. بحر من زئبق يجري، لو قالوا: بحر من عسل في الدنيا نقول: يتصور العقل هذا، بحرٌ في الجزيرة، بحرٌ في الشام، بحرٌ في مصر .. إلى آخره.
هذه أبحُر تجري، العقل لا يمنع وجود بحر من عسل يجري، لكن في الواقع ما وُجد.
هل يمتنع؟ لا يمتنع، لكن ما أراده الله تعالى، هنا ننفي "هم لا يذكروا هذا" نَنفي لنفي الإرادة. يعني: ما أراده الله عز وجل إرادة كونية؛ إذ لو أراده لكان، فلمَّا لم يكن لم يُرِدْه.
هنا جاء التقابل بالنفي: لو أراده لكان، لكنه لم يكن إذاً: لم يرِده.
إذاً نقول: ما أراده الله تعالى؛ إذْ لو أراده لكان.
(كالجمع بين الضدين، أو لعدم وجودها وإن كانت ممكنة كجبلٍ من ياقوت وبحرٍ من زئبق).
هذه الأمثلة: الجمع بين الضدين، وبحرٌ من زئبق، وجبلٌ من ياقوت من قبيل المفرد المقيَّد لا من قبيل المركّب؛ إذ المقصود هو البحر فقط بقيد: أن يكون من كذا، لا البحرية والزئبقية حتى يكون مركباً.
قال هنا: (أم وُجِد منها فردٌ واحدٌ سواءٌ امتنع وجودُ غيره كالإله) أي: المعبود بحق (إذْ الدليل الخارجي قَطَعَ عِرْقَ الشركة عنه، لكنه عند العقل).
هذا المثال نشرحه ثم نأتي لكلامه.
قال: (كُلِّي وُجِد منه فردٌ) أولاً: ما معنى كُلِّي؟ يعني: العقل لا يمنع الاشتراك، في الخارج وُجد منه فردٌ واحد لم يوجد الثاني لماذا؟ الدليل، إذاً من خارج لا من عقل.
الدليل -يعني: البرهان الساطع- قطَعَ وجود الثاني، إذاً يمتنع.
مثَّلوا بإله، حينئذٍ يرِد الإشكال في أولاً: قلتَ "إله" الذي قيَّدتَه بالحق، أنه لا يوجد في الخارج إلا في فردٍ واحد.
حينئذٍ وَصْفُ غير الباري بالأُلوهية يكون شِركاً، يكون شِركاً من جهة الدليل لا من جهة العقل، وعليه: العقل لا يدل على منع الشرك؛ لأنه لم يمنع التعدُّد في الخارج لمنعِه في العقل، وإنما العقل جوَّز وجود إله، قالوا: هذا كُلِّي لا يمنع الشركة، وأما في الخارج لا يوجد منه إلا واحد.
إذاً: دلالة التحريم على الشرك إنما هي من جهة الشرع فقط لا من جهة العقل، ولذلك استدلوا على أن المشركين قد وقعوا في الشرك فيما سبق: لو كان العقل يدل على قُبْح الشرك لما وقعوا فيه، وهذا غلط، بل الصواب: أن الشرك محرَّمٌ عقلاً وشرعاً، وأن القول بأن الإله يمتنع وجودُه متعدِّداً في الخارج هذا هو محل النظر، كلمة "إله" صحيح أنها كُلِّيّة، بمعنى أن العقل لا يمنع التعدد، في الخارج الإله متعدِّد.
لكن الإله بقيْد (الحق) غير مطلق الإله، فهل البحث في الإله بالقيد أو قبل القيد؟ قبل القيد.
إذاً: كونُه كُلياً قبل أن يُقيَّد بكونه حقاً، وأما البحث في كونه حقاً نقول: نعم لم يوجد إلا الإله الحق، لكن هذه المعبودات التي تسمى آلهة نقول: تُسمى آلهة حقيقة، فحينئذٍ الإله في الخارج على نوعين: إلهٌ بحق، وإلهٌ بباطل. وإلا لو قلنا: لا يوجد إله إلا مقيَّد بالحق في الخارج، "لا إله" نفَتْ ماذا؟ نفَتْ الآلهة الباطلة، وأنت تقول: لا يوجد إله أصلاً في الخارج، فكيف نفت "لا إله" الآلهة الباطلة؟ هذا تناقض.
بل الصواب نقول هكذا: أن لفظ إله كُلِّي لا يمنع تعقُّل مدلولِه من وقوع الشرِكة فيه، وهو لفظ "إله" بدون قيد، وفي الخارج له أفراد كثيرة بلا نهاية، تختلف من زمن إلى زمن ومن بلد إلى بلد.
فحينئذٍ نقول: فيصدُق على الإله الحق أنه إله، ويصدُق على الأصنام أنها آلهةٌ بنص القرآن والسنة النبوية.
لكن إذا أردنا التفصيل بين الحق والباطل نقول: لا إله حقٌ إلا الباري جل وعلا، ولذلك:"لا إله إلا الله" نَفَت الأُلوهية عما سوى الله، وأثبتَتْها للباري جل وعلا.
فقولُهم هنا: (أم وُجد منها فردٌ واحدٌ سواءٌ امتنع وجودُ غيره كالإله) أولاً تعريفُه بـ"أل" خطأ كإله يأتي نكرة، أما الإله لا.
(أي: المعبود) لو أَطلق هكذا قلنا: هذا عام، كلُّ صنمٍ عُبد من دون الله فهو معبود، ((أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ)) [الصافات:86] سمَّاها آلهة، والأصل فيها أنه حقيقة أو مجاز؟ حقيقة، فحينئذٍ يُحمَل عليها.
((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً)) [الأنعام:74] سمّاها آلهة إذاً: هي آلهة، بمعنى أنها معبودة، ولا يلزم أن يكون كل معبود أن يكون بحق.
((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ)) [يس:74] فإله في الخارج لا يُقيَّد بالحق، وإنما قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً، والذي سُلِّطتْ عليه لا النافية للجنس هو الإله بقيد البطلان.
فقوله هنا: (كالإله) فيه نظر، والصواب أن نقول: كإله بالنكرة.
(أي: المعبود) وقوله: (بحق) غلط، التقييد هنا ليس بصواب.
(إذْ الدليل الخارجي) يَقصِد به النص القرآني .. دليل التمانع.
(قطَعَ عِرقَ الشرِكةِ عنه) والعقل يجوِّزه؛ لأنه لا يمنع الشركة، وأما الدليل الخارجي -خارج العقل- هو الذي جاء بقطع الشركة، وهذا باطل، بل الصواب أن العقل يمنع أن تُصرف العبادة لغير الباري جل وعلا.
(لكنه عند العقل لم يمتنع صدقُه على كثيرين) هذا غلط، ليس بصواب.
قال: (وإلا لم يفتقر إلى دليل إثباتِ الوحدانية) وهذا كذلك، نقول: العقل دل على تحريم الشِّرْك.
(أم أمكن) هذا معطوفٌ على ماذا؟ (أم وُجِد منها فردٌ واحدٌ سواءٌ امتنع وجودُهُ أم أمكن).
(كالشمس) كشمسٍ.
أي: الكوكب النهاري المضيء؛ (إذ الموجود منها واحد، ويمكن أن يوجد منها شموسٌ كثيرة) لكن ما وُجدت كالنجوم.
حتى تتشعشع الأرض بكَثرة الضوء تشعشعاً لا يمكن معه التصرف عادة، ويحترق معه كل شيء، فعدم إيجاد غير هذا الفرد لُطفٌ ونعمة عظمى من الله سبحانه وتعالى.
وقد يكون بينهما تناسب ما الذي أدراك؟ قد توجد شمسٌ وشمسٌ آخَرة ثانية وثالثة، ويجعل الله عز وجل بينهما مناسبة لا يلزم أن يكون تتشعشعُ الأرض بالنار وتحترق .. لا يلزم، هذا شيءٌ عقلي فقط.
قال هنا: (إذْ الموجود منها واحدٌ ويمكن أن يوجد منها شُموسٌ كثيرة).
ثم قال: (ثُم الكلِّي) إذاً: هذه ستةُ أنواع على طريقة المتأخرين.
(ثم الكلِّي إن استوى معناه في أفراده) نقف على هذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!