الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
مر معنا أن المصنف رحمه الله تعالى شرَع فيما يتعلق بمباحث الألفاظ قال: (ثُمَّ اللَّفْظُ: إِمَا مُفْرَدٌ، وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ).
واللفظ المراد به: اللفظ الدال بالوضع.
وبعضهم يعبِّر عن هذا باللفظ المستعمل "مُسْتَعْمَلُ الأَلْفَاظِ حَيْثُ يُوْجَدُ" يعني: اللفظ المستعمل، وهو الذي عناه المصنف هنا؛ إذ اللفظ المهم لا ينقسم إلى مفرد وكُلِّي.
ويكون مفرداً كديز، أما هل يكون مركباً؟ هذا فيه خلاف. منهم من أثبته ومنهم من نفاه، لكن البحث هنا في مستعمل الألفاظ يعني: اللفظ المستعمل.
وأما اللفظ المهمل سواء قيل بأنه مفرد أو ينقسم إلى مفرد ومركب هذا لا ينبني عليه كبير علم.
(ثُمَّ اللَّفْظُ: إِمَا مُفْرَدٌ، وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ).
والمفرد عرّفه المصنف هنا بقوله: (وَهُوَ الَّذِي لَا يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلَالَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) يعني: ما لا يدل جزءه على جزء معناه، هكذا اشتهر.
وقلنا: هذا يدخل تحته أربعة أشياء: إما أن يكون المفرد الذي يصدق عليه أنه مفرد ما لا جزء له أصلاً. كباء الجر ولامِه، وما كان على حرفٍ واحد، حينئذٍ نقول: هذا ليس له جزءٌ. وهذا واضح.
الثاني: ما له جزءٌ ولكن لا معنى له، يعني: لم يوضع له معنًى في لسان العرب. كحروف المباني، فكل حرف مبنى في لسان العرب في المفردات، هذا يُعتبر حرفاً لم يوضع لمعنى من المعاني البتة فـ (ز) من زيد، و (ي) من زيد و (د) من زيد .. كل حرفٍ منها هذا جزءٌ ولا شك؛ لأنه ينفك عن الكل الذي هو زيد، لكن (ز) هل له معنى؟ الجواب: لا. ليس له معنى، هذا النوع الثاني.
النوع الثالث: أن يكون له معنًى لكنه سُلب المعنى بعد نقلِه إلى العلمية، ويعنُون به ما كان على وِزان عبد الله ونحوه.
يعني: قبل جعلِه عَلماً هو مضاف ومضاف إليه .. عبد الله، جاء عبد الله وتعني به عبد الله كغلام زيد، فحينئذٍ لو نُقل وجُعل علماً صار مسماه غير مسمى عبد الله مركباً إضافياً؛ لأن المركب الإضافي كما مر معنا أنه مؤلَّف من ثلاثة أجزاء: معنى المضاف، ومعنى المضاف إليه، والنسبة التقييدية بين المضاف والمضاف إليه.
هذا المعنى صار منسياً، فإذا قلت: جاء عبد الله علماً حينئذٍ نقول: عبد الله مدلوله كمدلول زيد وهو ذات مشخَّصة، لا يلاحظ فيه معنى العبودية ولا يلاحظ فيه معنى لفظ الجلالة. هذا قول لبعضهم، أنه صار نسياً منسياً.
وبعضهم يرى أن المعنى قبل العلَمية باقٍ، لكنه لمَّا كانت الدلالة غير مقصودة حينئذٍ صار مفرداً، ويُشترط في المركب أن تكون الدلالة مقصودة.
النوع الرابع: أن يكون له جزءٌ وهذا الجزء له معنى، وهو جزء معنى اللفظ المستعمل أو اللفظ المفرد.
وهذا مثّلوا له بحيوان ناطق، حيوان ناطق عَلماً، قبل جعله علماً هو مركب توصيفي تقييدي، الثاني وصفٌ للأول .. الثاني يستلزم الأول. إذاً: بينهما نسبةٌ تقييدية.
فحينئذٍ إذا جُعل عَلماً المعنى السابق سواءً قلت صار نسياً منسياً أو لا، هو موجودٌ في مسماه "هو جزء المعنى"، حينئذٍ إذا سُمّي به الذات المشخَّصة قلنا: هذا حيوانٌ ناطق.
طيب. الجزء الأول حيوان، الجزء الثاني ناطق، حينئذٍ هل معنى الحيوان هو جزء معنى حيوان ناطق؟ نقول: نعم هو جزءه، لكنه هل هو مراد؟ غير مراد.
ثَم نوع خامس يمكن أن يُجعَل في ضمن عبد الله، لكن يُذكر من باب إتمام الفائدة وهو أنه قد يكون لكل جزءٍ معنى، لكن هذا المعنى غير المعنى الذي يصدق عليه اللفظ المفرد. يعني: له جزءٌ وهذا الجزء له معنى، لكنه مغاير تماماً لمعنى اللفظ الكامل.
نحو: أبكم "مثَّل الشيخ الأمين بأبْكم"، أبكم معلومٌ أنه معناه: العاجز عن الكلام، له جزءان: أب، وكم.
"أب" هذا يدل على ذات متصفة بالأبوة، وكم إما أنه استفهام أو إخبارية، إما سؤالٌ .. استفهام عن عدد، وإما إخبارٌ عن عدد كثير. وكلٌ من المعنيين غير مراد أصلاً، ليس داخل تحت المعنى الذي هو الكلِّي الذي هو العاجز عن الكلام.
هذا يمكن أن يُجعل تحت عبد الله وإن كان يُجعل مستقلاً ولا إشكال في ذلك، ولذلك الشيخ الأمين رحمه الله تعالى جعل الاحتراز عن عبد الله عَلماً جعله بزيادة لفظٍ لم يذكره المصنف هنا، هو اعتمد قولاً يعرِّف المفرد بأنه: ما لا يدل جزءه على جزء معناه دلالةً مقصودة خالصة.
دلالة مقصودة هذا واضح أنه غير مقصود خَرَج.
خالصةً، جعَل له مثال عبد الله، عبد الله قال: له معنى، عبد ولفظ الجلالة له معنى وهو باقي لم تُسلب، لكن هل الدلالة هنا خالصة من شائبة العلمية أم شابها شيءٌ من العلَمية؟ شابها شيءٌ من العلمية. والذي يكون مركباً هو ما كانت الدلالة فيه دلالة خالصة عن أي شيءٍ آخر، وهذا يمكن أن يُجعل داخلاً فيما سبق ويمكن أن ينفرد.
إذاً: ما هو المفرد؟ ما لا يدل جزءه على جزء معناه، المؤلَّف عكسه ولذلك قال:(وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذلِكَ) يعني: ما يدل جزءه على جزء معناه.
وقلنا: هذا يشتمل على أربعة أشياء، يتوقف التركيب على: كونِ اللفظِ له جزءٌ، وكونِ جزئِه له معنى، وكونِ معناه جزءَ معنى المركب، وكونِه دالاً عليه دلالةً مقصودة.
إذاً: ما دل عليه دلالة غير مقصودة ليس بداخل، ما استوفى هذه الشروط الأربعة يسمى مؤلَّفاً ومركباً على الصحيح، ولا إشكال في التسمية بالمؤلَّف والمركب.
حينئذٍ يدخل تحت المركب ثلاثة أشياء على المشهور:
الأول: الإسناد الخبري التام. يعني: الذي نسميه، قلنا المفرد يصدق بأربعة أشياء في علم المنْطِق.
المركب يصدق بثلاثة أشياء على المشهور، قد يزاد أشياء غير مشهورة:
أولاً: المركب الإسنادي الخبري التام. يعني: الذي يسمى في الاصطلاح عند النحاة كلاماً، جملةً اسمية أو جملةً فعلية.
النوع الثاني الذي يصدق عليه أنه مركب هنا: المركب الإضافي كغلام زيد.
النوع الثالث: المركب التوصيفي أو إن شئت قل: المركب التقييدي كحيوان ناطق.
يعني: الصفة مع الموصوف، هذه ثلاثة:
الإسنادي التام الخبري، قام زيدٌ، زيدٌ قائم. هذا مركب ولا إشكال فيه، ويدل جزءه على جزء معناه.
غلام زيدٍ هذا دل جزءه على جزء معناه فهو مركب، إذا دل الجزء على جزء المعنى، على بعض المعنى الذي دل عليه غلام زيد، فحينئذٍ نسميه مركباً، نسمي الجزء أم غلام زيد؟ غلام زيد هو المركب، الجزء لا اعتبار له.
فنقول: معنى غلام زيد هو غلامٌ منسوبٌ لزيد هكذا، طيب غلام وحدها تدل على الذات المشخَّصة، هل هو جزءُ: غلامٌ منسوبٌ لزيد؟
"غلام زيدٍ" ما حقيقة المركب هنا في المنْطِق؟ ما يدل جزءه على جزء معناه.
يعني: له جزءٌ، هذا الجزء له معنى، هذا المعنى بعض ما دل عليه المركب.
طبِّق معي: غلام زيدٍ، نريد أن نعرف هل هو مركب أم لا؟
نقول: غلام زيدٍ له جزءان: غلام وزيد.
ما معنى غلام زيد، ماذا نفهم منه، يدل على ماذا؟
غلامٌ منسوبٌ لزيد.
هذا المعنى التركيبي الذي دل عليه المركب الإضافي.
خُذ غلام وحدها "هي جزءٌ انفكت" لها معنى؟ نعم لها معنى، هذا المعنى ما علاقته بالمعنى الكلِّي الذي دل عليه غلامُ زيد، جزءه؟ جزءه نعم.
كذلك زيد له معنى؟ نعم له معنى، ما علاقة هذا المعنى بالمعنى الكلِّي الذي دل عليه غلام زيد؟ جزءه، نسميه مركباً.
كذلك حيوانٌ ناطق القول فيه كالقول في المركب الإضافي.
إذاً: ثلاثة أشياء تسمى بالمركب عند المناطقة، الإسنادي الخبري التام -الجملة الاسمية والجملة الخبرية-، والمركب الإضافي والمركب التوصيفي، وإن شئت قل: التقييدي لا إشكال فيه.
يرد إشكال هنا وهو محل السؤال هنا: مر معنا أن العِلم إما تصور وإما تصديق، ما حقيقة التصور؟ إدراك مفردٍ، ما حقيقة التصديق؟ إدراك نسبةٍ خارجة "وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْديقٍ وُسِمْ" حينئذٍ يرد السؤال: ما ضابط المركب؟
قلنا: ضابط المركب كل إسنادٍ خبري تام، هذا الذي يتعلَّق به الإدراك فنسميه تصديقاً، هذا الذي تعلَّق به الإدراك فسميناه تصديقاً، ما علاقتُه بالمركب معنا هنا؟ هل تعلَّق بجميع أنواع المركّب أم ببعضه؟ ببعضه وهو الإسناد الخبري التام، ماذا بقي؟
الإضافي والتقييدي، إذاً: الإضافي والتقييدي إن تعلَّق به الإدراك لا يسمى تصديقاً .. المركب الإضافي والمركب التوصيفي إن تعلَّق به الإدراك لا يسمى تصديقاً، إذاً: ليس بمركب؛ لأنه سيتعلق به الإدراك فيكون تصوراً، والتصور ما هو؟ إدراك المفرد.
إذاً النتيجة: أن المفرد في باب أنواع العِلم غيرُه في باب تقسيم اللفظ هنا إلى مفرد ومركب. هناك ما ليس بمركبٍ إسنادي، أو كل ما ليس بخبر إسنادي تام نسميه مفرداً.
فحينئذٍ تعلُّق الإدراك بالمركب الإضافي نقول: هذا تصور وليس بتصديق؛ لأن التصور إدراك المفرد، وغلام زيد هناك يسمى مفرداً، وحيوانٌ ناطق هناك يسمى مفرداً؛ لأنه ليس بإسنادٍ خبري تام.
فكل ما ليس بجملة اسمية ولا جملة فعلية تعلُّقُ الإدراك به يسمى مفرداً، حينئذٍ تكون النتيجة أنه تصوُّر.
هنا قلنا: المركب ثلاثة أشياء: الإسنادي التام، والمركب الإضافي، والتقييدي. لا إشكال فيه.
المفرد هناك يشمل المركب الإضافي والتقييدي، وهنا لا يشمل المركب الإضافي والتقييدي لا إشكال فيه، كما هو شأن المفرد في باب النحو، قد يشمل في بعض المواضع شيء وقد يختلف عنه في بعض المواضع.
ولذلك المفرد يختلف في باب الإعراب، في باب المبتدأ والخبر، في باب خبر لا .. إلى آخره.
وأما المفرد هنا فله اصطلاحان متعددان مختلفان، هناك في باب التصورات والتصديقات له اصطلاحٌ خاص، فالمفرد كل ما ليس بإسنادٍ خبري تام، فدخل فيه المركبات بسائر أنواعها ما عدا هذا النوع، وهنا دخل المركب الإضافي والتوصيفي في النوع الثاني وهو المركب وليس بمفردٍ.
إذاً: إما مفرد وإما مركب، هو عبّر بالتأليف بناءً على أنه لا فرق بين التأليف والتركيب وهو الصحيح، وما ذكره المصنف من التفرقة هذه أمور مستطردة "الأمر استطرادي"، فلا يُشكل عليكم ضبطُها أمرها يسير إن شاء الله تعالى.
قسَّم بعد ذلك المفرد إلى نوعين: إلى كُلّي وجزئي.
(المُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) قلنا أيّ مفرد هذا؟ قلنا: المفرد أنواع .. المفرد عند النحاة: اسمٌ وفعلٌ وحرف، وهنا اسمٌ وكلمة وأداة.
ماذا أراد هنا بالمفرد؟ بعض الاسم. إذاً: لا الفعل لأن الفعل كُلّي على المشهور؛ لأنه يقع محمول يعني: يُخبَر به، ولا يُخبَر إلا بالكُلّيّة، لذلك حكموا في الغالب .. يحكمون "دون التفصيل الذي ذكره العطار بالأمس" يحكُمُون بأن الفعل كُلّيٌ مطلقاً؛ لأنه يقع محمولاً، عندنا موضوع ومحمول يعني: يُخبَر به، ولا يُحمَل إلا كُلّيٌ.
إذاً: الفعل صار كلياً.
والحرف ثلاثة أقوال: كُلّيٌ باعتبار أصل وضعِه لصلاحية استعمالِه في كل تركيب.
ثانياً: جزئيٌ مطلقاً؛ لكونه لا يُستعمل إلا في معيَّن.
ثالثاً: التفصيل. كُلّيٌ وضْعاً، جزئيٌ استعمالاً.
إذاً: خرَج الحرف والفعل.
بقي الاسم، قلنا الاسم على نوعين: ما اتحد معناه، ما تعدد معناه.
اتحد معناه كإنسان ورجل، وأنثى وامرأة .. إلى آخره، المعنى واحد: الإنسانية التي في زيد هي عينُها التي في عمرو.
النوع الثاني: ما تعدَّد معناه ولو اتحد لفظه، هذا يسمى المشترَك اللفظي، المشترك عندنا نوعان: مشترك معنوي، واشتراكٌ لفظي.
هذا يسمى المشترك اللفظ وهو: ما تعدد معناه واتحد لفظُه. والوضع كذلك متعدد.
فحينئذٍ عين هذا مشترك يُطلق على الذهب، والعين الباصرة، والفضة، والشمس .. عدَّها إلى ثلاثين والله أعلم، بل جوَّز بعضهم كل جامدٍ يجوز أن يقال بأنه عين، حينئذٍ ليس له نهاية.
فإذا كان كذلك فاللفظ واحد: هذا عين، هذا عين، هذا عين.
والأسماء المسمَّيات، الأسماء عين.
المسمى مختلف متعدد، فهذا مسمى مختلف في الحقيقة عن هذا وهكذا.
فحينئذٍ نقول: هذا لا ينقسم إلى كُلّي وجزئي، وإنما الذي ينقسم: ما اتحد معناه.
إذاً: ليس كل اسمٍ يتنوّع إلى الكلِّي والجزئي وإنما بعضُه، ولذلك نقول: المفرد وإن أطلقه المصنف هنا فنحمله على بعض أنواع الاسم وهو ما اتحد معناه، وأما ما تعدد معناه فلا ينقسم إلى كُلّي وجزئي.
وعرّف الكلِّي بأنه ما (لَا يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ) يعني: إذا تصوره العقل هذه التعاريف يمكن أخذها ببساطة، فنقول: ما تصوره يعني: فهِمه العقل، وجوَّز وقوع الشركة فيه. حينئذٍ نسميه كُلّياً، بمعنى أن كل فردٍ يصدق عليه هذا الكلِّي.
ولذلك ضابطه كما قال: (بحيث يصح حمله على كل فردٍ من أفراده) قلنا: لا بد من تقييده: مواطئة؛ بحيث يصح حملُه حملَ مواطئةٍ على كل فردٍ من أفراده.
كيف نحمله حمل مواطئة؟
بأن نقول: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان هذا تواطؤ.
(بحيث يصح حمله على كل فردٍ من أفراده) يعني: يُخبَر به، حمل مواطئة يعني: مباشرة بلا واسطةِ اشتقاقٍ ولا إضافة، فنقول: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان، بكرٌ إنسان، هندٌ إنسان، فاطمةٌ إنسان .. إلى ما لا نهاية.
إذاً: له –الكلِّي- معنى وهو ما لا يمنع تعقُّل مدلوله من وقوع الشرِكة فيه. يعني: إذا تعقّله العقل وفهمه المتأمل والناظر، حينئذٍ مدلولُه ومعناه ومفهومُه لا يمنع العقل بأن يشترك فيه اثنان فأكثر .. ليس المراد ملايين، اثنان فأكثر، فيصدق حينئذٍ نقول: هذا كُلّي.
إنسان معناه حيوانٌ ناطق، فيشترك فيه زيد وعمرو .. إلى آخره، نقول: هذا كُلّي؛ لأن العقل لا يمنع أن تقع الشرِكة في هذا المفهوم، لا يختص به زيد دون عمرو، فلا يقول -رجل مثلاً-: زيدٌ رجلٌ، وعمروٌ رجلٌ، وخالدٌ رجلٌ. فلا يقول: أنا رجل فقط وغيري لا، نقول: لا. هذا معنى مشترك، فيستوي في أفراده.
ولذلك قال هنا: (بحيث يصح حمله على كل فردٍ من أفراده).
قال العطار: (فيه تنبيه على أن جميع الكُلِّيّات متساويةٌ باعتبار نفس التصور، حتى أنه ما من كُلّيٍ إلا وهو صادق على أفراد متكاثرة بهذا الاعتبار، وإن لم تكن موجودة، بل وإن استحال وجودُها).
إذاً: هذا قدرٌ مشترك بين سائر الكُلِّيّات.
ضابطُه من حيث العمل، من حيث الألفاظ والتراكيب تقول: صحةُ حملِه حملَ مواطئةٍ على أفراده، وحمل المواطئة المراد به أن لا يكون ثَم اشتقاق ولا إضافة.
حمل مواطئةٍ ..
عِلْم هذا كلي أم جزئي؟
هذا له أفراد، مفهومه إذا تعَقَّلَه مُتعقِّل لا يمنع الشرِكة فيه فيدخل تحته أي عِلم، سواءٌ علماً دينياً أو دنيوياً.
هذا من حيث العِلم والفن، حينئذٍ يكون كلياً، من حيث المعنى عرفنا أنه لا يَمنع، من حيث المثال وحملُه حملَ مواطئة تقول: الفقه عِلمٌ والتفسير عِلمٌ والطب علمٌ والهندسةُ عِلمٌ .. وهكذا ..
حملُه على الأشخاص: مالكٌ ذو علمٍ أو عالمٌ، إذاً: العِلم فيه تفصيل، لماذا؟ لأنه إذا حُمل على الأشخاص لا يُحمَل مباشرة، ولا بد من تحويله إما أن يُشتَق من المصدر اسم فاعل، وإما أن يضاف إلى "ذو" نقول: مالكٌ ذو علمٍ وأحمد ذو علم، سفيان ذو علمٍ .. إلى آخره، أو تقول: عالمٌ عالمٌ عالمٌ.
حينئذٍ توصلنا إلى كونه محمولاً على الأشخاص بواسطة لا بنفسه عِلم، هذا يسمى جزئياً، يعني: باعتبار الأشخاص هو جزئي، وباعتبار الفنون هو كُلّي.
قال: (كالإنسان).
(وَهُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ)(كالإنسان).
ثم قلنا: ينقسم الكلِّي باعتبار وجود أفراده في الخارج، وعدمِ وجودِها إلى ثلاثة أنواع:
والتقسيم الثلاثي هذا باعتبار المتقدمين: ما وُجد له أفراد، وما وُجد له فرد، وما لم يوجد له فرد.
ما وُجد له أفراد متعددة، ما وُجد له فردٌ واحد، ما لم يوجد له فردٌ البتة.
ما لم يوجد له فردٌ. قلنا: هذا قسمان؛ لأن عدم وجود الفرد في الخارج، قلنا الأفراد البحث السابق بحث ذهني، متى نُثبِت أن هذا اللفظ كُلّي؟ عرفنا الضابط السابق.
الآن باعتبار وجودِه في الخارج، طبعاً الكلِّي لا يوجد هكذا، وإنما يوجد في ضمن أفرادِه. نقول مثلاً: الإنسان، الإنسان حيوانٌ ناطق. هذا حيوان ناطق المعنى أنت تدركه، اللفظ إنسان والمعنى حيوان ناطق.
فحينئذٍ حيوان ناطق أين يوجد؟ في الذهن، لا وجود له في الخارج، إذا أردت إثباته فتقول: عندنا حيوانٌ ناطق لا زيد ولا عمرو ولا بكر.
يمكن يشار إليه تقول: هذا حيوان ناطق وليس بزيد ولا عمرو؟ لا. وإنما يوجد في ضمن أفراده، فحينئذٍ يتحقق وصفُ الإنسان في ضمن يعني: يوجد في أفراده، وأما هو منعزل منفك عن أفراده لا وجود له في الخارج البتة، وإنما وجودُه وجود ذهني.
ونبّهنا فيما سبق: أن المراد بالوجود هنا الملاحظة، فليس المراد بالذهن مفتوح غرفة وفيها شيء اسمه حيوان ناطق لا، إنما المراد الملاحظة "ملاحظة المعاني" وحقيقتُها على وجهها الله أعلم بها، قد يكون العلم وصل إلى شيءٍ ما لا ندري، لكن هذا الموجود وهذا الذي يشعر به الإنسان.
إذاً: ما لم يوجد له فرد. قلنا هذا نوعان.
ما استحال وجودُ فرد مثل: إله.
ليس له فرد، عدم وجود الفرد إما للامتناع، إما للجواز مع عدم الوجود. هذان حالان فقط، هو تحته قسمان، هذه الثلاثة كل واحد تحتها قسمان، أنا بدأت بالأخير.
ما لا فرد له .. ليس له فرد وإنما وجوده في الذهن، هذا قد يكون المانع من وجود الفرد استحالة وجوده كالجمع بين الضدين، قلنا: هذا يستحيل وجوده، لا يمكن أن يوجد.
الجمع بين الضدين قلنا: هذا معنى كُلّي وجوده في الذهن في الخارج لا يوجد، قائم جالس، صاعد نازل لا، نائم مستيقظ في وقت واحد!
نقول: هذان ضدان لا يجتمعان، إذاً: لا وجود له، لماذا؟ للامتناع.
النوع الثاني: لما لا فرد له في الخارج، أنه يجوز لكن ما وُجد، وما وجد هنا نضبطه بما أراده الله تعالى مثل بحر من زئبق، بحر من سكر أو جبل من ياقوت .. إلى آخره.
نقول: هذه ما وُجدت في الخارج، هل العقل يمنع؟ العقل لا يمنع، بل يتصور وجود بحار وأنهار وعيون من لبنٍ؛ بدليل وجودها في الجنة.
فعدم وجودها في الدنيا في الخارج نقول: هذا ليس لكونها مستحيلة، وإنما لعدم تعلُّق مشيئة الباري جل وعلا وإرادته الكونية بها؛ إذ لو أرادها لكانت، فلمَّا لم تكن قلنا: ما أرادها .. لو أرادها لكانت .. لوُجِدتْ، فلما لم تكن حينئذٍ استدللنا بعدم وجودها بأنه ما أرادها الله عز وجل؛ لأن الإرادة الكونية لا تتخلف ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [النحل:40] الفاء للتعقيب.
هذا النوع الأول ينقسم إلى قسمين.
النوع الثاني: ما وُجد له أفراد، قلنا: هذا قسمان: ما تناهت أفرادُه، ما لا تتناهى أفراده.
الأول كالإنسان، تناهت أفرادُه يعني: محصور .. يمكن عدُّه، يمكن نهايتُه، له وقتٌ ينتهي .. إلى آخره، ما لا يتناهى كنِعَم الله عز وجل.
الثالث: ما وُجد له فردٌ في الخارج، قلنا: هذا نوعان: ما وُجد له فرد ولا يوجد غيرُه لامتناعِه، ومثّلوا له بالإله الحق وعرفنا ما فيه.
المثال هذا قلنا غلط، حينئذٍ يبقى هذا بدون مثال، أنا ما وجدتُ له مثال؛ لأنه ليس عندهم إلا هذا المثال .. فردٌ في الخارج لا ثاني له، لماذا؟ لأن العقل يمنع، مثَّلوا بالإله الحق.
فحينئذٍ قلنا: هذا المثال لا يصلح.
طيب. مثال صحيح؟ ما عندنا مثال صحيح، فيبقى هذا هكذا فراغ حتى ييسر الله عز وجل من يأتي بمثال.
الثاني: له فردٌ واحد ويمتنع الثاني، يمتنع؟
لا يمتنع، وإنما لم يوجد، مثل ماذا؟
كشمس، شمس هذا كوكبٌ نهاريٌ إذا ظهر أضاء الدنيا وذهب الليل، هكذا يعرِّفونه.
حينئذٍ ما وُجدت إلا شمس واحدة، العقل يجوِّز شمساً، وشمسين، وثلاث، وأربع، عشر .. إلى ما لا نهاية، العقل لا يمنع.
فحينئذٍ ما وُجدت إلا واحدة في الخارج.
الثاني: ما وُجد، لماذا؟ يمتنع؟ لا يمتنع، ما أراده الله، لو أراده لكان ولكان تناسب بين الشمسين وكانت مشت الأمور مع الناس، لا نقول كما يقول المناطقة هنا: لو وُجدت شموس لاحترقت الأرض .. إلى آخره.
نقول: لا. إذا خلَق الشمس الثانية خلَقَها بحكمة فتكون موافقة للشمس الأولى، ولا إشكال في هذا.
إذاً: هذه ستة أنواع.
قال رحمه الله تعالى: (ثُم الكلِّيُ) هنا أراد أن يقسِّم لنا الكلِّي باعتبار آخر، التقسيم السابق باعتبار ماذا؟ الكلِّي ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو ستة أقسام باعتبار وجود أفراده في الخارج وعدمِها، فينقسم إلى ستة أقسام، له تقسيم باعتبار آخر وهو: استواءُه في أفراده.
الأصل في الكلِّي -في معناه- أن يستوي فيه الأفراد، هذا هو الأصل، لكن قد يخرج لما سيذكره.
(ثم الكلِّي).
قال: (إن استوى معناه في أفراده) هذا فيه قلْب.
استوى معناه في أفراده، أو استوت أفرادُه في معناه؟ العكس، استوى الأفراد في المعنى؛ لأنه قوة وضعفاً، شدة ودونها أو تقدُّماً وتأخُّراً، هذا باعتبار الأفراد لا باعتبار المعنى نفسه، قلنا: إنسان حيوانٌ ناطق، الأصل زيد وعمرو .. إلى آخره يستوون في الحيوانية الناطقية؛ لأن الأصل كما ذكرنا فيما سبق عن العطار بحيث يصح حملُه على كل فردٍ من أفراده يدل على أن الأصل في معنى الكلِّي استواءُ الأفراد، هذا الأصل فيه.
فالحيوانية الناطقية التي في زيد هي عينُها التي في بكر ولا يزيد عنه ولا ينقص؛ لأن المعنى الكلِّي يجب أن يوجد في ضمن أفراده على جهة السواء، لكن هنا خرج عن الأصل.
قال: (إن استوى معناه في أفراده فمتواطئ) وهذا هو الأصل، قلنا فيه قلب أي: استوى أفراده في معناه.
فالإنسانية مثلاً قدرٌ متحقِّقٌ في سائر الأفراد، لا اختلاف بينها فيه، وإن اختلفا في آثار تلك الحقيقة كالذكاء والبلادة وغيرها.
يعني: الإنسانية هي التي وُجدت في زيد بعينها في عمرو، وأما التشخُّصات الأخرى فهذه عارضة. يعني: طولُه ولونه وسمِنُه إلى آخره، نقول: هذه ليست داخلة في الحيوانية الناطقية وإنما هذه أعراض، فحينئذٍ لا يُنظر إلى الأفراد في كونها مختلفة، في الإنسانية لاختلاف هذه الأعراض.
تقول: لا. هذه أمور مشخِّصة وهي أعراض عامة أو خاصة، فحينئذٍ نقول: الأصل هو الإنسانية .. الحيوانية الناطقية.
قال: (إن استوى معناه في أفراده) ماذا يسمى؟
(فمتواطئ) يعني: فهو متواطئ. الفاء هذه واقعة في جواب الشرط، (متواطئ) هذا خبر مبتدأ محذوف لأنه لا يقع مفرد جملةَ الجواب، وإنما لا بد من جملة اسمية، تعلَّقت أو اتصلت الفاء هنا لكون الجواب جملة اسمية لا يصلح أن يكون بنفسه جواباً للشرط.
(إن استوى معناه في أفراده) يعني: أفرادُه في معناه.
(فمتواطئ) كالإنسان.
(وإن تفاوت فيها) أي: تفاوت الكلِّي في تلك الأفراد وفيه قلبٌ أيضاً.
وبيّن التفاوت هنا بالشدة والتقدم.
(وإن تفاوت فيها) يعني: تفاوت على كلامه.
(تفاوَت معناه فيها) يعني: في أفراده، والأصح أن يقال تفاوَت الأفراد في المعنى الكلِّي.
(بالشدة أو التقدم فمشكِّك) يعني: فهو مشككٌ.
ولا نقدِّر فيسمى، هو يصح لو قال: فمشكِّكاً يعني: فيسمى مشككاً، لكن رفَعَه حينئذٍ نبقى على الأصل.
إذاً: تفاوَت الأفراد في هذا المعنى بالشدة أو التقدم، سيذكر المثالين للشدة والتقدم.
(فمشكِّك) بصيغة اسم الفاعل.
سُمِّي بذلك لأنه يشكِّك الناظر فيه، فلا يدري أهو من المتواطئ نظراً لاتحاد الحقيقة، أم من المشترَك نظراً للاختلاف الذي بين الأفراد في الحق.
يعني: يبقى الناظر فيه متشككاً؛ لأنه بالتواطئ يعني: الاتفاق والتساوي في أصل المعنى، هذا يجعلُه من المتواطئ فيبقى في القسم السابق.
وكونه مختلفاً نوع اختلاف، حينئذٍ هل هو مثل عين يُطلق على الباصر والجاسوس فوقع فيه شك.
إما أن يُفهم منه أنه متواطئ للاستواء في الأصل، وإما أن ينظر إلى نوع الاختلاف الواقع فيه فيظن أن الحقائق مختلفة وإن كان اللفظ متحداً، فحينئذٍ صار من المشترَك اللفظي.
أو فمشككٌ قال: (كالبياض) مثَّل بالبياض.
(فإن معناه في الثلج أشد منه في العاج) هكذا البياض يختلف، البياض هذا معنًى كُلّي، حينئذٍ وجوده في أفراده يختلف شدةً وضعفاً.
فوجودُه في بعض المواضع قد يكون البياض في اللبن ليس كالبياض في الثوب، في اللبن أشد وفي الثوب أخف وهو أبيض وأبيض.
حينئذٍ الناظر إليه ينظر هذا الاختلاف يردِّده: هل هذا الاختلاف في الحقائق فهو مشترك أم أن الاختلاف هذا غير معتبر وإنما هو طارئ فيبقى على أصله وهو التواطؤ؟ يبقى متشككاً، لكن سينتهي إلى أنه إما هذا وإما ذاك، لكن يسمى مشكِّكاً.
قال: (كالبياض فإن معناه في الثلج أشد منه في العاج).
طبعاً البياض هذا مثالٌ للشدة قال: (فيها بالشدة أو التقدم) الشدة مثالُه البياض فإنه يختلف، هكذا الألوان تختلف.
أو النوع الثاني: (والوجود) هذا بالتقدُّم.
(فإن معناه في الواجب قَبلَه في الممكن، وأشد منه فيه)
(فإن معناه في الواجب) يعني: الواجب الوجود وهو الله عز وجل.
وكذلك هو في الممكِنات، حينئذٍ نقول: الإنسان موجود والباري جل وعلا موجود، الوجود واحد؟ في اللفظ والقدر المشترَك نعم .. في اللفظ وجود لا إشكال فيه، هذا موجود وهذا موجود تخبر عنه، الباري موجود والإنسان موجود، وكل مخلوقٍ خُلِق موجود.
حينئذٍ اللفظ واحد، والقدر المشترك هذا متَّحِد؛ لأن القدر المشترك مكانُه في الذهن لا في الوجود، إنما يتميَّز ويحصل التمايز بين النوعين بالإضافة.
إذا قلتَ: وجود الباري انفصل تمام الانفصال عن وجود المخلوق، وهذا من قواعد التدمرية التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
فالمعنى الكلِّي موجودٌ في الذهن كالعِلم مثلاً، وهو مطلق الإدراك موجودٌ في الذهن، حينئذٍ يوصف الباري بالعِلم، والمخلوق يوصف بالعلم، لكن كيف هذا تشبيه؟ نقول: لا. ليس بتشبيه وإن اتفق اللفظ بالإخبار عن الباري بأنه يعلم، والمخلوق بأنه يعلم كما أخبر عن نفسه ((وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) [آل عمران:29] نقول: اللفظ متحد، ولا يلزم من اتفاق الألفاظ اتحاد الحقائق، هذا لا إشكال فيه.
يبقى القدر المشترَك؛ لأن المعنى هنا خُوطبنا بلغة العرب، فحينئذٍ نرجع إلى تفسير العِلم في لغة العرب، ونرجع إلى تفسير الرحمة في لغة العرب .. وهكذا سائر الصفات.
فننظر فيها: المعنى الذي يُذكر في كتب أهل اللغة، بعضُها قد لا يحتاج إلى لفظٍ كالمحبة والرحمة، هذه مدرَكة ضرورة لا نحتاج أن نعبِّر .. فسِّر ليَ الرحمة، الرحمة هي الرحمة.
ابن القيم لما ذكر المحبة في مدارج السالكين ذكر أظن أكثر من عشرة تعاريف، ثم قال: والمحبة تعريفُها هي المحبة، كلٌّ يُدرِك من نفسه معنى المحبة، فلا يحتاج إلى تعريف الكل يعرف.
حينئذٍ نقول: اللفظ مشترك ونرجع في معناه إن احتجنا إلى أن نعرِف معناه نرجع إلى لسان العرب؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب ولم يستثنِ يعني: لم يقل: هذه الأحكام الشرعية فسِّروها قولوا: الصلاة لغةً، والصلاة لها حقيقة شرعية.
وإذا جئنا عند الاستواء، وعند اليد، وعند النفس قلنا: هذه الله أعلم بها، كيف الله أعلم بها؟ كيف نفصِّل بين ما استوى ذِكْرُه في الكتاب والسنة، ولم يرِد حرفٌ واحد بأن نميز هذا عن ذاك، أعطني دليل؟ الكتاب واحد، وأعظم ما فيه ما يتعلق بذات الباري جل وعلا، أعظم من الصلاة، وأعظم من الزكاة، وأعظم من سائر الأمور المتعلقة بالأحكام الشرعية.
فكيف تأتي إلى هذه المسائل وتقول: الصلاة في اللغة كذا، ومعناها في الاصطلاح كذا، وخاطَبَنا الله تعالى بما نعلم، ثم تأتي بدلالة المطابقة والتضمُّن والالتزام، وتُجري قواعد لغة العرب على سائر الآيات التي تتعلق بالأحكام الشرعية.
وإذا جاءت الآيات الدالة على ما يتعلق بالباري جل وعلا، حينئذٍ انتفض؛ لأنه يقول: هذا ظاهره تشبيه، وإذا كان كذلك الله أعلم. فنأتي إلى تعليلات وأصول ما أنزل الله بها من سلطان.
إذاً "نرجع إلى مسألتنا" الوجود: له معنى في اللغة، فحينئذٍ له قدْرٌ مشترك في الذهن، هذان القَدران متحدان باعتبار الخالق والمخلوق، ولا إشكال فيه؛ لأن الذي أخبر عن نفسه بهذه الألفاظ هو الباري جل وعلا، وهنا هنا التسليم .. هنا التسليم أن تتكلم بما تكلم به الباري، وأن تُضيف إلى نفسه ما أضافه لنفسه. هذه هي الجرأة وهذا هو القبول، وهذا هو التسليم، وهذا هو الطاعة المطلقة.
وأما الدخول بالعقل وردّ ما قاله الله تعالى، هذا انحراف يعتبر، يعتبر ضلالاً.
القدر المشترك واللفظ لا إشكال فيه، ثم إذا أردنا الميْز والفصل .. إذا قلنا: وجود الله إذاً: امتاز وانفصل عن وجود المخلوق، بأي شيء؟ نقول: بالإضافة.
"وجودُ الله" عندنا مضاف ومضاف إليه وعندنا نسبة تقييدية، وجودُ زيدٍ عندنا مضاف ومضاف إليه ونسبة تقييدية.
لما حصلت الإضافة لأنه انتقل من الذهن إلى الخارج بالإضافة، أما وجود هكذا .. ليس عندنا معنى شيء نقول: هذا وجود، لا يتعلق بالباري، ولا بزيد ولا بعمرو، ولا ببيت، ولا بمسجد .. ولا غيره، ليس عندنا وجود؛ لأنه معنى كُلّي موجود في الذهن.
فحينئذٍ قبْلَ أن يضاف فمحلُه الذهن، باعتبار الأفراد في الخارج -خارج الذهن-، فحينئذٍ بالإضافة يمتاز كلٌ منهما عن الآخر.
إذاً: المراد هنا المشكك: أن اللفظ هو كُلّي وله معنًى، لا يمنع العقل من الاشتراك فيه، لكن أفرادُه لم تستوي، بل اختلفت بالشدة تارة كالبياض وسائر الألوان، وبالتقدُّم.
حينئذٍ الوجود .. واجب الوجود متقدَّم: كان الله ولم يكن شيءٌ ثَم معه، ووجود المخلوق هذا متأخر.
إذاً: وجودٌ ووجود، والمعنى الكلِّي موجودٌ في الذهن، وإنما انفرد في الخارج، ثم أحدُهما متقدم وهو وجود الباري جل وعلا مطلقاً، والوجود الممكن هذا متأخر.
قال: (وَإِمَّا جُزْئِيٌ) هذا يقال ماذا؟
(إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) يعني: هذا النوع الثاني من نوعي المفرد.
الأول: الكلِّي، وذكَر له تقسيمين باعتبارين:
الأول: باعتبار أفراده ووجودِها في الخارج وعدمِها.
والثاني: باعتبار الاستواء في أفراده وعدمِه.
انتقل إلى الجزئي قال: (وَإِمَّا جُزْئِيٌ).
قال في الحاشية: (أي: حقيقيٌ، بقرينة مقابلته بالكلي؛ لأن الجزئي قد يكون إضافياً "سيذكره الشارح" بالنسبة إلى أعم منه، مع كونه كُلِّياً بالنسبة إلى أخص منه كالحيوان فإنه جزئي "يعني: إضافي" بالنسبة إلى الجسم النامي، كُلّيٌ بالنسبة إلى الإنسان) هذا سيأتي ذكره.
(وذلك) أي: الجزئي (كعَلَم الشخص، والمعرَّف بأل) هذا نأتي به بعد أن نعرِّفه أحسن.
(وَإِمَّا جُزْئِيٌ) قال: (وَهُوَ) أي: الجزئي.
(وَهُوَ) أي: حقيقةُ الجزئي المفرد.
(الَّذِي) يعني: جنس، هذا شامل للجزئي والكلي.
(يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ ذلِكَ) المشار إليه هو قوع الشركة.
إذاً: ما يمنع تصوُّره وقوع الشركة، هذا نسميه جزئي.
ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. هذا يسمى كلياً.
إذاً: هما متقابلان: يمنع لا يمنع.
(وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ) يعني: ذات التصور، التصور هو المفهوم .. مفهوم الكلمة ومدلولها.
(يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ) تصور مفهومه يعني: مدلولِه.
(ذلِكَ) أي: وقوع الشركة فيه.
(بمعنى: أن الجزئي إذا تُصوِّر معناه وحصلت صورتُه في العقل، فإن تلك الصورة الحاصلة في العقل لا يصح فرض صِدقِها على كثيرين) بل لا تصدق إلا على واحد.
(فإنه يحصل مِن تعقُّلِ كل واحدٍ من الجزئيات صورةٌ مغايِرة للصورة المتعلقة من جزء آخر) وهو كذلك.
فإذا تصورتَ زيداً من الناس وقع في نفسك الذات التي سُمّيت بهذا، إذا تصورت معنى عمرو، حينئذٍ نقول: وقعَ في الذهن ذاتٌ مغايرةٌ لتلك الذات، ولذلك يختص الاسم بمسماه.
حينئذٍ نقول: اختص الاسم بمسماه، فلا يدخل تحت ذلك الاسم غيرُه البتة؛ لأنك لو جوَّزت كونه يدخل تحته لجوَّزت أن الذات تدخل في الذات. وهذا فاسد.
(هذا الاسم للمسمى) إذاً: المسمى محدود معيّن لا يشاركه غيره، فإذا أُطلق الاسم حينئذٍ انصرف إلى هذا الشخص دون غيره، إذا جوَّزت صدقه على آخرين حينئذٍ اتحدت الذوات؛ لأن المسمى -مسمى زيد- شيءٌ واحد، وهذا باطلٌ ولا وجود له البتة.
إذاً: (بمعنى: أن الجزئي إذا تُصوِّر معناه وحصلت صورتُه في العقل، فإن تلك الصورةَ الحاصلةَ في العقل لا يصح فرض صِدقِها على كثيرين، فإنه يحصل مِن تعقُّل كل واحدٍ من الجزئيات صورةٌ مغايرة للصورة المتعلقة من جزء آخر).
(كَزَيْدٍ) مثال (عَلَمًا) وهل هذا احتراز عَلماً؟ زيد: زاد يزيد زَيْداً، مصدر وإذا كان مصدر فهو كُلّي، ولذلك قال:(كَزَيْدٍ عَلَمًا) احترازاً من زيدٍ مصدراً، فإنه كُلّيٌ مثل عِلم، عِلم هذا مصدر وهو كُلّي، ضَرْب هذا مصدر وهو كُلّي.
إذاً: (كَزَيْدٍ) أي: كمثال زيد، أو وذلك كزيد يعني: جعْلُه خبراً لمبتدأ محذوف: وذلك كزيدٍ، والكاف هذه تمثيلية لا استقصائية، ما الفرق بين الاستقصائية والتمثيلية؟ من اسمها.
مثال، والمثال ليس محصوراً فيما ذُكر، والاستقصائية ما بعدها محصور، ولذلك قد يقال: بأن الخليلين -بالنسبة للباري جل وعلا- كإبراهيم ومحمد، الكاف هذه تمثيلية؟ إذا قلت: تمثيلية معناه: ثَم من هو خليلٌ للباري جل وعلا غير هذين، وإذا قلت: استقصائية بمعنى أنه لا يوجد إلا هذين.
فحينئذٍ تقول: الخليلان كإبراهيم ومحمد. الكاف هذه استقصائية.
أفضلُ الرسل على الإطلاق كمحمدٍ. يصح التعبير لا إشكال فيه.
فحينئذٍ "كمحمدٍ" لو قلنا: مثلَ محمدٍ الكاف تمثيلية، فحينئذٍ وقعنا في غلط وهو: أن ثَم مساوٍ للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بصحيح، فحينئذٍ تكون الكاف هنا استقصائية.
إذا كان ما بعدها محصوراً ولا يوجد مثال إلا المذكور فهي استقصائية، وإن كان ثم مثال آخر فهي تمثيلية.
هنا تمثيلية أو استقصائية؟ تمثيلية.
(كَزَيْدٍ عَلَمًا) قال: (لا مصدر لِزَاد فهو كُلّيٌ).
(فإن مفهومَه من حيث وضعُه له إذا تُصوِّر منَع ذلك).
(فإن مفهومه) أي: مفهوم لفظ زيد علماً، ومراد الشارح بمفهوم زيد حال كونه عَلماً، وهو ليس إلا الذات المشخَّصة. وهو كذلك.
فالمحدَّث عنه هو زيدٌ العلَم، وإضافة مفهوم للضمير (فإن مفهومه) إضافة مفهوم للضمير عهدية أي: مفهومه المعهود وهو الشخص.
يعني: ليس كونه ثلاثياً، أو مركباً من ثلاثة أحرف (ز، ي، د) وأنواع هذه الحروف، أو أنه على وزن فَعْل. ليس هذا المراد، إنما المراد من حيث المعنى ودلالتُه على شخصه وهو الذات المشخَّصة المعيَّنة المشاهَدة في الخارج. هذا المراد.
(فإن مفهومه) أي: ما يُعقل من اللفظ عند تصوره.
(من حيث) هذا تقييد.
(من حيث وضعُه) الضمير يعود إلى لفظ زيد.
(من حيث وضعه) يعني: وَضْع لفظ زيد.
(له) أي: لذلك المفهوم.
(إذا تُصوِّر) ذلك المعنى (منعَ ذلك) يعني: منعَ المشارَكة.
(ولا عبرة لما يعرِض له من اشتراكٍ لفظي) لأنك تقول: كم من زيد عندنا! كثير، فزيد وزيد وزيد، هل هذا كُلِّي؟ يصدُق على كثيرين.
هذا ويد، وهذا زيد، وهذا زيد. صدَق على كثيرين!
نقول: لا. المراد ما يمنع وقوع الشركة، ولذلك هناك في السلَّم قال: ما أفهم اشتراكاً الكُلّيٌ.
ما أفهم اشتراكاً. الاشتراك نوعان: اشتراكٌ لفظي واشتراكٌ معنوي.
الاشتراك اللفظي هو: ما اتحد لفظاً وتعدَّد وضعاً ومعنى.
والاشتراك المعنوي: ما اتحد في الثلاث .. ما اتحد لفظاً ووضعاً ومعنًى.
الذي يُعتبر قيداً في مفهوم الكلِّي أو الجزئي إثباتاً نفياً هو الاشتراك المعنوي، وأما الاشتراك اللفظي لا؛ لأن الاشتراك المعنوي اتحد وضعُه ومعناه، وأما الاشتراك اللفظي فتعدَّد وضعه. حينئذٍ لا يقال بأن زيد وزيد وزيد. هذه كلمة واحدة لا، هذه ثلاث كلمات، بخلاف: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان، بكرٌ إنسان. اللفظ واحد؛ لأنه لم يتعدد الوضع.
المعنى واحد متحد، ووُضِع إنسان مرة واحدة وضْعاً واحداً، ثم حُمِل على أفراده.
إذاً: هل تعدد؟ ليس عندنا تعدد لا في المعنى .. المعنى هو عينه، واللفظ واحد لم يتعدد.
إذاً: اتحد معناه، ووضعُه، ولفظه.
أما المشترك مثل: زيد وزيد وزيد. أولاً الذوات المعاني متحدة أو مختلفة؟ مختلفة.
ثانياً: الاشتراك اللفظي على الصحيح: أن لكل معنًى وضعاً خاصاً.
فوضع للذهب لفظ عين، ثم وضع مرة ثانية ليس هو عينٌ استعمل في غير معنى أو صار مجازاً، ثم وُضع مرة ثانية للذهب فسُمّيت عين، ثم وضع وضعاً ثالثاً .. إلى آخره.
إذاً: المعنى غير متحد، والوضع متعدِّد.
حينئذٍ إذا قيل: زيدٌ عَلماً. هذا جزئيٌ، يرِد إيراد بأن زيد متكرر في الأسماء: زيد وزيد وزيد نقول: لا. هذا اشتراكٌ لفظي، والاشتراك الذي يُعتبر هنا في أنه كُلّي هو الاشتراك المعنوي، وهذا منتفٍ في زيد.
الاشتراك الذي يكون في حقيقة الكلِّي هو الاشتراك المعنوي، لا بد أن يتحد المعنى والوضع لا يتعدد، بل هو واحد واللفظ واحد.
وهنا اتحد اللفظ نعم، لكن انتفى أمران وهو المعنى مختلف والوضع مختلف. إذاً: لا إيراد، ولذلك قال:(ولا عبرة لما يعرِض له) له الضمير هنا يعود لزيد.
(من اشتراكٍ لفظي) فلا يظن الظان أنه اشتراكٌ معنوي فيجعله في قبيل الكلِّي لا الجزئي، لا، بل هو جزئيٌ.
"نرجع إلى الحاشية" قال هنا: (وذلك كعلم الشخص) أراد أن يمثِّل هو مثَّل بزيد وهو علمٌ شخصي.
يعني: أمثلة للجزئيات التي تحكم عليه بأنه جزئيٌ.
(كعلم الشخص، والمعرَّف بأل التي للعهد الخارجي) يعني: لا الاستغراقية (والضمير، واسم الإشارة، والموصول بناءً على تحقيق السيد تبعاً للعضُد من أنها موضوعةٌ للجزئيات المستحضَرة بملاحظة كُلّيٍ يعمها).
(موضوعةٌ للجزئيات المستحضرة بملاحظة كُلّيٍ يعمها) يعني: هي في الأصل جزئية.
(أو ما يُعبّر عنها بأنها جزئيات وضعاً واستعمالاً) على القول الثاني ذكرناه فيما سبق، في الحرف، قلنا الحرف فيه ثلاثة أقوال، كذلك هذه المسائل كلها مختلفٌ فيها هل هي كُلِّيّات أم لا، وهي واسطة بين أمرين.
بعض المسائل أجمعوا على أنها كُلِّيّات، وبعضها أجمعوا على أنها جزئيات، وبعضها مختلفٌ فيها، والمذكور هنا مختلَف فيه.
والخلاف إما أن يُنظر إلى الأصل أو أنه يُنظر للاستعمال، والخلاف لفظي يعني: لا ينبني عليه شيء، ولكن نتفق على أن بعضها كالموصولات وغيرها أنها من قبيل العام، وله وجهٌ عند الأصوليين، لكن يبقى هل هي باعتبار الأصل؛ لأنها تصلح لكل شيء.
"الذي" ما قيَّدته، "الذي جاء أبوه" قيّدته، قبل التقييد "الذي" صالحٌ لكل شيء.
إذاً: هذا معنى الكلِّي، يعني: العقل لا يمنع أن نقول: جاء الذي مات أبوه، جاء الذي قام أبوه، جاء الذي سافر أخوه. ممكن.
إذاً: له أفراد فيُقيَّد بها؛ لأن الموصول يُعرَّف بصلته، حينئذٍ نقول: قبل الاستعمال قد يقال بأنها كُلّيّة، لكن إذا قيل: جاء الذي ضربتُه تعيّن هنا؛ لأن معناه جاء الشخص المعهود الذي أوقعتُ الضرب عليه، هذا صار جزئياً.
فالنظر هنا .. الخلاف ليس بخلافٍ له ثمرة "والله أعلم" هل هي جزئيات أم كُلِّيّات؟ لكن الموصولات باعتبار اللفظ العام هناك لها بحثُها عند الأصوليين.
قال: (على تحقيق السيد تبعاً للعضد من أنها موضوعة للجزئيات المستحضرة بملاحظة كُلّيٍ يعمها.
وأما المعرَّف بغير أل التي للعهد فكليٌ بأل التي ليست للعهد).
ومراده المعرَّف بغير أل التي للعهد المعرَّف بلام الاستغراق -هي من صيغ العموم-، والمعرّف بلام الحقيقة، والمعرّف بأل التي للعهد الذهني. هذه ثلاثة حكَم عليها بأنها كُلِّيّات؛ لأنه قال:(وأما المعرَّف بغير أل العهدية) أما أل العهدية فهي جزئي.
المعرَّف بغير أل العهدية ذكَر العطار ثلاثة أنواع:
أولاً: الاستغراقية.
ثانياً: المعرَّف بلام الحقيقة.
استغراق فحينئذٍ تكون كُلّيّة.
والمعرَّف بلام الحقيقة "الرجل خيرٌ من المرأة" الرجل يصدق على زيد، عمرو .. إلى آخره، وإن قُصِد حقيقته.
الثالث: المعرَّف بأل التي للعهد الذهني. يعني: يصدق على الكل، إلا إذا كان ثم معهودٌ .. إذا كان ثم معهود فحينئذٍ تكون عهدية "اذهب إلى السوق" فحينئذٍ هذا صار معرَّفاً، لكن أل هنا وإن كانت للذهن إلا أنها منصرفة إلى المعهود. أيَّ سوق؟ الذي تعرِفه أنت .. وهكذا.
قال هنا: (وأما المعرَّف بغير أل التي للعهد فكليٌ. كاسم الجنس) هذا كأسد اسم الجنس (والنكرة رجل وأُنثى وإنسان، وعَلم الجنس كأسامة. لوضع الطرفين للحقيقة).
(لوضع الطرفين) أي طرفين؟ اسم الجنس وعلم الجنس، والنكرة وسطٌ.
(لوضع الطرفين للحقيقة من حيث تعيُّنها في علم الجنس دون اسمه، والنكرة للفرد المنتشر).
إذاً الخلاصة: فيما يُحكَم عليه بأنه جزئيٌ نقول: يُنظر إلى المعنى، وأما الاستعمال فلا يكاد أن يكون هذه المذكورات إلا وهي مستعملة في الجزئيات، إلا ما استثناه من أل وما تدل عليه الموصولات من العموم.
قال هنا: (جزئياتٌ وضعاً واستعمالاً، وعلى ما ذهب إليه السعد تبعاً للمتقدمين: هي كُلِّيّات وضعاً، جزئيات استعمالاً).
يعني: عكْس ما ذهب إليه العضُد (جزئيات وضعاً واستعمالاً) ليس عكس، بل هو وافقه في الاستعمال، وخالفه في الوضع.
والشُّبْهة أو العِلَّة: لصلاحيته لكل شيء، فحينئذٍ هذا معنًى كُلّي، هل تقول: هو جزئي لأنه لا يُستعمل إلا في جزئي، وهذه الصلاحية ليست مراداً؟ يحتمل هذا وذاك.
قال هنا: (وقدَّم الكلِّي على الجزئي؛ لأن قيوده -أي: الكلِّي- عدمية).
قيود .. ليس عندي إلا قيد واحد: ما لا يمنع، ولذلك قال هنا: لأن قيوده "أي: الكلِّي" أي جنسُها الصادق بواحدٍ وهو المراد.
قال العطار: أراد بالقيود مطلق النفي في قوله: (لا يمنع .. ) إلى آخره.
(من النفس، والتصور، والمفهوم) هذا فيه تكلُّف لأن الجملة واحدة: ما لا يمنع نفس تصور مفهوم .. قال: القيود هنا باعتبار النفس، والتصور، والمفهوم.
نقول: لا. ليس لوحدها النفس ولا التصور ولا المفهوم، وإنما المراد به أن قيوده الكُلّي هذا جمعٌ أو جنسُها الصادق بواحدٍ منها فقط.
قال هنا: (فباعتبار تسلُّط النفي على أمور متعددة كان كل واحدٍ منها قيدٌ، وإلا فعدم المنع قيدٌ واحد، والمراد بكونه عدمية: أن العدم هو معتبر في مفهومها وضمير قيوده يعود للكلي).
إذاً: لأن قيوده أو قيْدَه عدميٌ؛ لأنه لا يمنع بخلاف غيره.
قال: (نظير ما مر) أين؟ هناك في المفرد والمركب (لأن قيوده عدمية) أي: مشتملة على النفي.
(نظير ما مر) ما سبق في المفرد والمؤلَّف.
أي: في توجيه تقديم المفرد على المؤلَّف.
(ولأنه) العِلَّة الثانية أي: الكلِّي.
(ولأنه المقصود بالذات عند المنطقي) هو هذا الأصل أنه مقصودٌ بالذات عند المنطقي؛ لأننا قلنا: قسَّم التقسيم الكلِّي السابق اللفظ: إما مفرد وإما مؤلَّف، ثم قسَّم المفرد إلى كُلّي وجزئي، ثم سيقسِّم الكلِّي إلى ذاتي وعرضي، ثم يقسّم الكلِّي بهذين الاعتبارين إلى الكُلِّيّات الخمس.
إذاً: النتيجة هي الكُلِّيّات الخمس، وكل ما يخدِم ويكون وسيلة للوصول إلى حقائق الكُلِّيّات الخمس فهو داخل، وما عدا ذلك فهو خارج.
إذاً: الكلِّي هو المقصود وليس غيره.
ولذلك قال: (ولأنه) أي الكلي (المقصود بالذات عند المنطقي).
(لأنه) يعني: الكلِّي (مادة الحدود) يعني: التعاريف.
(والبراهين) يعني: الحُجة.
(والمطالِب) يعني: النتائج.
قال العطّار: لأن الحدود تتركب منه، وكذا الأقيِسة لأنها تتركب من القضايا، والمحمول في القضايا الحمْلية لا بد وأن يكون كُلّياً على نزاعٍ في ذلك، فهو مادةٌ للحدود حقيقة، وجزء مادة في الأقيِسة، والمطالب هي النتائج وهو جزءٌ حقيقةً فيها، بناءً على أن المحمول لا يكون إلا كُلّياً.
وهذا فيه خلاف، لكن هذا المشهور عند المناطقة.
إذاً: قدَّم هنا الكلِّي على الجزئي لهذين الأمرين:
أولاً -ليتَه قدَّمه-: لأنه هو المقصود بالذات في هذا الموضع.
ثانياً: لأن قيوده عدمية.
ثم قسّم الكلِّي باعتبار أنه داخلٌ في الذات "في الماهية" أو لا، إلى: ذاتي وعرضي.
قال: (وَالْكُلِّىُّ: إِمَّا ذَاتِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ.
وَإِمَّا عَرَضِيٌّ).
(إِمَّا ذَاتِيٌّ، وَإِمَّا عَرَضِيٌّ).
(الذاتي منسوبٌ إلى الذات بمعنى الحقيقة لا بمعنى صاحبَ).
تأتي ذات مؤنث ذو بمعنى: صاحبة، لكن المراد هنا الحقيقة.
(الذاتي منسوبٌ إلى الذات بمعنى الحقيقة لا بمعنى صاحب، ولذلك أُدخلت عليها أل وأُفردت عن الإضافة) قيل: الذات (واستعمالها بهذا المعنى واردٌ في كلام العرب.
قال خبيب: وَذَلكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ، وَإِن يَشَأْ .. ) إلى آخره يعني: في جنب.
(وفي القاموس قوله تعالى: ((ذَاتَ بَيْنِكُمْ)) [الأنفال:1] أي: حقيقة وصلِكم، وبه فسَّرها الواحدي).
((ذَاتَ بَيْنِكُمْ)) [الأنفال:1] أي: حقيقة وصلِكم إذاً: فسرها بالحقيقة.
(لكن قوله في النسب: ذاتيٌ)(وَالْكُلِّىُّ: إِمَّا ذَاتِيٌّ) هذا فيه إشكال.
(لا يجري على القياس إلا إن جُعِلت التاء أصلة وهو خلاف الظاهر) إن جُعلت أصلية يعني: لا للتأنيث صح، وإلا هو خلاف الظاهر.
(ومقتضى صنيع القاموس أنها زائدةٌ، وعليه فالقياس أن يقال: ذوَوِيٌ) بِرَد المحذوف، ذات مؤنث ذو. وإذا كان كذلك فحينئذٍ يرجع الأصل يقال: فتَوِيٌ، كذلك تقول هنا: ذوويٌ.
(وَالْكُلِّىُّ: إِمَّا ذَاتِيٌّ).
قال هنا صاحبنا المحشِّي: (اعلم أن الكلِّي إذا نُسِب إلى ما تحته من جزئياته فإما: أن يكون تمام ماهيتها كالإنسان، أو داخلاً فيها).
تمام الماهيّة هذا الذي يسمى بالنوع.
(أو داخلاً فيها كالحيوان والناطق) يعني: كالجنس والفصل.
(أو خارجاً عنها كالضاحك والماشي. والأوَّلان ذاتيان) الذي هو ماذا؟
هو ذكر ثلاثة أشياء: (فإما: أن يكون تمام ماهيتها كالإنسان) هذا أولاً.
(أو داخلاً فيه) هذا الثاني، دعك من الأمثلة.
(أو خارجاً عنها) ثلاثة أشياء.
(الأولان) يعني: تمام الماهيّة وهو النوع، والداخل فيها وهو الجنس والفصل قال:(ذاتيان).
(والثالث) الذي هو خارجٌ عنها (عرضيٌ).
وعلى هذا فالذاتي ما ليس بخارجٍ، والعرضي الخارج، فتدخل الماهيّة في الذات وهو أحد اصطلاحاتٍ ثلاثةٍ للمناطقة، وسيأتي بقيتُه.
قال: (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ)(كالحيوان الناطق).
تركنا كلمة فيما سبق قوله: (لأنه مادة الحدود والبراهين والمطالب بخلاف الجزئي، فإن قيوده ليست عدمية؛ ولأنه ليس مقصوداً بالذات عند المنطقي).
(بخلاف الجزئي) خبر مبتدأ محذوف.
(أي: وهو أن الكلِّي ملتبسٌ بخلاف الجزئي أي: بمخالفته في هذه الأمور من جهة أن قيوده وجودية، وأنه ليس مقصوداً بالذات، وأنه ليس مادة الحدود والبراهين، فهو ليس من مباحث هذا الفن أصلاً، وإنما تعرَّضوا لتعريفه؛ لأن مفهومه ملكة، ومفهوم الكلي عدمٌ يتوقف تصوره على تصورها).
قال: (وَهُوَ) أي: الذاتي .. الكلِّي الذاتي (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ).
(يَدْخُلُ) هنا نص على أن الداخل في حقيقة الجزئيات يسمى ذاتياً.
قوله: (فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) الجزئيات المراد بها هنا: الأنواع. بخلافها في النوع كما سيأتي، لأن المراد بها الأفراد.
(فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ)(المراد بها الأنواع. بدليل التمثيل وهو جزئياتٌ إضافية، فإن الجزئي كما يُطلق على المعنى السابق) ما يمنع .. إلى آخره (يُطلق على كل أخص تحت أعم).
يعني: الذي يسمى الجزئي الإضافي، هو كُلّيٌ باعتبار ما تحته كالإنسان مثلاً، الإنسان يصدق على الذكر والأنثى، والذكر زيد، وعمرو .. إلى آخره، والأنثى هندٌ، وفاطمة .. إلى آخره.
هذا يُعتبر كُلّياً الإنسان، لكن باعتبار الحيوان فهو جزئيٌ، باعتبار الأفراد تحت الإنسان الأفراد نقول: هو كُلّيٌ. وهو جزئيٌ باعتبار دخوله تحت أعم .. هو أخص تحت أعم، يُطلق على كل أخص تحت أعم.
قال: (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) وهذا إنما يشمل الفصل والجنس فقط؛ لأنه هو الذي يدخل.
أما النوع فلا يدخل، النوع هو تمام الماهيّة يعني: الحيوان الناطق مركّبة هكذا نسميه نوعاً، تمام الماهيَّة .. كمالُ الماهيّة، فهو ليس بداخل ولا بخارج هذا هو الصحيح فيه. النوع ليس بذاتي ولا بعرضي؛ لأن الذاتي الداخل، والعرضي الخارج.
فحينئذٍ النوع ما حقيقته؟ باتفاق عندهم أنه تمام الماهيَّة يعني: كمالُها المركَّبة والمؤلَّفة من الحيوان الناطق. هل هو داخل؟ لا؛ لأنه ليس هو بالحيوان وليس هو بالناطق، هل هو خارجٌ؟ الجواب: لا. إذاً: ما ليس بداخلٍ ولا بخارجٍ هذا لا يقال بأنه ذاتيٌ ولا عرضي.
وهذا هو الصحيح في النوع، وهو الذي يوافق العقل والنظر هنا .. أنه يقال بأنه لا ذاتيٌ ولا عرضي، لكن بعضهم أدخله في الذاتي على تأويلٍ، وبعضهم أدخله في العرضي على تأويل، فالأقوال في النوع ثلاثة، وإلا باتفاق أن الجنس .. قال الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: الجنس والفصل ذاتيان بلا خلاف، والخاصة والعرَض العام عرَضِيان بلا خلاف.
هي الكُلِّيّات خمسةٌ .. هي خمسة. إذاً: أربعة مجمعٌ عليها: الجنس والفصل ذاتيان بلا خلاف، والخاصة والعرَض العام عرَضيان بلا خلاف.
بقي النوع، وفيه ثلاثة مذاهب: أنه ذاتيٌ بناءً على أن كل ما ليس بخارجٍ عن الذاتي فهو ذاتي.
يعني: أحدَثوا تعريفاً للذاتي من أجل إدخاله، قالوا: بناءً على أن كل ما ليس بخارجٍ عن الذاتي فهو ذاتي.
لو أردنا أن نعرّف الذاتي قلنا: الذاتي ما ليس بخارجٍ. بهذا اللفظ: ما ليس بخارجٍ، ماذا يشمل؟
الجنس، والفصل، والنوع.
دخل فيه النوع؛ لأن النوع ليس بخارج، والجنس والفصل واضحان.
النوع ليس بخارج وهو قطعاً ليس بخارج.
إذاً: إذا أردنا أن نجعل النوع ذاتياً فحينئذٍ نقول: الذاتي ما ليس بخارج.
فحينئذٍ ما ليس بخارجٍ يدخل تحته النوع والجنس والفصل؛ لأن النوع ليس بخارج.
ولذلك قال: (إنه ذاتيٌ؛ بناءً على أن كل ما ليس بخارجٍ عن الذات فهو ذاتي).
(القول الثاني: أنه عرضيٌ؛ بناءً على أن كل ما لم يدخل في الذاتي فهو عرضي).
وتمام الماهيّة لم يدخل في الذاتي فهو عرضي.
إذاً: ما تعريف العرَضي؟ ما ليس داخلاً في الذات.
إذاً: شمِل الخاص، والعرض العام، والنوع؛ لأنه ليس داخلاً في الذاتي.
(الثالث) قال: (وهو أقربها إلى الواقع أنه ليس بذاتيٍ ولا عرضيٍ لأنه تمام الماهيّة، فليس جزءاً منها حتى يكون داخلاً فيها.
ومعلومٌ أن الماهيّة لا يمكن خروجه عنها حتى يكون عرضياً) وهو كذلك.
إذاً: قوله هنا: (الَّذِي يَدْخُلُ) هذا نفهم منه أن النوع ليس بذاتي.
قال: (الَّذِي يَدْخُلُ)(هذا إنما يشمل الفصل والجنس؛ لأنهما يدخلان في حقيقة ما تحتهما من الأفراد، فلم يشمل كلامُه النوعَ كالإنسان مثلاً، لأنه حقيقتُه ما تحته من الأفراد).
(لأنه) يعني: الحال والشأن.
حقيقةُ النوع (ما تحته من الأفراد.
فلم يوصَف بكونه داخلاً إلا بنوع تكلف) يعني: من أدخله في الذاتي لا بد أن يتكلَّف على التعاريف السابقة. يقول: العرضي ما ليس بخارجٍ، إذا: الذاتي ما ليس بداخل وما كان تمام الماهيّة، من باب نوع تكلُّف.
(بأن يراد بالدخول عدم الخروج، فبقي داخلا في تعريف العرضي وهو ما لا يدخل .. ) إلى آخره.
(فيكون النوع على هذا عرضياً، كما سيقول الشارح فيخالفُه ما سيأتي للمصنف من تقسيمه الذاتي إليه وإلى الجنس، ولعل الأحسن في الجواب أن يقال: إنه جرَى على الاصطلاحين).
يعني: هنا المصنف -صاحب المتن الذي قال-: (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) في ظاهر كلامه أن النوع ليس بذاتي، بل هذا الظاهر، وسيأتي أنه يقسِّمه -الكُلّي الذاتي- يقسّمه إلى جنس وفصل ونوع، كيف أدخَله وكيف أخرَجه؟
جرى على الاصطلاحين. يعني: لا يلتفت إلى كونه ذاتياً أو عرضياً؛ لأنه لا ينبني عليه شيء، فجرى على اصطلاحٍ في موضع عند تعريف الذاتي، وأخرَج النوع، ولما جاء يقسِّم الكلِّي الذاتي قسّمه إلى النوعي، كيف أنت أخرجتَه ثم قسّمته؟ هذا تعارُض.
الجواب: أنه لا يُحرَّر في هذه المسألة؛ لأنه لا ينبني عليه كبير علمٍ بما يتعلق بما سيأتي، فقد يجري على اصطلاح في موضع ويجري على اصطلاح آخر في موضع آخر كما هو الشأن في المفرد الذي سبق معنا.
قال: (كَالحَيَوَانِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ)(فإنه داخلٌ فيهما).
(كَالحَيَوَانِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ)(فإنه) أي: الحيوان.
(داخلٌ فيهما) أي: الإنسان والفرس. لماذاظ
(لتركُّبِ الإنسان من الحيوان والناطق) فنقول الإنسان حيوان ناطق.
إذاً: حيوان هذا كُلّي ذاتي وهو جنس؛ لأنه يدخل في حقيقة جزئياته، كيف نقول إذا أردنا الإنسان ما تعريفه؟ حيوانٌ ناطق. إذاً: دخل .. صار جزءاً؛ لأن الإنسان ليس هو الحيوان فقط، وليس هو الناطق فقط وإنما هو حيوانٌ ناطق. إذاً: جزءه الذي تألّف وتركب منه هو الحيوان.
(فإنه داخلٌ فيهما لتركُّبِ الإنسان من الحيوان والناطق، والفرس من الحيوان والصاهل) ما هو الفرس؟ تقول: الحيوان الصاهل. إذاً: الحيوان هذا يعتبر كُلّياً.
ثم هو كُلّيٌ ذاتي؛ لأنه يدخل في الماهيّة .. في الحقيقة فيكون جزءاً منها.
قال: (وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ) أي: يخالف الذاتي.
(أي: لا يدخل في حقيقة جزئياته) الأول هو الذي يدخل، والثاني يخالفه يعني: الذي لا يدخل.
(أي: لا يدخل في حقيقة جزئياته، فهو من إطلاق الأعم وهي المخالَفة على الأخص وهي المناقَضة بقرينة المقابلة.
واصطلاحُ المناطقة: أن المخالِف ما يمكن اجتماعُه مع مقابله كالضحك والقيام، وما لا يمكن اجتماعه معه لا يسمونه مخالفاً بل مناقضاً، فكان الأولى للمصنف أن يقول: ما يناقضه) بدل أن يقول: (وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ) والذي يناقضه.
(وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ)(أي: لا يدخل في حقيقة جزئياته) يعني: ليس داخلاً في الماهيّة. مثل ماذا؟
(كَالضَّاحِكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ) يعني: الإنسان لم يتألف من القوة التي تصدُر عنها الضحك.
حينئذٍ نقول: الضاحك والماشي وأيُّ صفة تتعلق بالإنسان يختص بها ليست داخلة في الأصل في ماهيته وحقيقته.
فكل ما لم يكن داخلاً فهو عرضي، فالطول والعرض والسِمَن واللون .. كل هذه تسمى أعراضاً وليست داخلة في الماهيّة.
ولذلك اختلافُها لا يؤثر في الحقيقة، فنقول: الإنسان زيدٌ إنسان، وبكرٌ إنسان. نقول: الحقيقة واحدة، كيف الحقيقة واحدة وهذا طويل وهذا قصير؟
الحقيقة واحدة وهي كونه حيواناً ناطقاً، لا يختلفان هي بعينها، لكن هذه الأشياء الزوائد هذه تعتبر مشخِّصات .. تعتبر من الأمور العرَضية فهي خارجة عن الأصل، ولذلك الطويل يعيش والقصير كذلك يعيش.
(كَالضَّاحِكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ)(لِما مر أنه مركبٌ من الحيوان والناطق).
(لما مر) من أنه يعني .. يعني الإنسان.
(مركبٌ من الحيوان والناطق) عرَفنا الحقيقة والماهية التي يتألف منها الإنسان، وليس منها الضحك مؤلَّفٌ لما مر أنه مركبٌ -يعني: حقيقتُه وماهيته- مؤلفاً من جزأين لا ثالث لهما، وكل جزء هو جزء الماهيّة داخلٌ فيها.
فالماهية تألفت من جزأين اثنين فقط: حيوانٌ ناطق. هل بينها ضحك؟ لا.
إذاً: يوجد الحيوان الناطق دون هذا الوصف، وهذا من أهم الفوارق بين الذاتي والعرَضي: أن الذاتي لا ينفك، لا يوجد إلا بوجود جزئياته الذاتية، وأما العرَضي فلا، يمكن أن يوجد أن يكون ضاحكاً، ولذلك قد يولد أخرس، قد يولَد أعمى، قد يولد مسلوب العقل. وهو إنسان؟ وهو إنسان، ناقصٌ في إنسانيته عن ذاك الذي يرى ويبصر ويفكِّر؟ لا. ليس ناقصاً، الحقيقة هي بعينها نفسِها.
لكن هذه أعراض بمعنى أنه يوجد دون أن يُبصر، يوجد دون أن يكون معه عقل .. إلى آخره.
قال: (لما مر أنه مركب من الحيوان والناطق، فالضاحك خارجٌ عنه) عن الإنسان.
(وعلى هذا) يعني: الذي تقرَّر .. قول المصنف: الذاتي هو الذي يدخل، والعرضي هو الذي يخالفه.
(فالماهية عرَضية) ما المقصود بالماهية؟ يعني: تمام الماهيّة، لو قال: تمام الماهيّة لكان أولى.
(فالماهية) يعني: تمام الماهيّة وهو النوع.
(فالماهية عرَضية) أي: الحقيقة النوعية (عرضية).
(وقد يُطلق الذاتي على ما ليس بعرضي).
(فالماهية عرضية) عرفنا الخلاف الذي أوردناه فيما سبق من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى.
ثم قال: (وقد يُطلَق الذاتي على ما ليس بعرضي) قال العطار: هذا مختار الشيخ الرئيس، جمَع بين وصفين: الشيخ الرئيس.
فالذاتي عنده ما ليس بعرضي ..
أنا قلت لكم فيما سبق: العطَّار حواشيه جيدة، لكن عنده تعظيم للمتقدمين، والأولى أن يقال: بأن المنْطِق ما دام أنه استُعمل في الشرعيات لو تُصرِّف في بعض المصطلحات لا إشكال فيه. يعني: أسْلَمَةُ المنْطِق لا إشكال فيها.
فإذا عُدِّلت بعض المصطلحات لا إشكال فيها، لا نقول: لماذا خالفت الرئيس.
انتبهوا لهذا؛ لأني أحياناً أُثني على بعض الكتب فيأخذها الطالب على عماها هكذا، نقول: لا. انتبه يعني، هو فيه تحقيقات وفيه نقول وفيه أشياء جيدة، لكن عنده هذه الميزة في جميع حواشيه .. عنده شيءٌ من التعصب للمتقدمين.
ولذلك يشن حملة على المتأخرين يقول: ما فهموا، هذا من قلة الفهم، من قلة العقل، عمى البصيرة، خبط خبط عشواء .. عنده هذه الألفاظ كابن حزم هناك رحمه الله.
قال: (وقد يُطلق الذاتي على ما ليس بعرضي فتكون الماهيّة ذاتية).
قال العطّار: هذا مختار الشيخ الرئيس. يعني: يُطلق الذاتي على ما ليس بعرضي، ما هو الذاتي؟ ما ليس بعرضي.
وعليه ينبني إذا قيل: الذاتي ما ليس بعرَضي يعني: ما ليس بخارج، هذا التعبير لو قال: ما ليس بخارج لكان أولى، ولذلك أظن علَّق عليه.
الأولى بخارجٍ وهو المشهور يعني: الذاتي تعريفُه ما هو؟ على ما ليس بعرضي يعني: ما ليس بخارج، وما ليس بخارجٍ دخَل النوع في الذاتي.
قال: هذا مختار الشيخ الرئيس -يعني: النوع يكون ذاتياً- فالذاتي عنده ما ليس بعرضي.
وبقي قولٌ ثالث: (وَالذَّاتيُّ)(الذاتي جزءُ الماهيّة، والعرضي الخارج عنها) وحينئذٍ تكون قِسمة الكلي مثلَّثة، وأما على رأي الشيخ في الشفاء فمثناةٌ.
قال: (واعتُرض بأن الذاتي منسوبٌ إلى الذات، فلو كانت ذاتية لزم نسبة الشيء إلى نفسه) يعني: كيف يقال: تمام الماهيّة بأنها ذاتية؟ يعني اعتراضٌ على التعريف الأخير بكون النوع ذاتياً.
قال: (واعتُرض بأن الذاتي منسوبٌ إلى الذات).
قال العطَّار: أصلُه يعني: هذا الاعتراض للشيخ الرئيس، فإنه قال في الشفاء: هاهنا موضعُ نظرٍ، فإن الذاتي ما له نسبةٌ إلى ذات الشيء، ولذلك قلنا: ذاتيٌ نسبة إلى الذات فيما سبق وهذا لا إشكال فيه، لكن الذات بمعنى الحقيقة لا بمعنى صاحبَ.
(وذات الشيء لا يكون منسوباً إلى ذات الشيء) يعني: لا ينسب إلى نفسه، وإنما يُنسب إلى غيره، فإذا قلت: النوع ذاتي، وهي تدل على الحقيقة.
فحينئذٍ إذا قلت: ذاتيٌ نسبتَه إلى نفسه.
قال: (وذاتُ الشيء لا يكون منسوباً إلى ذات الشيء، بل إنما يُنسب إلى الشيء ما ليس هو، وأجاب: بأن الذاتي وإن دل على النسبة بحسب اللغة، لكن لا كلام فيه).
يعني: ذاتيٌ كونك أخذت بأنه منسوبٌ إلى الذات هذا من جهة اللغة، ونحن نبحث في اصطلاحات، سمّيناه ذاتياً، عرضياً .. لا إشكال، أنت نظرت إلى النسبة فقلت: ذاتيٌ منسوبٌ إلى الذات، أنت رجعت إلى اللغة، ونحن نبحث في المصطلحات وفي معاني المصطلحات، فلا دخل للغة في ذلك البتة.
ولذلك قال: (وأجاب: بأن الذاتي وإن دل على النسبة بحسب اللغة، لكن لا كلام فيه، وإنما الكلام فيما وقع عليه الاصطلاح وهو لا يشتمل على النسبة أصلاً).
يعني: ذاتيٌ هكذا كما قال المحشي فيما سبق: كُلّيٌ. الياء ليست زائدة وإنما هي كياء الكرسي.
هنا ذاتيٌ على كلامه في الجواب أنها تعتبر أصلاً، لكن في أصل استعمالها هي منسوبة، لكن هذا مجرد اصطلاح.
إذاً: اعتُرض بأن الذاتي "بياء النسبة" منسوبٌ إلى الذات.
(فلو كانت ذاتية لزم نسبة الشيء إلى نفسه، وأُجيبَ: بأن هذه التسمية اصطلاحية لا لغوية) والبحث السابق لغوي.
(وأُجيبَ) جواب آخر (بأن الذات كما تُطلق على الحقيقة تُطلق على مصدَقها ويمكن نسبة الحقيقة إلى مصدقها) يعني: كما تُطلق الذات على الحقيقة تُطلق على الأفراد، وقد تنسِبها إلى الحقيقة وقد تنسِبها إلى الأفراد ولا إشكال فيه، قد تكون النسبة باعتبار المصدَق يعني: ما تصدق عليه وهو الأفراد.
وقد تكون باعتبار الحقيقة، ولذلك قالوا بأن الذات كما تُطلق على الحقيقة.
قال العطّار: الجواب الأول "يعني قوله: بأن هذه التسمية اصطلاحية لا لغوية" هذه مَنَعَ تحقُّق النسبة.
يعني: منع أولاً ثم سلَّم، على الطريقة المعهودة، أمنع .. إن سلَّمتُ.
حينئذٍ: بأن هذه التسمية اصطلاحية لا لغوية أمنع النسبة، ولذلك قال: منع تحقق النسبة.
(وهذا الجواب -وبأن الذات لو سلَّمنا بأن النسبة موجودة- وهذا الجواب بتسليمها وتحقيق وجود المنسوب والمنسوب إليه، كما تُطلق على الحقيقة تُطلق على مصدقِها) يعني: الأفراد والجزئيات التي تصدق الماهيّة عليها.
قوله: (مصدقها) هذه مؤلفة ومركبة من (ما صدق) اسم موصول وفعل ماضي صَدَق.
قوله: (على مصدقِها) تصرَّف المناطقة في هذا، فجعلوا اللفظين بمنزلة كلمة واحدة، وأدخلوا الجار عليه وجرُّوه به، وأصله مركب من ما الموصولة، وصدَق فعلٌ ماضي.
ما صَدَق عليه اللفظ، هذا أصل التركيب.
"زيدٌ وعمرٌ وبكرٌ" ما صدق عليه لفظ إنسان يعني: الذي حُمِل عليها، فالصدق هنا المراد به الحملُ، فإذا قلت: إنسان يصدُق على زيد وعمرو، كأنك قلت: يُحمل على زيد وعمرو .. يصدق على زيد وعمرو.
بل يصدق أولى؛ لأن الصِّدق هنا المراد به: ما يُحمِل حملَ مواطئةٍ.
ولذلك يُستنكَر إذا قيل بأن يُحمَل على أفراده، هذه كلمة فيها شيءٌ من السَّعة؛ لأنك إذا قلت: يُحمل. دخل معنا الحمْل بنفسه وبالاشتقاق وبالإضافة.
لكن إذا أردت التحرير وأردت أن المراد هنا حمل المواطئة قل: صَدَق؛ لأنه ما صدق على أفراده يعني: حُمِل عليه حمل مواطئة، ولا يدخل معنا هنا الاشتقاق والإضافة فهو أولى.
قال: (وأصلُه مركب من ما الموصولة، وصدَق فعلٌ ماضي أي: ما صدق عليه الماهيّة) يعني: من الأفراد.
(والصدقُ بمعنى الحمل) على التفصيل الذي ذكرناه.
(فمصدوق الموصول على صلته الأفراد، فإن تلك الأفراد تُحمل على الماهيّة كزيدٍ وعمرو .. إلى آخره.
فإنه يقال: زيدٌ إنسان، وعمروٌ إنسان .. إلى آخره.
فعلى هذا تُفتح القاف في صدقَ) في "ما صدق"، ونحن نختصرها "المصدق" نقول، سمعتُها من مشايخ هكذا، وإلا الأصل نقول: ما صَدَق على أنه ماضي، لكن إذا تصرفوا فيه وركَّبوه جعلوه كلمة واحدة، إذاً: نُجري عليه الأحكام يعني: نجرُّه بحرف الجر، ثم ما صدقِ نأتي بالكسرة، وقد قيل به -والله أعلم- فيما أذكره.
لكن على كلٍ أصله هذا، والمراد بها: ما يُحمَل على الأفراد، جرَرْتَها أم أبقيتُها لا إشكال فيه، لكن هي منقولة. يعني أصلها مركَّب، أصلها كلمتان:(ما) و (صدق)، ثم مُزِجت وجُعلت كلمة واحدة، لك أن تعتبر الأصل في الإعراب ولك أن تعتبر ما آل إليه الوضع بعد ذلك.
تقول: على الما صدقِ.
إن قلنا بكلام العطار أنه تُفتح القاف دائماً على الما صدقَ، فكيف أدخلت على؟ أنت جعلتها كلمة واحدة، فإذا أدخلت (على) معناه أنك تصرفت في الكلمة تصرف المفرد.
إذاً: جُرها بالكسرة، ولا إشكال فيه. على كلٍ خلافٌ لفظي.
(كما تُطلق على الحقيقة تُطلق على مصدقِها، ويمكن نسبة الحقيقة إلى مصدقها) يعني: إلى الأفراد والجزئيات التي تصدق الماهيّة عليها.
إذاً: الكلِّي إما ذاتي وإما عرضي.
الذاتي دخل فيه الجنس والفصل؛ لأنه حدَّ ذاتي بالذي يدخل في جزئياته .. داخل، والعرضي بخلافه: ما ليس بداخل.
وحينئذٍ شمِل الخاصَّ والعرض العام، بقي النوع على الخلاف المذكور.
والصواب أن نقول: لا ذاتيٌ ولا عرضيٌ. والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: (ثم أَخذ في بيان الكُلِّيّات الخمس، وبدأ بالذاتي منها) الكُلِّيّات الخمس وعرفناها على جهة الإجمال.
قال الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: الكُلّي إما أن يكون تمام الماهيّة أو ليس بتمامها. ما كان تمام الماهيّة فهو النوع.
فإن كان تمام الماهيّة فهو النوع، وإن كان غير تمامها فهو إما داخلٌ فيها وإما خارجٌ عنها.
إذاً: إما تمام الماهيّة أو ليس بتمامها.
الأول: النوع.
ثم إن كان غير تمامها "الذي هو الثاني" إما داخلٌ فيها وإما خارجٌ عنها.
فإن كان داخلاً فيها فلا يخلو: إما أن يكون أعم منها -وهذا شأن الجنس-.
وإما أن يكون مساوياً لها.
فالأول الجنس، والثاني الفصلُ.
وإن كان خارجاً عنها فلا يخلو أيضاً: من أن يكون أعم منها أو مساوياً لها، -الأعم هو العرض العام-.
فإن كان أعم منها فهو العرض العام، وإن كان مساوياً لها فهو الخاصةُ. هذا ذكره في بيان وجه الحصرِ في هذه الخمسة.
قال العطار: وجه الحصر بأن الكلِّي إما أن يكون ذاتياً أو عرَضياً. يعني: جاء باعتبار التصنيف الذي ذكره المصنف.
فإن كان ذاتياً فإما أن يدل على الماهيّة أو لا يدل.
فإن كان دالاً على الماهيّة المشتركة فهو جنس، وإن كان دالاً على الماهيّة المختصة فهو نوع، وإن لم يدل على الماهيّة فلا يجوز أن يكون أعم الذاتيات المشتركة، وإلا لدل على الماهيّة المشتركة، فتكون أخص منه فهو فصْلٌ صالحٌ للتميز عن بعض المشارِكات في أعم الذاتيات.
وإن كان عرضياً فإما أن لا يكون مشترَكاً فيه فهو الخاصة، أو يكون فهو العرَض العام، كلام الشيخ الأمين أوضح من هذا.
قال: (ثم أخذ في بيان الكُلِّيّات الخمس، وبدأ بالذاتي منها). لماذا؟ (لأنه العمدة منها فكان الأنسب أن يقدِّم النوع أو يؤخِّرَه) بناءً على أن النوع ذاتي.
(ويقارِن بين الجنس والفصل) لأنه فصَل بينهما، لم يرتب على الترتيب المشهور عند المناطقة.
(فكان الأنسب أن يقدِّم النوع أو يؤخَّرَه، ويقارن بين الجنس والفصل، كما فعل غيره للمناسبة بينهما من حيث إنهما جزءان) يعني: الجنس والفصل.
(ولكنه اعتبر مناسبة أخرى بين الجنس والنوع) لأنه قدَّم الجنس ثم النوع، ثم بعد ذلك ذكر الفصل، أيهما أولى؟ أن يجمع بين الذاتي والذاتي، خاصة إذا قلنا: إجماع على أن الجنس ذاتي والفصل ذاتيٌ، إذاً: التوالي بينهما مطلوب .. هو الأنسب، يأتي بالجنس ثم بعد ذلك الفصل. هو لا جاء بالجنس ثم النوع ثم الفصل.
إذاً: فصَل بينهما، ولذلك كان الأنسب أن يقدم النوع أو يؤخره.
(ويقارن بين الجنس والفصل كما فعل غيرُه للمناسبة بينهما من حيث إنهما جزءان، ولكنه اعتبر مناسبةً أخرى بين الجنس والنوع وهي المقُولة على كثيرين دون الفصل) لأن الجنس يُحمَل على كثيرين حقائقُهم مختلفة.
والنوع يُحمَل على كثيرين حقائقُهم متحدة أومتفقة.
والفصل لا يحمل على كثيرين، لهذه المناسبة جمع بين الجنس والنوع .. مناسبة لا بأس بها.
(ولما كان المختلِف في العدد والحقائق وهو الجنس: أولى باسم الكثرة من المختلف في العدد فقط، قُدِّم عليه، وأتى بالفصل بعد النوع؛ لتقدُّم الجنس على الفصل من حيث إن الجنس أعم).
وبدأ بالذاتي منها فقال: (وَالذَّاتيُّ: إِمَا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ).
(قوله: الذاتي) قال المحشِّي هنا: (إن قلتَ: لم عدَل عن الضمير والمقامُ له؟).
الأصل أن يقول: وهو. لكن قال: وبدأ بالذاتي منها فقال: (وَالذَّاتيُّ) هو يتكلم في السابق على الذاتي والعرَضي ثم قال: (وَالذَّاتيُّ).
(إن قلتَ: لم عدم عن الضمير والمقام له لتقدِّم مرجعه في قوله: إِمَّا ذَاتِيٌّ؟ قلتُ: للتنبيه على أن الذاتي هنا غير الذاتي فيما تقدم، فإنه هنا أعمُّ من المتقدم؛ إذْ الظاهر أن المتقدم لا يشمل النوعَ).
ولذلك قلنا: اختلف في اصطلاح المصنف، قلنا في السابق عرَّف الذاتي بالداخل في الجزئيات "الذي يدخل" قلنا: خرج النوع.
وهنا أراد أن يقسِّم الكُلِّيّات الذاتية فأَدخل النوع، كيف أدخله وأخرجه؟ حينئذٍ الذاتي هنا أعاده بلفظه ولم يأت بالضمير ليبيِّن أن ثم اصطلاحٌ آخر، فالذاتي هنا غير الذاتي هناك.
وهذا مما دلت القرينة على أنه إذا أُعيدت المعرفة معرفة فالأصل فيها أنها عينُها، ولكن هنا لا ليست عينها، وإنما هي مغايِرة.
قال: (قلت: للتنبيه على أن الذاتي هنا غير الذاتي فيما تقدم، فإنه هنا أعم من المتقدِّم؛ إذ الظاهر أن المتقدم لا يشمل النوع.
وما هنا شاملٌ له بقرينة ذكره في أقسامه، ولدفع توهُّم عودِه للعرضي) (إِمَّا ذَاتِيٌّ، وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ) يحتمل أنه يعود إلى العرضي، فدفْعاً لهذا الوهم قال:(وَالذَّاتيُّ).
(لأقربيتيه قبل التأمل في باقي الكلام، ففي كلامه شِبه استخدامٍ).
قال رحمه الله: (وَالذَّاتيُّ: إِمَا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ).
(مَقُولٌ) يعني: محمول.
هنا قال: (أي: صالحٌ لأن يُحمل حَمْلَ مواطئة لا حمل اشتقاق، وإلا لزم كون البياض جنساً للإنسان).
إذاً: (مَقُولٌ)(أي: صالحٌ لأن يُحمَل حَمْلَ مواطئة) يعني تحقق فيه معنى الكلِّي .. مقول يعني: محمول حملَ مواطئة.
(فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) أي: الخالِصة من شائبةِ الخصوصية كما في النوع المقابِل له؛ لأنه سيذكر في النوع الشركة والخصوصية معاً.
وهنا قال: (فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) أي: الخالصة، في بعض النسخ "الشركة" فقط.
قال بعضهم: هذا القيد لا بد منه؛ لإخراج النوع فإنه يقال بحسب الشركة والخصوصية معاً. وسيأتي ذكره.
فيُعلم أن الجنس يقال بحسب الشركة لا الخصوصية؛ ليتحقق التقابل بينهما، أو يقال المراد بالشركة المحضة الشرِكة التي بين الحقائق لا التي بين الأفراد، لكن المراد أنه مقابِلٌ للنوع؛ لأن النوع يصدُق على شخصٍ واحد، يقال: ما زيدٌ؟ يقال: إنسان، وأما الجنس هنا فيتعين أن يكون في الشركة لكن في الخصوصية وإن كان يصح أن يقال به، لكنه في الحقيقة لا.
وحينئذٍ قوله هنا: (بحسب الشركة المحضة ليقابِل النوع) وسيأتي الكلام في النوع.
قال: (كالحيوان بالنسبة إلى أنواعه نحو: الإنسان والفرس).
(كالحيوان) هذا ذاتيٌ (مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) يعني: التي تكون بين الأفراد لا بالنظر إلى شيءٍ آخر.
ولذلك قال العطار: الخالصةِ من شائبةِ الخصوصية كما في النوع المقابِل له. وهذا الكلام أسهل من كلام المحشِّي.
قال: (كالحيوان بالنسبة إلى أنواعه) أنواع الحيوان كثيرة.
قال: (نحو الإنسان والفرس) لو قيل: ما الإنسان وما الفرسُ؟ ما القدر المشترك بينهما؟
القدر المشترك بينهما أن تقول: حيوان، حينئذٍ حيوان هذا نقول يسمى كلياً لأنه باعتبار المفهوم لا يمنع التعدُّد.
ثانياً: ذاتي لأنه جزءٌ من الماهيّة، ثم يصدق عليه أنه يقع في جواب ما هو، إذا كان السؤال عن متعددٍ، وهذا المتعدد وإن اختلفت حقائقُه إلا أنه متحدٌ من حيث معنى الكلِّي الذي هو الحيوانية.
حينئذٍ إذا قيل: ما الإنسان وما الفرس، وما الحمار وما البقرة؟ ما القدر المشترك بين هذه الأربعة؟ حيوان، هذا المراد.
ولذلك يقال: بمفردِه -حيوان فقط- إذا أردتَ الجواب عن هذه الأربعة كما سيأتي في أنواع الأسئلة هنا.
(إلى أنواعه نحو الإنسان والفرس وهو الجنس) هذا هو ضابط الجنس.
(لأنه إذا سُئل عن الإنسان والفرس بما هما؟)
يعني: ما الفرس والإنسان؟ أو ما هو الفرس وما هو الإنسان؟ سواء كان سؤالاً واحداً أو منفصلاً لا إشكال فيه.
قال هنا: (بما هما؟ كان الحيوان جواباً عنهما).
قال: لأنه إذا سُئل عن الإنسان والفرس ظاهره بما هما؟) سُئل سؤالاً واحداً.
(كان الحيوان جواباً عنهما) عن السؤالين؛ لأنه لو قال: ما الإنسان والفرس؟ هذا في قوة سؤالين، فالجواب بالحيوان وقع عن الجواب عن السؤالين، فهو سؤالٌ في الظاهر لكنه متضمن لسؤالين، لو قلتَ: ما الإنسان والفرس والحيوان والبقر؟ هذه أربعة أسئلة؛ لأن الأصل أن تُسلَّط ما على كل فردٍ: ما هو الإنسان؟ وما هو البقر؟ وما هو الحمار؟ .. إلى آخره.
فيقال: الإنسان حيوان، وكذا .. إلى آخره.
أو تأتي بقدرٍ مشترك بين هذه الأربعة فتقول: حيوان.
ولذلك قال: (كان الحيوان جواباً عنهما) أي: عن السؤالين أي: الإنسان والفرس.
(ولو قال: عنه أي: السؤال المعلوم المفهوم من سُئل) لأنه ذَكَره "سُئل" ما ذَكَر إذا أتى بسؤالين.
(ولو قال: عنه أي: السؤالِ المعلوم – يعني المفهوم- من سُئل كان أولى، إلا أن يقال: أتى بضمير التثنية لتضمن السؤال عنهما سؤالين وإن وقع بلفظٍ واحد في قول السائل: ما الإنسان والفرس؟) وهو كذلك.
أتى بـ: عنهما لأنه في قوة السؤالين، بدلاً من أن يكرِّر: ما الإنسان وما الفرس .. إلى آخره؟ قال: ما الإنسان والفرس اختصاراً ولا إشكال فيه.
قال: (كان الحيوان جواباً عنهما؛ لأنه تمامُ ماهيتهما المشتركة بينهما).
قال العطار: ماهيّة الشيء وحقيقتُه شيءٌ واحد.
ماهيةُ الشيء وحقيقةُ الشيء يعني: هذا تعبير وهذا تعبير، المؤدَّى واحد وهما شيءٌ واحد وإن كان له اصطلاح عندهم.
(ماهيّة الشيء وحقيقتُه) يعني: حقيقة الشيء شيءٌ واحد، (وهو ما به الشيء هو هو) يعني: ما يقوم به الشيء.
هذا الأصل فيها: الاستواء في الماهيّة والحقيقة .. ما يقوم به الشيء.
(وقد تختص الحقيقة بالموجودات دون الماهيّة، فتشمل المعدومات) فحينئذٍ الحقيقة قد تُستعمَل مراداً بها الموجود، فلا تشمل المعدوم بخلاف الماهيّة.
ولذلك نقول: الإنسان له ماهيّة في الذهن، لها وجود لكن ليس هو الوجود الخارجي، إنما هو وجودٌ ذهني وجود اعتباري، ليس بشيءٍ محسوس، لكن هذا موجود؟ نعم موجود، وجود محسوس، لكن وجود معنى الإنسان في الذهن وجودٌ اعتباري، ولذلك بعضهم أنكره، لكن الصواب أن له وجوداً لكن هذا الوجود ليس المراد أنه شيءٌ يكون داخل الذهن متحيزاً لا، وإنما المراد به الملاحظات.
قال هنا: (دون الماهيّة فتشمل المعدومات، وهي مأخوذة من ما هو).
يعني: أصل ما الاستفهامية هو الضمير.
(والمراد بها ما يقع جواباً عن ذلك السؤال.
قيل: إنها نسبةٌ إلى ما) وهذا هو المشهور: ماهيّة نسبة إلى ما.
(وذلك لأنه لما كانت ما يُسأل بها عن الحقيقة نُسِبت الحقيقة إليها، بمعنى: أنها تقال في جوابها، فيقال للحقيقة: إنها ماهيّة أي: مقولة في جواب ما أو مطلوبة بها، وإن شئت أبدَلت الهمزة هاءً) أين هذه؟ أو العكس: أبدلت الهاء همزةً ما مائيّة يُنظر فيها ويتأمل.
(وقيل: للماهية معنيان: الأول: ما به يجاب عن السؤال بما هو) هذا الذي سبق.
(والثاني: ما به الشيء هو هو، والحق أن لفظة الماهيّة مشتقة من هاتين العبارتين، ومعناها) يعني: معناها الحقيقي (هو الأمر المعقول أي: الحاصل في العقل من غير اعتبار الوجود الخارجي) الأمر المعقول يعني: الشيء الحاصل في الذهن من غير اعتبار شيء في الخارج.
ولذلك قلنا: هذا الوجود الذهني.
قال هنا: (وإذا سُئل عن كلٍ منهما) يعني: الإنسان والفرس، كل واحدٍ منهما أي: وحده.
(لم يصح أن يكون الحيوان جواباً عنه) هذا قلنا الشركة، يقابل خصوصية هناك، الإنسان يصح أن يُسأل عن كل واحد منهما، ما زيدٌ؟ تقول: إنسان.
قال هنا: (وإذا سُئل عن كلٍ منهما) يعني: وحدَه .. عن الفرس فقط، وعن الإنسان فقط.
(لم يصح أن يكون جواباً عنه) لم يصح أن يكون الحيوان جواباً عنه .. عن السؤال.
(لأنه ليس بتمام ماهيته فلا يجاب به، بل بتمامِها وتمامُها في الأول الحيوانُ الناطق).
يعني: فرقٌ بين أن يقول: ما هو الإنسان والفرس والبقر؟ فيقول: حيوان، قدرٌ مشترك.
وبين أن يقول: ما الإنسان؟ إذا قال: ما الإنسان؟ لا يجيبه بالحيوان، وإنما يجيبه بالتعريف .. بالحد، فيقول: حيوانٌ ناطق، لا يأتي بجزء الماهيّة الذي هو الجنس وإنما يأتي بتمامها، ولذلك قال هناك في التعريف:(فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) هذه مقابلة للخصوصية هناك .. بأن النوع يُجاب به في الشركة والخصوصية معاً، سواء كان مجتمِعَين أو مفرداً، ما زيدٌ؟ تقول: إنسان، ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ؟ إنسان.
إذاً: استويا، لكن الجنس لا، وإنما يأتي إذا كان ثَم أفراد متعددة .. حقائق مختلفة، ما الفرس والبقر والحمار؟ تقول: حيوان، أما إذا قيل: ما الفرس؟ تقول: حيوانٌ صاهل .. تأتي بالحد.
إذاً: (وإذا سُئل عن كل منهما -عن الإنسان والفرس وحده- لم يصح عند المناطقة أن يكون الحيوان جواباً عنه -عن السؤال-؛ لأنه -أي: الحيوان- ليس بتمام ماهيته بل هو جزء من الماهيّة، فلا يجاب به -بالحيوان الذي هو جنس- بل بتمامِها، وتمامُها في الأول -يعني: الإنسان- الحيوان الناطق، وفي الثاني -يعني: الفرس- الحيوان الصاهل).
وهذا معنى قوله: (بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ).
قال العطَّار: أي الخالصة من شائبة الخصوصية كما في النوع المقابِل له.
الخصوصية بأن يُسأل عن واحدٍ فقط، هذا المراد بالخصوصية، فالنوع تارة يُجاب به فيما إذا سُئل بشيءٍ مُشترَك، وتارة يجاب به إذا سُئل عن واحد، الجنس لا. لا يأتي عن واحد وإنما نعدل إلى التعريف، وأما المشترك فهو الذي يُجاب به.
قال رحمه الله تعالى مبيِّناً قاعدة: (والمسئول عنه بما) يعني: بلفظ ما.
(منحصرٌ في أربعة:
الأول: في واحدٍ كُلّيٍ نحو: ما الإنسان؟) هنا المسئول عنه، الكلام عن ما بعد ما.
ما متحدة في الأربعة الأقسام، لكن ما بعد ما قال:(واحدٍ كُلّي) واحد يعني: غير متعدد، وإنما سَأل عن لفظٍ واحد، ليس عندنا تعدُّد أفراد وإنما عن شيءٍ واحد.
(واحد كُلّي نحو: ما الإنسان؟) هذا الأول.
(الثاني: وواحدٍ جزئيٍ نحو: ما زيدٌ؟)"ما" كقوله: ما الإنسان؟ ما زيدٌ؟ اتحد ما، لكن الخلاف أن ما بعد ما في: ما الإنسان كُلّي، والثاني جزئي زيد.
(الثالث: أن يكون ما بعد ما المسئول عنه: كثيرٍ) بالجرّ.
في واحدٍ، وواحدٍ جزئي، وكثيرٍ.
(متماثل الحقيقة). أراد به النوع، هذا نوع.
(نحو: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟) هذا كثير يعني: ليس واحداً.
(متماثِل الحقيقة) يعني: أفرادُه متّحدة، هذا خاصٌ بالأفراد؛ إذ لا توجد حقيقتان متماثلتان (متماثل الحقيقة) الحقيقة التي هي: حيوان ناطق. هذا المراد بها، أما الأفراد فلا.
(نحو: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟).
(الرابع: وكثيرٍ مختلفِها) يعني: مختلف الحقيقة.
(نحو: ما الإنسان، والفرس، والشاة؟).
هذه أربعة أشياء: الأول أن يكون المسئول عنه ما بعد .. ما يُسأل بها عن أربعة أشياء، أن يكون ما بعدها واحدٌ كُلّي نحو: ما الإنسان؟ الإنسان واحد كُلّي ليس متعدداً.
الثاني: واحدٌ جزئي ما زيدٌ، ليس عندنا تعدد زيدٌ عمروٌ لا، واحد فقط.
الثالث: كثير، لكنه متماثل في الحقيقة .. حقيقته واحدة حيوان ناطق، مثل: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؛ لأنه قد يُسأل مع اختلاف الحقائق، مثلاً تقول: ما زيدٌ والفرس؟ هذا نوع سيأتي إشارة إليه، لكنه هنا قال:(متماثل الحقيقة) يعني: حيوانٌ ناطق. زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ متعدِّد.
رابعاً: (كثيرٍ مختلفِها) أي: مختلف الحقيقة.
قال هنا: (نحو: ما الإنسان والفرس والشاة؟
والجوب عن الأربعة منحصرٌ في ثلاثة أجوبةٍ؛ لاشتراك الثاني والثالث) الثاني: ما زيد، والثالث: الذي هو ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ (في جواب واحد).
قال المحشِّي: فيجاب عن الأول وهو الواحد الكلِّي بحدِّه التام.
لو قال لك: ما الإنسان؟ ما تقول: حيوان كما ذكرنا في السابق؛ لأن الجنس لا يقع جواباً عن واحد ولو كان كُلّياً، وإنما يقع عن متعدد.
إذاً: يجاب عن الأول وهو الواحد الكلِّي بحدِّه التام كـ: حيوانٌ ناطق.
وعن الثاني وهو الواحد الجزئي، وعن الثالث وهو الكثير المتماثل في الحقيقة بجواب واحد وهو النوع.
ما زيدٌ؟ تقول: إنسان.
ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ؟ متعدد .. إنسان.
اتحدا يجاب بالنوع؛ لأنه تمام ماهيّتها المشترَكة بينها، ولا عبرة بالمشخِّصات المختلفة. ما هي المشخِّصات؟
الأعراض.
الأعراض: الطول والقصر، البياض والسواد .. إلى آخره، هذه أعراض.
قد يقول قائل: ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ، إذا قلتَ: إنسان أين الحقيقة المتحدة؟ ليس عندنا حقيقة متحدة ولا مفترِقة.
إذا كان الأول لونُه أبيض والثاني أسود، والثالث طويل والأول قصير. إذاً: مختلفون هؤلاء. نقول: لا. هذا الاختلاف لا أثر له في التشخُّص؛ لأنه باعتبار التشخص، وأما الحقيقة فهي متَّحِدة. هذا الذي عناه.
(ولا عبرة بالمشخِّصات) يعني: الأعراض العامة.
التي يمتاز بها زيدٌ عن بكر، لا شك أنهما يمتازان، ولذلك الأُنثى تمتاز عن الذكر، والذكر عن الأنثى، ويصدُق عليهما لفظ إنسان، لكن هذه مشخِّصات وهذه مشخِّصات، وأما الحيوانية الناطقية فهي متحدة في الذكر والأنثى. وهذا أنسب في المشخِّصات؛ لأنها عرضيات.
وعن الرابع وهو الكثير المختلف الحقيقة في الجنس القريب كحيوان.
إذاً: المسئول عنه بما محصورٌ في أربعة أشياء.
يجاب عنها بثلاثة أشياء: إما بالحد، وإما بالنوع، وإما بالجنس.
قال العطار: وجهُ الحصر أن الجواب إما أن يكون بالحد وهو الأول "واحد الكلِّي" أو بالنوع وهو الثاني، أو بالجنس وهو الثالث "يعني: الجواب".
والحاصل: أن الأسئلة بما هو وإن كثُرت فجوابها منحصرٌ في ثلاثة أقسام:
جوابٌ لا يكون إلا إذا كان السؤال عن واحدٍ كُلّي، ولا يكون حالة التعدد وهو الجواب بالحد.
وجوابٌ لا يكون إلا عند السؤال عن متعددٍ كليين مختلفي الحقيقة، أو شخصين، أو شخصٍ وكُلِّيٍ كذلك، ولا يكون عن مفردٍ وهو الجواب بالجنس. على ما ذكره الشارح هنا.
وجوابٌ يكون عن السؤال عن مفردٌ شخصٍ أو أشخاص متحدة الحقيقة، أو صنفٍ أو أصنافٍ كذلك وحدَها.
أو مع الشخص أو الأشخاص المتفقِ جميعِها في حقيقة واحدة وهو الجواب بالنوع الحقيقي. يعني: لا الإضافي.
قال: (وَيُرْسَمُ) يعني: يُعرَّف أو يُحدّ.
وهو بينهم خلاف سيأتي: لماذا عبَّر يُرسم ولم يقل: يُحد، هل أن هذه لا تحد؟ لأن الحد لا يكون إلا بالذاتيات، والرسم يكون بغير الذاتيات أو ببعضها ليس بتمامها.
قال: (وَيُرْسَمُ)(الجنس) يعني: يُعرَّف.
(بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ) الباء هذه -يُرسم بأنه كُلّيٌ- متعلِّقة بيُرسم.
(أَنَّهُ) أي: أن الحال والشأن، أو (أَنَّهُ) يعني: الجنس؟
الجنس .. الضمير يعود على الجنس؛ لأنه موجود مذكور، إذا كان مذكوراً ما نفسِّره بضمير القصة ولا الشأن، إنما نرجع الضمير إلى ما سبق.
(وَيُرْسَمُ الجْنْسُ بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ).
(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) هو معنى الكلِّي، كُلّيٌ هو مقولٌ على كثيرين.
(كُلِّىٌّ) اللفظ هذا، قلنا ضابط الكلِّي هو أن يُحمل على كثيرين.
إذاً: من لفظ "كُلّي" نفهم أنه (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) لأنه هذا حقيقة الكلِّي.
ولذلك بحيثُ يُحمل على كل فردٍ من أفراده.
قال في التعريف: (كُلِّىٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ).
إذاً: إذا كان الكلِّي لا يُفهم منه إلا أنه مقولٌ على كثيرين، لماذا تنُص على ذلك؟
(قيل: لا حاجة إليه -لقوله: كُلّي- لإغناء مقولٍ على كثيرين عنه. ورُدَّ).
هو ما دام أنه قاله لا بد أن يكون هو الصواب عنده.
(ورُدَّ بأن المتأخر لا يُغنِي عن المتقدِّم) لأن الاعتراض هنا جاء بمتأخر عن متقدم، وهذا غريب يعني، لكن هكذا أمِرُّوها كما جاءتْ.
قال: (لأن المتأخر لا يُغني عن المتقدم) لكن عندنا تعاريف، فلا بد أن يكون التعريف منضبط بمعنى أنه إذا تأمله لا بد أن يكون عندنا جنس وعندنا فصل، هذا إدخال وهذا إخراج. فكيف نقول: يذكُر قيداً أولاً ثم يذكر قيداً ثاني بمعناه، ثم نقول: لا يُعترض على الأول بالثاني؟ هذا فيه نظر.
(ورُدَّ بأن المتأخر لا يُغني عن المتقدم لوقوعه في مركَزه "محله" لأن فيه الاعتراض باللاحق على السابق وهو غير مرضيٍ؛ لأن السابق وقع في مركزه).
هذا يمكن أن يقال: إن سُلِّم -اعتذاراً عن أهل العلم- إن قيل في غير التعاريف، وأما في التعاريف فلا، يعتبر تَكراراً ولا إشكال فيه.
قال: (وبأنه -الجواب الثاني- محتاجٌ إليه ليُجري الوصف عليه).
(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ).
(مُخْتَلفِين) هذا الوصف، لكن إذا كان سيعرِّف الجنس بأنه مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين في الحقائق، حذَفَ لفظ كُلّي.
إما هذا وإما ذاك، إذا كان يُذكَر مَقُول عَلَى كَثِيرِينَ من أجل الوصف تمهيداً له؛ ليتعلق به لا إشكال فيه، لكن يُحذف لفظ كُلّي. على كلٍ الخطْب سهل.
قال: (بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ) يعني: الجنس كُلّي، ولا شك أنه كُلّي.
فقوله: (كُلِّىٌّ) دخل فيه سائر الكُلِّيّات، انظر عاملوه معاملة الجنس، أنه تعريف ولا بد أن يكون الجنس مشتملاً على سائر الأقسام؛ لأن القسمة خماسية هنا، فلا بد أن يَدخل جميع الأقسام.
(دخل فيه سائرُ) أي: جميع، لا بقية، لأن سائر تأتي بمعنى البقية وتأتي بمعنى الجميع.
(دخل فيه سائر الكُلِّيّات) يعني: الخمسة.
(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ).
(مَقُولٌ) أي: محمولٌ حملَ مواطئَة، والمرادُ: صالِحٌ لأن يقال ويُحمَل، لا أنه مقولٌ بالفعل.
إذا قيل: هذا مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ. لا بد أنك تأتي وفي كلِّ كلي تقول: زيدٌ إنسانٌ، وبكرٌ إنسان. تأتي بالفعل، أم يكفي بالقوة؟
الوصفُ -وصفُ الشيء- هذا سيأتي معنا كثيراً، قد يكون بالفعل وقد يكون بالقوة.
فالضاحك -كما سيأتي في أمثلته- قد يكون ضاحكاً بالفعل يعني: يضحك، إن قلنا: الضحك هو المراد به هذا، وبعضهم يحمِلُه على معنى آخر وسيأتي.
إن قلنا: بالقوة يعني: هو عنده قابلية لأن يضحك، لكن هو الآن ليس بضاحك.
أنت الآن ماشي؛ لأنك صالح لأن تمشي، أنت الآن مستلقي، يعني: الخبر هذا إذا قيل: أنت الآن تمشي، أو أنت الآن ماشي .. اسم فاعل، هذا ما تستطيع أن تكذِّبه وتقول: كذِب، لا. ماذا تعني؟
هل تعني بالفعل؟ فكذِب هذا، تعني بالقوة؟ فحينئذٍ لا إشكال فيه، هذا صحيح.
فكلُّ وصفٍ بالفعل بالوجود بالحصول بالثبوت يعني: ثابتٌ، بالقوة يعني: يمكن أن يفعلَه لكنه غير موجود الآن.
فكلُّ وصفٍ يتعلق بالإنسان مِن ضحكِ، أو بكاء، أو نوم، أو آكل، أو شارب. أنت الآن تأكل لكن بالقوة، يعني: مآلك أنك تذهب وتأكل، أنت تشرب قد يشرب بالفعل نقول: هذا شاربٌ بالفعل، لكن بالقوة إذا تَرَك .. وهكذا.
حينئذٍ قولُه: (لأن يقال ويُحمَل، لا أنه مقولٌ بالفِعْل) يعني: نقول: الكلِّي من ضوابطه أنه مقولٌ على كثيرين بأن يُحمَل حمل مواطئة يعني: بالقوة، يعني: يكون صالحاً وجاهزاً لأن يُحمل على أفراده.
ولا يلزم من ذلك أنك تأتي وتُلزِم أفرادَه بالخبرية به.
(وكذا يقال في بقية التعاريف) يعني: فيما سيأتي.
(فإن الكلِّي المنقسِم إلى هذه الأقسام عامٌ يشمل ما لا أفراد له خارجاً، وما له أفراد، وما له فردٌ واحدٌ إلى آخر التقسيمات السابقة).
التقسيمات السابقة .. الستة الأنواع كلها تدخل هنا، وليست خاصة بنوع دون نوع.
قال هنا المحشِّي: (مقولٍ أي: صالح باعتبار معناه لأن يُحمَل حملَ هَو هو، ويسمى حمْلَ مواطئة لا حمل اشتقاق) كما مر معنا.
(عَلَى كَثِيرِينَ) المرد بالكثيرين في تعريف الجنس: الأنواع؛ لأن الجنس تحته أنواع، هذا الأصل، فالمراد بالكثيرين هنا في تعريف الجنس الأنواع، وفي تعريف النوع (مَقُول عَلَى كَثِيرِينَ) يعني الأشخاص .. أفراد، فرقٌ بين الاصطلاحين.
قيل: (كَثِيرِينَ) جمع كثير على زِنة فعيل، وحينئذٍ فلا وجه للجمع، وهذا الجمع ليس بصحيح من جهة اللغة (كَثِيرِينَ) وإنما هو من مُسامحَات أهل هذا الفن. هم أصلهم عجم، فلمَّا عُرِّب بقيت بعض الألفاظ، ولذلك "مَصْدَق" هذه لا وجود لها في العربية.
الماهيّة .. التركيب هذا لا وجود له، وإنما هذه من تكلُّفَاتِ القوم.
كذلك هنا هذا يُعتبر مثلُه (كَثِيرِينَ).
وإنما اختاروا جمع الكثير، كثير يكفي ما يحتاج أنه يُجمع، لأنا نقول: أقل ما يصدُق عليه الجنس اثنان فصاعداً، وإذاً: يكفي هذا.
(وإنما اختاروا جمع الكثير تنبيهاً على أن جميع الكُلِّيّات متساويةٌ باعتبار نفس التصور، حتى أنه ما من كُلّي إلا وهو صادقٌ على ذوي عقول متكثرِّة بهذا الاعتبار، وإن كان مُبايناً لها بحسب نفس الأمر، وأما اختيارُ صيغة المذكر على صيغة المؤنث فلكونه أشرف).
إذاً: (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) يعني: صالحٌ لاعتباره أن يُحمَل حملَ مواطئة على كثيرين، والمراد بالكثيرين هنا في حدِّ الجنس: الأنواع لا الأشخاص.
قال: (مُخْتَلفِين) هذا نعتٌ لكثيرين.
(مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ) أي: كالحيوان المقول على الإنسان والفرس والحمار.
وحقيقة الأول -الذي هو الإنسان-: حيوانٌ ناطق.
والثاني -الذي هو الفرس-: حيوانٌ صاهِل.
والثالث -الذي هو حمار-: حيوانٌ ناهِق.
إذاً: مختلفين بالحقائق، حقيقةُ الإنسان غير حقيقة حمار، فإذا اجتمعا وقيل: ما الإنسان وما الحمار؟ قلتَ: حيوانٌ. إذاً: صحَّ.
محمولٌ على كثيرين فتقول: الإنسان حيوانٌ، والحمار حيوان، والبقرة حيوان .. وهكذا.
إذاً: حقائقُهم مختلفة، ومع ذلك صح حملُ اللفظ على كل نوعٍ على الأصح.
إذاً: (عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ) خرَج به النوع؛ لأنه مقولٌ على كثيرين متَّفقِين بالحقائق، ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟ حقيقتُهم واحدة.
حقيقةُ الأفراد –النوع- واحدة .. مُتَّحِدة، زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ حقيقتُهم واحدة. حيوانٌ ناطق.
وأما حقيقة الإنسان والفرس والحمار. هذه مختلفة، كلُّ واحدٍ منها له تعريفٌ خاص، وأما بكرٌ وعمر هذا له تعريفٌ واحد، هذا المراد بالاختلاف.
قال: (فِي جَوَابِ مَا هُوَ) هذا فَصلٌ مُخرِجٌ للعرض العام؛ لأنه لا يقال في جواب، العرض العام في الاصطلاح عنده، وهو يقع في الجواب، كيف زيدٌ؟ مريض.
مريض هذا يعني: ما لا يختص بالإنسان، المرض خاص بالإنسان؟ لا.
الضاحك -على المشهور- خاصٌ بالإنسان، النطق خاصٌ بالإنسان، طيب المرض؟
المرض عرض عام.
ضاحك هذا عرضٌ خاص، خاصة يسمى، هذا خاصٌ بالإنسان.
يقع في جواب؟ نعم يقع في جواب، يعني: يُسأل عنه، وأما العرض العام قالوا: لا يقع في جواب، هذا ليس في اللغة فانتبه لهذا؛ لأنك تقول: كيف زيد؟ قل: دنِف يعني: مريض.
فحينئذٍ صح، والمرض هذا وصفٌ عام. يعني: الإنسان يمرض، والطير يمرض، والحمار يمرض، والدجاجة تمرض، والشاة تمرض .. إذاً: وصفٌ عام، هذا يسمى عرضاً عام.
ولذلك المشي هذا عرضٌ عام ليس خاصاً بالإنسان؛ لأن الحيوانات تمشي ((فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)) [النور:45] هذا كله يسمى مشياً.
إذاً: الوصفُ العام في الاصطلاح عندهم لا يقع في جواب، لكنه قد يقع، ولذلك استثناه العطار في بعض المواضع.
إذاً: قوله: (فِي جَوَابِ) خرَج بالمضاف العرضُ العام.
(مَا هُوَ) خرَج به ما سيذكره المصنف.
قال: (خرج به) يعني: بهذا القيد.
(مقولٌ في جواب)(فِي جَوَابِ) متعلِّق بقوله: مقولٌ (فِي جَوَابِ مَا هُوَ).
(خرَج به) يعني: بهذا القيد (فِي جَوَابِ مَا هُوَ)(الفصلُ، والخاصةُ، والعرضُ العام) ثلاثة أشياء.
ما وجه الخروج؟
قال: (إذْ الأولان الفصل، والخاصة) إذْ للتعليل.
(إذ الأوَّلان: الفصل، والخاصة. إنما يقالان في جواب أي شيءٍ هو) لأن السؤال محصورٌ في نوعين عند المناطقة (ما وأي) فقط، لا سؤال إلا بهذين .. اصطلاح.
ما وأي، الخاصة والفصلُ لا يكون السؤال عنهما بما، وإنما: أيُّ شيءٌ هو؟
إما في ذاته، وإما في عرضه .. كما سيأتي تفصيله.
إذاً: (إذ الأولان: الفصل، والخاصة. إنما يقالان في جواب أيُّ شيءٍ هو.
والثالث -وهو العرض العام-: لا يقال في جوابٍ أصلاً) على المشهور عندهم.
(لا يقال في جوابٍ أصلاً) يعني: لا يُسأل عنه؛ لأنه لا يفيد، لا يحصل به تمييز.
الذي يحصل به التمييز كالضحك مثلاً ونحوه هو الذي يقع في الجواب، وأما ما كان وصفاً عاماً "عرضاً عاماً" فهذا لا يستفيد منه شيء.
قال: (والثالث -وهو العرض العام-: لا يقال في الجواب أصلاً).
إذاً: نرجع إلى قوله: (فِي جَوَابِ مَا هُوَ).
قوله: (فِي جَوَابِ) بالمضاف خرج العرض العام.
وبقوله: (مَا هُوَ) خرَج به الفصل والخاصة؛ لأنه أيُّ شيءٍ هو .. يُسأل عنهما بأي شيء.
قال: (والثالث: لا يقال في الجواب أصلاً؛ لأنه ليس ماهيّةً لما هو عرضٌ له حتى يقال في جواب ما هو، ولا مميِّزاً له حتى يقال: في جواب أيُّ شيءٍ هو).
يعني: نفَوا عنه الفائدة في باب الاستفادة هنا، في بناء ما يتعلق به من حيث التعاريف؛ لأن الكُلِّيّات هذه كلها ستدخل في التعاريف؛ لأنها مادة المعرِّفات وهي مبادئ وتلك مقاصد .. تصورات، التصورات لها مبادئ ولها مقاصد.
مبادئُها: الكُلِّيّات الخمس، وهو الذي يقع به التمييز. إذاً: العرض العام لا يصلح مميِّزاً، ليس بذات ماهيّة لا داخلاً ولا كذلك يكون مميِّزاً لماهيّة عن ماهيّة أخرى.
ولذلك قال: (لأنه ليس ماهيّة لما هو عرضٌ له حتى يقال في جواب ما هو) وإنما يقع في جواب ما هو ما كان في الماهيّة الذي هو الجنس والنوع، والعرَض العام ليس من الماهيّة فلا يقع في جواب ما هو.
(ولا مميزاً له حتى يقال: في جواب أيُّ شيءٍ هو) إذاً: كأنه يقول -على ما ذكره الشيخ الأمين-: أن الأسئلة محصورة في نوعين.
(مَا هُوَ) أيُّ شيءٍ هو، (مَا هُوَ) يُسأل عن الذاتيات ويجاب بالذاتيات، والعرض العام ليس منها إذاً: انتفى السؤال عنه (مَا هُوَ).
طيب "أي شيءٍ هو" هذا مميِّز، الفصلُ والخاصة. إذاً: هو ليس مميزاً، لا نستفيد منه شيء، إذاً انتفى عنه.
إذا انتفى عن هذا وذاك إذاً: لا يُسأل عنه. هذا مرادُه (حتى يقال في جواب أيُّ شيءٍ هو).
قال: (وأما الجزئي فلم يدخل في الكلِّي حتى يُحتاج إلى إخراجه بمقولٍ على كثيرين كما زعَمه جماعة).
يعني: (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) هل شمِل الجزئي؟ هذا محل خلاف، ولذلك قال:(كما زعمه جماعة) يعني: بعضهُم يرى أن الجزئي يمكن أن يقال على كثيرين.
ومنهم من قال: لا. المشهور هو ما ذكره هذا، وإلا قلنا في ضابط الكلِّي ما هو؟ أن يُحمَل حملَ مواطئة، إذاً: الجزئي لا يُحمل، وما ذكرناه من أنواع الجزئي: العلم الشخصي، والعلم الجنسي، وأل، والضمير .. هذه خاصة، لا تُستعمل إلا خاصة فكيف يُحمَل على غيره؟ وهذا فيه شيءٌ من التكلُّف.
ولذلك من قال بأنه يُحمل جعل له اعتبار، وإذا جعل له اعتبار هذا الباب مفتوح يعني: أي شيء تجعل له اعتبار آخر يعني: اعتبار ذهني، هو باعتبار كذا يُحمل، وباعتبار كذا لا يُحمل، كما قيل في الفعل: كُلّيٌ باعتبار الحدث، جزئيٌ باعتبار النَّسبة.
إذاً: باعتبار النسبة هذه لا إشكال فيها.
إذاً: (وأما الجزئي فلم يدخل في الكلِّي حتى يُحتاج إلى إخراجه بمقولٍ على كثيرين كما زعمه جماعة).
قال العطار: وأما الجزئي فلم يدخل في الكلِّي .. إلى آخره.
أي: لو فُرِض دخوله في الكلِّي خرج بقوله: (مَقُولٌ) بناءً على أنه الجزئي لا يُحمل.
على كلامه قوله: الكلِّي، وهذا على كلام العطّار.
كُلّي هل شمل الجزئي؟ هو لا يتأتى أن يدخل فيه الجزئي، لكن نقول: لو فُرض، لو هذه بابٌ واسع .. لو فُرض "عقلاً وجداً" دخوله في الكلِّي خرج بقوله:(مَقُولٌ) بناءً على أن الجزئي لا يُحمل، وإنما الذي يُحمل الكُلِّيّات.
وهذا القول هو المشهور عند المناطقة: أن الذي يُحمل هو الكلِّي.
ولذلك هذا مما قد يُجعل أنه ضابط يعني: في المعنى الكلِّي وفي حملِه حملَ مواطئة، وفي كونه إذا وقع بالفعل، الأول قلنا ولو بالقوة .. مقول على كثير بالقوة، لكن لو وقع بالفعل أنه محمولٌ تحكُم عليه بأنه كُلّي؛ لأنه لا يُحمل إلا الكُلِّيّات.
قال: (على أن الجزئي لا يُحمل، وهو مختار السيد الشريف معلِّلاً له: بأن حمْلَه على نفسه لا يُتصور قطعاً؛ إذْ لا بد في الحمل الذي هو النسبة من أمرين متغايرَين، وحملُه على غيره ممتنع.
واختار الدَّواني صحةَ حملِ الجزئي.
فقال في التعريف -يعني: في الشرح-: (المقول -أي: المحمول- وهو شاملٌ للكلي والجزئي؛ فإن الحمل يجري فيهما معاً على الصحيح -يعني: في الجزئي والكل- على ما صرّح به الفارابي والشيخ في الشفا.
وأجاب عما ذكَره السيد بأنه يجوز حمله على جزئيٍ مغايرٍ له بحسب الاعتبار).
هذا إشكال، جزئيٌ على جزئي، ثُم يعتبِر أن هذا الجزئي مغايرٌ للجزئي يعني: بين المحمول والمحمول عليه. قلت لكم: الاعتبار هذا أمرٌ ذهني، فاعتبر ما شئت، لكن العبرة بالأذهان وما يوافقها في الخارج. هذا الذي يُعتمَد.
قال: (بأنه يجوز حملُه على جزئيٍ مغايرٍ له بحسب الاعتبار، مُتحدٍ معه بحسب الذات كما في: هذا الكاتبُ، وهذا الضاحكُ. فإنهما مختلفان بحسب المفهوم ومتحدان بحسب الذات؛ فإن ذاتَهما زيدٌ بعينه مثلاً وكذا يجوز حملُه على كُلّيٍ انحصَر في جُزْئِيِّهِ كما في قولِ: بعضُ الإنسان زيدٌ .. ) إلى آخره.
على كلٍ هذا قِلّة ممن قال به، أنه يُحمل الجزئي، والمشهور أنه لا يُحمَل إلا الكلِّي.
قال رحمه الله تعالى: (والجنسُ أربعةُ أقسام) بعد أن بيَّن لنا حدَّه أراد أن يبيّن لنا أقسامَه.
قال: (أربعة أقسام) لأنه إما أن يكون فوقَه وتحتَه جنس، هذا الأصل.
إما أن يكون فوقَه وتحته جنس.
أو لا يكون فوقَه ولا تحته جنس.
أو يكون تحته ولا يكون فوقَه جنس.
وبالعكس.
أربعة أقسام .. عقلية يعني: الحصر هنا عقلي.
(والجنسُ أربعة أقسامٍ: عالٍ) ما إعرابُ عالٍ؟ بدل.
(والجنس) مبتدأ مرفوع.
(أربعة) هذا خبر مرفوع، وهو مضاف و (أقسامٍ) مضاف إليه.
(عالٍ) هذه كَسْرة، هل يختلف لو جعلناه بدلاً من أربعة أو من أقسام في النطق؟
في النطق لا يختلِف.
في النطق لا يختلف نعم، هو هذا المراد.
سواءٌ جعلته من أربعة أو من أقسام لا يختلِف، لماذا؟ لأنه "عالٍ" في الرفع وفي الخفض حُذِفَت ياءُه؛ لأنه منقوص والمنقوصُ إذا نوِّن حُذفت ياءُه لأنه نكرة.
(عالٍ) سواء كان مرفوعاً أو مخفوضاً النُّطقُ واحد، وإنما يختلِف في النصب فقط.
(عالٍ) أي: ويسمى بعيداً.
وَنَوِّنِ المُنَكَّرَ المَنقُوصَا
تَقُولُ هَذَا مُشْتَرٍ مُخَادِعُ
…
فِي رَفعِهِ وَجَرِّهِ خُصُوصَا
وَافْزَعْ إِلى حَامٍ حِمَاهُ مَانِعُ
ج
(ويسمى بعيداً وجنسَ الأجناس أيضاً) يعني: العالي يسمى جنساً بعيداً وجنس الأجناس أيضاً.
قال: (عالٍ وهو الذي تحتَه جنس وليس فوقَه جنس) أعلى الأجناس.
تحتَه جنس بل أجناس، وفوقَه؟ ليس فوقه جنس، هذا مختلف فيه موجود أو لا، لكن المراد التقسيم عقلي فقط.
قال: (كالجوهر على القول بجنسِيته) ليس على القول بجنسِيته .. هو جِنس، لكن على القول بأنه جنسُ الأجناس، وإلا هو جنسٌ قطعاً الجوهر.
(على القول بجنسيته) ظاهر كلامه أنه قد قيل بأنه ليس بجنس، لا ليس هذا المراد.
قال العطار: أي: بكونه جنساً عالياً، "أو" أي: بكونه جنساً للجسم والعقل المطلق، لا أنه عرَضٌ عام خارجٌ عن حقيقتهما.
قال العطار: واعلم أن للحُكماء في تحقيق الأجناس العاليةِ اضطراباً. كثيراً اضطربوا.
لماذا اضطربوا؟ لأن الكلام هنا في عقليات، وكل واحد له عقلٌ، وكل واحدٍ مُعجَبٌ بعقله، فما يراه يظن أنه هو الصواب، هذا يقول: الأجناس العالية اثنين، وهذا يقول: ثلاثة، وأوصلها: عشرة ..
يجتمع كثير على قولٍ، وكلها أشياء ذهنية، والغالب فيها أنها لا تُسمِن ولا تغني من جوع.
قال هنا: واعلم أن للحكماء في تحقيق الأجناس العالية اضطراباً. فقيل: جنسُ الأجناس واحدٌ وهو الوجود.
يعني: أعلى الأجناس ولا جنس فوقه قيل: الوجود.
وقيل: الأجناسُ العاليةُ اثنان: الجوهرُ والعرض.
وقيل: إنها أربعةٌ: الجوهر، والكَمُّ، والكيفُ، والمضاف.
قال العطار: وذهب المحقِّقُون منهم كإِرِسِطُو إلى أنها عشرة، وهي المسماة بالمقولات العشر.
المقولات العشر معروفة لها نظمٌ ولها شروحات.
وليس لهم برهانٌ على الحصر .. ليس عندهم برهان، بل عوَّلوا على الاستقراء.
إذاً: هذا تقرءوه هكذا.
إذاً: جنس الأجناس -على هذا القول- هو الجوهر، تحته جنس وليس فوقه جنس، على القول بأنه هو جنس الأجناس، بجنسيته يعني: الجوهر.
قال: ومتوسطٌ "وهو النوع الثاني": وهو الذي فوقَه جنسٌ وتحته جنس، كالجسم النامي .. كالجسم فوقَه الجوهر وتحتَه الجسم النامي، أيهما أعم؟ الجسم فقط؛ لأنه يشمل ما ينمو وما لا، هذا جسم، لكنه لا ينمو.
فالجسم يدخل تحتَه ما ينمو وما لا ينمو، الذي ينمو: الذي يتدرج في النمو.
إذاً: الجوهر فوق الجسم وهو جِنسٌ له، والجسم تحتَه النامي، والنامي تحتَه النبات والإنسان .. ونحوه.
ولذلك قال في الحاشية: (متوسطٌ) أي: كالجسم (فإن فوقَه الجوهر وتحته الجسم النامي، وكالجسم النامي إذ فوقه الجسم المطلق وتحته الحسَّاس والمتحرك بالإرادة).
قال: (وسافلٌ) هذا الثالث وهو الذي فوقه جنسٌ وليس تحته جنس كالحيوان؛ لأن الذي تحته أنواع .. تحت الحيوان أنواع، لا أجناس.
(ومنفردٌ) هذا الرابع: الجنس المنفرد، وهو الذي ليس فوقَه جنسٌ وليس تحته جنسٌ. قالوا: ولم يوجد له مثال.
إذاً: تصوير عقلي، القسمة عقلية وأما الأمثلة هذه قد يوجد عند بعضهم دون بعض، المنفرد الذي ليس فوقه جنس وليس تحته جنس، قالوا: ولم يوجد له مثال.
أي: ومثَّل له بعضهم بالعقل بناءً على أن الجوهر ليس جنساً له بل عرَضٌ عام.
قال: (وَإِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا.
كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَادِهِ نَحْوُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُوَ النَّوْعُ).
نقف على هذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!