الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
قال المصنف رحمه الله تعالى: (الْقَوْلُ الشَّارِحُ).
ولذلك قدَّم له المصنف هنا بقوله: (واعلم أن غرض المنْطِقي معرفة ما يوصل إلى التصور وهو القول الشارح، أو للتصديق وهو الحُجة، ولكلٍ منهما مقدِّمةٌ.
ولما فرغ من مقدمة الأول أخذ في بيانه فقال .. ).
كما عرفنا فيما سبق أن العِلم نوعان: عِلم تصوُّر، وعِلم تصديق.
والتصور له مبادئ وله مقاصد، مبادئه: الكُلِّيّات الخمس، وقد انتهينا منها. ومقاصده: المعرِّفات أو التعريفات أو القول الشارح.
وكذلك الشأن في العِلم الثاني "علم التصديق" له مبادئ وله مقاصد.
مبادئه: القضايا وأحكامُها، ومقاصدُه: القياس أو الحُجة أو البرهان.
قال هنا: (لما فرغ من مقدمة الأول) يعني: القول الشارح الذي هو علم التصور (أخذ في بيانه فقال: القول الشارح).
(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) أي: هذا بابُ بيان أقسام القول الشارح، فهو عنوان أو ترجمة.
(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) ويرادفُه المعرِّف بكسر الراء، المعرِّف والقول الشارح مرادفٌ له.
وقوله: (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) هذا مركَّب توصيفي.
(الْقَوْلُ) يُطلق على الملفوظ والمعقول. يعني: المعقولات تُطلَق عليها أنها قول، كذلك الملفوظات، الملفوظات واضح وهو بحثٌ لغوي.
وعند المناطقة يُطلق على المعقول أنه لفظ.
(ولا بد أن يكون مركَّباً).
(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) القول لا بد أن يكون مركباً.
(لأنهم) يعني: المناطقة.
(رفضوا التعريف بالمفرد، بل قيل: إنه غير صحيح.
وذكر السيد تبعاً للقُطب أن الحق هو: أن التعريف بالمعاني المفردة جائزٌ عقلاً، إلا أنه لما لم ينضبط انضباط التعريف بالمعاني المركبة ولم يكن أيضاً للصناعة فيه مدخلٌ لم يلتفتوا إليه).
قال: (وهذا هو تحقيق ما نُقِل عن ابن سينا) يعني مَنْعه التعريف بالمفرد.
إذاً: التعريف بالمعاني المركَّبة هذا هو الأصل، والعملُ على هذا.
أما هل يُعرَّف بالمعاني المفردة؟ فهذا من حيث الجواز العقلي هو الذي وقع فيه، منهم من أثبت ومنهم من نفى، لكن هل يقع في الخارج لكونه لا ينضبط كانضباط القول المركَّب؟ حينئذٍ لا يُلتَفت إليه، وإنما يُلتفت إلى المعاني المركبة.
إذاً: (الْقَوْلُ) المراد به المركَّب سواء كان القول يُطلق ويراد به الملفوظ أو المعقول.
حينئذٍ مركَّبٌ ملفوظ ومركَّبٌ معقول، صارت القسمة ثنائية: مركَّب معقول ومركَّب ملفوظ.
(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) الشارح هذا نعتٌ له، إذا جعلناه على ظاهره.
قال: (الشَّارِحُ)(سُمّي به لشرْحِه الماهيّة).
هكذا في نسخة: (سُمّي به لشرحه الماهيّة).
(وفي نسخة) وهي التي عليها الحاشية هنا الظاهر: (سُمّي شارحاً لشرحِه الماهيّة).
على هذه النسخة (سُمّي شارحاً لشرحه الماهيّة) لا اعتراض؛ لأن هذا التعليل لا لكونه قولاً وإنما لكونه شارحاً.
عندنا مركَّب توصيفي (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) قوله: (سُمّي به) الضمير يعود إلى أي شيء؟ هذا محل الإشكال.
هل المراد (سُمّي به) يعني: بـ (الْقَوْل الشَّارِحُ) أو أنه للمقيِّد أو القيد الذي هو الشارح؟ لا شك أنه للثاني ليس للأول.
يعني: سُمّي به يعني: بالشارح لا بالقول، ولذلك الحاشية عندكم على النسخة الثانية (سُمّي شارحاً لشرحه الماهيّة) هذا لا اعتراض .. لا إشكال فيه واضح. يعني: التعليل إنما هو وقع للقيد الثاني لا للموصوف.
(في نسخةٍ سُمّي شارحاً لشرحه الماهيّة) فلا اعتراض؛ لأنه ظاهر وهو واضحٌ بيِّن.
لأن ظاهر قوله في هذه النسخة: أن ذلك عِلَّة لمجموع قوله: الْقَوْلُ الشَّارِحُ.
(سُمّي به) يعني: بالقول الشارح، هذا ظاهرُه.
لأن ظاهر قوله في هذه النسخة -لشرحه الماهيّة-: أن ذلك عِلَّة لمجموع قوله: الْقَوْلُ الشَّارِحُ. وليس كذلك بل لقوله: الشَّارِح فقط.
ويمكن أن يقال -على تسليم صحة هذه النسخة-: إنه تفسيرٌ لقوله: الشَّارِحُ. فقط أيضاً فتوافقت النسختان.
لأن القول يُطلق على المركَّب الملفوظ والمعقول، فشهرتُه في الاصطلاح تُغني عن ذكره.
يعني: لا يحتاج أن يبيّن لنا القول لأنه مشهور، اشتهر في اصطلاح المناطقة مما لا يحتاج إلى ذِكْر أن القول إنما يُستعمل في المركَّب المعقول والملفوظ.
إذاً: الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح هو قوله: (الشَّارِحُ) وأما (الْقَوْلُ) فلا يحتاج إلى بيان.
ولذلك قيل: (سُمّي به) يعني: الشارح، طيب الضمير يحتمل أنه يعود إلى القول الشارح نقول: لا. ليس مراداً القول؛ لأنه لا يحتاج إلى إيضاح، بل اشتهر عندهم أن المراد به القول المعقول أو الملفوظ.
إذاً: قولُه سُمي به أي: الشارح.
(سُمّي به لشرحه الماهيّة بتبيينها ولو في الجملة) والشرح هو الإيضاح كما مر معنا في أول الكتاب: هذا شرحٌ لطيف.
الشرح هو الإيضاح والكشف.
(بتبيينها ولو في الجملة، أو تمييزها) فشمِل الحد تاماً وناقصاً، والرسم كذلك، وسُمِّي قولاً لتركيبه والقول عند المناطقة هو المركَّب، زاد بعضهم: تركيباً تاماً. وهذا سيأتي أن فيه خلافاً: هل القول يدخل تحته التركيب الناقص أو لا؟ الشارح عمَّم كما سيأتي.
إذاً: (سُمِّي به) أي: بالشارح (لشرحِه الماهيّة) لشرحه وكشفه وإيضاحه الماهيّة يعني: ماهيّة الشيء المعرَّف ولو في الجملة أو تمييزها.
وحينئذٍ دخل: الحد التام، والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص.
يعني: شمِل أنواع التعريف الأربعة.
قال: (ويقال له) يعني: يُسمَّى (التعريف).
أصله مصدر عرَّف المضاعف أي: التبيين، نُقِل إلى المعرِّف بالكسر لعلاقة التعلُّق الاشتقاقي والمناسب زيادة أيضاً والمعرِّف.
يعني: يقال له القول الشارح، والمعرِّف، والتعريف. كلها أسماء والمسمى واحد.
(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) وهذا اصطلاح المناطقة.
والتعريف والمعرِّف. هذا قد يشترك معهم غيرهم.
قال: (ومعرِّف الشيء) أراد أن يبيّن لنا حقيقة القول الشارح.
(ومعرِّف الشيء: ما تستلزم معرفتُه معرفتَه).
معرِّف الشيء بالكسر، معرِّف اسم فاعل، إضافته لامية يعني: معرِّفٌ للشيء.
إضافة لامية على معنى اللام يعني، معرِّفٌ للشيء أي: ماهيتِه وحقيقته. والشيء المراد به: الماهيّة.
معرِّف الشيء يعني: الكاشف للماهية والحقيقة، المراد به المعرَّف.
قال: (ما تستلزم معرفتُه معرفتَه) معرفتُه بالرفع على أنه فاعل، ومعرفتَه بالنصب على أنه مفعولٌ به.
قال العطار: لفظ المعرفة يُطلق على أمرين: أحدها: اتضاح أمرٍ للعقل بعد أن كان مجهولاً له.
لفظ المعرفة كثير في الاصطلاحات يفرِّقون بينها وبين العلم، وإن كان المعنى اللغوي الظاهر التساوي بينهما "اتحاد اللفظين" العلم بمعنى المعرفة والمعرفة بمعنى العلم.
على كلٍ هنا قال: تُطلق، وقد يقال بأنه استعمالٌ لغوي في بعض المواضع، وقد يقال بأنه اصطلاح في بعض الفنون، ولا مشاحة في الاصطلاح.
خاصة إذا جُعل للعلم معنًى خاصاً يعني: اصطلاحاً، حينئذٍ لا مانع أن يقال بأن ثم معنى يتعلق به بالمعرفة وهو اصطلاحٌ كذلك.
قال: لفظ المعرفة يُطلق على أمرين: أحدِهما: اتضاح أمرٍ للعقل بعد أن كان مجهولاً له. وهذا أشبه ما يكون بالإدراك، أدرك المعنى فاتضح له، سواء كان المعنى مفرداً أو كان المعنى مركباً.
الثاني: خطور أمرٍ للعقل. يعني: خَطَر، وقد يكون عن غفلة أو سهوٍ فخطر يسمى معرفة.
إذاً: ما يزال به الجهل واتضاح الأمر بعد أن كان مجهولاً يسمى معرفة، إذا كان ثم غفلة أو سهوٌ وحصل خُطور للمفرد أو المركب بالبال يسمى معرفة .. يُطلق ويراد به هذا المعنى ويُطلق ويراد به المعنى الثاني.
قال: ولفظ المعرفة وقع في التعريف ثلاث مرت: معرِّف الشيء، معرفتُه، معرفتَه. ثلاث مرات وقع لفظ المعرفة.
ولفظ المعرفة وقع في التعريف ثلاث مرت: أحدُها: قوله: المعرِّف فإنه مشتقٌ من لفظ المعرفة.
الثاني والثالث: قوله: ما تستلزم معرفتُه معرفتَه. هذه ثلاث مواضع.
إذاً: وعندنا المعرفة بمعنيين، ما المراد؟ معرِّف الشيء، معرفتُه، معرفتَه .. ما المراد؟ هل المراد التحصيل، أو اتضاح الشيء بعد أن كان مجهولاً؟ هل المراد خطور الشيء بالبال؟
قال: فالمعرِّف أولاً -معرِّف الشيء- بمعنى المحصِّلِ لما كان مجهولاً عند العقل. هذا واضح من كونه باسم الفاعل معرِّف، إذاً: محصِّل.
محصِّل لأي شيء؟ لما كان مجهولاً عند العقل.
والثاني -الذي هو الفاعل .. معرفتُه- بمعنى الخطور بالبال. خَطَر بالبال.
والثالث بالمعنى الأول: الذي هو: اتضاح أمرٍ للعقل بعد أن كان مجهولاً له، لماذا؟ لأن الثاني هو النتيجة .. معرِّف الشيء: ما تستلزم معرفتُه معرفتَه، معرفتَه هذا المفعول به لا بد أن يكون منكشِفاً ومتضحاً بعد أن كان مجهولاً.
إذاً: لئلا يلزم الدور، حينئذٍ لا بد أن نجعل معرفتُه الذي هو فاعل بمعنًى مغاير، وإلا الشيء لا يُحصِّل نفْسَه، وإلا كيف يكون ضرب زيدٌ زيداً؟ هل يصح هو الضارب نفسه ضرب زيدٌ زيداً؟ لا يصح، كيف معرفتُه معرفتَه؟ إذاً: لا بد أن نفْصِل.
فنجعل معرفتُه -التي هي الفاعل- بمعنى الخطور بالبال، ومعرفتَه -التي هي المفعول به- بمعنى اتضاح الشيء بعد أن كان مجهولاً.
والمعرِّف بمعنى المحصِّل ولا إشكال، إذاً: لا اعتراض.
(فالمعرِّف إذا ذُكر للسامع كان مقصوداً منه: أن هذه الأجزاء اشتمل عليها المعرِّف، وكانت معلومة عند السامع تُذكر لتخطُر بباله، ويؤتى بها محمولة على المعرَّف فيحصل له بسبب ذلك ما كان مجهولاً عنده).
لأنه يقول: ما الإنسان؟ حيوانٌ ناطق.
بالنسبة للسامع ما الذي يجهله من هذا التركيب؟
أنا سألتكم: ما الإنسان؟
قلتم: حيوانٌ ناطق.
هل أنا أجهل حيوان ناطق؟ لا. وإلا ما حصل التعريف، أنت تأتي بكلمات معلومة عندي أنا السائل.
إذاً: الذي وقع عنه السؤال وقع جهلي به هو معنى مفردة الإنسان، فسألتُ: ما الإنسان؟ حينئذٍ تأتي بالتعريف أنت فتقول: حيوانٌ ناطق. إذاً: لما قلت: حيوان ناطق حصل عندي انكشاف بسبب هذه المعلومات التي هي مستقرة عندي، وهذا الذي يُعنى به، ولذلك قال:(فالمعرِّف) حيوانٌ ناطق (إذا ذُكر للسامع كان مقصوداً منه: أن هذه الأجزاء) حيوان ناطق (اشتمل عليها المعرِّف، وكانت معلومة عند السامع) لا بد أن تكون معلومة، وإلا لا يُرفع المجهول بالمجهول. الإنسان مجهولٌ عندي فتأتي بلفظٍ مجهول حيوان وأنا لا أدري معنى حيوان، وحينئذٍ يلزم أسألك؟
ما الإنسان؟ حيوانٌ ناطق، طيب ما الحيوان الناطق؟ فتأتي بكلمات، إذاً: مجهولة عندي ونبدأ إلى الصباح، لا بد أن يكون اللفظ الذي يقع جواباً في المعرِّفات أن يكون معلوماً عند السامع فيحصل به الانكشاف.
ولذلك قال العطار: (فالمعرِّف إذا ذُكر للسامع كان مقصوداً منه: أن هذه الأجزاء) حيوان ناطق مثلاً (اشتمل عليها المعرِّف، وكانت معلومة عند السامع تُذكَر لتخطرَ بباله) لأنها ستُحرِّك ما عنده، لا بد أن يصل بالمعلوم عنده إلى المجهول فتنتهي المسألة.
قال: (ويؤتى بها محمولة على المعرَّف).
الإنسان حيوانٌ ناطق، فجئت بالحيوان الناطق، المعلوم عند السامع جعلتَه محمولاً على المعرَّف الذي هو الإنسان، لا بد من هذه النسبة، وإلا ما يحصل عند السامع الانتباه إلى أن ثم ارتباط بين المعرِّف والمعرَّف.
قال: (ويؤتى بها محمولةً على المعرَّف فيحصل له بسبب ذلك ما كان مجهولاً عنده، وهو كونُ تلك المعقولات التي كانت معلومةً عنده، وأُخطِرت الآن بباله جملتُها هي: حقيقةُ المعرَّف).
فيعرف معنى الحيوان ويعرف معنى الناطق، وقد يُدرِك النسبة بينهما، لكن لا يدري أن هذه حقيقة الإنسان، فالمعرِّف يجعل عنده شِبْه انتقال وترتيب فقط، وإلا لا يأتي بشيءٍ جديد خارج عنه إلا إذا احتاج إلى تفسير لفظٍ فحينئذٍ يكون خارجاً عن الحد.
وإلا إذا قال له: حيوانٌ ناطق كأنه قال له: انتبه! كلمة حيوان معلومة عندك، وكون ناطق معلومة عندك، لكن أنت اربط بينهما واجعل بينهما نسبة، واجعلها محمولاً "يعني: محكوماً به" على الذي عندك –المجهول- فينكشف الحال، وهذا المراد بالتعريف.
(فيحصل له بسبب ذلك ما كان مجهولاً عنده، وهو كون تلك المعقولات التي كانت معلومة عنده، وأُخطرت الآن بباله جملتُها هي: حقيقة المعرَّف التي كانت مجهولة عنده، هذا هو معنى كلامه) هكذا قال العطار وهو واضحٌ بيّن.
قال: (ومعرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه) معرفتُه أي: المعرِّف بالكسر، معرفتَه أي: الشيء المعرَّف بالفتح.
قال: (فلفظ ما جنس واقعٌ على قولٍ أو أمرٍ).
وقوله: (تستلزم .. إلى آخره، فصلٌ لتحقيق ماهيّة المعرِّف وإخراج غيره).
بقي إشكال: "ما تستلزم معرفتُه معرفتَه" هل هذا الحد يشمل الحد الناقص والرسم بنوعيه أو لا؟
قال المحشي: (بُحث فيه) يعني: في هذا التعريف.
هل المراد بالمعرفة بالكُنْه أو بوجهٍ ما؟
بالكُنه يعني: بالحقيقة على الوجه التام، إذا قيل: على الوجه التام فحينئذٍ يُحمَل التعريف على الحد التام؛ لأنه هو الذي يكون بالذاتيات، وما عداه الذي هو الرسم وغيرُه، وقد يكون كذلك الحد الناقص يكون خرج، إن قلنا بوجهٍ ما يعني: معرفةٍ ما ولو ببعض الذاتيات، فيدخل فيها من بابٍ أولى جميعُ الذاتيات.
هل المراد بالمعرفة من كل وجه؟ أقصاها وهي التي تحصل بالذاتيات، فيكون الحد هنا خاصاً بالحد التام، أو المعرفة بوجهٍ ما؟ هذا محل النزاع.
(وبُحث فيه بأنه إن أُريد بالمعرفة بالكنه) يعني: بالحقيقة، وهذه إنما تكون بالذاتيات يعني: حد التام.
(لم يشمل الرسم) بالذاتيات على كلامه (لم يشمل الرسم) يعني: بالذاتيات ولو ببعضها.
(وإن أُريد المعرفة بوجهٍ ما لم يشمل الحد) خرجت يعني.
(فالمناسب زيادة) على ما اشتهر عند صاحب الشمسية وغيره.
(أو امتيازه) يعني: تمييزه عن غيره؛ لأن الرسم لا يحصل به تمييز الحقيقة؛ لأنه لا يكون بالذاتيات .. الرسم لا يكون بالذاتيات، وإنما الحد هو الذي يكون بالذاتيات.
"تامة" فالحد التام، أو بعضها فالحد الناقص.
إذاً: ما عداه الذي يكون بالعرَضيات هذا هو الرسم، حينئذٍ لا يحصل به.
ولذلك قال: (أو امتيازُه) يعني: تمييزه عن غيره.
كما يقال: ما الإنسان؟ يقال: الضاحك، الضاحك هذا ليس داخلاً في مفهوم الإنسان، وإنما هو خاصة له يعني: عرَض، ومر معنا أنه عرضٌ خاص يعني: خاصةٌ أو لازمة.
فحينئذٍ نقول: الضاحك هذا ليس داخلاً في الماهيّة؛ لأن ماهيّة الإنسان مؤلَّفة من جزأين اثنين فقط: حيوان، ناطق.
والضاحك هذا منفكٌ عنه، والمراد بالضحك هنا الضحك بالقوة.
فحينئذٍ هل هذا داخلٌ في الحد: معرفتُه معرفتَه؟ الظاهر لا. ولا بد من إدخاله، فنقول:(أو امتيازُه).
إلا إذا حملنا "معرفتُه معرفتَه" ولو بوجهٍ ما، حينئذٍ دخل ما يحصل به التمييز، وعلى هذا المعنى حمله العطار قال: لا نحتاج إلى امتيازه.
إذاً: هل الزيادة نحتاجها أو لا؟ مبنيٌ على تفسير المعرفة، هل المراد بالمعرفة بالكُنه بالحقيقة الواقعة بالذاتيات؟ فيشمل الحد بنوعيه على ظاهر كلام المحشي: التام والناقص، أو المراد بالمعرفة ولو بوجهٍ ما؟ فلا يُشترط حينئذٍ أن يكون بالذاتيات بل ولو بالعرضيات. هذا محل نزاع والأمر واضح بيّن.
قال: (فالمناسب زيادة: أو امتيازُه.
فالحد التام تستلزم معرفتُه المعرفة، والحد الناقص والرسم مطلقاً تستلزم معرفتُه التميُّز) فحينئذٍ يمتاز أو يتميّز بالآثار والعرَضيات التي تكون مميزةً له، وأما الذاتيات فلا.
قال هنا في الشمسية في تعريف المعرِّف: (معرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه أو امتيازَهُ) بالنصب، أو امتيازَهُ يعني: ما تستلزم معرفتُه امتيازَه.
(أو امتيازَهُ عن كل ما عداه).
وفي شرحها للقطب (إنما قلنا: أو امتيازه إلى آخره ليتناول الحد الناقص) بخلاف أول كلام المحشي (ليتناول الحد الناقص والرسم).
لأنه إذا قيل: "معرفتُه معرفتَه" حُمل على الكمال وهو أن يقع بالذتيات على جهة الكمال، فلا يكون كذلك إلا في الحد التام.
(ليتناول الحد الناقص والرسم، فإن تصوراتها لا تستلزم تصور حقيقة الشيء دون امتيازه عن جميع أغياره).
إذاً: معرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه.
قال هنا العطار: (ويرِد على هذا التعريف أمور:
الأول: أن لفظ المعرفة إن كان حقيقة فيهما، لزم اشتمالُ التعريف على المشترَك) يعني: في المعنيين السابقين، قلنا: يأتي بمعنى الإيضاح وبمعنى خطور البال.
حملنا الأول على الأول والثاني على الثاني، أو حملنا الأول على الثاني والثاني على الأول.
الأول: هو اتضاح الشيء بعد أن كان مجهولاً عنده، وهذا فسَّرنا به المفعول به: معرفتَه.
أو المعنى الثاني: خطور الشيء بالبال عن غفلة أو سهو.
حينئذٍ حملنا المعنى الأول -معرفتُه الذي هو الفاعل- عليه. إذاً: المعرفة تُستعمل بهذين المعنيين، هل هو مشترَك لفظي أو أنه حقيقةٌ في النوع الأول ويكون مجازاً في الثاني أو بالعكس؟ ويلزم منه ماذا؟
وقوعُ المشترَك اللفظي في التعريف، وهو ممنوعٌ عند الجماهير.
والثاني: استعمالُ المجاز في التعريف، وهو ممنوعٌ عند الجماهير. إذاً وقعنا في إشكال، هذا أو ذاك.
الأول: أن لفظ المعرفة إن كان حقيقة فيهما "المعنيين السابقين" لزم اشتمال التعريف على المشترك وهو ممنوع، أو حقيقة ومجاز لزم دخول المجاز في التعريف وهو ممنوع.
وإن كان الصواب ما ذهب إليه الغزالي -أبو حامد-: أنه يجوز دخول المجاز في التعريف، لكن إذا وُجدت قرينة ظاهرة واضحة بيّنة، وكذلك المشترَك يجوز دخوله في التعريف لكن بشرط: أن يكون ثَم قرينة، فكل ما وُجدت فيه قرينة جاز؛ لأنه مُنِع من المشترك، ومُنع من المجاز لئلا يرد الوهم بأن غير المحدود –مثلاً- يكون داخلاً في الحد.
فإذا أمكن دَفْعُه بلفظٍ، بوصفٌ، بقرينة حينئذٍ لا إشكال فيه، فيستعمل اللفظ المشترك لكن بقرينة، ويُستعمل المجاز لكن بقرينة.
قال هنا: (فأُجيب عنه) يعني: أجاب بعضهم .. لا يرتضيه العطار.
أجاب بعضهم (بأنا نختار الثاني) أنه مجاز لا مشترَك.
(وقرينة المجاز) أين القرينة؟
قال: (قرينة معنوية، وهي امتناع تعريف المجهول بالمجهول).
هذه قرينة ليست ظاهرة "خفية" ولا يُعدل إلى القرائن الخفية، لا بد تكون قرينة واضحة بيّنة ظاهرة، كل من يقرأ التعريف يقف على القرينة، فإذا كان كذلك فحينئذٍ لا يُستعمل المجاز.
إذاً القول بأنا نختار الثاني وهو أنه مجاز، فأين القرينة؟ قالوا: معنوية ليست لفظية، ما هي هذه القرينة؟
قال: (امتناع تعريف المجهول بالمجهول).
صحيح يمتنع تعريف المجهول بالمجهول، ولذلك قلت لكم: إذا كان يجهل معنى الحيوان الناطق فلا يمكن أن يرفع به جهله بالإنسان، لا بد أن يكون معلوماً، هذا حق.
لكن كيف نصل إلى هذه القرينة؟ هذه القرينة بعيدة.
قال: (وهذا الجواب ضعيف؛ لأن هذه القرينة خفيّة، فالأحسن الجواب بمنع الاشتراك والحقيقة والمجاز).
لا نقول: مشترَك، ولا نقول: حقيقة ولا مجاز، وإنما نقول: هو من قبيل المتواطئ.
فيُستعمل في معنييه؛ لأنك لو تأملت التفرقة بين المعنيين هذه تفرقة اعتبارية، خطُورُهُ بالبال بعد أن لم يكن، إذاً: حصل فيه انكشاف، وإن كان في الأول رَفعَ به جهلاً، والثاني لم يرفع به جهلاً وإنما كشف الغفلة التي عمَّت على الشيء المعلوم عنده.
يعلمه هو، لم يكن جاهلاً به، لكنه مثلاً نسيه أو غفل عنه، فيأتي هذا المعرِّف فيرفع عنه ذلك الشأن.
إذاً: بينهما فرقٌ اعتباريٌ فقط وإلا متقاربان.
قال: (والأحسن الجواب بمنع الاشتراك والحقيقة والمجاز، والمصير إلى ما اختاره البعض من إطلاق المعرفة على المعنيين من قبيل المتواطئ).
ومر معنا المتواطئ، هو نوعٌ من أنواع الكلِّي.
قلنا ينقسم الكلِّي إلى قسمين باعتبار استواء أفرادِه في معناه وعدمها، فإن استوى الأفراد في المعنى فهو المتواطئ، وإن اختلفا بالشدة أو التقدُّم قلنا هذا المشكِّك.
جعَلَه هنا العطّار من قبيل المتواطئ.
(فهي بمعنى تصور الشيء الذي هو قدرٌ مشترَك بين ما كان عن جهلٍ أو غفلة).
يقول: (من قبيل المتواطئ فهي بمعنى تصور الشيء) إذاً: ما هي المعرفة في النوعين؟ تصور الشيء.
إذاً: حصل في المعنى الأول تصور، وحصل في المعنى الثاني تصور. إذاً: هذا قدرٌ مشترك.
(تصور الشيء الذي هو قدرٌ مشترك بين ما كان عن جهلٍ) وهو المعنى الأول (أو غفلة).
(عن جهلٍ أو غفلة) ولا فرق من حيث الجهل والغفلة فيما يترتب عليهما من أحكام.
(الثاني) الاعتراض الثاني (أن قوله: ما يستلزم معرفتُه معرفتَه يقتضي أن مجرّد تصور المعرِّف يكفي في تصور الحقيقة، وليس كذلك.
بل السبب مجموعُ أمرين: التصور المذكور، وحملُ المعرِّف على الحقيقة).
يعني: لا بد أن يكون عندنا محكوم ومحكوم عليه، ما الإنسان؟ تقول: حيوانٌ ناطق الجواب. حيوان ناطق هذا لا بد أن تجعله محمولاً، أين الموضوع؟ الإنسان.
إذاً: لا بد من ربط، أما التصور المفرد هذا لا يكفي، لكن هذا معلوم، هذا لا يحتاج إلى تنصيص.
قال: (أن قوله: ما يستلزم معرفتُه معرفتَه يقتضي أن مجرَّد تصور المعرِّف يكفي في تصور الحقيقة، وليس كذلك.
بل السبب مجموع أمرين: التصور المذكور، وحملُ المعرِّف على الحقيقة، ولذا قال في التهذيب: معرِّف الشيء ما يقال عليه).
الحيوان والإنسان معرِّف الإنسان، ما يُحمل عليه .. على من؟ على الإنسان.
(معرِّف الشيء) يعني: كمعرِّف الإنسان حيوان ناطق (ما يقال عليه) يعني: ما يُحمل عليه، لا بد من هذه النسبة.
وأما تصور المفردات هذا لا يكفي.
قال: (ما يقال عليه لإفادة تصوره.
وقد يجاب) يعني: عن هذا الاعتراض، أن ظاهره لا يستلزم الحمل لا.
نقول: (يجاب عن هذا بأنه: لما كان أمر الحمل شهيراً لم يتعرض له) هذا لا بد منه. يعني: أمر أشبه ما يكون بأنه فطري لا يحتاج إلى تنصيص؛ لأنه يسأل: ما الإنسان؟ تقول له: حيوان ناطق.
إذاً: يُدرِك العقل ببداهة النظر أن الجواب هذا واقعٌ على المسئول عنه، فيكفي هذا.
ولذلك قال: (بأنه: لما كان أمر الحمل شهيراً لم يتعرض له؛ إذ المعرِّف لا بد وأن يُحمل على المعرَّف، وبه يندفع الاعتراض.
قال القطب: معرِّف الشيء ما يكون تصوره سبباً لتصور الشيء).
تصوره كالحيوان الناطق سبباً لتصور الإنسان، ولا بد أن يكون تصور الشيء الأول هذا معلومٌ عند السامع.
(والمراد بتصور الشيء التصور بوجهٍ ما) أراد هنا أن يرجع إلى قضية المعرفة (بوجهٍ ما) هذا كلام العطّار.
(أعم من أن يكون بحسب الحقيقة) بالكُنه، الذي عبَّر عنه المحشي هنا: المعرفة بالكنه. يعني: بالحقيقة بذاتِها يعني: الذاتيات.
(أو بأمرٍ صادق عليه؛ ليتناول التعريف الحد والرسم معاً).
وهنا في الشرح: أراد الشارح (يُراد بالمعرفة بوجهٍ ما)، إذاً: قوله: (بوجهٍ ما) هذا تفسير من العطار لتعريف الشارح هنا (ليشمل الرسمَ).
وإن جعلناه على وجه التمام ولم نجعله بوجهٍ ما لا بد من زيادة: "أو امتيازه عن غيره" ليدخل الرسم.
قال رحمه الله تعالى: (ومُعرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه، والتعريفُ إما حدٌ أو رسمٌ، وكلٌ منهما إما تامٌ أو ناقص).
كم هذه؟ اثنين × اثنين= أربعة.
إذاً: [حدٌ تام، حدٌ ناقص] .. [رسمٌ تام، رسمٌ ناقص] هذه أربعة.
قال: (ودليل حصرِه) يعني: التعريف؛ لأنه قال: (والتعريف إما حدٌ أو رسمٌ).
(ودليل حصره) يعني: التعريف في الأربعة التي هي: الحد التام، والناقص، والرسم التام، والرسم الناقص.
(أنه) أي: الحد أو التعريف.
(إما أن يكون بجميع الذاتيات فهو الحد التام).
(إما أن يكون بجميع الذاتيات) يعني: الذات المركّبة، هنا قلنا: لا بد التعريف ما يكون إلا في المركّبات، لا بد أن يكون عندنا تركيب، قلنا: القول المراد به المركّب، واشتهر ذلك عندهم وأُطلق لأن التعريف بالمفردات "المعاني المفردة" لا يقع، يجوز عقلاً لكنه لا يوجد لعدم انضباطه.
إذاً: لا بد أن يكون مركَّباً.
إذا قيل: الإنسان الحيوان هذا جزءٌ، الناطق هذا جزء.
إذاً: لا بد أن يتألف من جزأين.
هنا الجزءان كلٌ منهما ذاتيٌ؛ لأن الحيوان جنس وهو نوعٌ من أنواع الكلِّي الذاتي، والحيوان الناطق هذا فصلٌ وهو كُلّيٌ ذاتيٌ.
إذاً: حصل هنا التعريف بالذاتيات، هل ثم جزءٌ ثالثٌ يُحقق حقيقة الإنسان غير ما ذُكِر؟ لا. إذاً: جاء الحد هنا أو التعريف بجميع الذاتيات، ليس عندنا شيءٍ ناقص البتة.
لو قال: الإنسان الحيوان فقط ببعض الذاتيات، بقطع النظر عن صحة التعريف، نقول: جاء ببعض الذاتيات، لو قال: الإنسان الناطق. جاء ببعض الذاتيات لا بجميعها.
إذاً: متى يكون الحد تاماً؟
نقول: يكون الحد تاماً إذا جاء في التعريف بجميع الذاتيات، لم يترك ذاتياً أو جزءاً واحداً منها.
إذاً: (إما أن يكون بجميع الذاتيات فهو) أي: هذا التعريف (الحد التام) يعني: المسمى في الاصطلاح بالحد التام.
(أو) للتنويع (ببعضها) أي: ببعض الذاتيات.
قيَّده في الحاشية العطّار (من غير انضمام عرَضٍ إليها).
(ببعضها) واضح أنه الذاتيات.
(من غير انضمام عرضٍ إليها) لأنه لو انضم عرضٌ إليها قد يكون رسماً، والمراد هنا النوع الثاني من نوعي الحد وهو الناقص، ولذلك قال المحشي هنا:(ببعضها صادقٌ بالجنس وحدَه قريباً أو بعيداً، وبالفصل البعيد).
فيأتي بالفصل البعيد ويأتي بالجنس وحده، هذا يسمى الحد الناقص، ولذلك قال:(فالحد الناقص) وهو ما كان ببعض الذاتيات من غير انضمام عرضٍ إليها.
(أو) للتنويع.
(بالجنس القريب والخاصة) الجنس القريب هذا ذاتي، والخاصة هذا عرَضي.
إذاً: جمَع بين كُلّيٍ ذاتي، وكُلِّيٍ عرضيٍ. إذاً: زاد على الذاتيات، لم يختص الحد بالذاتيات، ولم ينقص عن الذاتيات فيُكتفى بالذاتيات، بل جاء ببعض الذاتيات وزاد عليه بعض العرضيات.
(أو بالجنس القريب والخاصة فالرسم) يعني: فهو الرسم .. يسمى.
(الرسم التام، أو بغير ذلك فالرسم الناقص).
(بغير ذلك) يعني: غير ما ذُكِر.
غير الذاتيات: جميع الذاتيات، وغير بعض الذاتيات، وغير الجنس القريب والخاصة. سم ما شئت، أوصلها بعضهم إلى الستين وبعضهم إلى الثلاثين.
ما عدا المذكور فيسمى رسماً ناقصاً على تفصيلٍ يأتي.
قال هنا: (أو بغير ذلك فالرسم الناقص) فالرسم يعني: فهو الرسم (الناقص).
قال: (فعلى هذا العرَض العام مع الفصل أو الخاصة، والفصل مع الخاصة، أو الجنس البعيد مع الخاصة كلها رسومٌ ناقصة) لأن هذا كله ليس مذكوراً فيما سبق؛ لأنه قال: العرض العام. ما ذُكر في الذاتيات الحد التام ولا الحد الناقص ولا الرسم التام.
الرسم التام يكون بالجنس القريب والخاصة، إذاً: لو عرّفنا بالعرَض العام مع الفصل هذا رسمٌ ناقص، أو العرض العام مع الخاصة هذا رسمٌ ناقص، أو الفصل مع الخاصة هذا رسمٌ ناقص، أو الجنس البعيد مع الخاصة هذا يسمى رسماً ناقصاً.
قال: (فالرسم الناقص).
قال السيد هنا: الصواب أن المركّب من عرض العام .. بعضها فيها خلاف عندهم تسمى حداً ناقصاً أو رسماً ناقصاً، هل هذا أو ذاك؟
(قال هنا السيد: الصواب أن المركَّب من عرض العام والخاصة رسمٌ ناقص، لكنه أقوى من الخاصة وحدها، وأن المركَّب منه ومن الفصل حدٌ ناقص، وهو أكمل من الفصل وحده، وكذا المركّب من الفصل والخاصة حدٌ ناقص، وهو أكمل من العرض العام والفصل.
وقولُهم: لا حاجة إلى ضم الخاصة إليه مدفوعٌ بأن التمييز الحاصل بهما أقوى من التمييز بالفصل وحدَه، فإن أُريد الأقوى احتِيج إلى ضم الخاصة إلى الفصل).
على كلٍ: المراد هنا أن بعض المسائل وقع فيها نزاع: هل هي من الحد الناقص أو من الرسم الناقص؟
قال: (وبقي خامسٌ) أي: من أقسام التعريف.
مُعَرِّفٌ إِلى ثَلاثَةٍ قُسِمْ
…
حَدٌّ وَرَسْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ عُلِمْ
ج
"حدٌ ورسميٌ" كلٌ منهما اثنان، "ولفظيٌ" إذاً: هذا الخامس، ولذلك قال:(بقي) يعني: من أقسام الحد.
(خامسٌ، وهو التعريف اللفظي، وهو ما أنبأ عن الشيء بلفظٍ أظهر مرادفٌ مثلُ: العُقارُ الخمرُ).
(وبقي خامسٌ) المصنف فيما سبق قال: أربعة .. (ودليلُ حصره في الأربعة).
ما معنى حصر؟ يعني: ما عدا المذكور منفي.
الحصر: هو إثباتُ الحكم في المذكور ونفيُه عما عداه.
إذاً: حصرْنا عدَد التعريف في أربعة، وما عداه منفي، كيف تقول:(ودليلُ حصرِه في الأربعة) والأربعة عدد له مفهوم هنا، ثم تقول:(وبقي خامس) هل هذا نقْضٌ أم لا؟
قال العطار: (هذا نقضٌ للحصر السابق).
(هذا) يعني: قوله: (وبقي خامسٌ).
(نقضٌ للحصر السابق، لكنه مبنيٌ على أن التعريف اللفظي) هل هو من المطالب التصورية أم التصديقية؟ هذا بينهم خلاف.
على القول بأنه من المطالب التصورية، هل التعريف اللفظي يُعتبر نقضاً هنا؟ نعم؛ لأن الحد التام والناقص، والرسم التام والناقص. هذا من قبيل التصورات أم التصديقات؟ التصورات.
وإذا زدنا التعريف اللفظي بأنه من التصورات صار نقضاً .. نُسلِّم، وإذا قيل بأنه من التصديقات هل يُعتبر نقضاً؟ لا؛ لأن بحثنا في التصورات.
إذاً: يقول: (هذا نقضٌ للحصر السابق، لكنه) استدراك (مبنيٌ على أن التعريف اللفظي من المطالب التصورية، وهو ما اختاره السعد).
(وحقق السيد: أنه من المطالب التصديقية) وليس من المطالب التصورية، وعليه: ظاهر صنيع الشارح هنا أنه يرى ما يراه السيد، وهو أنه من المطالب التصديقية، فحينئذٍ لا يُعتبر نقضاً وإلا كيف يقول:(ودليل حصره في الأربعة) ثم يقول: (وبقي خامسٌ)؟ هذا تعارض .. تناقض هذا.
حينئذٍ نقول: لا. هو يميل بظاهر كلامه بدليل حصَرَ التعريف الأقسام في الأربعة، ثم قال:(وبقي خامس) ثم أشار إلى أنه يرى أنه من التصديقات لا من التصورات.
قال: (وحقق السيد: أنه من المطالب التصديقية؛ فإنه قال: المقصود منه) يعني: التعريف اللفظي.
(الإشارةُ إلى صورة حاصلة، وتعيينُها من بين الصور الحاصلة).
صورة حاصلة: البُر القمح، والقمح البر. أشار إلى صورة حاصلة يعني: موجودة، وتعيينُها عن غيرها.
(ليُعلم أن اللفظ المذكور موضوعٌ بإزاء الصورة المشار إليها، فمآلُه إلى التصديق والحُكم بأن هذا اللفظَ موضوعٌ بإزاء ذلك المعنى.
فلذلك كان قابلاً للمنع، فيُحتاج إلى النقل من أصحاب اللغة والاصطلاح).
وهذا وإن كان فيه شيءٌ من التكلُّف والتعسف، لكنه محتمِل؛ لأنه قال: مثلاً –كالمثال- (العُقارُ الخمر) لو سُئل ما العُقَار؟ قال: الخمر.
إذاً: ماذا يُستفاد؟
يستفاد بأن العُقار هذا اللفظُ وُضع بإزاء المعنى الذي وُضع له الخمر، هذا فيه حُكمٌ، لكن هل هو من المقاصد، هل هو من المطالب؟
من رأى أنه من المطالب يُسلَّم بأن هذا الكلام في محله، ومن رأى أنه ليس من المطالب -المقاصد- التي يُعتنى بها حينئذٍ قد يقال فيه شيءٌ من التعسف، فجعْلُه من التصورات أقرب من جعلِه من التصديقات؛ لأنه إنما يكون من التصديقات على وجه التكلّف، بأن هذا اللفظ وضع بإزاء هذا المعنى. طيب جميع الألفاظ وضعت بإزاء المعاني، هل هناك لفظٌ لم يوضع بإزاء معنى؟ ما الفائدة؟ وإنما تكشِف هذا اللفظ الذي هو العُقار بأنك ما تدري ما هو، تكشفه بما دل عليه لفظ الخمر.
حينئذٍ هما مصدقهُما واحد: العُقار الخمر، والخمر هو العُقار، فجهِل العُقار حينئذٍ فسَّره بالخمر، إذاً: ليس مراداً ابتداءً بأن هذا اللفظ وُضع لهذا المعنى، وإنما هذا اللفظ مرادف لهذا اللفظ.
ثم إذا حَكم بأنهما مرادفان لا شك أنه عنده سيكون انتقال من كون هذا اللفظ وُضع بإزاء ذلك المعنى. على كلٍ المعنى محتمِل.
قال هنا: (وفي كلام الشارح ما يقتضي الميل لكلام السيد؛ حيث قال: وهو ما أنبأ؛ إذ الإِنباء الإخبار، ولا يكون إلا في التصديقات).
"الإخبار" لا بد من محمول وموضوع، ففيه إيماء لعدم وُروده على الحصر.
إذاً: الشاهد من هذا: أن قول المصنف: (ودليلُ حصرِه في الأربعة) ليس منتقضاً بقوله: (بقي خامسٌ) لماذا؟
لأنه يميل في ظاهر عبارته إلى ما حققه السيد من كون المعرِّف المرادف اللفظي هذا ليس من قبيل التصورات وإنما من قبيل التصديقات، على الوجه المذكور، ونحن نقول: الأولى أن يُجعل من قبيل التصورات والله أعلم.
قال هنا: (وبقي خامسٌ، وهو التعريف اللفظي، وهو ما أنبأ) أنبأ يعني: أخبر أو دل.
(عن الشيء) يعني: عن المعنى والمفهوم والمدلول.
(بلفظٍ أظهر) منه (مرادفٌ) مرادِفٌ لأي شيء؟ للشيء.
(ما أنبأ عن الشيء بلفظٍ) يعني: بسبب لفظٍ، الباء سببية.
(أظهَرَ منه مرادفٌ) أظهر منه: من الشيء، مرادفٌ له يعني: للشيء. فالشيء يكون مجهولاً كالعُقار.
فنأتي بلفظٍ مرادفٍ للعُقار يكون أظهر عند السائل أو السامع، أظهر من ماذا؟ نأتي بلفظٍ "الذي هو الخمر" مرادفٍ للعُقار الذي عند السائل مثلاً.
(مثل العقارُ الخمر) العُقار قال في القاموس: وبالضم الخمرُ، العَقار العُقَار.
قال: وبالضم –العُقار- الخمرُ.
(لمعاقرتها أي: لملازمتها الدَّنّ أو لعقْرِها شاربَها عن المشي) تعقِرُه .. ليس كل إنسان تعقره.
إذاً العُقار المراد به الخمر.
قال هنا –فائدة-: (جعلُ المثال والتقسيم من قبيل المعرِّفات) بعضهم زاد المثال، وبعضهم زاد التقسيم أنها من المعرِّفات، فعرَّف الكلمة، ما هي الكلمة؟
قال: إما اسمٌ، وإما فعلٌ، وإما حرفٌ.
ما هو الاسم؟
قال: كزيدٍ، ولذلك جرى على ذلك سيبويه قال: الاسم كزيد، عرَّف الاسم بالمثال.
الفعل كقام، الحرف كـ: إلى .. وهلم جرَّا.
(جعلُ المثال والتقسيم من قبيل المعرِّفات، وأنهما رسمان تساهلٌ).
(نعم التقاسيم تتضمن التعاريف، لا أن نفس التقسيم تعريف؛ لأن الغرض من كل منهما مختلف؛ إذ الغرض من التقسيم تحصيل الأقسام، ومن التعريف تصور المعرَّف.
فمن ثَم تراهم دائماً -يعني: العلماء- يقدمون تعريف الشيء على تقسيمه؛ لأن الشيء تُعرف حقيقته -يعني: أولاً- ثم يُقسَّم بعد ذلك إلى أقسام). هذا واضح بيّن.
تُعرف ما معنى الكلمة أولاً، ثم بعد ذلك اذكر أقسامها، أما الكلمة إما اسم وإما فعل وإما حرف هذا نقول: يتضمن التعريف لكنه ليس هو بتعريف.
قال: وأما المثال فليس مما يورَد في مقام التصورات، بل التصديقات؛ لأنه ليس من قبيل التصورات بل التصديقات.
يدل عليه قولهم -يعني: في المثال-: أنه جزئيٌ يُذكر لإيضاح القاعدة، هذا المثال.
والشاهد: جزئيٌ يُذكَر لإثبات القاعدة، عندما تقول: هذا شاهد وهذا مثال، هذا في النحو يكثر، تأتي بمثال وتأتي بشاهد.
طيب: الشاهد ما علاقته بالقاعدة؟ لإثباتها، وأما المثال لا، وإنما لإيضاح القاعدة وشرْحِها، تقول: الفاعل مرفوع كقام زيدٌ، المبتدأ مرفوع كزيدٌ قائم.
والشاهد يُشترط فيه أن يكون مسموعاً بشرطِه يعني: مما نطقت به العرب، وأما المثال فلا، ممكن تصطنع مثالاً من عندك أنت ويصلُح لإيضاح القاعدة.
إذاً: المثال جزئيٌ يُذكر لإيضاح القاعدة، فحينئذٍ صار من باب التصديقات لا من باب التصورات.
إذاً: التقسيم والمثال ليسا نوعين من أنواع المعرِّف على ما ذُكِر.
إذاً: عرفنا تعريف (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) ثم بيّن أقسامَه يعني: أقسامه ليست على جهة التعاريف وإنما على جهة كونها تنقسم إلى أربعة أقسام، فعرفنا أن المعرِّف باللفظ المرادف أو التعريف اللفظي عند المصنف ليس داخلاً في المعرّفات؛ لأنه من قبيل التصديقات.
أما المثال والتقاسيم التي زادها بعضهم، والظاهر على ما ذكره هنا العطار أنها ليست من التصورات.
قال: (وقد أخذ في بيان الأربعة).
(أَخذ) يعني: شَرع المصنف في بيان هذه الأربعة التي هي: الحد التام، والناقص، والرسم التام، والناقص.
فقال: (الحَدُّ: قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ.
وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ.
كَـ: الحَيَوانُ النَّاطِقِ) أو كالحيوانِ الناطق، هذه دائماً تقرأها على الجر لا بأس، وإن شئت قرأتها على الحكاية ولا إشكال فيه، يجوز فيها الوجهان.
الحكاية لا بد أن يكون مذكوراً فيما سبق، هذه مذكورة من أول الكتاب.
(كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).
(الحَدُّ) هل المراد به الحد التام أو الحد الناقص هنا؟ أطلق المصنف، يكون المراد به الحد التام، كيف عرفنا؟
قال: (وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ) هو نص على ذلك، بعدما قال: (كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ.
وَهْوَ) أي: الذي يتركب مما ذُكر (الحَدُّ التَّامُّ).
إذاً: هذا التعريف خاصٌ بالتام، ولا يدخل فيه الناقص.
(الحَدُّ)، قال:(قَوْلٌ) هذا جنس يشمل الحد التام والحد الناقص، والرسم التام والرسم الناقص؛ لأنه جنس فلا بد أن يكون شاملاً لكل ما يدخل تحت أنواع المعرِّف وأقسامِه.
(قَوْلٌ دَالٌّ) عرفنا المراد بالقول أنه: المراد به المركَّب.
(لفظياً كان أو عقلياً) هذا الأصل فيه، لكن هنا قال:(دَالٌّ) نقيِّدها بـ: المطابَقة.
إذاً: صار القول المراد به القول اللفظي، (دَالٌّ) بالمطابقة.
حينئذٍ كما سيأتي أنه يُختص بالحد اللفظي لا العقلي.
قال: (قَوْلٌ) مركَّبٌ.
(دَالٌّ) أي: بالمطابقة.
يرِد على الحد التام، إذا قيَّدناه بالمطابقة إيرادٌ.
(فإن قلتَ: الدال بالمطابقة لا يكون إلا لفظاً) وهو كذلك: الدال بالمطابقة لا يكون إلا لفظاً (فيلزم أن يكون التعريف للحد اللفظي مع أنه سلَف أن القول يُطلق على الملفوظ والمعقول).
(قَوْلٌ) قلنا يُطلق على المعقول والملفوظ.
(دَالٌّ) قلنا بالمطابقة، هذا فيه شيءٌ من التعارض، القول يشمل المعقول والملفوظ، (دَالٌّ) خاصٌ بالملفوظ.
(فيلزم خروج القول المعقول، فلا يكون الحد المعقول داخلاً في التعريف مع وجوب شموله له).
إذاً: الحد يكون له لفظ، ويكون له معقول. إذاً: له جهتان:
الذي نعنيه هنا هل هو الحد اللفظي دون المعقول، أو المعقول دون اللفظي، أو هما؟
يجب أن يكون الحد شاملاً لمعنييه: الملفوظ والمعقول، جاء بجنس الذي هو القول شمِل النوعين، جاء بفصلٍ أخرج المعقول.
إذاً: وقع شيءٌ من التعارض.
الجواب: (إنما تعرّضوا للحد اللفظي؛ لأن الحدود إنما تُذكر للجاهل بحقيقة الشيء، فلا بد من اللفظ حينئذٍ ضرورة الإفهام والتفهيم).
وإلا الأصل أن الحد يشمل النوعين: المعقول والملفوظ، لكن لما أنَّ الحدود إنما تقع لرفع الجهل عن السائل، يسأل: ما المراد بالفاعل؟ ما المراد بالتمييز؟ ما المراد بالحال؟ إلى آخره.
فتجيبه. إذاً: إذا كان معقول بمعقول كيف تجيبُه؟ إذا كان الشيء المعقول يمْكن أنَّ الإنسان في نفسه لا يحتاج إلى لفظ، ولذلك حاجة المنْطِقي إلى مباحث الألفاظ كلها ليست لنفسه، وإنما الحاجة لغيره، وأما في نفسه يستطيع أن يرتِّب المعلومات والنظر والفْكْر، وينتج القياسات .. إلى آخره، ولا يحتاج أن يتلفظ، هو في نفسه أمور .. إدراكات، لكن إذا أراد أن يُخبر غيره كيف يخبرهم؟ لا بد من واسطة، وهي اللفظ هنا.
إذاً: لضرورة الإفهام والتفهيم اختص الحد هنا باللفظ، وإلا الأصل أنه شاملٌ للمعقول.
قال: (ولك أن تقول: إن التعريف شاملٌ للعقلي أيضاً.
بمعنى أنه لو ذُكر اللفظ الدال عليه لكان دالاً بالمطابقة على المحدود).
هذا من باب التجويز فقط، وإلا الأصل أنه خاصٌ باللفظ.
(الحَدُّ: قَوْلٌ) الحد المراد به قلنا التام هنا، وإن كان اسم الحد في الأصل يقع بالاشتراك اللفظي على التام الدال عليها بالمطابقة، والناقص الدال عليها لا بالمطابقة، بل بالالتزام.
فإن أُطلق هذا الاسم الذي هو (الحَدُّ) فالواجب أن يُحمل على التام الذي هو الحد الحقيقي وحدَه. هكذا قرره العطار.
(قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) أي: حقيقتِه الذاتية.
فسَّر الماهيّة بالحقيقة، ومر معنا أن الماهيّة والحقيقة بمعنى واحد، إلا أنه قد تُطلَق الماهيّة على المعدومات، وتختص الحقيقة بالموجودات، هذا سوَّغه العطار.
قال هنا: (عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ. إضافةُ ماهيّة إلى الشيء للعهد كما هو الأصل في وضع الإضافة أي: الماهيّة المعهودة، وهي جميع أجزاء المحدود).
إذا قيل: على ماهيّة الشيء يعني: على جميع أجزاء المحدود.
ويدل له قول المصنف: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ).
إذاً: تُحمل الماهيّة على الكمال، وهذا الذي يكون في شأن الحد، أنه يؤتى بكمال الماهيّة.
(قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) أي: حقيقتُه الذاتية، وإنما فسَّر الشارح الماهيّة بالحقيقة لأن الماهيّة -كما سبقت- تشمل المعدومات.
والذاتية -قيْدُ الذاتية-: أي المنسوبةُ إلى الذات بمعنى الأفراد، فاندفع هنا قول المحشّي:"الأَولى حقيقتُه وذاتُه" كلامُه ليس بجيد هنا.
قال: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) يعني: المعرَّف (وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ).
(وَهْوَ) عائدٌ على الحد التام.
(الَّذِي يَتَرَكَّبُ) لأنه لا حد إلا بتركُّب، لا بد من التركيب وإلا ما صار حداً، وأما المعاني المفردة فلا تقع حداً وإن جاز عقلاً.
(مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) يعني: المعرَّف كالإنسان المسئول عنه، جنس الشيء يعني: الشيء المعرَّف.
(وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ) يعني: الجنس القريب والفصل القريب.
(كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).
لأنك إذا قلت: ما الإنسان؟ أنت تجهل الإنسان، ومر معنا أن السؤال هنا بما، إذا كان ما بعده واحدٌ كُلّي، إذا قيل: ما الإنسان؟ الإنسان كُلّي أو جزئي؟ كُلّي.
إذاً: جاء بعده واحدٌ كُلّي يعني: غير متعدد، ما الإنسان؟ الجواب يكون عنه بالحد.
لأنك إذا قلت: ما الإنسان؟ فيقال: الحيوان الناطق، والحيوان هذا كُلّي ذاتي وهو جنسٌ قريب، والناطق هذا كُلّي ذاتي وهو فصلٌ قريب، فرُكِّب منهما -الجنس القريب والفصل القريب- ماهيّة، هذه الماهيّة هي التي يصدُق عليها لفظُ الإنسان، فإذا قيل: الإنسان ما مُسَماه؟ تقول: هذه الماهيّة- ماهيّة الشيء- وهي مركَّبة من جزأين، فكلٌ منهما ذاتيٌ.
قال: (وكالجنس القريب حدُّه) حده كالجنس القريب، كالجنس هذا متعلق محذوف خبر مقدم، "وحدُّه" بالرفع على مبتدأ مؤخر.
حدُّ ماذا؟ الجنس القريب.
يعني: حيوانٌ ناطق، مِثلُه يساويه لو سألت: ما معنى حيوان، ما الحيوان؟ عرّفته، فجئت بدل كون الحيوان -اللفظ هذا- جئت بتعريفه فقلتَ: الناطق، مساوٍ له؟
قال الشارح: (وكالجنس القريب حدُّه) أي: في أن المركَّب منه، ومن الفصل القريب حدٌّ تام.
كقولك في حد الإنسان: هو الجسم النامي الحسَّاس المتحرك بالإرادة الناطقُ، ما قال: حيوانٌ ناطق، حذَف الحيوان وجاء بتعريف الحيوان.
إذاً: إما أن تأتي بالجنس القريب وإما أن تأتي بتعريف الجنس القريب؛ لأنه لو قيل لك: ما الحيوان؟ ستقول: الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة، هذا تعريف الحيوان.
ولذلك قال: (كالجنس القريب) مثلُه، الجنس القريب مثلُه (حدُّه) يعني: تعريفه.
فإما أن تعبِّر بالجنس القريب بلفظه: حيوان ناطق، وإما أن تأتي بتعريف الجنس القريب مع الفصل القريب، فهما سيّان.
قال: (وَهْوَ) أي: الحد التام.
(وَهْوَ)(أي: الذي يتركب مما ذُكر) من الجنس القريب والفصل القريب، أو حد الجنس القريب والفصل القريب (الحَدُّ التَّامُّ).
يعني: المعروف عند المناطقة بهذا التعبير.
(أما كونُه حداً) يعني: سُمي حداً (فلأن الحد لغة المنع) وهو كذلك، الحداد سُمّي حداداً لمنعه غير الداخل من الدخول، فسُمي الحد حداً لأنه يَمنع.
(وهو مانعٌ من دخول الغير فيه، ومن خروج بعض أفراده) يمنع من الدخول ومن الخروج.
يمنع من الدخول -من غير الأفراد أن يدخل-، ويمنع من الداخل أن يخرج، كشأن البواب يُسمى حداداً يمنع الداخل أن يخرج والعكس بالعكس.
قوله: (مانع) فيه إشارة إلى أن تسميته حداً من تسمية اسم الفاعل بالمصدر للتعلق والاشتقاق.
هذا كونه حداً، لماذا سُمي حداً؟ للمنع من الجهتين، وأما كونه تاماً -يعني: لماذا سُمي حداً تاماً بهذا القيد من التمام- فلِذِكْرِ جميع الذاتيات فيه.
جميع الذاتيات: الجنس والفصل، وهذا واضح.
(وخرج بذكر ماهيّة الشيء الرسمُ) لأنه قال: على ماهيّة الشيء أي: حقيقتِه الذاتية، ما كان كُلّياً ذاتياً، فخرج ما كان عرَضياً، والرسم إنما يكون بالعرَضيات في الجملة، حينئذٍ خرج بقوله: ماهيّة الشيء، ولكن ما ذكَر الحد الناقص هنا.
نحن حملنا على ماهيّة الشيء يعني: الكاملة من كل وجه، وهذا إنما يختص بالحد التام، ولذلك زاد العطار منكِّتاً عليه قال:(وخرج بذكر ماهيّة الشيء الرسمُ والحد الناقص) لا بد نزيد: والحد والناقص، لأنه خرج؛ لأنه لا بجميع الذاتيات بل ببعضها.
(وخرج بذكر ماهيّة الشيء الرسمُ) أي: تاماً كان أو ناقصاً.
قال المحشِّي: (واقتصارُه على إخراج الرسم يفيد أن التعريف للحد تاماً كان أو ناقصاً، بجعل الإضافة لجنسه كما تقدم).
هذا غريب جداً، هذا فيه سهو؛ لأنه هو يقول:(وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ).
يقول: قوله: اقتصاره على الرسم دل على أن الحد يشمل التام والناقص.
اقتصارُه على أنه خرج بالماهيّة -ماهيّة الشيء- .. ماهيّة الشيء المراد: الجنس، الإضافة هنا الجنسية ليس العهدية، فيصدُق بالبعض، فدخل الحد الناقص، لكن الرجل يقول:(وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ) فكيف يقول: دخل الناقص؟ هذا فيه إشكال، ليس بصحيح.
بل الصواب: التنكيت عليه، فيقال: خرج الرسم والحد الناقص أيضاً؛ من أجل التسوية، وأما مجرد دائماً اعتذارات اعتذارات، وعدم التخطِئة هذا ليس بجيد.
قال: (وخرج بِذكْر ماهيّة الشيء الرسمُ، فإنه إنما يدل على آثاره) كما سيأتي.
(وكلامُه يدل على تخصيص الحد بذوات الماهيّات المركّبات، فتخرج البسائط) على ما سبق بيانه.
(وكلامه يدل على تخصيص الحد) أي: حيث عبّر بالتركيب مما ذُكر، لأنه قال:(وهو الذي يتركب مما ذُكر).
(وكما يدل على ذلك يدل على تخصيصه أيضاً بغير الماهيّة المركّبة من أمرين متساويين. على القول بجواز ذلك؛ إذ لا جنس لها).
وهذا مر معنا الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين (وكلامُه يدل على تخصيص الحد بذوات الماهيّات المركّبات، وأما البسائط فلا تُحد، فتخرج البسائط فإنها إنما تُعرَّف بالرسوم لا بالحدود) لا تُحد وإنما تعرَّ ف بالرسوم لا بالحدود.
قال في شرح المطالع: (الحقيقة إما بسيطةٌ وهي التي لا جزء لها، أو مركَّبة وهي التي لها جزء.
وكلٌ منهما إما أن يتركب عنها غيرُها أو لا).
(يتركب عنها) يعني: تكون جزءاً لغيرها.
(أو لا) يعني: لا تكون جزءاً لغيرها.
(فهذه أربعة أقسام: أولها: بسيط لا يتركب عنه غيرُه فلا يُحد) بسيط لا يتركب عنه غيره يعني: لا يكون جزءاً لشيء فلا يُحدُّ.
(لعدم تركيبه، ولا يُحد به؛ لكونه ليس جزءاً لغيره.
الثاني: بسيطٌ يتركب عنه غيرُه، وهو البسيط الذي يتحلَّل وينتهي إليه المركَّب بالتحليل، فيُحدُّ به لكونه جزءاً لغيره، ولا يُحدُّ لعدم تركيبه كالجوهر.
الثالث: مركَّبٌ لا يتركب عنه غيرُه يُحدُّ لكونه ذا أجزاء، ولا يُحدُّ به لكونه ليس جزءاً لغيره كإنسان.
الرابع: مركَّبٌ يتركب منه غيره فيُحدُّ ويُحدُّ به كحيوان، وظهَر أن الحدَّ لا يكون إلا لمركب).
هذه القاعدة الأخيرة: ظهر أن الحد لا يكون إلا لمركب، وأما البسائط فلا تُحد وإنما تُعرَّف بالرسوم أي: الناقصة كأن تُعرَّف بخاصة فقط -على القول بجوازه كما سيأتي-، أو بجملة خواص. وإنما الحدود تكون خاصة بالمركبات.
قال الشارح: (ويُعتبر في الحد) أي: يُشترط أو يجب على قول العطار.
"يُعتبر" الكثير في الاستعمال إذا قيل: يُعتبر كذا يعني: يُشترط هذا في الغالب.
(ويُعتبر في الحد) أي: يُشترَط.
لكن على كلام العطار فيما يأتي: ويجب. والوجوب لا يستلزم الشرطية، الوجوب حتى في الشرع إذا قيل: يجب. لا يستلزم الشرطية إلا على وجه آخر بتأويل.
ولذلك اختلفوا فيه عند النجاسة، يجب إزالتها، دل الدليل على وجوب إزالتها، لكن كونها شرطاً هذا يحتاج، ولذلك نازع الشوكاني ونازع ابن حزم في هذه المسألة، لكن لهم وجه آخر وهو أن المأمور به منهيٌ عنه، فتوقَّفَتْ عليه الماهيّة، وإذا توقفت الماهيّة معناه توقفها على الشرط لا على الركن؛ لأنها خارجة عنها، فبهذا الوجه يمكن أن يقال بأنها شرط والجمهور على هذا.
على كلٍ "يُعتبر" يعني قال: يُشترط.
(ويُعتبر في الحد التام تقديمُ الجنس على الفصل) قوله: (في الحد التام) هل هذا خاصٌ بالحد التام أو نقول: يشمل كذلك الحد الناقص؟ نقول: يشمله.
يعني قوله: (ويُعتبر في الحد التام) نقول: والناقص أيضاً.
ماذا يُعتبر؟ يُعتبر تقديم الجنس على الفصل. يعني: يُشترط أن يُقدَّم الحيوان على الناطق، فإذا قلت:"ناطق حيوان "عند الكثير من المتأخرين لا يكون حداً تاماً، يكون ناقصاً .. نزل يعني: لا ينتفي عنه الحدية يعني: لا يكون تاماً وإنما يكون ناقصاً.
ولذلك قال: (ويُعتبر في الحد التام –يعني يُشتَرط- تقديمُ الجنس على الفصل؛ لأن الفصل مفسِّرٌ له) للجنس.
(ومفسِّر الشيء متأخرٌ عنه) إذاً: الفصل كالمفسِّر، كالصفة مع الموصوف، وشأن الصفة التأخر عن موصوفها، وهنا المفسِّر شأنُه التأخير عن مفسَّره، فحينئذٍ يجب أن يكون متأخراً.
فلو قُدِّم نقول: هذا لا يكون حداً تاماً وإنما يكون حداً ناقصاً كما لو قال الناطق: ناطقٌ حيوان.
قال هنا: (لأن الفصل مفسِّر له) وهذا تعليل أي: مخصِّص قال هنا.
(الفصل مفسِّر له) أي: مخصِّص له.
قال العطار: (مراد الشارح بالتفسير) وإن كان المحشِّي فسره بالتخصيص له معنى آخر.
(مراد الشارح بالتفسير: أنه عِلَّة لرفع الإبهام، إلا أنه تسمَّح في تسمية الفصل مفسِّراً) من باب التجوُّز.
(فهو عِلَّةٌ لرفع الإبهام، والعِلَّة ليست من المفسِّر في شيءٍ حقيقةً، لكن لما زال بها الإبهام صارت كالمفسَر) يعني: إذا قيل: ما الإنسان؟ قال: حيوان، فيه إبهام أو لا؟ فيه إبهام ما عيَّن.
هل المراد به ما يقع على حقيقة الفرس، أو على حقيقة الحمار، أو حقيقة الحيوان الناطق .. إلى آخره.
ففيه إبهام، فجاء الناطق كالمفسِّر، وهو سمّاه عِلَّةً لرفع الإبهام.
(وقوله: مفسِّر الشيء متأخرٌ عنه. أي: ما هو مفسِّر حقيقة، وهذا لا يقتضي أن الفصل متأخرٌ في الوجود عن الجنس) وهو كذلك.
(لأنهما مجعولان معاً، بحسب تعقُّل الجنس مبهماً ثم إزالةُ الفصل للإبهام يكون التأخر بحسب التعقُّل) وهو كذلك.
يعني: إذا قيل بأنه يكون متأخراً عنه، متأخراً عنه في التعقُّل، تَفهم معنى الجنس ثم يقع إبهام، ما المراد بهذه الحقيقة؟ ثم يأتي الفصل إذاً: تأخر عنه، فتتعقَّل معنى الفصل، حينئذٍ يزول الإبهام الذي في الجنس السابق.
أما في الوجود لا يمكن أن يوجد الجنسية ثم يوجد بعد ذلك الناطقية لا، هما موجودان معاً، الإنسان يولد بإنسانيته كاملاً هذا المراد.
قال هنا: (المراد أن الصورة الجنسية مبهمةٌ في العقل).
(الصورة الجنسية) يعني: مدلول لفظ الحيوان (مبهمةٌ في العقل يصح أن تكون أشياء كثيرة) تصدق على الفرس، وعلى البغل .. إلى آخره.
(وهي عينُ كل واحد منها في الوجود، وغير متحصِّلة بنفسها لا تُطابق تمام ماهيتها المتحصلة، فإذا انضاف إليها الصورة الفصلية عيّنَتها وحصّلَتها أي: جعلتها مطابقة للماهية التامة، فهي عِلَّة لرفع الإبهام والتحصيل والعلية بهذا المعنى لا يمكن إنكارُها) ولا إشكال فيه.
على كلٍ الخلاف هنا سمّاه مفسِّراً أو عِلَّة الخلاف لفظي، لكن المراد أن الجنس فيه إبهام، فجاء الفصل كاشفاً معيِّناً. سمِّه عِلَّة، سمه تفسيراً لا إشكال فيه.
قال هنا: (قيل: لا يمكن تعريفُ شيء).
إذاً: المسألة السابقة: يُشترط تقدُّم الجنس على الفصل، هذا هو المشهور.
وقيل: لا يجب. لا يجب في الحد التام، فإذا قلت:"حيوانٌ ناطق، ناطق حيوان" حدٌّ تام، لكن هذا خلاف المشهور.
وقيل: (لا يجب تقديم الجنس، فناطقٌ حيوان حدٌّ تام، إلا أن الأَولى تقديم الأعم لشدته وظهوره. نعم لا بد من تقييد أحدهما بالآخر، حتى يحصِّل صورة مطابقة للمحدود، ولذا قال الشارح: ويُعتبر دون يجب للإشارة إلى أن الوجوب ليس متفقاً عليه) لا، هذا كلام العطار، ويحتمل أنه عبّر بيُعتبَر يعني: يُشترط ورجَّحه.
لماذا تجزم بأنه قال: يُعتبر دون يُشترط؟ نقول: الغالب في استعمال الشُرَّاح والمصنفين أنَّ يعتبر مراداً به الاشتراط، فحملُه على الوجوب خلافُ الظاهر.
ثم نحمل أنه قد رجَّح أنه يُشترط، حينئذٍ لا يصح أن يسمى ناطقٌ حيوان حداً تاماً.
(قيل: لا يمكن تعريف الحد لئلا يلزم التسلسل) تعريف الحد الذي هو السابق، لو قيل: ما الحد؟ ما تستلزم معرفتُه معرفتَه أو امتيازه عنه، هذا التعريف صحيح أم لا؟ قال بعضهم: لا يمكن أن نعرِّف الحد كما قال الجويني وغيره في العِلم، محال عند بعضهم، وبعضهم ضرورة أن يُعرِّف العلم يعني: العلم لا يتعرَّف، لو عرّفته يحتاج إلى تعريف وهكذا.
هنا قيل ما قيل في العلم: أن الحد لا يمكن تعريفه.
قال: (قيل) يعني: قال قائلٌ.
(لا يمكن تعريفُ الحد) قال المحشي: (مثلُه الرسم والمعرِّف والقولُ الشارح، فالأَولى إبدال الحد بالتعريف) هو هذا .. المراد التعريف السابق.
(لئلا يلزم التسلسل) يعني: على تعريف التعريف التسلسل.
كيف بيانُه؟ أنه يلزم من احتياج التعريف لتعريف احتياجُ تعريفِ التعريف لتعريف .. وهكذا إلى ما لا نهاية. وهذا فاسد، الأصل ليس بوارد كما سيأتي.
إذاً: قالوا: لا يمكن تعريفه؛ لأنك لو عرَّفته لاحتاج التعريف إلى تعريف، ولو عرّفت التعريف لاحتاج تعريف التعريف إلى تعريف .. وهكذا، هذا يسمى التسلسل.
(لئلا يلزم التسلسل) قال: (بيانُه: أنه يلزم من احتياج التعريف لتعريف احتياجُ تعريف التعريف لتعريف .. وهكذا إلى غير نهاية).
قال هنا: (وأُجيب) يلزم التسلسل قال العطار هنا: (لأن تعريف الحد حدٌ له، فلو احتاج الحد إلى حد هكذا للزم التسلسل).
(وأُجيب بمنع لزومِه) يعني: التسلسل (بمنع لزومه) يعني: ليس بلازم. لماذا؟
قال: (لأن حد الحد نفسُ الحد) وإذا كان كذلك حينئذٍ كالشاة من الأربعين تُزكِّي نفسَها وغيرَها فلا تحتاج إلى حد.
(حد الحد نفس الحد، كما أن وجود الوجود نفس الوجود.
بمعنى: أن حد الحد من حيث إنه حدٌ مندرجٌ في الحد وإن امتاز عنه بإضافته إليه).
قال: (لأن حد الحد نفسُ الحد).
قال المحشِّي: (أي: حدٌ فهو فردٌ وجزئيٌ للحد المعرَّف، فعُرِفت حقيقتُه وانشرحت ماهيته بنفسِه، فلا يحتاج لحدٍ آخر).
إذا عرّفت الحد نقول: هذا الحد لا يحتاج إلى حدٍ آخر؛ لأنه هو منكشف بنفسه، والمنكشف المعلوم لا يحتاج إلى إيضاح، وإنما الذي يحتاج إلى إيضاح هو المجهول، حينئذٍ لا يحتاج إلى حد، نمنع أن يكون ثَم احتياجٌ لحد الحد.
(فلا يحتاج لحدٍ آخر حتى يلزم التسلسل، فهو كقول الفقهاء: في الشاة من الأربعين إنها تزكي نفسَها وغيرها) وهو واضحٌ بيِّن.
(لأن حد الحد نفسُ الحد).
قال: (ضرورة أن المعرِّف عين المعرَّف، ولكن هذا من حيث مفهومُ الحد وقطع النظر عن عروض الإضافة لحده، فإن نُظر إليها فحد الحد أخص من الحد).
"حد الحد حدٌ" مطلق الحد، فرقٌ بين مطلق الحد وبين حد الحد، مطلق الحد هذا بقطع النظر عن الإضافة، حد الحد هذا بالنظر إلى الإضافة.
حدُّ الحد هذا أخص من مطلق الحد.
قال: (كما أن وجود الوجود نفسُ الوجود) قال: كذا في النسخة الصحيحة (وجود الوجود نفسُ الوجود في الموضعين، ولعل الصواب فيهما الموجود.
أي: فليس الموجود صفة زائدة على موصوفها كالعلم والقدرة، حتى يُحتاج إلى وجودٍ، ووجودها إلى وجود .. وهكذا فيلزم التسلسل المحال).
لا، الظاهر أن النسخة كما هي ليست "الموجود" وإنما الوجود؛ لأن الوجود إذا قيل: الوجود نفسُه لذات الشيء حينئذٍ نقول: الوجود عينُه، هل هو وصفٌ زائدٌ عليه؟ نقول: لا، وإنما وُجد بنفسه بذاته، كذلك الحد.
فحينئذٍ نقول: حد الحد وُجد بنفسه متضحاً منكشفاً فلا يحتاج إلى غيره، فليس هو قدر زائد عليه حتى يحتاج إلى بيان وإيضاح، وإنما هو معلومٌ، كذلك الوجود عينُ الموجود فلا يحتاج إلى شيءٍ زائدٍ عنه، هذا المراد هنا.
قال العطار: (الوجود كون الشيء في الخارج أو في الذهن) يعني: وجود خارجي ووجودٌ ذهني.
(ومن البديهي أن الكون أمرٌ إضافي مغايرٌ للمضاف إليه).
كون الشيء، لا شك أن كون مضافٌ للشيء، والمضاف والمضاف إليه في الأصل التغاير بينهما، ولذلك قيل: لا يضاف اللفظ إلى نفسه.
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنىً وَأَوِّلْ مُوْهِمَاً إذَا وَرَدْ
لا بد من تأويله.
قال: (ومن البديهي أن الكون أمرٌ إضافي مغايرٌ للمضاف إليه، فكيف يكون غير الوجود موجوداً في الخارج؟
والجواب: أن مراد من قال: إن الوجود موجودٌ، وأنه منشأ الآثار والأحكام يقول: كل شيءٍ يغاير الوجود يكون موجوداً بالوجود كالشمس يكون مضيئاً بالضوء؛ فإنه مضيءٌ بذاته لا بأمرٍ زائدٍ على نفسه، فكذا الوجود موجودٌ بذاته).
هذا يمكن أن يقال في بعض المخلوقات، لكن الكلام لا ينزَّل على الذات الإلهية، فلا يقال بأنه: يُبصر بذاته لا بقدرٍ زائد على الذات، ويعلمُ بذاته لا بقدرٍ زائد على الذات، هذا مذهب المعتزلة، يرون أن الصفات .. يُنكرونها من حيث أنها قدرٌ زائد على الذات، المعتزلة وغيرهم بعضهم وافقهم.
فحينئذٍ إذا قيل: بأن الله تعالى يعلم، والله تعالى يُبصر، والله تعالى يسمع. فحينئذٍ نقول: السمع هل هو بذاته أم بقدرٍ زائد على الذات؟
مذهب أهل السنة الثاني، وإلا ما أثبت صفة، لو قلت: يسمع بذاته. الذات هذه متفق عليها حتى إبليس يثبتها، لكن إذا قيل: يسمع أو يُبصر ماذا تعني؟
ولذلك ليس كل من أثبت صفة يكون على وفق أهل السنة والجماعة، ولذلك نحن نقول: الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة، يقولون: هم قريبون منا لأنهم أثبتوا سبع صفات!
نقول: تعال: كيف أثبتوا هذه الصفات؟
أولاً: هل أثبتوها بالنقل؟ لا، أثبتوها بالعقل.
إذاً: الأساس فاسد عندهم، ما أثبتوها بالنقل وإنما أثبتوها بالعقل، وهذا كيفية الاستنباط أو أخذ الصفات والأسماء من الكتاب والسنة هذا أصلٌ شرعي، المخالِف فيه يُبدَّع.
حينئذٍ إذا جعَل مصدراً غير الكتاب والسنة في الأسماء والصفات هذا ليس من أهل السنة والجماعة، ثم إذا كانت النتيجة أثبتَ بالعقل الكلام.
طيب. ما معنى الكلام عند الأشعري؟ القول النفسي أو الكلام النفسي، هل هو مذهب أهل السنة والجماعة؟
إذاً: أثبتَه بطريقٍ مخالف لطريق أهل السنة والجماعة، ثم المعنى ليس هو المعنى، ما بقي إلا كلمة الكلام فقط التي أثبتَها، ما أثبتوا إلا لفظ الكلام، ولفظ السمع، ولفظ البصر .. إل آخره.
حينئذٍ نقول: مذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات الصفات وأن الصفة قدرٌ زائدٌ على مجرد الذات، وليست هي عين الذات، فلا نقول: يسمع بذاته، يُبصر بذاته، يعلم بذاته .. فردَدْنا كل شيء إلى الذات.
لأن عندهم الصفة إذا أُثبِتت بقدرٍ زائد على الذات قالوا: تعدُّد القدماء .. هذا يلزم منه تعدد القُدماء! هذا في عقولكم الفاسدة وإلا لا يلزم منه شيء.
هذا الكلام الذي يقول هنا العطار: أن الشمس تضيء بذاتها لا بقدرٍ زائد على الذات، يقال: الشمس الله أعلم بحالها، لكن هذا الكلام لا نأخذه ونطبقه في باب المعتقد، هذا الذي أعنيه. يعني: إذا سلمتُ به هنا أو سكتُ عنه لا يلزم منه أن نأخذه ونطبِّقه في باب المعتقد، باب المعتقد منقولٌ كاملاً لا نحتاج إلى عقل لا جويني ولا الفخر ولا غيره، بعقول الصحابة وفهم الكتاب والسنة أمرٌ واضح، بل هو من أوضح الواضحات، وإنما الإشكال يقع في فساد العقول فقط، وإلا الأصل أنه واضح.
بل ذكر ابن القيم أن آيات الصفات والأسماء ليست من المحكم فحسب، بل هي من أحكم المحكم. والمحكم أعلاه الواضح المتضح، المتشابه: الذي لم يتضح.
وهؤلاء يدّعون أنه من المتشابه، هذا باطل فاسد.
نقول: هو من المحكم، بل من أحكم المحكم، ولذلك لم يرد عن الصحابة أنهم سألوا عن آية واحدة، لا لكونهم كما يقولون: إنهم فوَّضوا المعنى لا، ولكن لكونهم قد فهموا المراد.
يعني: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) جاء قبلها: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].
الذي عنده مِسكة عقل يفهم أن إثبات السمع والبصر لا يستلزم المماثلة، ثم نحمل هذه القاعدة على جميع القرآن من أوله إلى آخره وأحاديث الصفات. لا إشكال فيه، الذي سلِمت نفسه وكانت على الفطرة ما عنده أي إشكال، ولذلك نقول: عدم سؤال الصحابة لا لكونهم جهلوا ففوَّضوا كما يدَّعيه من يدَّعي، وإنما نقول: لكونهم علموا وفهموا المراد، وعرفوا أن إدراك الكُنه لمثل هذه المسائل مما لا يُسأل عنه، فتأدبوا مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يسألوا عن حرفٍ واحد.
قال هنا: (بمعنى: أن حد الحد من حيث إنه حدٌ).
يقول العطار: (حد الحد هذا تصويرٌ لكون حد الحد نفس الحد، ومعناه: أن حد الحد بقطع النظر عن عروض الإضافة).
"حد الحد بقطع النظر عن الإضافة" عندنا مضاف ومضاف إليه هنا.
(حد الحد بقطع النظر عن عروض الإضافة داخلٌ في مفهوم الحد، فهو من هذه الحيثية صادقٌ على نفسه وصادقٌ على غيره.
كصِدْق قولنا في تعريف الخبر: هو ما احتمل الصدق والكذب).
ما هو الخبر؟ ما احتمل الصدق والكذب.
طيب. جملة: ما احتمل الصدق والكذب؟ هو عينُه المذكور .. واضحة لا تحتاج إلى تعريف. ما احتمل الصدق والكذب، طيب:"جملة ما احتمل الصدق والكذب"؟ هذه داخلة لا نحتاج إليها بل هي هي عينُها، ولذلك قال:(داخلٌ في مفهوم الحد) فهذه الجملة "ما احتمل الصدق والكذب" داخلةٌ في هذا الحد، هي نفس الحد لا نحتاج إلى شيءٍ خارجٍ عنها.
(صادقٌ على نفسه كصدق قولنا في تعريف الخبر: هو ما احتمل الصدق والكذب على هذه الجملة، وله نظائر كثيرة.
وليس معناه: أن حد الحد فردٌ من أفراد مطلق الحد) وهو الذي ذكره فيما سبق أي: حدٌ فهو فردٌ جزئي، هذا ذكره المحشي، وإن سكتنا عنه لأنه مما يسوغ فيه الخلاف هذه المسألة، ليس فيها تحديد.
(وليس معناه: أن حد الحد فردٌ من أفراد مطلق الحد كما فهمه البعض، فإنه ذهولٌ عن قول الشارح من حيث إنه حدٌ، فإن هذه حيثيةُ إطلاق.
وأما كونه فرداً فإنما هو باعتبار عروض الإضافة، والنظر مقطوعٌ عنها من هذه الحيثية، ولذلك قال الشارح بعد ذلك: وإن امتاز عنه بإضافته إليه) يعني: انفصل عنه.
(فأما ما قيل: إنه مندرجٌ في الحدِّ أي: فيما يُطلق عليه اللفظُ، بمعنى: أن هذا اللفظ كما يُطلق على نفس الحد يُطلق على حده فتكلُّفٌ يأباه لفظ الاندراج، فإنه يكون في الأمور الكُلّيّة لا في الاصطلاحات أو الإطلاقات اللفظية).
قال بعضهم بعد تقرير السؤال والجواب عن هذه المسألة التي ذكرناها وتحتاج إلى تأمل منكم.
(قال بعضهم بعد تقرير السؤال والجواب المذكورين في الشرح: إن هذا لا يتخيل ورودَه من له أدنى شعور).
هذه من الفلسفة، ومن التدقيقات التي قد لا يفهمُها صاحبُها.
قال: (لأن حد الحد إن أُريد به مصدوقُه فالتسلسل إنما يلزم لو كان يُعرَّف).
يعني: ما يصدق عليه تعريفات: الإنسان حيوانٌ ناطق. الفاعل اسم مرفوع .. إن كان المقصود؟ هذا ليس مقصوداً، نحن لا نعرِّف الحد باعتبار المصدوقات يعني: الأفراد، ما نقول: الإنسان له أفراد؟ الإنسان حيوان، حيوان ناطق أين وجوده في الذهن؟ له أفراد ومصدوقات؟ له مصدوقات.
إذاً: كل واحد ينطبق عليها.
حد الحد ما حقيقته التي تكون في الذهن .. المعنى الكلِّي؟ ما تستلزم معرفتُه معرفتَه.
إذاً: نحن نعرّف التعريف باعتبار المصدوق، وهذا يصدق على تعريف الفاعل إلى ما لا نهاية، هل نعرّف الفاعل وو .. إلى آخره في تعريفٍ واحد، أم نأتي بالمفهومات فقط الذي هو مفهوم المعرِّف؟ الثاني.
حينئذٍ الثاني هذا لا يحتاج إلى تعريف.
قال: (إن أُريد به مصدوقُه فالتسلسل إنما يلزم لو كان يُعرَّف) ولا يُعرَّف، إنما نعرّف الحد والتعريف باعتبار مفهومه العام الذي هو المعنى الكلِّي يكون في الذهن، لا باعتبار المصدوق، هذا لا يمكن تعريفُه باعتبار المصدوقات؛ لأنه يحتاج ماذا؟ كل ما يمكن تعريفه تأتي به.
(ولكن ليس هو الذي يُعنَى بالتعريف، وإن أُريد مفهومُه) وهو مقصودنا هنا (فلا شك أنه لا يلزم تسلسلٌ في تعريفه كما لا يلزم في سائر المفهومات).
إذاً: التسلسل ليس بوارد من أصله.
قال رحمه الله تعالى: (وَالحَدُّ النَّاقِصُ) هذا النوع الثاني.
(وَالحَدُّ النَّاقِصُ: وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْبَعِيدِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبِ.
كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).
(الحدُّ) هذا مبتدأ، (الناقص) هذا نعت .. صفة، (الحد الناقص) مبتدأ، الخبر؟
(وَالحَدُّ النَّاقِصُ، كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ).
(وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْبَعِيدِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبِ) هذه جملة معترِضة، ولذلك وقفتُ مع إعرابها؛ لأنها قد تلتبس.
إذاً: (كَالْجِسْمِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، (وَالحَدُّ النَّاقِصُ. كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).
وقوله: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ .. ) إلى آخره. جملة اعتراضية بيَّن بها حال المبتدأ.
هناك قال: الحد وسكت، وهنا قال: الناقص، فاحتاج أن يبيِّن، ولذلك جاءت هذه الجملة الاعتراضية.
فقوله: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ) هذا أراد أن يبيّن به الناقص.
(وَهْوَ) يعني: القول.
(الَّذِي) هذا جنس شامل كل معرِّف.
(يَتَرَكَّبُ) إذاً: التركيب .. كالسابق يعني.
(مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) المعرَّف.
(الْبَعِيدِ) لا القريب ولا المتوسط، وقيل يدخل المتوسط هنا؛ لأنه أراد بالبعيد مقابل القريب، فيحتمل حينئذٍ .. الاحتمال وارد، ولذلك في شرح السلَّم على هذا يجرون.
(وَفَصْلِهِ) أي: المعرَّف.
(الْقَرِيبِ. كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).
إذا قيل: ما الإنسان؟ فقال: الجسم الناطق.
هنا ماذا جاء، ركَّب الحد هنا من ماذا؟ الجسم وهو جنس، لكنه جنسٌ بعيد؛ لأن تحته الجسم النامي، وتحته الحيوان. إذاً: هو جسمٌ بعيد.
(النَّاطِقِ) هذا فصلٌ قريب.
قال: (أما كونه حداً فلِما مر) ما هو الذي مر؟ أنه في اللغة بمعنى المنع، فهو مانعٌ من الدخول ومن الخروج على ما سبق، هذا (أما كونُه حداً فلِما مر)، (وأما كونُه ناقصاً فلعدم ذكر جميع الذاتيات فيه).
هذا التعبير تأخذ به وتؤكِّد هناك على أن معنى ماهيّة الشيء -أي: حقيقته الذاتية- المراد بها جميع الذاتيات، حينئذٍ قولُه: فخرج الرسم تقول: (وَالحَدُّ النَّاقِصُ) يتأكد ما مضى.
قال: (وَالرَّسْمُ التَّامُّ وَهْوَ) يعني: وهو القول.
(الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ وَخَوَاصِّهِ الَّلَازِمَةِ لَهُ كَالحَيَوانِ الضَّاحِكِ) يعني: بالقوة (فِي تَعْرِيْفِ الْإِنْسَانِ).
قلنا: بالقوة لا بد من تقييده لأنه لا يعرَّف بالفعل.
قال هنا: (وَخَوَاصِّهِ الَّلَازِمَةِ) إذاً: الجنس جنس الشيء قال: القريب يعني: لا البعيد.
(وَخَوَاصِّهِ الَّلَازِمَةِ) هنا إضافتُه جنسية. يعني: لا يُشترط الخواص، وإنما المراد به ما يتعلق به، إضافة جنسية فأبطلت معنى الجمعية؛ إذ لا يُشترط في تمام الرسم تعدُّد الخاصة. وهو كذلك.
والتعبير المشهور عند المناطقة الخاصة .. يأتون بخواصه بالإضافة، نقول: إضافة جنسية فأبطلت معنى الجمعية فيصدُق بالواحدة .. الخاصة.
(خواصِّه) قيَّد هنا الخواص باللازمة؛ احترازاً عن المفارِقة.
(قيَّد باللازمة لامتناع التعريف بالخاصة المفارِقة كالضاحك والكاتب بالفعل، فلا يقال: الضاحك أو الكاتب بالفعل في تعريف الإنسان؛ لكونها أخص من ذي الخاصة، والتعريف بالأخص غير جائز.
وإن كان هذا غير متفقٍ عليه لا سيما في الرسوم) يعني: التعريف بالأخص.
على كلٍ: لا يؤتى بالخاصة المفارِقة، وإنما يؤتى بالخاصة اللازمة؛ لأنها هي التي يحصل بها التمييز.
قال: (وَخَوَاصِّهِ الَّلَازِمَةِ لَهُ كَالحَيَوانِ الضَّاحِكِ فِي تَعْرِيْفِ الْإِنْسَانِ).
ما الإنسان؟ قال: الحيوان الضاحك. الحيوان هذا جنس قريب، ولذلك قيَّده الشارح، صاحب المتن قال:(جِنْسِ الشَّيْءِ)، قيَّده: القريب، أَخَذه من المثال، قلنا: أي القريب (جِنْسِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ).
انظر هذا الشارح ذكر القريب، من أين أخذ هذا القيد الكاشف؟
أخذه من المثال؛ لأنه ذكَر الحيوان والحيوان جنسٌ قريب.
إذاً: ما الإنسان؟ قال: الحيوان الضاحك. إذاً: جمَع بين الجنس وبين الخاصة اللازمة، وإذا أُطلِقت لا يحتاج أن تقول في الحد: الضاحك بالقوة، ما يحتاج لفظ بالقوة؛ لأن بالفعل لا ترِد أصلاً، أنت تخاطب من يعرِف، فحينئذٍ لا يحتاج إلى التقييد. هذا يسمى رسماً تاماً.
(أما كونُه رسماً فلأن رسمَ الدار أثرُها) يعني: الرسم هو الآثار.
(ولما كان التعريف بالخاصة اللازمة التي هي من آثار الشيء، كان تعريفاً بالأثر) هذا فيه قلب يعني، ولذلك في الحاشية التعبير أحسن.
قال: (المناسب: ولما كانت الخاصة من آثار الماهيَّة سُمِّي التعريف بها رسماً) هذا المراد.
يعني: لماذا سُمِّي رسماً؟ لأن التعريف بالخاصة، وهي أثر (لما كانت الخاصة من آثار الماهيّة) هي ليست داخلة في الماهيّة، بل هي خارجة لأنها عرَض.
(سُمّي التعريف بها رسماً) وهي أوضح من كلام المصنف هنا.
قال: (ولما كان التعريف بالخاصة اللازمة التي هي من آثار الشيء، كان تعريفاً بالأثر) عبارته صحيحة لكن فيها شيءٌ من الغموض.
(وأما كونه تاماً فلمشابهته) يعني: الرسم التام (الحد التام).
ما وجه المشابهة؟
(من حيث إنه وُضع فيه) يعني: قُدِّم فيه (الجنس القريب وقُيِّد بأمرٍ يختص بالشيء).
وهو كذلك: ما الإنسان؟ تقول: حيوانٌ ناطق، هذا ما نوعه؟ حدٌ تام.
ما الإنسان؟ حيوانٌ ضاحك. رسمٌ تام، متشابهان: حيوان حيوان، قيّدت الحيوان في الأول بناطق وهو من اختصاصاته، وقيّدت الثاني –حيوان- بضاحك وهو من خصائصه كذلك. إذاً: فيه شيءٌ من المشابهة.
(وُضع فيه الجنس القريب) يعني: قُدِّم.
(وقُيِّد بأمرٍ يختص بالشيء.
والحد التام لاشتماله على الذاتيات أقوى في المنع، وأبعدُ عن الشبهة والاحتمال. فخُصَّ بذلك اصطلاحاً، مع ما في الرسم التام من مناسبة التخصيص باسم الرسم).
إذاً: هذا وجه التسمية هنا بالرسم التام، أما الرسم فلكون ما يُذكر من الخاصة أثراً من آثار الماهيّة، والتام لكونه أشبَهَ الحدَّ التام فيما ذُكر.
قال هنا: (وَالرَّسْمُ النَّاقِصُ وَهَوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ) يعني: من كُلِّيّات.
(عرضيات أفاد بالجمع أنه لا تكفي خاصةٌ واحدة، وهذا مذهب المتقدمين المانعين التعريف بالمفرد).
(وَهَوَ) أي: القول (الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا) أي: مجموعها، وإن لم يختص كلٌ منها.
يعني: المجموع جاء بخمس صفات، هذه الخمس الصفات لا توجد إلا في الإنسان، أما بعضُها فيوجد في الإنسان وفي غيره، هذا المراد بعرَضيات .. صفات مجموعها تختص بالإنسان، لكن بعضها مشترَك.
ولذلك قال: (وإن لم يختص كلٌ منها).
قال: (تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا) أي: مجموعُها.
(وإن لم يختص كلٌ منها)(بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) سواءٌ اختص كلٌ منها بها أو بعضِها، أو لم يختص شيءٌ منها بها.
قال: (كَقَوْلِنَا فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ) سنأتي على المفردات.
ما هو الإنسان؟ قال: (إِنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ، عِرِيضُ الْأَظْفَارِ، بَادِي الْبَشَرَةِ، مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ، ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ) خمس صفات، هذا تعريف للإنسان بعرَضيات، مجموعُها كلها لا يكون إلا في الإنسان، وأما بعضها فيصدق على الإنسان وعلى غيره.
ولذلك قال هنا: (مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ. هذا شاملٌ للدجاج والعصفور ونحوها.
عِرِيضُ الْأَظْفَارِ. هذا شاملٌ للبغل والحمار والفرس.
بَادِي "أي: ظاهر" الْبَشَرَةِ. هذا شاملٌ للثعبان ونحوه.
مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ. هذا شاملٌ لآدمي البحر.
ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ. هذا شاملٌ للنسناس) هكذا يقول، أنت خذ المثال فقط.
وَالشَّأنُ لَا يُعْتَرَضُ المِثَالُ
…
إِذْ قَدْ كَفَى الفَرْضُ وَالاِحْتِمَالُ
قال: (مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ. أخرج الماشي على أربع أو أكثر كالدود والماشي على بطنه).
إذاً: وصف (مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ) هل هو خاصٌ بالإنسان؟ لا ليس خاصاً.
(عِرِيضُ الْأَظْفَارِ) أخرج مُدَوَّرَها كالطير.
(بَادِي الْبَشَرَةِ) أي: ظاهر الجِلدة، أخرج مستورَها بوبر أو صوف أو شعر أو شوك.
(مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ) أخرج غير مستقيمها.
فكل صفةٍ) هذا الشاهد.
(من هذه الصفات لا تختص بالإنسان؛ لحصول الأول في الدجاج، والثاني لنحو البقر، والثالث لنحو الحية، والرابع لنحو الشجر. وأما مجموعها فمختصٌ به).
(ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ) أي: بالقوة، هذا مختصٌ بالإنسان.
إذاً: الرسم الناقص يتركب من عرَضيات، هذه العرضيات تختص جملتُها مجموعُها بحقيقة واحدة، وإن لم يختص كلٌ منها بهذه الحقيقة كالمثال المذكور الذي ذكره المصنف.
قال هنا: قوله: (تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا. أفاد أن العرَض العام لا يُعرَّ به) يعني: لا يقع وحده معرِّفاً.
(ولو تعدَّد؛ إذ لا يختص بحقيقة واحدة كتعريف الإنسان بأنه ماشٍ متنفِّس).
لو قيل: ما الإنسان؟ قال: ماشٍ متنفس، ما نوع ماشٍ؟ عرَض عام، متنفس؟ عرض عام، ولو تعدَّد؟ ولو تعدد. لا يقع التعريف به.
قال العطار: (لم يعتبره) يعني: العرَض العام.
(لم يعتبره المتأخرون من المناطقة) يكاد يكون عندهم إطباق المتأخرون: أن العرض العام لا يقع التعريف به.
(وحينئذٍ فإيراده في مباحث الكُلِّيّات على اصطلاحهم إنما هو بالعرضي على سبيل الاستطراد.
وأما على مذهب من اعتبره وهم المتقدمون فلا) إذاً: اعتبره المتقدمون والمتأخرون لم يعتبروه.
(وقد اعتبره المعتبرون في الرسوم الناقصة).
ثم قال: (وأما النوع فغير معتبرٍ في التعريفات عندهم مطلقاً).
الكلام هنا في الجنس والفصل .. إلى آخره، والنوع هل يُعتبر في التعريفات؟
قال: (وأما النوع فغير معتبرٍ في التعريفات عندهم مطلقاً، فذِكرُه في مباحث الكُلِّيّات استطراديٌ اتفاقاً) من باب الاستطراد.
(وأما قولهم في تعريف الصنف كما يقال: الرومي إنسانٌ في بلاد الروم، فهو تعريفٌ اسميٌ لماهيّة اعتبارية، وذكرُ النوع فيه إنما هو من حيث إنه جنسٌ اسميٌ لا من حيث إنه نوعٌ حقيقي).
جنس اسميٌ يعني: لا باعتبار الاصطلاحات المنطقية، وإنما هو وصفٌ خارجٌ عنه يعني: مصطلحٌ خاص.
إذاً: النوع لا يُعتبر مطلقاً، ولا يقع في الحد.
قال هنا: (أما كونُه رسماً فلما مر) من كونها أثر عنه.
(وأما كونُه ناقصاً فلعدم ذكر جميع أجزاء الرسم التام).
الرسم التام قلنا مؤلفٌ من جنسٍ قريب وخاصةٍ لازمة، لو ذكر هنا خواص متعددة ولم يذكر الجنس حينئذٍ لا يكون رسماً تاماً وإنما يكون ناقصاً.
قال رحمه الله تعالى: (وبقيتْ أشياء مختلفٌ فيها) أي: بقيت أشياء من صور التعريف مختلفٌ فيها.
(وبُحِث فيه بأنه يقتضي أن قول المصنف: وهو الذي يتركب من عرَضيات الشيء ليس من المختلف فيه).
قال في الرسم الناقص: (وَهَوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ) ثم بعد أن انتهى من شرح الرسم الناقص قال: (وبقيت أشياء مختلفٌ فيها) مفهومُه: أن ما سبق متفقٌ عليه. وليس الأمر كذلك، بل قوله:"المؤلَّف من عرضيات" مما اختُلف فيه. هذا تنكيت.
قال: (وبُحث فيه بأنه يقتضي) يعني قولُه هذا (أن قول المصنف: وهو الذي يتركب من عرضيات الشيء ليس من المختلف فيه، والشارح جعلَه منه.
وأُجيب عنه) يعني: صاحب المتن الأصل.
(والشارح جعلَه منه، وأُجيب عنه: بأنه لا يلزَم من ذكر المصنف له أنه ليس من المختلف فيه، وبأنه يقتضي أن المصنف لم يتعرض لشيءٍ منها مع أنه تعرض لبعضها بقوله: وهو الذي تركَّب .. إلى آخره كما علمتَ.
وأُجيب عنه: بأن المراد لم يتعرض لجميعها، فلا ينافي أنه تعرَّض لبعضها).
قال هنا: (اختُلف فيها منها) أي: من المختلف فيه.
(التعريف بالعرَض العام مع الفصل) هل يقع التعريف به أو لا؟
(كالماشي الناطق) ما الإنسان؟ قال: الماشي الناطق، بماذا وقع التعريف هنا؟ الماشي هذا عرَض عام، والناطق هذا فصلٌ.
إذاً: تألف أو رُكِّب هنا من عرَض عام وفصل، هذا مختلَف فيها.
(كالماشي الناطق بالنسبة للإنسان.
أو بالفصل وحدَه) ما الإنسان؟ قال: الناطق، هذا مختلفٌ فيه.
(أو مع الخاصة كالناطق) مثل: الناطق الضاحك، ما الإنسان؟ قال: الناطق الضاحك.
قال: (أو بالفصل وحده أو مع الخاصة كالناطق، هذا مثالٌ للفصل وحده، أو الناطق الضاحك هذا مثالٌ للفصل مع الخاصة بالنسبة للإنسان).
هذه ثلاث صور: الإنسان ماشٍ ناطق، ناطقٌ فقط، ناطق ضاحكٌ فقط. هذه ثلاث صور من المختلف فيه.
قال العطار: (ذهب قومٌ من المناطقة إلى عدم اعتبار العرَضي مع الفصل، أو مع الخاصة، وعدم اعتبار تركُّب الفصل مع الخاصة؛ لأن الغرض من التعريف شرحُ الماهيّة أو تمييزُها، والعرض العام لا يفيد شيئاً منهما؛ لكونه ليس ذاتياً ولا مميِّزاً، ولأن الفصل يفيد ما تفيده الخاصة من التمييز وزيادة، فلا فائدة لتركُّبه معها.
قال السعد: وفيه نظر.
لأنا لا نُسلِّم أن كل قيدٍ فهو إما للتمييز أو للاطلاع على الذات، بل ربما يفيد اجتماعُ العوارض زيادةَ إيضاحٍ للماهية وسهولة الاطلاع على حقيقتها، وكثيراً ما يضعون الأعراض العامة مواضع الأجناس).
يعني: أنه إذا اجتمعت العرَضيات العامة يمكن أن يحصل بها رفعٌ وكشفٌ للمعرَّف، وإذا كان كذلك يقول: يصلح أن يكون تعريفاً.
ولذلك قلنا: هذه مسألة فيها خلاف.
قال: (والأكثرون على أن كلاً منها حدٌ ناقص) يعني: الأشياء المذكورة السابقة: العرض العام مع الفصل، أو الفصل وحدَه، أو الفصل مع الخاصة.
الأكثرون -يعني: من المناطقة- على أن كلاً منها حدٌ ناقص.
وقال الأقل: إنها رسوم ناقصة، وقيل: غير معتبرة في التعريف. ثلاثة أقوال.
القول الثالث يعني: نادر القائل به، وإنما الخلاف هل هو رسمٌ ناقص أو حد ناقص، منهم من رأى أنها حدود ناقصة ومنهم من رأى أنها رسومٌ ناقصة.
قال العطار: (والأكثرون على أن كلاً منها حدٌ ناقص) يعني: في الثلاثة المذكورة.
قال الآمدي: إن التعريف بالعرَض العام مع الفصل كقولنا في تعريف الإنسان: هو الماشي الناطق) كالذي معنا.
(أو بالفصل مع الخاصة كقولنا: هو الناطق الضاحك، عدَّهما جماعة من المناطقة من الحد الناقص وهم الأكثر.
ومفهوم كلام الخوَنجي في الكشف: أنهما من الرسم الناقص، لا من الحد الناقص.
وأشار الفخر في الملخص لأولهما) يعني: العرض العام مع الفصل (وقال: ليس له اسمٌ مخصوص) أنه غير معتبر يعني.
(وممن صرَّح بثانيهما) يعني: الفصل مع الخاصة (سراج الدين الأرموي وسمّاه رسماً ناقصاً، والتعريف بالعرَض العام مع الخاصة رسمٌ ناقصٌ عند قوم).
إذاً: هذه الثلاث الصور مختلفٌ فيها: معرِّفة أو لا؟ قيل: أنها ليست معرِّفة، لكن الخلاف الأشهر: هل هي حدٌ ناقص أم رسمٌ ناقص؟ العرَض العام مع الفصل، الفصل وحده، أو الفصل مع الخاصة.
والصحيح الذي عليه الأكثر: أنها حدودٌ ناقصة.
قال العطار: (وأيضاً الفصل البعيد مع الفصل القريب، أو مع الخاصة خارجٌ عما ذُكر، مع أنه يفيد الاطلاع على الذاتي).
قال هنا: (ومنها) أي: مما اختُلف فيه.
(التعريف بالعرض العام مع الخاصة كالماشي الضاحك بالنسبة للإنسان).
فيما سبق: الفصل مع الخاصة، أو العرَض العام مع الفصل.
هنا: العرَض العام مع الخاصة كالماشي الضاحك بالنسبة للإنسان.
(أو بالخاصة وحدَها) الضاحك، لكن بشرط.
قال: (المساويةِ للمرسوم) يعني: هاتان الصورتان.
(والأكثرون من المناطقة على أن كلاً منهما رسمٌ ناقص) كلٌ منهما يعني: العرَض العام مع الخاصة، والخاصة وحدَها المساوية للمرسوم.
الأكثرون على أن كلاً منهما رسمٌ خاص.
قال العطار: (في هذا القسم قولان) هنا يأتي الخلاف في عدم الاعتبار، ليس كالسابق.
(في هذا القسم قولان: أحدُهما: أنها غير مُعتبرة.
وثانيهما: رسومٌ ناقصة).
إذاً: الخلاف ليس كالسابق، السابق حدٌ ناقص أو رسمٌ ناقص، هنا رسومٌ ناقصة أو أَنزل .. ليست برسوم أصلاً .. ليست بمعرِّفات.
(أنها غير مُعتبرة.
وثانيهما: رسومٌ ناقصة.
هذا وقد أشار الجلال الدواني إلى ضابطه وهي) هذا الضابط مهم جداً ويضبط لك المسائل كلها.
قال: (مدار الحَدَّية) يعني: متى تحكم على أنه حدٌ أو رسمٌ.
(مدار الحدّية على كون المميِّز ذاتياً، والرسمية على كونه عرضياً) متقابلان.
هنا حد رَسْم، طيب التمام والنقص؟
(ومدار التمام فيهما على الاشتمال على الجنس القريب، فالفصل القريب مع الجنس القريب حدٌ تام) كما ذكَره هنا صاحب المتن.
(وبدونه حدٌ ناقص، سواءٌ كان مع الجنس البعيد أو لم يكن مع شيءٍ، والخاصة مع الجنس القريب رسمٌ تام) كما ذكره الأصل.
(وبدونه رسمٌ ناقص، سواءٌ كان مع الجنس البعيد أو لم يكن مع شيء .. ) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
قال هنا: (واعتُرِض بأن التعريف بالرسم ممتنع؛ لأن الخارج إنما يُعرِّف الشيء إذا عُرِف اختصاصُه به، وفيه دور).
يعني: لا يمكن أن يؤتى بالخاصة؛ لأن الخاصة تستلزم أن تعرِف أنها خاصةٌ لازمة، لا بد أن تكون لازمة.
أنت سُئلتَ: ما الإنسان؟ وتجهل معنى الإنسان، فكيف تفسِّر له شيئاً يعتقد أنه يجهله، ثم تبين له لازم؟ لأنه لا يمكن أن يَفهم اللازم إلا إذا فَهم الأصل، وهو يجهل الأصل.
حينئذٍ لا بد أن يكون كلٌ منهما مرتباً على الآخر.
قال هنا: (واعتُرض) على ماذا اعتُرض؟
قال: أي: ما تقدَّم من أن المعرِّف ينقسم إلى حدٍ ورسم .. الرسم يعني.
قال: (واعتُرض بأن التعريف بالرسم) المناسب أن يقول: بالخاصة، والاعتراض هنا على الخاصة.
(ممتنع للدور) يعني: لتأديته للدور.
لماذا .. ما التعليل؟
قال: (لأن الخارج) يعني: الخاصة.
(إنما يُعرِّف الشيء إذا عُرِف اختصاصُه به) فلا بد أن يعرِف أنه مختصٌ به.
(وفيه دور لتوقُّف معرفةِ كلٍ منهما حينئذٍ على معرِفة الآخر).
(وفيه دور) المناسب: ففي التعريف به دورٌ يعني: بالخاصة.
(منهما) أي: المعرَّف بالفتح، وخاصَّتُه المعرِّفة.
(على معرفة الآخر) أي: المعرَّف بالفتح.
(فتتوقف معرفتَه على معرفة الخاصة من حيث كونُها تعريفاً، والخاصة تتوقف معرفة اختصاصها على معرفة المعرَّف بها) كلٌ منهما يلزم من معرِفة الآخر، أنت تدّعي أنه خاصةٌ له إذاً: لا بد أن يتوقف فهم الخاصة على معرفة المعرَّف، ثم إذا عرَفت المعرَّف لا بد أن تُثبت أنه خاصةٌ لهما، فكلٌ منهما متوقفٌ على الآخر.
قال هنا: (وأُجيب بمنعِ الحصْر).
قال: (أعني قولَه: لأن الخارج إنما يُعرِّف) هذا حصْر.
وأُجيب بمنع الحصر) المذكور (أعني قولَه: لأن الخارج إنما يُعرِّف .. إلى آخره.
وقوله: لجواز. هذا مستنَدٌ لذلك المنع.
وحاصلُه: أن التعريف إنما يتوقف على وجود الاختصاص في نفس الأمر لا على العِلم به).
الاختصاص واللزوم الذي يتعلق بالخاصة أن يكون ملازماً له في نفس الأمر -في الواقع- لا على العلم به. واضح هذا الفرق بينهما.
(أن تكون الخاصة لازمةٌ في نفس الأمر، لا على العلم به) فرقٌ بين مسألتين.
(سلَّمنا توقُّفَه على العلم باختصاصه بها، الموقوفِ على معرفتها ومعرفة غيرها، لكن لا دورَ؛ لأنه يكفي في ذلك الشعورُ من وجهٍ كما نرى جِرْماً في حيّزٍ فنعلم اختصاصه به، وسلبُ ذلك الحيّز عن غيره من الأجْرَام وإن لم نعلم منه ومن غيره إلا الجِرْمِية).
يعني: لو رأيت في حَيّز ما، رأيت جِرماً لا تدري ما حقيقة الجرم، حينئذٍ تعرِف اختصاصه به كيف؟ يحصل عندك شعور بأن هذا الحيّز الذي أخذَه الجرم إنما هو مختصٌ به، وتنفيه عما عداه؛ لأنك لا تدرك بالبصر إلا هذا.
حينئذٍ نقول: هذا الجِرم هل يُدرَك منه شيءٌ غير ذلك؟ الجواب: لا. هذا الذي يُعنى هنا.
قال: (وأُجيب بمنع الحصر المذكور لجواز أن يكون بين الشيء ولازمه ملازمةٌ بيِّنة) مر معنا أن اللازم نوعان: بيّنٌ وغير بيّن، والبيّن أعم وأخص.
اللازم البيّن هو الذي لا يحتاج إلى دليل، إذاً: قد يكون بين اللازم والملزوم ما لا يحتاج إلى دليل ولا إشكال فيه.
(أن يكون بين الشيء ولازمِه ملازمةٌ بيّنة؛ بحيث ينتقل الذهن منه إليه).
(منه) أي: من اللازم.
(إليه) أي: الشيء الملزوم.
(لتحقق اختصاصه به في الواقع وإن لم يُعرَف).
هذا قلنا: فرقٌ بين العلم بكون الشيء لازماً في نفس الأمر، أو على -تعبير صحيح-: بكون الشيء لازماً في نفس الأمر وبين العلم به.
والذي ينبغي اعتباره هنا: كونُه في نفس الأمر، وأما العلم به فهذا شيءٌ أشبه ما يسمى بالشعوري وهو انتقال من شيءٍ إلى شيءٍ آخر فقط على مدار الملازمة البيّنة التي لا تحتاج إلى دليل.
قال: (وبما تقرر -ما سبق- عُلِم أن التعريف لا يكون بغير القول).
ولذلك قال قول .. أليس كذلك؟ الحد التام هو القول الدال، قلنا أراد به التعريف اللفظي.
إذاً: القول احترز به عن الإشارة والكتابة، فلا يكون الحد بها البتة. وهو كذلك.
وأما الألفاظ التي تُكتب، قلنا النقوش هذه دالة على الألفاظ، والألفاظ دالةٌ على المعاني فلا إشكال فيه.
قال: (وبما تقرر عُلم -أي: في مبحثي الكُلِّيّات والمعرِّفات-: أن التعريف لا يكون بغير القول كالإشارة والخط).
ثم أخذ في بيان الحُجة ومقدماتِها مبتَدِءً بمقدماتها فقال: (الْقَضَايَا).
بهذا البحث "المعرِّفات" نكون قد انتهينا من نصف العلم.
العلم نوعان: تصور وتصديق، التصور قلنا: له مبادئ وهو الكُلِّيّات الخمس، ومقاصد وهو القول الشارح. انتهينا منهما .. الكُلِّيّات الخمس والقول الشارح.
نشرع إن شاء الله تعالى في علم التصديقات "القسم الثاني" علم التصديقات الذي كذلك يتألف من مبادئ ومقاصد.
مبادئ علم التصديقات: القضايا وأحكامُها يعني: وما يتعلق بها.
ثم يأتينا في الخاتمة -إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بالقياس .. مبادئ ومقاصد، وغداً إن شاء الله تعالى نبدأ في القضايا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!