الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي
لناظمها العلامة الفقيه والفهامة النبيه خاتمة المحققين
السيد محمد امين الشهير بابن عابدين
نفعنا الله به
آمين
الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي من علينا في البداية بالهداية* وانقذنا من الضلالة بمحض الفيض والعناية* والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي هو الوقاية من الغواية* وعلى آله وأصحابه ذوى الرواية والدراية* صلاة وسلاما لا غاية لهما ولا نهاية (اما بعد) فيقول افقر الورى* المستمسك من رحمة مولاه باوثق العرى* محمد امين بن عمر عابدين الماتريدى الحنفى* عامله مولاه بلطفه الخفى * هذا شرح لطيف وضعته على منظومتي التي نظمتها في رسم المفتى* اوضح به مقاصدها* واقيد به اوابدها وشواردها* اسأله سبحانه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم* موجبا للفوز العظيم * فأقول وبه استعين في كل حين
باسم الآله شارع الأحكام
…
مع حمده ابدأ في نظامى
ثم الصلاة والسلام سرمدا
…
على نبي قد اتانا بالهدى
وآله وصحبه الكرام
…
على ممر الدهر والاعوام
(وبعد) فالعبد الفقير المذنب
…
محمد بن عابدين يطلب
توفيق ربه الكريم الواحد
…
والفوز بالقبول في المقاصد
وفي نظام جوهر نضيد
…
وعقد در باهر فريد
سميته عقود رسم المفتى
…
يحتاجه العامل أو من يفتى
وها أنا اشرع في المقصود
…
مستمنحا من فيض بحر الجود
اعلم بان الواجب اتباع ما
…
ترجيحه عن أهله قد علما
أو كان ظاهر الرواية ولم
…
يرجحوا خلاف ذاك فاعلم
أي أن الواجب على من أراد أن يعمل لنفسه أو يفتى غيره أن يتبع القول الذى رجحه علماء مذهبه فلا يجوز له العمل أو الافتاء بالمرجوح إلا في بعض المواضع كما سيأتى في النظم (وقد) نقلوا الإجماع على ذلك ففي الفتاوى الكبرى للمحقق ابن حجر المكي قال في زوائد الروضة أنه لا يجوز للمفتى والعامل أن يفتى أو يعمل بما شاء من القولين أو الوجهين من غير نظر وهذا لا خلاف فيه وسبقه إلى حكاية الإجماع فيهما ابن الصلاح والباجي من المالكية في المفتى وكلام القرافى دال على أن المجتهد والمقلد لا يحل لهما الحكم والافتاء بغير الراجح لانه اتباع للهوى وهو حرام اجماعا وان محله في المجتهد ما لم تتعارض الادلة عنده
ويعجز عن الترجيح وإن لمقلده ح الحكم باحد القولين اجماع انتهى (وقال) الإمام المحقق العلامة قاسم بن قطلوبغا في أول كتابه تصحيح القدورى انى رأيت من عمل في مذهب أئمتنا رضى الله تعالى عنهم بالتشهى حتى سمعت من لفظ بعض القضاة هل ثم حجر فقلت نعم اتباع الهوى حرام والمرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة العدم والترجيح بغير مرجح في المتقابلات ممنوع وقال في كتاب الاصول لليعمرى من لم يطلع على المشهور من الروايتين أو القولين فليس له التشهي والحكم بما شاء منهما من غير نظر في الترجيح (وقال) الإمام أبو عمرو في آداب المفتى اعلم أن من يكتفى بان يكون فتواه أو عمله موافقا لقول أو وجه في المسئلة ويعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح فقد جهل وخرق الإجماع (وحكى) الباجى أنه وقعت له واقعة فافتوا فيها بما يضره فلما سألهم قالوا ما علمنا انها لك وافتوه بالرواية الأخرى التى توافق قصده قال الباجي وهذا لا خلاف بين المسلمين ممن يعتمد به في الاجماع أنه لا يجوز قال في أصول الاقضية ولا فرق بين المفتى والحاكم إلا أن المفتى مخبر بالحكم والقاضي ملزم به انتهى ثم نقل بعده واما الحكم والفتيا مما هو مرجوح فخلاف الإجماع وسيأتى ما إذا لم يوجد ترجيح لاحد القولين وقولى عن أهله أي أهل الترجيح إشارة إلى أنه لا يكتفى بترجيح أي عالم كان (فقد) قال العلامة شمس الدين محمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا في بعض رسائله لابد للمفتى المقلد أن يعلم حال من يفتى بقوله ولا نعنى بذلك معرفته باسمه ونسبه ونسبته إلى بلد من البلاد اذ لا يسمن ذلك ولا يغنى بل معرفته في الرواية ودرجته في الدراية وطبقته من طبقات الفقهاء ليكون على بصيرة وافية في التمييز بين القائلين المتخالفين وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين فنقول ان الفقهاء على سبع طبقات (الأولى) طبقة المجتهدين في الشرع كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الاصول واستنباط احكام الفروع عن الادلة الأربعة من غير تقليد لاحد لا في الفروع ولا في الاصول (الثانية) طبقة المجتهدين في المذهب كابي يوسف ومحمد وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الادلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها استاذهم فانهم وإن خالفوه في بعض احكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الاصول (الثالثة)
طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب
(1)
كالخصاف وأبي جعفر الطحاوى وابى الحسن الكرخي وشمس الأئمة الحلوانى وشمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوى وفخر الدين قاضي خان وغيرهم فإنهم لا يقدرون على مخالفة الإمام لا في الاصول ولا في الفروع لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها (الرابعة) طبقة أصحاب التخريج من المقلدين كالرازي
(2)
واضرابه فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا لكنهم لأحاطتهم بالأصول وضبطهم للمأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذى وجهين وحكم محتمل لامرين منقول عن صاحب المذهب أو عن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الاصول والمقايسة على امثاله ونظائره من الفروع وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل (الخامسة) طبقة أصحاب التخريج من المقلدين كابي الحسن القدورى وصاحب الهداية وامثالهما وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم هذا أولى وهذا أصح رواية وهذا أوضح وهذا اوفق للقياس وهذا ارفق للناس (السادسة) طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الاقوى والقوى والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة كاصحاب المتون المعتبرة كصاحب الكنز وصاحب المختار وصاحب الوقاية وصاحب المجمع وشأنهم أن لا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة (السابعة) طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر ولا يفرقون بين الغث والسمين ولا يميزون الشمال من اليمين بل يجمعون ما يجدون كحاطب ليل فالويل لمن قلدهم كل الويل انتهى مع حذف
(1)
أقول توفى الخصاف سنة 261 والطحاوى سنة 321 والكرخي سنة 340 والحلوانى سنة 456 والسرخسى في حدود سنة 500 والبزدوى سنة 482 وقاضي خان سنة 593 والرازى سنة 370 والقدورى سنة 428 وصاحب الهداية سنة 593 منه
(2)
الرازى هو أحمد بن علي بن أبي بكر الرازي المعروف بالجصاص خلافا لمن زعم أن الجصاص غير الرازي كما افاده في الجواهر المضية وهو من جماعة الكرخي وتمام ترجمته في طبقات التميمي وذكر أن وفاته سنة 370 عن خمس وستين سنة ومثله في تراجم العلامة قاسم منه
شيء يسير وستأتي بقية الكلام في ذلك وفي آخر الفتاوى الخيرية ولا شك أن معرفة راجح المختلف فيه من مرجوحه ومراتبه قوة وضعفا هو نهاية آمال المشمرين في تحصيل العلم فالمفروض على المفتى والقاضى التثبت في الجواب وعدم المجازفة فيهما خوفا من الافتراء على الله تعالى بتحريم حلال وضده ويحرم اتباع الهوى والتشهى والميل إلى المال الذى هو الداهية الكبرى والمصيبة العظمى فإن ذلك أمر عظيم لا يتجاسر عليه الأكل جاهل شقى انتهى (قلت) فحيث علمت وجوب اتباع الراجح من الأقوال وحال المرجح له تعلم أنه لائقة بما يفتى به أكثر أهل زماننا بمجرد مراجعة كتاب من الكتب المتأخرة خصوصا غير المحررة كشرح النقاية للقهستانى والدر المختار والاشباه والنظائر ونحوها فإنها لشدة الاختصار والايجاز كادت تلحق بالالغاز مع ما اشتملت عليه من السقط في النقل في مواضع كثيرة وترجيح ما هو خلاف الراجح بل ترجيح ما هو مذهب الغير مما لم يقل به أحد من أهل المذهب ورأيت في اوائل شرح الأشباه للعلامة محمد هبة الله قال ومن الكتب الغريبة منلا مسكين شرح الكنز والقهستاني لعدم الاطلاع على حال مؤلفيهما أو لنقل الأقوال الضعيفة كصاحب القنية أو الاختصار كالدر المختار للحصكفى والنهر والعينى شرح الكنز قال شيخنا صالح الجينينى أنه لا يجوز الافتاء من هذه الكتب إلا إذا علم المنقول عنه والاطلاع على مآخذها هكذا سمعته منه وهو علامة في الفقه مشهور والعهدة عليه انتهى (قلت) وقد يتفق نقل قول في نحو عشرين كتابا من كتب المتأخرين ويكون القول خطأ اخطأ به أول واضع له فيأتي من بعده وينقله عنه وهكذا ينقل بعضهم عن بعض كما وقع ذلك في بعض مسائل ما يصح تعليقه وما لا يصح كما نبه على ذلك العلامة ابن نجيم في البحر الرائق (ومن) ذلك مسئلة الاستئجار على تلاوة القرآن المجردة فقد وقع لصاحب السراج الوهاج والجوهرة شرح القدورى أنه قال ان المفتى به صحة الاستئجار وقد انقلب عليه الامر فإن المفتى به صحة الاستئجار على تعليم القرآن لا على تلاوته ثم أن أكثر المصنفين الذين جاؤا بعده تابعوه على ذلك ونقلوه وهو خطأ صريح بل كثير منهم قالوا أن الفتوى على صحة الاستئجار على الطاعات ويطلقون العبارة ويقولون أنه مذهب المتأخرين وبعضهم يفرع على ذلك صحة الاستئجار على الحج وهذا كله خطأ اصرح من الخطأ الأول فقد اتفقت النقول عن ائمتنا الثلاثة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن الاستئجار على الطاعات باطل لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج والترجيح فافتوا بصحته على تعليم القرآن للضرورة فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال وانقطعت فلو لم يصح الاستئجار
واخذ الاجرة لضاع القرآن وفيه ضياع الدين لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب وافتى من بعدهم أيضًا من امثالهم بصحته على الاذان والامامة لانهما من شعائر الدين فصححوا الاستئجار عليهما للضرورة أيضًا فهذا ما افتى به المتأخرون عن ابن حنيفة وأصحابه لعلمهم بان أبا حنيفة وأصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك ورجعوا عن قولهم الأول وقد اطبقت المتون والشروح والفتاوى على نقلهم بطلان الاستئجار على الطاعات إلا فيما ذكر وعللوا ذلك بالضرورة وهى خوف ضياع الدين وصرحوا بذلك التعليل فكيف يصح أن يقال أن مذهب المتأخرين صحة الاستئجار على التلاوة المجردة مع عدم الضرورة المذكورة فأنه لو مضى الدهر ولم يستأجر أحد أحدا على ذلك لم يحصل به ضرر بل الضرر صار في الاستئجار عليه حيث صار القرآن مكسبا وحرفة يتجر بها وصار القارئ منهم لا يقرأ شيئًا لوجه الله تعالى خالصا بل لا يقرأ إلا للاجرة وهو الرياء المحض الذي هو ارادة العمل لغير الله تعالى فمن اين يحصل له الثواب الذى طلب المستأجر أن يهديه لميته وقد قال الإمام قاضي خان أن اخذ الاجر في مقابلة الذكر يمنع استحقاق الثواب ومثله في فتح القدير في اخذ المؤذن الاجر ولو علم أنه لا ثواب له لم يدفع له فلسا واحدا فصاروا يتوصلون إلى جمع الحطام الحرام بوسيلة الذكر والقرآن وصار الناس يعتقدون ذلك من أعظم القرب وهو من أعظم القبائح المترتبة على القول بصحة الاستئجار مع غير ذلك مما يترتب عليه من اكل اموال الايتام والجلوس في بيوتهم على فرشهم واقلاق النائمين بالصراخ ودق الطبول والغناء واجتماع النساء والمردان وغير ذلك من المنكرات الفظيعة كما اوضحت ذلك كله مع بسط النقول عن أهل المذهب في رسالتي المسماة شفاء العليل وبل الغليل في بطلان الوصية بالختمات والتهاليل وعليها تقاريظ فقهآء أهل العصر من اجلهم خاتمة الفقهاء والعباد الناسكين مفتى مصر القاهرة سيدى المرحوم السيد أحمد الطحطاوى صاحب الحاشية الفائقة على الدر المختار رحمه الله تعالى (ومن) ذلك مسئلة عدم قبول توبة الساب للجناب الرفيع صلى الله تعالى عليه وسلم فقد نقل صاحب الفتاوى البزازية أنه يجب قتله عندنا ولا تقبل توبته وإن أسلم وعزا ذلك إلى الشفاء للقاضي عياض المالكي والصارم المسلول لابن تيمية الحنبلي ثم جاء عامة من بعده وتابعه على ذلك وذكروه في كتبهم حتى خاتمة المحققين ابن الهمام وصاحب الدرر والغرر مع أن الذى في الشفاء والصارم المسلول أن ذلك مذهب الشافعية والحنابلة واحدى الروايتين عن الإمام مالك مع الجزم بنقل قبول التوبة عندنا وهو المنقول في كتب المذهب المتقدمة ككتاب الخراج لابي يوسف وشرح مختصر الإمام
الطحاوى والنتف وغيرها من كتب المذهب كما اوضحت ذلك غاية الإيضاح بما لم اسبق إليه ولله تعالى الحمد والمنة في كتاب سميته تنبيه الولاة والحكام على احكام شاتم خير الانام أو أحد أصحابه الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام (ومن ذلك) مسألة ضمان الرهن بدعوى الهلاك فقد ذكر في الدرر وشرح المجمع لابن ملك أنه يضمن بدعوى الهلاك بلا برهان وتبعهما في متن التنوير ومقتضاه أنه يضمن قيمته بالغة ما بلغت وبه افتى العلامة الشيخ خير الدين وانه لا يضمن شيئا إذا برهن مع أن ذلك مذهب الإمام مالك ومذهبنا ضمانه بالاقل من قيمته ومن الدين بلا فرق بين ثبوت الهلاك ببرهان وبدونه كما اوضحه في الشرنبلالية عن الحقائق ونبهت عليه في حاشيتي رد المحتار على الدر المختار مع بيان من افتى بما هو المذهب ومن رد خلافه (ولهذا) الذي ذكرناه نظائر كثيرة اتفق فيها صاحب البحر والنهر والمنح والدر المختار وغيرهم وهى سهو منشأها الخطأ في النقل أو سبق النظر نبهت عليها في حاشيتى رد المحتار لالتزامى فيها مراجعة الكتب المتقدمة التي يعزون المسألة إليها فاذكر أصل العبارة التى وقع السهو في النقل عنها واضم إليها نصوص الكتب الموافقة لها فلذا كانت تلك الحاشية عديمة النظير في بابها لا يستغنى أحد عن تطلابها اسأله سبحانه أن يعينني على اتمامها فإذا نظر قليل الاطلاع ورأى المسألة مسطورة في كتاب أو أكثر يظن أن هذا هو المذهب ويفتى به ويقول ان هذه الكتب للمتأخرين الذين اطلعوا على كتب من قبلهم وحرروا فيها ما عليه العمل ولم يدر أن ذلك اغلي وانه يقع منهم خلافه كما سطرناه لك (وقد) كنت مرة افتيت بمسألة في الوقف موافقا لما هو المسطور في عامة الكتب وقد اشتبه فيها لامر على الشيخ علاء الدين الحصكفى عمدة المتأخرين فذكرها في الدر المختار على خلاف الصواب فوقع جوابى الذى افتيت به بيد جماعة من مفتى البلاد كتبوا في ظهره بخلاف ما افتيت به موافقين لما وقع في الدر المختار وزاد بعض هؤلاء المفتين أن هذا الذي في العلائي هو الذي عليه العمل لانه عمدة المتأخرين وانه أن كان عندكم خلافه لا نقبله منكم فانظر إلى هذا الجهل العظيم والتهور في الأحكام الشرعية والاقدام على الفتيا بدون علم وبدون مراجعة وليت هذا القائل راجع حاشية العلامة الشيخ إبراهيم الحلبي على الدر المختار فإنها أقرب ما يكون إليه فقد نبه فيها على أن ما وقع للعلائي خطأ في التعبير (وقد) رأيت في فتاوى العلامة ابن حجر سئل في شخص يقرأ ويطالع في الكتب الفقهية بنفسه ولم يكن له شيخ ويفتى ويعتمد على مطالعته
في الكتب فهل يجوز له ذلك أم لا فأجاب بقوله لا يجوز له الافتاء بوجه من الوجوه لانه عامى جاهل لا يدرى ما يقول بل الذى يأخذ العلم عن المشايخ المعتبرين لا يجوز له أن يفتى من كتاب ولا من كتابين بل قال النووي رحمه الله تعالى ولا من عشرة فإن العشرة والعشرين قد يعتمدون كلهم على مقالة ضعيفة في المذهب فلا يجوز تقليدهم فيها بخلاف الماهر الذى اخذ العلم عن أهله وصارت له فيه ملكة نفسانية فإنه يميز الصحيح من غيره ويعلم المسائل وما يتعلق بها على الوجه المعتد به فهذا هو الذي يفتى الناس ويصلح أن يكون واسطة بينهم وبين الله تعالى واما غيره فيلزمه إذا تسور هذا المنصب الشريف التعزير البليغ والزجر الشديد الزاجر ذلك لامثاله عن هذا الامر القبيح الذى يؤدى إلى مفاسد لا تحصى والله تعالى أعلم انتهى (وقولى) أو كان ظاهر الرواية الخ معناه أن ما كان من المسائل في الكتب التي رويت عن محمد بن الحسن رواية ظاهرة يفتى به وإن لم يصرحوا بتصحيحه نعم لو صححوا رواية أخرى من غير كتب ظاهر الرواية يتبع ما صححوه قال العلامة الطرسوسى في انفع الوسائل في مسألة الكفالة إلى شهر أن القاضي المقلد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر الرواية لا بالرواية الشاذة إلا أن ينصوا على أن الفتوى عليها انتهى
وكتب ظاهر الروايات اتت
…
ستا وبالاصول أيضًا سميت
صنفها محمد الشيباني
…
حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير
…
والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط
…
تواترت بالسند المضبوط
كذا له مسائل النوادر
…
اسنادها في الكتب غير ظاهر
وبعدها مسائل النوازل
…
خرجها الاشياخ بالدلائل
(اعلم) أن مسائل أصحابنا الحنفية على ثلاث طبقات (الأولى) مسائل الاصول وتسمى ظاهر الرواية ايضا وهي مسائل رويت عن أصحاب المذهب وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى ويقال لهم العلماء الثلاثة وقد يلحق بهم زفر والحسن وغيرهما ممن اخذ الفقه عن أبي حنيفة لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة أو قول بعضهم ثم هذه المسائل التي تسمى بظاهر الرواية والاصول هي ما وجد في كتب محمد التي هي المبسوط والزيادات والجامع الصغير والسير الصغير والجامع الكبير والسير الكبير وإنما سميت بظاهر الرواية لانها رويت عن محمد برواية الثقات فهي ثابتة عنه اما متواترة أو مشهورة عنه (الثانية) مسائل النوادر
وهى مسائل مروية عن أصحاب المذهب المذكورين لكن لا في الكتب المذكورة بل اما في كتب اخر المحمد غيرها كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات والرقيات وإنما قيل لها غير ظاهر الرواية لانها لم ترو عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى واما في كتب غير محمد ككتاب المجرد للحسن بن زياد وغيرها ومنها كتب الامالى لابي يوسف والامالى جمع املاء وهو أن يقعد العالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس فيتكلم العالم بما فتحه الله تعالى عليه من ظهر قلبه في العلم وتكتبه التلامذة ثم يجمعون ما يكتبونه فيصير كتابا فيسمونه الإملاء والامالى وكان ذلك عادة السلف من الفقهاء والمحدثين واهل العربية وغيرها في علومهم فاندرست لذهاب العلم والعلماء والى الله المصير وعلماء الشافعية يسمون مثله تعليقة * واما بروايات مفردة مثل رواية ابن سماعة ومعلى بن منصور وغيرهما في مسائل معينة (الثالثة) الفتاوى والواقعات وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عن ذلك ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهما وهلم جرا وهم كثيرون موضع معرفتهم كتب الطبقات لاصحابنا وكتب التواريخ* فمن أصحاب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى مثل عصام بن يوسف وابن رستم ومحمد بن سماعة وابى سليمان الجوزجاني وابى حفص البخارى ومن بعدهم مثل محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل ونصير بن يحيى وابى النصر القاسم بن سلام وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل واسباب ظهرت لهم واول كتاب جمع في فتواهم فيما بلغنا كتاب النوازل للفقيه أبي الليث السمرقندى ثم جمع المشايخ بعده كتبا اخر مجموع النوازل والواقعات للناطفى والواقعات للصدر الشهيد ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة كما في فتاوى قاضي خان والخلاصة وغيرهما وميز بعضهم كما في كتاب المحيط لرضى الدين السرخسي فإنه ذكر اولا مسائل الاصول ثم النوادر ثم الفتاوى ونعم ما فعل (واعلم) أن نسخ المبسوط المروى عن محمد متعددة واظهرها مبسوط أبي سليمان الجوزجانى وشرح المبسوط جماعة من المتأخرين مثل شيخ الإسلام بكر المعروف بخواهر زاده ويسمي المبسوط الكبير وشمس الأئمة الحلوانى وغيرهما ومبسوطاتهم شروح في الحقيقة ذكروها مختلطة بمبسوط محمد كما فعل شراح الجامع الصغير مثل فخر الإسلام وقاضي خان وغيرهما فيقال ذكره قاضي خان في الجامع الصغير والمراد شرحه وكذا في غيره انتهى ملخصا من شرح البيرى على الأشباه وشرح الشيخ إسماعيل النابلسي على شرح الدرر (هذا) وقد فرق العلامة ابن كمال باشا بين رواية الاصول وظاهر الرواية حيث قال في شرحه على الهداية في مسألة حج المرأة ما حاصله أنه ذكر في مبسوط السرخي أن ظاهر الرواية
أنه يشترط أن تملك قدر نفقة محرمها وانه ذكر في المحيط والذخيرة أنه روى الحسن عن أبي حنيفة انها إذا قدرت على نفقة نفسها ونفقة محرمها لزمها الحج واضطربت الروايات عن محمد اهـ ثم قال ومن هنا ظهر أن مراد الإمام السرخسي من ظاهر الرواية رواية الحسن عن أبي حنيفة واتضح الفرق بين ظاهر الرواية ورواية الاصول اذ المراد من الاصول المبسوط والجامع الصغير والجامع الكبير والزيادات والسير الكبير وليس فيها رواية الحسن بل كلها رواية محمد وعلم أن رواية النوادر قد تكون ظاهر الرواية والمراد من رواية النوادر رواية غير الاصول المذكورة فاحفظ هذا فإن شراح هذا الكتاب قد غفلوا عنه وقد صرح بعضهم بعدم الفرق بين ظاهر الرواية ورواية الاصول وزعم أن رواية النوادر لا تكون ظاهر الرواية اهـ (أقول) لا يخفى عليك أن قول المحيط والذخيرة أن هذه رواية الحسن عن أبي حنيفة لا يلزم منه أن تكون مخالفة لرواية الاصول فقد يكون رواها الحسن في كتب النوادر ورواها محمد في كتب الاصول وإنما ذكر رواية الحسن لعدم الاضطراب عنه بدليل قوله واضطربت الروايات عن محمد وحينئذ فقول السرخسي انها ظاهر الرواية معناه أن محمدا ذكرها في كتب الاصول فهى إحدى الروايات عنه وحينئذ فلم يلزم منه أن رواية النوادر قد تكون ظاهر الرواية نعم تكون ظاهر الرواية إذا ذكرت في كتب الأصول أيضًا كهذه المسألة فإن ذكرها في كتب النوادر لا يلزم منه أن لا يكون لها ذكر في كتب الاصول وإنما يصح ما قاله أن لو ثبت أن هذه المسألة لا ذكر لها في كتب ظاهر الرواية وعبارة المحيط والذخيرة لا تدل على ذلك وحينئذ فلا وجه لجزمه بالغفلة على شراح الهداية الموافق كلامهم لما قدمناه والله تعالى أعلم (تتمة) السير جمع سيرة وهى الطريقة في الامور وفي الشرع تختص بسير النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في مغازيه كذا في الهداية قال في المغرب وقالوا السير الكبير فوصفوها بصفة المذكر لقيامها مقام المضاف الذي هو كتاب كقولهم صلاة الظهر وسير الكبير خطأ كجامع الصغير وجامع الكبير انتهى وحينئذ فالسير الكبير يكسر السين وفتح الياء على لفظ الجمع لا بفتح السين وسكون الياء على لفظ المفرد كما ينطق به بعض من لا معرفة له
واشتهر المبسوط بالأصل وذا
…
لسبقه الستة تصنيفا كذا
الجامع الصغير بعده فما
…
فيه على الأصل لذا تقدما
وآخر الستة تصنيفا ورد
…
السير الكبير فهو المعتمد
قدمنا أن كتب ظاهر الرواية تسمى بالاصول ومنه قول الهداية في باب التيمم وعن
أبي حنيفة وأبي يوسف في غير رواية الاصول الخ قال الشراح هناك رواية الاصول رواية الجامعين والزيادات والمبسوط ورواية غير الاصول رواية النوادر والامالى والرقيات والكيسانيات والهارونيات انتهى وكثيرا ما يقولون ذكره محمد في الأصل ويفسره الشراح بالمبسوط فعلم أن الأصل مفردا هو المبسوط اشتهر به من بين باقي كتب الاصول (وقال) في البحر في باب صلاة العيد عن غاية البيان سمي الأصل أصلا لأنَّه صنف أولا ثم الجامع الصغير ثم الكبير ثم الزيادات انتهى وقال أن الجامع الصغير صنفه محمد بعد الأصل فما فيه هو المعول عليه انتهى * وسبب تأليفه أنه طلب منه أبو يوسف أن يجمع له كتابا يرويه عنه عن أبي حنيفة فجمعه له ثم عرضه عليه فاعجبه وهو كتاب مبارك يشتمل على ألف وخمسمائة واثنين وثلاثين مسألة كما قال البزدوى وذكر بعضهم أن أبا يوسف مع جلالة قدره لا يفارقه في سفر ولا حضر وكان علي الرازى يقول من فهم هذا الكتاب فهو افهم أصحابنا وكانوا لا يقلدون احدا القضاء حتى يتمتحنوه به اهـ (وفى) غاية البيان عن فخر الإسلام أن الجامع الصغير لما عرض علي أبي يوسف استحسنه وقال حفظ أبو عبد الله فقال محمد أنا حفظتها ولكنه نسى وهي ست مسائل ذكرها في البحر في باب الوتر والنوافل (وقال) في البحر في بحث التشهد كل تأليف لمحمد بن الحسن موصوف بالصغير فهو باتفاق الشيخين أبي يوسف ومحمد بخلاف الكبير فإنه لم يعرض على أبي يوسف انتهى (وقال) المحقق ابن امير حاج الحلبي في شرحه على المنية في بحث التسميع أن محمدا قرأ أكثر الكتب على أبي يوسف إلا ما كان فيه اسم الكبير فإنه من تصنيف محمد كالمضاربة الكبير والمزارعة الكبير والمأذون الكبير والجامع الكبير والسير الكبير انتهى (وذكر) المحقق ابن الهمام كما في فتاوي تلميذه العلامة قاسم أن ما لم يحك محمد فيه خلافا فهو قولهم جميعا (وذكر) الإمام شمس الأئمة السرخسى في أول شرحه على السير الكبير هو آخر تصنيف صنفه محمد في الفقه ثم قال وكان سبب تأليفه أن السير الصغير وقع بيد عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عالم أهل الشام فقال لمن هذا الكتاب فقيل لمحمد العراقي فقال ما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب فإنه لا علم لهم بالسير ومغازى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأصحابه كانت من جانب الشام والحجاز دون العراق فإنها محدثة فتحا فبلغ ذلك محمدا فغاظه ذلك وفرغ نفسه حتى صنف هذا الكتاب فحكى أنه لما نظر فيه الاوزاعى قال لولا ما ضمنه من الأحاديث لقلت أنه يضع العلم وإن الله تعالى عين جهة اصابة الجواب في رأيه صدق الله العظيم وفوق
كل ذي علم عليم ثم أمر محمد أن يكتب هذا في ستين دفترا وان يحمل على عجلة إلى باب الخليفة فاعجبه ذلك وعده من مفاخر زمانه (وفى) شرح الأشباه للبيرى قال علماؤنا إذا كانت الواقعة مختلفا فيها فالافضل والمختار للمجتهد أن ينظر بالدلائل وينظر إلى الراجح عنده والمقلد يأخذ بالتصنيف الأخير وهو السير إلا أن يختار المشايخ المتأخرون خلافه فيجب العمل به ولو كان قول زفر
ويجمع الست كتاب الكافي
…
للحاكم الشهيد فهو الكافي
اقوي شروحه الذى كالشمس (*) مبسوط شمس الأمة السرخسى
معتمد النقول ليس يعمل
…
بخلفه وليس عنه يعدل
قال في فتح القدير وغيره ان كتاب الكافى هو جمع كلام محمد في كتبه الست التي هي كتب ظاهر الرواية انتهى (وفي) شرح الأشباه للعلامة إبراهيم البيرى أعلم أن من كتب مسائل الاصول كتاب الكافي للحاكم الشهيد وهو كتاب معتمد في نقل المذهب شرحه جماعة من المشايخ منهم شمس الأئمة السرخسى وهو المشهور بمبسوط السرخسي انتهى (قال) الشيخ إسماعيل النابلسي قال العلامة الطرسوسى مبسوط السرخسى لا يعمل بما يخالفه ولا يركن إلا إليه ولا يفتى ولا يعول إلا عليه انتهى (وذكر) التميمي في طبقاته اشعارا كثيرة في مدحه منها
ما انشده لبعضهم
عليك بمبسوط السرخسي أنه
…
هو البحر والدر الفريد مسائله
ولا تعتمد إلا عليه فإنه
…
يجاب باعطاء الرغائب سائله
(قال) العلامة الشيخ هبة الله البعلى في شرحه على الأشباه المبسوط للإمام الكبير محمد بن محمد بن أبي سهل السرخسى أحد الأئمة الكبار المتكلم الفقيه الأصولى لزم شمس الأئمة عبد العزيز الحلوانى وتخرج به حتى صار أنظر أهل زمانه واخذ بالتصنيف واملى المبسوط نحو خمسة عشر مجلدا وهو في السجن باوز جند بكلمة كان فيها
(*) قوله مبسوط شمس الأمة السرخسى فيه تغيير اقتضاه الوزن فإنه ملقب بشمس الأئمة جمع امام (فائدة) لقب بشمس الأئمة جماعة من أئمتنا منهم شمس الأئمة الحلوانى ومنهم تلميذه شمس الأئمة السرخسى ومنهم شمس الأئمة محمد عبد الستار الكردري ومنهم شمس الأئمة بكر بن محمد الزرنجرى ومنهم ابنه شمس الأئمة عماد الدين عمر بن بكر بن محمد الزرنجرى ومنهم شمس الأئمة البيهقي ومنهم شمس الأئمة الاوزجندى واسمه محمود وكثيرا ما يلقب بشمس الإسلام كذا في حاشية نوح افندى على الدرر والغرر في فصل المهر منه.
من الناصحين توفى سنة اربعمائة وتسعين * وللحنفية مبسوطات كثيرة منها لابي يوسف ولمحمد ويسمى مبسوطه بالأصل ومبسوط الجرجاني ولخواهرزاده ولشمس الأئمة الحلوانى ولابي اليسر البزدوى ولاخيه على البزدوى وللسيد ناصر الدين السمرقندي ولابي الليث نصر بن محمد * وحيث اطلق المبسوط فالمراد به مبسوط السرخسي هذا وهو شرح الكافى والكافى هذا هو كافى الحاكم الشهيد العالم الكبير محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ولى قضاء بخارى ثم ولاه الامير المجيد صاحب خراسان وزارته سمع الحديث من كثيرين وجمع كتب محمد بن الحسن في مختصره هذا ذكره الذهبي وأثنى عليه * وقال الحاكم في تاريخ نيسابور ما رأيت في جملة من كتبت عنهم من أصحاب أبي حنيفة احفظ للحديث واهدى برسومه وافهم له منه قتل ساجدا في ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وثلثمائة (قلت) وللحاكم الشهيد المختصر والمنتقى والإشارات وغيرها وقول السرخسي فرأيت الصواب في تأليف شرح المختصر لا يدل على أن مبسوط السرخسى شرح المختصر لا شرح الكافي كما توهمه الخير الرملى في حاشية الأشباه فإن الكافى مختصر أيضًا لانه اختصر فيه كتب ظاهر الرواية كما علت وقد أكثر النقل في غاية البيان عن الكافى بقوله قال الحاكم الشهيد في مختصره المسمى بالكافي والله تعالى أعلم
واعلم بان عن أبي حنيفه
…
جاءت روايات غدت منيفه
اختار منها بعضها والباقى
…
يختار منه سائر الرفاق
فلم يكن لغيره جواب
…
كما عليه اقسم الاصحاب
اعلم بان المنقول عن عامة العلماء في كتب الاصول أنه لا يصح في مسئلة المجتهد قولان للتناقض فإن عرف المتأخر منهما تعين كون ذلك رجوعا والا وجب ترجيح المجتهد بعده بشهادة قلبه كما في بعض كتب الحنفية المشهورة وفي بعضها أنه أن لم يعرف تاريخ فإن نقل في أحد القولين عنه ما يقويه فهو الصحيح عنده والا فان وجد متبع بلغ الاجتهاد في المذهب رجح بما مر من المرجحات أن وجد والا يعمل بايهما شاء بشهادة قلبه وإن كان عاميا اتبع فتوى المفتى فيه الأتقى الأعلم وإن كان متفقها تبع المتأخرين وعمل بما هو اصوب واحوط عنده كذا في التحرير للمحقق ابن الهمام (واعلم) أن اختلاف الروايتين ليس من باب اختلاف القولين لأن القولين نص المجتهد عليهما بخلاف الروايتين فالاختلاف في القولين من جهة المنقول عنه لا الناقل والاختلاف في الروايتين بالعكس كما ذكره المحقق ابن امير حاج
في شرح التحرير (لكن) ذكر بعده عن الإمام أبي بكر البليغي في الدرر أن الاختلاف في الرواية عن أبي حنيفة من وجوه (منها) الغلط في السماع كأن يجيب بحرف النفى إذا سئل عن حادثة ويقول لا يجوز فيشتبه على الراوى فينقل ما سمع (ومنها) أن يكون له قول قد رجع عنه ويعلم بعض من يختلف إليه رجوعه فيروى الثانى والآخر لم يعلمه فيروى الأول (ومنها) أن يكون قال أحدهما على وجه القياس والآخر على وجه الاستحسان فيسمع كل واحد أحدهما فينقل كما سمع (ومنها) أن يكون الجواب في مسئلة من وجهين من جهة الحكم ومن جهة الاحتياط فينقل كل كما سمع انتهى (قلت) فعلى ما عدا الوجه الأول يكون الاختلاف في الروايتين من جهة المنقول عنه أيضًا لابتناء الاختلاف فيهما على اختلاف القولين المرويين فيكونان من باب واحد ويؤيده أن ناقل الروايتين قد يكون واحدًا فإن إحدى الروايتين قد تكون في كتاب من كتب الأصول والأخرى في كتب النوادر بل قد يكون كل منهما في كتب الاصول والكل من جمع واحد وهو الإمام محمد رحمه الله تعالى وهذا ينافي الوجه الأول ويبعد الوجه الثاني فالاظهر الاقتصار على الوجهين الاخيرين لكن لا في كل فرع اختلفت فيه الرواية بل بعض ذلك قد يكون لأحدهما والبعض الآخر للآخر لكن هذا إنما يتأتى فيما يصلح أن يكون فيه قياس واستحسان أو احتياط وغيره نعم يتأتى الوجهان الاولان فيما إذا اختلف الراوى (وقد) يقال أن من وجوه الاختلاف أيضًا تردد المجتهد في الحكم لتعارض الادلة عنده بلا مرجح أو لاختلاف رأيه في مدلول الدليل الواحد فإن الدليل قد يكون محتملًا لوجهين أو أكثر فيبنى على كل واحد جوابا ثم قد يترجح عنده أحدهما فينسب إليه ولهذا تراهم يقولون قال أبو حنيفة كذا وفي رواية عنه كذا وقد لا يترجح عنده أحدهما فيستوى رأيه فيهما ولذا تراهم يحكون عنه في مسئلة القولين على وجه يفيد تساويهما عنده فيقولون وفي المسئلة عنه روايتان أو قولان وقد قدمنا عن الإمام القرافي أنه لا يحل الحكم والافتاء بغير الراجح لمجتهد أو مقلد إلا إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد وعجز عن الترجيح أي فإن له الحكم بايهما شاء لتساويهما عنده وعلى هذا فيصح نسبة كل من القولين إليه لا كما يقوله بعض الاصوليين من أنه لا ينسب إليه شيء منهما وما يقوله بعضهم من اعتقاد نسبة أحدهما إليه لأن رجوعه عن الآخر غير معين اذ الفرض تساويهما في رأيه وعدم ترجح أحدهما على الآخر نعم إذا ترجح عنده أحدهما مع عدم اعراضه عن الآخر ورجوعه عنه ينسب إليه الراجح عنده ويذكر الثاني رواية
عنه اما لو اعرض عن الآخر بالكلية لم يبق قولا له بل يكون قوله هو الراجح فقط لكن لا يرتفع الخلاف في المسئلة بعد الرجوع كما قاله بعض الشافعية وايده بعضهم بان أهل عصر إذا اجمعوا على قول بعد اختلافهم فقد حكى الاصوليون قولين في ارتفاع الخلاف السابق فما لم يقع فيه اجماع أولى (لكن) ما ذكر في كتب الاصول عندنا من أنه لا يمكن أن يكون للمجهتد قولان كما مر ينافي ذلك لانه مبنى فيما يظهر على ما ذكروا في تعارض الادلة أنه إذا وقع التعارض بين آيتين يصار إلى الحديث فإن تعارض فالى أقوال الصحابة فإن تعارضت فالى القياس فإن تعارض قياسان ولا ترجيح فإنه يتحرى فيهما ويعمل بشهادة قلبه فإذا عمل بأحدهما ليس له العمل بالآخر إلا بدليل فوق التحرى قالوا وقال الشافعى يعمل بايهما شاء من غير تحر ولهذا صار له في المسئلة قولان وأكثر واما الروايتان عن أصحابنا في مسئلة واحدة فإنما كانتا في وقتين فاحداهما صحيحة دون الأخرى لكن لم تعرف المتأخرة منهما انتهى وعلى هذا فما يقال فيه عن الإمام روايتان فلعدم معرفة الأخير وما يقال فيه وفي رواية عنه كذا اما لعلمهم بأنها قوله الأول أو لكون هذه الرواية رويت عنه في غير كتب الأصول وهذا أقرب لكن لا يخفى أن ما ذكروه في بحث تعارض الادلة مشكل لانه يلزم منه أن يكون ما فيه روايتان عن الإمام لا يجوز فيه العمل بواحدة منهما لعدم العلم بالصحيحة من الباطلة منهما وانه لا ينسب إليه شيء منهما كما مر عن بعض الأصوليين مع أن ذلك واقع في مسائل لا تحصى ونراهم يرجحون إحدى الروايتين على الأخرى وينسبونها إليه فالذي يظهر ما مر عن الإمام البليغي من بيان تعدد الاوجه في اختلاف الرواية عن الإمام مع زيادة ما ذكرناه من تردده في الحكمين واحتمال كل منهما في رأيه مع عدم مرجح عنده لأحدهما من دليل أو تحر أو غيره فتأمل (ثم) لا يخفى أن هذا الوجه الذي قلناه أكثر اطرادا من الاوجه الأربعة المارة في اختلاف الروايتين لشموله ما فيه استحسان أو احتياط وغيره (إذا تقرر ذلك فاعلم) أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى من شدة احتياطه وورعه وعلمه بإن الاختلاف من آثار الرجة قال لأصحابه ان توجه لكم دليل فقولوا به فكان كل يأخذ برواية عنه ويرجحها كما حكاه في الدر المختار وفي الولوالجية من كتاب الجنايات قال أبو يوسف ما قلت قولا خالفت فيه أبا حنيفة إلا قولا قد كان قاله وروى عن زفر انه قال ما خالفت أبا حنيفة في شيء إلا قد قاله ثم رجع عنه فهذا إشارة إلى انهم ما سلكوا طريق الخلاف بل قالوا ما قالوا عن اجتهاد ورأى اتباعا لما قاله استاذهم أبو حنيفة انتهى (وفى) آخر الحاوى القدسي
وإذا اخذ بقول واحد منهم يعلم قطعا أنه يكون به آخذا بقول أبي حنيفة فإنه روى عن جميع أصحابه من الكبار كابي يوسف ومحمد وزفر والحسن انهم قالوا ما قلنا في مسئلة قولا إلا وهو روايتنا عن أبي حنيفة واقسموا عليه إيمانًا غلاظنا فلم يتحقق اذن في الفقه جواب ولا مذهب الاله كيف ما كان وما نسب إلى غيره الا بطريق المجاز للموافقة انتهى (فإن قلت) إذا رجع المجتهد عن قول لم يبق قولا له لانه صار كالحكم المنسوخ كما سيأتى وح فما قاله أصحابه مخالفين له فيه ليس مذهبه بل صارت أقوالهم مذاهب لهم فكيف تنسب إليه والحنفى إنما قلد أبا حنيفة ولذا نسب إليه دون غيره (قلت) قد كنت استشكلت ذلك واجبت عنه في حاشيتي رد المحتار على الدر المختار بان الإمام لما أمر أصحابه بان يأخذوا من اقواله بما يتجه لهم منها الدليل عليه صار ما قالوه قولا له لابتنائه على قواعده التي اسسها لهم فلم يكن مرجوعا عنه من كل وجه ونظير هذا ما نقله العلامة البيرى في أول شرحه على الاشباه عن شرح الهداية لابن الشحنة الكبير والد شارح الوهبانية وشيخ ابن الهمام ونصه إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة انتهى ونقله أيضًا الإمام الشعراني عن الأئمة الأربعة (قلت) ولا يخفى ان ذلك لمن كان اهلا للنظر في النصوص ومعرفة محكمها من منسوخها فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به صح نسبته إلى المذهب لكونه صادرا بإذن صاحب المذهب اذ لا شك أنه لو علم بضعف دليله رجع عنه واتبع الدليل الاقوى ولذا رد المحقق ابن الهمام على المشايخ حيث افتوا بقول الامامين بأنه لا يعدل عن قول الإمام إلا لضعف دليله (واقول) أيضًا ينبغى تقييد ذلك بما إذا وافق قولا في المذهب اذ لم يأذنوا في الاجتهاد فيما خرج عن المذهب بالكلية مما اتفق عليه ائمتنا لان اجتهادهم اقوى من اجتهاده فالظاهر انهم رأوا دليلا ارجح مما رآه حتى لم يعملوا به ولهذا قال العلامة قاسم في حق شيخه خاتمة المحققين الكمال بن الهمام لا يعمل بابحاث شيخنا التي تخالف المذهب وقال في تصحيحه على القدورى قال الإمام العلامة الحسن بن منصور بن محمود الاوزجندى المعروف بقاضي خان في كتاب الفتاوى رسم المفتي في زماننا من أصحابنا إذا استفتى عن مسئلة ان كانت مروية عن أصحابنا في الروايات الظاهرة بلا خلاف بينهم فإنه يميل إليهم ويفتى بقولهم ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهدا متقنا لان الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا ولا يعدوهم واجتهاده لا يبالغ اجتهادهم ولا ينظر إلى قول من خالفهم ولا تقبل حجته أيضًا
لأنهم عرفوا الأدلة وميزوا بين ما صح وثبت وبين عنده الخ ثم نقل نحوه عن شرح برهان الأئمة على ادب القضاء للخصاف (قلت) لكن ربما عدلوا عما اتفق عليه أئمتنا الضرورة ونحوها كما مر في مسئلة الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه من الطاعات التي في ترك الاستئجار عليها ضياع الدين كما قررناه سابقا فح يجوز الافتاء بخلاف قولهم كما نذكره قريبا عن الحاوى القدسى وسيأتي بسطه أيضًا آخر الشرح عند الكلام على العرف (والحاصل) ان ما خالف فيه الاصحاب امامهم الاعظم لا يخرج عن مذهبه اذا رجحه المشايخ المعتبرون وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه أيضًا لأن ما رجحوه لترجيح دليله عندهم ماذون به من جهة الإمام وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حيا لقال بما قالوه لأن ما قالوه إنما هو مبنى على قواعده أيضًا فهو مقتضى مذهبه لكن ينبغى أن لا يقال قال أبو حنيفة كذا إلا فيما روى عنه صريحا وإنما يقال فيه مقتضى مذهب أبي حنيفة كذا كما قلنا ومثله تخريجات المشايخ بعض الأحكام من قواعد أو بالقياس على قوله ومنه قولهم وعلى قياس قوله بكذا يكون كذا فهذا كله لا يقال فيه قال أبو حنيفة نعم يصح أن يسمى مذهبه بمعنى أنه قول أهل مذهبه أو مقتضى مذهبه وعن هذا لما قال صاحب الدرر والغرر في كتاب القضاء إذا قضى القاضى في مجتهد فيه بخلاف مذهبه لا ينفذ قال أي أصل المذهب كالخنفى إذا حكم على مذهب الشافعي أو نحوه أو بالعكس واما إذا حكم الحنفى بمذهب أبي يوسف أو محمدا ونحوهما من أصحاب الإمام فليس حكما بخلاف رأيه انتهى والظاهر أن نسبة المسائل المخرجة إلى مذهبه أقرب من نسبة المسائل التى قال بها أبو يوسف أو محمد إليه لأن المخرجة مبنية على قواعده واصوله واما المسائل التى قال بها أبو يوسف ونحوه من أصحاب الإمام فكثير منها مبنى على قواعد لهم خالفوا فيها قواعد الإمام لأنهم لم يلتزموا قواعده كلها كما يعرفه من له معرفة بكتب الاصول نعم قد يقال إذا كانت اقوالهم روايات عنه على ما مر تكون تلك القواعد له أيضًا لابتناء تلك الأقوال عليها وعلى هذا أيضًا تكون نسبة التخريجات إلى مذهبه أقرب لابتنائها على قواعده التي رجحها وبنى اقواله عليها فإذا قضى القاضي بما صح منها نفذ قضاؤه كما ينفذ بما صح من أقوال الاصحاب فهذا ما ظهر لي تقريره في هذا الباب من فتح الملك الوهاب والله تعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
وحيث لم يوجد له اختيار
…
فقول يعقوب هو المختار
ثم محمد فقوله الحسن
…
ثم زفر وابن زياد الحسن
وقيل بالتخيير في فتواه
…
ان خالف الإمام صاحباه
وقيل من دليله اقوى رجح
…
وذالمفت ذى اجتهاد الاصح
قد علمت ما قررناه آنفا أن ما اتفق عليه أئمتنا لا يجوز لمجتهد في مذهبهم أن يعدل عنه برأيه لأن رأيهم أصح واشرت هنا إلى انهم إذا اختلفوا يقدم ما اختاره أبو حنيفة سواء وافقه أحد أصحابه اولا فإن لم يوجد له اختيار قدم ما اختاره يعقوب وهو اسم أبي يوسف أكبر أصحاب الإمام وعادة الإمام محمد انه يذكر أبا يوسف بكنيته إلا إذا ذكر معه أبا حنيفة فإنه يذكره باسمه العلم فيقول يعقوب عن أبي حنيفة وكان ذلك بوصية من أبي يوسف تأدبا مع شيخه أبي حنيفة رحمهم الله تعالى جميعا ورحمنا بهم وادام بهم النفع إلى يوم القيمة وحيث لم يوجد لابى يوسف اختيار قدم قول محمد ابن الحسن اجل أصحاب أبي حنيفة بعد ابي يوسف ثم بعده يقدم قول زفر والحسن ابن زياد فقولهما في رتبة واحدة لكن عبارة النهر ثم بقول الحسن وقيل إذا خالفه أصحابه وانفرد بقول يتخير المفتى وقيل لا يتخير إلا المفتى المجتهد فيختار ما كان دليله اقوى (قال) في الفتاوى السراجية ثم الفتوى على الإطلاق على قول أبي حنيفة ثم قول أبي يوسف ثم قول محمد ثم قول زفر والحسن بن زياد وقيل إذا كان أبو حنيفة في جانب وصاحباه في جانب فالمفتى بالخيار والاول أصح إذا لم يكن المفتى مجتهدا انتهى ومثله في متن التنوير أول كتاب القضاء (وقال) في آخر كتاب الحاوى القدسي ومتى لم يوجد في المسئلة عن أبي حنيفة رواية يؤخذ بظاهر قول أبي يوسف ثم بظاهر قول محمد ثم بظاهر قول زفر والحسن وغيرهم الأكبر فالاكبر إلى آخر من كان من كبار الاصحاب وقال قبله ومتى كان قول أبي يوسف ومحمد موافق قوله لا يتعدى عنه إلا فيما مست إليه الضرورة وعلم أنه لو كان أبو حنيفة رأى ما رأوا لأفتى به وكذا إذا كان أحدهما معه فإن خالفاه في الظاهر قال بعض المشايخ يأخذ بظاهر قوله وقال بعضهم المفتى مخير بينهما ان شاء افتى بظاهر قوله وإن شاء افتى بظاهر قولهما والاصح أن العبرة لقوة الدليل انتهى (والحاصل) أنه إذا انفق أبو حنيفة وصاحباه على جواب لم يجز العدول عنه إلا لضرورة وكذا إذا وافقه أحدهما واما إذا انفرد عنهما بجواب وخالفاه فيه فإن انفرد كل منهما بجواب أيضًا بإن لم يتفقا على شيء واحد فالظاهر ترجيح قوله أيضا واما إذا خالفاه واتفقا على جواب واحد حتى صار هو في جانب وهما في جانب فقيل يرجح قوله أيضًا وهذا قول الإمام عبد الله بن المبارك وقيل يتخير المفتى وقول السراجية والاول أصح إذا لم يكن المفتى مجتهدا يفيد اختيار القول الثانى ان كان المفتى مجتهدا ومعنى تخييره أنه ينظر في الدليل فيفتى بما يظهر له ولا يتعين عليه قول الإمام وهذا الذي صححه في الحاوى أيضًا بقوله والاصح أن العبرة لقوة الدليل لأن اعتبار قوة الدليل شأن المفتى المجتهد فصار فيما إذا خالفه
صاحباه ثلاثة أقوال الأول اتباع قول الإمام بلا تخيير الثاني التخيير مطلقا الثالث وهو الاصح التفصيل بين المجتهد وغيره و به جزم قاضي خان كما يأتي والظاهر أن هذا توفيق بين القولين بحمل القول باتباع قول الإمام على المفتي الذي هو غير مجتهد وجل القول بالتخيير على المفتى المجتهد وإذا لم يوجد للإمام نص يقدم قول إلى يوسف ثم محمد الخ والظاهر ان هذا في حق غير المجتهد اما المفتى المجتهد فيتخير بما يترجح عنده دليله نظير ما قبله (وقد) علم من هذا أنه لا خلاف في الأخذ بقول الإمام إذا وافقه أحدهما ولذا قال الإمام قاضى خان وإن كانت المسئلة مختلفا فيها بين أصحابنا فإن كان مع أبي حنيفة أحد صاحبيه يأخذ بقولهما أي بقول الإمام ومن وافقه لوفور الشرائط واستجماع ادلة الصواب فيها وإن خالفه صاحباه في ذلك فإن كان اختلافهم اختلاف عصر وزمان كالقضاء بظاهر العدالة يأخذ بقول صاحبيه لتغيير احوال الناس وفى المزارعة والمعاملة ونحوها يختار قولهما لاجماع المتأخرين على ذلك وفيما سوى ذلك يخير المفتى المجتهد ويعمل بما افضى إليه رأيه وقال عبد الله بن المبارك يأخذ بقول أبي حنيفة انتهى (قلت) لكن قدمنا أن ما نقل عن الإمام من قوله إذا صح الحديث فهو مذهبي محمول على ما لم يخرج عن المذهب بالكلية كما ظهر لنا من التقرير السابق ومقتضاه جواز اتباع الدليل وإن خالف ما وافقه عليه أحد صاحبيه ولهذا قال في البحر عن التتارخانية إذا كان الإمام في جانب وهما في جانب خير المفتى وإن كان أحدهما مع الإمام اخذ بقولهما إلا إذا اصطلح المشايخ على قول الآخر فيتبعهم كما اختار الفقيه أبو الليث قول زفر في مسائل انتهى وقال في رسالته المسماة رفع الغشاء في وقت العصر والعشاء لا يرجح قول صاحبيه أو أحدهما على قوله إلا لموجب وهو اما ضعف دليل الإمام واما للضرورة والتعامل كترجيح قولهما في المزارعة والمعاملة واما لأن خلافهما له بسبب اختلاف العصر والزمان وانه لو شاهد ما وقع في عصرهما لوافقهما كعدم القضاء بظاهر العدالة (ويوافق) ذلك ما قاله العلامة المحقق الشيخ قاسم في تصحيحه ونصه على أن المجتهدين لم يفقدوا حتى نظروا في المختلف ورجحوا وصححوا فشهدت مصنفاتهم بترجيح قول أبي حنيفة والأخذ بقوله إلا في مسائل بسيرة اختاروا الفتوى فيها على قولهما أو قول أحدهما وإن كان الآخر مع الإمام كما اختاروا قول أحدهما فيما لا نص فيه للإمام للمعاني التي أشار إليها القاضي بل اختاروا قول زفر في مقابلة قول الكل نحو ذلك وترجيحاتهم وتصحيحاتهم باقية فعلينا اتباع الراجح والعمل به كما لو افتوا في حياتهم انتهى (تتمة) قال العلامة البيرى
والمراد بالاجتهاد أحد الاجتهادين وهو المجتهد في المذهب وعرف بأنه المتمكن من تخريج الوجوه على منصوص امامه أو المتجر في مذهب امامه المتمكن من ترجيح قول له على آخر اطلقه اهـ وسيأتى توضيحه
فالآن لا ترجيح بالدليل
…
فليس إلا القول بالتفصيل
ما لم يكن خلافه المصححا
…
فنأخذ الذى لهم قد وضحا
فاننا نراهمو قد رجحوا
…
مقال بعض صحبه وصححوا
من ذاك ما قد رجحو الزفر
…
مقاله في سبعة وعشر
قد علمت أن الاصح تخيير المفتى المجتهد فيفتى بما يكون دليله اقوى ولا يلزمه المشي على التفصيل ولما انقطع المفتي المجتهد في زماننا ولم يبق إلا المقلد المحض وجب علينا اتباع التفصيل فنفتي اولا بقول الإمام ثم وثم ما لم نر المجتهدين في المذهب صححوا خلافه لقوة دليله أو لتغير الزمان أو نحو ذلك مما يظهر لهم فنتبع ما قالوا كما لو كانوا احياء وافتونا بذلك كما علمته آنفا من كلام العلامة قاسم لأنهم اعلم وادري بالمذهب وعلى هذا عملهم فاننا رأيناهم قد يرجحون قول صاحبيه تارة وقول أحدهما تارة وتارة قول زفر في سبعة عشر موضعا ذكرها البيرى في رسالة ولسيدى أحمد الحموى منظومة في ذلك لكن بعض مسائلها مستدرك لكونه لم يختص به زفر وقد نظمت في ذلك منظومة فريدة اسقطت منها ما هو مستدرك وزدت على ما نظمه الحموى عدة مسائل وقد ذكرت هذه المنظومة في حاشيتى رد المحتار من باب النفقة (وقال) في البحر من كتاب القضاء فإن قلت كيف جاز للمشايخ الافتاء بقول غير الإمام الاعظم مع انهم مقلدون قلت قد اشكل على ذلك مدة طويلة ولم ار عنه جوابا الا ما فهمته الآن من كلامهم وهو انهم نقلوا عن أصحابنا أنه لا يحل لأحد أن يفتى بقولنا حتى يعلم من اين قلنا حتى نقل في السراجية أن هذا سبب مخالفة عصام للإمام وكان يفتى بخلاف قوله كثيرا لانه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به (فأقول) ان هذا الشرط كان في زمانهم اما في زماننا فيكتفى بالحفظ كما في القنية وغيرها فيحل الافتاء بقول الإمام بل يجب وإن لم نعلم من اين قال وعلى هذا فما صححه في الحاوى أي من أن الاعتبار لقوة الدليل مبنى على ذلك الشرط وقد صححوا ان الافتاء بقول الإمام فينتج من هذا أنه يجب علينا الافتاء بقول الإمام وإن افتى المشايخ بخلافه لأنهم إنما افتوا بخلافه لفقد الشرط في حقهم وهو الوقوف على دليله واما نحن فلنا الافتاء وإن لم نقف على دليله وقد وقع للمحقق ابن الهمام في مواضع الرد على المشايخ في الافتاء بقولهما بأنه لا يعدل عن قوله إلا لضعف دليله لكن هو أهل للنظر في الدليل ومن ليس باهل للنظر فيه فعليه الافتاء بقول
الإمام والمراد بالاهلية هنا أن يكون عارفا مميزا بين الاقاويل له قدرة على ترجيح بعضها على بعض ولا يصير اهلا للفتوى ما لم يصر صوابه أكثر من خطأه لأن الصواب متى كثر فقد غلب ولا عبرة في المغلوب بمقابلة الغالب فإن امور الشرع مبنية على الاعم الاغلب كذا في الولوالجية. وفى مناقب الكردري قال ابن المبارك وقد سئل متى يحل للرجل أن يفتى ويلى القضاء قال إذا كان بصيرا بالحديث والرأى عارفا بقول أبي حنيفة حافظا له وهذا محمول على إحدى الروايتين عن أصحابنا وقبل استقرار المذهب اما بعد التقرر فلا حاجة إليه لانه يمكنه التقليد انتهى هذا آخر كلام البحر (أقول) ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من عدم الانتظام ولهذا اعترضه محشيه الخير الرملى بان قوله يجب علينا الافتاء بقول الإمام وإن لم نعلم من اين قال مضاد لقول الإمام لا يحل لاحد أن يفتى بقولنا حتى يعلم من اين قلنا اذ هو صريح في عدم جواز الافتاء اغير أهل الاجتهاد فكيف يستدل به على وجوبه فنقول ما يصدر من غير الاهل ليس بافتاء حقيقة وإنما هو حكاية عن المجتهد أنه قائل بكذا وباعتبار هذا الملحظ تجوز حكاية قول غير الإمام فكيف يجب علينا الافتاء بقول الإمام وإن افتى المشايخ بخلافه ونحن إنما نحكي فتواهم لا غير فليتأمل انتهى (وتوضيحه) ان المشايخ اطلعوا على دليل الإمام وعرفوا من اين قال واطلعوا على دليل أصحابه فيرجحون دليل أصحابه على دليله فيفتون به ولا يظن بهم انهم عدلوا عن قوله لجهلهم بدليله فانا نراهم قد شحنوا كتبهم بنصب الادلة ثم يقولون الفتوى على قول أبي يوسف مثلا وحيث لم نكن نحن اهلا للنظر في الدليل ولم نصل إلى رتبتهم في حصول شرائط التفريع والتأصيل فعلينا حكاية ما يقولونه لأنهم هم اتباع المذهب الذين نصبوا أنفسهم لتقريره وتحريره باجتهادهم (وانظر) إلى ما قدمناه من قول العلامة قاسم أن المجتهدين لم يفقدوا حتى نظروا في المختلف ورجحوا وصححوا إلى أن قال فعلينا اتباع الراجح والعمل به كما لو افتوا في حياتهم (وفى) فتاوى العلامة ابن الشلبي ليس للقاضى ولا للمفتى العدول عن قول الإمام إلا إذا صرح أحد من المشايخ بان الفتوى على قول غيره فليس للقاضى أن يحكم بقول غير أبي حنيفة في مسئلة لم يرجح فيها قول غيره ورجحوا فيها دليل أبي حنيفة على دليله فإن حكم فيها فحكمه غير ماض ليس له غير الانتقاض انتهى (ثم اعلم) أن قول الإمام لا يحل لاحد أن يفتى بقولنا الخ يحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون المراد به ما هو المتبادر منه وهو انه إذا ثبت عنده مذهب امامه في حكم كوجوب الوتر مثلا لا يحل له أن يفتى بذلك حتى يعلم دليل امامه ولاشك أنه على هذا خاص
بالمفتى المجتهد دون المقلد المحض فإن التقليد هو الاخذ بقول الغير بغير معرفة دليله قالوا فخرج اخذه مع معرفة دليله فأنه ليس بتقليد لانه اخذ من الدليل لا من المجتهد بل قيل أن اخذه مع معرفة دليله نتيجة الاجتهاد لأن معرفة الدليل إنما تكون للمجتهد لتوقفها على معرفة سلامته من المعارض وهى متوقفة على استقراء الادلة كلها ولا يقدر على ذلك إلا المجتهد اما مجرد معرفة أن المجتهد الفلاني اخذ الحكم الفلاني من الدليل الفلاني فلا فائدة فيها فلا بد ان يكون المراد من وجوب معرفة الدليل على المفتى أن يعرف حاله حتى يصح له تقليده في ذلك مع الجزم به وافتاء غيره به وهذا لا يتأتى إلا في المفتى المجتهد في المذهب وهو المفتى حقيقة اما غيره فهو ناقل (لكن) كون المراد هذا بعيد لأن هذا المفتى حيث لم يكن وصل إلى رتبة الاجتهاد المطلق يلزمه التقليد لمن وصل إليها ولا يلزمه معرفة دليل امامه الأعلى قول قال في التحرير (مسئلة) غير المجتهد المطلق يلزمه التقليد وإن كان مجتهدا في بعض مسائل الفقه أو بعض العلوم كالفرائض على القول بتجزى الاجتهاد وهو الحق فيقلد غيره فيما لا يقدر عليه وقيل في العالم إنما يلزمه التقليد بشرط تبين صحة مستند المجتهد والا لم يجز له تقليده انتهى والاول قول الجمهور والثانى قول البعض المعتزلة كما ذكره شارحه فقوله يلزمه التقليد ما قدمناه من تعريف التقليد يدل على أن معرفة الدليل للمجتهد المطلق فقط وانه لا يلزم غيره ولو كان ذلك الغير مجتهدا في المذهب لكن نقل الشارح عن الزركشي من الشافعية ان إطلاق الحاقه بالعامى الصرف فيه نظر لاسيما في اتباع المذاهب المتبحرين فإنهم لم ينصبوا أنفسهم نصبة المقلدين ولا شك في الحاقهم بالمجتهدين اذ لا يقلد مجتهد مجتهدا ولا يمكن أن يكون واسطة بينهما لأنَّه ليس لنا سوى حالتين قال ابن المنير والمختار انهم مجتهدون ملتزمون أن لا يحدثوا مذهبا اما كونهم مجتهدين فلان الاوصاف قائمة بهم واما كونهم ملتزمين أن لا يحدثوا مذهبا فلان احداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين فمتعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الاساليب نعم لا يمتنع عليهم تقليد الهام في قاعدة فإذا ظهر له صحة مذهب غير امامه في واقعة لم يجز له أن يقلد امامه لكن وقوع ذلك مستبعد لكمال نظر من قبله انتهى "*"(الثانى من الاحتمالين أن يكون المراد الافتاء بقول الإمام تخريجا واستنباطا من اصوله (قال) في التحرير وشرحه (مسئلة) افتاء غير المجتهد
"*" وما استبعده غير بعيد كما افاده في شرح التحرير فإنه واقع في مثل أصحاب الإمام الاعظم فإنهم خالفوه في بعض الاصول وفى فروع كثيرة جدا اهـ منه.
بمذهب مجتهد تخريجا على اصوله لا نقل عينه ان كان مطلعا على مبانيه أي مأخذا حكام المجتهد اهلا للنظر فيها قادرا على التفريع على قواعده متمكنا من الفرق والجمع والمناظرة في ذلك بان يكون له ملكة الاقتدار على استنباط احكام الفروع المتجددة التي لا نقل فيها عن صاحب المذهب من الاصول التي مهدها صاحب المذهب وهذا المسمى بالمجتهد في المذهب جاز "*" والا يكن كذلك لا يجوز. وفى شرح البديع للهندى وهو المختار عند كثير من المحققين من أصحابنا وغيرهم فإنه نقل عن أبي يوسف وزفر وغيرهما من أئمتنا انهم قالوا لا يحل لأخد أن يفتى بقولنا ما لم يعلم من اين قلنا وعبارة بعضهم من حفظ الاقاويل ولم يعرف الحجج فلا يحل له أن يفتى فيما اختلفوا فيه وقيل جاز بشرط عدم مجتهد واستقر به العلامة وقيل يجوز مطلقا أي سواء كان مطلعا على المأخذ أم لا عدم المجتهد أم لا وهو مختار صاحب البديع وكثير من العلماء لانه ناقل فلا فرق فيه بين العالم وغيره واجيب بأنه ليس الخلاف في النقل بل في التخريج لأن النقل لعين مذهب المجتهد يقبل بشرائط الراوى من العدالة وغيرها اتفاقا انتهى ملخصا (أقول) ويظهر مما ذكره الهندى ان هذا غير خاص باقوال الإمام بل أقوال أصحابه كذلك وإن المراد بالمجتهد في المذهب هم أهل الطبقة الثالثة من الطبقات السبع المارة وإن الطبقة الثانية وهم أصحاب الإمام أهل اجتهاد مطلق إلا انهم قلدوه في اغلب اصوله وقواعده بناء على أن المجتهد له أن يقلد آخر وفيه عن أبي حنيفة روايتان ويؤيد الجواز مسئلة أبي يوسف لما صلى الجمعة فاخبروه بوجود فأرة في حوض الحمام فقال نقلد أهل المدينة وعن محمد يقلد أعلم منه أو على "*" أنه وافق اجتهادهم فيها اجتهاده وحيث نقل مثل هذا عن بعض الأئمة الشافعية كالقفال والشيخ أبي على والقاضى حسين أنهم كانوا يقولون لسنا مقلدين للشافعي بل وافق رأينا رأيه يقال مثله في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف ومحمد بالاولى وقد خالفوه في كثير من الفروع ومع هذا لم تخرج أقوالهم عن المذهب كما مر تقريره "*"(فقد) تحرر مما ذكرناه أن قول الإمام وأصحابه لا يحل لاحد
"*" قوله جاز جواب الشرط في قوله ان كان مطلعا الخ منه
"*" قوله أو على معطوف على قوله على أن المجتهد
"*" ثم رأيت بخط من اثق به ما نصه قال ابن الملقن في طبقات الشافعية فائدة قال ابن
برهان في الأوسط اختلف أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة في المزنى وابن سريج وأبي يوسف ومحمد بن الحسن فقيل مجتهدون مطلقا وقيل في المذهبين وقال امام الحرمين أرى كل اختيار المزنى تخريجا فإنه لا يخالف أصول الشافعي لا كأبي يوسف ومحمد
أن يفتى بقولنا حتى يعلم من اين قلنا محمول على فتوى المجتهد في المذهب بطريق الاستنباط والتخريج كما علمت من كلام التحرير وشرح البديع والظاهر اشتراك أهل الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة في ذلك وإن من عداهم يكتفى بالنقل وإن علينا اتباع ما نقلوه لنا عنهم من استنباطاتهم الغير المنصوصة عن المتقدمين ومن ترجيحاتهم ولو كانت لغير قول الإمام كما قررناه في صدر هذا البحث لأنهم لم يرجحوا ما رجحوه جزافا وإنما رجحوا بعد اطلاعهم على المأخذ كما شهدت مصنفاتهم بذلك خلافا لما قاله في البحر (تنبيه) كلام البحر صريح في أن المحقق ابن الهمام من أهل الترجيح حيث قال عنه أنه أهل للنظر في الدليل وح فلنا اتباعه فيما يحققه ويرجحه من الروايات أو الأقوال ما لم يخرج عن المذهب فإن له اختيارات خالف فيها المذهب فلا يتابع عليها كما قاله تلميذه العلامة قاسم وكيف لا يكون اهلا لذلك وقد قال فيه بعض اقرانه وهو البرهان الانباسى لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره اهـ (قلت) بل قد صرح العلامة المحقق شيخ الإسلام على المقدسي في شرحه على نظم الكنز في باب نكاح الرقيق بان ابن الهمام بلغ رتبة الاجتهاد* وكذلك نفس العلامة قاسم من أهل تلك الكتيبة فإنه قال في أول رسالته المسماة رفع الاشتباه عن مسئلة المياه لما منع علماؤنا رضى الله تعالى عنهم من كان له اهلية النظر من محض تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العالم العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال لا يحل لاحد أن يفتى بقولنا ما لم يعرف من اين قلناه تتبعت (1) مآخذهم وحصلت منها بحمد الله تعالى على الكثير ولم اقنع بتقليد ما في صحف كثير من المصنفين الخ. وقال في رسالة [(1) جواب لما] أخرى وانى ولله الحمد لأقول كما قال الطحاوى لابن حربوية لا يقلد الا عصبي او غبي انتهى ويؤخذ من قول صاحب البحر يجب علينا الافتاء بقول الإمام الخ أنه نفسه ليس من أهل النظر في الدليل فإذا صحح قولا مخالفا لتصحيح غيره لا يعتبر فضلا عن الاستنباط والتخريج على القواعد خلافا لما ذكره البيرى عند قول صاحب البحر في كتابه الأشباه النوع الأول معرفة القواعد التي يرد إليها وفرعوا الأحكام عليها وهى أصول الفقه في الحقيقة وبها يرتقى الفقيه إلى درجة الاجتهاد ولو في الفتوى وأكثر فروعه ظفرت به الخ فقال البيرى بعد أن عرف المجتهد في المذهب بما قدمناه عند وفى هذا إشارة إلى أن المؤلف قد بلغ هذه المرتبة في الفتوى
=فإنهما يخالفان صاحبتهما قل الرافعى في باب الوضوء تفردات المزنى لا تعد من المذهب إذا لم يخرجها على أصل الشافعي انتهى منه.
وزيادة وهو في الحقيقة قد من الله تعالى عليه بالاطلاع على خبايا الزوايا وكان من جملة الحفاظ المطلعين انتهى اذ لا يخفى ان ظفره بأكثر فروع هذا النوع لا يلزم منه أن يكون له اهلية النظر في الادلة التى دل كلامه في البحر على انها لم تحصل له وعلى انها شرط للاجتهاد في المذهب فتأمل
ثم إذا لم توجد الروايه
…
عن علمائنا ذوى الدرايه
واختلف الذين قد تأخروا
…
يرجح الذي عليه الأكثر
مثل الطحاوى وابى حفص الكبير
…
وابوى جعفر والليث الشهير
وحيث لم توجد لهؤلاء
…
مقالة واحتيج للافتاء
فلينظر المفتى بجد واجتهاد
…
وليخش بطش ربه يوم المعاد
فليس يجسر على الأحكام
…
سوى شقى خاسر المرام
قال في آخر الحاوى القدسى ومتى لم يوجد في المسئلة عن أبي حنيفة رواية يؤخذ بظاهر قول أبي يوسف ثم بظاهر قول محمد ثم بظاهر قول زفر والحسن وغيرهم الأكبر فالاكبر هكذا إلى آخر من كان من كبار الاصحاب وإذا لم يوجد في الحادثة عن واحد منهم جواب ظاهر وتكلم فيه المشايخ المتأخرون قولا واحدا يؤخذ به فإن اختلفوا يؤخذ بقول الأكثرين مما اعتمد عليه الكبار المعروفون كأبي حفص وأبي جعفر وأبي الليث والطحاوي وغيرهم فيعتمد عليه وإن لم يوجد منهم جواب البتة نصا ينظر المفتى فيها نظر تأمل وتدبر واجتهاد ليجد فيها ما يقرب إلى الخروج عن العهدة ولا يتكلم فيها جزافا لمنصبه وحرمته وليخش الله تعالى ويراقبه فإنه أمر عظيم لا يتجاسر عليه الأكل جاهل شقى انتهى (وفى) الخانية وإن كانت المسئلة في غير ظاهر الرواية ان كانت توافق أصول أصحابنا يعمل بها فإن لم يجد لها رواية عن أصحابنا واتفق فيها المتأخرون على شيء يعمل به وإن اختلفوا يجتهد ويفتى بما هو صواب عنده وإن كان المفتى مقلدا غير مجتهد يأخذ بقول من هو افقه الناس عنده ويضيف الجواب إليه فإن كان افقه الناس عنده في مصر آخر يرجع إليه بالكتاب ويكتب بالجواب ولا يجازف خوفا من الافتراء على الله تعالى بتحريم الحلال وضده انتهى (قلت) وقوله وإن كان المفتى مقلدا غير مجتهد الخ يفيد أن المقلد المحض ليس له أن يفتى فيما لم يجد فيه نصا عن أحد ويؤيده ما في البحر عن التاترخانية وإن اختلف المتأخرون اخذ بقول واحد فلو لم يجد من المتأخرين يجتهد برأيه إذا كان يعرف وجوه الفقه ويشاور أهله انتهى فقوله إذا كان يعرف الخ دليل على أن من لم يعرف ذلك بل قرأ كتابا أو أكثر وفهمه
وصار له اهلية المراجعة والوقوف على موضع الحادثة من كتاب مشهور معتمد إذا لم يجد تلك الحادثة في كتاب ليس له أن يفتى فيها برأيه بل عليه أن يقول لا ادرى كما قال من هو أجل منه قدرا من مجتهدى الصحابة ومن بعدهم بل من ايد بالوحى صلى الله تعالى عليه وسلم والغالب ان عدم وجدانه النص لقلة اطلاعه أو عدم معرفته بموضع المسئلة المذكورة فيه اذ قل ما تقع حادثة إلا ولها ذكر في كتب المذهب اما بعينها أو بذكر قاعدة كلية تشملها ولا يكتفى بوجود نظيرها مما يقاربها فإنه لا يأمن أن يكون بين حادثته وما وجده فرق لا يصل إليه فهمه فكم من مسئلة فرقوا بينها وبين نظيرتها حتى ألفوا كتب الفروق لذلك ولو وكل الامر إلى افهامنا لم ندرك الفرق بينهما بل قال العلامة ابن نجم في الفوائد الزينية لا يحل الافتاء من القواعد والضوابط وإنما على المفتى حكاية النقل الصريح كما صرحوا به انتهى وقال أيضًا أن المقرر في الأربعة المذاهب أن قواعد الفقه اكثرية لا كلية انتهي نقله البيرى فعلى من لم يجد نقلا صريحا أن يتوقف في الجواب أو يسأل من هو أعلم منه ولو في بلدة أخرى كما يعلم مما نقلناه عن الخانية وفى الظهيرية وإن لم يكن من أهل الاجتهاد لا يحل له أن يفتى إلا بطريق الحكاية فيحكى ما يحفظ من أقوال الفقهاء انتهى نعم قد توجد حوادث عرفية غير مخالفة للنصوص الشرعية فيفتى المفتى بها كما سنذكره آخر المنظومة
وهاهنا ضوابط محوره
…
غدت لدى أهل النهى مقرره
في كل أبواب العبادات رجح
…
قول الإمام مطلقا ما لم تصح
عنه رواية بها الغير اخذ
…
مثل تيمم لمن تمرا نبذ
وكل فرع بالقضا تعلقا
…
قول أبي يوسف فيه ينتقى
وفى مسائل ذوى الارحام قد
…
افتوا بما يقوله محمد
ورجحوا استحسانهم على القياس
…
إلا مسائل وما فيها التباس
وظاهر المروى ليس يعدل
…
عنه إلى خلافه اذ ينقل
لا ينبغى العدول عن درايه
…
إذا اتى بوفقها روايه
وكل قول جاء ينفى الكفرا
…
عن مسلم ولو ضعيفا أحرى
وكل ما رجع عنه المجتهد
…
صار كمنسوخ فغيره اعتمد
وكل قول في المتون اثبتا
…
فذاك ترجيح له ضمنا اتى
فرجحت على الشروح والشروح
…
على الفتاوى القدم من ذات رجوح
ما لم يكن سواء لفظا صححا
…
فالارجح الذى به قد صرحا
جمعت في هذه الابيات قواعد ذكروها مفرقة في الكتب وجعلوها علامة على المرجح من الأقوال (الأولى) ما فى شرح المنية للبرهان إبراهيم الحلبي من فصل
التميم حيث قال فلله در الإمام الاعظم ما ادق نظره وما أشد فكره ولأمر ما جعل العلماء الفتوى على قوله في العبادات مطلقا وهو الواقع بالاستقراء ما لم يكن عنه رواية كقول المخالف كما في طهارة الماء المستعمل والتيمم فقط عند عدم غير نبيذ التمر (الثانية) ما في البحر قبيل فصل الحبس قال وفى القنية من باب المفتى الفتوى على قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لزيادة تجربته وكذا في البزازية من القضاء انتهى أي لحصول زيادة العلم له بتجربته ولهذا رجع أبو حنيفة عن القول بان الصدقة أفضل من حج التطوع لما حج وعرف مشقته زاد في شرح البيرى على الاشباه أن الفتوى على قول أبي يوسف أيضًا في الشهادات قلت لكن هي من توابع القضاء (و) في البحر من كتاب الدعوى لو سكت المدعى عليه ولم يجب ينزل منكرا عندهما اما عند أبي يوسف فيحبس إلى أن يجيب كما قال الإمام السرخسى والفتوى على قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء كما في القنية والبزازية فلذا افتيت بأنه يحبس إلى أن يجيب (الثالثة) ما في متن الملتقى وغيره في مسئلة القسمة على ذوى الارحام وبقول محمد يفتى قال في سكب الانهراى في جميع توريث ذوى الارحام وهو اشهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة وبه يفتى كذا قاله الشيخ سراج الدين في شرح فرائضه وقال في الكافى وقول محمد اشهر الروايتين عن أبي حنيفة في جميع ذوى الارحام وعليه الفتوى (الرابعة) ما في عامة الكتب من أنه إذا كان في مسئلة قياس واستحسان ترجح الاستحسان على القياس إلا في مسائل وهى إحدى عشرة مسئلة على ما في اجناس الناطفى وذكرها العلامة ابن نجيم في شرحه على المنار ثم ذكر أن نجم الدين النسفي اوصلها إلى اثنتين وعشرين وذكر قبله عن التلويح أن الصحيح ان معنى الرجحان هنا تعين العمل بالراجح وترك العمل بالمرجوح وظاهر كلام فخر الإسلام أنه الاولوية حتى يجوز العمل بالمرجوح (الخامسة) ما في قضاء البحر من أن ما خرج عن ظاهر الرواية فهو مرجوع عنه والمرجوع عنه لم يبق قولا للمجتهد كما ذكروه انتهى وقدمنا عن انفع الوسائل أن القاضى المقلد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر المذهب لا بالرواية الشاذة إلا أن ينصوا على أن الفتوى عليها انتهى وفي قضاء الفوائت من البحر ان المسئلة إذا لم تذكر في ظاهر الرواية وثبتت في رواية أخرى تعين المصير إليها انتهى (السادسة) ما في شرح المنية في بحث تعديل الاركان بعد ما ذكر اختلاف الرواية عن الإمام في الطمانينة هل هي سنة أو واجبة وكذا القومة والجلسة قال وانت علمت أن مقتضى الدليل الوجوب كما قاله الشيخ كمال الدين ولا ينبغي أن يعدل
عن الدراية إذا وافقتها رواية انتهى والدراية بالدال المهملة تستعمل بمعنى الدليل كما في المستصفى ويؤيده ما في آخر الحاوى القدسى إذا اختلفت الروايات عن أبي حنيفة في مسئلة فالاولى بالاخذ اقواها حجة (السابعة) ما في البحر من باب المرتد نقلا عن الفتاوى الصغرى الكفر شيء عظيم فلا اجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر انتهى ثم قال والذى تحرر انه لا يفتى بكفر مسلم امكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة (الثامنة) ما في البحر مما قدمناه قريبا من أن المرجوع عنه لم يبق مذهبا للمجتهد وح فيجب طلب القول الذي رجع إليه والعمل به لأن الأول صار بمنزلة الحكم المنسوخ وفى البحر أيضًا عن التوشيح أن ما رجع عنه المجتهد لا يجوز الاخذ به انتهى (و) ذكر في شرح التحرير أن علم المتأخر فهو مذهبه ويكون الأول منسوخا والا حكى عنه القولان من غير أن يحكم على أحدهما بالرجوع (التاسعة) ما ذكره العلامة قاسم في تصحيحه أن ما في المتون مصحح تصحيحا التزاميا والتصحيح الصريح مقدم على التصحيح الالتزامي قلت حاصله أن أصحاب المتون التزموا وضع القول الصحيح فيكون ما في غيرها مقابل الصحيح ما لم يصرح بتصحيحه فيقدم عليها لانه تصحيح صريح فيقدم على التصحيح الالتزامى وفى شهادات الخيرية في جواب سؤال المذهب الصحيح المفتى به الذي مشت عليه أصحاب المتون الموضوعة لنقل الصحيح من المذهب الذي هو ظاهر الرواية أن شهادة الاعمى لا تصح ثم قال وحيث علم أن القول هو الذي تواردت عليه المتون فهو المعتمد المعمول به اذ صرحوا بأنه إذا تعارض ما في المتون والفتاوى فالمعتمد ما في المتون وكذا يقدم ما في الشروح على ما في الفتاوى انتهى وفي فصل الحبس من البحر والعمل على ما في المتون لانه إذا تعارض ما في المتون والفتاوى فالمعتمد ما في المتون كما في انفع الوسائل وكذا يقدم ما في الشروح على ما في الفتاوى انتهى أي لما صرح به في انفع الوسائل أيضًا في مسئلة قديمة الوقف حيث قال لا يفتى بنقول الفتاوى بل نقول الفتاوى إنما يستأنس بها إذا لم يوجد ما يعارضها من كتب الاصول ونقل المذهب اما مع وجود غيرها لا يلتفت إليها خصوصا إذا لم يكن نص فيها على الفتوى اهـ (و) رأيت في بعض كتب المتأخرين نقلا عن ايضاح الاستدلال على ابطال الاستبدال لقاضي القضاة شمس الدين الحريري أحد شراح الهداية ان صدر الدين سليمان قال أن هذه الفتاوى هي اختيارات المشايخ فلا تعارض كتب المذهب قل وكذا كان يقول غيره من مشايخنا وبه اقول انتهى (ثم) لا يخفى أن المراد بالمتون المتون المعتبرة كالبداية ومختصر
القدورى والمختار والنقاية والوقاية والكنز والملتقى فإنها الموضوعة لنقل المذهب مما هو ظاهر الرواية بخلاف متن الغرر لمنلا خسرو ومتن التنوير للتمرتاشي الغزى فإن فيهما كثيرا من مسائل الفتاوى
وسابق الأقوال في الخانيه
…
وملتقى الابحر ذو مزيه
وفى سواهما اعتمد ما اخروا
…
دليله لأنَّه المحرر
كما هو العادة في الهدايه
…
ونحوها لراجح الدرايه
كذا إذا ما واحدا قد عللوا
…
له وتعليل سواه اهملوا
أي ان أول الأقوال الواقعة في فتاوى الإمام قاضى خان له مزية على غيره في الرجحان لانه قال في أول الفتاوى وفيما كثرت فيه الاقاويل من المتأخرين اختصرت على قول أو قولين وقدمت ما هو الاظهر وافتتحت بما هو الاشهر اجابة للطالبين وتيسيرا على الراغبين انتهى وكذا صاحب ملتقى الابحر التزم تقديم القول المعتمد وما عداهما من الكتب التي تذكر فيها الأقوال بادلتها كالهداية وشروحها وشروح الكنز وكما في النسفى والبدائع وغيرها من الكتب المبسوطة فقد جرت العادة فيها عند حكاية الأقوال انهم يؤخرون قول الإمام ثم يذكرون دليل كل قول ثم يذكرون دليل الإمام متضمنا للجواب عما استدل به غيره وهذا ترجيح له إلا أن ينصوا على ترجيح غيره (قال) شيخ الإسلام العلامة ابن الشلبي في فتاواه الأصل أن العمل على قول أبي حنيفة ولذا ترجح المشايخ دليله في الاغلب على دليل من خالفه من أصحابه ويجيبون عما استدل به مخالفه وهذا إمارة العمل بقوله وإن لم يصرحوا بالفتوى عليه اذ الترجيح تصريح التصحيح انتهى وفى آخر المستصفى للإمام النسفى إذا ذكر في المسئلة ثلاثة أقوال فالراجح هو الأول أو الأخير لا الوسط انتهى (قلت) وينبغى تقيده بما إذا لم تعلم عادة صاحب ذلك الكتاب ولم يذكر الادلة اما إذا علمت كما مر عن الخانية والملتقى فتتبع واما إذا ذكرت الادلة فالمرجح الأخير كما قلنا (وكذا) لو ذكروا قولين مثلا وعللوا لأحدهما كان ترجيحا له على غير المعلل كما افاده الخير الرملي في كتاب الغصب من فتاواه الخيرية ونظيره ما في التحرير وشرحه في فصل الترجيح في المتعارضين أن الحكم الذى تعرض فيه للعلة يترجح على الحكم الذي لم يتعرض فيه لها لأن ذكر علته يدل على الاهتمام به والحث عليه انتهى
وحيثما وجدت قولين وقد
…
صحح واحد فذاك المعتمد
بنحو ذا الفتوى عليه الاشبه
…
والاظهر المختار ذا والاوجه
أو الصحيح والاصح آكد
…
منه وقيل عكسه المؤكد
كذا به يفتى عليه الفتوى
…
وذان من جميع تلك اقوى
قال في آخر الفتاوى الخيرية وفى أول المضمرات اما العلامات للافتاء فقوله وعليه الفتوى وبه يفتى وبه نأخذ وعليه الاعتماد وعليه عمل اليوم وعليه عمل الأمة وهو الصحيح وهو الاصح وهو الاظهر وهو المختار في زماننا وفتوى مشايخنا وهو الاشبه وهو الاوجه وغيرها من الالفاظ المذكورة في متن هذا الكتاب في محلها في حاشية البزدوى انتهى وبعض هذه الالفاظ آكد من بعض فلفظ الفتوى آكد من لفظ الصحيح والاصح والاشبه وغيرها ولفظ به يفتى آكد من لفظ الفتوى عليه والاصح آكد من الصحيح والاحوط آكد من الاحتياط انتهى (لكن) في شرح المنية في بحث مس المصحف والذي اخذناه من المشايخ أنه إذا تعارض امامان معتبران في التصحيح فقال أحدهما الصحيح كذا وقال الآخر الاصح كذا فالأخذ بقول من قال الصحيح أولى من الاخذ بقول من قال الاصح لأن الصحيح مقابله الفاسد والاصح مقابله الصحيح فقد وافق من قال الاصح قائل الصحيح على أنه صحيح واما من قال الصحيح فعنده ذلك الحكم الآخر فاسد فالاخذ بما اتفاقا على أنه صحيح أولى من الاخذ بما هو عند أحدهما فاسد انتهى (وذكر) العلامة ابن عبد الرزاق في شرحه على الدر المختار أن المشهور عند الجمهور أن الاصح آكد من الصحيح (وفى) شرح البيرى قال في الطراز المذهب ناقلا عن حاشية البزدوى قوله هو الصحيح يقتضى أن يكون غيره غير صحيح ولفظ الاصح يقتضى أن يكون غيره ما أقول ينبغي أن يقيد ذلك بالغالب لانا وجدنا مقابل الاصح الرواية الشاذة كما في شرح المجمع انتهى (وفى) الدر المختار بعد نقله حاصل ما مر ثم رأيت في رسالة آداب المفتين إذا ذيلت رواية في كتاب معتمد بالاصح أو الأولى أو الارفق ونحوها فله أن يفتى بها وبمخالفتها أيضًا ايا شاء وإذا ذيلت بالصحيح أو المأخوذ به أو به يفتى أو عليه الفتوى لم يفت بمخالفها إلا إذا كان في الهداية مثلا هو الصحيح وفى الكافى بمخالفه هو الصحيح فيخير فيختار الاقوى عنده ولاليق والاصلح انتهى فليحفظ انتهى (قلت) وحاصل هذا كله أنه إذا صحح كل من الروايتين بلفظ واحد كأن ذكر في كل واحدة منهما هو الصحيح أو الاصح أو به يفتى تخير المفتى. وإذا اختلف اللفظ فإن كان أحدهما لفظ الفتوى فهو أولى لانه لا يفتى الا بما هو صحيح وليس كل صحيح يفتى به لأن الصحيح في نفسه قد لا يفتى به لكون غيره اوفق لتغير الزمان وللضرورة ونحو ذلك فما فيه لفظ
الفتوى يتضمن شيئين أحدهما الاذن بالفتوى به والآخر صحته لأن الافتاء به تصحيح له بخلاف ما فيه لفظ الصحيح أو الاصح مثلا وإن كان لفظ الفتوى في كل منهما فإن كان أحدهما يفيد الحصر مثل به يفتى أو عليه الفتوى فهو الأولى ومثله بل أولى لفظ عليه عمل الأمة لانه يفيد الاجماع وإن لم يكن لفظ الفتوى في واحد منهما فإن كان أحدهما بلفظ الاصح والآخر بلفظ الصحيح فعلى الخلاف السابق لكن هذا فيما إذا كان التصحيحان في كتابين اما لو كانا في كتاب واحد من امام واحد فلا يتاتى الخلاف في تقديم الاصح على الصحيح لأن اشعار الصحيح بان مقابله فاسد لا يتأتى فيه بعد التصريح بان مقابله أصبح إلا إذا كان في المسئلة قول ثالث يكون هو الفاسد وكذا لو ذكر تصحيحين عن امامين ثم قال أن هذا التصحيح الثاني أصبح من الأول مثلا فإنه لا شك أن مراده ترجيح ما عبر عنه بكونه أصح ويقع ذلك كثيرا في تصحيح العلامة قاسم وإن كان كل منهما بلفظ الاصح أو الصحيح فلا شبهة في أنه يتخير بينهما إذا كان الامامان المصححان في رتبة واحدة اما لو كان أحدهما أعلم فإنه يختار تصحيحه كما لو كان أحدهما في الخانية والآخر في البزازية مثلا فان تصحيح قاضي خان اقوى فقد قال العلامة قاسم أن قاضي خان من احق من يعتمد على تصحيحه وكذا يتخير إذا صرح بتصحيح إحداهما فقط بلفظ الاصح أو الاحوط أو الأولى أو الارفق وسكت عن تصحيح الأخرى فإن هذا اللفظ يفيد صحة الأخرى لكن الأولى الاخذ بما صرح بأنها الاصح لزيادة صحتها وكذا لو صرح في إحداهما بالاصح وفى الأخرى بالصحيح فإن الأولى الاخذ بالاصح
وإن تجد تصحيح قولين ورد
…
فاختر لما شئت فكل معتمد
إلا إذا كانا صحيحا واصح
…
او قيل ذا يفتي به فقدر حج
أو كان في المتون أو قول الإمام
…
أو ظاهر المروى او جلّ العظام
قال به أو كان الاستحسانا
…
او زاد للاوقاف نفعا بانا
أو كان ذا اوفق للزمان
…
او كان ذا أوضح في البرهان
هذا إذا تعارض التصحيح
…
او لم يكن أصلا به تصريح
فتأخذ الذى له مرجح .. بما علمته فهذا الاوضح
لما ذكرت علامات التصحيح لقول من الأقوال وإن بعض الفاظ التصحيح آكد من بعض وهذا إنما تظهر ثمرته عند التعارض بان كان التصريح لقولين فصلت ذلك تفصيلا حسنا لم اسبق إليه اخذا مما مهدته قبل هذا وذلك أن قولهم إذا كان في المسئلة قولان مصححان فالمفتى بالخيار ليس على إطلاقه بل ذاك إذا لم يكن
لأحدهما مرجح قبل التصحيح أو بعده (الأول) من المرجحات ما إذا كان تصحيح أحدهما بلفظ الصحيح والآخر بلفظ الاصح وتقدم الكلام فيه وان المشهور ترجيح الاصح على الصحيح (الثانى) ما إذا كان أحدهما بلفظ الفتوى والآخر بغيره كما تقدم بيانه (الثالث) ما إذا كان أحد القولين المصححين في المتون والآخر في غيرها لانه عند عدم التصحيح لأحد القولين يقدم ما في المتون لانها الموضوعة لنقل المذهب كما مر فكذا إذا تعارض التصحيحان ولذا قال في البحر في باب قضاء الفوائت فقد اختلف التصحيح والفتوى والعمل بما وافق المتون أولى (الرابع) ما إذا كان أحدهما قول الإمام الاعظم والآخر قول بعض أصحابه لانه عند عدم الترجيح لأحدهما يقدم قول الإمام كما مر بيانه فكذا بعده (الخامس) ما إذا كان أحدهما ظاهر الرواية فيقدم على الآخر قال في البحر من كتاب الرضاع الفتوى إذا اختلفت كان الترجيح لظاهر الرواية وفيه من باب المصرف إذا اختلف التصحيح وجب الفحص عن ظاهر الرواية والرجوع إليه (السادس) ما إذا كان أحد القولين المصححين قال به جل المشايخ العظام ففي شرح البيرى على الاشياء أن المقرر عن المشايخ أنه متى اختلف في المسئلة فالعبرة بما قاله الأكثر انتهى وقدمنا نحوه عن الحاوى القدسى (السابع) ما إذا كان أحدهما الاستحسان والآخر القياس لما قدمناه من أن الارجح الاستحسان إلا في مسائل (الثامن) ما إذا كان أحدهما انفع للوقف لما صرحوا به في الحاوى القدسي وغيره من أنه يفتى بما هو انفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه (التاسع) ما إذا كان أحدهما اوفق لاهل الزمان فإن ما كان أوفق لعرفهم أو اسهل عليهم فهو أولى بالاعتماد عليه ولذا افتوا بقول الامامين في مسئلة تزكية الشهود وعدم القضاء بظاهر العدالة لتغير احوال الزمان فإن الإمام كان في القرن الذى شهد له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالخيرية بخلاف عصرهما فإنه قد فشى فيه الكذب فلابد فيه من التزكية وكذا عدلوا عن قول امتنا الثلاثة في عدم جواز الاستئجار على التعليم ونحوه لتغير الزمان ووجود الضرورة إلى القول بجوازه كما مر بيانه (العاشر) ما إذا كان أحدهما دليله أوضح واظهر كما تقدم أن الترجيح بقوة الدليل فحيث وجد تصحيحان ورأى من كان له اهلية النظر في الدليل أن دليل أحدهما اقوى فالعمل به أولى هذا كله إذا تعارض التصحيح لأن كل واحد من القولين مساو للآخر في الصحة فإذا كان في أحدهما زيادة قوة من جهة أخرى يكون العمل به أولى من العمل بالآخر وكذا اذا لم يصرح بتصحيح واحد من القولين فيقدم ما فيه مرجح من هذه المرجحات ككونه في المتون
أو قول الإمام أو ظاهر الرواية الخ
واعمل بمفهوم روايات اتى
…
ما لم يخالف لصريح ثبتا
اعلم أن المفهوم قسمان * مفهوم موافقة وهو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق لمسكوت بمجرد فهم اللغة أي بلا توقف على رأى واجتهاد كدلالة (لا تقل لهما اف) على تحريم الضرب * ومفهوم مخالفة وهو دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت * وهو اقسام * مفهوم الصفة كفى السائمة زكاة * ومفهوم الشرط نحو {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ومفهوم الغاية نحو (حتى تنكح زوجا غيره) ومفهوم العدد نحو (ثمانين جلدة) ومفهوم اللقب وهو تعليق الحكم بجامد كفى الغنم زكاة * واعتبار القسم الأول من القسمين متفق عليه * واختلف في الثانى باقسامه فعند الشافعية معتبر سوى الأخير فيدل على نفى الزكاة عن العلوفة وعلى أنه لا نفقة لمبانة غير حامل وعلى الحل إذا نكحت غيره وعلى نفى الزائد على الثمانين * وعند الحنفية غير معتبر باقسامه في كلام الشارع فقط وتمام تحقيقه في كتب الاصول قال في شرح التحرير بعد قوله غير معتبر في كلام الشارع فقط فقد نقل الشيخ جلال الدين الخبازي في حاشية الهداية عن شمس الأئمة الكردرى أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفى الحكم عما عداه في خطابات الشارع فأما في متفاهم الناس وعرفهم وفى المعاملات والعقليات بدل انتهى وتداوله المتأخرون وعليه ما في خزانة الاكمل والخانية لو قال مالك على أكثر من مائة درهم كان اقرارا بالمائة ولا يشكل عليه عدم لزوم شيء في مالك على أكثر من مائة درهم ولا اقل كما لا يخفى على المتأمل انتهى (وفى) حج النهر المفهوم معتبر في الروايات اتفاقا ومنه أقوال الصحابة قال وينبغى تقييده بما يدرك بالرأى لا ما لم يدرك به انتهى. أي لأن قول الصحابي إذا كان لا يدرك بالرأى أي بالاجتهاد له حكم المرفوع فيكون من كلام الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم والمفهوم فيه غير معتبر فالمراد بالروايات ما روى في الكتب عن المجتهدين من الصحابة وغيرهم (وفى) النهر أيضًا عند سنن الوضوء مفاهيم الكتب حجة بخلاف أكثر مفاهيم النصوص انتهى وفى غاية البيان عند قوله وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها احترز بالمرأة عن الرجل وتخصيص الشيء في الروايات يدل على نفى ما عداه بالاتفاق بخلاف النصوص فإن فيها لا يدل على نفى ما عداه عندنا (وفى) غاية البيان أيضًا في باب جنايات الحج عند قوله وإذا صال السبع على المحرم فقتله لا شيء عليه لما روى أن عمر رضى الله تعالى عنه قتل سبعا واهدى كبشا وقال أنا ابتدأناه علل لاهدائه بابتداء نفسه
فعلم به أن المحرم إذا لم يبتدئ بقتله بل قتله دفعا لصولته لا يجب عليه شيء والا لم يبق للتعليل فائدة ولا يقال تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفى ما عداه عندكم فكيف تستدلون بقول عمر رضى الله تعالى عنه لانا نقول ذاك في خطابات الشرع اما في الروايات والمعقولات فيدل وتعليل عمر من باب المعقولات انتهى وحاصله أن التعليل للاحكام تارة يكون بالنص الشرعى من آية أو حديث وتارة يكون بالمعقول كما هنا والعلل العقلية ليست من كلام الشارع فمفهومها معتبر ولهذا تراهم يقولون مقتضى هذه العلة جواز كذا وحرمته فيستدلون بمفهومها (فإن قلت) قال في الأشباه من كتاب القضاء لا يجوز الاحتجاج بالمفهوم في كلام الناس في ظاهر المذهب كالادلة واما مفهوم الرواية فحجة كما في غاية البيان من الحج انتهى فهذا مخالف لما مر من أنه غير معتبر في كلام الشارع فقط (قلت) الذى عليه المتأخرون ما قدمناه (وقال) العلامة البيرى في شرحه والذى في الظهيرية الاحتجاج بالمفهوم لا يجوز وهو ظاهر المذهب عند علمائنا رحمهم الله تعالى وما ذكره محمد في السير الكبير من جواز الاحتجاج بالمفهوم فذلك خلاف ظاهر الرواية قاله في حواشى الكشف رأيت في الفوائد الظهيرية في باب ما يكره في الصلاة أن الاحتجاج بالمفهوم يجوز ذكره شمس الأئمة السرخسى في السير الكبير وقال بنى محمد مسائل السير على الاحتجاج بالمفهوم والى هذا مال الخصاف وبنى عليه مسائل الحيل * وفي المصفى التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه قلنا التخصيص في الروايات وفى متفاهم الناس وفي المعقولات يدل على نفى ما عداه اهـ من النكاح * وفى خزانة الروايات القيد في الرواية ينفي ما عداه وفي السراجية اما في متفاهم الناس من الاخبارات فإن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفى ما عداه كذا ذكره السرخسي انتهى أقول الظاهر أن العمل على ما في السير كما اختاره الخصاف في الحيل ولم نر من خالفه والله تعالى أعلم انتهى كلام البيرى * أي أن العمل على جواز الاحتجاج بالمفهوم لكن لا مطلقا بل في غير كلام الشارع كما علمت مما قررناه والا فالذى رأيته في السير الكبير جواز العمل به حتى في كلام الشارع فإنه ذكر في باب آنية المشركين وذبائحهم أن تزوج نساء النصارى من أهل الحرب لا يحرم واستدل عليه بحديث على أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم قبل منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية في أن لا يؤكل له ذبيحة ولا ينكح منهم امرأة قال شمس الأئمة السرخسي في شرحه فكأنه أي محمدا استدل بتخصيص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
المجوس بذلك على أنه لا بأس بنكاح نساء أهل الكتاب فإنه بنى هذا الكتاب على أن المفهوم حجة ويأتي بيان ذلك في موضعه ثم قال بعد أربعة أبواب في باب ما يجب من طاعة الوالى في قول محمد لو قال منادى الامير من أراد العلف فليخرج تحت لواء فلان فهذا بمنزلة النهى أي نهيهم عن أن يفارقوا صاحب اللواء بعد خروجهم معه وقد بينا أنه بنى هذا الكتاب على أن المفهوم حجة وظاهر المذهب عندنا أن المفهوم ليس بحجة مفهوم الصفة ومفهوم الشرط في ذلك سواء ولكنه اعتبر المقصود الذي يفهمه أكثر الناس في هذا الموضوع لأن الغزاة في الغالب لا يقفون على حقائق العلوم وان اميرهم بهذا اللفظ إنما نهى الناس عن الخروج إلا تحت لواء فلان فجعل النهى المعلوم بدلالة كلامه كالمنصوص عليه انتهى ومقتضاه أن ظاهر المذهب أن المفهوم ليس بحجة حتى في كلام الناس لأن ما ذكره في هذا الباب من كلام الامير فهو من كلام الناس لا من كلام الشارع وهذا موافق لما مر عن الأشباه والظاهر أن القول بكونه حجة في كلامهم قول المتأخرين كما يعلم من عبارة شرح التحرير السابقة ولعل مستندهم في ذلك ما نقلناه آنفا عن السير الكبير فإنه من كتب ظاهر الرواية الستة بل هو آخرها تصنيفا فالعمل عليه كما قدمناه في النظم (والحاصل) أن العمل الآن على اعتبار المفهوم في غير كلام الشارع لأن التنصيص على الشيء في كلامه لا يلزم منه أن يكون فائدته النفى عما عداه لأن كلامه معدن البلاغة فقد يكون مراده غير ذلك كما في قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فإن فائدة التقييد بالحجور كون ذلك هو الغالب في الربائب واما كلام الناس فهو خال عن هذه المزية فيستدل بكلامهم على المفهوم لأنَّه المتعارف بينهم وقد صرح في شرح السير الكبير بان الثابت بالعرف كالثابت بالنص وهو قريب من قول الفقهاء المعروف كالمشروط وح فما ثبت بالعرف فكأن قائله نص عليه فيعمل به وكذا يقال في مفهوم الروايات فإن العلماء جرت عادتهم في كتبهم على انهم يذكرون القيود والشروط ونحوها تنبيها على اخراج ما ليس فيه ذلك القيد ونحوه وإن حكمه مخالف لحكم المنطوق وهذا مما شاع وذاع بينهم بلا نكير ولذا لم ير من صرح بخلافه نعم ذلك اغلبى كما عزاء القهستانى في شرح النقاية إلى حدود النهاية ومن غير الغالب قول الهداية وسنن الطهارة غسل اليدين قبل ادخالهما الإناء إذا استيقظ المتوضى من نومه فإن التقييد بالاستيقاظ اتفاقى وقع تبركا بلفظ الحديث فإن السنة تشمل المستيقظ وغيره عند الأكثرين وقيل أنه احترازى لأخراج غير المستيقظ واليه مال شمس الأئمة الكردرى (وقولى) ما لم يخالف تصريح ثبتا أي أن
المفهوم حجة على ما قررناه إذا لم يخالف صريحا فإن الصريح مقدم على المفهوم كما صرح به الطرسوسي وغيره وذكره الاصوليون في ترجيح الادلة فإن القائلين باعتبار المفهوم في الادلة الشرعية إنما يعتبرونه إذا لم يأت صريح بخلافه فيقدم الصريح ويلغى المفهوم والله تعالى أعلم.
والعرف في الشرع له اعتبار
…
لذا عليه الحكم قد يدار
قال في المستصفى العرف والعادة ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول انتهى وفي شرح التحرير العادة هي الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية انتهى (وفى) الأشباه والنظائر السادسة العادة محكمة واصلها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا فقالوا تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة ثم ذكر في الأشباه اما العادة إنما تعتبر إذا اطردت أو غلبت ولذا قالوا في البيع لو باع بدراهم أو دنانير في بلد اختلف فيها النقود مع الاختلاف في المالية والرواج انصرف البيع إلى الاغلب قال في الهداية لانه هو المتعارف فينصرف المطلق إليه اهـ وفى شرح البيرى عن المبسوط الثابت بالعرف كالثابت بالنص اهـ (ثم اعلم) أن كثيرا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الازمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه من افتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة مع أن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الاكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره أن غير السلطان لا يمكنه الاكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الاكراه من غيره فقال محمد باعتباره وافتى به المتأخرون * ومن ذلك تضمين الساعى مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن الضمان على المباشر دون المتسبب ولكن افتوا بضمانه زجرا لفساد الزمان بل افتوا بقتله زمن الفترة. ومنه تضمين الاجير المشترك * وقولهم أن الوصى ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا * وافتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف * وعدم اجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الاراضى مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة * ومنعهم القاضى أن يقضى بعلمه وافتاؤهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن اوفاها المعجل لفساد الزمان، وعدم سماع قوله أنه استثنى بعد الحلف بطلاقها الابينة مع أنه خلاف ظاهر الرواية وعللوه بفساد الزمان. وعدم تصديقها
بعد الدخول بها بأنها لم تقبض ما اشترط لها تعجيله من المهر مع انها منكرة للقبض وقاعدة المذهب أن القول للمنكر لكنها في العادة لا تسلم نفسها قبل قبضه * وكذا قالوا في قوله كل حل عليّ حرام يقع به الطلاق المعرف قال مشايخ بلخ وقول محمد لا يقع إلا بالنية أجاب به على عرف ديارهم اما في عرف بلادنا فيريدون به تحريم المنكوحة فيحمل عليه نقله العلامة قاسم ونقل عن مختارات النوازل أن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف ثم قال قلت ومن الالفاظ المستعملة في هذا في مصرنا الطلاق يلزمني والحرام يلزمنى وعليّ الطلاق وعليّ الحرام اهـ * وكذا مسئلة دعوى الأب عدم تمليكه البنت الجهاز فقد بنوها على العرف مع أن القاعدة أن القول للملك في التمليك وعدمه * وكذا جعل القول للمرأة في مؤخر صداقها مع أن القول للمنكر * وكذا قولهم المختار في زماننا قولهما في المزارعة والمعاملة والوقف لمكان الضرورة والبلوى. وقول محمد بسقوط الشفعة إذا اخر طلب التملك شهرا دفعا للضرر عن المشترى * ورواية الحسن بان الحرة العاقلة البالغة لو زوجت نفسها من غير كفؤ لا يصح * وافتاؤهم بالعفو عن طين الشارع للضرورة وببيع الوفاء والاستصناع والشرب من السقا بلا بيان مقدار ما يشرب * ودخول الحمام بلا بيان مدة المكث ومقدار ما يصب من الماء * واستقراض العجين والخبز بلا وزن وغير ذلك مما بنى على العرف وقد ذكر من ذلك في الأشباه مسائل كثيرة (فهذه) كلها قد تغيرت احكامها لتغير الزمان اما للضرورة واما للعرف واما لقرائن الاحوال وكل ذلك غير خارج عن المذهب لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها ولو حدث هذا التغير في زمانه لم ينص على خلافها وهذا الذى جرأ المجتهدين في المذهب واهل النظر الصحيح من المتأخرين على مخالفة المنصوص عليه من صاحب المذهب في كتب ظاهر الرواية بناء على ما كان في زمنه كما مر تصريحهم به في مسئلة كل حل على حرام من أن محمدا بنى ما قاله على عرف زمانه وكذا ما قدمناه في الاستئجار على التعليم (فإن قلت) العرف يتغير مرة بعد مرة فلو حدث عرف آخر لم يقع في الزمان السابق فهل يسوغ للمفتى مخالفة المنصوص واتباع العرف الحادث (قلت) نعم فإن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في المسائل المارة لم يخالفوه الا لحدوث عرف بعد زمن الإمام فللمفتى اتباع عرفه الحادث في الالفاظ العرفية وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمنه وتغير عرفه إلى عرف آخر اقتداء بهم لكن بعد أن يكون المفتى ممن له رأى ونظر صحيح ومعرفة بقواعد الشرع حتى يميز بين العرف الذى يجوز بناء الأحكام عليه وبين غيره فإن المتقدمين شرطوا
في المفتى الاجتهاد وهذا مفقود في زماننا فلا اقل من أن يشترط فيه معرفة المسائل بشروطها وقيودها التي كثيرا ما يسقطونها ولا يصرحون بها اعتمادا على فهم المتفقه وكذا لا بد له من معرفة عرف زمانه واحوال أهله والتخرج في ذلك على استاذ ماهر ولذا قال في آخر منية المفتى لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لابد أن يتلمذ للفتوى حتى يهتدى إليه لأن كثيرا من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة انتهى * وفى القنية ليس للمفتى ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف انتهى ونقله منها في خزانة الروايات وهذا صريح فيما قلنا من أن المفتى لا يفتى بخلاف عرف أهل زمانه * ويقرب منه ما نقله في الأشباه عن البزازية من أن المفتى يفتى بما يقع عنده من المصلحة وكتبت في رد المحتار في باب القسامة فيما لو ادعى الولى على رجل من غير أهل المحلة وشهد اثنان منهم عليه لم تقبل عنده وقالا تقبل الخ نقل السيد الحموى عن العلامة المقدسي أنه قال توقفت عن الفتوى بقول الإمام ومنعت من اشاعته لما يترتب عليه من الضرر العام فإن من عرفه من المتمردين يتجاسر على قتل النفس في المحلات الخالية من غير اهلها معتمدا على عدم قبول شهادتهم عليه حتى قلت ينبغي الفتوى على قولهما لا سيما والاحكام تختلف باختلاف الايام انتهى وقال في فتح القدير في باب ما يوجب القضاء والكفارة من كتاب الصوم عند قول الهداية ولو اكل لحما بين اسنانه لم يفطر وإن كان كثيرا يفطر وقال زفر يفطر في الوجهين انتهى ما نصه * والتحقيق أن المفتى في الوقايع لابد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس وقد عرف أن الكفارة تفتقر إلى كمال الجناية فينظر إلى صاحب الواقعة إن كان ممن يعاف طبعه ذلك اخذ بقول أبي يوسف وإن كان ممن لا اثر لذلك عنده اخذ بقول زفر انتهى (وفى) تصحيح العلامة قاسم * فإن قلت قد يحكون اقوالا من غير ترجيح وقد يختلفون في التصحيح قلت * يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف واحوال الناس وما هو إلا رفق بالناس وما ظهر عليه المتعامل وما قوى وجهه ولا يخلو الوجود من تميز هذا حقيقة لا ظنا بنفسه ويرجع من لم يميز إلى من يميز لبرائة ذمته انتهى (فهذا) كله صريح فيما قلناه من العمل بالعرف ما لم يخالف الشريعة كالمكس والربا ونحو ذلك فلا بد للمفتى والقاضي بل والمجتهد من معرفة احوال الناس وقد قالوا ومن جهل باهل زمانه فهو جاهل وقدمنا انهم قالوا يفتى بقول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لكونه جرب الوقايع وعرف احوال الناس * وفى البحر عن مناقب الإمام محمد للكردرى كان محمد يذهب إلى الصباغين
ويسأل عن معاملتهم وما يديرونها فيما بينهم انتهى وقالوا إذا زرع صاحب الأرض ارضه ما هو أدنى مع قدرته على الأعلى وجب عليه خراج الأعلى قالوا وهذا يعلم ولا يفتى به كيلا يتجرى الظلمة على اخذ اموال الناس * قال في العناية ورد بأنه كيف يجوز الكتمان ولو اخذوا كان في موضعه لكونه واجبا * واجيب بانا لو افتينا بذلك لادعى كل ظالم في أرض ليس شأنها ذلك انها قبل هذا كانت تزرع الزعفران مثلا فيأخذ خراج ذلك وهو ظلم وعدوان انتهى * وكذا قال في فتح القدير قالوا لا يفتى بهذا لما فيه من تسلط الظلمة على اموال المسلمين اذ يدعى كل ظالم أن الأرض تصلح لزراعة الزعفران ونحوه وعلاجه صعب انتهى (فقد) ظهر لك أن جمود المفتى أو القاضى على ظاهر المنقول مع ترك العرف والقراين الواضحة والجهل بأحوال الناس يلزم منه تضييع حقوق كثيرة وظلم خلق كثيرين (ثم اعلم) أن العرف قسمان عام وخاص فالعام يثبت به الحكم العام ويصلح مخصصا للقياس والأثر بخلاف الخاص فإنه يثبت به الحكم الخاص ما لم يخالف القياس أو الاثر فإنه لا يصلح مخصصا (قال) في الذخيرة في الفصل الثامن من الاجارات في مسئلة ما لو دفع إلى حائك غزلا لينسجه بالثلث ومشايخ بلخ كنصير بن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يجيزون هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم في الثياب والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الاثر وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان لأن النص ورد في قفيز الطحان لا في الحايك إلا أن الحايك نظيره فيكون واردا فيه دلالة فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحايك وعملنا بالنص في قفير الطحان كان تخصيصا لا تركا أصلا وتخصيص النص بالتعامل جائز إلا ترى أنا جوزنا الاستصناع للتعامل والاستصناع بيع ما ليس عنده وانه منهى عنه وتجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا ترك للنص أصلا لانا عملنا بالنص في غير الاستصناع قالوا وهذا بخلاف ما لو تعامل أهل بلدة قفيز الطحان فإنه لا يجوز ولا تكون معاملتهم معتبرة لانا لو اعتبرنا معاملتهم كان تركا للنص أصلا وبالتعامل لا يجوز ترك النص أصلا وإنما يجوز تخصيصه ولكن مشايخنا لم يجوزوا هذا التخصيص لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة وتعامل أهل بلدة واحدة لا يخص الاثر لأن تعامل أهل بلدة أن اقتضى أن يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص فلا يثبت التخصيص بالشك بخلاف التعامل في الاستصناع فإنه وجد في البلاد
كلها انتهى كلام الذخيرة (والحاصل) أن العرف العام لا يعتبر إذا لزم منه ترك المنصوص وإنما يعتبر إذا لزم منه تخصيص النص والعرف الخاص لا يعتبر في الموضعين وإنما يعتبر في حق أهله فقط إذا لم يلزم منه ترك النص ولا تخصيصه وإن خالف ظاهر الرواية وذلك كما في الالفاظ المتعارفة في الإيمان والعادة الجارية في العقود من بيع واجارة ونحوها فتجرى تلك الالفاظ والعقود في كل بلدة على عادة اهلها ويراد منها ذلك المعتاد بينهم ويعاملون دون غيرهم بما يقتضيه ذلك من صحة وفساد وتحريم وتحليل وغير ذلك وإن صرح الفقهاء بان مقتضاه خلاف ما اقتضاه العرف لأن المتكلم إنما يتكلم على عرفه وعادته ويقصد ذلك بكلامه دون ما اراده الفقهاء وإنما يعامل كل أحد ما اراده والالفاظ العرفية حقائق اصطلاحية يصير بها المعنى الاصلى كالمجاز اللغوى قال في جامع الفصولين مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف انتهى * وفي فتاوى العلامة قاسم التحقيق أن لفظ الواقف والموصى والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافقت لغة العرب ولغة الشارع اولا انتهى (ثم اعلم انى لم ار من تكلم على هذه المسئلة بما يشفى العليل * وكشفها يحتاج إلى زيادة تطويل * لأن الكلام عليها يطول * لاحتياجه إلى ذكر فروع واصول * واجوبة عما عسى يقال * وتوضيح ما بنى على هذا المقال * فاقتصرت هناك على ما ذكرته * ثم اظهرت بعض ما اضمرته * في رسالة جعلتها شرحا لهذا البيت * وضمنتها بعض ما عنيت * وسميتها نشر العرف * في بناء بعض الأحكام على العرف * فمن رام الزيادة على ذلك. فليرجع إلى ما هنالك
ولا يجوز بالضعيف العمل
…
ولا به يجاب من جا يسأل
إلا لعامل له ضرورة
…
أو من له معرفة مشهوره
لكنما القاضى به لا يقضى
…
وإن قضى فحكمه لا يمضى
لاسيما قضاتنا اذ قيدوا
…
براجح المذهب حين قلدوا
وتم ما نظمته في سلك
…
والحمد لله ختام مسك
قدمنا أول الشرح عن العلامة قاسم أن الحكم والفتيا بما هو مرجوح خلاف الإجماع* وإن المرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة العدم والترجيح بغير مرجح في المتقابلات ممنوع * وإن من يكتفى بان يكون فتواه أو عمله موافقا لقول أو وجه في المسئلة ويعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح فقد جهل وخرق الإجماع انتهى * وقدمنا هناك نحوه عن فتاوى العلامة ابن حجر * لكن فيها أيضًا قال
الإمام السبكى في الوقف من فتاويه يجوز تقليد الوجه الضعيف في نفس الامر بالنسبة للعمل في حق نفسه لا في الفتوى والحكم فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز انتهى * وقال العلامة الشرنبلالى في رسالته العقد الفريد في جواز التقليد مقتضى مذهب الشافعى كما قاله السبكى منع العمل بالقول المرجوح في القضاء والافتاء دون العمل لنفسه ومذهب الحنفية المنع عن المرجوح حتى لنفسه لكون المرجوح صار منسوخا انتهى (قلت) التعليل بأنه صار منسوخا إنما يظهر فيما لو كان في المسئلة قولان رجع المجتهد عن أحدهما أو علم تأخر أحدهما عن الآخر والا فلا كما أو كان في المسئلة قول لابى يوسف وقول لمحمد فإنه لا يظهر فيه النسخ لكن مراده أنه إذا صحح أحدهما صار الآخر بمنزلة المنسوخ وهو معنى ما مر من قول العلامة قاسم أن المرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة لعدم (ثم) أن ما ذكره السبكي من جواز العمل بالمرجوح في حق نفسه عند الشافعى مخالف لما مر عن العلامة قاسم وقدمنا مثله أول الشرح عن فتاوى ابن حجر من نقل الإجماع على عدم الافتاء والعمل بما شاء من الأقوال * إلا أن يقال المراد بالعمل الحكم والقضاء وهو بعيد والاظهر في الجواب اخذا من التعبير بالتشهى أن يقال أن الإجماع على منع إطلاق التخيير أي بان يختار ويتشهى مهما أراد من الأقوال في أي وقت أراد اما لو عمل بالضعيف في بعض الاوقات لضرورة اقتضت ذلك فلا يمنع منه وعليه يحمل ما تقدم عن الشرنبلالي من أن مذهب الحنفية المنع بدليل انهم اجازوا للمسافر والضيف الذي خاف الريبة أن يأخذ بقول أبي يوسف بعدم وجوب الغسل على المحتلم الذى أمسك ذكره عند ما احس بالاحتلام إلى أن فترت شهوته ثم أرسله مع أن قوله هذا خلاف الراجح في المذهب لكن اجازوا الأخذ به للضرورة (وينبغي) أن يكون من هذا القبيل ما ذكره الإمام المرغيناني صاحب الهداية في كتابه مختارات النوازل وهو كتاب مشهور ينقل عنه شراح الهداية وغيرهم حيث قال في فصل النجاسة والدم إذا خرج من القروح قليلا قليلا غير سائل فذاك ليس بمانع وإن كثر وقيل لو كان بحال لو تركه لسال يمنع انتهى ثم اعاد المسألة في نواقض الوضوء فقال ولو خرج منه شيء قليل ومسحه بخرقة حتى لو ترك يسيل لا ينقض وقيل الخ وقد راجعت نسخة أخرى فرأيت العبارة فيها كذلك ولا يخفى أن المشهور في عامة كتب المذهب هو القول الثاني المعبر عنه بقيل واما ما اختاره من القول الأول فلم ار من سبقه إليه ولا من تابعه عليه بعد المراجعة الكثيرة فهو قول شاذ ولكن صاحب الهداية امام جليل من عظم مشايخ المذهب من طبقة أصحاب التخريج والصحيح كما مر
فيجوز للمعذور تقليده في هذا القول عند الضرورة فإن فيه توسعة عظيمة لاهل الاعذار كما بينته في رسالتي المسماة الأحكام المخصصة بكى الحمصة وقد كنت ابتليت مدة بكي الحمصة ولم أجد ما تصح به صلاتى على مذهبنا بلا مشقة إلا على هذا القول لأن الخارج منه وإن كان قليلا لكنه لو ترك يسيل وهو نجس وناقض للطهارة على القول المشهور خلافا لما قاله بعضهم كما قد بينته في الرسالة المذكورة ولا يصير به صاحب عذر لأنَّه يمكن دفع العذر بالغسل والربط بنحو جلدة مانعة للسيلان عند كل صلاة كما كنت افعله ولكن فيه مشقة وحرج عظيم فاضطررت إلى تقليد هذا القول ثم لما عافاني الله تعالى منه اعدت صلاة تلك المدة ولله تعالى الحمد. وقد ذكر صاحب البحر في الحيض في بحث ألوان الدماء اقوالا ضعيفة ثم قال وفى المعراج عن فخر الأئمة لو افتى مفت بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة طلبا للتيسير كان حسنا انتهى * وبه علم أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا وإن المفتى له الافتاء به للمضطر فما مر من أنه ليس له العمل بالضعيف ولا الافتاء به محمول على غير موضع الضرورة كما علمته من مجموع ما قررناه والله تعالى أعلم * وينبغى أن يلحق بالضرورة أيضًا ما قدمناه من أنه لا يفتي بكفر مسلم في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة فقد عدلوا عن الافتاء بالصحيح لأن الكفر شيء عظيم وفي شرح الاشباء للبيرى هل يجوز للإنسان العمل بالضعيف من الرواية في حق نفسه نعم إذا كان له رأى اما إذا كان عاميا فلم اره لكن مقتضي تقييده بذي الرأى أنه لا يجوز للعامى ذلك قال في خزانة الروايات العالم الذي يعرف معنى النصوص والاخبار وهو من أهل الدراية يجوز له أن يعمل عليها وإن كان مخالفا لمذهبه انتهى وتقييده بذى الرأى أي المجتهد في المذهب مخرج للعامى كما قال فإنه يلزمه اتباع ما صححوا لكن في غير موضع الضرورة كما علمته آنفا (فإن قلت) هذا مخالف لما قدمته سابقا من أن المفتى المجتهد ليس له العدول عما اتفق عليه أبو حنيفة وأصحابه فليس له الافتاء به وإن كان مجتهدا متقنا لأنهم عرفوا الادلة وميزوا بين ما صح وثبت وبين غيره ولا يبلغ اجتهاده اجتهادهم كما قدمناه عن الخانية وغيرها (قلت) ذاك في حق من يفتى غيره ولعل وجهه أنه لما علم أن اجتهادهم اقوى ليس له أن يبنى مسائل العامة على اجتهاده الاضعف أو لأن السائل إنما جاء يستفتيه عن مذهب الإمام الذى قلده ذلك المفتى فعليه أن يفتى بالمذهب الذى جاء المستفتى يستفتيه عنه * ولذا ذكر العلامة قاسم في فتاويه أنه سئل عن واقف شرط لنفسه التغيير والتبديل فصير الوقف لزوجته فأجاب انى لم اقف على اعتبار هذا في شيء من كتب علمائنا وليس للمفتى إلا نقل ماصح عند أهل مذهبه الذين يفتي بقولهم ولأن المستفتى
إنما يسأل عما ذهب إليه ائمة ذلك المذهب لا عما ينجلى للمفتى انتهى * وكذا نقلوا عن القفال من ائمة الشافعية أنه كان إذا جاء أحد يستفتيه عن بيع الصبرة يقول له تسألني عن مذهبي أو عن مذهب الشافعي وكذا نقلوا عنه أنه كان احيانا يقول لو اجتهدت فادى اجتهادى إلى مذهب أبي حنيفة فأقول مذهب الشافعى كذا ولكنى أقول بمذهب أبي حنيفة لانه جاء ليعلم ويستفتى عن مذهب الشافعى فلا بد أن أعرفه باني افتى بغيره انتهى * واما في حق العمل به لنفسه فالظاهر جوازه له ويدل عليه قول خزانة الروايات يجوز له أن يعمل عليها وإن كان مخالفا لمذهبه أي لأن المجتهد يلزمه اتباع ما ادى إليه اجتهاده ولذا ترى المحقق ابن الهمام اختار مسائل خارجة عن المذهب ومرة رجح في مسئلة قول الإمام مالك وقال هذا الذى ادين به وقدمنا عن التحرير أن المجتهد في بعض المسائل على القول بتجزى الاجتهاد وهو الحق يلزمه التقليد فيما لا يقدر عليه أي فيما لا يقدر على لاجتهاد فيه لا في غيره * وقولى لكنما القاضى به لا يقضى الخ أي لا يقضى بالضعيف من مذهبه وكذا بمذهب الغير (قال) العلامة قاسم وقال أبو العباس أحمد بن إدريس هل يجب على الحاكم أن لا يحكم إلا بالراجح عنده كما يجب على المفتى أن لا يفتى إلا بالراجح عنده أوله أن يحكم باحد القولين وإن لم يكن راجحا عنده جوابه أن جوابه أن الحاكم ان كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم ويفتى إلا بالراجح عنده وإن كان مقلدا جاز له أن يفتى بالمشهور في مذهبه وإن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان المحكوم به امامه الذي يقلده كما يقلده في الفتوى واما اتباع الهوى في الحكم والفتيا فحرام اجماعا واما الحكم والفتيا بما هو مرجوح فخلاف الاجماع انتهى. وذكر في البحر لو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه ناسيا لمذهبه نفذ عند أبي حنيفة وفي العامة روايتان وعندهما لا ينفذ في الوجهين واختلف الترجيح ففى الخانية أظهر الروايتين عن أبي حنيفة نفاذ قضائه وعليه الفتوى وهكذا في الفتاوى الصغرى * وفي المعراج معزيا إلى المحيط الفتوى على قولهما وهكذا في الهداية * وفي فتح القدير فقد اختلف في الفتوى والوجه في هذا الزمان أن يفتى بقولهما لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل لا لقصد جميل واما الناسى فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره هذا كله في القاضي المجتهد فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة فيكون معزولا بالنسبة إلى هذا الحكم انتهى ما في الفتح انتهى كلام البحر * ثم ذكر أنه اختلفت عبارات المشايخ في القاضي المقلد والذي حط عليه كلامه أنه إذا قضى مذهب غيره أو برواية ضعيفة أو بقول ضعيف نفذ واقوى ما تمسك به ما في البزازية عن شرح الطحاوى إذا لم يكن القاضى مجتهدا وقضى بالفتوى
ثم تبين أنه على خلاف مذهبه نفذ وليس لغيره نقضه وله أن ينقضه كذا عن محمد وقال الثانى ليس له أن ينقضه أيضًا انتهى * لكن الذي في القنية عن المحيط وغيره ان اختلاف الروايات في قاض مجتهد إذا قضى على خلاف رأيه والقاضي المقلد ماذا قضى على خلاف مذهبه لا ينفذ انتهى * وبه جزم المحقق في فتح القدير وتلميذه العلامة قاسم في تصحيحه (قال) في النهر وما في الفتح يجب أن يعول عليه في المذهب وما في البزازية محمول على رواية عنهما فصار الامر أن هذا منزل منزلة الناسى لمذهبه وقد مر عنهما في المجتهد أنه لا ينفذ فالمقلد أولى انتهى * وقال في الدر المختار قلت ولاسيما في زماننا فإن السلطان ينص في منشوره على نهيه عن القضاء بالاقوال الضعيفة فكيف بخلاف مذهبه فيكون معزولا بالنسبة لغير المعتمد من مذهبه فلا ينفذ قضاؤه فيه وينقض كما بسط في قضاء الفتح والبحر والنهر وغيرها انتهى (قلت) وقد علمت أيضًا أن القول المرجوح بمنزلة العدم مع الراجح فليس له الحكم به وإن لم ينص له السلطان على الحكم بالراجح وفي فتاوى العلامة قاسم وليس للقاضى المقلد أن يحكم بالضعيف لأنَّه ليس من أهل الترجيح فلا يعدل عن الصحيح إلا لقصد غير جميل ولو حكم لا ينفذ لأن قضائه قضاء بغير الحق لأن الحق هو الصحيح * وما نقل من أن القول الضعيف يتقوى بالقضاء المراد به قضاء المجتهد كما بين في موضعه مما لا يحتمله هذا الجواب انتهى * وما ذكره من هذا المراد صرح به شيخه المحقق في فتح القدير * وهذا آخر ما اردنا ايراده من التقرير * والتوضيح والتحرير * بعون الله تعالى العليم الخبير * اسأله سبحانه أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم * موجبا للفوز لديه يوم الموقف العظيم * وان يعفو عما جنيته واقترفته من خطأ واوزار * فإنه العزيز الغفار * والحمد لله تعالى اولا وآخرا وظاهرا وباطنا
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله تعالى على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين نجز ذلك بقلم جامعه
الفقير محمد عابدين غفر الله تعالى له ولوالديه
ومشايخه وذريته والمسلمين
آمين
وذلك في شهر ربيع الثاني سنة ثلاث واربعين ومأتين والف