الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان معنى قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله، وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بما جاء منه.
يعني: من الله تعالى.
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال: الغيب القرآن.
وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بغيب الإسلام].
وهذه الألفاظ كلها مرادة، فالغيب: ما لم يشاهده الإنسان، والمؤمن يؤمن بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب، فيؤمن بالله وبالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة مما يكون في آخر الزمان، وبما يكون في القيامة من الحشر والنشر والحساب والصراط والميزان والحوض، فكل هذا داخل في الإيمان بالغيب.
وقوله: (بغيب الإسلام) ظاهره أنه ما أخبر به الإسلام من أمور الغيب وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاء في كتاب الله من أمور الغيب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال زيد بن أسلم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بالقدر.
فكل هذه متقاربة في معنى واحد].
وكلها حق وأمر مطلوب، ولكن عادة السلف رحمهم الله أنهم يفسرون الكلام ببعض معناه، والمراد به الكل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمانه بغيب، ثم قرأ:{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5].
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد: حدثنا أبو المغيرة أنبأنا الأوزاعي حدثني أسيد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال: قلت لـ أبي جمعة: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: نعم، أحدثك حديثاً جيداً:(تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله! هل أحد خير منا أسلمنا ومعك وجاهدنا معك؟ قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني).
طريق أخرى: قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال: (قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: هات رحمك الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله! هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بالله واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً مرتين)].
إن صح هذا الحديث فإن هذه تكون فضيلة خاصة، فهم أفضل من جهة الإيمان بالغيب، وهذا مثل حديث القابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن فيه (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، فقالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم).
فيكون له أجر خمسين من جهة صبره على الدين وتحمله مع كثرة المنكرات وعدم المعين على ذلك، ولا يدل هذا على أنه أفضل من الصحابة، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام:(خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالقاعدة تقول: الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه فضيلة خاصة في هؤلاء، وفضيلة لمن آمن بالغيب، لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فالصحابة أفضل الناس، فالصحبة لها مزية، وكذلك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ الدين، والسبق إلى الإيمان، والهجرة، والجهاد، فهذه أعمال عظيمة لا يلحقهم فيها من بعدهم، ولهذا قال فإن بعض السلف قيل له: أيهما أفضل معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية من جهاده مع رسول الله خير من عمر بن عبد العزيز وعدله.
فالمقصود من هذا أن مزية الصحبة والسبق إلى الهجرة والجهاد لا يلحق الصحابة فيها أحد بعدهم، وإن كان من بعدهم قد يكون له فضيلة ومزية خاصة؛ لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه قاعدة.
وكذلك الفضائل التي تكون للأنبياء، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور).
يعني أن هذه منقبة لموسى، أي: هل لم يصعق، أم أنه صعق وأفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه مزية، لكنها لا تدل على أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل ما ورد في الحديث الصحيح: (أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية له، لكنها لا تدل على أنه أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه مزية خاصة، والمزايا العامة تكون للفاضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه.
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث].
الوجادة: هي أن يجد إنسان كتاباً فيه مرويات محدث فيرويها عنه، فهل ذلك حجة أم ليس بحجة؟ فلو قال صاحب الكتاب: يروي عني من أخذ هذا الكتاب صار هذا الفعل إجازة، لكن المراد هنا إذا وجد كتاباً فيه مرويات محدث ثم روى عنه، فهل هو حجة أو ليس بحجة؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، وهذا الحديث فيه العمل بالوجادة؛ لأنه لما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم -إن صح الحديث- عمن هم أعظم منهم إيماناً قال:(قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه).
فقوله: (يأتيهم كتاب بين لوحين) هذه هي الوجادة، يعني: يجدون القرآن والسنة ويؤمنون بهما، فهذا حجة لمن قال بالعمل بالوجادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً، وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قال: ومالهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟! قالوا: فالنبيون، قال: ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: فنحن، قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها).
قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه من حديث محمد