الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"
(1)
.
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"
(2)
عن أنس قال: قلّما خطَبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ قال.
بل ظاهر هذا الحديث أنّ كلاًّ من الخيانة والغدر بالعهد كفرٌ على حِدَته.
وأمّا قول من قال: "المقصود بالنفاق النفاق اللغوي وهو مخالفة الباطن للظاهر"
(3)
.
فيقال له: كلامُ الشارع محمولٌ على اصطلاحه، ولا يحمل على خلافه إلا بدليلٍ ولا حاجة إليه.
ف
خلاصة البحث:
أنّ من غلب عليه الكذب في الحديث، والغدرُ بالعهد، والخيانةُ بالأمانة مهما كانت= فهو منافقٌ خالصٌ. لا يقال: إنّ الحديثين مُطْلِقان للأمانة وحديث مقاتل عن الحسن ــ إن صحّ ــ مقيِّدٌ لها بالدِّين فيُحْمَل المطلق على المقيّد؛ لأننا نقول: إنّما يُحْمَل المطلق على المقيَّد إذا كان ذكرُ المقيّد تأصيلاً، كذكر الغدر بالعهد في الحديث الثاني، وأمّا إذا ذُكِر تمثيلاً كحديث مقاتل فلا؛ لأنّه إنّما استدل على أنّ خيانة الأمانة
(1)
أخرجه أحمد (12383)، وأبو يعلى (2863)، وابن حبان (194)، والبيهقي (6/ 288) وغيرهم من حديث أنسٍ رضي الله عنه. وسنده حسن.
(2)
(4045) وليس فيه هذا اللفظ، وهو في "سننه الكبرى":(6/ 288)، وفي "مسند أحمد".
(3)
انظر "إكمال المعلم": (1/ 222) للقاضي عياض.
من آيات النفاق بأنّ الله تعالى خصَّ المنافقين بتضييع الصلاة ونحوها، وهي من الأمانة، فتدبّر.
على أنّه ما مِن واحدة من الثلاث إلا وقد ورد أنّها كفرٌ؛ فأمّا الخيانة والغدر بالعهد فقد مرّ حديث البيهقي، وأمّا الكذب فقوله تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105]
(1)
، مع الحديث [الذي]
(2)
رواه مالكٌ والبيهقي في "شعب الإيمان": "أيكون المؤمن كذابًا"
(3)
. والحديث الآخر وفيه: "أيكذب المؤمن؟ " قال: "لا، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
…
} الآية"
(4)
وهو في "منتخب كنز العمال" وله طرقٌ. وحديث أحمد والبيهقي: "يطبع المؤمن على الخلال
(1)
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث رواه أبوداود [3599] قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح فلما انصرف قام قائمًا فقال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك ثلاث مرات ثم قرأ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31]. [المؤلف].
(2)
زيادة ليستقيم السياق.
(3)
مالك في "الموطأ"(2832)، والبيهقي في "الشعب"(4472) من حديث صفوان بن سليم مرسلًا.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(474) و"مكارم الأخلاق"(140)، والطبري في "تهذيب الآثار":(مسند علي ــ 224) وغيرهم من طريق يعلى بن الأشدق عن عبد الله بن جراد عن أبي الدرداء. قال الذهبي في "الميزان": عبد الله بن جراد مجهول لا يصح خبره؛ لأنه من رواية يعلى بن الأشدق الكذَّاب.
كلها إلا الخيانة والكذب"
(1)
، وقوله:"يُطْبَع المؤمن" يدلّك على ما قلناه من شرط التكرار، ومثله قوله في حديث متفق عليه
(2)
:
"وما يزال الرجل يكذبُ ويتحرَّى الكذب حتى يُكْتَب عند الله كذابًا"
(3)
.
(1)
أحمد (22170)، وابن أبي عاصم في "السنة"(101) من حديث أبي أمامة، وأخرجه أبي عاصم (102)، والبيهقي في "الشعب"(4471) وغيرهم من حديث ابن عمر. وله شواهد أخرى، وكلها لا تخلو من ضعف. انظر "السلسلة الضعيفة"(3215).
(2)
البخاري (6094)، ومسلم (2607) واللفظ له من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ..
(3)
وأمّا قولهم في إخوة يوسف إنّ أباهم ائتمنهم على يوسف فخانوه ووعدوه بحفظه وأخلفوا وحدّثوه بأنّ الذئب أكله فكذبوا.
فنقول: أمّا الخيانة فوقعت، وكذا الكذب ولكن ذلك لم يتكرر منهم فضلاً عن أن يغلب عليهم، وأمّا إخلاف الوعد فقد قررنا أنه لا يكون آيةً للنفاق إلا أن يكون غدرًا بالعهد وقد رأيت حين أخذ عليهم أبوهم الموثق كيف حافظوا عليه فارتفع الإشكال، ولله الحمدُ.
ثم إنَّ قصتهم هذه ممّا يُشكل على مذهب القائل: إنّ الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها:
فأولاً: يُنظر هل هم أنبياء أم لا؟
نقول: إنّهم أنبياء لقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136]، وقوله جل شأنه:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163] إلى غير ذلك. ثم واقعتهم مع يوسف كانت قبل النبوة لقوله فيها: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)} .
وعلى هذا فيبقى الإشكال على قول إنّ الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها. وأمّا المعصية التي ارتكبوها فالظاهر أنّها كبيرة، ولا يتخرّج هذا إلا على قول من قال: إنّهم قبل النبوة غير معصومين، وهذا قول خطرٌ، فالأولى التوقّف حتى يبيّن الله تعالى الحقَّ في ذلك.
والله وليُّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [المؤلف].
تنبيه: من قوله: "ثم إنّ قصتهم
…
" إلخ، وُجد بآخر الرسالة والظاهر أنها متعلقة بما تقدم في الحاشية من مسألة إخوة يوسف وما جرى لهم.
ثم اعلم أن نقائض هذه الخصال من شعب الإيمان كما تدلّ على ذلك آيات القرآن، كقوله تعالى في وصف المؤمنين:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وقوله:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] وقوله ــ جلّ شأنه ــ في صفة عباده: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] إلى غير ذلك.
وهذا آخر ما استرسل به القلم في هذا البحث، وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه، وجنَّبنا ما لا يحبه ويرضاه. وفقنا الله للإيمان، وجنّبنا مداحض الخذلان، وحَفِظَنا من الخسران، وأعاذنا من الشيطان، وكتب لنا النجاة من النيران، والخلود في الجنان في الرَّوح والريحان، والفضل والرضوان. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد سيّد ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان. والحمد لله رب العالمين.
والله وليُّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.