المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل وقد تبيَّن بما ذكرنا أن حبّ المال والرياسةِ/ والحرصِ عليهما - شرح حديث «ما ذئبان جائعان»

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌فصل وقد تبيَّن بما ذكرنا أن حبّ المال والرياسةِ/ والحرصِ عليهما

‌فصل

وقد تبيَّن بما ذكرنا أن حبّ المال والرياسةِ/ والحرصِ عليهما يُفسدُ دينَ المرءِ حتى لا يبقى منهُ إلا ما شاءَ الله، كما أخبرَ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وأَصلُ محبةِ المال والشَّرفِِ. من حُب الدُّنْيَا، وأصل حُبِّ الدُّنْيَا اتّباعُ الهوى.

قال وهبُ بنُ مُنبِّه: من اتّباع الهوى الرغبةُ في الدُّنْيَا، ومن الرغبةِ فيها حُبِّ المالِ والشَّرفِِ، ومِن حُبّ المالِ والشَّرفِ استحلالُ المحارمِ.

وهذا كلامّ حَسَنٌ؛ فإنه إِنَّمَا عُتِبَ عَلَى صاحبِ المالِ والشَّرفِِ الرغبةَ في الدُّنْيَا، وإنما تَحصُلُ الرغبةُ في الدُّنْيَا من اتِّباع الهَوى؛ لأنَّ الهوى دَاعٍ إِلَى الرغبةِ في الدُّنْيَا وَحُبِّ المالِ والشَّرفِِ فيها، والتقوى تمنعُ من اتِّباعِ الهوى وتردعُ عن حُبِّ الدُّنْيَا.

قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (1).

وقَد وَصفَ الله تعالى أَهلَ النارِ بالمالِ والسلطانِ في مَوَاضِعَ مِن كِتابهِ، فَقَالَ تعالى:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (2).

واعلمْ أَن النَّفسَ تُحبُّ الرِّفَعَةَ والعُلوَّ عَلَى أَبناءِ جنسِهَا، وَمن هُنا نشأَ الكِبرُ والحسدُ، ولكن العاقلَ يُنافسُ في العُلوِّ الدائم الباقي الَّذِي فيهِ رضوانُ اللَّه وقُربُهُ وجِوارُهُ، ويَرغَبُ عن العُلوِّ الفاني الزَّائلِ، الَّذِي يعقُبُهُ غَضبُ اللَّه وَسخطُه، وانحطاطُ العبدِ وسُفُولُه وبعدُهُ عَن الله وطردُهُ عنه، فهذا العُلوّ الفاني الَّذِي يُذَمًّ، وهو العتُوُّ والتكبرُ في الأرض بغيرِ الحَقِّ.

(1) النازعات: 37 - 41.

(2)

الحاقة: 25 - 29.

ص: 89

وأما العُلوُّ الأوَّلُ والحرصُ عليهِ فهو محمودٌ.

قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1).

وقال الحسن: إِذَا رَأَيتَ الرَّجلَ يُنافسكَ في الدُّنْيَا فنافِسْهُ في الآخرةِ.

وقال وُهَيبُ بنُ الوَرْدِ: إِن استطعتَ أَن لَا يسبقَكَ إِلَى الله أَحدٌ فافعلْ.

وقالَ محمدُ بنُ يوسف الأصبهاني العابدُ: لو أَنَّ رجلاً سَمِعَ برجلٍ أو عَرفَ رجلًا أطوعَ للَّه منهُ فَانصدعَ قلبُهُ لم يكن ذلكَ بِعجبٍ.

وقال رجلٌ لمالكِ بن دينارٍ: رأيتُ في المنام مناديًا يُنادي: أيها الناسُ، الرحيل، الرحيلَ، فَما رأيتُ أحدًا ارتحل إلا محمدُ بنُ واسعٍ، فصاحَ مَالكٌ وغُشِيَ عليهِ.

ففي دَرجاتِ الآخرةِ الباقيةِ يَشرُعُ التنافسُ وطلبُ العُلوِّ في مَنازِلها، والحرصُ عَلَى ذلك بالسعىِ في أسبابِهِ، وأن لا يقنع الإنسانُ منها بالدُّونِ مَع قُدرتهِ عَلى العُلوّ.

وأما العلوُّ الفاني المنُقطعُ الَّذِي يعقب صاحبَهُ غذا حَسرةً وندامةً وذِلَّةً وهَوانًا وصغارًا، فهو الَّذِي يشرعُ الزهدُ فيه والإِعراضُ عنهُ.

وللزهدِ فيه أسبابٌ عديدةٌ:

فمنها: نظرُ العبدِ إِلَى سُوءِ عاقبةِ الشَّرفِِ في الدُّنْيَا بالولايةِ والإمارةِ لمن لا يُؤدِّي حقَّها في الآخرةِ، ومنها: نظر العبد إِلَى عُقوبةِ الظَّالمينَ والمكذبين، ومن يُنازعُ اللَّه رِدَاء الكبرياءِ.

وفي "السُّنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ: بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ: طِينَةَ الخَبَالِ» .

(1) المطففين: 26.

ص: 90

وخرجه الترمذيُّ (1) وغيرُه (2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي روايةٍ لغيرهِ مِن وَجْهٍ آخَرَ في هذا الحديث: "يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ".

وفي رواية أخرى من وجه آخر: "يَطَؤُهُم الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالدَّوَابُّ بِأرْجُلهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ".

واستأذنَ رَجل عُمرَ رضي الله عنه في القَصصِ عَلَى الناس فَقَالَ له: إِني أَخافُ أن تَقُصَّ عليهم فترتفع عَليهِم في نَفسكِ حَتَّى يَضَعَكَ اللَّه تَحْتَ أَرْجُلهمْ يَومَ القيامةِ.

ومِنها: نَظرُ العبدِ إِلَى ثَوابِ المتَواضعينَ للَّه في الدُّنيا بالرِّفعةِ في الآخرةِ؛ فإنه من تواضعَ لله رفَعَهُ.

ومنها -وَلَيس هُو في قُدرَةِ العبدِ، ولكنَّهُ من فضلِ اللَّه ورَحمتِهِ-: مَا يُعوّضُ الله عِبادهُ العارفين به، الزاهدينَ فيمَا يفنى مِنَ المالِ والشَّرفِِ، ممَّا يُعجِّلُهُ الله لهم في الدُّنْيَا مِن شرفِ التَّقوى وهيبةِ الخلقِ لهم في الظَّاهرِ، ومن حلاوةِ المعرفةِ والإيمان والطَّاعةِ في الباطن.

وهي الحياةُ الطيِّبةُ التي وعدهَا الله لمن عَمِلَ صالحًا من ذكير أو أُنثى وهُو مُؤمنٌ، وهذهِ الحياةُ الطيِّبةُ لم يذُقها الملوكُ في الدُّنْيَا ولا أَهلُ الرئاساتِ والحرصِ عَلَى الشَّرفِِ، كما قالَ إبراهيمُ بنُ أَدهمَ.

لو يعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه لجالدونا عليهِ بالسيوفِ.

ومن رزقهُ الله ذلك اشتغلَ به عن طلبِ الشَّرفِِ الزائلِ والرئاسةِ الفانية.

قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (3).

(1) فى "الجامع"(2492). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظر تخريج هذا الحديث في كتابي "أهوال النار" باب "سجن النار".

(2)

أخرجه أحمد في "المسند"(2/ 179)، والنسائي فى "الكبرى" كما فى "تحفة الأشراف"(8800).

(3)

الأعراف: 26.

ص: 91

وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1).

وفي بعض الآثار: يقول الله عز وجل: "أَنَا العَزيزُ؛ فمن أرادَ العزّ فليُطِعِ العَزيزَ، وَمَن أَرادَ عزَّ الدُّنيا وَالآخِرةِ وشرفهما فَعليهِ بالتَّقْوَى".

وكان حجاج بن أرطاةَ يقولُ: قَتلني حُبُّ الشَّرفِِ. فقالَ لهُ سَوَّارٌ: لَوِ اتقيتَ الله شَرفتَ.

وفي هذا المعنى يقول القائل شعرًا:

أَلَا إِنمَا التَّقْوَى هِيَ الْعِزُّ والْكَرَمُ

وَحُبُّكَ لِلدُّنْيا هُوَ الذُّلُّ والسَّقَم

وَليسَ عَلَى عَبْدٍ تقيٍّ نقيصَة

إِذَا حَقَّقَ التَّقوَى وَإنْ حَاكَ أَو حَجَم

وقال صالحٌ الباجيُّ: الطاعةُ إمرةٌ والمُطِيعُ للَّه أَميرٌ مُؤَمَّر عَلى الأُمراءِ، أَلا تَرَى هَيبتَهُ في صُدورِهِم، إِن قَالَ قَبِلُوا، وِإن أَمر أَطاعُوا، ثم يَقولُ: يَحقُّ لمن أَحسنَ خِدمتَكَ وَمننتَ عليهِ بمحَبَّتِكَ أن تُذْلِلَ له الجبابرةَ حتى يَهَابوهُ لهيبتهِ في صُدورهم من هيبتَكَ في قلبهِ، وكُلُّ الخيرِ من عندكَ بأوليائكَ.

وقال بعضُ السلفِ الصالح: مَنْ أَسعدُ بالطاعةِ مِنْ مُطيع؟ ألَا وَكُلُّ الخيرِ في الطاعةِ، أَلا وِإن المُطيعَ لله مَلِكٌ في الدُّنْيَا والآخرةِ.

وقال ذو النون: مَن أكرمُ وأَعزُّ مِمَّن انقطَعَ إِلَى مَنْ مَلكَ الأَشياءَ بيدهِ؟

دَخلَ محمدُ بنُ سُليمانَ أَميرُ البصرةِ عَلَى حمادِ بنِ سلمةَ وقعدَ بين يديهِ يسألُهُ فَقَالَ له: يا أَبا سلمة، مَا لي كلما نظرتُ إليكَ ارتعدتُ فرقًا منكَ؟ قال: لأَنَّ العالِمَ إِذَا أَرادَ بعلمه وجهَ الله خافَهُ كلُّ شيءٍ، وإنْ أَرادَ أن يُكثِّرَ بهِ الكُنوزَ خافَ مِن كلِّ شيءٍ.

(1) فاطر: 10.

ص: 92

ومِن هذا قولُ بعضهِم: عَلَى قَدرِ هيبتكَ للَّه يخافُك الخلقُ، وعلى قدرِ محبَّتَكَ للَّه يُحبُّكَ الخلقُ، وعلَى قدرِ اشتغالِكَ بالفَه تَشتغلُ الخلقُ بأَشغالِكَ.

وكان عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه يَومًا يمشي ووَراءَهُ قومٌ من كبارِ المهاجرين، فالتفتَ فرَآهم فخَروا عَلَى رُكبهم هيبة لهُ، فبكى عمرُ وقال: اللَّهمَّ إِنك تعلمُ أني أخوفُ لك منهُم؛ فاغفر لي.

وكان العُمَريُّ الزاهد قد خرجَ إِلَى الكوفةِ إِلَى الرشيدِ ليعظَهُ وينهاه؛ فوقعَ الرعبُ في عسكرِ الرشيدِ لما سَمِعوا بنزوله، حتى لو نَزلَ بهم عَدوّ مِائةُ أَلفِ نفسٍ لما زَادُوا عَلَى ذَلك.

وكان الحسنُ لَا يستطيعُ أحدٌ أن يسألَهُ هيبةً له، وكان خواصُّ أصحابهِ يجتمعونَ ويطلبُ بعضُهم مِن بَعضٍ أن يسألوه عن المسألةِ، فَإِذَا حَضروا مَجلسَهُ لم يَجسرُوا عَلَى سؤالهِ، حتى رُبما مكثُوا عَلَى ذلك سَنةً كاملةً هَيبةً له.

وكَذلك كانَ مالكُ بنُ أَنسٍ يُهابُ أَن يُسأَلَ، حتى قالَ فيهِ القائلُ شعرًا:

يَدَعُ الْجَوَابَ وَلَا يُرَاجَعُ هَيبَةً

والسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ

نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى

فَهُوَ الْمَهِيبُ وَلَيسَ ذا سُلْطَانِ

وكان يزيد العُقيليُّ يقول: من أرادَ بعلمه وجهَ الله تعالى أقبلَ اللَّه عليهِ بوَجههِ وأقبلَ بقلوبِ العبادِ عليه، ومن عملَ لغيرِ اللَّه صرفَ اللَّه وجهَهُ عنهُ وصرفَ قلوبَ العبادِ عنه.

وقال محمدُ بنُ واسعٍ: إِذَا أقبلَ العبدُ بقلبهِ عَلَى الله أَقبلَ اللَّه عليهِ بقلوبِ المُؤمنينَ.

ص: 93

وقَال أَبُو يزيدَ البَسْطَاميُّ: طَلَّقْتُ الدُّنْيَا ثلاثًا بتاتًا، لا رجعةَ لِي فيها، وصرتُ إِلَى ربي وحدي، ونَاديتُهُ بالاستعانةِ: إِلهي، أدعُوكَ دُعاءَ من لم يَبقَ لهُ غيرُكَ. فلما عَرفَ صِدقَ الدُّعاءِ من قلبي واليأسَ مِن نَفسي كَانَ أَوَّلُ ما وردَ عليَّ من إجابةِ هذا الدُّعاءِ أن أنساني نَفسي بالكُلية، ونَصبَ الخَلَائقَ بين يدي مع إعراضي عنم.

وكَانَ يُزارُ مِن البُلدانِ، فلما رأَى ازدحامَ الناسِ عليهِ قال:

وَلَيتَني صِرْتُ شَيئًا

مِنْ غَيرِ شَئء (أَعُد)(*)

أَصْبَحْتُ للكل مَوْلًى

لِأَنَّنِي لَكَ (عَبْد)(*)

وَفِي الْفُؤَادِ أُمُورٌ

مَا تُسْتَطَاعُ تُعَد

لَكِنْ كِتْمَانُ حَالِي

أَحَقُّ بِي (وَأَشَد)(*)

كَتَبَ وهبُ بنُ مُنبِّهٍ إِلَى مَكحولٍ: أَمَّا بعدُ، فإنكَ أصبتَ بظاهرِ علمكَ عندَ الناسِ شَرفًا ومنزلةً، فاطلُبْ بباطنِ علمكَ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، واعلمْ أنَّ إِحدَى المنزلَتيِن تمنعُ من الأخْرى.

ومعنى هَذا أَنَّ العلمَ الظاهرَ من تعلُّم الشَّرائعِ والأحكامِ، والفَتاوى والقَصص والوَعظِ ونحوِ ذلك مما يظهرُ للناسِ يَحصلُ بهِ لصاحبهِ عندَهُم منزلةٌ وشرفٌ، والعلمُ الباطنُ المودَعُ في القلوبِ من معرفةِ اللَّه وخشيتِهِ، ومحبتِهِ ومُراقبتِهِ، والأنسِ بهِ والشوقِ إِلَى لقائِهِ، والتوكلِ عليهِ والرّضى بقضائِهِ، والإعراضِ عن عَرَضِ الدُّنْيَا الفاني، والإقبالِ عَلَى جَوهرِ الآخرةِ الباقي، كلُّ هذا يوجبُ لصاحبهِ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، وإحدَى المنزلتينِ تمنعُ من الأُخرى.

فمن وقفَ مع منزلتِهِ عندَ الخلْقِ، وانشغلَ بما حَصَل لهُ عندَهم بعلم الظاهرِ من شرفِ الدنيا، وكان همُّهُ حِفظَ هذهِ المنزلةِ عندَ الخلقِ وملازَمتَهَا وتربيتها

(1) من "ك" وفي باقي النسخ الثلاث الأخري زيادة الألف بمد الدال.

ص: 94

والخوفَ من زَوَالِها كانَ ذلكَ حظَّهُ من اللَّه وانقطَعَ به عنهُ، فهو كما قالَ بعضُهم: ويلٌ لِمَن كانَ حَظُّهُ مِن اللَّه الدُّنْيَا.

وكان السَّرِيُّ السَّقَطَيُّ يعجب مما يَرى من علمِ الجنُيدِ وحُسنِ خطابِهِ وسُرعةِ جَوابهِ فقالَ لَه يَومًا -وقَد سأَلهُ عن مَسألةٍ فَأجابَ وأَصابَ-: أَخشَى أن يكونَ حظَّكَ من الدُّنْيَا لسانك. فكانَ الجُنيدُ لَا يزالُ يَبكِي من هذهِ الكلمةِ.

ومَن اشتغلَ بتَربيةِ منزلتِهِ عندَ اللَّه بما ذكرنا من العلمِ الباطنِ وَصلَ إِلَى اللَّه، فاشتغلَ بهِ عما سواهُ، وكانَ لهُ في ذلكِ شُغُلٌ عن طلبِ المنزلةِ عندَ الخلقِ، ومع هذا، فإن الله يُعطيهِ المنزلةَ في قُلوبِ الخلقِ والشَّرفَِ عندَهم، وإن كان لا يريدُ ذلك ولا يَقفُ معهُ؛ بل يَهرَبُ منهُ أَشدَّ الهربِ ويفِرُّ أَشدَّ الفِرَارِ؛ خشيةَ أن يقطعَهُ الخلقُ عن الحقِّ جل جلاله.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (1).

أي: في قلوبِ عِبادِهِ.

وفي حديث: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى: يَا جِبْرِيلَ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا.

فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ".

والحديثُ مَعروفٌ، وهُو مُخرّج في "الصحيح"(2).

وبكُلِّ حالٍ؛ فطلبُ شرف الآخرةِ يَحصلُ معه شرف الدُّنْيَا، وإن يُردْهُ صاحبُهُ ولم يطلُبهُ، وطلبُ شرف الدُّنيا يمنع شَرفَ الآخرةِ ولا يَجتمعُ معهُ، والسعيدُ من آثَرَ الباقي عَلَى الفاني، كما في حديثِ أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» .

(1) مريم: 96.

(2)

أخرجه البخاري (3209).

ص: 95

خرجه الإمام أحمد (1) وغيره (2).

وما أَحسنَ ما قال أبو الفتح البُسْتِيُّ:

أَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ لَسْت تَرَاهُمَا

يَتَشَوَّقَانِ لخلطة وَتَلَاقِي

طَلَبُ الْمَعَادِ مَعَ الرِّيَاسَةِ وَالْعُلَى

فَدَعِ الَّذِي يَفْنَى لِمَا هُوَ بَاقِي

تم الكلام عَلَى شرح الحديث، والحمد لله عَلَى كل حال، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

(1) في "المسند"(4/ 412).

(2)

أخرجه أيضًا عبد بن حميد في "مسنده"(568)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(418)، والبغوي في "شرح السنة"(4038)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 308)، والبيهقي في "السنن الكبير"(3/ 370). وصححه الحاكم.

ص: 96