الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجهاد
* الجهاد: مصدر على زنة فِعال. وهو مصدر فاعل فِعالا، أي جاهد جهادا.
وجاهد الذي مصدره جهاد هو المبالغة في قتال العدو، فيقال: جاهد فلان أي بالغ في قتال عدوه.فالجهاد مصدر جاهد من جهد أي بالغ في قتال عدوه.
* وهو في الشرع: جهاد الكفار خاصة.
فإذن: الجهاد لغة مصدر جاهد إذا جهد عدوه أي بالغ في قتاله.
والجُهد بالضم والجَهد بالفتح قيل هما مترادفان وقيل بالفتح يعني المشقة، وبالضم يعني الوسع والطاقة وهو المشهور.
فعلى ذلك الجهاد هو: بذل الوسع والطاقة في قتال أعداء الله من الكفار.
* فضيلة الجهاد:
وفضيلة الجهاد متواترة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا أرى داعيا لذكرها لشهرتها وتواترها في الكتاب والسنة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهو فرض على الكفاية] .
فالجهاد فرض كفاية.
فيجب على الأمة الإسلامية أن تجاهد في سبيل الله فإن قام منها طائفة به على وجه يكفي سقط الإثم عن الباقين.
فإن لم تقم طائفة منهم بذلك أو قامت طائفة على وجه لا يكفي فإن الإثم يعمهم.
فإذا قامت طائفة بالجهاد في سبيل الله بالنفس والمال هجوما على الكفار ودفاعا عن البلاد الإسلامية فكانت كلمة الله هي العليا وفرض دين الله على العباد سقط الإثم على الباقين.
وإلا فإن الأمة كلها آثمة إن فرّطت في هذا. وهذا حيث كانت القدرة.
* أما مع العجز بأن كان المسلمون ضعفاء فلا عدد ولا عدة يمكنهم أن يجابهوا بها الكفار فإن الواجبات تسقط مع العجز كما قال الله تعالى: [لا يكلف الله نفسا إلا وسعها] ولكن لاشك أن الأمة إذا فرّطت في الاستعداد وفي التطور المادي وغير ذلك مما يحتاج إليه في مجابهة أعدائها فإذا فرطت في تعاطي الأسباب حتى كانت أمة ضعيفة فلا شك أنها تكون آثمة حينئذٍ.
إذن الجهاد فرض كفاية. وعليه فلا يجب على كل مسلم أن يجاهد في سبيل الله بل إذا
قامت طائفة من الأمة بالجهاد في سبيل الله سواء كان ذلك على وجه التبرع منها (1) أو كانوا جندا
لهم رَزق من بيت المال فإن الإثم يسقط عن الأمة حيث قامت الكفاية.
ضابط الكفاية:
والكفاية كما تقدم؛ بأن يترتب على هذا الجهاد ظهور الدين وإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
أدلة وجوب الجهاد:
والأدلة كثيرة في كتاب الله على فرضية الجهاد ومن ذلك:
1 ـ قوله تعالى: [كتب عليكم القتال وهو كره لكم]
2 ـ وقوله تعالى: [انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فهذه أدلة على فرضية الجهاد.
الأدلة على أنه على الكفاية لا العين:
وإنما قلت: هو فرض على الكفاية لا فرض عين لأدلة دلت على ذلك:
1 ـ منها قوله تعالى: [لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى] أي وعد المجاهد والقاعد.
2ـ ولقوله تعالى: [وما كان المؤمنون لينفروا كافة] .
3 ـ وعليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه كان يبعث السرايا مع مكثه في المدينة وسائر أصحابه رضي الله عنهم أجمعين ـ.
فهذا يدل على:
أن الجهاد فرض كفاية وهو مذهب عامة العلماء.
شبهة وجوابها:
فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم] ؟ فإن هذا يدل على أن من ترك الجهاد فإنه يعذب عذابا أليما، وهذا يدل على أنه فرض عين.
الجواب من وجهين:
(1) ـ بعد إذن الإمام لها بذلك، إلا إذا أصبح عينيا فلا يشترط الإذن، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الأول: أن يقال: إن ذلك حيث استُنفر الإنسان، وقد استنفر في هذه الآية:[يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض] .. إلى قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم] فقد ثبت الاستنفار وحيث ثبت الاستنفار فإن القتال يجب علينا. وقد قال صلى الله عليه وسلم:} وإذا استنفرتم فانفروا { (1) .
الوجه الثاني:
أن هذه الآية منسوخة فقد ثبت في سنن أبي داود عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: [إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا][وَمَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ] إِلَى قَوْلِهِ [يعْمَلُونَ] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كَافَّةً](2) .
* شروط وجوب الجهاد:
…
...
واعلم أن الجهاد لا يجب إلا بسبعة شروط:
الشرط الأول: الإسلام. وهو ظاهر.
الشرط الثاني: العقل. وهو ظاهر أيضا.
الشرط الثالث: البلوغ.
ودليله:
حديث عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:} رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ { (3) .
(1) ـ أخرجه البخاري. وسيأتي تخريجه.
(2)
ـ (د: 2144) ك: الجهاد. ب: في نسخ نفير العامة بالخاصة. وحسنه الحافظ في الفتح في شرحه على باب: النفير ومايجب من الجهاد والنية.وحسنه الشيخ الألباني في صحيح (د: 2187) . تنبيه: ترقيم الأحاديث كالتالي: (خ وم (محمد فؤاد عبد الباقي، الخمسة (ط. العالمية، وما عدا ذلك يقع التنبيه عليه عند أول إحالة إن شاء الله تعالى) .
(3)
ـ (ن: 3378، د: 3822، ت: 1343، حم: 23553) .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: (عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي)(1) .
الشرط الرابع: الذكورية.
أي أن يكون ذكرا، فلا يجب الجهاد على الأنثى.
ودليل ذلك:
ماثبت في البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ {)(2)
وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه ـ بإسناد صحيح ـ عنها قالت: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ:} نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ {)(3)
الشرط الخامس: الحرية.
الخلاف في هذا الشرط: العلماء في اشتراط الحرية لوجوب الجهاد على قولين:
القول الأول:
أنه لا يجب على العبد، هذا هو المشهور في المذهب كما ذكر ذلك الموفق ابن قدامة في كتابة المغني وغيره.
القول الثاني:
(1) ـ (فتح: 2664، م: 1868) وهذا لفظ مسلم: ك: الإمارة. ب: بيان سن البلوغ. وتمامها: قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَال َ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَالِ.
(2)
ـ (فتح: 2875) ك: الجهاد والسير. ب: جهاد النساء.
(3)
ـ (حم 24158، جه: 2892) وهو في صحيح (هـ 2345) للألباني.
وجوبه على العبد. وهو القول الثاني في المذهب. وهو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية الدالة على ذلك.وحيث لا دليل يخصص العبد منها.
نعم. يشترط في الجهاد التطوعي أن يستأذن سيده مراعاة لحق السيد.
* أما الجهاد العيني فلا دليل يدل على إخراجه من العمومات الدالة على الوجوب على العبد والحر ولا دليل لدى القائلين باستثناء العبد فيصار إليه.
وعلى ذلك: فلا نشترط الحرية في فرض العين.
أما الجهاد التطوعي فليس للعبد أن يجاهد إلا أن يستأذن سيده لحق السيد عليه.
الشرط السادس: السلامة من الضرر.
فالأعمى والأعرج والمريض لا يجب عليهم الجهاد في سبيل الله وإن تعين على غيرهم لقوله تعالى: [ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج]
والمراد بالعرج: العرج الفاحش، الذي يؤثر عليه في جهاده في ركوبه وغير ذلك.
أما مطلق العرج فلا.
ومثل ذلك المرض، فالمرض الذي يؤثر عليه ويشق عليه معه الجهاد في سبيل الله.
وأما مطلق المرض فلا.
وعلى ذلك: إن كان مستطيعا ببدنه فيجب عليه الجهاد، وإلا فلا. فالأعمى والأعرج شديد العرج والمريض شديد المرض لا يستطيعون بأبدانهم الجهاد في سبيل الله. فالشرط السادس هو السلامة من الضرر، وبتعبير آخر:(أن يكون مستطيعا ببدنه الجهاد في سبيل الله) .
الشرط السابع: وجود النفقة.
أي أن يكون لديه ما ينفقه على نفسه في آلات الحرب وفي زاده، هذا إذا لم تكن هناك نفقة من بيت مال المسلمين.
فإن كانت هناك نفقة من بيت المال فيجب عليه أن يجاهد منها.
فإن لم يكن هناك نفقة فلا يتعين عليه الجهاد لقوله تعالى: [ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون] في الجهاد [حرج إذا نصحوا لله ورسوله] .
إذن الجهاد يشترط في وجوبه: وجود النفقة أي: القدرة أو الاستطاعة المالية.
فإن كان معه نفقة تكفيه في جهاده وتفضل عمن يعول وجب عليه الجهاد فعلا.
وعليه: فإن كان معه نفقة لكنها لا تفضل عمن يعول بحيث أنه يضر بأهله فإن الجهاد ـ حينئذٍ ـ لا يجب عليه.
*ـ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن العاجز ببدنه عن الجهاد والقادر بماله يجب عليه أن يجاهد بماله.
الدليل:
ويدل على ذلك قوله تعالى: [جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فأمر سبحانه وتعالى بالجهاد بالمال.
* وعليه: فيجب على النساء أن يجاهدن بأموالهنّ.
* وعليه أيضا: إن احتيج إلى مال الصبي للجهاد في سبيل الله فإنه يؤخذ منه أيضا. فهذا من الجهاد المالي. فإذا احتاج المسلمون إلى أموال الصغار وأموال النساء فإنه يتعين إخراج حاجة المسلمين من أموالهم.
ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أيضا: أنه إذا تعين الجهاد بالمال واحتاج المسلمون إلى المال في الجهاد فإن دفعه إلى القائم على الجهاد مقدم على وفاء الدين.
قال: لأنه أولى من النفقة حينئذٍ.
ومعلوم أن النفقة الواجبة عليه على ولده وزوجه وغير ذلك مقدمة على وفاء الدين، فهنا أولى من ذلك.
ثم إنها ـ حينئذٍ ـ أي إذا احتاج المسلمون إلى المال إنه يعتبر نفقة واجبة مقدمة على وفاء الدين.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وَيَجِبُ إذَا حَضَرَهُ] .
أي إذا حضر القتال أي الصف؛ فالمسلمون والكفار صافون للجهاد فقد تعين عليه الجهاد وإن كان في الأصل مستحبا له، لكن إذا حضر الصف فإن الجهاد يكون فرض عين في حقه.
الأدلة:
1 ـ لقوله تعالى: [يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا] .
2 ـ وقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا تحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير]
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أوْ حَصَرَ بَلَدَهُ عَدُوٌّ] .
وهي في الأصل في المقنع (أو حضر) بالضد وضبطها بعض الحنابلة (أو حصر) بالصاد.
أي إذا حصر بلده عدو أو حضر بلده عدو.
فعلى (حضر) بالضاد يتعين القتال على أهل البلدة وإن لم يحصرهم العدو أي بمجرد ما يحضر العدو لقتال هذه البلدة يتعين على أهلها القتال.
وعلى (حصر) أي إذا حصل من الكفار الحصار فأحاطوا ببلدة المسلمين فيجب عندئذ على من فيها أن يقاتلوا في سبيل الله.
لذا فالتعبير بلفظة (حضر) بالضاد ـ كما هو المشهور ـ أولى، وذلك لتعليق الحكم بمجرد حضور العدو سواء حصر أم لم يحصر. فبمجرد ما يحضر العدو لقتال المسلمين فإن الجهاد يكون فرض عين على من فيها من المسلمين.
فهذه هي الحالة الثانية التي يكون الجهاد فيها فرض عين. وهي أن يحضر العدو بلدا من بلاد المسلمين فيجب على أهل هذه البلد أن يقاتلوا في سبيل الله.
أما غيرهم من البلدان فلا يجب عليهم الجهاد وذلك إلا أن لا تقوم الكفاية بقتال أهل تلك البلدة. فإذا احتاج أهل هذه البلدة إلى إخوانهم في البلاد البعيدة فجب على أهل البلاد البعيدة أن يعينوا إخوانهم بمن تقوم بهم الكفاية.
ـ ومثل ذلك من احتيج إليه فإن الجهاد يتعين عليه، كمن يُحتاج إليه في معرفة بعض الطرق في تلك البلدان أو يحتاج إليه في القيادة أو نحو ذلك فإن الجهاد حينئذٍ يكون فرض عين عليه لأن الكفاية لا تقوم إلا بحضوره.
والدليل:
على أن الجهاد فرض عين فيما إذا حضر بلده عدو، أنه لا تحفظ الأديان والأعراض إلا بذلك فيتعين عليهم الجهاد. لأنهم إن لم يقوموا به على هذه الصفة فإن الأموال والأنفس والأعراض التي هي الضرورات لكلها تكون معرضة لأيدي العدو.
ولكن ظاهر كلامهم أنه عين على أهل البلد عامة لا على كل شخص من أهل البلد فإنهم يقولون: تَعَيّنّ على أهل البلد. والظاهر أنه لا يجب على كل شخص منهم.
فهو إذن عيني نسبي أي عيني بالنسبة إلى أهل البلدان التي حضرها العدو، فهو متعين على أهل البلدة عن سائر البلدان وأما على كل شخص فإنهم لم يصرحوا بهذا.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أو استنفر الإمامُ] .
فإذا استنفر الإمام فإن الجهاد يتعين على من استنفرهم الإمام.
الأدلة:
1 ـ وذلك لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ:} لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا { (1) فيتعين عليكم أي إذا طُلب منكم النفر فعليكم أن تنفروا وليس لكم أن تتخلفوا.
2 ـ وقد تقدمت الآية الكريمة والكلام عليها [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم: (انفروا في سيبل الله) اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا] فإذا استنفر الإمام طائفة أو خصص شخصا بعينه فإنه يتعين عليهم ذلك.
3 ـ ولأن طاعة الإمام واجبة في مثل ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم:} عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ {. (2)
ـ ذكر المؤلف ثلاثة أحوال يتعين فيها الجهاد.وبقيت حالة:
4 ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حالة رابعة: وهي إذا كان من الجند الذين جعل لهم الإمام أرزاقا على أن يجاهدوا في سبيل الله من الشُّرَط وغيرهم.
الدليل:
(1) ـ (فتح: 2825، م: 1353) البخاري: ك: الجهاد والسير. ب: وجود النفير.
(2)
ـ (فتح: 7144، م: 1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فهؤلاء يتعين عليهم الجهاد لما بينهم وبين الإمام من عقد على ذلك.وقد قال تعالى: [يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود] . فالطائفة التي قد جعل لها الإمام أرزاقا على الجهاد في سبيل الله يتعين عليهم الجهاد حيث كان ذلك في العقد.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتمام الرباط أربعون يوما] .
الرباط: هو الإقامة بالثغور لجهاد الكفار.
والثغور: هي الحدود التي تكون بين المسلمين والكفار. والمقصود بها الحدود بين بلدة إسلامية وبلدة كافرة محاربة. أي الأماكن والمواضع التي يخيف المسلمون الكفار فيها ويخيف الكفارُ المسلمين فيها.فهذه هي الثغور.
ـ وسمي رباطا لأن الخيل تربط فيه استعدادا للقتال في سبل الله.
ـ وأفضل الرباط ما يكون في ثغر هو أشد من غيره خوفا أي احتمال ورود الكفار إلى المسلمين منه أقوى، فهو مخوف أكثر من غيره، ولذلك أي لشدة الحاجة إلى الإقامة فيه فهو أفضل الرباط. فأفضل المواضع التي يرابط فيها ما كان الخوف فيه أشد للحاجة إلى لزومه.
* فضل الرباط في سبيل الله:
وقد وردت أحاديث نبوية تدل على فضيلة الرباط في سبيل الله. من ذلك:
ـ ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ { (1) أي فتنة القبر وهي سؤال منكر ونكير.فالرباط في سبيل الله من أفضل الأعمال.
* وقد ذكر المؤلف هنا أن تمام الرباط أربعون يوما. فهذا تمامه. لكنه يثبت الرباط بالقليل والكثير فلو أقام ساعة إنه يثبت له رباط ساعة ولكن تمامه أربعون يوما.
(1) ـ (م: 1913) ك: الإمارة. ب: فضل الرباط في سبيل الله. من حديث سلمان رضي الله عنه.
لما روى الطبراني في الكبير عن أبي هريرة (1) رضي الله عنه مرفوعا:} إن تمام الرباط أربعون يوما {لكن إسناده ضعيف. وإنما يثبت موقوفا على أبي هريرة كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه (2) .
وعلى ذلك فالمستحب له أن يرابط أربعين يوما لثبوت ذلك عن أبي هريرة وليس ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث ـ كما تقدم ـ ضعيف، لكن هذا لا مجال للرأي فيه وما كان كذلك من أقوال الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ فإن له حكم الرفع، ولذا استحبه الإمام أحمد وغيره.
(1) ـ لم أجده عنده في معاجمه الثلاثة من حديث أبي هريرة. والذي في معجمه الكبيرهو عن أبي أمامة [7606] عن مكحول عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تمام الرباط أربعين يوما ومن رابط أربعين يوما لم يبع ولم يشتر ولم يحدث حدثا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "(8/133) ط2/ العلوم والحكم ـ الموصل.تحقيق حمدي بن عبد المجيد. قال الهيثمي في المجمع: وفيه أيوب بن مدرك ضعيف. وقال الألباني في الإرواء في آخر كلامه عليه [1201] وبالجملة فالحديث ضعيف بهذه الطرق، ولم أره الآن من حديث ابن عمر وأبي هريرة.
(2)
ـ (عب 4 / 584)(152) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ نا دَاوُد بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. كتاب فضل الجهاد.) قال الألباني: وهذا سند ضعيف، العسقلاني قال ابن أبي حاتم عن أبيه:(مجهول)(6 / 245) ط1.دارإحياء التراث ـ بيروت)
الإرواء: 5 / 23 = [1201] . وهكذا جهله الذهبي في الميزان والمغني وجهله ابن حجر في اللسان.
ـ ولا يستحب لمن رابط أن يحمل نساءه وذريته في المواضع المخوفة لئلا يظفر العدو بذلك الثغر فيستولي على من فيه من نساء المسلمين وذراريهم. فهو موضع مخوف يحتمل في كل وقت أن يظفر فيه العدو. بل إن القول بالتحريم يقوى في تلك المواضع. فلا ينبغي للمسلمين أن يحملوا نساءهم وذراريهم إلى تلك الموضع المخوفة.
ويستثنى من ذلك أهل الثغر، أي أهل تلك البلدة فإنه لا قرار لحياتهم إلا بذلك. فهم أهل الثغر وسكانه. أما من يأتي إليهم من المرابطين في سبيل الله فليس لهم أن يحملوا نساءهم وذراريهم.
* الحراسة في سبيل الله:
ومن الأعمال الفاضلة: الحراسة في سبيل الله.
1 ـ وقد روى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:} عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { (1)
2 ـ وقال صلى الله عليه وسلم لأنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه وقد بات يحرسهم ليلة:} أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعد ذلك { (2)
واعلم أن الجهاد في سبيل الله ـ المشهور من مذهب الإمام أحمد ـ أنه أفضل الأعمال، فهو أفضل من سائر النوافل.
الدليل:
1 ـ ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (أي الناس أفضل؟) فقال:} مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ { (3) ولاشك أن تفضيل المتصف بهذه الصفة وجعله أفضل من غيره يدل على أن هذه الصفة أفضل من غيرها من الصفات.
(1) ـ (ت: 1563) .
(2)
ـ (د 2501) كتاب الجهاد. باب: فضل الحراس في سبيل الله.
(3)
ـ (فتح: 2786، م: 1888) .
2 ـ وقد ثبت في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ:} إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} حَجٌّ مَبْرُورٌ { (1)
القول الثاني:
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن تعلّم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد في سبيل الله
والظاهر أن العلم تعلما وتعليما نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله (2) وأن تفضيل أحد النوعين على الآخر راجع إلى المصلحة العامة. فإذا كان الاشتغال بالعلم أصلح للأمة من الاشتغال بالجهاد ـ كما في هذه الأزمان ـ فإن العلم أفضل.
وأما إن كانت الأمة محتاجة إلى الجهاد في سبيل الله وإلى المجاهدين فإن الاشتغال بالجهاد في سبيل الله أفضل من العلم.
فهما نوعان من جنس واحد. وكوننا نفضل أحدهما على الآخر على الإطلاق فيه نظر، بل هما في درجة واحدة لكن إن اقتضت المصلحة العامة أحدهما فهو أفضل.
القول الثالث:
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: استيعاب العشر الأوائل من ذي الحجة بالصلاة ليلا ونهارا أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا أن يذهب بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء.
(1) ـ (فتح: 26) ك: الإيمان. ب: من قال إن الإيمان هو العمل.
(2)
ـ لعله يستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ " كما في حديث أنس عند النسائي في المجتبى (ن: 3045) .
وهو كما قال وهذا استثناء دلت عليه الأدلة الشرعية فقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ {قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ. قَالَ:} وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ { (1) ولذا قيد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ هذا التفضيل بقوله: (إلا ما يذهب فيه النفس والمال) فالجهاد الذي يذهب فيه النفس والمال أفضل من الجهاد في عشر ذي الحجة.إذن استيعاب عشر ذي الحجة بالعمل الصالح من العبادة والصيام والقيام أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال
ورأى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن الجهاد تعدله أشكال العبادة ليلا ونهارا فمن اجتهد ليلا ونهارا صياما وقياما في غير عشر ذي الحجة فإن عمله يعدله الجهاد في سبيل الله.
الدليل:
(1) ـ (فتح: 969) ك: الجمعة. ب: فضل العمل في أيام التشريق.
فقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل؟) قَالَ:} لَا تَسْتَطِيعُونَهُ {قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ:} مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى { (1) فمن كان هذا نصيبه من العبادة لا يفتر من الصيام والقيام قائم قانت بآيات الله قد أسهر ليله في العبادة وأظمأ نهاره بالصيام فإن عمله
يعدل عمل المجاهد في سبيل الله.
إذن: فاستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهار أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
واستيعاب سائر السنة بالعبادة يعدل الجهاد في سبيل الله، فإذا كان اثنان أحدهما جاهد شهرا والآخر قد استوعب هذا الشهر بالصيام والقيام فإن عملهما يتعادل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما] .
إذا كان أبواه: أي والديه مباشرة، الأب المباشر والأم المباشرة.
وقوله (مسلمين) قيد يخرج ما إذا كانا كافرين.
وقوله (تطوعا) قيد آخر يخرج ما إذا كان الجهاد فرضا.
وهي مسألة اتفق العلماء عليها، وأن الجهاد التطوعي لا على المسلم إلا أن يستأذن والديه المسلمين.
الدليل:
(1) ـ (فتح: 2785، م: 1878) واللفظ لمسلم؛ ك: الإمارة. ب: فضل الشهادة في سبيل الله.
ودليل ذلك ما ثبت الصحيحين: من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ {قَالَ: نَعَمْ قَالَ:} فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ { (1) فيحب باتفاق أهل العلم استئذان الوالدين المسلمين في الجهاد التطوعي.
وأما جهاد الفرض فإن الوالدين لا يستأذنان فيه لأنه فرض فتركه معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
* فرع:
فإن كان والداه كافرين لم يستأذنهما كما هو ظاهر كلام المؤلف وهو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم.
قالوا: وعليه عمل الصحابة فإنهم كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم الكفار كأبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره.
وقالوا: يستبعد أن يأمر الشارعُ المسلمَ باستئذان الكافر في جهاد أهل ملته أو غيرهم من ملل الكفر مع أنه عدو لله ورسوله. فلا يمكن والحالة هذه أن يستأذن المسلم والده وهو كافر عدو لله ورسوله في الجهاد في سبيل الله.
القول الثاني:
وقال الثوري: بل يستأذن الوالد الكافر في الجهاد في سبيل الله.
أدلته:
واستدل بعمومات النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن والديه أهما كافران أم مسلمان مع أن ذلك في الآباء كثير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ـ كما هو مقرر في أصول الفقه.
قال: وعلى ذلك يستأذن الوالد وإن كان كافرا.
الترجيح:
والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن المسألة فيها تفصيل:
(1) ـ (فتح: 3004، م: 2549) .
وهو أنه إن كان الوالد له ضرورة أو حاجة إلى ولده بحيث يحتاج إليه للقيام بحقه والنظر في شؤونه فإنه لا فرق بين أن يكون الوالد كافرا أو مسلما إلا أنه يستثنى من ذلك أن يكون الوالد محاربا. فإن كان ليس بمحارب كالذمي الذي يعيش في البلاد الإسلامية أو يعيش في بلدة بيننا وبينها أمان لا حرب وكان له حاجة إلى ولده ومضطرا إليه أو محتاجا إليه حاجة تامة وظاهرة فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ ما ذهب إليه الثوري من وجوب الاستئذان وذلك لعموم الحديث المتقدم.فإن هذا الحديث يحمل على حاجة الوالدين بدليل قوله:} ففيهما فجاهد {أي فيهما فابذل طاقتك ووسعك، فدل هذا على أنهما محتاجان إلى طاقته ووسعه، والشريعة تأتي ببر الوالدين مطلقا سواء كانا مسلمين أم كافرين كما قال تعالى:[وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا] فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه إن كان الوالدان يحتاجان إلى مجاهدة الولد فيهما والقيام بحقوقهما فإنهما يستأمران في ذلك، هذا إذا كانا معصومي الدم، وأما إن كانا حربيين فلا لأن دمهما هدر فما كان فيه حفظ لأبدانهما غير مراعى شرعا.
* فرع:
في حكم استئذان الوالدين إن كان رقيقين:
…
...
…
ـ واعلم أن المشهور في المذهب أن الوالدين الرقيقين لا يستأذنان.
قالوا: لأنهما لا ولاية لهما، فإن الولاية تنتقل بالرق.
القول الآخر:
والوجه الثاني في المذهب هو وجوب استئذانهما وإن كانا رقيقين وهذا هو الظاهر.
الأدلة عليه:
1 ـ لعمومات النصوص في قوله صلى الله عليه وسلم:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {والحديث عام في الأحرار والعبيد.
2 ـ ولأن المقصود من ذلك مراعاة حق الوالد
3 ـ ولئلا يقع في نفسه شيء من الحسرة بفوات نفس ولده أو تعرضه للقتل وهذا ثابت في الرقيق كما هو في الأحرار.
ولأن الولاية لا أثر لها هنا، فإن الابن القائم بنفسه وهو ولي نفسه فيستأذن والده مع أنه لا ولاية للوالد عليه فالابن البالغ الرشيد القائم بشؤون نفسه لا ولاية لوليه عليه وإن كان والده حرا ومع ذلك فإنه يستأذنه. فانتفاء الولاية لا تعلق له بالحكم هنا ولا أثر لها.
إذن لا أثر للولاية بدليل أن الأب الحر لا ولاية له على أبنائه البالغين الراشدين، فكون الأب رقيقا لا ولاية له على أولاده هذا ليس بمؤثر في هذه المسألة بل المؤثر كونه والدا، وفي قلبه من الرأفة والرحمة ما يجعل الشارع يراعي ذلك حيث كان الجهاد تطوعيا يمكن أن يُستغنى عن الولد فيه.
* فرع:
…
في استئذان الجد والجدة:
…
...
…
...
…
...
…
...
واعلم أن المشهور في المذهب: أن الجد والجدة لا يستأذنان وهذا ظاهر.
وذلك لأن الأصل هو تصرف الولد في نفسه فله أن يجاهد من غير أن يرتبط بإذن أحد من الناس هذا هو الأصل وإنما استثنى الوالدان لما لهما من الحق الكبير العظيم. ولما يقع في قلوبهما من الحسرة ونحو ذلك حيث تعرض الولد لأذى أو قتل وهذا لا يساويه ما يقع في قلب الجد أو الجدة ولا قياس مع الفارق.
ـ واحتمل صاحب الفروع وجها آخر وهو: أن أب الأب يستأذن.
الترجيح:
والراجح ما تقدم وأن الجد مطلقا سواء كان أب للأم أم للأب فإنهما لا يستأذنان. وكذا الجدة لأم أو لأب لا يستأذنان.
وذلك لأن الأصل هو تصرف الشخص في نفسه من غير أن يرجع في ذلك إلى إذن أحد. ولا يصح إلحاقهما بالوالدين للفارق.
* فرع:
…
في جهاد المدين:
ـ قال أهل العلم: ومثل ذلك من عليه دين ولا وفاء له فإنه ليس له أن يجاهد الجهاد التطوعي إلا بإذن غريمه.
الدليل:
قالوا: لأن الجهاد ذريعة إلى الشهادة، والشهادة تفوت بها النفس، وحيث فاتت النفس فات حق الغريم، فليس له أن يقاتل ويجاهد وعليه دين إلا أن يستأذن غريمه.
الاستثناءات:
1 ـ ويستثنى من ذلك ما إذا كان الجهاد فرضا فإنه إذا كان كذلك فلا يعارض بوفاء دين ولاغيره.
2ـ ويستثنى أيضا: إذا كان له وفاء كأن يترك دورا أو عقارا تقابل الدين الذي عليه بحيث إذا استشهد قضي عنه دينه منها.
فإذا كان له وفاء فله أن يجاهد الجهاد التطوعي من غير أن يستأذن الدائن.
3 ـ قالوا: كذلك إذا أقام كفيلا أي غارما فإنه يجوز له أن يجاهد من غير استئذان الدائن لكنه يستأذن كفيله الغارم.
4 ـ وكذلك يجوز له ألا يستأذن غريمه إذا وثّق دينه برهن. فإذا كان الدين موثقا برهن فإن له أن يقاتل من غير استئذان.
إذن: لا يحل لمسلم أن يجاهد جهادا تطوعيا وعليه دين لا وفاء له مالم يقم كفيلا أو يوثّق دينه برهن أو يكون له وفاء وذلك لئلا يفوت حق الغير.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمام جيشه عند المسير] .
يجب على الإمام أن يتفقد الجيش، أو نائبه، أو يوكّل ثقة ذا خبرة بالجيش فيتفقده، فينظر فيه عددا وعُدة وينظر في حمله وسلاحه ورجاله، فيتفقد الجيش واستعداده وتهيؤه للقتال في سبيل الله.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنع المخذل والمرجف] .
المخذّل: هو المثبط عن الجهاد في سبيل الله المزهد فيه، فيمنعه الإمام.
والمرجف: هو المهوّل قوة العدو والمضعّف قوة المسلمين، الذي يُلقي في قلوب المسلمين الضعف والوهن. فهذا يجب على الإمام منعه من القتال في سبيل الله.
وهكذا كل من لا يصلح للقتال. كأن يشهد القتال صبي ضعيف البدن. أو أن يشهده رجل هرم يخشى أن يلقي بنفسه إلى التهلكة أو نحو ذلك.
فينظر الإمام في الجيش فيمنع من لا يصلح لشهوده المعركة من مخذل ومرجف أو غيرهمأ.
ـ ويوصي الإمام أميره بتقوى الله في نفسه ويوصيه بالمسلمين خيرا بأن يرفق بهم ولا يلقي بهم في التهلكة ويحثه على الإخلاص واتباع السنة في القتال في سبيل الله والاستعانة بالله عز وجل فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ:} اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ.. { (1) الحديث وهو طويل.
ويعين الإمام القواد ويعين الألوية هذا واجب على الإمام بنفسه أو نائبه أو أن يوكل ثقة من أهل الخبرة بقوم بذلك.
ـ ويستحب أن تكون الغزوة يوم الخميس لما ثبت في البخاري من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (2) .
(1) ـ (م 1731) ك: الجهاد. ب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته. وهو عند (حم: 21900و21652، د: 2245، ت: 1542، جه: 2849، مي: 2332) .
(2)
ـ (فتح 2950) ك: الجهاد. ب: من أراد غزوة فورى بغيرها.
ـ ويستحب أن يكون لقاء العدو في بكرة النهار أي في أول النهار فقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند الخمسة (1) بإسناد صحيح من حديث صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:} اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا {قَالَ: (وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ)(2) .
فإن فاته ذلك فحتى تزول الشمس وتهبّ الرياح فقد ثبت في المسند وعند الثلاثة بإسناد صحيح عن النعمان بن مقرِّن رضي الله عنه قال: (شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ)(3)
(1) ـ لم أجده عند النسائي في المجتبى. وهو في الكبرى (5/ 258 من محققة البنداري وسيد كسروي حسن) .
(2)
ـ أخرجه (حم: 14891 و 14896و 15006 و 15007 و 18613 و 18660، ت: 1133، د: 2239، جه:2227،، مي: 2328) .
(3)
ـ (د 2283: ك: الجهاد. ب: في أي وقت يستحب اللقاء.) وهو عند (حم: 22627، ت: 1538) ولم أجده في المجتبى وهو في الكبرى: 5 / 191. المحققة المشار إليها آنفا.
وهو في البخاري بنحوه (فتح: 3160: ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.)
من حديث جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ ـ وهو من كبار التابعين ـ في خبر قتال كسرى في خلافة عمر رضي الله عنه في خبر طويل في سبيل الله آخره: فَقَالَ النُّعْمَانُ:.. وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ.قال الحافظ في الفتح: (تهب الأرواح) جمع ريح. قوله: (وتحضر الصلوات) في رواية ابن أبي شيبة (وتزول الشمس) وهو بالمعنى.وقال في آخره: وفي الحديث:
…
وفضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله.. ولا يعارضه ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير صباحا لأن هذا عند المصاففة وذاك عند الغارة. اهـ.
أي هو مظنة لنزول النصر حيث نزل النصر عند هبوب الريح يوم الأحزاب.
ـ ويستحب للإمام أن يورّي في غزوة بغيرها. فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها (1) .فإذا أراد الشمال سأل عن الجنوب وطرقها وأوديتها وآبارها وغير ذلك وهو يريد الشمال ليكون قتاله لعدوه في الشمال على حين غرة منه من غير أن يكون عن استعداد لأن العدو يكون له عيون في البلد وقد يُخرج الخبرَ المسلم الغِرّ فكانت التورية فيها مصلحة ظاهرة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وله أن ينفل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده] .
النفل: هو الزيادة على سهم القسمة. فالمقاتل في سبيل الله له نصيب من القسمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وهنا للإمام أن يعطي زيادة على القسمة المقررة للمقاتل، فله أن ينفل بالربع بعد الخمس وله أن ينفل الثلث بعد الخمس.
بيان هذا:
إذا غزا الجيش في سبيل الله فتقدمت سرايا من سرايا المسلمين فأصابت غنيمة، فإذا أخرج الخمس أعطيت هذه السرية الربع زيادة على سهمها الأصلي في القسمة ثم يكون لها سهمها في القسمة،هذا في البدء.
(1) ـ في الصحيحين في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه لتخلفهما عن غزوة تبوك. (فتح: 4418 ، م: 2769) وزاد (د) وكان يقول ـ أي صلى الله عليه وسلم: " الحرب خدعة ". وصححه الألباني (د 637) وهي عندهما من غير طريق كعب رضي الله عنه.
وأما في الرجعة فله أن ينفل السرية الثلث بعد الخمس، بمعنى إذا قفل الجيش راجعا من القتال فذهبت سرية تقاتل بأمر الإمام فأصابت غنيمة فإنه يخرج أولا من هذه الغنيمة الخمس ثم يعطي هذه السرية ثلث الباقي زيادة على سهمها الأصلي من الغنيمة. واختلفت العطيتان لاختلاف الداعي فيهما إلى الإعطاء لأن هذه السرية في البدء والجيش وراءها فهو ظهر لها، وأما في الرجعة فإن الجيش راجع إلى البلاد الإسلامية وهم قد أوغلوا في بلاد الكفار ولاظهر لهم فكان للإمام أن يعطي أكثر مما يعطيهم في البدء.ولأن الرجعة يقع فيها من الكسل ما لايقع في البدء فإنهم في الرجعة يكونون في شوق إلى بلدانهم وأهليهم فيكون في ذلك مشقة أكثر من المشقة التي تكون عليهم في البدء فلذا كان للإمام أن يعطيهم الثلث وليس هذا واجبا لها وهو للإمام.
الدليل:
ودليل هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح في حديث حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ يَقُولُ: (شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ (1)
وفي رواية بعد الخمس (2) .
فيجوز للإمام أن ينفل السرية في البدأة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] .
يلزم الجيش طاعة قائد الجيش أو أميره.
الأدلة على لزوم طاعة أمير الجيش:
1 ـ قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي ألأمر منكم] .
(1) ـ (د: 2370) ك: الجهاد. ب: فيمن قال الخمس قبل النفل.
(2)
ـ عند (حم 16820) عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ وَنَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ.
2 ـ وفي الصحيحين عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:} مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي { (1) .
3 ـ وقد أجمع سلف الأمة كما ذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية على وجوب طاعة أمير الجيش في مواضع الاجتهاد وأن الرأي يترك لرأيه، وبيّن رحمه الله أن مصلحة الائتلاف والجماعة ومفسدة الاختلاف والفرقة أعظم من مسائل جزئية فلا شك أن المصلحة العامة الحاصلة بالجماعة والائتلاف والمفسدة الناتجة عن الفرقة والاختلاف لا تقابل بمسألة جزئية يقع الاجتهاد فيها.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والصبر معه] .
قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا] فيجب على من معه من المسلمين أن يصبروا معه وألا يخذلوه فإن في ذلك إضعافا للمسلمين وكسرا لهم كما أن فيه قوة للكفار وإظهارا لهم.
* مسألة: التجنيد السنوي:
واعلم أن المشهور عند الحنابلة والشافعية ـ وهي من المسائل التي محلها الدرس الأول لكن نذكرها هنا لوجود شيء من المناسبة بينها وبين هذه المسألة ـ أن الإمام الأعظم يجب عليه أن يجند المسلمين للجهاد في كل عام مرة.
دليلهم:
فقد تقدم أن الجهاد فرض كفاية. قالوا: فيجب في كل سنة مرة.
قالوا: لأن الجزية تجب في كل سنة مرة، وهي بدل عن القتال فكان القتال واجبا في كل سنة مرة.
المناقشة:
ولايخفى بعد هذا النظر وعدم الارتباط بين هاتين المسألتين.
واختاره في المقنع.
(1) ـ (فتح: 2957، م: 1835) واللفظ لمسلم.
فالأظهر: أن الجهاد في سبيل الله يجب بقدر ما تقع به المصلحة للمسلمين وبقدر ما يحصل به للمسلمين من العلو والظهور ولدينه من العلو والظهور ولدينه أيضا من الحجة والبيان فيجب الجهاد بقدر حصول ذلك. ولا شك أن هذا يختلف من زمان إلى زمان.
فإذا ابتدأت الأمة الإسلامية حياتها من جديد فلا شك أنها تحتاج إلى جهاد طويل متكرر في السنة مرات حتى تستعيد مجدها وظهورها في الأرض.
بخلاف ما إذا كان لها سلطان ظاهر وقوة ظاهرة في الأرض فإنها قد لا تحتاج إلى الجهاد في السنة بل ربما مضت السنة والسنتان والثلاث من غير أن يحتاجوا إلى قتال وجهاد عام.
فالمقصود من ذلك أن فرض الكفاية يجب بقدر الحاجة وبقدر ما يحصل به المقصود ومن ذلك الجهاد في سبيل الله.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] .
لا يجوز للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله وأن يقاتلوا الكفار إلا بإذن الإمام.
الدليل:
وذلك لأن هذه المهمة موكولة إليه ففعلها دون إذنه افتيات عليه فهي مهمته وهو موكول بها فإن قام بها أجر وإن ترك أثم.
أما أن يقوم طائفة من الأمة بالجهاد بغير إذنه فإن ذلك غير جائز لما فيه من الافتيات عليه.
ولأن ذلك ذريعة إلى شق عصا الطاعة فقد يدّعي طائفة من الطوائف بأنها قد اجتمعت للقتال في سبيل الله وتعدّ لذلك العدة والعدد فتكون في الظاهر مقاتلة في سبيل الله وهي في الباطن خارجة عن طاعة الإمام شاقة لعصا الطاعة فلهذا وذاك لا يجوز أن تقاتل طائفة إلا بإذن الإمام.
واستثنى المؤلف ما إذا فجأ المسلمين عدو فحينئذ لايجب عليهم أن يستأذنوا الإمام وذلك لتعذر استئذانه حينئذ، ولو تمكن من الاستئذان فإنه تمكنهم يكون بعد فوات المقصود أو كثير منه فلذا إن فاجأهم عدو فلهم أن يقاتلوا من غير أن يستأذنوا السلطان وذلك لتعذر استئذانه في الغالب ولأنهم لو تمكنوا منه فالغالب أن يكون تمكنا بعد فوات المقصود وربما كان هذا بعد استيلاء الكفار على البلاد الإسلامية.
* لذا قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه (1) ] .
وهنا مسائل:
* المسألة الأولى: في جواز تبييت الكفار
وتبييت الكفار: بأن يغير المسلمون عليهم ليلا على حين غفلة منهم.
وما يقع من قتل للنساء والذرية حينئذ؛ فما يكون على غير وجه التعمد لا حرج على المسلمين فيه.
الدليل:
ماثبت في الصحيحين: عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنهم قَالَ: (مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ:} هُمْ مِنْهُمْ {)(2)
* ومثل ذلك:
لو تترس الكفار بالنساء والذرية فللمصلحة ودرء المفسدة يجوز للمسلمين أن يرموا هؤلاء الكفار وإن أصابوا من تترس به من النساء والذرية.
وأما قتل النساء والذرية على وجه التعمد فلا يجوز.
1 ـ فقد ثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ: (أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَان ِ)(3) .
(1) ـ كلبه بفتح اللام أي شرّه وأذاه.
(2)
ـ (فتح: 3013، م: 1745) .
(3)
ـ (فتح: 3014، م: 1744) .
2ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث بريدة رضي الله عنه وتقدم سياق أوله وفيه:} ولا تقتلوا وليدا { (1) .
والعلة في نهي الشارع عن قتل النساء والذرية مع مافي الشريعة من الرأفة والرحمة أن النساء والذرية لا يقاتلون فلم يقابلوا بالقتل.
فقد ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ عن رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ:} انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ {فَجَاءَ فَقَالَ: (عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ) . فَقَالَ:} مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ {قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ قُلْ لِخَالِدٍ:} لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا {) (2)
أي أنها: لِمَ تُقتل؟! فإنها لم تكن لتقاتل.
ولذا يقاس على النساء والذرية كل من لا يقاتل من الكفار كالرهبان والشيوخ الهرمين والزمنى وغيرهم ممن لا يمكنهم القتال.
فكل من لا يقاتل المسلمين من راهب أو شيخ فان أو مريض شديد المرض عاجز عن القتال فإنه لا يقتل لقوله صلى الله عليه وسلم:} ما كانت هذه لتقاتل {فدل على أن كل من لا يقاتل لا يُقتل.
ـ ودل هذا الحديث على أن هؤلاء إن قاتلوا فإنهم يُقتلون فالمرأة أو الصبيان إن رفعوا السيف وقاتلوا فإنهم يُقتلون.
ومثل ذلك أيضا من كان لهم رأي ومكيدة في الحرب كما يقع هذا للشيوخ أو غيرهم.
* والمسألة الثانية: في جواز نصب النجنيق
(1) ـ سبق تخريجه وهو في مسلم (م 1731) .
(2)
ـ (د: 2295) ك: الجهاد. ب: في قتل النساء.
فقد روى أبو داود في مراسيله عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق في الطائف (1) .
وروى البيهقي أنّ عمرو بن العاص نصب المنجنيق في الإسكندرية (2) .
وعليه عمل المسلمين في قتالهم.
والأثر المتقدم وإن كان مرسلا لكن عليه العمل وهو مذهب جماهير العلماء.
ويشبهه القنابل الموجودة في زماننا فهي شبيهة بالمنجنيق فلا بأس برميها على الكفار.
تنبيه:
أما ما يكون إحراقا لهم يشبه هذه القنابل الذرية التي تحدث إحراقا عاما أو أن يكون إحراقا عاديا بالنار فإن ذلك لا يجوز.
الدليل:
ما ثبت في البخاري أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه ُ ـ حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: (لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:} لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ {وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:} مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ {)(3)
فالنار عذاب الله ولا يجوز للمسلمين أن يعذبوا بعذاب الله.
(1) ـ (المراسيل لأبي داود: صلى الله عليه وسلم 248) قال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال الصحيحين غير ابن يزيد الكلاعي فإنه من رجال البخاري. ثم أورد أبو داود أثرا عن الأوزاعي أنه سأل يحيى بن سعيد عن ذلك فأنكره.وأشار ابن حجر أن العقيلي وصله في الضعفاء في ترجمة عبد الله بن خراش بن حوشب (2 / 797) غير أن العقيلي قال في طرق خبر المنجنيق في ترجمة المذكور: كلها غير محفوظة ولا يتابعه عليها الا من هو دونه أو مثله.
(2)
ـ (هق: 9 / 84) ط. دار الباز بمكة. تحقيق محمد عبد القادر عطا. أورده عن الشافعي في القديم. وأورده كذلك الهيثمي في زوائد مسند الحارث (2 / 684) .
(3)
ـ (فتح: 3017) ك: الجهاد والسير ب: لا يعذب بعذاب الله.
لكن إن لم يكن الاقتدار على الكفار إلا بذلك أي بالنار ونحوها فإن ذلك جائز باتفاق أهل العلم لمصلحة الأمة، وهي مصلحة عامة وفيها درء المفاسد عنهم من تسلط الكفار وغيرهم.
* المسألة الثالثة: في ثبوت الرق على النساء والذرية.
اعلم أن النساء والذرية وإن أصابهم المسلمون بسبي فإنهم يثبت عليهم الرق بمجرد سبيهم.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ـأن رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ قَالَ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ)(1)
وثبت في الصحيحين ـ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. (2)
فبمجرد ما يحصل السبي للنساء أو الذرية ـ والذرية هم غير البالغين من الذكور والإناث ـ يحصل حينئذٍ عليهم الرقّ.
* ومثل ذلك من لايُقتل كالرهبان وغيرهم ممن لايقاتل المسلمين فبمجرد ما يحصل له السبي يحصل حينئذٍ التملك على رقبته فيكون رقيقا حيث يكون من جنس الغنيمة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سبى قوما أوقع الرق عليهم كما تقدم في سبيه نساء بني المصطلق وكانت منهنّ جويرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
* المسألة الرابعة: خصال المقاتلة.
أما المقاتلة فالإمام مخير بين خصال أربع:
الخصلة الأولى: القتل.
(1) ـ (فتح: 4122) ك: المغازي. ب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب. (م: 1769) .
(2)
ـ (فتح: 2541) ك: العتق. ب: من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع وجامع. (م: 1730) .
ـ لقوله تعالى: [فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب]
2 ـ وروى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة صبرا (1) .
الخصلة الثانية: المنّ. أي أن يطلق من غير مال.
الخصلة الثالثة: الفداء. أي يفدي نفسه بمال. قال تعالى: [فإما منّا بعد وإما فداء]
الخصلة الرابعة: الاسترقاق. أي أن يكون رقيقا.
وقد اتفق العلماء على ثبوت الرقّ على أهل الكتاب.
* مسألة: في ثبوت الخصال الأربع لعبدة الأوثان
واختلفوا في عبدة الأوثان، هل هناك خيار رابع في حقهم أم أنه ليس هناك إلا ثلاث خصال.
القول الأول:
وهو المشهور عند الحنابلة ألا استرقاق في غير أهل الكتاب والمجوس.
القول الثاني:
وهو قول الشافعية ورواية عن الإمام أحمد أن الرق يقع عليهم كغيرهم من عبدة الأوثان إذ لا فرق بين الكفار فيما يثبت من الأحكام إلا أن يدل دليل على تخصيص طائفة منهم بحكم.
قالوا: ولا دليل يصار إليه في هذه المسألة.
وهذا القول فيه قوة ـ والله أعلم ـ.
فتقع الخصال الأربعة على عامة الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم فيخير الإمام بين أربع الخصال كما تقدم.
وهذا التخيير للإمام ليس على وجه التشهي ولكن على وجه المصلحة العامة. فإن ثبت له أن المصلحة في القتل قتل، وإن ثبت له أن المصلحة في المنّ منّ، وإن رأى أن المصلحة في الفداء فدى، وإن رأى أن المصلحة في الاسترقاق فعل ذلك.
* مسألة: إسلام الأسير:
فإذا أسلم الأسير فلا يجوز قتله.
وهل يثبت عليه الرق أم يبقى للإمام الخيار في الخصال الثلاث؟ أي هل بمجرد إسلامه يكون رقيقا؟ أم يبقى الخيار السابق لكن تسقط خصلة وهي خصلة القتل؟
القول الأول:
(1) ـ (المراسيل: صحفة: 249) قال المحقق الأرنؤوط: فيه زياد بن أيوب ـ شيخ أبي داود فيه ـ من رجال مسلم ومن فوقه من رجال الشيخين.وانظر الإرواء: [1214] .
قالت الحنابلة بمجرد ما يسلم الأسير فإنه يكون رقيقا وليس للإمام أن يمنّ عليه وليس له أن يقبل منه الفداء.
قالوا: لأنه لا يجوز قتله فأشبه النساء. فكما أن النساء لا يجوز قتلهنّ فتعين فيهن الرق فكذلك الأسير إذا أسلم يتعين فيه الرق للمنع من قتله قياسا على النساء والذرية ومن يمنع قتلهم
القول الثاني:
قالت الشافعية: بل يبقى التخيير لأن تخيير الإمام بين الفداء والمنّ ثابت مع كفره فثبوت ذلك مع إسلامه أولى، فالمسلم أولى أن يمنّ عليه أو يقبل منه فداء من الكافر. وكونه يمنع من قتله ليس هذا للمعنى الموجود في النساء وإنما لثبوت إسلامه.
الترجيح:
وما ذكروه أظهر، من أن الكافر إذا أسلم وهو أسير عند المسلمين فإن الإمام يخير بين ثلاث خصال إن شاء جعله رقيقا وإن شاء قبل فيه المال فدية وإن شاء منّ عليه هذا كله تحت خيار الإمام على حسب المصلحة التي يراها.
* مسألة: هل يصدق الأسير في ادّعاء الإسلام؟
فإن ذلك لا يقبل منه حتى يأتي ببينة لأن الظاهر خلاف قوله. وقد تعلق برقبته حق الرقّ فلم يسقط هذا الحق بمجرد دعواه، فإن رقبته قد تعلق بها حق الرق أو حق الفداء الذي قد يختاره الإمام فتعلق هذا الحق برقبته يمنع من قبول دعواه إلا أن يأتي ببينة.
* مسألة: هل يقتل آحاد المسلمين الأسير؟
وإذا أسر مسلم كافرا فليس له أن يقتله إلا أن يضطره إلى ذلك كأن يدافعه الكافر أو يخشى صولة الكفار فينالوا أسيرهم أو أن يأبى هذا الكافر السير معه أو نحو ذلك مما يكون داعيا لقتله. أما إن لم يكن هناك داع لقتله فليس له أن يقتله. وذلك لأنه بمجرد أسره تعلق به حق الإمام فإن شاء الإمام قتل أو منّ أو قبل الفداء وإن شاء أوقع عليه الرق، فقتْله تفويت لحق الإمام فيه فلم يجز له ذلك.
* مسألة: في من قتل شيوخ المشركين.
عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:} اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ { (1)
هنا قسمة ثنائية فقسمهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيوخ وشرخ والشرخ هم غير البالغين فدل على أن المراد بالشيوخ هم البالغون فيكون هذا من باب التغليب ولأن الشيوخ يقاتلون ونحن ـ إذ استثنيناه من القتل سابقا ـ إنما قيدناه بالشيخ الهرم الذي لايقاتل أما الشيخ فإنه يقاتل وله رأي ومكيدة في الحرب.
* مسألة: في تترس المشركين بأسرانا
ـ إذا تترس المشركون بأسرى مسلمين فهل يجوز أن يرموا؟
الجواب:
لا يجوز لعصمة دماء هؤلاء المسلمين إلا أن تترتب مصلحة ظاهرة جدا وتترتب على عدم رمي الكفار مفسدة ظاهرة ويُخشى أن يقع في المسلمين من القتل إن لم يقوموا بهذا أكثر مما يقع من القتل لهؤلاء الأسرى الذين هم وهم تحت أيدي العدو مظنة القتل.
فعلى ذلك: يُنظر إن كانت هناك مفسدة أكبر فإن المفسدة الصغرى تتلاشى مع وجود المفسدة الكبرى.
* مسألة: في الإغارة قبل الدعوة
ـ هل للإمام أن يُغِير قبل أن يدعوهم؟
الجواب:
ليس للإمام أن يغير قبل أن يدعوهم وهذا شرط تُقيّد به المسألة السابقة.
فيقال: يجوز للإمام أن يغير على الأعداء ويبغتهم بشرط وهو: أن يكون قد دعاهم إلى الله عزوجل لقوله تعالى: [وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا] ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة السابق وقد ذكر دعوتهم إلى الله قال:} فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم { (2) فلا تقاتل طائفة من الكفار حتى تدعى إلى الله وتقام عليها الحجة. لقوله تعالى: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] فليس للأمة أن تقاتل حتى تبين لهم الحق فإن أبوا فإنهم يقاتلون.
(1) ـ (د: 2296) ك: الجهاد. ب: قتل النساء.
(2)
ـ سبق تخريجه وهو في (م: 1731) .
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] .
إذا اقتتل المسلمون والكفار ووضعت الحرب أوزارها وانتهت الوقعة فإن هذه الغنائم يملكها الغانمون وإن كانت الغنائم لم تحز لدار الإسلام وإن كانت لم تقسم فهي ملك لهم.
وعليه: فإن مات بعض الغزاة فالحق من بعده لورثته في الغنيمة.
قالوا: لأنه بانتهاء الحرب وغلبة المسلمين تكون الغنائم قد زالت ملكية الكفار عنها ووقعت تحت أيدي المسلمين فكانت ملكا لهؤلاء الغزاة.
هذا هو المشهور عند الحنابلة.
القول الثاني:
لاتملك حتى تقسم، هذا إن كانت لم تحز إلى ديار الإسلام. أما إن حيزت فإنها تملك بمجرد حوزها وإن لم تقسم.
إذن شرط القسمة أن تكون الغنائم في دار الحرب.
القول الثالث:
وأطلق ابن القيم فقال: بل تشترط القسمة مطلقا سواء كانت في دار الحرب أو في دار الإسلام
فلا تملك الغنيمة إلا بقسمتها مطلقا وهذا هو أصح الأقوال.
الدليل:
ودليل ذلك ما ثبت في البخاري (1) أن وفد هوازن قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أموالهم ونساءهم وذراريهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:} إني كنت قد استأنيت لكم {أي أمهلت وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم انتظرهم بعد قفوله من الطائف تسع عشرة ليلة.
(استأنيت لكم) أي تمهلت فلم أقسمها لعلكم ترجعون فتأخذون نساءكم وذراريكم وأموالكم وأما الآن وقد قسمت فلا.
فدل هذا على أن الغنيمة إنما تملك بعد القسمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمهل هوازن بعد انتهاء الحرب وبعد أن حيزت إلى البلاد الإسلامية لم يقسمها فهذا دليل ظاهر للمسألة.
وعلى ذلك: إن مات قبل أن يقسم سواء كانت الغنيمة في ديار الحرب أو في ديار الإسلام فإن الإرث لا يثبت لعدم الملكية.
والغنيمة: هي ما أخذ من مال الحرب قهرا بالقتال.
مصارف الغنيمة
(1) ـ (فتح: 2308، 2540، 2608، 3132، 4319) .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] .
فالغنيمة لمن شهد الوقعة من أهل القتال فقد ثبت في البخاري (1) أن أبان بن سعيد بن العاص قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد خيبر وقد قسّمت فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقسم لي) فقال:} اجلس {ولم يقسم له.
وثبت في مصنف عبد الرزاق بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة)(2)
(1) ـ (فتح: 4238) .
(2)
ـ (عب: 7 / 268) وقال الحافظ في التلخيص الحبير: (3 / 219) : {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يُعْرَفُ مَوْقُوفًا كَمَا سَيَأْتِي ، لَكِنْ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَبِي مُوسَى {أَنَّهُ لَمَّا وَافَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ - أَيْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ ، أَسْهَمَ لَهُمْ مَعَ مَنْ شَهِدَهَا ، وَأَسْهَمَ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا غَيْرَهُمْ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ ، فَقَدِمَ أَبَانُ بَعْدَ خَيْبَرَ ، فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد.
وَأَمَّا لَفْظُ: {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} . فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: نَا وَكِيعٌ: نَا شُعْبَةُ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْأَحْمَسِيِّ ، أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ. . . فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَكَتَبَ عُمَرُ:" إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ". وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ ، مَرْفُوعًا ، وَمَوْقُوفًا ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ بُخْتُرِيِّ بْنِ مُخْتَارٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا.
فمن لم يشهدها فلا حظ له منها، لكن من لم يشهدها لمصلحة الجيش كالعين والرسول والدليل ونحوه فإنه يقسم له.
دلّ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم لعثمان بن عفان رضي الله عنه وكان قد جلس في المدينة عند النساء.
* فرع:
هل يسهم للمرأة؟
وهي لأهل القتال، فعليه المرأة لا سهم لها، لأنها ليست من أهل القتال.
وقد ثبت في مسلم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين ـ أي يعطين من الغنيمة ـ أما سهم فلم يضرب لهنّ)(1)
(1) ـ (م: 1812) وهذا لفظه: عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ أَمَّا بَعْدُ فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ وَعَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ فَلَا تَقْتُلْ الصِّبْيَانَ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النَّاسُ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ هُوَ لَنَا فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ.
أي يعطين من الغنيمة شيئا دون السهم وهو مايسمى بالرضخ أي يرضخ لهن شيء من الغنيمة دون السهم لشهودهنّ القتال.
* فرع:
هل يُسهم للعبد؟
ومثل ذلك العبد فهو لايجب عليه القتال فليس في الأصل من أهله وعليه فإنه لا يعطى سهما بل يرضخ له. لذا ثبت في سنن أبي داود أن عميرا قَالَ: (شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ) قَالَ أَبُو دَاوُد: (مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ)(1)
أي من متاع الميت فلم يسهم له النبي صلى الله عليه وسلم.
* فرع:
هل يُسهم للكافر المشارك.
ـ ومثل ذلك الكافر فإن شهد الوقعة مع المسلمين فإنه يرضخ له ولا يعطى سهما كما يعطى الغزاة المسلمون. وذلك قياسا على العبد:فكما أن العبد مع قتاله لا يعطى إلا رضخا لأنه ليس من أهل القتال فكذلك الكافر هذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور.
القول الثاني:
وهو المشهور في المذهب أن الكافر يسهم له، فيُعطى سهمها من القسمة.
واستدلوا: بما رواه سعيد بن منصور في سننه أن صفوان بن أمية شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين وهو على شركه فأسهم له.
الترجيح:
فأصح القولين هو ماذهب إليه الجمهور وهو أحد الوجهين في المذهب: أن الكافر إذا شهد الوقعة فإنه لا يسهم له.
* فرع:
…
هل يُسهم للصبي؟
ومثل ذلك الصبي فإن الصبي يرضخ له ولا يسهم له.
الدليل:
(1) ـ (د:2354) ك: الجهاد. ب: في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة. (حم: 20935، ت: 1478، جه: 2846) .
1 ـ يدل على ذلك ما ذكره صاحب الغني وعزاه إلى الجوزجاني وأن الجوزجاني رواه بإسناده وقال فيه: (من مشهور حديث مصر وجيده) فقد جوّد سنده أن تميم بن فٍرَع (1) كان من الجيش الذين فتحوا الإسكندرية مع عمرو بن العاص رضي الله عنه فلم يعطه من الغنيمة شيئا وقال: (غلام لم يحتلم) وكان في القوم أبو نضرة الغفاري وعقبة بن عامر رضي الله عنهما فقالا: (انظروا فإن أشعر ـ أي نبت شعر عانته ـ فاقسموا له)(2)
فهذا قول عمرو بن العاص وأبي نضرة الغفاري وعقبة بن عامر رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف.
2 ـ وكذلك بالقياس على المرأة بجامع أنهما ليسا من أهل القتال
* مسألة: الاستعانة بالمشركين في القتال.
وفيها ثلاثة أقوال:
القول الأول:
وهو المشهور في المذهب: أن الكافر لا يستعان به في القتال في سبيل الله.
الدليل:
(1) ـ الإكمال لابن ماكولا (7 / 51) .
(2)
ـ رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3 / 217) .
ما ثبت في الصحيحين (1) : عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لَا قَالَ:} فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ {قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلِقْ (2)
القول الثاني:
وعن الإمام أحمد أنه يجوز أن يستعان بالمشرك.
الدليل:
ما تقدم من حديث صفوان بن أمية وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان به وكان على شركه وأسهم له.
لكن تقدم أن الحديث مرسل ضعيف (3) .
القول الثالث:
وقال الشافعي وهو ظاهر كلام الخرقي: أنه يجوز عند الحاجة.
الترجيح:
والقول الثالث أظهر الأقوال.
(1) ـ لم أجده في البخاري.
(2)
ـ (م: 1817) ك: الجهاد والسير. ب: كراهية الاستعانة في الغزو بكافر.
(3)
ـ تقدم تخريجه فيهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم:} فارجع فلن أستعين بمشرك {هذا حين لم تكن المصحلة ظاهرة في الاستعانة به وأما إذا كانت المصلحة ظاهرة في الاستعانة به وأمن شره فإن الاستعانة به جائزة لا حرج فيها جلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة.
* وأما عند الضرورة فلا إشكال في جوازه فإن المحرمات تباح عند الضرورة إليها.
إذن: الغنيمة تقسم أسهمها على الغزاة إذا كانوا من أهل القتال، أما إذا لم يكونوا من أهل القتال فلا يعطون أسهما، وإنما يرضخ لهم رضخا أي يعطون شيئا من الغنيمة يقدره الإمام لهم باجتهاده لكن يكون دون أسهم الغزاة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ثم يقسّم باقي الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له وسهمان لفرسه] .
فإذا حضرت القسمة بين يدي الإمام. فقبل الخمس يخرج السلب.
والسّلَب: ما يحصله القاتل من مقتوله من أدوات الحرب من مركوب ورحل وسلاح.
فيخرج أولا.
الدليل:
ما ثبت في الصحيحن (1) من حديث سلمة بن الأكوع قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَوَازِنَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَل أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ قَالَ سَلَمَةُ وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ:} مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ {قَالُوا
(1) ـ (فتح: 3051) ولفظه: عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلَهُ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ وهو مختصر جدا عن الذي عند مسلم حتى قال الشيخ الألباني ـ بعد إيراده لفظ مسلم ـ وأما لفظ البخاري فهو أبعد عن هذا بكثير. (الإرواء: 5 / 55) .
: (ابْنُ الْأَكْوَعِ) قَالَ:} لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ (1) {
وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّسْ السَّلَبَ (2)
ـ ويخرج أيضا قبل الخمس: ما تحتاج إليه الغنيمة من أجرة لحملها وحفظها.
* مسألة: هل يخرج الرضخ المتقدم قبل الخمس أم بعده؟
قولان لأهل العلم هما وجهان في مذهب أحمد والشافعي.
القول الأول:
أن الرضخ يخرج قبل أن تخمس الغنيمة.
قياسا على أجرة الحامل والحافظ للغنيمة.
القول الثاني:
أن الرضخ يخرج بعد الخمس.
قالوا: لأنه أخذ بسبب حضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين.
الترجيح:
والقول الثاني أقيس وهو أن الرضخ لا يخرج إلا بعد الخمس لأنه قد أخذ بسبب شهود الوقعة فأشبه سهام الغانمين.
إذن: إذا حضرت القسمة فيخرج منها ما يحتاج إليه من أجرة حامل وحافظ ونحو ذلك.
ثم يخرج منها السلب فلايخمس. ثم تخمس الغنيمة فيخرج خمسها.قال الله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل]
* قوله [فأن لله خمسه] : ليس لله عزوجل سهم، وإنما المراد: أن هذا الخمس يصرف فيما يرضي الله تعالى. وليس المراد أن هناك سهم لله عزوجل ـ كما قال بعض العلماء ـ يصرف إلى الكعبة أو غيرها.
ودليل ذلك:
ماثبت في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المغنم فقال:} لله خمسه وأربعة أخماسه للجيش {
(1) ـ (م: 1754) ك: الجهاد والسير. ب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(2)
ـ (د: 2345) ك: الجهاد. ب: في السلب لا يخمس.
وثبت في سنن أبي داود عن عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ رضي الله عنه قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ:} وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ { (1)
والوبر هو ما يقابل الشعر من الغنم ونحوه.
إذن: الخمس لله والرسول أي فيما يرضي الله تعالى وهو بيد الرسول صلى الله عليه وسلم يصرفه فيما يراه من المصالح وكذلك هو بأيدي خلفائه من بعده يصرفونه فيما يرونه من المصالح هذا هو الخمس الأول (خمس الرسول) .
إذن: هو لله لأنه يدفع فيما يرضي الله تعالى، وهو للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه تحت يد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو السهم الأول: تحت يده يصرفه في مصالح المسلمين.
السهم الثاني:لذوي القربى.
أي لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم: بنو هاشم بنو المطلب.
السهم الثالث: لليتامى.
السهم الرابع:للمساكين.
السهم الخامس:لابن السبيل.
فهذه خمسة أخماس. يقسم خمس الغنيمة إلى خمسة أخماس؛ سهم يكون بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده فيصرفونه في مصالح المسلمين هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية وهو أن الغنيمة تخمس خمسة أخماس لكل صنف من هذه الأصناف الخمسة نصيبه.
القول الثاني:
ومال الإمام مالك إلى أن يعطى بعض ذوي القربى حقهم منه والباقي يصرفه الإمام فيما يراه من المصالح سواء أنال اليتامى والمساكين وابن السبيل منه نصيب أم لم ينلهم.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم.
الدليل:
(1) ـ (د: 2374) ك: الجهاد. ب: في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه.
قالوا: لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه من بعده هذه القسمة، ولو كان ذلك ثابتا لنقل نقلا بينا، فهو ما تقوى الهمم وتقوى الدواعي على نقله.
قالوا: ولأن الزكاة قد وجبت في الأصناف الثمانية ولو صرفت لصنف واحد لأجزأت فكذلك هنا.
الترجيح:
وهذا هو الراجح.
فالخمس يوضع في يد الإمام فيعطى ذوي القربى حقهم منه ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
* مسألة: كيفية توزيع سهم ذوي القربى
وفيها قولان:
القول الأول:
أن ذوي القربى يعطون منه ـ في المشهور من المذهب ـ للذكر مثل حظ الأنثيين.
قالوا: لأنه نيل بسبب الأب فأشبه الإرث؛ فإن بني هاشم نالوه بسبب هاشم وبني المطلب نالوه بسبب المطلب.
القول الثاني:
وهو رواية عن الإمام أحمد أنهم يعطون بالسوية لا يفرق بين ذكر وأنثى ولا صغير ولاكبير.
قالوا: لأن الله قد أمرنا بإعطائهم وليس هذا على سبيل الإرث بدليل عدم ثبوت الحجب فيه فإن الابن يأخذ مع وجود أبيه.
ثم إن سببه هو القرابة والنصرة في بني هاشم، والنصرة في بني المطلب.
القول الثالث:
أنهم يعطون بقدر الحاجة وبحسب ما يراه الإمام سواء كان بالتفضيل أو بالسوية.
وهو مذهب مالك.
الترجيح:
والقول الثالث هو الراجح في هذه المسألة وهو اختيار ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ فيعطون على مايراه الإمام، ويعطون قدر حاجاتهم، فيعطى الفقير أكثر من الغني، ويعطى الغني الذي هو صاحب كرم ويجتمع الناس حوله أكثر مما سواه وهكذا..
فهو شامل لفقيرهم وغنيهم.
الدليل:
1 ـ ما ثبت في البخاري والنسائي عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتَنَا فَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (1) . فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءا يسألانه من الفيء لم يعتذر لهما بكونهما أغنياء وإنما اعتذر لهما بأنهما ليسا من بني المطلب وبني هاشم.
فدل على أن للغني نصيبه في الغنيمة ثابت كالفقير.
2 ـ وللإطلاق في الآية، فإنها مطلقة لم تقيد سهم ذوي القربى بالفقراء دون الأغنياء.
هذا هو الخمس.
ـ إذن: إذا أخرج الإمام الخمس فحينئذ يقسم الغنيمة ويخرج منها النفل فإن النفل يخرج بعد الخمس كما تقدم هذا في نفل النبي صلى الله عليه وسلم الربع بعد الخمس والثلث بعده.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود ـ بسند صحيح ـ من حديث معن بن يزيد رضي الله عنه قال سمعت:} لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُس ِ { (2)
(1) ـ (ن: 4068) كتاب: الفيء. باب. وأصله في البخاري بأخصر من ذلك. (فتح 3140،3503، 4229، 4068، د 2585، جه: 2872)
(2)
ـ (د: 2273، حم: 15301) .
فالنفل: هو ما يعطيه الإمام لبعض الغزاة زيادة عن سهمهم.إما لتقدم سرية من السرايا، أو لحسن بلائه وشدة بأسه بالكفار كما أعطى سلمة بن الأكوع سهم الراجل وسهم الفارس كما ثبت في صحيح مسلم (1) .
ثم يقسم الغنيمة للراجل أي للماشي على رجليه ومثله الراكب على بعير ونحوه يعطى سهما.
والفارس وهو الراكب فرسا يعطى ثلاثة أسهم؛ سهما له وسهمين لفرسه.
وذلك لما للفرس من مكانة في العدو.
الدليل:
ماثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا) . قَالَ: (فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ)(2)
وفي سنن أبي داود (3) للفارس ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهم له؟
* فرع:
…
في سهم الفارس الهجين.
ـ وهل هو في كل فرس سواء كان عربيا أم هجينا؟
قال جمهور العلماء:
نعم، سواء كان الفرس هجينا وهو غير العربي أو كان عربيا فإن للفرس سهمين.
لعموم الحديث.
(1) ـ (م: 1807) ك: الجهاد والسير. ب: غزوة ذي قرد وغيرها.
(2)
فتح: 4228) ك: الجهاد. ب: خيبر. (م: 1762) .
(3)
ـ الذي في (د 2358) ك: الجهاد. ب:في سُهمان الخيل. قال أَبُوعَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ مِنَّا سَهْمًا وَأَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ زَادَ فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ.
القول الثاني:
وقال الحنابلة في المشهور عندهم:الفرس الهجين أو البرذون له سهم واحد لاسهمان.
الدليل:
واستدلوا بما رواه أبوداود في مراسيله بإسناد صحيح عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين والهجين سهما (1) .
وله شاهد مرسل من حديث خالد بن معدان في مراسيل أبي دواد (2) وله شاهد عن ابن عباس كما في المجمع. وعليه فالحديث حسن إن شاء الله تعالى. وبه يترجح ما قال الحنابلة لأن الفرس العربي أقوى وأعظم نكاية في العدو من الفرس الهجين.
القول الثالث:
وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الفرس الهجين إذا عمل بعمل الفرس العربي فإن له سهمين
وهذا قول قوي ظاهر لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
إذن الفرس الهجين له سهم، لكن إن عمل كما يعمل الفرس العربي وكان فيه نكاية ظاهرة في العدو فإن له سهمين لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
ـ هذا إذا كان الفرس قادرا على القتال قويا.
أما إذا كان مريضا فإنه لا سهم له لأن السهم إنما أعطي لنكايته في العدو أما إن كان مجرد مركوب ولا نكاية له في العدو فإنه لا فرق بينه وبين الجمل فحينئذ لا يسهم له شيء.
* فرع:
(1) ـ (مراسيل أبي داود: ص 227) 287 حدثنا أحمد بن حنبل أن عبد الرحمن بن مهدي وحماد بن خالد وزيد بن الحباب حدثوهم المعنى عن معاوية بن صالح عن أبي بشر عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر وعرب العربي للعربي سهماه وللهجين سهم) ط. مؤسسة الرسالة. تحقيق شعيب الأرنؤوط. ونقل عن العجلي توثيقه لأبي بشر التابعي.وذكرأن الشافعي رواه في الأم والبيهقي.
(2)
ـ (مراسيل أبي داود: ص 226) 286 حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا محمد بن عبد الله الشعيثي عن خالد بن معدان قال: (أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للعربي سهمين وللهجين سهما) قال المحقق: الشعيثي: صدوق وباقي رجاله رجال الشيخين.
…
في ما يُسهم للفرسين فأكثر.
إذا شارك بأكثر من فرس فهل يسهم لهما؟ فيها قولان:
القول الأول:
قالت الحنابلة: إن كان له فرسان فله أربعة أسهم.
الدليل:
ما رواه سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه أنه اقسم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم وللرجل سهما.
لكن الأثر منقطع.
القول الآخر:
قال الجمهور: بل ليس له إلا سهمان لفرس منهما.فليس له إلا نصيب فرس واحد
الدليل:
قالوا: لأن الفرس الثاني لا يعدو إلا أن يكون نائيا عن الفرس الأول قائما مقامه
…
... فعلى ذلك لا يكون له إلا سهم فرس واحد.
وهذا هو القول الراجح.
* أما إذا كان معه ثلاثة أفرس أو أربعة فاتفق العلماء على أنه لايأخذ على الثالث ولا على الرابع وغنما الخلاف في الأخذ على الثاني.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيشُ سراياه في ما غنمت ويشاركونه فيما غنم] .
فالجيش المنطلق من بلاد الإسلام إلى بلاد الأعداء تخرج منه سرايا فتغنم فله نصيبه من هذه المغانم فهو يشاركها وهي أيضا تشاركه.فقد تخرج بعض السرايا فيما ينال الجيش غنيمة دونها فلها نصيبها من هذه الغنيمة.
الدليل:
1 ـ ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعده للسرايا وهي غنيمة لها دون الجيش ومع ذلك فإن الجيش يشاركها، فإن الثلث أو الربع يخرج بعد الخمس والباقي يشترك فيه بقية الجيش فأشركهم النبي صلى الله عليه وسلم أشرك الجيش بما تناله السرية وكذلك العكس.
ـ ولأن مقصدهم واحد وكلهم قد خرجوا لقتال العدو وهذا ربما أرسل في سرية وهذا بقي في الجيش للمصلحة العامة فحينئذ تشتركون في الغنيمة جمعيا.
مسائل الغلول
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والغالّ من الغنيمة يُحرّق رحله كله إلا السلاح]
الغالّ: هو الكاتم شيئا من المغنم على وجه لا يحل له.
الغلول من كبائر الذنوب. للأدلة التالية:
1 ـ قال تعالى: [ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة]
2 ـ وفي الصحيحن (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: (كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:} هُوَ فِي النَّارِ {فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا)(2) .
3 ـ وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ـ بإسناد صحيح ـ في حديث عبادة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:} .. فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ { (3) .
* مسألة: ما يُفعل بمال الغالّ.
القول الأول:
(1) ـ لم يرو مسلم قصة كركرة من طريق ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه. وإنما ذكر قصة مثيلة لها واحتمل الحافظ في الفتح أن تكون قصة البخاري مفسرة لما ذكره مسلم (م: 114) عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ.
(2)
ـ (فتح: 3074) ك: الجهاد والسير. ب: القليل من الغلول.هي غير قصة صاحب الشملة كما قرر ذلك الحافظ (فتح: 4234) .
(3)
ـ (حم: 21641، ن: 3628، جه: 2840) .
وهنا قال المؤلف: (يحرق رحله كله) أي ما على راحلته من أثاث من أوان وزاد وسرج وغير ذلك ويستنثى من ذلك الحيوان وماله روح.ويستثنى كذلك المصحف وكتب العلم وكذلك الأسلحة هذا هو المشهور عند الحنابلة.
الأدلة:
1 ـ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:} إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ {قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ فَقَالَ بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ) (1) .
والحديث فيه: صالح بن محمد بن زائدة وهو منكر الحديث، وقد ضعف الحديث البخاري والترمذي والدارقطني وغيرهم من أهل العلم.
2ـ وروى أبوداود في سننه: (..قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَزَادَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ عَنْ الْوَلِيدِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ)(2)
والحديث: ضعيف أيضا فإنه فيه الوليد بن مسلم وهو شامي عن زهير بن محمد، ورواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة.
والصحيح أنه من قول عمرو بن شعيب فهو مقطوع عليه، كما رجّح ذلك غير واحد من الأئمة فلا يصح شاهدا للحديث الأول.
القول الثاني:
وذهب جمهور العلماء إلى أن الإمام ليس له أن يحرق رحله.
(1) ـ (د: 2338) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال. (ت: 1381، مي: 2379) .
(2)
ـ (د: 2340) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال.
الدليل: ما رواه أبوداود في سننه ـ بإسناد حسن ـ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيَخْمُسُهُ وَيُقَسِّمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ) فَقَالَ:} أَسَمِعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا؟ {قَالَ نَعَمْ قَالَ:} فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ {فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ:} كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ { (1)
قالوا: فهنا الرجل لم يحرق متاعه.
قالوا: ولم يصح في تحريق المتاع حديث كما قرر ذلك الإمام البخاري رحمة الله عليه.
القول الثالث:
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم: أن تحريق المتاع جائز من باب التعزير لا من باب الحد.
أي أنه للإمام أن يعزر بذلك وله أن يعزر بشيء آخر كضربه أو تأنيبه أو غير ذلك كما أنّب النبي صلى الله عليه وسلم الرجل في القصة المتقدمة.
(1) ـ (د: 2337) ك: الجهاد. ب:في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الإمام ولا يحرق. ورواه (حم: 6701) وفي آخره: إني لن أقبله حتى تكون أنت الذي توافيني به يوم القيامة.
وهذا مبني على القول الراجح في مسألة جواز التعزير بالمال. كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ـ في زكاة السائمة ـ:} وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عز وجل لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ { (1) وغير ذلك من الأدلة الدالة على هذه المسألة وسيأتي الكلام عليها في باب التعزير إن شاء الله تعالى.
فالتعزير بالمال جائز وتدخل فيه هذه المسألة فللإمام أن يعزر بتحريق متاعه.
فإن قيل: هذا فيه إتلاف للمال وإفساد له
فيقال: نعم، لكن لمصلحة راجحة وهي عظم التنكيل وشدة التأنيب فإن في ذلك تنكيلا ظاهرا به.
الترجيح:
وهذا القول الثالث هو الراجح في هذه المسألة واستظهره صاحب الفروع وصوبه صاحب الإنصاف.فالراجح إذن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وأن تحريق المتاع جائز للإمام إن رأى مصلحة شرعية في ذلك.
* مسألة: وهل يمنع من سهم الغنيمة؟
الجواب:
لايمنع من سهمه من القسمة كما هو المشهور في مذهب أحمد وغيره.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه أنه منع من غلّ من سهمه أو استرده منه.
وهو حق مالي ثابت له فلا يمنع منه بمعصية.
القول الثاني:
وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الإمام يمنعه من سهمه.
وهذا القول ظاهر في باب التعزير المالي. فللإمام أن يعزره بأن يمنعه سهمه. وله أن يعطيه سهمه ويعزره بباب آخر من أبواب التعزير.
إذن: للإمام أن يمنعه من سهمه تعزيرا له. وهذا داخل في مسألة التعزيز بالمال.
* مسألة: في توبة الغال.
(1) ـ (د: 1344) .
ـ وقد أجمع أهل العلم على أن الغالّ إن تاب فأراد أن يعيد ما غلّ وكان قبل القسمة والتخميس فإنه يدفعه بيت المال ليخمس ويقسم على الغانمين ليأخذ كل صاحب حق حقه فلبيت المال الخمس وأربعة أخماسه للغانمين.
* فرع:
أما إن كان ذلك بعد تخميس الغنيمة وتقسيمها: ففيه قولان:
القول الأول:
قال الحنابلة: يدفع إلى بيت المال الخمس. ويتصدق بأربعة أخماسه عن الغانمين.
وذلك لأنه حق لا يمكن أن يعطى صاحبه فقد أخذ الغزاة نصيبهم ولا يمكن أن يقسم عليهم هذا الباقي بعد الخمس فحينئذ يكون كالمال الذي لا يهدى إلى صاحبه فيتصدق عنه به.
القول الثاني:
قال الشافعية وهو اختيار الآجرّي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه يدفع كله إلى بيت المال أي كل ما غُلّ يدفعه إلى بيت المال.
الترجيح:
والقول الثاني أظهر بناء على المسألة السابقة التي تقدم ذكرها وهي أن الغنيمة لا تملك إلا بعد قسمتها. فالغنيمة حق لبيت المال وملك له حتى تقسم بين الغانمين وهنا لم تقسم الغنيمة التي وقع عليها الغلول فحينئذٍ تكون في بيت المال.
هذا هو الأظهر وعليه فيرد ما غلّ إلى بيت المال مطلقا سواء كان ذلك قبل أن تخمس الغنيمة وتقسم أو كان ذلك بعد تخميسها وتقسيمها.
الأراضي المفتوحة (المغنومة)
الأراضي المفتوحة قسمان: ـ الأول: ما فتح عنوة.الثاني: ما فتح صُلحا.
والكلام الآن عن:
القسم الأول: ـ وهي ما فتح عنوة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا غنموا أرضا فتحوها بالسيف خُيّر الإمام بين: قسمها، ووقفها على المسلمين] .
إذا افتتح المسلمون قرية بالسيف ـ أي بالقتال ـ فإن الإمام مخير بين أن يقسم هذه الأرض بين الغانمين وبين أن يوقفها على المسلمين.
هذا هو القول الأول وهو المشهور في مذهب أحمد وأبي حنيفة.
الدليل:
1 ـ ما ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ: (عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ النَّاسِ)(1)
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل أربعة أخماسها للغانمين، بل جعل النصف للغانمين، وجعل النصف الآخر للمصالح.
2ـ عُمَرُ رضي الله عنه: (لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ)(2)
فعمر رضي الله عنه قد أوقف مصر والشام والعراق لمّا فتحت في عهده رضي الله عنه لمصلحة آخر المسلمين ولم يقسمها على الفاتحين.
ولم يعلم له مخالف فكان إجماعا.
3 ـ قالوا: فهذه الأدلة السابقة تبين آية الأنفال وتخصصها، تبين أن المراد بالغنائم فيها ماسوى الأرض من الأموال المنقولة كالذهب والفضة والمواشي والثياب وغير ذلك فيه التي تقسم بين الغانمين. وأما الأرض فللإمام في ذلك الخيرة.
4 ـ ومما يدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما عدا الأرض أن هذه الأمة قد اختصت بإباحة الغنائم لها، كما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم:} وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي {.
(1) ـ (د: 2617) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: ماجاء في حكم أرض خيبر. (حم: 15821) .
(2)
ـ (فتح: 1325) ك: فرض الخمس. ب: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
قالوا: والأرض أحلت لمن قبله كما في قوله تعالى: [وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها] فكانوا يرثون الأرض ويغنمونها.
فدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما سوى الأرض من المنقول كالذهب والفضة والماشية وغيرها.
القول الثاني:
وذهب المالكية والشافعية إلى أن مجراها مجرى القسمة أي فتخمس وأربعة أخماسها للفاتحين فليس للإمام أن يوقفها كلها بل له الخمس وأما أربعة أخماسها فإنه يقسم في الغانمين
الدليل:
قوله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول.
قالوا: والأرض غنيمة فيخمسها الإمام وأما أربعة أخماسها فإنه يقسمها على الغانمين.
الترجيح:
والقول الأول وهو ما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح لقوة دليلهم ولما أوردوه في الرد على ما استدل به المالكية والشافعية وبه صحت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي بيده] .
هذه هي المصلحة: وهي أن الأرض التي قد أوقفت يضرب الإمام عليها خراجا. وهو مال يدفع سنويا ممن الأرض تحت يده. فيدفعه إلى الإمام. والإمام يصرفه في مصالح المسلمين.
قوله: (ممن هي في يده) سواء كان مسلما أم ذمّيّا فيؤخذ هذا الخراج كأجرة على من هي بيده.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] .
فالإمام يجتهد ويحدد قدر الخراج فيحدده بما هو اصلح باجتهاده بالنظر إلى أحوال الناس وبالنظر إلى الأرض في كونها ذات جصّ قوي أو جصّ ضعيف وباختلاف الأزمنة من زمن لآخر فيقدر الإمام ما يراه مناسبا. لأن الشارع لم يرد فيه تحديد فيرجع إليه فيه فالمرجع في ذلك إلى الإمام فيحدد باجتهاده فيما وأصلح كالجزية تماما.هذا في أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمة الله عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
كل هذا فيما لو فتحت الأرض عنوة وقهرا.
القسم الثاني: وهي ما فتح صُلحا:
ـ أما إذا فتحت الأرض صلحا فلا تخلو من حالتين:
الحالة الأولى:
أن يصالح الكفار المسلمين على أن تكون الأرض لهم أي للكفار.
فحينئذٍ تكون الأرض للكفار ويدفعون خراجها للمسلمين.
الحالة الثانية:
أن يصالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للمسلمين، ويشتغل بها الكفار ويدفعون خراجها للمسلمين.
فهذه الحالة لها حكم المسألة السابقة أي الحالة الأولى من جهة أن الأرض تبقى بأيديهم ويعملون بها ويدفعون خراجها لبيت مال المسلمين ولم بيعها إلى مسلم أو ذمي ويبقى الخراج ثابتا عليها.
أما الحالة الأولى: فحينئذٍ إذا أسلم الكفار أو أسلم بعضهم سقط الخراج عمن أسلم وبقيت الأرض ملكا له لا خراج فيها.
فإذا صالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للكفار فإذا أسلموا أوأسلم بعضهم فإن الخراج يسقط وذلك لعدم ملكية الأرض للمسلمين أولا.
ولأن الخراج كالجزية يسقط بالإسلام: فكما أن الجزية تسقط عن الكافر إذا أسلم فكذلك الخراج يسقط عنه فتبقى الأرض على ملكيتها ويسقط عنه الخراج.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رُفع يده عنها] .
رجل له أرض خراجية ولم يعمرها بزرع أو شجر فإنه يجبر على إجارتها أو رفع يده عنها.
أي: إما أن يعمّرها وإما أن يؤجرها، وإما أن نرفع يده عنها أي يتركها تقع في يد الأسبق إليها. وذلك لأن في تركها عاطلة تفويتا لحق بيت المال بالخراج.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويجري فيها الميراث] .
بمعنى أنها تورث لأنها حق فتورث كسائر الحقوق فإذا مات الرجل ورثها أقاربه كسائر ماله لأنها حق له فبموته يجري فيها الإرث.
بابٌ: الفَيْء
الخلاصة: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ ما تركوه فزعا وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] .
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ] .
العشر: هو مايضرب على تجارة الكفار إذا أدخلوا تجارتهم إلى البلاد الإسلامية.
وعلى الذميين نصف العشر.
وعلى الحربيين الذين يدخلون بأمان إلى البلاد الإسلامية ليتجروا فيها أو يدخلوا تجارتهم فيها عليهم العشر.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما تركوه فزعا] .
أي لم يقع قتال بين المسلمين والكفار وقد ترك هؤلاء الكفار أموالهم من غير قتال.
قال تعالى: [ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب]
فهذا يُعتبر فيئا لا يقسم بين الغانمين فليس له حكم القسمة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وخمس خمس الغنيمة] .
تقدم الكلام في هذا عند الكلام على خمس خمس الغنيمة وأنه يكون في يد الإمام يصرفه في مصالح المسلمين.
وتقدم ترجيح قول الإمام مالك وأن الخمس كله فيء لمصالح المسلمين إلا ما يحتاج إليه ذوو القربى.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ففيء يصرف في مصالح المسلمين] .
إذن: الجزية والخراج والعشور وما يؤخذ من الكفار بغير قتال وخمس خمس الغنيمة كل هذا فيء يصرف في مصالح المسلمين. فمنه رزق الإمام والقضاء والأمراء والمدرسين وغيرهم وكذا بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء القناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين وإغناء الفقراء وغيرها من المصالح والحاجيات للمسلمين.
إذن: الفيء يصرفه الإمام في مصالح المسلمين.
وهذا في كل مايدخل بيت المال حتى التجارات والمكاسب التي يكتسبها بيت المال ومن ذلك ما في هذه الأزمان من بترول ومعادن وغير ذلك مما يستخرج من الأرض هذا كله فيء يصرف في المصالح الإسلامية.
الأدلة:
1 ـ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ: (كل المسلمين لهم حق في الفيء) وقال: (لم يبق أحد إلا له حق في هذا المال إلا ما ملكت أيمانكم من أرقائكم فإن عشت إن شاء الله تعالى لم أُبق أحدا من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي يأتيه حقه منها ولم يعرق فيها جبينه)(1) والأثر إسناده صحيح.
2 ـ وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا)(2)
* ويبدأ بالأهم فالمهم، فيبدأ مثلا بأرزاق القضاة والأمراء والمقاتلة فهذا أولى من البدء بالغني الذي لا حاجة له في المال. وما يبقى فيصرفه في مصالح المسلمين فهو حق لهم يقسمه بين المسلمين غنيهم وفقيرهم من الأحرار.
باب عقد الذمة وأحكامه..
الذمة لغة واصطلاحا:
الذمة: لغة، العهد.
وفي الاصطلاح: عقد يقيمه الإمام، يقر به الكفار على كفرهم مع إعطائهم الجزية أو التزامهم بأحكام الشريعة في الجملة.
(1) ـ (هق: 6 / 351) .
(2)
ـ (د: 2564) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: قسم الفيء.
ورواه (حم: 22878، 22861) .
وقوله (يقر به الكفار على كفرهم) أي في حكم الدنيا وإلا فإنهم لا يُقرون عليه في حكم الآخرة.
فالمعقود عليه هو الذمي. جماعتهم: الذميون.
هذا هو عقد الذمة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] .
فلا يجوز هذا العقد إلا لصنفين من الناس.
1 ـ الصنف الأول: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.
2 ـ الصنف الثاني: وهم المجوس.
أما صنف الكتابين:
فدليله قوله تعالى: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فهذا في الجزية على أهل الكتاب.
وأما المجوس:
فقد ثبت في البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ـ الجزية ـ من مجوس هجر (1) .
هذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي وأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس ومن تبعهم أي من تبعهم على دينهم. وإن لم يكن أصلا منهم.
ذلك لأن اليهود والنصارى من بني إسرائيل فمن تبعهم من العرب والإفرنج أو غيرهم له هذا الحكم وكذلك ديانة المجوس فإنها في الأصل في الفرس ممن كانوا مجوسا من غير الفرس كبعض مجوسية العرب أو غيرهم فإن الجزية تؤخذ منه ولا تؤخذ الجزية ـ في هذين المذهبين ـ من غير هذه الأصناف فهي خاصة في اليهود والنصارى والمجوس.
لأن الله تعالى قال: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون]
وقد أمرنا بقتال الكفار، قال تعالى:[وقاتلوا المشركين كافة] وقال: [وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة] وليس في ذلك ذكر للجزية.
قالوا: وأما المجوس فقد ثبت الدليل بأخذ الجزية منهم ماثبت في البخاري وتقدم.
قالوا: وإنما فرق بين المجوس وعبدة الأصنام أن لهم كتابا فرفع.
(1) ـ (فتح 2923) ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.
روي ذلك عن علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق (1) غير أن السند لا يصح كما قرر هذا ابن القيم وغيره.
قالوا: فإذا ثبت أن لهم كتابا فرفع فإن فيهم شبهة أهل الكتاب.
وعليه: فإن الجزية تؤخذ منهم.
القول الثاني:
وقال الأحناف والمالكية: تؤخذ الجزية من الكفار عامة، فكل الكفار مخيرون بين ثلاثة خصال:إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال.
1 ـ واستدلوا بحديث بريدة الثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:} فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال {: وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم {فهنا قد ثبت الحكم على وجه العموم. فإنه قال:} فإن لقيت عدوك من المشركين {قالوا: هذا الحديث عام في كل كافر.
2ـ قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذها من المجوس وهم عبد النار ولا كتاب لهم.
أما ما روي عن علي فإنه لا يصح. ولو صح فإن العبرة بالحال. فإنهم في الحال لا كتاب لهم وهؤلاء عبدة الأصنام من العرب ومن قريش وغيرهم كانوا أتباعا لإبراهيم عليه السلام ومع ذلك فأنتم لم تروا الجزية عليهم مع أنهم لهم رسول وقد اتبعوه واتبعوا ما معه من صحف ومع ذلك قد أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المجوس ولا فرق بينهم وبين عبدة الأصنام من العرب أو العجم.
قالوا: وأما قوله تعالى: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية] فإن هذا قيد لبيان الواقع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت عليه هذه الآية وقد فتح الله عليه بلاد العرب وذلك بعد أن أذل الله له عبدة الأصنام وأمر بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهذا القيد لبيان الواقع حين شرعته الجزية.
الترجيح:
(1) ـ (عب: 6 / 70) ط. المكتب الإسلامي. تحقيق: الأعظمي.
وهذا هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم فكل ملة من الملل تخير بين ثلاث خصال:الإسلام فإن أبوا فالجزية فإن أبوها فالقتال لعموم حديث بريدة المتقدم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه] .
لا يعقد هذا العقد بين المسلمين والكفار إلا الإمام الأعظم أو نائبه أو أحد قواد جيشه ممن خول لهم الإمام ذلك. وذلك لأن عقد الذمّة من الأمور العامة الموكولة للإمام فلا يجوز الافتيات عليه بعقدها دونه وهذا ظاهر.
وعليه فلا يجوز ولا يصح أن يعقده إلا الإمام أو نائبه أو من خوله الإمام من قواد الجيش.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية.. الحديث وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أطاعوا فاقبل منهم {فدل على أنّ قائد الجيش يجوز يجوز له أن يعقد هذا العقد دون الإمام إن أذن له الإمام بذلك.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا جزية على صبي ولا امرأة]
الجزية لغة:
…
مأخوذة من الجزاء؛ لأنها جزاء للكافر وجزاء للمسلم؛ جزاء للكافر على كفره فهي عقوبة على الكفر، وجزاء للمسلم على حفظه دم الكافر وصيانة ماله أي ثواب فهي ثواب للمسلم وأجرة على ما يقوم به من حفظ دم الكافر وماله.
وهي جزاء على الكافر أي عقوبة له على كفره فإنها إنما تضرب عليه إذا امتنع عن الإسلام.
الجزية شرعا:
…
مال يؤخذ من الكافر على جهة الصغار عليه بسبب عقد الذمة.
وقد تقدم تعريف عقد الذمة.
* أما الصبي فلقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ فيما رواه الخمسة بإسناد صحيح وقيد ذكره في باب (زكاة البقر) ومنه:} ومن كل حالم دينارا أو عدله معافريا { (1) أي من كل بالغ، فهذا يدل على أن غير الحالم وهو الصبي لا تؤخذ منه الجزية.
(1) ـ (ت: 566، ن: 2407،د:1345، حم: 21112)
وأما المرأة فلما ثبت في البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد أن يأخذوا الجزية وألا يأخذوها من النساء والصبيان (1) .
وهكذا كل من لا يقاتل المسلمين من الرهبان المعتزلين في صوامعهم لعبادتهم الذين ليس لهم رأي ولا مكيدة في الحرب.
وذلك لأن الجزية لصيانة الدم من أن يهدد فإنه يخير بين الإسلام وبين الجزية وبين القتل ومعلوم أن هؤلاء لا يقتلون وعليه فلا تؤخذ منهم الجزية.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا عبد] .
لأنه مال كسائر مال سيده فكما أن الكافر لايؤخذ منه على مسكنه وعلى تجارته الجزية، فكذلك لا يؤخذ من رقيقه. ولأن العبد لا مال له فلا تؤخذ من العبد وإن كان سيده كافرا. قد حكى ابن المنذر الإجماع على هذا.
ولكن هنا رواية عن الإمام أحمد: أن الجزية تؤخذ من العبد واستدل: بما روى البيهقي في سننه أن عمر بن الخطاب قال: (لا تشتروا رقيق أهل الكتاب فإن عليهم خراجا)(2)
لكن السند فيه سفيان العقيلي لم يوثقه سوى ابن حبان.
والمشهور عن الإمام أحمد أن العبد لا تؤخذ منه الجزية وهو الراجح. لأنه مال فأشبه سائر مال سيده ولأن العبد لا يجب عليه واجب مالي لأنه لا مال له.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا فقير يعجز عنها] .
فالفقير الذي يعجز عن دفع الجزية لا تؤخذ منه قال تعالى: [لا يكف الله نفسا إلا وسعها]
وهذا هو مذهب جمهور العلماء للأمة المتقدمة.
إذن: تؤخذ الجزية من المكلف الذكر الحر الذي هو من أهل القتال.
فأما غير المكلف وهو الصبي والمجنون وغير الحر وهو العبد، وغير الذكر وهي الأنثى ومن ليس من أهل القتال كالأعمى والزمن والراهب المعتزل في صومعته فهؤلاء لا تؤخذ منهم الجزية لأنهم غير مقاتلين، والجزية إنما شرعت لصيانة دمهم. ودمهم مصون في الأصل فلم تجب عليهم الجزية بعد ذلك.
(1) ـ (هق: 9 / 198)
(2)
ـ (هق: 9 / 140)
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن صار أهلا أخذت منه في آخر الحول] .
أي بالحساب. صورة هذا:
بلغ الصبي في نصف السنة فإنها تؤخذ منه الجزية في آخر الحول بالحساب فلا يؤخذ منه حينئذ إلا نصف الجزية.
وذلك لئلا يفرد وحده فيشق. فكوننا ننظر حتى يحول الحول على بلوغه ثم يعطي الجزية منفردا هذا فيه مشقة وذريعة لفوات ذلك إما بإهمال أو نسيان أو غير ذلك.
بخلاف ماإذا كان لها وقت واحد تجمع فيه من سائر الكفار فإن هذا مظنة لحصولها وعدم فواتها.
ومن أسلم منهم فإنها تسقط عنه. ولو كان ذلك بعد الحول فلو أن رجلا أسلم أثناء الحول أو بعد مضي الحول وما بقي إلا أن يدفعها لعاملها فإنها تسقط عنه.
وذلك لأن الجزية تؤخذ مع صغاروالمسلم لا صغار عليه وهي إذلال وعقوبة على الكفر وحيث أسلم فإنه لا يدفعها لأن المسلم لا صغار عليه.
ـ ومن مات وقد وجبت عليه فإنها تؤخذ من تركته إذا مضى الحول.
فإن لم يتم عليها حول فبحساب ذلك. فتؤخذ من التركة لأنه حق مالي للمسلمين متعلق بالتركة بعد الموت كسائر الحقوق التي تتعلق بالتركة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومتى بذلوا الواجب عليهم وجب قبوله وحرم قتالهم] .
فإذا بذلوا الجزية فلا يجوز القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} فإنْ هم أجابوا فاقبل منهم {وقد قال تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فجعل إعطاءهم الجزية غاية فيحث أعطوا الجزية فلا يجوز أن يقاتلوا.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمتهنون عند أخذها ويطال وقوفهم وتجر أيديهم] .
يمتهنون امتهانا بليغا عند أخذها صغارا لهم، فيكون الآخذ جالسا ويكون الدافع قائما مطأطئ الرأس ذليلا.
(ويطال وقوفهم) فيقال له: انتظر. ويطال وقوفه كثيرا إذلالا لهم وصغارا.
(وتجر أيدهم) أي لا تؤخذ منهم بسهولة بل تجذب يده جذبا شديدا عند أخذ الجزية منه.
قالوا: لقوله تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] أي أذلاء فلا بد وأن يدفعوها على هيئة يكونون فيها أذلاء. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
والراجح: خلاف ذلك وأن هذا لا أصل له في كتاب الله ولاسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عمل الصحابة فإن هذا لم ينقل عنهم.
وإنما الصغار المذكور في الآية هو مجرد إذلالهم بإعطائهم الجزية. وقبولهم التزام الشريعة الإسلامية في الجملة فهذا إذلال ظاهر لهم.
ولذا فإن بني تغلب وكانوا من العرب أبوا أن يعطوا الجزية وقالوا: بل ندفعها صدقة ونقول: هي صدقة. فقبل ذلك منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشرط أن تكون ضعف صدقة المسلمين (1) .كما ثبت هذا في مصنف بن أبي شيبة وغيره.فاستنكف هؤلاء عن دفع الجزية لأن مجرد دفعها صغار وذلة والتزامهم أيضا بشريعة أخرى لا يدينون بها صغار وذلة
وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية وقد أنكر هذا القول النووي في روضة الطالبين وبيّن أنه لا أصل له في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عمل خلفائه الراشدين رضي الله عنهم. وهو كما قال.
الترجيح:
فالراجح هو خلاف هذا، وأن الجزية تؤخذ منهم برفق وإحسان والشريعة تأمر بالإحسان وفي ذلك دعوة لهم إلى الإسلام.
مبحث: في مقدار الجزية:
وفيه أقوال:
القول الأول:
وهو المشهور عند الشافعية أن الجزية دينار.
(1) ـ (خلاصة البدر المنير لابن الملقن: 2/ 356)[2618] أن عمر رضي الله عنه طلب الجزية من نصارى العرب وهم تنوخ وبهرا وبنو تغلب فقالوا نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الزكاة فقال عمر هذا فرض الله على المسلمين فقالوا زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة ذكره الشافعي وقال قد حفظه أهل المغازي وساقوه أحسن سياق. وانظر (نصب الراية: 2 / 362) .
لحديث معاذ رضي الله عنه المتقدم، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا.
القول الثاني:
وهو للمالكية: على الغني أربعة دنانير وعلى الفقير دينار.
واستدلوا بما ثبت في سنن البيهقي (1) ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية: أربعة دنانير أو أربعين درهما ـ وهي عدل الدنانير من الدراهم.
القول الثالث:
وهو مذهب الأحناف ورواية عن الإمام أحمد أنه يؤخذ منه ألغني ثمانية وأربعين درهما، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهما، ومن الفقير اثني عشر درهما. وفي ذلك أثر رواه البيهقي في سننه.
القول الرابع:
وهو رواية عن الإمام أحمد وهو الصحيح في المذهب ـ كما قال صاحب الإنصاف ـ وهو مذهب الثوري وأبي عبيد القاسم بن سلام: أنها تؤخذ على حسب ما يراه الإمام؛ فمردّ ذلك إلى الإمام.
لأن هذه المسألة تختلف باختلاف الأزمان واختلاف الناس غنى وفقرا واختلاف أراضيهم وأحوالهم فكان مرجع ذلك إلى الإمام.
ويدل عليه: اختلاف الآثار المتقدمة. ولذا فإنها ضربت على أهل اليمن دينارا وعلى أهل الشام أربعة دنانير.فإن عمر رضي الله عنه ضربها على أهل الشام أربعة دنانير كما في الأثر المتقدم وضربها النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن دينارا، ولذا قال مجاهد كما في البخاري لما سئل:(ما بال أهل الشام تؤخذ منهم الجزية أربعة دنانير وأهل اليمن تؤخذ منهم دينارا؟) فقال: (إنما فعل ذلك من أجل اليسار) أي من أجل الغنى. فلما اختلفوا في الغنى اختلفوا في الجزية.
وهذا يدل على أنه ليس هناك مقدار ثابت بل يختلف باختلاف الناس غنا وفقرا وباختلاف أحوالهم وأماكنهم وهذا القول هو الراجح.
* مسألة: عقد الذمة عقد باق لا يجوز تغييره.
هذا هو المشهور في المذاهب.
(1) ـ (هق: 9 / 195) .
وهناك قول آخر اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: وهو أن عقد الذمة يجوز تغييره للمصلحة.
وهذا هو الظاهر.
فإذا اختلفت المصلحة باختلاف الأزمان فيجوز للإمام أن ينقض هذا العقد معهم ويعلن الحرب ويمهلهم حتى يستعدوا للحرب. وذلك لأن المصلحة قد زالت.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض] .
يلزم الإمام أخذ الذميين بشرائع الإسلام في النفس وفي المال والعرض؛ في النفس كالقتل والجناية على طرف من الأطراف فالسن بالسن والعين بالعين، فمن قتل ذميا من جنسه قتل به، ومن جنى على ذمي من جنسه اقتص له منه وهكذا.. وكذلك في الأموال في حماية الممتلكات فمن أتلف مالا لآخر فإنه يضمنه. وكذلك في العرض في القذف إذا قذف ذمي ذميا آخر بالزنا أو قذف مسلما فإن حكم الله يقام عليه.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله] .
تقام عليهم الحدود.
1 ـ وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما (1) .
2ـ وفي الصحيحين أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين واعترف فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يرض رأسه بين حجرين (2) .
3 ـ وقد قال الله تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله]
(1) ـ (فتح: 6320، م: 3211) .
(2)
ـ (فتح: 2236) ك: الخصومات.ب: ما يذكر في الأشخاص والخصومة.َ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلَانٌ أَفُلَانٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ (م: 3167) .
وقيده المؤلف هنا بما يعتقدون تحريمه كالزنا والسرقة فإن الحدود تقام على الذميين من قبل الحاكم المسلم إن كانوا يعتقدون التحريم، أما إن كانوا يعتقدون حل الخمر ونكاح المحارم فإن الشريعة لا يُحكم بها عليهم، لكن يُمنعون من إظهاره بين المسلمين لما فيه من أذية المسلمين وإظهار المعصية فإن أظهروه فللإمام أن يعزرهم عقوبة لهم على إظهار المعصية في بلاد الإسلام
أما مسائلهم التي هي من شؤونهم الخاصة كالأنكحة والطلاق والظهار وغيرها وما ألحق بها من المسائل الأسرية فإنه لا يحكم عليهم بالشريعة الإسلامية إلا أن يتحاكموا إلينا فإن تحاكموا إلينا فللإمام أن يحكم بينهم بما أنزل الله. وله أن يعرض عنهم.
قال تعالى: [فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا]
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزمهم التميز عن المسلمين] .
فيجب أن يتميزوا عن المسلمين بملابسهم ومراكبهم وأسمائهم وكناهم
…
فلا يكونوا على هيئة تختلطون فيها بالمسلمين اختلاطا لا يميزون به عنهم. وذلك لأن هذا ذريعة إلى أن يعاملوا معاملة المسلمين، ومعاملتهم معاملة المسلمين محرم،بل لهم معاملة تخصهم ولا يمكن أن يعاملوا المعاملة الشرعية التي تخصهم إلا بأن يكونوا متميزين عن المسلمين، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويجب على المسلم أن يعاملهم معاملة الكفار ولا يمكن هذا إلا بأن يكونوا على هيئة يتميزون بها عن المسلمين فوجب أن يميزوا.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولهم ركوب غير الخيل بغير سرج بأكاف] .
الأكاف: هو كساء يوضع على المركوب.
والسرج كذلك لكن السرج فيه زينة. ويركبه أهل الشرف والعلو سواء كان علوا جائزا أم غير جائز.
وأما الأكاف فهو مجرد كساء يوضع على الدابة فتركب.
فينهى أهل الذمة عن ركوب الدواب التي فيها علو وشرف فإنها قد تكون طريقا إلى خيلائهم وفخرهم على فقراء المسلمين ولأنها مركوبات علو وشرف، وهم ليسوا بأهل علو وشرف. بل هم أهل ضعة حيث خالفوا شرع الله وقد قال تعالى:[وهم صاغرون]
وفي الدارقطني من حديث عائذ بن عمرو والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} الإسلام يعلو ولا يعلى عليه { (1) .
فينهون عن ركوب الخيل ويؤذن لهم بالجمل والبغل والحمير وغير ذلك من المركوبات وهنا كذلك في هذه الأزمان فالسيارات الفاخرة يمنعون منها وأما ما يركبه أوساط الناس أو دونهم فإن هذا لا حرج عليهم بركوبه.
إذن: ينهون عن ركوب الخيل وعن وضع السرج لما فيه من العلو والشرف وقد يكون فيه استطالة على ضعفة المسلمين.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس] .
للعلة المتقدمة فإن المجالس إنما يصدر لها أهل العلو في الدنيا أو أهل الديانة والصلاح أما هؤلاء فليسوا كذلك بل هم صاغرون. ولا شك أن تقديرهم وإكرامهم هذا التقدير والإكرام الزائد حيث يوضعون في صدور المجالس يخالف المقصود. وليس المقصود أن يمتهنوا لكن أن يكونوا في وسط الناس فلا يرفعون على الناس في المجالس فيوضعون في أفضلها بل يجلسون كعامة الناس لأن هذا مجلس شرف وعلو وهم ليسوا كذلك بل هم أهل صغار والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا القيام لهم] .
فإذا قدموا فلا يجوز القيام لهم للتحية بل يحيي وهو جالس لما في القيام لهم من الاحتفاء بهم والإكرام لهم وهذا يناقض ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من عدم إكرامهم الإكرام الذي يعامل به أهل الشرف والمقام العالي.
(1) ـ (قط: 3 / 252، هق:6 / 205، طح: 3 / 257) وحسنه الحافظ في الفتح (3: 220) .
ولذا ورد في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:} لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ { (1) .
فهذا يدل على أنهم لا يعطون شيئا من الإكرام بل يضيق عليهم الطريق.
ويقاس على ذلك هذه المسألة وهي أنه لا يقام لهم وكذلك لايصدّرون في المجالس.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا بداءتهم بالسلام] .
فلايبدؤون بالسلام للحديث المتقدم} لاتبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام {ولاما يشبه السلام كقوله: (كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟) وغير ذلك من الألفاظ التي قد تكون في النهي أعظم أثرا من السلام فإن السلام يلقى على الخاص والعام أما مثل هذه الأسئلة فإنها توجه إلى الخاص فالمقصود أنه لايبدؤهم بتحية إنما يبدؤون هم بالتحية للحديث المتقدم فإذا ابتدؤوه بالتحية أجابهم. قال تعالى: [وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها] إلا أن يُخشى أن يكون في سلامهم شيء من التعريض كما كان يقع من اليهود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يحييهم بما كان يجيب به الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود فيقول: (وعليكم) . كما ثبت هذا في الصحيحين من حديث عائشة (2)
* مسألة: في تهنئة أهل الكتاب:
وهل تجوز تهنئتهم بما يجوز أن يهنّأ به المسلمون؟ كمولود أو ربح تجارة..لا بما لايجوز كالتهنئة بأعيادهم فإن التهنئة بها إقرار لهم على باطلهم فهي باطل.
لكن إن هنّأهم على أمر جائز في الأصل كتهنئة بمولود أو نحو ذلك أو يعزيهم في مصابهم أو أن يشيع جنائزهم أو يعود مرضاهم، فهل يجوز هذا أولا؟
قولان، هما روايتان، عن الإمام أحمد.
الرواية الأولى:
(1) ـ (م: 4030) ك: السلام. ب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.
(2)
ـ (فتح: 2718،5565،5570،5786 وم: 4027) .
وهي المشهور في المذهب: أن ذلك لايجوز.
الرواية الثانية:
أن ذلك يجوز لمن رُجي إسلامه.وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وهو الراجح في هذه المسألة لما ثبت في البخاري أن غلاما ليهودي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال له:} أسلم {فأسلم (1) .
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أباطالب كما في الحديث المشهور ودعاه إلى الإسلام.
فلا بأس من تهنئتهم بالأشياء الجائزة وعيادة مرضاهم إن رجي إسلامهم أي إن كان في ذلك مصلحة للدعوة.
وإلا فإنهم يهجرون في معصيتهم. لكن إن ثبتت المصلحة الشرعية في عيادة مريضهم واتباع جنائزهم وغير ذلك فلا بأس به إن رجي إسلامهم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنعون من إحداث كنائس وبيع] .
بالإجماع، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ.
(1) ـ (فتح: 1268) ك: الجنائز.ب: إذا اسلم الصبي فمات هل يصلى عليه. ولفظه: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ " فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".
وذلك لأن إحداث الكنائس والبيع إظهار لشعيرة الكفر ولا يجوز الإقرار على ذلك، فلا يجوز أن يقروا على شعيرة من شعائر الكفر وإحداث الكنائس كذلك. فلايؤذن لهم ببناء كنائس بناء جديدا. لكن إن كانت الأرض لهم كأن يقع صلح بين المسلمين والكفار فتكون الأرض للكفار فإن ذلك لا يمنعون فيه لأن الأرض لهم، إلا أن يشترط ذلك عليهم المسلمون، فإن اشترط عليهم المسلمون ألا يحدثوا كنيسة ولا بيعة فإنهم يجب عليهم أن يلتزموا بذلك وعلى المسلمين منعهم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وبناء ما انهدم فيها] .
إذا فتح المسلمون بلدا وفيها كنائس فأقرت هذه الكنائس على بناياتها يتعبد هؤلاء بها فإذا حصل فيها انهدام فهل يؤذن لهم ببنايتها من جديد؟
قال المؤلف هنا (يمنعون من اصلاح ما انهدم فيها) وهذا هو المشهور في المذهب.
والوجه الثاني أن ذلك جائز وهذا هو الأرجح.
لأن تجديد البناء استدامة لاإنشاء والاستدامة جائزة فهذا الكنيسة يجوز أن تبقى مستمرة مادام أنها كانت موجودة أثناء العقد بين المسلمين وبين الذميين ، وتجديد بناياتها إذا انهدمت استدامة وليس بإنشاء.
وهذا هو مناط المسألة: أن يقال: إذا انهدمت الكنيسة فهل بناؤها إنشاء أو استدامة؟
إن قلت: هو إنشاء، فإنه لا يجوز لهم لأن هذا كبناء كنيسة جديدة. وهذا لايجوز.
وإن قلت: هو استدامة ـ وهذا هو الأظهر ـ فإن ذلك جائز لهم، لأن هذا الموضع من الأرض قد أُقر أن يكون كنيسة لهؤلاء الذميين فحيث حصل فيه انهدام فإنه لم يزل موقعا للكنيسة ومعبدا فإذا بني من جديد فلا يعدو الأمر إلا أن يكون استدامة لهذه الكنيسة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولو ظلما] .
لو اعتدى بعض المسلمين ـ وهذا أمر لا يجوز ـ فقاموا بهدم كنيسة من كنائس الذميين التي قد أقرها الإمام بالعقد الذي بينه وبين الذميين فإذا هُدمت فلا يجوز أن يبنوها مرة أخرى.
الأَولى أن يقال بجواز ذلك كما قال صاحب الفروع،لأن هذا استطالة عليهم، وإزالة حق لهم بغير وجه شرعي صحيح فلا مانع من إعادة بنائه مرة أخرى. وقد أزيل ظلما لهم.
وعلى الترجيح المتقدم وأن بناء الكنيسة بعد انهدامها وإصلاحها استدامة لها لا إنشاء لا إشكال في هذا القول، وأنه سواء كان ظلما أو غير ظلم فإن لهم أن يبنوها من جديد وليس للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك، إلا أن يكون هناك شرط بين الإمام وأهل الذمة أن ما انهدم من الكنائس فإنه لا يبنى، فإنهم يمنعون من ذلك لأن الناس على شروطهم فيمنعون أن يبنوا ما انهدم مادام هناك شرط بينهم وبين الإمام.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن تعلية ببناء على مسلم] .
لا يجوز أن يقر الذمي على بنيان بيته بحيث يكون فيه علو على بيوت المسلمين للمعنى المتقدم فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأن البيوت العالية هي بيوت أهل العلو والشرف وهم ليسوا كذلك فهم أهل ذلة وصغار كما تقدم. بل يمنعون من البيوت العالية مطلقا وإن لم تكن مجاورة لبعض بيوت المسلمين لأنهم بيوت عالية يسكنها أهل الشرف والعلو وهم يمنعون من فعل ما فيه علو وشرف كما تقدم.والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
واستثنى الحنابلة فيما إذا اشترى الذمي بيتا من مسلم وفيه علو وارتفاع فإن ذلك جائز وهذا قول ضعيف، ولذا قال ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ: إن هذه المسألة أُدخلت في المذهب غلطا محضا وأنها لاتوافق أصول المذهب ولا فروعه. إذ لافرق بين أن يبني الذمي بيتا عاليا شاهقا يعلو به على المسلمين أو على طائفة منهم وبين أن يشتري هذا البيت من مسلم ثم يسكنه على هذه الهيئة. لا فرق بين المسألتين فإن المفسدة حاصلة منهما جميعا
ومثل ذلك الاستئجار فإن استئجار البيوت العالية ممنوع عليهم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا مساواته له] .
فإذا بنى بيتا يساوي بيت المسلم ولو كان هذا البيت الذي قد بناه بيت عال فلا بأس ما دام أنه على مساواة البيوت التي قد بناه من حوله من المسلمين.
الوجه الثاني في المذهب:
أن ذلك لا يجوز. وهذا هو الأرجح.
وذلك لأن البيت المساوي لبيت المسلم وفيه علو قد حصل له به العلو والشرف، وهو ممنوع عليه وإن كان ذلك مساويا للمسلمين كما يمنعون من ركوب الخيل وإن ركبها
المسلمون كما يمنعون من وضع السرج وإن وضعها المسلمون فكذلك يمنعون من البيوت العالية المرتفعة التي إنما يسكنها أهل الشرف والجاه والمنزلة وإن كانت بيوت المسلمين كذلك لأنها بيوت علو وشرف، وهم ليسوا كذلك، وإن كانت أقل مفسدة من البيوت التي هي أعلى من بيوت المسلمين لمنع دخول الاستطالة فيها، فإن الاستطالة ممكنة مادام أن بيوتهم كبيوت المسلمين.
فإذن يكونون في مركوبهم وفي مسكنهم على درجة دون درجة أهل العلو والشرف.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن إظاهر خمر وخنزير وناقوس وجهر بكتابهم] .
لأن الجهر بالمعصية محرم فإظهارالمعاصي محرم وفيه أذية للمسلمين فيمنعون من إظهار شرب الخمر ومن إظهار أكل الخنزير أو وضع المسالخ له أو نحو ذلك وبيعه بالمحلات ويمنعون مما ذكره من الناقوس في كنائسهم ومن الجهر بقراءة كتبهم ومثل ذلك وضع الدعايات لدينهم وتأليف الكتب في ديانتهم ووضع إذاعات للدعوة إلى دينهم كل هذا يمنعون منه لما فيه من إظهار دينهم. والشريعة إنما فرضت عليهم ما يمنع إظهار الدين. ولما فيه إظهار شعائر الكفر من قصد إيذاء المسلمين ومجرد إظهارها يخالف مقصود الشارع.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإن تهود نصراني أو عكسه لم يقرّ ولم يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه] .
إذا كان تحتنا في بلادنا ذميون يهود ونصارى فانتقل اليهودي إلى النصرانية أو النصراني إلى اليهودية فهل يُقر على هذا؟ فيه ثلاثة روايات:
الرواية الأولى:
قال المؤلف: (لا يُقرّ) ، وعليه فإن الإمام يحبسه ويعذبه في نفسه وماله حتى يعود إلى دينه أو يدخل في الإسلام ولا يقتل لشبهة العقد الذي بيننا وبينهم من حفظ دمه وماله لكنه يلزم بأحد الأمرين. وإلزامه أن يرجع إلى دينه قول غريب.
الرواية الثانية:
ورد عن الإمام أحمد أنه يلزم بالإسلام فإما أن يسلم وإما أن يبقى على ماهو عليه بالضرب والتأديب وغير ذلك. لأن في إرجاعه إلى النصرانية شيء من الإقرار الظاهر له. وفي إلزامه أن يعود إليها تأييد لها فيبقى الإلزام بالإسلام.
الرواية الثالثة:
وعن الإمام أحمد وهو أظهرها أنه يقرّ مطلقا؛ فله أن يرجع من اليهودية إلى النصرانية ومن النصرانية إلى اليهودية أو غيرها من ملل الكفر وذلك لأن العقد الذي بيننا وبينه هو إقراره على الكفر والكفر ملة واحدة.
ثم في الحقيقة فاليهودي والنصراني وعابد الوثن وعابد النار في الحقيقة ملة واحدة قال تعالى: [والذين كفروا بعضهم أولياء بعض]
فالراجح:
أنه يُقرّ، وأن له أن ينتقل إلى أي دين شاء. لأنه إنما أُقر على الكفر أصلا بالشروط المتقدمة ولافرق بين أن يبقى على ديانته النصرانية أو ينتقل إلى اليهودية أو العكس لافرق بين هاتين الملتين أو غيرهما.
إذن هنا ثلاثة أقوال أرجحها القول الأخير.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [فإن أبى الذمي الجزية أو التزام حكم الإسلام أو بغى على مسلم بقتل أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس أو ذكر الله أو رسوله أو كناية بسوء انتقض عهده] .
إذا أبى الذمي بذل الجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو كان منه اعتداء على المسلمين بقتل أو قطع طريق أو زنا أو سبّ الله ورسوله أو دين الإسلام أو كتاب الإسلام فإن عهده ينتقض مطلقا، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
القول الثاني:
وذهب الشافعية إلى التفصيل في هذا وأنه إن أبى أن يلتزم بالجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو فعل ما يناقض عهد الذمة كالقتل فإن عهده يُنقض وما سوى ذلك فإن حكم الإسلام يُقام عليه إن كان حدا أو قصاصا أو تعزيرا. إلا أن يكون قد اشترط فإن هذا الشرط يعمل به بمعنى: إن قيل للذميين أثناء العقد متى ما فعلتم القتل أو الزنا أو آويتم جاسوسا أو نحو ذلك فإن العهد ينتقض ولاذمة لكم فإن الناس على شروطهم.
فمذهب الشافعية هو التفصيل فإن أبى بذل الجزية أو التزام الشريعة فإن عهده ينتقض وذلك لأنه لا قوام لعهد الذمة إلا بهما. فإن عقد الذمة لايصلح إلا بهما.
قالوا: وكذلك إذا كان ما فعله يخالف وينافي مقتضى العقد ـ وهو فيما إذا قاتلنا ـ فإذا قاتل الذمي المسلمين أو سعى في قتالهم فإن عهده ينتقض وذلك لأن مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين وحيث وقع من الذميين قتال فإن هذا ينافي ويخالف العقد الذي بيننا وبينهم وهو عقد الذمة الذي مقتضاه الأمان من الجانبين أما ماسوى ذلك فيحكمون بما أنزل الله وهذا هو الراجح إذ لادليل على انتقاض العقد بماذكروه مع إبرامه وثبوته.
وما ذكروه فإن مثله في الغالب يقع من اعتداء على الأعراض أو على النفوس في المجتمعات الكبيرة.
وإذا سب الذمي النبي صلى الله عليه وسلم مثلا فإنه يقتل من غير استتابة كما قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه الصارم المسلول وهكذا إن قتل نفسا أو زنا فإنه يقام عليه الحدّ فالأصل هو بقاء عقد الذمة فلا ينتقض إلا بدليل.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [انتقض عهده دون نسائه وأولاده] .
أي عهده هو دون نسائه وأولاده وذلك لأنه لم يحصل منهم ما يوجب النقض وحصوله من عائلهم لا يوجب النقض منهم [لا تزر وازرة وزر أخرى] فلا يكونون حربيين لكون من يقوم بشأنهم قد ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين بل يعطي لهم ذمة الله ورسوله.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وحلّ دمه وماله] .
(حل دمه) : أي أصبح في حكم الحربيين، لأن حفظ دمه إنما كان للعهد الذي بينه وبين المسلمين وحيث إنه نقض العهد فقد أصبح دمه حلالا لا حرمة له.
وحينئذٍ فالإمام مخير فيه بين أربعة خصال. القتل والفداء والمنّ والاسترقاق.
فللإمام الخيار بين هذه الخصال لأنه أصبح كالأسير الحربي.
(وماله) : أيضا ماله يكون حلالا لأن الحربي ماله حلال وهو حربي.
فإن قيل: فلم لا يكون لنسائه وأولاده؟
الجواب: أنه إنما يكون لنسائه وأولاده بسببه، وهنا لم يقع سببه، وسببه هو الموت، فإذا مات انتقل إلى نسائه وأولاده إرثا وهنا لم يمت، هو مال له، فحينئذٍ يتبعه في عدم الحرمة فيكون فيئا لبيت المال. لأنه تبع له ولا ينقل لهم إلا بطريق شرعي من إرث أو غيره وهنا الطريق لم يثبت فبقي المال فيئا.
استدراكات: ولم يتكلم المؤلف في كتاب الجهاد عن مسألة الأمان والهدنة.
وسنتكلم عليهما إن شاء الله تعالى تباعا.
الأمَان
لغة: من الأمن وهو ضد الخوف، والمستأمَن أو المستأمِن: هو من رفض استباحة دمه وماله ورقه ودخل ديار الإسلام.
ومن أحب من المشركين أن يسمع كلام الله في البلاد الإسلامية ويتعلم الإسلام فإنه يجب أن يؤمّن. قال تعالى: [وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه] إذا سمع كلام الله فإنه يبلغ مأمنه فيحفظ في طريقه حتى يصل إلى الموضع الذي يؤمن به من المسلمين.
* وعقد الأمان يصح من كل مسلم مكلف ذكر كان أو أنثى حرا كان أو عبدا بشرط أن يكون مختار أي غيرمكره وبشرط عدم الضرر. هذا هو الأمان الخاص.
* نوعا الأمان:
فإن الأمان نوعان خاص وعام.
فالأمان الخاص: هو أن يؤَمَّن رجل أو طائفة من الناس.
وأما الأمان العام: فهو ما يقع لحماية الكثرة من الكفار، كأن يقع لبلدة كبيرة أو نحو ذلك.
فالأمان العام لا يكون إلا من الإمام لأن مثل هذه الأمور أمور عامة فتوكل بالإمام فهو الناظر فيها والاعتداء عليه في عقدها افتيات عليه.
والأمان الخاص يشترط عدم الضرر على المسلمين ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:} ذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم { (1)
وما ثبت عن عائشة كما في سنن أبي داود: (إن كانت المرأة لتأخذ على الناس)(2) أي لتأخذ الأمان على الناس.
ـ وقد قال صلى الله عليه وسلم لأم هانيء:} قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء { (3) متفق عليه.
فإذا أمّن مسلم كافرا فإنه لا يجوز الاعتداء عليه في دمه ولا ماله
…
.
واختلف في المميز العاقل على قولين هما قولان في مذهب الإمام أحمد.
القول الأول: وهو مذهب مالك.
أن المميز يصح أمانه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:} ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم {.
القول الثاني:وهو مذهب الجمهور.
أن الصبي لايقع منه أمان. وذلك لضعف يصرفه. ولذا فإن الصبي لايصح تصرفه في ماله فكيف يصح تصرفه في شأن من شؤون المسلمين.
وهذا هو الراجح.لأن الصبي ضعيف التصرف ولذا يكون عليه الولي في ماله فهنا كذلك لايصح أمانه.
ـ وإن اعتدى فقتل معاهَدا أو مستأمنا فإنه قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يستحق عليها تعزيرا بالغا.
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} من أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل { (4) من أخفر أي نقض عهده
(1) ـ متفق عليه من حديث علي رضي الله عنه (فتح: 2943،6258، 6756. م: 2433، 2774) .
(2)
ـ (د: 2383) ك: الجهاد. ب: في أمان المرأة. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيَجُوزُ.
(3)
ـ (فتح: 344، 2935، 5692. م: 1179) .
(4)
ـ (فتح: 2943، ك: الجزية. ب:إثم من عاهد ثم غدر)
وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:} مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا { (1)
الهدنة
هي عقد يقيمه الإمام أو نائبه مع الحربيين مدة محدودة من الزمن بعوض أو بغير عوض وفيها مسائل:
* المسألة الأولى: الدُّور دارن
أن الدور داران؛ دار إسلام ودار كفر.
فدار الإسلام: هي التي يُحكم فيها بالإسلام.وإن كان أكثر أهلها يهودا أو نصارى.
وأما دار الكفر: فهي الدار التي لايحكم فيها بشرع الله وإن كان أكثر أهلها مسلمين.
ودار الكفر قسمان:
الأولى: دار حرب: وهي التي ليس بين المسلمين وبينها عقد ولا ذمة.
الثانية: دار عهد: وهي التي بينها وبين المسلمين عهد.
هكذا قسم الفقهاء الدور.
فإذا عقد الإمام مع دار الحرب عقدا لمدة زمنية محدودة سواء بعوض أم بغير عوض فهذه هي الهدنة.
* المسألة الثانية: هل تجوز الهدنة مع الكفار بعوض؟
لا إشكال أنه يجوز أن يكون العوض من الكفار فإنه من جنس الجزية.
لكن: هل يجوز أن يكون العوض من المسلمين؟
القول الأول:
وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي: أن ذلك لا يجوز.
وهذا ظاهر؛ فإن فيه ذلة وصغارا. وهو من جنس الجزية ولا يجوز للمسلمين أن يرضوا بالصغار والذلة وقد أظهرهم الله.
ويستثنى من ذلك ـ كما قرره الموفق وغيره ـ إذا اضُطر المسلمون إلى ذلك فإن الضرورات تبيح المحرمات.
فإذا خشي المسلمون على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وبلادهم وكان للكفار سطوة وقوة والمسلمون على ضعف فيجوز إقامة الهدنة بعوض من المسلمين من باب الوقوع في المفسدة الصغرى دفعا للمفسدة الكبرى.
* المسألة الثالثة: في مدة الهدنة
(1) ـ (فتح: 2930، ك: الجزية. ب: إثم من قاتل معاهدا بغير جزم)
ثبت في السنة ـ كما في سنن أبي داود ـ والحديث حسن وفيه عنعنة محمد بن إسحاق ـ لكن صرح بالتحديث في سنن البيهقي من حديث المسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عشر سنين يأمن فيها الناس.
واختلف أهل العلم: هل يجوز الزيادة على عشر سنين؟ على ثلاثة قوال:
القول الأول: وهو قول الشافعية والحنابلة.
أنه لايجوز ذلك.
لأن الله أمرنا بقتالهم قال تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة]
وغيرها من الآيات الدالة على وجوب قتالهم. والهدنة تنافي القتال فلا يجوز فيها إلا ما وردت به السنة وهو عشر سنين.
القول الثاني:وهو قول الأحناف.
وهو جواز الزيادة على عشر سنين. وذلك إن ثبتت المصلحة في ذلك.
قالوا: لأن وضع النبي صلى الله عليه وسلم لها عشر سنوات هذا لامعنى له إلا أن في العشر مصلحة حينئذ وإلا فإن هذا العدد لا أثر له.
وهذا هو الأظهر. وأن إقامة الهدنة مع الكفار أكثر من عشر سنوات جائز وذلك إذا ثبتت المصلحة في ذلك.
القول الثالث:
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ جواز الهدنة مطلقا لكن بشرط أن تكون الهدنة يجوز نقضها وإن كان ذلك ولا بد مسبوقا بإعلام.
وهذا قوي وذلك لأن العقد والهدنة لازمة، فليس للكفار أن ينقضوا وليس للمسلمين أن ينقضوا. أمّا والعقد جائز فإن هذا لامفسدة فيه فمتى رأى المسلمون من أنفسهم القوة على قتال الكفار فحينئذٍ ينقضون ما بينهم وبين الكفار ويعلنون هذا للكفار لاحرج في مثل هذا العقد.
فإن رأى الإمام من الكفار أمارات النقض وظهر منهم ما يدل عليه فإن الإمام ينقض عهدهم قال تعالى: [فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم] ولكن عليه أن يعلن ذلك وأن يظهره فلا يقاتلهم على حين غرة منهم. قال تعالى: [فإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء] أي انبذ إليهم عهدهم والعقد الذي بينك وبينهم على سواء أي على وضوح وظهور فلا تكن في ذلك خفيا.
وهو إذا قاتلهم على غير ذلك فإن ذلك في الظاهر خيانة ولا ينبغي للمسلم أن يتصف به إذ الله عزوجل لا يحب الخائنين.
* فرع: في مدة الأمان
اختلف العلماء هل يجوز أن يكون عقد الأمان مطلقا، أم لا بد أن يكون مقيدا؟
الجواب:
فمنهم من قال: يجوز أن يكون مطلقا.
ومنهم من منع من ذلك. وقال: غايته سنة. فإذا مضت السنة فإنه يُلزم بالجزية وذلك لأن الله عزوجل أمر بقتالهم إلا أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلا بد وأن يقاتل إلا أن يعطى الجزية وهذا أظهر وأن الأمان لا يكون مطلقا بل يكون عدة يسيرة تقتضيها المصلحة العامة.
* مسألة: في الهدنة:
إذا كان في الهدنة شرط يخالف كتاب الله أو يخالف مقتضى العقد فإن الهدنة لا تصح.
مثال ما يخالف كتاب الله: لو اشترط الكفار أن ترد إليهم النساء المهاجرات قال تعالى:
[لاهنّ حل لهم ولاهم يحلّون لهم] .
وإرجاعهنّ إليهنّ ذريعة إلى الوقوع بهن ....
* ومثال ما خالف مقتضى العقد: أن يشترط أحدهما النقض له ، أو يكون لهما كليهما النقض.ومن هنا فإن ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ نوع آخر من الأمان وهو في معنى الهدنة.فلك أن تقول:
الهدنة نوعان: لازمة، وجائزة.
والذي يحكم به أنها لازمة أو جائزة مايقع في العقد بين الكفار والمسلمين.