الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
كتاب الوصايا
"
الوصايا: جمع وصية وهي التبرع بعد الموت، وقد دل عليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم.
أما الكتاب: فقوله تعالى: ((من بعد وصيةٍ يوصى بها أو دين)) .
وأما السنة: فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين)(1) .
في مسلم: ثلاثاً، إلا ووصيته مكتوبة عنده.
وقد أجمع أهل العلم على ثبوت الوصية.
والوصية تصح من جائز التصرف، وقد تقدم من هو جائز التصرف في كتاب البيوع.
فجائز التصرف تصح وصيته ما لم يغرغر وتبلغ الروح الحلقوم، لأنه حينئذ لا قول له، ولذا تقبل توبة العبد ما لم يغرغر وهذا باتفاق العلماء.
وقد اتفق العلماء على أن غير العاقل وغير المميز لا تصح وصيتهما.
واختلفوا في وصية الصبي العاقل والسفيه البالغ:
1-
فجمهور العلماء على صحة وصيته، كعبادته، فكما تصح عبادته من صلاة ونحوها فكذلك تصح وصيته.
وذلك لأن وصيته نفع محض له لا ضرر عليه فيها، لأن الوصية تكون بعد الموت بخلاف الهبة فإنها تكون في حال الحياة.
وظاهر إطلاق الفقهاء سواء كان مما تستحب الوصية فيه أو مما لا تستحب مثال ما تستحب فيه الوصية، أن يوصي لأقاربه غير الوارثين.
ومثال الوصية غير المستحبة أو المباحة، أن يوصي للأباعد مع وجود الأقارب المحتاجين ظاهر إطلاق الفقهاء أن وصية الصبي تصح مطلقاً سواء كانت على وجهٍ تستحب معه أم لم تكن كذلك.
(1) أخرجه البخاري في باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم وصية الرجل مكتوبة عنده، من كتاب الوصايا، صحيح البخاري 4/ 2، ومسلم في كتاب الوصية، صحيح مسلم 3 / 1249، 1250. المغني [8 / 389] .
وقال شيخ الإسلام، وفسّر كلام الأئمة أحمد وغيره من السلف بقوله هذا، قال:"إذا كانت على وجه تستحب فإن وصيته تصح كأن يوصي لأقاربه غير الوارثين، وأما إذا أوصى للبعيد مع وجود القريب المحتاج فلا تمضي وصيته وذلك لأنه قاصر التصرف فاحتاج إلى نظر الشارع كما يحتاج إلى نظر الولي في بيعه وشرائه ونحو ذلك" ا. هـ.
وما ذكره- رحمه الله – ظاهر.
فعلى ذلك وصية الصبي صحيحه بشرط أن تكون على وجه يستحب كما قرر هذا شيخ الإسلام.
2-
وذهب الأحناف: إلى أن وصية الصبي لا تصح مطلقاً قياساً على هبته.
وهذا قياس مع الفارق، لأن الهبة في الحياة، والوصية بعد الحياة، فالهبة فيها فوات نفع أو لحوق ضرر، وأما الوصية فهي نفع محض.
وروى مالك في موطئه: أن عمر بن الخطاب، سئل عن غلامٍ من غسان لم يحتلم وورثته في الشام وليس له هاهنا، أي بالمدينة، إلا ابنة عم له فقال رضي الله عنه:"فليوصِ لها" وهو غلام لم يحتلم.
وكتابة الوصية سنة كما تقدم في حديث ابن عمر في قوله: " إلا ووصيته مكتوبة عنده ".
ويستحب الإشهاد عليها قطعاً للنزاع.
وإذا وجد خط له متضمن لوصية، وأثبتت البينة أن هذا هو خطه كأن يشهد اثنان على أن هذا هو خطه، فإن الوصية تصح.
أو أقرّ الورثة أن هذا هو خط مورثهم فالوصية تصح وتمضي.
ويستحب أن يُصدّر وصيته بما كان السلف يصدرون وصاياهم به، فقد روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال:"كانوا يكتبون في صدور وصاياهم" بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم وأن يطيعوا الله ورسوله وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
قال: [يسن لمن ترك خيراً- وهو المال الكثير أن يوصي بالخمس] .
فالوصية لمن ترك خيراً مستحبة لأنها من الإحسان للناس، والإحسان مستحب.
فإن قيل: ألا تجب لقوله تعالى: ((كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين))
والكتب هو الفرض والإيجاب.
فالجواب: أن هذه الآية منسوخة كما قال هذا ابن عباس ففي البخاري أنه قال: "كان المال للولد" أي الإرث "وللوالدين الوصية فنسخ الله ذلك".
وقوله هناً: "لمن ترك خيراً" وهو المال الكثير في العرف فمن ترك مالاً كثيراً في العرف فيستحب له أن يوصي.
وقال الموفق: "الذي يقوى عندي أن يكون المتروك يفضل عن غنى الورثة وإلا فلا تستجب"(1) واختاره صاحب الفائق من الحنابلة وهذا هو الذي يوافق ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس)(2) .
فقد يكون المال كثيراً لكن الورثة كثير بحيث أنهم لا يصيبون غنى بآحادهم فحينئذ تكره الوصية.
" أن يوصي بالخمس " فالمستحب في الوصية أن تكون بالخمس قال ابن عباس، كما في البيهقي بإسناد جيد قال:"الذي يوصي بالخمس أفضل من الذي يوصي بالربع، والذي يوصي بالربع أفضل من الذي يوصي بالثلث".
(1) قال الموفق في المغني: [8 / 392] : " والذي يقوى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غِنَى الورثة فلا تستحب الوصية ".
(2)
أخرجه البخاري في باب رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعيد بن خولة من كتاب الجنائز، وفي باب أن يترك ورثته أغنياء.. وباب الوصية بالثلث من كتاب الوصايا، وفي
…
صحيح البخاري 2 / 103، 4 / 3، 4، 5/ 87، 7/ 153، 155، 8/ 99، 187، ومسلم في باب الوصية بالثلث من كتاب الوصية، صحيح مسلم 3 / 1250، 1252، 1253، وبقية الأربعة، المغني [6 / 37] .
وفي البيهقي بإسناد منقطع، أن أبا بكر، أوصى بالخمس وقال: رضيت لنفسي ما رضيه الله لنفسه" يشير إلى قوله تعالى: ((واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه)) .
ولذا قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له: يا رسول الله: إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي فقال:"لا" فقال: أفأتصدق بشطره فقال: "لا" فقال أفأتصدق بثلثه فقال: "الثلث والثلث كثير، فدل على أن الوصية بالثلث خلاف الأولى" إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) .
قال: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي] .
لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لأجنبي لقوله صلى الله عليه وسلم: (الثلث والثلث كثير)
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الدارقطني من حديث معاذ، وفي المسند من حديث أبي الدرداء، وفي ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم) والحديث حسن لغيره.
فله أن يوصي للأجنبي بالثلث فأقل، فإن أوصى بأكثر من الثلث كأن يوصي له بنصف ماله، فإن الموصى له يعطى الثلث وما بقي له فما أوصى به ينظر فيه إلى الورثة فإن أجازوا فذاك وإلا فهو حقهم.
قال: [ولا لوارث بشيء] .
فالوارث لا يوصى له بشيء، لما روى الخمسة إلا النسائي والحديث صحيح متواتر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)(1) .
(1) أخرجه أبو داود في باب ما جاء في الوصية للوارث، من كتاب البيوع سنن أبي داود 2 / 103، والترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث من أبواب الوصايا، عارضة الأحوذي 8 / 275، 278، كما أخرجه النسائي في باب إبطال الوصية للوارث من كتاب الوصايا، المجتبى 6 / 207، وابن ماجه في باب لا وصية لوارث من كتاب الوصايا، سنن ابن ماجه 2 / 905، 906 وغيرهم، المغني [8 / 390] .
وحينئذ فإذا أوصى لوارث فإنه يكون موقوفاً على الورثة لأن المقصود منه حفظ حقهم.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الدارقطني بإسناد حسن، من الحديث المتقدم "إلا أن يشاء الورثة".
ولذا قال: [إلا بإجازة الورثة لهما بعد الموت] .
قوله "لهما" أي للأجنبي وللوارث.
وتكون إجازة الورثة معتبرة بعد الموت لا قبله ولذا قال في الحديث: "إلا أن يشاء الورثة" وهم إنما يكونون ورثة بعد موت مورثهم.
إذن: إن أجازوا الوصية لوارث، أو لأجنبي بما فوق الثلث أجازوا ذلك وهو في مرض الموت، فلهم أن يرجعوا عن هذا بعد موته لقوله:"إلا أن يشاء الورثة".
قال: [فتصح تنفيذاً] .
فتصح إجازتهم تنفيذاً لا ابتداءً.
بمعنى: أنه إذا أوصى له، وهو وارث بكذا من المال فأجازه الورثة، فهذه الإجازة من الورثة تكون تنفيذاً لوصية مورثهم، وإمضاءً لها وليست هبةً مبتدأة منهم فيشترط فيها ما يشترط في الهبات.
لقوله: (إلا أن يشاء الورثة) بعد قوله: "فلا وصية لوارث" أي إلا أن يشاء الورثة الوصية وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وعن الإمام أحمد: أنها هبة مبتدأة، والصحيح ما تقدم فهي وصية منفذة، وعليه فلا يشترط فيها قبض ولا غير ذلك مما يشترط في الهبات.
قال: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج] .
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) .
قال: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له] .
فتجوز الوصية بالكل لمن لا وارث له، وكذلك إذا كان له وارث فله أن يوصي له بما بقي من التركة فلو مات عن زوجته – ولم نقل بالرد عليها كما هو المشهور في المذهب – فقال: أوصي بمالي لزوجتي فحينئذ تأخذ الزوجة التركة كلها فرضاً ووصية وذلك لأن المنع من الزيادة على الثلث لحفظ حق الورثة بدليل قوله: ((إلا أن يشاء الورثة) ولذا إذا أجازوها مضت، فالمقصود حقهم، وحيث لا ورثة فحينئذ لا حق يعارض هذه الوصية.
قال: [وإن لم يف الثلث بالوصية فالنقص بالقسط] .
إذا لم يف الثلث بالوصايا فالنقص يلحق الجميع محاصّةً كمسألة الحول (1) في الفرائض، مثاله: إذا أوصى لفلان بعشرة آلاف، ولفلان بعشرة آلاف ولم يترك إرثاً إلا ثلاثين ألفًا، فثلثه عشرة آلاف فحينئذ لكل واحد منهما نصف الثلث وهو خمسة آلاف.
قال: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث صحت والعكس بالعكس] .
إذا أوصى لوارث كأن يوصي لأخيه حيث لا ابن له – أي للموصي – ثم ولد للموصي ولد فإن الأخ يحجب من الإرث فحينئذ تثبت للأخ الوصية، لأنه في حال موت الموصي ليس بوارث والعبرة بحال موته.
"والعكس بالعكس" فلو أوصى لغير وارث كأن يوصي لأخيه وللموصي أبناء فالأخ حين الوصية ليس بوارث ثم مات الأبناء في حياة والدهم فحينئذ أصبح الأخ وارثاً حيث لا حاجب له فحينئذ ليس له نصيب من الوصية لأنه في حالة الموت حيث تستحق الوصية هو وارث ولا وصية لوارث.
إذاً النظر في مسألة الوصية للوارث وغير الوارث معتبرة عند موت الموصي لأنها تبرع بعد الموت.
قال: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله] .
القبول للوصية معتبر بعد الموت لأنه هو وقت استحقاق الوصية، فلا عبرة بقبوله قبل موت الموصي.
فإن تراخى – أي لم يتعجل بالقبول – فله بعد ذلك القبول، ويجب أن يقيد هذا بحيث لم يكن تراخيه دليلاً على عدم قبوله – إذن: له أن يتراخى لأنه حق له، فلا يسقط بتراخيه.
فإن مات الموصى له قبل أن يقبل وقبل أن يرد، فهل يرث ورثته ذلك فيكون مقامه أم لا؟
قولان في المذهب:-
القول الأول: أن الوصية تبطل.
والقول الثاني: أنها لا تبطل ويقوم وارثه مقامه، وهذا هو الراجح لأنها حق له فورث كسائر حقوقه.
قوله: [ويثبت الملك به عقب الموت] .
(1) لعلها: العول.
يثبت الملك به أي بالقبول، فالضمير يعود إلى القبول، فإذا قبل الموصى له ما وصّي له به يثبت الملك به أي بالقبول أو يفعل ما يدل على القبول (1) ليس بملك له وهو ملك لورثة الموصي فنماؤه المنفصل يكون لهم ونماؤه المتصل على الخلاف المتقدم، والمذهب أنه يكون له.
فإذا أوصى له بكذا وكذا شاة ثم مات وتراخى الموصى له فلم يقبل إلا بعد شهر مثلاً فإن كان من نماء في هذه الشياة فإنه يكون للورثة لا للموصى له لأنه لا يكون ملكاً له إلا بقبوله كسائر العقود فإنها لا تنتقل بها الملكية إلا بالقبول.
قال: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد] .
من قبل الوصية ثم ردها لم يصح الرد، لأنها بقبولها أصبحت ملكاً له فلا يصح الرد، وحينئذ فإن قبل ذلك الورثة فهي هبة لهم، لأنه لما قبلها أصبحت ملكاً له فإذا ردها فإنها تكون هبة من الهبات.
قال: [ويجوز الرجوع في الوصية] .
إذا كتب رجل وصية ثم قال: الثلث لفلان، ثم بدا له أن يرجع فله أن يرجع اتفاقاً، وقد روى البيهقي – وسكت عنه الحافظ في تلخيص الحبير – أن عمر قال:" يحدث الرجل في وصيته ما شاء" وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو فقدم في حياته فله] .
إذا أوصى لعمرو بوصية ثم قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت لعمرو، فقدم في حياة الموصي فهي لزيد، وذلك لثبوت الشرط.
قال: [وبعدها لعمرو] .
فإذا لم يقدم زيد إلا بعد موت الموصي فإنها تكون لعمرو لا لزيد، لأنه ليس للموصي حق في الوصية بعد الموت، والشرط لم يقع.
قال: [ويخرج الواجب كله من دين وحجٍ وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به..] .
أي يخرجه وصيه ومن بعد ذلك وارثه ومن بعد ذلك الحاكم أي القاضي.
مما يتعلق بماله من الديون لله عز وجل كحج أو زكاة أو كفارة أو نذر وما يتعلق به من الديون للآدميين تخرج من رأس ماله قبل الوصية.
(1) لعل هناك سقط، ويستقيم المعنى بأن يقال: أما إذا لم يقبل فإنه ".
لقوله تعالى: ((من بعد وصية يوصى بها أو دين)) .
وفي الترمذي والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى بالدين قبل الوصية) .
فهذه الحقوق تخرج من ماله، ولو لم يوص بها لأنها حقوق لهم ثابتة.
لكن إن خشي أن تضيع عليهم حقوقهم حيث لم يوص فالوصية واجبة.
إذن: الدين يخرج قبل الوصية فيخرج من رأس المال.
مثال:
رجل أوصى لزيد بثلث ماله، وكان ماله مائة ألف، وعليه ديون قدرها خمسين ألفاً، فتقضى عنه ديونه وما بقي فإن زيداً يأخذ ثلثه.
قال: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي بدئ به] .
فإذا: أوصى بثلثه للفقراء، ثم قال: ما علي من دين فإنه يخرج من ثلثي.
فحينئذ يخرج من ثلثه كما قال.
فإن بقي شيء أخذه الموصى له وإلا فإنه يسقط لذا قال:
[فإن بقي منه شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط] .
إذن: الدين يخرج من رأس المال كله.
إلا أن يشترط المورّث إخراجه من الثلث، فحينئذ يخرج من الثلث فإن بقي شيء للموصى له أخذه وإلا فإنه يسقط.
" باب الموصى له "
الموصى له: هو من يستحق الوصية.
قال: [تصح لمن يصح تملكه] .
فالوصية تصح لمن يصح تملكه من كافرٍ أو مسلم، قال تعالى:((إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً)) سواء كان الكافر ذمياً أو حربياً.
أما الذمي فقد تقدمت وصية صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)) .
والحربي داخل في قوله تعالى: ((إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً)) .
قالوا: وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إلى عمر ثوب حرير فكساه أخاً له مشركاً) وهو حربي لأن أهل مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل حرب.
ومنع من ذلك الأحناف لقوله تعالى: ((إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تولوهم)) .
والآية في التولي:
لكن الأصل على مذهب الجمهور أن مال الحربي ليس بمعصوم وإنفاذ الوصية ينافي ذلك.
ويستثنى على اختيار ما قاله الجمهور السلاح والخيل ونحوه التي يقاتل بها المسلمون فإنها لا تحل الوصية له بها.
وكذلك يستثنى ما إذا كانت وصية إلى غير معينين، كأن يوصي لليهود أو النصارى أو نحو ذلك، فهذا لا يصح لما فيه من منافاة مقصود الشرع، ولما فيه من إرادة نفعهم لديانتهم وهذه من الموالاة المحرمة.
إذن: ما ذهب إليه الأحناف فيه قوة، وذلك لأن الحربي ماله ليس بمعصوم، وانفاذ الوصية ينافي ذلك. والله أعلم.
قال: [ولعبده بمشاع كثلثه ويعتق منه بقدره] .
إذا أوصى لعبده بمشاع كثلث المال أو ربعه أو نصفه، فإنه يصح، والعبد لا يملك لكن لما أوصى بمشاع دخل في ذلك العبد لأنه من المال، فإذا أوصى بالثلث فإن ثلث العبد يدخل فكانت الوصية بالمشاع متضمنةً للعتق منه.
بخلاف ما لو كان غير مشاع، كأن يقول: أوصيت لك بداري أو بكذا درهماً أو ديناراً، فإن هذا اللفظ لا يدخل فيه العبد، وحينئذ فيكون تمليكاً للعبد، والتمليك للعبد تمليك لسيده وسادته هم الورثة وحينئذ يكون هذا لا فائدة منه لأنه تمليك للمالك فهم مالكون للعبد والمال.
ولذا قال المؤلف بعد ذلك: [وبمئه أو بمعين لا تصح له] .
لأنه مملوك للورثة وهذه الوصية تكون لورثته فحينئذ لا فائدة من ذلك لكن إذا أوصى له بجزء مشاع كالثلث أو الربع فإنه يعتق منه بقدر المشاع فإذا قال: لك الربع عتق ربعه، فإن كان هناك فاضل عتق بقيته بقدر قيمته، فإن بقي شيء فله الفاضل.
ولذا قال: [ويأخذ الفاضل] .
أي بعد عتقه، فإذا عتق وبقي شيء فإنه يكون له لأنه يكون حراً فيصح تملكه.
قال: [وتصح بحملٍ ولحملٍ تحقق وجوده قبلها] .
أي قبل الوصية، أي تصح الوصية بحملٍ قد تحقق وجوده قبلها، كأن يقول "أوصيت لك بحمل هذه الدابة" وقد تحقق من وجود هذا الحمل أو "أوصيت بحمل هذه الأمة" وقد تحقق وجود هذا الحمل.
وتصح لحملٍ قد تحقق وجوده قبلها.
فمثلاً: لزيدٍ زوجة، وهي حامل فقال عمرو: للحمل الذي في بطن زوجتك كذا وكذا من مالي وصية، فتصح إذا تحقق وجوده كالإرث.
وقد تقدم بيان تحقق وجوده في كتاب الفرائض.
أما إذا لم يتحقق وجوده فإن الوصية لا تصح له لأنه معدوم والمعدوم لا يملك.
قال: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يُحج عنه بألفٍ صُرف من ثلثه مؤنة حجة بعد أخرى حتى ينفذ] .
كأن يقول "حجوا عني بألف دينار" والألف دينار عشر حجج، فُيحج عنه عشر حجج لأن هذه هي وصيته، وهي وصية برٍ على القول بجواز حج التطوع عن الميت.
وقال المؤلف: "لا حج عليه"، لأنه إذا كان عليه حج فريضة فإنه يؤخذ من رأس المال، فنفقة حجة الفريضة تؤخذ من رأس المال لا من الثلث.
قال: [ولا تصح لملك] .
إذا وصى لملكٍ كجبريل عليه السلام ونحوه فلا تصح هذه الوصية، وذلك لأنه لا يملك.
والقاعدة: أنها لا تصح الوصية لمن لا يصح تملكه.
قال: [وبهيمةٍ] .
فإذا أوصى لبهيمة فلا تصح هذه الوصية، لأن البهيمة لا تملك.
قال: [وميتٍ] .
كذلك لا تصح الوصية للميت لأنه لا يملك.
وقال الإمام مالك: بل إذا أوصى لميتٍ يعلم موته فإن الوصية تصح ويكون في قضاء دينه إن كان عليه دين وإلا فلورثته.
وهو القول الراجح؛ وذلك لأنه لما أوصى له مع علمه بموته، فإن هذا يدل على أن غرضه نفعه، وهذا يحصل بقضاء دين أو بإعطائه ورثته.
وكذلك في مسألة البهيمة فإنه لا يقصد تمليكها بل يقصد نفعها فيوضع في علفها وغير ذلك مما تحتاج إليه.
قال الحنابلة: إذا أوصى لعبد غيره صحت لسيده.
والقول الثاني في المذهب: أنها لا تصح.
والراجح صحتها.
ويخرج عليها مسألة البهيمة فإنها تكون لمالك البهيمة.
والمذهب: أنه إذا أطلق فقال: "أوصيت بكذا للبهيمة الفلانية" فلا تصح.
وإن لم يطلق بل قال: لفرس زيدٍ مثلاً، فحينئذ يعلم أنه لا يريد تمليكها، وإنما يريد نفع مالكها فتصح.
قالوا: وتلزم بلا قبول من العبد أو من المالك.
والصحيح عدم لزومها إلا بالقبول.
وذلك لأن المنة تلحقه كما لو أوصى إليه، لأن مراده نفعه، فإذا أوصى لفرسه فإن مراده نفع صاحب الفرس فاشترط رضاه.
قال: [فإن أوصى لحي وميتٍ يعلم موته فالكل للحي] .
إذا قال: هذه الدار وصية لزيدٍ وعمرو، وهو يعلم أن زيداً ميت.
قالوا: فالكل للحي.
أما على القول الراجح المتقدم فإن نصيب الميت يصرف في قضاء دينه وإلا فيكون لورثته.
وهذه المسألة متفرعة عن المسألة المتقدمة.
فعلى المذهب: أنه إذا أوصى لحيي وميت يعلم موته فالكل للحي.
قالوا: لأنه أضاف الوصية إليهما مع علمه أن أحدهما غير قابلٍ للوصية، فكأنه أراد الوصية للحي وحده وهذا تعليل ضعيف، وما ذكره المؤلف هنا قول في الذهب.
والمشهور في المذهب: أن للحي النصف، وذلك لأنه أضاف الوصية إليهما وكون أحدهما لا تصح له الوصية لا يقتضي تملك الآخر لنصيبه بل يقتضي بطلان الوصية في نصيب الميت ولا يقتضي تمليك الآخر إذ كيف يملك ما لم يعطه، هذا هو المشهور في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن سعدي.
قال: [وإن جهل فالنصف] .
إذا قال: هذا وصية لزيدٍ وعمرو وهو لا يدري أن زيداً ميت فيكون للحي النصف، لأنه أضاف الوصية إليهما، وهذا يقتضي أن تكون الوصية لهما وإذا مات أحدهما فالوصية تبطل في حقه وتبقى للآخر فله النصف.
قال: [وإن وصى بماله لابنيْه وأجنبي فردا فله التسع] .
إذا قال عند موته: "مالي كله وصية لابنيّ وزيدٍ، فمقتضى هذا اللفظ أن يكون لكل واحدٍ منهما الثلث، فإذا ردّ الابنان الوصية ولم ينفذاها، فحينئذ ترجع إلى الثلث فيكون له التسع.
وذلك لأن الوصية له بثلث ما يكون وصيةً، وكان المال كله وصية فرده الابنان فرجعت الوصية إلى الثلث، وثلث الثلث التسع، هذا هو المذهب.
وقال أبو الخطاب من الحنابلة بل له الثلث، وهو أقيس وذلك لأن لفظه المتقدم يدل على إعطاء الأجنبي الثلث وإنما قال:"لابني ولزيدٍ" هذا المال، حيث أمضوا وصيته وأما وقد ردوا الوصية فمقتضى لفظه المتقدم أن يكون للأجنبي الثلث.
" باب الموصى به "
الموصى به: هو الشيء الذي وقعت الوصية عليه كدارٍ أو حيوان أو نحو ذلك.
قال: [تصح بما يعجز عن تسليمه كآبق وطيرٍ في هواء] .
فالوصية تصح بما يعجز عن تسليمه.
فلو قال: أوصيت لك بعبدي الآبق أو بجملي الشارد ونحو ذلك فالوصية صحيحة.
وذلك لأن باب التبرعات يغتفر فيه ما لا يغتفر في باب المعاوضات، فهو تبرع إن حصل فذاك وإلا فإنه لا غرر عليه.
قال: [وبالمعدوم كبما يحمل حيوانه وشجرته، أبداً أو مدة معلومة] .
فالوصية بالمعدوم صحيحة.
فإذا قال: حمل حيواني لك أو ثمر ما تنتج شجرتي من الثمار فهو لك وصية أبداً أو مدة معلومة.
أي سواء كان ذلك أبداً أو مدة معلومة.
ومثل ذلك المجهول والمبهم فإنها تصح فيهما الوصية والمبهم كأن يقول: أوصيت له بأحد عبديّ هذين فإنه يقرع بينهما.
قال: [فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية] .
فإذا حصل فهو له.
وإن لم يحصل شيء فإن الوصية تبطل.
قال: [وتصح بكلب صيد ونحوه وبزيت متنجس، وله ثلثهما ولو كثر المال] .
فالوصية بكلب الصيد ونحوه ككلب زرع وماشية، وصية صحيحة وكذلك الوصية بالزيت المتنجس صحيحة أيضاً، ويكون للموصى له ثلثه فقط.
فإذا قال: "أوصيت بكلبي المعلم لزيدٍ" فإن الورثة يشاركونه فللورثة، الثلثان من هذا الكلب، ولزيدٍ الثلث وذلك: لأن موضوع الوصية تسليم ثلثي التركة للورثة وأن تكون الوصية في الثلث.
وهنا الكلب ليس من جنس التركة فاستحق فيه الثلثين، هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أنه ليس للورثة منه شيء بل الكلب كله للموصى له، وكذلك الزيت المتنجس.
وذلك لأنه لا قيمة له، فإذا كان يملك الثلث من المال إذا أوصى له به فأولى من ذلك أن تملك مثل هذا الذي لا قيمة له.
[ولو كثر المال] ، فله ثلثهما ولو كثر المال.
والقول الثاني: إن ذلك له ولو قل المال وهو الراجح لما تقدم.
قال: [إن لم تجز الورثة] .
فإذا أجازت الورثة فإنه يملك الكلب كله والزيت المتنجس كله.
فإذا لم تجز الورثة فله ثلثهما، كما تقدم.
قال: [وتصح بمجهول كعبدٍ وشاةٍ] .
فإذا قال: "أوصيت لك بعبدٍ أو شاةٍ" فالوصية صحيحة لأن هذا من باب التبرعات.
قال: [ويُعطى ما يقع عليه الاسم العرفي] .
فإذا أوصى له بعبدٍ مجهول أو شاة مجهولة أو نحو ذلك، فإنه يعطى ما يقع عليه الاسم العرفي، فما يقع عليه اسم العبد عرفاً فإنه يعطاه، وهذا هو اختيار الموفق.
وقال الحنابلة: بل يرجع بذلك إلى اللغة، لأن كلام الله وكلام رسوله مردهما إلى اللغة فكذلك لفظ الموصي، وهذا ضعيف وقد تقدم كلام شيخ الإسلام في لفظ الواقف وأن مرجعه إلى ما اعتاده من الكلام، لأن هذا هو مراده.
فالله ورسوله يعرف مرادهما باللغة، وأما لفظ الموصي فإن مراده يعرف بلغة خطابه.
قال: [وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً ولو دية دخل في الوصية] .
إذا قال: ثلث مالي لزيدٍ "فاستحدث مالاً أي حدث في ملكه مال جديد لو بعد موته.
كأن يضع شبكة في بحرٍ فتصيد بعد موته، فهذا الصيد يدخل في ملكه، وتدخل الوصية فيه ولو كان ذلك ديةً، لأن الدية بدل نفسه، ونفسه له فكان بدلها ملكاً له.
فإذا ترك مئة ألف وكانت ديته مئة ألف، فحينئذ الثلث يكون أقل من السبعين ألفاً، فالثلث يكون من ماله كله تلاده وطريفة (1) ومن ذلك الدية.
قال: [ومن أوصى له بمعين فتلف بطلت] .
إذا أوصى له بمعين كدابة مثلاً فماتت فلا شيء للموصى له وذلك لأن حقه في الوصية متعلق بهذا المعين، فبطلت الوصية بتلفه.
وهذا من مبطلات الوصية.
(1) يراجع الأصل، لعدم وجوده بين يدي.
وقد تقدم أن من مبطلاتها أيضاً رجوع الموصي، وتقدم أيضاً عدم قبول الموصى له.
وتبطل أيضاً بقتل الموصى له للموصي كالإرث.
فكما أن الوارث إذا قتل مورثه لا إرث له فكذلك الموصي.
وتبطل أيضاً بموت الموصى له قبل موت الموصي، لأنها تبرع بعد الموت يملكه بعد الموت، وهنا قد مات الموصى له قبل ملكه.
قال: [وإن تلف المال غيره فهو للموصى له] .
إذا تلفت التركة كلها ولم يبق إلا هذا الشيء المعين الموصى به، فهو للموصى له.
فمثلاً: أوصى له بعبد ثم تلفت التركة ولم يبق إلا هذا العبد فهو له لأن الورثة لا حق لهم في هذا العبد فحقهم غير متعلق به.
قال: [إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة] .
أما إذا كان هذا أكثر من ثلث المال فإنما يصح منه ما كان بقدر ثلث المال إلا أن يجيز الورثة.
" باب الوصية بالأنصباء والأجزاء"
الأنصباء: على وزن أصدقاء جمع نصيب.
والأجزاء: جمع جزء.
وهذا الفصل هو: حساب الوصايا إن نسبت الوصية إلى نصيب الورثة.
قال: [إذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة] .
إذا قال: "لزيدٍ مثل ما يكون لأبي أو لابني أو لزوجتي أو نحو ذلك.
فحينئذ: نضع مسألة للورثة.
فإذا وجدنا – مثلاً – أن المسألة من ستة، ونصيب الأب فيها واحد من ستة وقد قال: لزيد من مالي مثل ما لأبي فحينئذ تعول المسألة إلى سبعة فنعطيه سهماً واحداً كما يأخذ أبو الموصي.
قال: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث وإن كانوا ثلاثة فله الربع، وإن كان معهم بنت فله التسعان] .
أي له اثنان من تسعة.
وما ذكر هنا أمثله على ما تقدم.
قال: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يعين كان له مثل ما لأقلهم نصيباً] .
إذا قال: أوصيت لزيدٍ بمثل نصيب أحد ورثتي ولم يعين فحينئذ نؤصل المسألة وننظر من هو أقل الورثة سهاماً، فنعطي الموصى له قدره، لأن هذا هو اليقين وما زاد فهو مشكوك فيه وهو مذهب الجمهور.
قال: [فمع ابن وبنت ربع] .
فالمسألة من ثلاثة، والبنت لها واحد من ثلاثة، فنعطيه هو واحد فتعول المسألة إلى أربعة فيكون له الربع.
قال: [ومع زوجة وابن تسع] .
فالزوجة مع الابن لها الثمن أي واحد من ثمانية، فنعطي الموصى له واحد فتعول المسألة إلى تسعة فيكون له التسع.
قال: [وبسهم من ماله فله السدس] .
إذا قال: أوصيت لزيدٍ بسهم من مالي" فله السدس.
قالوا: لما روى الطبراني، أن رجلاً أوصى الآخر بسهم من ماله فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس.
قالوا: وهو ثابت في لغة العرب أي أن السهم سدس المال أما الحديث فهو ضعيف.
وأما ثبوت هذا في اللغة، فإن لم يثبت فلا كلام.
وإن ثبت فمرجع مثل هذه المسألة إلى العرف، فإن كان هناك عرف في السهم فإنه يعطاه.
فإن لم يكن هناك عرف فالراجح أنه يعطى سهم من تصحيح المسألة هو رواية عن الإمام أحمد.
بمعني: نصحح مسألة الورثة فإذا كانت المسألة من ثمانية فإنه يعطى واحد من تسعة لأن المسألة تعول بسهمه إلى تسعة فيعطى واحد من تسعة.
قال: [وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء] .
إن قال: أوصى لفلان بحظ من مالي أو بجزءٍ أو بشيء فهذا لا حد له في اللغة والشرع فحينئذ يعطى ما يصدق عليه أنه شيء أو جزء أو نصيب أو حظ في العرف مما يتمول عادةً.
"باب الموصى إليه "
الموصى إليه: هو الوصي، وهو من يؤذن له بالتصرف بالمال بعد الموت.
أي يتصرف في مال الميت بقضاء ديونه وإخراج ثلثه ونحو ذلك.
فإن كان الإنسان يثق بنفسه ويعلم من نفسه القيام بهذا العمل فهو مندوب إليه لأنه من الإحسان إلى الناس، والإحسان إلى الناس مندوب.
قال: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم] .
فلا تصح الوصية إلى الكافر اتفاقاً، أي لا يصح أن يكون متصرفاً في المال بعد موت المورّث.
قال: [مكلفٍ] .
فلا تصح إلى مجنون ولا إلى صبي اتفاقاً.
قال: [عدل رشيد] .
فلا تصح إلى فاسق ولا إلى سفيه لعدم أهليتهم وقصور تصرفهم.
قال: [ولو عبداً] .
ولو امرأة أيضاً، وقد تقدم أن عمر قد أوصى بوقفه إلى حفصة رضي الله عنها.
ويصح أيضاً أن يكون عبداً.
قال: [ويقبل بإذن سيده] .
فالعبد لا يقبل إلا بإذن سيده، لأن السيد يملك منافعه فاشترط إذن سيده.
قال: [وإذا أوصى إلى زيدٍ وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركاً] .
وذلك لأن لفظه لا يفيد عزلاً.
لكن إن كانت هناك قرينة تدل على العزل فحينئذ يكون قوله الآخر ناسخاً لقوله الأول.
فإن لم تكن هناك قرينة فإنهما يشتركان لأن لفظه الآخر لا يفيد عزلاً.
قال: [ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله (موص) له] .
فإذا أوصى لزيدٍ ثم بعد ذلك قال: أوصيت إلى عمرو، فليس لأحد هذين الوصيين أن يتصرف بالانفراد لأنه لم يؤذن له بذلك على هذه الصفة، فإنه يشترط نظر الاثنين كالوكيلين، فليس لأحد الوصيين أن يتصرف منفرداً بل لابد أن يشتركا في التصرف.
قال: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي كقضاء دينه وتفرقة ثلثه والنظر لصغاره] .
هذا ظاهر.
فلا تصح وصية إلا في تصرف معلوم، لأنه إن كان التصرف غير معلوم فإنه لا يمكنه التصرف ولا يمكنه حفظ المال.
كذلك لابد وأن يكون الموصي يملك التصرف فيه قبل موت، فليس له أن يأذن لأحدٍ في أن يتصرف في الشيء هو لا يملك التصرف فيه بل لا بد أن يكون هو مالكاً للتصرف فيه.
قال: [ولا تصح بما لا يملكه الموصي كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك]
لأنها لا تملك ولايتهم.
كذلك لا تصح وصية الرجل على ابنٍ له بالغ رشيد وذلك لأنه هو لا يملك الولاية على البالغ الرشيد فأولى من ذلك الموصى إليه.
قال: [ومن وصّي في شيء لم يصر وصياً في غيره] .
هذا أيضاً ظاهر.
فإذا: أوصيت إليك بقضاء الدين، فليس له أن يخرج الثلث لأنه لم يؤذن له بذلك.
قال: [فإن ظهر على الميت دين يستغرق (تركته) بعد تفرقة الوصيّ لم يضمن] .
أي: بعدما أخرج الثلث وتصرف في هذا المال بعض التصرف على الوجه المأذون له فيه، بعد ذلك أتى شخص له دين يستغرق التركة فحينئذ لا يضمن الوصي، لأنه معذور لعدم علمه وحينئذ فيرجع هذا الدائن إلى الورثة لأن حق الدائن سابق لحقهم.
قال: [وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت لم يحل له ولا لولده] .
فإذا قال له: ضع ثلثي حيث شئت، لم يحل للموصى إليه أن يضعه له ولا لولده.
قالوا: لأنه متهم في حقه فلا يحل له أن يضعه في نفسه ولا أن يضعه في ولده لأنه متهم في حقهم.
وقال المجد ابن تيمية بل له أن يضعه في ولده وذلك لأن وضعه في الولد تفريق له وحيث كانوا مستحقين فقد صرفه في المستحقين فظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز أن يضعه في غير الولد كالأب والأم.
والمشهور في المذهب خلاف هذا، وأنه لا يجوز له أن يعطيه سائر الورثة.
ومذهب أبي حنيفة وهو احتمال في المذهب، أن له أن يضعه في نفسه وولده وذلك لتناول اللفظ له ولهم وهذا هو القول الراجح.
وأما كونه متهماً في حقهم، فهذا لا أثر له وذلك لأنه قد رضي بتصرفه فرضاه بتصرفه يزيل التهمة في حقه.
وقد يقال: بأن له أن يتصرف به على الوجه الأصلح كالوكيل فإن كان الأصلح دفعه لنفسه أو لولده فعل ذلك.
وإلا فيجب عليه أن يدفعه إلى الأصلح أي إلى الأحق سواء كان النفس أو الولد أو غيرهما.
مسألة:
المشهور في المذهب أن للوصي أن يعزل نفسه متى شاء أي في حال حياة الموصي وبعده.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة، أنه ليس له ذلك أي بعد موت الموصي وهو الراجح.
لما في ذلك من تضييع الأمانة وتعريض المال للضياع وأما في الحياة فإن المال بيد صاحبه ويمكنه أن يوصي غيره فيجوز للموصى إليه أن يعزل نفسه في حياة الموصي.
والمذهب: أن الموصى إليه ليس له أن يوصي إلى غيره بالمال كالوكالة.
وهذا ظاهر، لكن يتجه إن خشي من عدم قيام الحاكم أي القاضي بالمال قيامًا شرعياً، بأن كان القاضي ليس أهلاً، حينئذ يتجه جواز الإيصاء أي مع العذر فإذا كان معذوراً فله أن يوصي غيره أي أن يوصي أميناً.
إذن الراجح أن له أن يوصي غيره إن لم يكن القاضي أهلاً أو خشي أن يولي الحاكم غير أمين، لوجوب حفظ المال هذا إن كان له عذر.
قال: [ومن مات بمكان لا حاكم فيه ولا وصي حاز بعض من حضره من المسلمين تركته (1) وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره] .
من مات بمكان لا قاضي فيه ولا وصي فإنه يجوز لبعض المسلمين ممن حضره أن يتولى تركته ويعمل الأصلح فيها من بيع وغيره.
وذلك لأن هذا موضع ضرورة فهو وإن لم يوصِ إليه فإن هذه ضرورة لحفظ المال وهذا من واجبات الكفاية.
فإن عدم قيام البعض بذلك ضياع للمال.
انتهى شرح كتاب الوصايا من زاد المستقنع للشيخ حمد الحمد، حفظه الله ونفع به.
(1) عندي بلفظ: " ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته
…
".