الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
كتاب الحدود
"
الحد لغة: المنع
وشرعاً: عقوبة مقدرة شرعاً في معصية، كحد الزنا لغير المحصن، مائة جلدة.
فهذه العقوبة وهي مائة جلدة، عقوبة مقدرة من الشارع فليست راجعة إلى اجتهاد الحاكم.
ويجب على الحاكم إقامة حد الله تعالى، ولا يحل له أن يتركه لشريف ولا لشفاعة إذا بلغ الحاكم.
فإذا بلغ الحاكم الحد فيجب عليه أن يقيمه والشفاعة حينئذ محرمة.
ففي الصحيحين: أن أسامة بن زيد شفع في مخزومية سرقت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فشفع أسامة بن زيد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مستنكراً:(أتشفع في حدٍ من حدود الله) .
وفي الخمسة بإسناد صحيح في قصة سرقة رداء صفوان، وفيه أن صفوان شفع لسارق ردائه عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله تعالى في أمره) .
وفي أبي داود بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) .
فالشفاعة محرمة إذا بلغت المعصية الحاكم، وأما قبل أن تصل إلى الحاكم فلا بأس بالشفاعة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:(هلا كان ذلك قبل أن تأتيني) .
قال: [لا يجب الحد إلا على بالغ عاقل] .
فالحد لا يجب إلا على عاقل بالغ أي مكلف، وهذا بإتفاق العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم:(رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق) .
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قال لماعز بن مالك: (أبك جنون) .
فالمجنون والصبي لا يقام عليهما الحد.
والمجنون لا يعزر، ولكن الصبي يُعزر بما يراه الحاكم بما يكون فيه ردعاً له عن التعدي.
قال: [ملتزم] .
فلا بد أن يكون من يقام عليه الحد ملتزماً، أي ملتزم بالشريعة الإسلامية وهو المسلم والذمي.
وأما المستأمن والحربي فإن الحد لا يقام عليهم لأنهم لا يلتزمون بأحكام المسلمين.
قال: [عالم بالتحريم] .
لقوله تعالى: ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) .
وقال في الحديث صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى (قد فعلتُ) رواه مسلم فلابد أن يكون عالماً بالتحريم.
أما إن كان جاهلاً بالتحريم فلا يقام عليه الحد، وذلك حيث أمكن قبول دعواه كما لو كان ناشئاً في جهة من الجهات لا تنشر فيها أحكام الإسلام، كما يقع في بعض الأزمان في البوادي.
وإن كان في زمننا هذا، في هذه البلاد غير مقبول، لكن في بعض البلاد الأخرى يقبل هذا في بعض البوادي أو النواحي البعيدة عن سماع القرآن والأحاديث.
أو كان حديث عهد بإسلام.
أما الذي يعيش في بلاد المسلمين، فإنه لا يقبل منه ادعاء الجهل لأن الجهل بهذا الحكم غير مقبول لأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة.
وكذلك إذا جهل الحال، فهو يعلم أن هذا محرم في الشريعة، لكنه يجهل أن هذه العين محرمة عليه.
كأن يعلم أن الزنا محرم لكنه يجهل أن هذه المرأة محرمة عليه كما تقدم في غير ما مسألة في كتاب النكاح.
أو كذلك في السرقة: أخذ من مال يظن أنه ماله، والمال في جرز وقد توفرت فيه الشروط التي تقطع اليد بتوفرها فإن اليد لا تقطع لأنه يجهل أن هذه العين محرمة.
إذن: لابد من العلم بالتحريم، ولابد من العلم بأن هذه العين محرمة عليه فإن علم التحريم لكنه جهل العقوبة، فإن ذلك ليس بعذر له ولا يقبل منه.
وذلك: لأنه قد انتهك حرمة من حرمات الله، والحكم معلق بذلك.
قال: [فيقيمه الإمام أو نائبه] .
لقوله صلى الله عليه وسلم: (واغدُ يا أنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) متفق عليه.
فلا يقيمها إلا الإمام أو نائبه وذلك، لأن إقامة غير الإمام أو نائبه فيها مفاسد، فإنه يترتب عليها سفكاً للدماء باسم إقامة الحد، وقطعاً للأطراف باسم ذلك ولاشك أن في ذلك مفاسد كبيرة.
كما إن إثبات الحد يحتاج إلى اجتهاد، وأيضاً في تطبيقه يخشى الحيف.
والمراد بالإمام هنا، الإمام الأعظم.
" أو من ينيبه عندنا هنا الأمراء في البلاد، وكذلك وزارة الداخلية، فإنها تعتبر هي القائمة بهذا الباب".
وقال شيخ الإسلام بهذا القول لكنه ذكر أنه إذا كانت قرينة كتطلب الإمام لأحدٍ ليقتله فإنه يجوز قتله.
فمثلاً: إذا ثبت عند القاضي أن هذا حده القتل ورفعت القضية للإمام وصدق على ذلك، لكن هذا الرجل فرّ من حكم الله، فهنا القرينة طاهرة، في إرادة الإمام تطبيق حد الله تعالى عليه فحينئذ يجوز لمن رآه أن يقتله، وفي هذا القول قوة والله أعلم.
مسألة:
ويجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فثبت زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فثبت زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) متفق عليه.
في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب: أنه قال في خطبته: " يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدود، فإن أمة للنبي صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فقال النبي صلى الله عليه وسلم أحسنت". رواه أبو داود في سننه مرفوعاً، والصواب وقفه.
وبه استدل جمهور العلماء على أن السيد يقيم الحد على عبده لكنه عندهم غير القطع، فلو سرق فإنه لا يقطع يده وإنما يكون هذا بما دون القطع، كالجلد ونحوه.
وذهب الشافعية وهو وجه في مذهب أحمد إلى أنه يقيمه عليه وإن كان قطعاً.
وهو ظاهر أثر علي بن أبي طالب المتقدم، وهو صريح فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق أن عبداً سرق فقطع يده.
فالصحيح أن السيد يقيم على عبده سائر الحدود ولو كان في ذلك قطع الطرف.
وهل له أن يقيم الحد بمجرد علمه أم لابد وأن يثبت البينة؟
فإذا رأى السيد عبده وهو يزني أو يسرق فهل له أن يقيم عليه الحد أم ليس له ذلك حتى تقوم عنده البينة أو يقر هذا العبد.
قولان لأهل العلم، هما قولان في مذهب أحمد:-
القول الأول: وهو مذهب مالك، أنه لا يقيم عليه الحد بعلمه كالحاكم، بل لابّد من البينة أو الإقرار.
القول الثاني: وأنه يقيمه بمجرد علمه، وهذا هو الأظهر وأما القياس على الحاكم، فهو قياس مع الفارق.
والفارق بين الحاكم والسيد أن الحاكم إنما منع من إقامة الحد بعلمه فراراً من تهمة الحاكم.
وأما السيد فهو حريص على حفظ ماله والعبد مال له، فهو حريص عليه وعلى حفظه وألا يتطرق إليه ما ينقص ماليته، وهذا فرق ظاهر بينهما.
قال: [في غير مسجد] .
لما روى الترمذي والحاكم والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم????نهى أن تقام الحدود في المساجد) .
قال: [ويضرب الرجل في الحد قائماً] .
وذلك ليعم الضرب بدنه، ولئلا يخص ذلك موضعاً منه فيضّر به.
وفي ذلك أثر عن علي بن أبي طالب في ضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة رواه البيهقي بإسناد ضعيف.
قال: [بسوط لا جديد ولا خلق] .
فيضرب بسوط لا جديد ولا خلق.
ليس بالجديد فيجرحه، ولا بالخلق فلا يؤثر به ولا يؤلمه فيكون وسطاً.
قال: [ولا يمد ولا يربط ولا يجرد بل يكون عليه قميص أو قميصان] .
ولا يمد: أي لا يمد على الأرض.
ولا يربط: أي لا يقيد.
ولا يجرد من ثيابه وفي ذلك أثر عن ابن مسعود رواه البيهقي بإسناد ضعيف أنه قال: " ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد" لكن الأثر ضعيف، والمعنى صحيح ويدل عليه ما في الأحاديث من إقامة الحد من النبي صلى الله عليه وسلم?فإنه لم يجرد ولم يمد ولم يقيد، لكن القيد إن دعت الحاجة إليه فإنه يُفعل ولا بأس بذلك.
ويكون عليه قميص أو قميصان مما جرت العادة بلبسه مما يجعله يشعر بألم الضرب، وأما إذا كانت عليه ثياب كثيرة بحيث لا يبالي بالضرب فلا.
قال: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد] .
حتى قالوا: لا يرفع الضارب يده حتى يظهر بياض إبطه، لأن هذا ضرب شديد يؤلم ألماً شديداً فربما شق الجلد أو آذاه آذىً شديداً.
وليس المقصود هو الإتلاف وإنما المقصود هو التأديب والزجر.
قال: [ويفرق الضرب على بدنه] .
لئلا يضرّ به.
مسألة:
فإن كان من يُراد إقامة الحد عليه مريضاً، فله حالان:
الحالة الأولى: ألا يرجى زوال مرضه، فإنه يقام عليه الحد إقامة لا تضر به.
كأن يضرب بالنعال أو يضرب بطرف الثوب، أو بشماريخ العثكال أو نحو ذلك.
ويدل على ذلك: ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهما: أن رويجلاً: أي ضعيف الزحولة "خبُثَ بأمة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم?بإقامة الحد عليه" فقيل هو ضعيف فقال خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة.
والعثكال: هو مجمع الشماريخ في النخل.
وقد قال تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم)) ومن ذلك إقامة الحد ومن الحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .
الحالة الثانية: أن يرجى زوال مرضه.
فالمشهور في المذهب: أنه كذلك فلا يؤخر عليه الحد بل يضرب وهو مريض على حالة لا يثبت معها الضر.
وقال الجمهور وهو احتمال في المذهب: أنه يتراخى حتى تزول مدة العلة وحتى يزول هذا العارض.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، ويدل عليه ما تقدم في أُر علي بن أبي طالب: فإنه لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم?أن يقيم الحد على الأمة وجدها حديثة عهد بنفاس فأخر إقامة الحد عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم????أحسنت) .
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال للزانية: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه) ، وهذا يدل على تأخير إقامة الحد للعارض.
وبه يحصل مقصود الحد من الزجر والردع، أما ما استدل به الحنابلة من الحديث المتقدم فإن الرجل لا يرجى زوال مرضه بخلاف ما هو واقع في هذه المسألة.
مسألة:
إن كان الرجل في أرض العدو في الغزو، فهل يقام عليه الحد في أرض العدو أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
أصحهما وهو المشهور في المذهب، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد ألا يقام عليه الحد.
وعليه دلت السنة وآثار الصحابة، فالسنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: ((لا تقطع الأيدي في الغزو (وفي لفظ) ?في السفر)) المراد في سفر الغزو وذلك لئلا يترتب على إقامة الحد ما هو أعظم ضرراً كأن يلحق بالعدو فراراً يعني تأخذه العزة بالإثم.
وأيضاً ليكون أنكى في قتال العدو فإن إقامة الحد يضعفه.
وأما آثار الصحابة فهو قول عمر وأبي الدرداء وحذيفة ولا يعلم لهم مخالف.
فإذا رجع أقيم عليه الحد، للأدلة في ذلك، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وهذا سارق وإنما أخر للمعنى المتقدم.
واختار ابن القيم أنه إن ظهرت منه التوبة النصوح أو ظهرت منه حسنات كنكاية عظيمة في العدو فإنه يعفى ويدل على ذلك: ما كان من سعد بن أبي وقاص مع أبي محجن وهي قصة صحيحة رواها عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي سعد وسعيد بن منصور، وغيرهم، وقد صحح إسنادها الحافظ ابن حجر والقصة أنه شرب الخمر وكان له بعد ذلك نكاية بالعدو فحلف سعد بن أبي وقاص ألا يجلده البتة لما كان له من النكاية بالعدو.
فهذا أثر صاحب لا يعلم له في هذه المسألة مخالف أي مع هذه القيود المتقدمة.
قال: [ويتقي الرأس والوجه والفرج والمقاتل] .
وهذا ظاهر لأن المقصود هو التأديب وليس هو الإتلاف.
قال: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة] .
فتضرب جالسة لان ذلك أستر لها، وتقدم أثر علي وأن إسناده ضعيف لكن المعنى يدل على ذلك.
قال: [وتشد عليها ثيابها] .
فهذا أستر لها.
قال: [وأشد الجلد جلد الزنا ثم القذف ثم الشرب ثم التعزير] .
فأشد الجلد جلد الزنا، فهو أشد من جلد القاذف وجلد القاذف أشد من جلد الشارب وجلد الشارب أشد من الجلد في التعزير.
قالوا لقوله تعالى في الزنا: ((ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)) فلما ذكر ذلك بخصوص الزنا دل على أن الجلد فيه أشد.
والقذف ثمانون جلدة وهو أشد من شرب الخمر " وهو مشكل على المذهب لكن على الراجح هو أن الحد أربعون وما زاد فهو تعزير واختاره شيخ الإسلام، لا إشكال في ذلك.
قال: [ولو مات في حد فالحق قتله] .
فإذا جلد الحاكم زانياً غير محصن فإن جلده فمات بذلك مائة لا شيء عليه.
وذلك لأن فعله مأذون فيه بالشرع وما كان مأذوناً فهو غير مضمون.
لكن لو تعدى ولو زيادة جلدة واحدة أو ضربه ضرباً يحصل فيه أذى شديد فتجب ديته.
قال: [ولا يحفر للمرجوم في الزنا] .
سواء كان ذكراً أو أنثى.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم?لم يحفر لماعز ولا لليهوديين اللذين زنيا.
وقال بعض الحنابلة بل يحفر للمرأة سواء كان زناها ثابتاً ببينة أو بإقرار.
واستدلوا بما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم????أمر بها فحفر لها إلى?صدرها) .
وذلك أستر لها.
والذي يترجح هو هذا القول، لكنا لا نقول بوجوبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم?حدّ ولم يفعله كما في قصة اليهوديين.
مسألة:
???وهي هل يقام الحد من قتل أو قطع على من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى حرم الله (أي الحرم المكي) ؟
أما من فعل المعصية في الحرم كأن?يسرق أو يقتل فإنه يقام عليه الحد بلا خلاف.
لكن الخلاف فيمن سرق أو قتل ثم لجأ إلى الحرم المكي؟
فهل يقام عليه الحد أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد وهذا اختيار ابن القيم أنه لا يقام عليه الحد في الحرم لكن: يضيق عليه فلا يؤاكل ولا يشارب ولا يؤوى ولا يبايع ولا يشارى بمعنى: إن استأجر لم يؤجر وإن طلب ماءً لا يسقى ولا يجالس ويناشد الله عز وجل أن يخرج من الحرم إلى الحل ليقام عليه حد الله تعالى.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يقام عليه الحد.
واستدلوا: بعمومات النصوص التي تدل على إقامة الحد، كقوله تعالى:((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) .
وقوله: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة)) .
وغير ذلك من الآيات العامة فإنها عامة في الحل والحرم.
وأما أهل القول الأول:
فاستدلوا بقوله تعالى: ((ومن دخله كان آمناً)) .
وبما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً) .
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول: ويدل عليه أثران عن الصحابة ولا نعلم لهم مخالف فيكون في ذلك تخصيص للعموم كما يقوي تخصيص العموم ما تقدم من قوله تعالى: ((?ومن دخله كان آمنا)) وقوله صلى الله عليه وسلم????فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً) .
والأثران:
الأول: عند ابن جرير وهو أثر حسن عن ابن عمر قال: " لو رأيت قاتل عمر في الحرم ما ندهته" أي ما زجرته.
والثاني: رواه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: " من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فلا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ويناشد أن يخرج فإذا خرج أقيم عليه الحد".
وهذان الأثران لا يعلم لهما عن الصحابة مخالف.
بل قال ابن القيم: إن هذا القول هو قول جمهور التابعين وإنه لا يحفظ عن صحابي ولا عن تابعي خلاف هذا القول.
فإن قيل: قد قتل النبي صلى الله عليه وسلم?كما في الصحيحين قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؟
الجواب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال ?كما في صحيح مسلم وغيره ?وإنما أُحلت لي ساعة من نهار"، فمكة قد أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم?ساعة من نهار ومن ذلك أنه قتل فيها ابن خطل.
فإن قيل: فما الفرق بين من فعل ذلك في الحرم ومن فعله في الحل ثم لجأ إلى الحرم؟
??والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر ويمكن أن يكون من وجهين.
الوجه الأول: أن يقال: إن من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى الحرم هارباً مستعيذاً فهو معظم للحرم.
وأما من فعل ذلك في الحرم فهو مستهين به.
الوجه الثاني: أن في عدم إقامة الحد في?أهل الحرم فوضى وفساداً كبيراً ولا شك أن مثل هذا الفساد العظيم يجب درؤه.
" باب حد الزنا"
الزنا: فيه لغتان: المد "الزنا"، والقصر "الزنا"، وهو فعل الفاحشة في قبل أو دبر.
ويدخل في ذلك اللواط وإتيان البهيمة، ويأتي الكلام على هذا وما فيه من النظر من إدخاله?في حكم الزنا.
قال: [إذا زنى المحصن رجم حتى يموت] .
????فإذا زنى المحصن -ويأتي تعريفه - رجم حتى يموت لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) .
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .
وثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب خطب فقال: ((إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم?بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم?ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وأن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الجبل أو الاعتراف) ، والحبل هو الحمل فهذا الأثر المتفق عليه الذي نطق به عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم?بالمدينة لا يعلم أن أحداً أنكر عليه ذلك.
وفيه أن الرجم دلت عليه آية من كتاب الله لكنها نسخ لفظها وأما حكمها فهو باق.
وحكم الرجم ثابت بإجماع العلماء، ولا يعلم أن أحداً من العلماء خالف في ذلك، إلا أهل البدع كالخوارج.
والمستحب في الرجم أن يصفوا صفاً، كصف الصلاة أي لا يحيطون بالمرجوم بل يكونون كصف الصلاة لئلا يصيب بعضهم بعضاً.
??فإذا كان الزنا ثابتاً بالاعتراف أو الحبل فأول من يرجم الإمام أو نائبه ثم الناس.
وأما إذا ثبت بالشهود فأول من يرجم هم الشهود أنفسهم ثم الناس، صح بذلك الأثر عن علي بن أبي طالب كما في مصنف ابن أبي شيبه.
ولم يذكر المؤلف هنا الجلد مع الرجم وهذا هو مذهب الجمهور وأن الزاني المحصن يرجم ولا يجلد.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد.
أنه يجمع له بين الجلد والرجم.
أما أهل القول الأول:
فاستدلوا:?بأن النبي صلى الله عليه وسلم?رجم اليهوديين كما في الصحيحين ورجم ماعزاً، كما الصحيحين أيضاً، ورجم الجهنية كما مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم????واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فرجمها) ، فهذه الأحاديث كلها ليس فيها الجلد.
وقد صح عن عمر بن الخطاب، كما في مصنف ابن أبي شيبه أنه رجم رجلاً ولم يجلده.
?وأما أهل القول الثاني:
فاستدلوا: بحديث عبادة المتقدم وفيه: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وصحّ هذا من فعل علي بن أبي طالب كما في مسند أحمد، أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: "جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم??
والصحيح هو القول الأول: لأن ذلك هو آخر الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم?
لأن حديث عبادة "خذوا عني خذوا عني) الحديث، ظاهر في أنه أول حديث للنبي صلى الله عليه وسلم?بعد الحكم السابق، فقد قال تعالى:((واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم.. إلى قوله: أو?يجعل الله لهن سبيلاً)) ، فهذا هو أول حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم?بعد فسخ الحكم الأول، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم?لم يجلد.
وهذا يدل عليه النظر أيضاً، فإن القتل يأتي على ما دونه من ذلك ثم إن ترك عقوبة خطأ أولى من فعلها خطأً، فكوننا نترك عقابه على وجه الخطأ فنكون معذورين في ذلك، أولى من أن نقيم عليه هذه العقوبة ونكون مخطئين في ذلك.
قال: [والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران] .
هذا هو المحصن.
"من وطئ" أي في قُبُل، وأما إذا كان في دبر أو مباشرةً فلا يقام عليه الرجم.
لقوله صلى الله عليه وسلم????الثيب بالثيب) ولا يثوبه إلا بعد وطئ في فرج وهذا باتفاق العلماء.
?امرأته" لا سريّته، فإذا وطئ أمته فهذا ليس بمصحن وهذا باتفاق العلماء.
والفارق ظاهر بين الزوجة والسريّة من حيث الإحصان.
"المسلمة أو الذمية": سواء كانت امرأته مسلمة أو ذمية وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم?حد الرجم على اليهوديين.
??وفي نكاح صحيح": تقدم تعريف النكاح الصحيح.
فإذا كان نكاحاً باطلاً، "كنكاح المعتدة" أو فاسداً كنكاح بلا ولي لمن يعتقد فساده فإنه لا يثبت به الإحصان وهما بالغان عاقلان حران فهذه شروط الإحصان.
الشرط الأول: أن يطأها في قُبُلها.
الشرط الثاني: أن تكون امرأة له.
الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.
الشرط الرابع: أن يكونا بالغين.
الشرط الخامس: أن يكونا عاقلين.
الشرط السادس: أن يكونا حرين.
الشرط السابع: ذكره بقوله: ??فإن اختلّ شرط منها في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما] .
فهذا هو الشرط السابع وهو أن يكون الزوجان كذلك، فإذا كانت امرأته صبية أو غير عاقلة، أو أمةً فلا يقام عليه الحد وإن كان هو حراً، هذا هو مذهب جمهور العلماء.
وقال الشافعي في أحد قوليه: بل النظر إليه هو، فإن كان هو حراً بالغاً عاقلاً فإن الحد يقام عليه.
والأولى أصح وذلك لأن الإجماع قائم على أن من?كانت تحته سرّية فإن الحد لا يقام عليه وذلك لعدم كمال الوطء فكذلك إذا كانت صبية أو مجنونة، فكذلك لعدم كمال الوطء.
قال: [وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاماً ولو امرأة] .
فإذا زنى الحر غير المحصن فإنه يجلد مائة جلدة، لقوله تعالى:((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة)) .
وفي مسلم من حديث عبادة وفيه: (والبكر بالبكر خلد مائة ونفي سنة) .
وقال في الصحيحين في قصة العسيف: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام" وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: " لأقضين بينكما بكتاب الله" ومع ذلك فإنه لم يقض بالجلد في الثيب?بل قضى بالرجم وهذا راجع إلى المسألة السابقة وهي هل يجمع مع الرجم الجلد"
إذن يجلد مائة ويغرب عاماً.
وفي الترمذي عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم????جلد وغرّب وأن أبا بكر جلد وغرّب وأن عمر جلد وغرّب) والحديث صحيح كما في الترمذي.
فيغرب عاماً أي سنة هجرية، لأن الحساب في الإسلام يكون بالسنة الهلالية لقوله تعالى:((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس)) .
ويغرب عاماً عن بلده مسافة قصر، وذلك لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر.
والغريب إن زنى يغرب إلى بلد أخرى سوى بلده التي أتى منها لمعنى العقوبة.
"ولو امرأة": فالمرأة تغرب لعموم الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) وهذا عام في الذكر والأنثى.
لكن المرأة في المشهور في المذهب، يجب أن يكون معها محرم لها قالوا: وعليها أجرته، فإن تعذرت عليها الأجرة فمن بيت المال.
وذكر الموفق احتمالاً أنه ليس عليها الأجرة كما أنه ليس عليها أجرة الجالد وغير ذلك، لأن هذه إقامة حد والواجب عليها أن تستسلم لحكم الله تعالى في إقامة الحد عليها وليس عليها أجرة ذلك، وهذا أظهر وأنه لا يجب عليها أن تدفع أجرة لمحرمها.
فإن تعذر المحرم، إما لأنه لا محرم لها أو لأن المحرم اعتذر عن ذلك.
فإنها تغرب في المذهب ولو وحدها، وهذا ضعيف.
ولذا: فإن القول الثاني في المسألة: وهو اختيار الموفق وابن القيم أنها لا تغرب إلا بمحرم وذلك لما يترتب على ذلك من الفتنة وتعرضها للفساد فكونها تغرب هذا يسهل عليها العودة إلى الفاحشة.
فإن قيل بالحبس حينئذ مع الأمن ففيه قوة والله أعلم (وينظر) .
قال: [والرقيق خمسين جلدة] .
????لقوله تعالى: ((فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) .
وهذا في الإماء ويقاس عليهن العبيد.
ولا رم على الرقيق، وذلك لأن الرجم لا يتنصّف فلا يقام حد الرجم على غير الحر بل يقام عليهم الجلد فيجلد خمسين جلدة سواء كان عبداً أو أمةً.
قال: [ولا يغربّ] .
???لما في ذلك من الإضرار بالسيد، فلا تغريب في العبد ولا الإماء، لما في ذلك من الضرر بالسيد فإن في ذلك تفويتاً لمصلحة السيد فيه.
قال رحمه الله: [وحد لوطي كزان] .
??اللوطي: هو من أتى?رجلاً في دبره أو امرأةً أجنبيةً عنه في دبرها.
فحد اللوطي كحد الزاني، فإن كان محصناً رجم حتى يموت، وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة.
هذا هو المشهور في مذهب أحمد.
واستدلوا: بما روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) .
لكن الحديث ضعيف فهو من حديث بشر بن المفضّل البجلي وهو مجهول.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والشافعية وروايته عن الإمام أحمد.
أن من فعل مثل فعل قوم لوط فإنه يقتل مطلقاً لا ينظر هل محصن أم ليس بمحصن.
واستدلوا بالسنة والإجماع.
أما السنة: فما روى الخمسة أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال من حديث ابن عباس: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) .
والحديث في شقه الأول حديث صحيح، وله شواهد وأما الإجماع: فقالوا: هو إجماع الصحابة رضي الله?عنهم، فقد أجمع الصحابة على ذلك لكنهم اختلفوا في كيفية القتل فمنهم من قال: يحرق، ومنهم من قال: يرجم ومنهم من قال: يقتل بالسيف.
وقد حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ورواه الآجري في تحريم اللواط، وغيره.
وهذا هو القول الراجح في المسألة، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
فالصحيح أنه يقتل مطلقاً وهل يحرف أم يرجم أم يقتل بالسيف؟
أقوى هذه الأقوال الثلاثة، فيما يظهر لي أنه يرجم.
وقد صح ذلك عن ابن عباس، أنه قال في البكر يوجد على اللوطية قال: يرجم.
وتشهد له قوله سبحانه: ((وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل)) سورة الحجر.
على أنه يقوى أن يقال: إن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام فيفعل ما يرى أنه أردع سواء قتلاً بالسيف أو رجماً أو إحراقاً وإن كان أقواها، فيما يظهر هو قول ابن عباس ويشهد له القرآن.
مسألة:
???من أتى بهيمة فما حكمه؟
جمهور العلماء على أنه يعزر ولا يقتل.
وقال القاضي من الحنابلة: أن حده كحد اللوطي والصحيح هو الأول.
وأما الحديث المتقدم في شقه الثاني فهو حديث منكر كما قال ذلك الإمام أحمد وقال ذلك أبو داود والترمذي والطحاوي وغيرهم.
وقد قال البخاري في حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة وهذا منه، قال:"له مناكير عنه" وسبب الإنكار أنه ثبت عند أبي داود بإسناد جيد أنه سئل عن ذلك فقال "لا حد عليه".
قال: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط] .
أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها.
فهي ما يبرز بعد الختان من الحشفة.
الأصلية: فليست من خنثى مشكل.
??في قبل أو دبر أصليين من آدمي حي حراماً محضاً] .
???لا شبهة فيه.
وكذلك أن يكون ذلك في حية لا في ميته، في المشهور في المذهب.
قالوا: لأن الميتة لا تشتهي وتتغير منها الطباع فلا يحتاج إلى الزجر عنها بحد الزنا.
فمن أتى ميتته في فرجها فإنه لا يجلد ولا يرجم بل فيه التعزير.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول في المذهب وهو مذهب الأوزاعي أنه يرجم إن كان محصناً، وإن لم يكن محصناً فإنه يجلد وذلك لأنه فرج آدمية.
?وكونه لا يشتهي أو تنفر الطباع منه هذا ليس مؤثر بدليل أن اللوطي يقتل وإن كان ذلك مما تنفر عنه الطباع السليمة فهو شذوذ ولا شك، ومع ذلك فإنه أقبح?من الزنا وعقوبته أشد.
?فما ذهب إليه الحنابلة في أحد القولين وهو قول الأوزاعي أقوى والله أعلم.
قال: [الثاني: انتفاء الشبهة، فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك] .
???فلو أن رجلاً يشترك وآخر في أمةً فليس لأحدهما أن يطأها لكن إن وطئها فلا يقام عليه الحد لوجود الشبهة.
قال: [أو لولده] .
???فإذا وطئ أمةً لولده فإنه لا يقام عليه الحد لوجود شبهة الملك لقول النبي صلى الله عليه وسلم???أنت ومالك لأبيك) .
ولم يقل "لوالده" لأنه لا شبهة حينئذ، ولم يقل، لزوجته لأنه لا شبهة حينئذ.
والذي يدل على انتفاء الحد بالشبهة إجماع أهل العلم، فقد أجمع أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات كما حكى ذلك ابن المنذر وأما ما روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال:(إدرؤا الجلد والقتل من المسلمين بالشبهات) فالحديث ضعيف جداً فيه يزيد بن زيادة الدمشقي وهو متروك الحديث.
وعن علي في البيهقي بإسناد ضعيف: " ادرؤا الحدود بالشبهات" لكن صح ذلك عن ابن مسعود أنه قال: " ادرؤا الجلد والقتل من المسلمين ما استطعتم " رواه البيهقي بإسناد صحيح وقد أجمع أهل العلم على هذا.
لكن الاحتمالات البعيدة جداً غير معتبرة، بل المعتبر أن يكون هناك احتمال قوي يقوي أن يكون شبهة فيمنع الحد الثابت.
قال: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته] .
???فقد ينادي الأعمى امرأته فتأتيه أخرى فيطؤها وتكون الأخرى متعمدة، وحينئذ يقام عليها الحد وأما هو فلا يقام عليه الحد لأنه ظنها زوجته فهو لا يظنها أجنبية وحينئذ لا يكون فاعلاً أمراً حراماً
قال: [أو سريته] .
إذا وطئ امرأة يظنها سريته، وليست كذلك فلا يقام عليه الحد.
قال: [أو في نكاح باطل اعتقد صحته] .
??كأن يطئ معتدةً فهذا نكاح باطل باتفاق العلماء لكنه اعتقد صحته أي جاهلاً، وأمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد لوجود الشبهة.
أما إذا كان لا يعتقد صحته فإنه يقام عليه الحد لعدم الشبهة.
قال: [أو نكاح
…
مختلف فيه] .
???النكاح المختلف فيه: كالنكاح بلا ولي.
فإذا نكح امرأة بلا ولي فهل يقام عليه الحد؟ فالمشهور في المذهب أنه لا يقام عليه الحد وإن اعتقد بطلانه وذلك لوجود الشبهة، لذلك أطلق هنا وقيد في المسألة السابقة (أو نكاح باطل اعتقد صحته)
وعن الإمام أحمد: أنه يقام عليه الحد وهو الصحيح، وذلك لأنه لا شبهة له في ذلك.
وهذا نكاح باطل في الحقيقة، وكونه يكون مختلفاً منه هذا ليس بمؤثر في حقيقة الأمر، فحقيقته أنه نكاح باطل وإنما سمي فاسداً لاختلاف أهل العلم فيه.
إذن: من نكح نكاحاً فاسداً، وهو يعلم فساده، فالصحيح أنه يحد وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: [أو ملك مختلف فيه] .
???بيع الفضولي مختلف فيه، فإذا اشترى له أمةً على بيع الفضولي فنكحها فإنه لا يقام عليه الحد ولو كان ذلك قيل الإجازة وذلك لأن بيع الفضولي مختلف فيه، فلا يقام عليه الحد للشبهة.
وهذه كالمسألة السابقة.
فإن كان يعتقد بطلان هذا البيع وإنه لا يصح فالصحيح أنه يقام عليه الحد لأنه لا شبهة له.
قال: [أو أكرهت المرأة على الزنا] .
???فإذا أكرهت المرأة على الزنا فلا يقام عليها الحد باتفاق العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم????إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ?والنسيان وما استكرهوا عليه) .
?وقال هنا: " المرأة" وليخرج من ذلك الرجل، فإن الرجل لو أكره على الزنا فإنه يقام عليه الحد في المذهب.
قالوا: لأنه لا يمكن أن ينتشر ذكره وهو مكره، بل لا يمكن أن ينتشر إلا أنه مختار.
لكن هذا ضعيف، لأنه قد يكون مكرهاً، ومع ذلك ينتشر ذكره إما لقوة شهوة، أو غير ذلك ولا دخل لهذا بهذا.
لذا فالصحيح، وهو مذهب الشافعية، أن الرجل إذا أكره على الزنا فلا يقام علي الحد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي.
مسألة:
إذا زنى بذات محرم، كأن يزني بأمه أو بأخته أو غيرهما من محارمه فما الحكم؟
الجمهور: على أنه يرجم إن كان محصناً، ويجلد إن لم يكن محصناً أي كغيره.
واستدلوا: بالعمومات.
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يقتل مطلقاً.
واستدلوا:
بما ثبت في سنن الترمذي والنسائي عن البراء بن عازب قال: "لقيني عمي ومعه راية فسألته فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم?إلى رجلٍ نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله".
وله شاهد من حديث معاوية بن قرة في سنن ابن ماجه والحديثان صحيحان.
وعلى ذلك فالراجح هو القول الثاني.
ولا شك أن الفارق ظاهر بين الزنا بغير ذات المحرم وبذات المحرم، فإن ذات المحرم تعافها النفوس ولا يشتهيها الطباع فهي أشبه ما تكون بوطء الدبر الذي تقدم أن الراجح قتل فاعله.
ثم إن الواجب عليه صانة ذات محرمه وحفظها وهذا قد قام بخلاف ذلك.
قال رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا] .
??هذا هو الشرط الثالث?من شروط إقامة حد الزنا.
قال: [ولا يثبت إلا بأحد أمرين:- أحدهما: أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس]
أي يقر بالزنا فيقول: "زنيت" فيقول ذلك أربع مرات سواء كان ذلك في مجلس واحد للقاضي، أو بقول هذا في مجالس بمعنى يقولها مرة في اليوم الأول ومرة في اليوم الثاني ثم في اليوم الثالث ثم في اليوم الرابع.
فلابد لإقامة الحد عليه من أن يقر على نفسه أربع مرات.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين في قصة ماعز، من حديث أبي هريرة وفيه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم?فقال:"أبك جنون؟ " قال: لا، قال: فهل أحصنت؟، قال: نعم، قال: اذهبوا به فارجموه" فقد توقف في الحد حتى تمت هذه الشهادات الأربع.
وقال المالكية والشافعية: بل بمجرد إقراره ولو مرةً واحدة يقام عليه الحد.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم????واغدُ يا أنسُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) .
قالوا: فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم?
الراجح هو القول الأول.
والجواب عما استدل به أهل القول الثاني: أن يقال: هذا الحديث مطلق، والحديث الأول مقيد.
قال: [ويصرح بذكر حقيقة الوطء] .
??فيصرح بذكر حقيقة الجماع، بأن يصرح أنه قد وطئ المرأة وأدخل ذكره في فرجها صراحة.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم?لماعز في صحيح البخاري: (لعلك قبّلت وغمزت، ونظرت) فقال لا حتى ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم?الجماع لا يكنى)
قال: [ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد] .
??فإذا قال: رجعت قبل أن يقام عليه الحد فإنه يقبل رجوعه أوقال ذلك أثناء إقامة الحد فإنه يقبل رجوعه ما لم يتم عليه الحد، أي ما لم يرجم فيموت.
دليل ذلك.
ما ثبت في سنن أبي داود وغيره في قصة ماعز وأنه جزع لما وجد مسّ الحجارة فهرب فقتلوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم????هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) .
وهذا إنما هو في الإقرار أي عندما يقر على نفسه وأما?إذا ثبت الزنا عليه بالبينة فإنه لا يقبل رجوعه.
قال: [الثاني: أن يشهد عليه في مجلس واحدٍ بزنا واحد يصفونه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه، سواء أتوا الحاكم جملةً أو متفرقين] .
?هذا هو الطريق الثاني لثبوت الزنا.
أن يشهد عليه في مجلس واحد بزنا واحد يصفونه أربعة:?بمعنى أنهم يخبروا أنهم رأوا الذكر في الفرج كالمرود في المكحلة وكالرشا في البئر أي صريح الجماع.
??ممن تقبل شهادتهم فيه) : وهم الرجال الأحرار البالغون ما لم يكن بينهم مانع، فمن ذلك العمي والزوجية.
أما العمى فظاهر أنه مانع لأن ذلك يحتاج إلى البصر.
وأما الزوجية فلأن الزوج إذا شهد على امرأته بذلك وكان من جملة الشهود فهذا إقرار منه بعداوته لها قالوا: فلا تقبل شهادته.
?ويدل على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم: أن سعد بن عبادة قال: "يا رسول الله إن وجدت على امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء".
فلم يقل: " أأمهله حتى آتي بثلاثة شهداء" فهو ليس بشاهد ولا يصح أن يكون شاهداً.
إذن: الزوج لا تقبل شهادته على امرأته بذلك.
وكذلك: إذا كان في شهادتهم ما يدل على كذبهم فإن شهادتهم لا تقبل.
وكان في شهادتهم ما يدل على أنه ليس بزنا واحد بل زنا متعددة.
كأن يشهد اثنان على أنه زنا بهذه المرأة في مكانه ويشهد الآخران أنه زنا بها بمكان آخر.
أو يشهد اثنان أنه في الصباح قد زنا بها، ويشهد الآخران أنه زنا بها في المساء فهنا الزنا مختلف.
(في مجلس واحد) : فلابد أن يكون المجلس واحداً أي مجلس الحاكم بمعنى: أتى الشهداء فقالوا: إن فلاناً قد وطئ فلانة ويصفوا ذلك في مجلس القاضي وهم أربعة وتوفرت فيهم الشروط حينئذ تقبل شهادتهم.
أما لو كانوا في أكثر من مجلس كأن يأتي اثنان في مجلس في الضحى ويأتي اثنان في مجلسه في المساء.
أو يأتي ثلاثة في مجلسه اليوم ويأتي واحد في مجلسه من الغد فلا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف.
ودليل ذلك: "ما ثبت في البيهقي: أن عمر حدّ أبا بكرة ونافعاً وشبل من معبد لما شهدوا على المغيرة بالزنا".
ولم يتربص بهم حتى يأتوا بشاهد رابع، هذا من الأثر.
وأما من النظر فهو أن أهل العلم قد أجمعوا على أن الثلاثة إذا شهدوا فحدوا حد القذف ثم أتى شاهد رابع بعد ذلك فلا تقبل شهادته.
فكذلك إذا شهد ثلاثة ثم شهد آخر في مجلس آخر وإن لم يُحد هؤلاء فالحكم واحد.
وقال الشافعية: بل لا يشترط أن يكون في مجلس واحد واستدلوا: بقوله تعالى: ((فإذا لم يأتوا بأربعة شهداء)) .
قالوا: وهذا مطلق سواء كان في مجلس أو مجلسين أو أكثر والجواب عن الاستدلال بهذه الآية: أن يقال وهذه الآية مطلقة وقيدها فعل عمر رضي الله عنه.
والصحابي قوله يقيّد إطلاق النصوص كما هو مرجّح في علم الأصول.
ثم يقال: ما هو مدى الانتظار؟
هل ننتظر إبداً فحينئذ يفوت علينا إقامة حد القذف وإذا كان له أمد، فما هو الأمد؟، وأصح ما يكون الأمد هو المجلس نفسه.
ولا شك أن الشارع قد اعتبر المجلس كما اعتبره في خيار البيع.
فالصحيح أن لابّد أن تكون شهادتهم في مجلس واحد.
والمراد بالمجلس الواحد أي مجلس القاضي، سواء كان إتيانهم جملة أو متفرقين.
فمثلاً: القاضي يجلس من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية عشر فأتى بعضهم في أول النهار وبعضهم في آخر المجلس أي قبل الساعة الثانية عشرة، فالمجلس واحد ولذا قال: ??سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين) ?
قال: [وإذا حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] .
??إذا حملت امرأة ولا زوج لها ولا سيد يطؤها فإنها لا تحد بمجرد ذلك.
قالوا: لإحتمال للشبهة فيحتمل أنها مكرهه أو أنها وطئت وهي نائمة أو نحو ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات.
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن الحد يقام.
واستدلوا: بما تقدم من قول عمر، الذي قاله في محضر من الصحابة ومنه:"أو كان الحبل أو الاعتراف" والَحبَل هو الحمل.
فهذا قول صاحب قاله بمحضر من الصحابة ولا يعلم له مخالف.
ثم إن هذه الإمارة وهي ظهور الحمل فيها أظهر من كونه يأتي بأربعة شهداء فيشهدون عليها بالزنا.
وهذا القول هو الراجح.
فأما قولهم: إن ذلك شبهة.
فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات البعيدة وإلا لم يقم حد والأصل هنا عدم ذلك.
لكن: لو ادعت أنها قد أكرهت وكانت القرينة ظاهرة في ذلك، كأن تكون مصابة بحراجات ونحو ذلك بما يدل على أنها قد اغتصبت ثم يكون فيها حمل وتدعي أنها قد اغتصبت بدليل هذه الجراحات فحينئذ يقبل قولها أو أقامت بينه على ذلك.
مسألة:
???إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا وتوفرت الشروط فيهم لكن شهدت القابلات من النساء الثقات أن المرأة بكر، فما الحكم؟
الجواب: أن المرأة لا تحد، لأن بكارتها التي تثبت بهذه البينة تمنع من الزنا.
ولا يقام?حد القذف على الشهود لأن الشروط متوفرة فيهم ولا يجزم بكذبهم.
" باب حد القذف "
القذف: هو الرمي بما يوجب الحد من زنا أو لواط أما لو رماه بما لا يوجب الحد كأن يرميه بقبلة امرأة أو مباشرتها أو نحو ذلك فليس قذفاً ولا يوجب حد القذف بل يوجب التعزير.
قال: [إذا قذف المكلف] .
تقدم اشتراط التكليف في مسائل الحدود فلو قذف الصبي أو المجنون فلا يحد كذلك لابد أن يكون مختاراً، أما لو كان مكرهاً على القذف فلا يحد أيضاً.
قال: [محصناً] .
?فإذا قذف المكلف، ولو كان ذلك بإشارة تدل على القذف كما يقع من أخرس أو نحوه.
(محصناً) :- ولو كان هذا المحصن مجبوباً أو كانت المرأة رتقاء فالحكم واحد.
فإن قيل: كيف يقع ذلك وهي رتقاء أو وهو مجبوب؟
فالجواب:
نعم، الزنا غير صحيح، لكن ما يدري الناس أن المرأة رتقاء أو أن الرجل محبوب، وحينئذ يلحقه العار بذلك.
قال: [جلد ثمانين جلدة، إن كان حراً] .
لقول تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)) .
قال: [وإن كان عبداً أربعين] .
????ودليلة ما روى ابن أبي شيبه وعبد الرزاق في مصنعيهما عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال: " لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومن بعدهم وكانوا لا يجلدون المملوك للقذف إلا أربعين".
قال: [والمعتق بعضه بحسابه] .
???فإذا بعضه حر وبعضه عبد، فإنه يجلد بحسابه، فإذا كان مثلاً نصفة حراً نصفة عبداً، فإنه يجلد ستين جلدة.
قال: [وقذف غير المحصن يوجب التعزير] .
????فقد كان يقذف ذمياً أو مستأمناً بالزنا، أو أن يقذف مجنوناً أو غير ذلك، فإنه يجب التعزير لأنها منقصة.
قال: [وهو حق للمقذوف] .
????هذا هو مذهب الجمهور قالوا: هو حق للمقذوف، ولذا يسقط بعقوه، ولا يستوف بدون طلبه.
لذا قال بعد ذلك في آخر الباب: " ويسقط حد القذف بالعفو ولا يستوفي بدون الطلب".
فهذا مرتب على أنه حق للآدمي وهو المقذوف.
* واستدلوا: بالقياس على الجناية على النفس، قالوا: هو أي القذف - جناية على العرض فأشبه الجناية على النفس.
* والجناية على النفس حق للآدمي يسقط بالعفو ولا يستوفى بدون الطلب وهنا كذلك فالقذف جناية على الآدمي في عرضه.
وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد هو حق لله تعالى وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن والسنة.
* ودليل ذلك: أن الله تعالى قال: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)) .
ولم يشترط الله تعالى رضا المقذوف ولا?طلبه.
????وأما السنة فما روى أحمد والأربعة والحديث حسن عن عائشة قالت: ((لما نزل عذري صعد النبي صلى الله عليه وسلم?على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر رجلين وامرأة فضربوا الحد)) .
وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم?أوقف الحد على طلب عائشة ولا على رضاها.
وأما من النظر، فهو أن يقال ويصح أن يكون رداً على دليل أهل القول الأول، وهو أن يقال: إن الحد ثمانين جلدة وهو غير مماثل للجاني، فإن الجناية اعتداء باللسان على العرض وأما الحد فإنه جلد أي اعتداء على البدن بالضرب فلم يكن هناك مماثلة ففارق هذا عقوبة القاتل، فإن القاتل يقتل حيث قتل، والقاطع يقطع حيث قطع، والجارح يجرح حيث جرح، وأما هنا فإنه قد اعتدى على العرض وضرب ثمانين جلدة، فلم يكن هناك مماثلة بين الحد، وهي الجلد هنا، وبين الجناية بخلاف الجناية على النفس.
وهذا يصح أن يكون رداً على القياس المتقدم، فيقال هذا قياس مع الفارق.
لأن الجناية على النفس عقوبتها أن يقتل النفس، وإن كان قطعاً أن يقطع الطرف، وإن كان جرحاً أن يجرح البدن.
وأما هنا فلا مماثلة، فإنه اعتدى بلسانه على عرض أخيه فضرب ثمانين جلدة.
فالصحيح ما ذهب إليه أهل القول الثاني:
وعليه: فلا يحتاج إلى طلب من المقذوف ولا يكون العفو إلا قبل?أن يرفع ذلك إلى الحاكم، فللمقذوف ألا يرفع ذلك إلى الحاكم، وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فإنه يقام عليه الحد ولا ينظر إلى عفو المقذوف.
قال: [والمحصن هنا: الحر] .
????وعليه فلو قذف عبداً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر كما تقدم في قول المؤلف:(وقذف غير المحصن يوجب التعزير) .
وقد قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات)) والمحصنات هن الحرائر المسلمات.
ولا شك أن العبد ليس كالحر، وقد فرق الله بينهما بالشرع كما في غير ما آية من كتاب الله الكريم، فليس هذا كهذا.
وإنما يستوون في أحكام الآخرة في الثواب والجزاء، وفي التكاليف الشرعية.
وهذا أي اشتراط الحرية في الإحصان كذلك ما سيذكره المؤلف من شروط المحصن هو مذهب عامة أهل العلم.
[المسلم] .
????فلو قذف ذمياً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر.
قال: [العاقل] .
????فلو قذف مجنوناً فلا يقام عليه الحد لكن يعزر.
قال: [العفيف] .
????أي في الظاهر، الذي ليس مشهوراً بالفجور "أي بالزنا" وإن كان قد يقع منه الزنا في الباطن لكنه لا يعرف بالزنا، أما إذا كان الفجور ظاهراً فيه فلا.
قال [الملتزم] .
هذه العبارة مشكله وليست في الأصل: وهو المقنع
وإنما ذكرها المؤلف تبعاً لبعض الحنابلة.
وهي مشكلة لأن الملتزم يدخل فيها المسلم والذمي أما المسلم فالإشكال، أنه قد ذكر قبل ذلك من قوله (المسلم) وأما الذمي فإن ذكرها ينافي قوله (المسلم) لأن ظاهر قوله مسلم أن غير المسلم ليس كذلك.
ولذا فهذه العبارة ليست بصحيحة.
قال: [الذي يجامع مثله] .
????وفي المذهب أن الذي يجامع مثله ابن عشر أي من الذكور والتي يجامع مثلها بنت تسع أي من الإناث.
?وتقدم أن الراجح أن الذي يجامع مثله ليس له سن محددة وعليه فلو قذف من لا يجامع مثله من حيث السن فإنه لا يُحد.
ولا يلحقه عارٌ بذلك لأن الكذب معلوم فلم يحتج إلى حدٍ يعلم به الكذب.
قال: [ولا يشترط بلوغه] .
??لأن الصبي إذا قذف بالزنا، وهو يجامع مثله لكنه صبي، أو قذفت البنت بالزنا وهي ممن يجامع مثلها وهي صبية لم تبلغ فإنهما يحلقهما العار إذا كبرا فيحتاج إلى الحد ليعلم كذب القاذف.
وهذا هو مذهب الحنابلة ومذهب مالك.
وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: يشترط أن يكون بالغاً.
قالوا: لأن البلوغ هو أحد شرطي التكليف، فكما أنا نشترط أن يكون عاقلاً فكذلك نشترط أن يكون بالغاً.
والصحيح هو الأول.
والفرق ظاهر بين غير العاقل وبين العاقل غير البالغ، ويمكن أن يكون ذلك من وجهين.
الوجه الأول: أن غير البالغ يؤول أمره إلى التكليف، وأما غير العاقل فإن أمره لا يؤول إلى التكليف، فلا يلحقه العار في المستقبل.
??بخلاف غير البالغ فإن العار يلحقه في المستقبل.
الوجه الثاني: المجنون عذره عند الناس أكبر لأنه لا عقل له.
وأما غير البالغ كالمراهق مثلاً فإن العذر فيه ضعيف.
قال: [وصريح القذف: يا زاني يا لوطي ونحوه] .
??هذا صريح القذف، فمتى ما قال: يا زاني أو يا لوطي ونحوه فإنه يقام عليه الحد، ولو قال أنا لا أقصد الزنا الصريح بل أردت زنا العينين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم????العين تزني وزناها النظر) فلا يقبل منه ذلك لأن هذا صريح في القذف.
قال: [وكنانية:.. ونحوه وإن فسره بغير القذف قبل] .
??كناية القذف إن فسرت بغير القذف قبل مع اليمين، فلو أن رجلاً قال لامرأة:" يا خبيثة " فلما قيل له، إنك قذفتها بالزنا، قال: إنما أريد أنها خبيثة الأعمال، فيقال "احلف على ذلك" فإن حلف على أن ذلك مراده فإنه لا يحد.
أو قال لامرأة: "نكّست رأس زوجك" ثم أدعى أنه أراد أنها لا تعتني بثيابه فيخرج وسخ الثياب فيقبل منه ذلك لكن يحلف على ذلك.
وظاهر كلام المؤلف أنه وإن كانت قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الزنا أو اللواط.
لكن هذا الظاهر فيه ضعف.
والصحيح هو ما اختاره ابن القيم وابن عقيل من الحنابلة وهو مذهب المالكية.
??إن التعريض ونحوه، إذا كانت قرائن الأحوال تدل عليه فهو كالصريح.
وذلك لأن عدم القول بذلك يفتح باب رمي المسلمين في أعراضهم ولا تقام عليهم الحدود بذلك، فيترك قول يا زاني ويقول مثلاً يا خبيثة، والناس لا يفهمون من قوله يا خبيثة في كلامه إلا الزنا وحينئذ يفر من إقامة الحد عليه.
ولا شك أن الواجب سدُّ هذه الذريعة.
ولذا أروى عبد الرزاق وغيره "أن عمر ضرب في التعريض".
فإذا كانت هناك قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الرمي بالزنا فلا ينظر إلى قوله هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
?وقوله: "أو جعلت له قروناً" أي أنك جعلتيه كالثور أي جعلتيه ديوثاً.
قال: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادة عزّر] .
??فلو أن رجلاً أتى إلى جماعة كثيرة لا حصر لهم قرماهم بالزنا ولا يتصور أن يقع منهم ذلك فلا يقام عليه الحد لأن العار لا يلحقهم لأن كذبه معلوم ولكنه يعزر لأنها معصية، أما لو كانت الجماعة يتصور منهم ذلك، كأن يأتي إلى عشرة ويقول:"أنتم زناة" فيقام عليه الحد لأن الزنا يتصور في حقهم ويلحقهم العار في ذلك.
وأصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يقام عليه إلا حد واحد أي فعليه حد واحد بظاهر الآية ولأنه إذا أقيم عليه حد واحد فإن المقصود يحصل بذلك لأنه يعلم كذبه ويندفع بذلك عنهم ما تقدم ذكره من العار.
قال: [ويسقط حد القذف بالعفو، ولا يستوفى بدون الطلب] .
??تقدم الكلام على هذا في أول الدرس عند قوله: (وهو حق للمقذوف) .
مسألة:
????قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا)) الآية.
فهل الاستثناء في قوله تعالى: ((إلا الذين تابوا)) يرجع إلى الجمل المتقدمة كلها أم إلى الجملة الأخيرة؟
أما الجلد فلا يرجع إليه الاستثناء بإجماع العلماء، فإذا تاب وقد قذف فإن ذلك لا يسقط عنه الحد بإجماع العلماء.
وأما إذا تاب من ذلك فإن الفسق يزول عنه باتفاقهم فلا يكون فاسقاً.
لكن: هل تقبل شهادته أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
فالجمهور أنها تقبل للاستثناء.
والأحناف قالوا: لا تقبل والاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور.
وهذه ترجع إلى مسألة أصولية وهي:
هل الاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور أم إلى ما ذُكر قبله؟
والصحيح أنه يرجع إلى ما ذكر قبله كله.
وعليه فإن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله.
وعلى ذلك فيرجع إلى الجلد لكن الإجماع يدل على عدم ذلك ويرجع إلى قبول الشهادة ويرجع إلى الفسق.
أما الجلد فالإجماع على خلاف ذلك.
وأما الشهادة فالصحيح أنها تقبل فيه بعد ذلك ومما يدل على ذلك أن الشهادة تقبل من العدل وهذا قد زال عنه اسم الفسق باتفاق العلماء.
" باب حد المسكر "
????السُكر: لذةً ونشوة يغيب معها العقل فلا يدري ما يقول كما قال تعالى: ???لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)) .
والسكر محرم بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.
وهو من كبائر الذنوب.
الخمر: كما قال عمر: "ما خامر العقل" أي ما سترة وغطاه.
قال المؤلف رحمه الله: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام] .
?فكل شراب من عنب أو تمر أو عسل أو حنطة أو شعير أو غير ذلك مما يصنع خمراً فيسكر كثيره فإن قليله حرام.
فإذا صنع من العنب ما لو شرب الكثير منه فإنه يسكره فالقليل غير المسكر حرام.
وإذا صنع من الشعير شراباً يسكر كثيرة فإن قليلة حرام وإن لم يكن مسكراً، وهكذا في سائر أنواع الأشربة.
لما ثبت عند الخمسة أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (ما أسكر كثيرة فقليلة حرام) . بإسناد صحيح.
وعند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (ما أسكر منه مقدار الغرف فملئ الكف منه حرام) .
وقال صلى الله عليه وسلم????كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) رواه مسلم.
وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير) .
وفي مسلم عن أنس بن مالك قال: "نزل تحريم الخمر وما بالمدينة شراب إلا من تمر".
وقد أجمع أهل العلم على أن القليل من العنب محرم إذا أسكر الكثير منه، فإذا شرب ما خُمّر من العنب وكان ملئ الكف ولم يسكره فإنه يحرم بإجماع أهل العلم.
وإنما اختلفوا في غير العنب:-
فقال أهل الكوفة ليس بحرام، فلو شرب قليلاً من المصنوع من التمر فإنه لا يحرم عليه ذلك هذا ما لم يكن هذا القليل مسكراً، ولو كان لو?زاد لسكر.
قال الإمام أحمد: " ولا يصح في الرخصة في المسكر حديث".
وقال ابن المنذر: " وجاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها وعللها".
فالأحاديث التي استدل بها أهل الكوفة كأبي حنيفة لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم?
وقال جماهير أهل العلم بتحريم ذلك: واستدلوا بالأحاديث المتقدمة وهي أحاديث صحاح، وقد قال الإمام أحمد:"ثبتت من عشرين وجهاً" أي عن النبي صلى الله عليه وسلم?
??فجماهير العلماء على أن كل مسكر حرام قليله وكثيره، فلو شرب قليلاً لا يسكر فذلك محرم.
وتحريمه ظاهر بالأدلة المتقدمة، وذلك لسد الذريعة فإنه شرب القليل غير المسكر ذريعة إلى شرب الكثير المسكر.
ولأن الشرع إذا حرم الشيء حرم أبعاضه.
والصحيح مذهب جماهير العلماء من النصوص الشرعية تدل عليه وهو أن كل مسكر حارم سواء كان من عنبٍ أو غيره، وأنه حيث كان الكثير مسكراً فالقليل محرم.
لكن لوضع من الشعير شراباً لا يسكر كثيرة، ليس بحرام فالمقصود هنا حيث كان الكثير مسكراً.
والمشهور عند أهل العلم القائلين بتحريم القليل مما أسكر كثيرة أن من شرب القليل فإنه يُحد ولو كان ممن يعتقد الحل، ولا يشفع له كونه يعتقد الحل.
قالوا: والفرق بينه وبين النكاح بلا ولي وجهين.
الوجه الأول: لأن شرب القليل منه ذريعة إلى شرب الكثير منه، وهو محرم بالإجماع.
بخلاف مسألة النكاح بلا ولي فليست كذلك.
الوجه الثاني: لأن الخلاف فيه ضعيف جداً، فالأدلة متظاهرة على تحريم ذلك، فأشبه هذا من قدامه ابن مظعون فقد صحّ في البيهقي أن عمر أقام عليه الحد وكان متأولاً يعتقد حلها، ويستدل بقوله تعالى:((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا)) .
وقال أبو ثور، وهو من المجتهدين: لا يقام عليه الحد حتى يعتقد التحريم كما لو نكح بلا ولي.
والعمل على الأول وهو أظهر.
فعلى ذلك يقام عليه الحد وإن كان يعتقد الحل.
وهذا يفتح الباب في مسألة شرب الخمر بدعوى اعتقاد أنها حلال ويظهر هذا.
قوله: "اسكر كثيره" ليس المقصود الكثير جداً وإنما المقصود الكثير عادة في الشرب.
قال: [وهو خمر من أي شيء كان] .
???لقوله صلى الله عليه وسلم????كل مسكر خمر) رواه مسلم هذا عمن نص النبي صلى الله عليه وسلم?
قال: [ولا يباح شربه للذة] .
???لأن هذا هو الإسكار.
قال: [ولا لتداوٍ] .
لما ثبت عند ابن حبان، والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال:(إن الله لم يجعل شعاءكم فيما حرم عليكم) .
وله شاهد موقوف عن ابن مسعود في مصنف ابن أبي شيبه وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال في الخمر: (إنها ليست بداوءٍ لكنها داء) .
وهل يقال إن التداوي ضرورة؟
الجواب: لا يقال ذلك وذلك لأن الدواء لا يقطع مع بزوال المرض فقد يشفى المريض وقد لا يشفى.
والضرورة نحو أكل الميتة يقطع بزوال العلة، فالجائع إذا أكل من الميتة زالت علته وهي الجوع قطعاً، وأما المريض إذا شرب الخمر وقيل له إنها علاج?فقد يشفى وقد لا يشفى كيف وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم?أنها ليست بدواء وإنما هي داء، وكما قال عثمان: إنها أم الخبائث فلا يمكن أن تكون دواء.
قال: [ولا عطش ولا غيره] .
???فلا يجوز شربها للعطش قالوا: لأنها تُلهب الباطن فتزيد في حرارته، وعليه فلا يستفيد منها زوال العطش.
وهذا القول ينبني على صحة التعليل فإن صح التعليل فهو كما قالوا، وأما من اعتقد أنها تزيل العطش فأصيب بالعطش فلا بأس له أن يشرب ولأنه موضع ضرورة.
قال: [إلا لدفع لقمة غصّ بها ولم يحضره غيره] .
??لأنها ضرورة.
أما إذا حضره غير الخمر من ماءٍ ونحوه فلا يجوز له دفع اللقمة بالخمر لأنها تكون حاجة ولا يجوز أن يشربها للحاجة.
قال: [وإذا شربه المسلم مختاراً عالماً أن كثيره مسكر فعليه الحد] .
?فإذا شربه المسلم وكان عالماً أن كثيره مسكر، وإن كان يعتقد حله كما تقدم فعليه الحد.
لكن لو لم يعلم أن كثيره مسكر فلا يقام عليه الحد لجهله بالحال ولو جهل التحريم، حيث أمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد ولابد أن يكون مختاراً لا مكرهاً، فالمكره لا حد عليه.
قال: [ثمانون جلدة مع الحرية وأربعون مع الرق] .
???فحد شارب الخمر ثمانون جلدة للحر، وأربعون للرقيق.
هذا هو مذهب الجمهور، وأن حد الخمر ثمانون جلدة واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم?أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين ثم فعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الصحابة فقال عبد الرحمن بن عوف:" أخف الحدود ثمانون جلدة فأمر به".
فهم قد أخذوا بفعل عمر وكان ذلك بمحضر من الصحابة.
وعن الإمام أحمد وهو أحد القولين في مذهب الشافعي: أنه يجلد أربعين جلدة.
واستدلوا: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم?في الحديث المتقدم، وفعل أبي بكر ونحوه في مسلم من حديث علي قال:"جلد النبي صلى الله عليه وسلم?أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي " أي فعل عمر.
ولا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم?بقول أحدٍ أياً كان هذا الأحد ولو كان عمر، كيف وأبو بكر قد جلد كما جلد النبي صلى الله عليه وسلم?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة وأن حد الخمر أربعون وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والجواب عن فعل عمر:
أن عمر فعل هذا من باب التعزير، حيث أنهمك الناس في شرب الخمر فرأى عمر أن يعزرهم بذلك واستشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وأن حد الخمر أربعون وأن للحاكم أن يزيد فيعزر بثمانين جلدة كما أن له أن يعزر بغير ذلك إن رأى المصلحة في ذلك كأن يعزر بسجنٍ ونحوه.
وعامة أهل العلم على أن عقوبة حد الخمر حديةّ وليست بتعزيرية، كما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم?جلد أربعين إلا خلافاً ضعيفاً في هذه المسألة.
مسألة:
?????هل يقتل شارب الخمر في الرابعة أم لا؟
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم?كما في عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال في شارب الخمر: (إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه) .
واختلفت مسالك أهل العلم فيه:
المسلك الأول: أنه منسوخ، وهذا هو مذهب عامة أهل العلم.
وفي أبي داود عن قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه "وله رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم??فحديثه من مرسل صغار الصحابة الذين لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم?فيه الحديث المتقدم ثم قال: ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم?برجل قد شرب الخمر فجلد، ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده، قال: ورقع القتل وكانت رخصة"
المسلك الثاني: أنه محكم وليس بمنسوخ، هذا هو مذهب أهل الظاهر، وعليه فيقتل شارب الخمر في الرابعة.
المسلك الثالث: أنه محكم لكن ليس بحد، وإنما هو تعزير يرجع إلى الإمام بحسب المصلحة.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول الحسن البصري.
وهذا القول فيما يظهر هو أصحها.
أما كونه ليس بحد فكما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم?أتى برجل قد شرب الخمر?فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. الحديث.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم?لم يقتله مع أن الصحابي قال: "ما أكثر ما يؤتى به" وهذه صيغة تدل على كثرة ما يؤتى به لأنه شرب الخمر هذا هو ظاهر هذا الحديث وكذلك حديث قبيصة بن ذؤيب المتقدم.
وأما النسخ المذكور في الحديث المتقدم فالذي يتبين أن الراوي إنما حكم بالنسخ بناءً على فعل النبي صلى الله عليه وسلم?فإنه ذكر ذلك عمدة له فإنه قال: (ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم?برجل قد شرب الخمر ثم جلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده قال: فرفع القتل.
فالظاهر أنه قد بنى ذلك على الفعل، وكون النبي صلى الله عليه وسلم?لا يفعل ذلك لا يدل على النسخ، لأنه تعزير وليس بحد فمتى رأى الإمام أن من المصلحة القتل فله ذلك.
ولا شك أن هذه المسألة لا يفتى بها الإمام إلا حيث كان مراعياًِ للمصالح لما في ذلك من سفك الدماء.
والمقصود أن التعزير بالقتل كما في هذا الحديث.
مسألة:
??اعلم أن حد الخمر يثبت بالبينة أو بالاعتراف.
فإذا شهد عليه شاهدان أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد ويثبت أيضاً بالاعتراف فإذا أقر على نفسه أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد.
وهذان الطريقان في إثبات حد الخمر لا خلاف بين أهل العلم في ثبوت الحد فيهما.
وإنما اختلفوا فيما إذا ظهرت?منه رائحة الخمر أو رؤي يتقيأ الخمر فهل يقام عليه الحد أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الجمهور قالوا: لا يقام عليه الحد، لأن الحدود تدرأ بالشبهات فقد يكون شربها يظنها ليست خمراً أو غير ذلك.
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم أنه يقام عليه الحد، وهو قول عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة.
وقول عثمان كما في صحيح مسلم فإنه قال: " ما تقيأها إلا أنه قد شربها" وهو قول ابن مسعود فإنه جلد رجلاً وجدت منه رائحة الخمر.
فهذه آثار صحاح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم?ولا يعلم لهم مخالف كما قال ذلك ابن القيم.
فالذي تبين أنه يقام عليه الحد بذلك لا سيما مع القرائن.
مثال القرائن: أن يكون الرجل مشهوراً بالفسق متهماً بذلك، أو يكون الرجل مشتبهاً فيه.
أو أن يشهد عليه شاهد أنه شرب الخمر وتوجد معه رائحة فهذه قرائن قوية على أنه قد شربها.
وأما كون الحدود تدرأ بالشبهات فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات الضعيفة وإلا فإن البينة قد تكون كاذبة والمقر على نفسه قد يكون كاذباً.
لكن لو أدعى أنه لم يظنها خمراً وأشهد على ذلك، فحينئذ يقال بقبول دعواه لوجود الشبهة.
" باب التعزير "
??التعزير لغة: المنع، وله معانٍ أخر، لكن الذي له ارتباط بهذا?الباب هو هذا المعنى.
وفي الاصطلاح: قال المؤلف: ??هو التأديب] .
?وأصح من ذلك أن يقال: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
ولذا قال المؤلف بعد ذلك: ??وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة] .
فالتعزير: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
"في كل معصية": سواء كانت بترك واجب كترك صلاة الجماعة مثلاً.
أو بفعل محرم من المحرمات كحلق اللحية أو شرب التدخين.
"لا حد فيها": لابدّ من هذا القيد، لأن ما فيها حد، لا تعزير فيها بل يجب أن يقام حد الله تعالى كالزنا.
??ولا كفارة": وهذا قيد آخر، فإذا كان فيها كفارة فلا تعزير كالظهار أو الجماع في نهار رمضان فهذه معاصي فيها كفارة وعليه فلا تعزير في ذلك، وهذا هو مذهب جماهير العلماء.
وقول المؤلف: [وهو واجب] .
هذا هو المشهور في المذهب وأن التعزير واجب على الحاكم، فيجب على الحاكم أن يعزر من فعل معصية من المعاصي.
وعن الإمام أحمد: أنه مندوب.
قال: الشافعية وهو قول لبعض الحنابلة: بل إنما يجب إن كان فيه مصلحة أو كان لا ينزجر عن المعصية إلا به، وإلا فإن رأى الإمام العفو جاز ذلك.
وهذا هو أصح الأقوال وأن التعزير يرجع إلى نظر الإمام فإن كان فيه مصلحة فيجب عليه أن يقيمه أو كان لا ينزجر إلا به فيجب عليه أن يقيمه، وإلا فإنه يجوز له العفو.
ويدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم?أتاه رجل وأخبره أنه أتى امرأة إلا أنه لم يجامعها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم?????إن الحسنات يذهبن السيئات" ولم يقم عليه تعزيراً.
وهذا ظاهر في كثير من المعاصي?التي كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم?ولم يصح عنه تعزير فيها.
فالصحيح أن مرجع ذلك إلى الإمام وهو من سياسة الناس بالشرع وهو من السياسة المحمودة التي هي قائمة على العدل ولا تخالف الشرع.
فإن لم يكن هناك مصلحة فإنه له أن يعفو بل قد يترجح العفو حيث كانت هناك مصلحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم????أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) .
فقد يترجح ألا يقام عليه التعزير.
قال: [كاستمتاع لا حد فيه، وسرقة لا قطع فيها وجناية لا قود فيها] .
??هذه أمثلة على التعزير.
"كاستمتاع لا حد فيه": كأن يباشرها دون الفرج.
" وسرقة لا قطع فيها": كأن يكون السارق صبياً مميزاً فإنه يعزر أو أن تكون من غير حرز أو أن تكون دون النصاب.
??وجناية لا قود فيها": كضربه في الوجه أو وكزٍ أو نحو ذلك وتقدم أن شيخ الإسلام يرى القصاص في هذا.
قال: [واتيان المرأة المرأة] .
?وهو ما يسمى بالسحاق وتقدم.
قال: [والقذف بغير الزنا ونحوه] .
???فالقذف بغير الزنا يوجب التعزير ونحوه ذلك ومن ذلك الاستمناء لغير حاجة لذا قال بعد ذلك??
??ومن استمنى بيده بغير حاجة عزر] .
فالاستمناء محرم عند عامة أهل العلم لقوله تعالى: ???والذين هم لفروجهم حافظون إلا على?أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)) ?فلم يستثن الله سبحانه إلا الأزواج أو ما ملكت الأيمان، وما سوى ذلك فهو محرم إلا لضرورة كأن يخشى الزنا على نفسه.
فمن استمنى بغير حاجة عزر.
قال: [ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات] .
??هذا هو المشهور في مذهب أحمد وأنه لا يزاد في التعزير على عشر جلدات.
واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله) .
قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط في التعزيرات إلا أن يكون في حدٍ من الحدود.
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والأحناف: أنه له أن يزيد على عشرة أسواط لكن لا يصل إلى الحد.
وعلى القول بهذا فإن أصح ما قيل: إن كان حرا فإنه لا يصل إلى أربعين سوطاً وهو حد شرب الخمر، وإنما يجلد دونها ولو بسوط واحد.
وإن كان عبداً فلا يجلد عشرين بل دونها ولو بسوط واحد واستدلوا: بحديث ضعيف رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال????من حدّ في غير حد فهو من المعتدين??أي من جلد فأوصل حداً في غير حدٍ من الحدود فإنه من المعتدين.
لكن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم?موصولاً بل هو مرسل ضعيف.
قالوا: ولأن هذه المعاصي أضعف من المعاصي التي فيها الحدود، وقد جعل الله هذه الحدود لتلك المعاصي وهذه معاصي دونها فلم يبلغ بهذه المعاصي التي لم يجعل الله فيها حداً ولم يبلغ بها الحد لأنها لا تماثلها فهي دونها.
القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه له أن يعزر ما شاء مما يرى فيه مصلحة.
إلا أن تكون المعصية من جنس ما فيه حد فلا يبلغ بها الحد فإذا كانت المعصية ليست من جنس ما فيه حد كحلق اللحية وغيرها فله أن يعزر بما شاء.
وأما إن كانت من جنس ما فيه حد فليس له أن يبلغ الحد، كأن يباشر رجل امرأة من غير جماع فلا يجلد مائة سوط وذلك لأن هذه المعصية دون الزنا والله قد جعل في الزنا مائة سو فلا يمكن أن يجلد من فعل معصية دون ذلك مائه سوط ولا شك أن هذا ينافي العدل المأمور به فقد جعلنا ما ليس بمثل مثلاً، فإن إتيان المرأة من غير جماع ليس مماثلاً قطعاً لإتيانها في فرجها. القول الرابع: وهو مذهب مالك: أن ذلك راجع إلى رأي الإمام مطلقاً أي لا فرق بين ما كانت المعصية من جنس معصية فيها حد أو لم تكن كذلك.
وعليه فله أن يجلد من باشر امرأة ولم يطأها له أن يجلدها أكثر من مائة سوط أو أكثر.
وأحسن هذه الأقوال: كما قال ابن القيم: القول الثالث، وإليه ميل شيخ الإسلام ابن تيمية، كما حكى ذلك صاحب الإنصاف.
فإن قيل: فما?هو الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم????لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ?
فالجواب: أن المراد بالحد هنا حق الله تعالى: بدليل قوله تعالى: ???تلك حدود الله فلا تقربوها)) ?هذا هو لسان الشرع كما قال ذلك ابن القيم، فالحد يطلق في الشرع على العقوبة المقدرة لحديث:(لا تقام الحدود في المساجد) .
لكن الغالب ي لسان الشرع أنه يطلق على حق الله تعالى.
فيكون معنى الحديث: لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في معصية من المعاصي.
مسألة:
????تقدم ذكر أكثر التعزير، فما هو أقله؟
الجواب: لا حد لأقله عند عامة أهل العلم فله أن يجلد سوطاً أو أن ينفي أو أن يسجن يوماً أو أن يوبخ.
مسألة:
????هل يصح التعزير بالقتل؟
الجواب: نعم يصح ذلك كما تقدم في شارب الخمر وفيه: (فإذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه) .
ومذهب مالك وهو وجه في مذهب أحمد واختاره ابن القيم أنه يجوز للإمام أن يقتل الداعية إلى البدعة، وهذا من باب التعزير بالقتل حيث لم تندفع مفسدته إلا بذلك.
مسألة:
أصح قولي العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز التعزير بالمال إتلافاً وأخذاً.
خلافاً للمشهور عند جمهور أهل العلم.
وهو أي القول الراجح، جار على أصول الإمام أحمد كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
فيجوز التعزير بالمال إتلافاً، بأن يتلف المال ومن ذلك تحريق متاع الغال، كما تقدم في الصحيح.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم?كما في الترمذي أمر أن يهراق الخمر وأن تكسر دنانه.
وحرّق عمر بيت شارب خمرٍ كما في مصنف عبد الرزاق.
ومن ذلك تحريق الثوبين المعصفرين كما في صحيح مسلم ويجوز التعزير بالمال أخذاً:-
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم?أمر بأخذ سلب من قطع شجر حرم المدينة وهو حديث ثابت في صحيح مسلم.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: "فيمن منع الزكاة: "ومن منعها فإن أخذوها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو حديث حسن كما تقدم وإذا أخذ المال فإنه يصرف في مصالح المسلمين.
وهذا الأمر راجع إلى الإمام فله أن يتلف وله أن يأخذ على حسب ما يرى من المصلحة.
وجواب الجمهور على أن التعزير بالمال ليس بثابت. أنهم قالوا: هذه الأحاديث أي التي استدل بها من يرى ذلك منسوخة.
لكن كما قال ابن القيم، " لا دليل على النسخ لا بنص ولا بإجماع" بل هذه آثار الصحابة، كما في أثر عمر وغيره، وهي تدل على ما تقدم من إثبات التعزير بالمال.
وإذا ثبت التعزير بالقتل فأولى من ذلك التعزير بالمال وهي من السياسة التي يقتضيها العدل ولا تنافي الشرع بل قد دل عليها الشرع كما تقدم.
استدراك.
في مسألة التعزير فوق عشرة أسواط.
فقد دلت آثار الصحابة على جواز التعزير فوق عشرة أسواط من ذلك، ما روى الطحاوي بإسناد صحيح أن علي بن أبي طالب، جلد رجلاً شرب الخمر في رمضان جلده الحد وعزره بعشرين سوطاً. وثبت كما تقدم أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين وإن أربعين منها تعزير.
" باب القطع في السرقة "
قال رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم] .
?مسلماً كان أو ذمياً، وعليه فيخرج المستأمن وهو أحد القولين في المذهب، وأحد قولي العلماء في المسألة.
والقول الثاني: أن المستأمن إن سرق قطع والذي يترجح من هذين القولين: أن المستأمن لا يقطع وذلك لأن حد السرقة حد لله تعالى فأشبه حد الزنا، وقد تقدم أن حد الزنا لا يقام على المستأمنين فكذلك هنا.
ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الحكم ثابت في سرقة المسلم من ذمي أو سرقته من المستأمن، فلو سرق مسلم من ذمي أو من مستأمن قطع، وذلك لحرمة المال، فإن مال الذمي محترم ومال المستأمن محترم كمال المسلم.
قال: [نصاباً من حرز مثله] يأتي الكلام عليها.
قال: [من مال معصوم] .
??مال المسلم معصوم، ومال الذمي معصوم، ومال المستأمن معصوم وأما مال الحربي فليس بمعصوم، وليس دمه بمعصوم أيضاً.
قال: [لا شبهة له فيه] .
????يأتي الكلام على هذا الشرط أيضاً.
قال: [على وجه الاختفاء قًطعٍَ] .
???فلا بد أن تكون السرقة على وجه الاختفاء ومن ثم سمي استماع الجن استراقاً للسمع لأنه على وجه الاختفاء، قال تعالى:((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءاً بما كسبا)) .
وقال صلى الله عليه وسلم?كما في الصحيحين: ??تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) .
قال: [فلا قطع على منتهب] .
???المنتهب: هو الذي يأخذ المال على وجه الغلبة والقهر، كما يقع في الغارات التي بين البوادي مثلاً.
قال: [ولا مختلس] .
???المختلس: هو الذي يأخذ المال على حين غرة وغفلة من صاحبه.
قال: [ولا غاصب] .
الغاصب: معروف.
قال: [ولا خائن في وديعة] .
???فإذا أودع رجلاً ماله فجحده المودع، فإذا أقام البينة على الجحد فإن الجاحد لا يقطع يده.
وهذه المسائل اتفق عليها أهل العلم.
يدل عليها ما رواه الخمسة وصححه الترمذي وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم????ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) .
والعمل عليه عند أهل العلم.
فإن قيل: لم فرّق الشارع وبين السارق بين المختلس والمنتهب والخائن؟
فالجواب: أن الفرق بينهما هو أن السرقة قد وقعت على مال احتاط عليه صاحبه وحفظه في حرزه، فلا يمكن حفظ المال إلا بمثل هذه العقوبة العظيمة.
بخلاف المنتهب والمختلس والغاصب فإنه ليس على جهة الاختفاء فالناس يمكنهم أن يأخذوا على يد هذا المنتهب ويد هذا المختلس ويد هذا الغاصب.
وفي بعضها ما يكون فيه تفريط من صاحب المال كما يقع في الاختلاس وكما يقع في الوديعة.
فإن الجناية في الوديعة تقع حيث فرط في وضعها عند الأهل فإذا وضعها عند من ليس بأهل كان في الغالب، الجحد وحينئذ يكون مفرطاً في ذلك.
قال: [أو عارية أو غيرها] .
???أي لا قطع على خائن عارية، أو غيرها من الأمانات وما ذكره المؤلف هنا من أن خائن العارية لا يقطع تبعاً لصاحب المقنع هو أحد الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء.
??قالوا: لأنها ليست بسرقة والأدلة إنما وردت في السرقة وهي من خيانة الوديعة والنبي صلى الله عليه وسلم?لم يقطع خائن الوديعة.
والقول الثاني في المسألة: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو قول اسحاق وهو مذهب أهل الظاهر، أن القطع يثبت في جحد العارية.
?واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة، " أن امرأة كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم?بقطع يدها" والحديث أصله في الصحيحين.
وأعل بتفرد معمر عن الزهري، وهذا لا يصح فإنه قد تابعه على هذا الحديث أيوب بن موسى وتابعه عليه شعيب بن إسحاق فلا تصح تفرد معمر بهذا الحديث.
وهو ثابت من حديث ابن عمر في سنن أبي داود والنسائي، ومن حديث سعيد بن المسيب مرسلاً في سنن النسائي فالحديث صحيح، وكما قال الإمام أحمد:"لا شي يدفعه".
وأجيب عن هذا الحديث، بأن هذا وصفُ للمرأة، وليس أنها قطعت بذلك، فمن وصفها أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، لا أن القطع كان نسيه ذلك.
ولاشك أن هذا ضعيف جداً لأنه يخالف ظاهر الحديث فإن ظاهر قول عائشة المتقدم أن هذه المرأة كانت تستعير المتاع فتجحده وبسبب ذلك قطع النبي صلى الله عليه وسلم?يدها.
ولو قبل مثل هذا التعليل لردت أحكام كثيرة يترتب على أوصاف ذكرت في الأحاديث أو في الآيات القرآنية وما سلم من ذلك إلا الشيء القليل من الأحكام أي لذهبت كثير من الأحكام الشرعية التي تنبني على أوصاف ذكرت في الأحاديث.
ولذا فالراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني واختاره ابن القيم وهو قطع يد جاحد العارية.
فإن قيل، فما الفارق بين العارية وبين الخيانة في الوديعة؟
فالجواب أن الفرق بينهما أن الخيانة في الوديعة إنما نتجت في الغالب عن تفريط من المودِع فإن هذا الجحد ناتج عن وضعها عند من ليس بأهل فيكون المودِع عنده نوع تفريط.
وأما العارية?فإنه قد فعل ما أمر به من الإعارة فقد أحسن إلى الناس وفعل ما أمر الله به.
ثم إن عدم القطع في هذا ذريعة إلى امتناع الناس عن العارية وحينئذ تفوت هذه المصلحة مع أن الحاجة داعية إليها.
قال: [ويقطع الطرار الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه] .
??الطرار هو النشال الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه أي على وجه الخُفية وعليه فتقطع يده لأن أخذه على وجه الخفية وكان ذلك من حرزه.
قال: [ويشترط أن يكون المسروق مالاً محترماً] .
???هذا هو الشرط الأول في القطع، أن يكون المال المسروق محترماً أي له حرمة.
وما ليس له حرمة لا مالية له كالصورة وآلات اللهو فهذه لا حرمة لها وعليه فلا مالية لها، وعليه فلا تساوي لا ربع دينار ولا أقل من ذلك فلا قيمة لها وإن كانت عند أصحابها لها قيمة لكن هذه القيمة غير معتبرة شرعاً.
قال: [فلا قطع في سرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر] .
???ولا تصاوير ولا غير ذلك?لأنها أشياء لا قيمة لها فهي غير محترمة ولا مال فيها.
قال: [ويشترط أن يكون نصاباً وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار] .
هذا هو الشرط الثاني: أن يكو نصاباً.
والنصاب: هو ربع دينار كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) .
وفي لفظ أحمد: " اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك".
وأما أنه يقطع بثلاثة دراهم، فلما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم???قطع في مجَنّ قيمته ثلاثة?دراهم) ،?أما ما روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال: ??لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم) .
فالحديث فيه الحجاج بن أرطأه وهو ضعيف مدلس وقد استدل به الأحناف.
وهنا: كلام المؤلف يدل على أن ربع الدينار والثلاثة دراهم أن كليهما أصل.
فلو سرق مالاً لا يساوي ربع دينار لكنه يساوي ثلاثة دراهم، فإن يده تقطع.
هذا هو القول الأول وهو رواية عن الإمام أحمد.
والقول الثاني في المسألة: وهو الرواية?الأخرى عن أحمد وهو مذهب الشافعي: أنها لا تقطع إلا فيما يبلغ ربع دينار فالأصل هو ربع الدينار، وأما ثلاثة دراهم فليست بأصل وإنما المجن الذي قطع النبي صلى الله عليه وسلم??فيه كان يساوي ثلاثة دراهم وكان يساوي ربع دينار، فكان ربع الدينار يساوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم?ثلاثة دراهم.
وهذا هو القول الراجح في المسألة، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار) .
وقوله صلى الله عليه وسلم????اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوها في أدنى من ذلك) .
فهذا الحديث نص في أن اليد لا تقطع فيما هو أدنى من ذلك.
قال: [أو عرض قيمته كأحدهما] .
???إذا كان عرضاً بسيف أو ثوب أو شاة أو غير ذلك وقيمة هذا السبب وقيمة هذه الشاة وقيمته هذا الثوب تساوي ربع دينار، على الراجح.
وعلى المذهب تساوي ربع دينار وثلاثة دراهم، فإذا سرقه أحد فإنه يقطع به.
قال: [وإذا نقصت قيمة المسروق،..لم يسقط القطع] .
فإذا سرق عرضاً يساوي ربع دينار، ثم نقضت قيمته بعد ذلك عن ربع دينار، فإنه لا يسقط القطع فالعبرة بالقيمة وقت الإخراج لأنه هو وقت السرقة والقطع وجب بسبب السرقة.
قال: [أو ملكها السارق لم يسقط القطع] .
?????إذا قال المسروق منه وقد وهبتها له أو قال السارق اشتري هذا منك وأسلم من القطع، فإنه لا يسقط?القطع.
ويدل عليه: ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي في قصة صفوان بن أميه لما سرق منه وفيه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم??لما أمر بقطع السارق فقال: يا رسول الله لم أرد هذا، وردائي له صدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم????هلا كان هذا قبل أن تأتيني به) .
?فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم?بقطعه وإن كان قد وهبه إياه بعد ثبوت الحد.
أما قبل رفعه إلى الحاكم فإنه يسقط عنه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم????تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حدٍ فقد وجب) .
قال: [وتعتبر قيمتها وقت اخراجها من الحرز] .
???تقدم الدليل على هذا.
قال: [فلو ذبح فيه كبشاً أو شق فيه ثوباً فنقصت قيمته عن نصاب ثم أخرجه.. لم يقطع] .
فلو كان الكبش في الحرز يساوي ربع دينار فذبحه وقطعه لحماً ثم أخرجه من حرزه فإنه لا يقطع لأنه لم يخرجه نصاباً.
أو أخذ الثوب الذي يساوي ربع دينار فقطعه في حرزه ثم أخرجه فهذه القطع لا يساوي إلا درهماً وكانت قبل ذلك لا تساوي دراهم كثيرة، فإنه لا يقطع لأنه لم يخرج في الحرز نصاباً.
قال: [أو تلف فيه المال لم يقطع] .
??إذا دخل على مالٍ في حرزه فأتلفه، كأن يدخل على الشاة في حرزها فيقبلها فإنه لا يقطع لأنه لم يسرق فإنه لم يخرج المال من حرزه.
أما هذه فظاهره.
وأما الأوليان فلا يخلوان من نظر.
ولا?شك أنها حيلة لا سيما في الشاة فإنه قطعها لحماً إلا أن يقال: النظر إلى ماليتها وهي لا تساوي ربع دينار حينئذ.
ولم أر في هذه المسألة خلافاً فالله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن يخرجه من الحرز] .
هذا هو الشرط الثالث من شروط الحد في السرقة وهو أن يخرجه من الحرز.
??والحرز هو الحفظ أي أن يخرجه مما حفظ منه.
وهذا شرط عند عامة العلماء، ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي، والحديث إسناده جيد ??أن النبي صلى الله عليه وسلم?سئل عن التمر المغلف الحديث ومنه أن النبي صلى الله عليه وسلم?قال:(فإن خرج بشيء منه بعد أن يؤيه الجرين) وهو الموضع?الذي يحفظ فيه التمر، فبلغ ذلك ثمن المجنّ ففيه القطع.
فدلّ هذا على اشتراط الحرز.
قال: [فإن سرقه من غير حرز فلا قطع] .
??وذلك لاختلال هذا الشرط، وهو الحرز كأن يجد الباب مفتوحاً فيأخذ من الدار، وتجد الخزينة في الدار مفتوحة والباب مفتوح فيأخذ من الخزينة فلا?قطع وذلك لعدم الحرز.
قال: [وحرز المال: ما العادة حفظه فيه] .
???فالشرع لم يحدد حداً في الحرز، وعليه فيرجع فيه إلى العادة فما كان في العادة حرزاً فهو حرز يقطع معه.
قال: [ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه] .
??يختلف الحرز باختلاف الأموال فليس حرز الذهب كحرز الماشية.
ويختلف باختلاف البلدان فليست البلدان التي يكون فيها الشرع مطبقاً ويكون فيها الأمن ظاهراً بخلاف البلدان التي يضعف فيها تطبيق الشرع، ويضعف فيها قيام الحاكم بما يجب عليه في أمن الناس من إزالة خوفهم.
فالبلد الواحدة تختلف مواضعها فليس الحرز في المدن الكبار كالحرز في المدن الصغار، وليس هو في المدن الصغار كالقرى والهجر وهكذا.
??كذلك يختلف باختلاف عدل السلطان وجوره وقوته وضعفه فإذا كان السلطان عادلاً فإن الناس يخافون من إقامة الحدود الشرعية ويعلمون أن الشفاعة لا تنفع فيرتدعون عن السرقة، وحينئذ يكون الحرز يثبت بأدنى ما يكون بخلاف ما لو كان السلطان جائراً فإنا نحتاج إلى حرز أعظم.
كذلك يختلف باختلاف قوة السلطان وضعفه، فإذا كان السلطان قوياً صارماً حازماً بخلاف ما لو كان متساهلاً.
ثم ضرب للحرز أمثلة فقال: ??فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة] .
?الأغلاق هي الأقفال.
فهذا هو حرز الجواهر والقماش والأموال ونحوها في العادة فحرزها أن تكون في الدور المبنية ويقفل عليها.
فلو وضع إنسان ذهباً في دار غير مقفلة فإن هذا الذهب ليس بمحرز لأنه لم يوضع فيما يحفظ فيه في العادة.
قال: [وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوهما وراء الشرائح إذا كان في السوق حارس] .
???الشرائح: ما يوضع من القضب بعضه إلى بعض ويربط بالحبال فإذا وضعت أمثال هذه وراء الشرائح فهذا هو حرزها، إن كان في السوق حارس.
ونحو ذلك ما يوضع في الأسواق، فإن بعض المحلات تضع من الغطاء على الأواني ونحوها فهذا هو حرزها حيث وجد بعض الشرط أي الحراس.
قال: [وحرز الخشب والحطب الحظائر] .
??الحظائر معروفة وهي التي تضع من خشب، فهذه الحظائر توضع فيها الخشب والحطب وهذا هو حرزها، لجريان العادة بذلك.
قال: [وحرز المواشي الصير] .
??الصير: هي حظائر الغنم ونحوها.
فإذا وضع غنمه في حظيرة فهذا هو حرزها.
فلو وضع عند باب داره حظيرة خشب ووضع فيها أغنامه فسرق منها شيء يبلغ نصاباً فإن فيه القطع لأن هذا هو حرزها في العادة.
?قال: [وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها غالباً] .
???فإذا كانت في المرعى فهذا هو حرزها بشرط أن يكون الراعي ينظر إليها في الغالب وإن كان يغيب عنها لحظات فهذا لا يؤثر أما إذا كانت غالباً تغيب عن نظره فإنها ليست في حرز.
فالقاعدة إذن أن المال إذا وضع فيما يحفظ فيه في العادة وهذا ليس له ضابط محدد بل يختلف باختلاف الأموال والبلدان وباختلاف عدل السلطان وجوره وقوته أو ضعفه فإذا ثبت أنه حرز في العادة فإنه يقطع به.
وعليه فقد يكون في هذه البلد حرز وهو في بلدٍ أخرى ليس بحرز.
قال: [وأن تنتفي الشبهة] .
??هذا هو الشرط الرابع.
وقد تقدم أن هذا شرط في الحدود، وأن أهل العلم قد أجمعوا على ذلك.
وتقدم أنه لا يؤخذ بأدنى شبهة وبأدنى احتمال، بل لابد أن تكون الشبهة ظاهرة لتقوى على درء الحد.
قال: [فلا قطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا] .
??فإذا سرق من مال أبيه أو جده أو جد جده فلا قطع، وإن علا.
قال: [ولا من مال ولده وإن سفل والأب والأم في هذا سواء] .
????فلا يقطع إن أخذ من مال ولده أو لد ولده وإن نزل.
فلا قطع بالأخذ من مال الوالد ولا في مال الولد لولده.
والشبهة هنا وجوب النفقة، فقد تجب النفقة على الوالد.
وقد تجب النفقة على الولد لوالده، كما تقدم.
وقال بعض أهل العلم: وهو رواية عن الإمام أحمد: بل الشبهة في خصوص أخذ الوالد من مال الولد.
وأما أخذ الولد من مال الوالد فلا شبهة فيه والشبهة إنما هي في أخذ الوالد من مال ولده وهي شبهة الملك فالأب كما قال صلى الله عليه وسلم????أنت ومالك لأبيك) .
والوالد لا يمكن أن يقطع بسبب مال ولده كما تقدم من أن الوالد لا يقتل بولده فأولى من ذلك ألا يقطع.
أما لو ظهر في الولد فقر وحاجة فحينئذ يقوى القول بالشبهة وذلك لوجوب النفقة مع فقر الولد.
أما وهو غني فيبعد حينئذ أن يقال بالشبهة.
إذن: أخذ الوالد من مال الولد ولا إشكال في أنه لا قطع فيه لحديث: " أنت ومالك لأبيك".
وأما سرقة سوى الأب من الوالدين من الولد، فكذلك لا إشكال في أنه لا قطع لأنه لا يمكن أن يكون الولد سبباً في القطع والوالد سبباً في الوجود، وأما أخذ الولد من مال الوالد فيقوي عدم القطع، حيث كان الولد فقيراً، لهذه الشبهة وهي وجوب النفقة عليه.
??وأما وهو غني فيقوى قول من قال بإقامة الحد والله أعلم.
قال: [ويقطع الأخ وكل قريب بسرقة من مال قريبه] .
???لعدم الشبهة، إلا أن يكون فقيراً والآخر ممن ركب عليه الإنفاق حيث ترجح هذا، فحينئذ يقوى القول بأنها شبهة فلا قطع.
قال: [ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر ولو كان محرزاً عنه] .
لما روى مالك في موطئه: " أن رجلاً أتى بخادم له إلى عمر فقال: إن غلامي هذ قد سرق مرآة لزوجتي قيمتها ستون درهماً فقال عمر: أرسله فلا قطع خادمكم سرق متاعكم".
قالوا: فإذا كان عبد الزوج إذا سرق من الزوجة لا يقطع فأولى من ذلك الزوج نفسه.
والشبهة في ذلك قوية لأن العادة أن كل واحدٍ من الزوجين ينبسط في مال الآخر.
وقال مالك: بل يقطع للآية: ((السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) والذي يظهر عدم القطع للشبهة وهي انبساط كل واحد في مال الآخر في العادة.
وعليه فكذلك بعض الأخوة أيضاً إذا كانوا في دار واحدة، فالعادة فيما يظهر جارية بانبساط كل واحدٍ منهما في مال الآخر.
قال: [وإذا سرق عبد من مال سيده] .
فلا قطع، قال ابن مسعود: كما روى البيهقي بإسناد صحيح "مالك سرق بعضه بعضاً فلا يقطع".
قال: [أو سيد من مال مكاتبه] .
المكاتب: كما تقدم يملك فإذا سرق السيد من مال مكاتبه فإنه لا يقطع وذلك لشبهه الملك لأنه قد يعود قنا.
قال: [أو حر مسلم من بيت المال] .
وفيه أثر عن عمر لكن اسناده ضعيف وهو في البيهقي الشبهة هنا هي ماله في بيت المال من حق.
وقال مالك بل يقطع لظاهر الآية الكريمة.
والذي يتبين أنه يختلف فإذا كان السلطان يعطي الناس حقوقهم فلا ينبغي أن يقال، إنها شبهة.
أما إذا كان يظلم الناس ولا يعطيهم حقوقهم فيقوي حينئذ أن يقال كالشبهة.
إذن: المشهور في المذهب: أن المسلم الحر إذا أخذ من بيت المال فإنه لا يقطع والشبهة هنا: أن لكل مسلم حقاً في بيت المال.
والقول الثاني: أنه يقطع.
والذي يترجح هو القول الأول إلا أن يكون السلطان يعطي الناس حقوقهم فيضعف هذا القول، والله أعلم.
وقد قال المؤلف: " أو حر مسلم" أما إذا كان عبداً فإنه يقطع لأنه لا حق له في بيت المال وعليه فلا شبهة له.
قال: [أو من غنيمة لم تخمس] .
الغنيمة إذا لم تخمس فلبيت المال منها خمس الخمس وعليه فإذا سرق أحد فكما لو سرق من بيت المال فلا قطع.
قال: [أو فقير من غلة وقف على الفقراء] .
للشبهة فإن له حقا في ذلك.
قال: [أو شخص من مال له فيه شركة له] .
فإذا أخذ أحد الشريكين من المال المشترك فيه فلا قطع للشبهة وهي هنا شبهة الملك.
قال: [أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه لم يقطع] .
فإذا كان لوالده نصيب من هذه الشركة، لأنه لو أخذ من مال والده فإنه لا يقطع كما تقدم في المذهب.
فكذلك إذا كان لوالده شرك في هذا المال.
إذن: لا يقطع إذا أخذ من مال له فيه شرك أو أخذ من مال شركه لمن لا يقطع بالسرقة منه.
وهنا: مسألتان:-
مسألة ظاهرة الشبهة فيها فلا يقام فيها الحد، ومسألة أخرى الشبهة فيها ضعيفة جداً.
أما المسألة الأولى: فهي السرقة في عام المجاعة، فإذا أصيب الناس بسنة أي بجدب وقحط فسرق بعضهم لما يجد من الحاجة فلا قطع عليه.
وذلك لما روى عبد الرزاق في مصنفه: أن عمر قال: " لا قطع في عام سنة" أي في عام مجاعة.
والشبهة في ذلك أن هذا السارق لا يكاد يخلو من ضرورة يجب معها على المسروق منه أن يبذل له مجاناً ما يضطر إليه وذلك لأن إحياء النفوس واجب مع القدرة.
فهذا الذي قد سرق عام المجاعة والمسروق منه قادر وعليه فيبذله لهذا الذي قد سرق واجب حيث قدر على ذلك فهذه شبهة قوية، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد وهو قول عمر ولا يعلم له مخالف.
وأما المسألة التي في غاية الضعف بل في غاية الغرابة أن يقال باحتمال صدق دعوى السارق، وهو المشهور في المذهب إذا سرق رجل مالاً ثم قال: هو ملكي قد أودعته إياه أي المسروق منه أو رهنته إياه، أو قد أذن لي فأخذه فحينئذ نقول للمسروق منه: احلف على أن هذا الشي لك لأن جانبه أقوى فإن حلف فلا حق حينئذ للسارق لكن يده لا تقطع لاحتمال صدقه.
وحينئذ لا يعجز سارق عن مثل هذه الدعوى فيدعي أن المسروق ملكه.
وقد أبطل هذا ابن القيم غاية الإبطال وبيّن أن هذا من الحيل التي تبطل الشرع من أصله، فلا يعجز سارق أن يدعي مثل هذا وحينئذ فلا قطع.
وهذا مما تنزه عنه الشريعة الإسلامية فلا شك أن هذا من الحيل الباطلة وهذه حيلة يستطيع أن يفعلها كل سارق.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقطع إلا بشهادة عدلين] .
ذكرين حرين اتفاقاً.
فقد اتفق العلماء على أنه لا يقطع إلا بشهادة عدلين ذكرين حرين وهي البينة فثبتت بها السرقة ويترتب عليها الحد باتفاق أهل العلم ولو كان ذمياً.
فلو شهد ذميان على ذمي بالسرقة فإن الحد لا يقام عليه فالبينة هي شهادة شاهدين عدلين مسلمين ذكرين حرين.
قال: [وإقرار مرتين] .
هذا هو الطريق الثاني لثبوت السرقة التي يترتب عليه إقامة الحد وهو أن يقر بالسرقة على نفسه مرتين، فيقول: قد سرقت ثم يقول قد سرقت.
ويدل عليه ما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم????ما إذا لك سرقت) فقال: بلى فأعادها مرتين أو ثلاثاً- واليقين مرتين ??فأمر به فقطع ثم جيء به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم استغفر الله وتب إليه فقال: استغفر الله وأتوب إليه، قال صلى الله عليه وسلم:" اللهم تب عليه ثلاثا ".
هذا الحديث فيه أبو المنذر مولى أبي ذر وهو مجهول لكن الحديث ليس بمنكر، وجهالة التابعي ليست بالجهالة القوية، مع وجود شاهد له، وهو ما ثبت في مصنف عبد الرزاق وسنن البيهقي بإسناد صحيح عن علي، أن رجلاً قال له: إني سرقت فردّة، فقال: إني سرقت فقال علي: شهدت على نفسك مرتين، فأمر به فقطع.
ولا يعلم لعلي مخالف، فعلى ذلك الحديث المتقدم حديث حسن وليس بمنكر ويشهد له فعل علي ويشهد له العباس على مسألة الزنا، فالزنا بينته أربع شهادات والإقرار لابد أن يكون أربعاً.
فكذلك السرقة لابد أن يقرّ على نفسه مرتين، هذا هو المشهور في مذهب أحمد، خلافاً للجمهور.
فالجمهور قالوا: يكتفي باقرار مرة لأنه اعتراف والاعتراف يثبت بمجرد الإقرار ولو مرة واحدة.
والحجة مع أهل القول الأول لما تقدم.
فالصحيح أنه لا يقام عليه الحد إلا إذا شهد على نفسه مرتين.
إذن: لابد أن يقر على نفسه مرتين ويصف سرقة توجب الحد، فيبين الحرز ويبين قدر ما سرق، فيعلم لو توفر الشروط وكذلك في البينة فلابد وأن يشهد كل شاهد بما يوجب الحد فيصف السرقة وأنه قد سرق من حرز وأن المسروق كذا.
إذن: يثبت حد السرقة بالبينة والاعتراف.
لكن هل يثبت بطريق ثالث أم لا؟
والمذهب أنه لا طريق ثالث، بل لا يقام الحد إلا بأحدهما.
واختار ابن القيم وقال: " وهو أصح القولين" أن هناك طريقاً ثالثاً وهو: أن العين المسروقة عند السارق مع التهمة فإذا كان ممن يتهم بالسرقة ووجدت عنده العين المسروقة فيرى ابن القيم إقامة الحد عليه.
وهذا ظاهر كما تقدم في إقامة الحد على من تقيأ الخمر أو وجدت منه رائحته وإقامة حد الزنا بالحبل.
فالبينة والاعتراف خبران يحتملان الصدق والكذب، وغلبه الظن صدقهما.
وأما إذا وجدت عنده العين المسروقة فهذا نص صريح في السرقة لا يحتمل إلا السرقة كما قال ابن القيم.
لكن: فيما يظهر لو ادعي شبهة كان يدعي أنها عارية عنه فالذي يظهر أن هذا يدرأ عنه الحد، فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
قال: [ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع] .
فلو قال: رجعت قبيل القطع فإنه لا يقطع، وذلك كما تقدم في باب الزنا.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان اقراره تدل عليه القرائن كأن يصف السرقة وأن يكون المسروق عنده، وأن يكون المسروق منه قد فقد هذا الشيء – فلو دلت القرائن على السرقة فله الرجوع هذا هو ظاهر كلام الحنابلة.
والذي يتبين لي أن هذا الظاهر صحيح وذلك لأنه حيث اعترف فإنه تائب، وتوبته قبل أن يقدر عليه وقد قال تعالى:((إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)) . فهذا قد أتى تائباً ولم تقم عليه بينة تدل على سرقاته فحينئذ إن اعترف أقيم عليه الحد، فإن رجع عن اعترافه قبل ذلك منه، والله أعلم.
قال: [وأن يطالب المسروق منه بماله] .
إذا ثبتت السرقة عند الحاكم ولم تثبت مطالبة بهذا المال فلا يقيم عليه الحد.
إذا أتى المسروق منه إلى الحاكم فقال: سرق مالي فعُثر على السارق فهنا يقطع ولا اشكال.
لكن إن لم يطالب المسروق منه أو كان غائباً، فهل يقام عليه الحد في الصورة الأولى، وفي الصورة الثانية هل ننتظر حتى يحضر فننظر هل يطالب أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
القول الأول: ما ذكره المؤلف هنا، وهو مذهب الجمهور قالوا لا يقيم عليه الحد إلا بمطالبة المسروق منه.
واستدلوا بحديث صفوان لما سرق رداؤه وهو متوسد عليه في المسجد فذهب بالسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يقطع فشفع له صفوان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان هذا قبل أن تأتيني) .
قالوا: فيدل على أنه لا يقام إلا بالمطالبة.
والقول الثاني: وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الحد يقام ولو لم يطالب المسروق منه وذلك لأن الحد حق لله تعالى فيقام على السارق وإن لم يطالبه المسروق منه، فما دام وصل إلى الحاكم فإن الحد يقام عليه.
واستدل: بعموم الآية: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما".
ولم يشترط الله سبحانه طلب المسروق منه ولا رضاه في إقامة الحد.
وأما الحديث الذي استدلوا به، فإن الحديث قضية عين، فليس فيه أنه لو بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ورفع ذلك أنه لا يقيم عليه الحد.
وقد أقام الحد صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي أمية وتقدم أنه حديث حسن وأقامه علي وليس في ذلك طلب من المسروق منه.
والقول الثاني هو الصحيح وأن الحد يقام مطلقاً لأنه حق لله تعالى وعليه فلا يشترط أن يطالب بإقامة الحد.
قال: [وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى] .
إجماعاً قال تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) .
وقد أجمع أهل العلم على أن اليد التي تقطع هي اليد اليمنى.
قال: [من مفصل الكف وحسمت] .
فتقطع يده من مفصل الكف، وحسمت والحسم بأن يقطع الدم بالزيت المغلي لئلا يتزق فيموت وهذا أي الحسم واجب حفاظاً على نفسه.
فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وأبقى له عقب يطؤ به اتفاقاً وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة.
فإن سرق ثالثة:
فالحنابلة قالوا: ويحبس حتى الموت، أو يتوب، أي يعزر بالحبس وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد حسن.
وقال الجمهور وهو رواية عن أحمد: بل تقطع يده اليسرى فإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى.
واستدلوا: بأثر عن أبي بكر وعمر في رجل سرق وهو مقطوع اليد والرجل فأمر أبو بكر أن يقطع رجله فنهى عن ذلك عمر وأشار بقطع يده، والأثر حسن.
والأشبه هو قول علي، وقد تعارضت أقوال الصحابة فالأشبه هو قول علي.
وذلك لأن الله تعالى أمر بقطع اليد واتفق أهل العلم على قطع الرجل اليسرى بعد ذلك، وليس عندنا نص يدل على القطع فالله عز وجل إنما أمر بقطع اليد فحسب، وظاهره ألا يقطع سوى اليد وحين كان كذلك فإنا لا نقول بالقطع فيما سوى ذلك إلا فيما اتفق عليه أهل العلم، واتفقوا على قطع الرجل اليسرى، قال علي في أثره، "إن قطعت لا ينبغي أن يقطع رجله ويده فيبقى لا قائمة له".
فإذا قطعت يداه فلا يمكنه أن يستطيب ولا أن يأكل ولا يشرب وإذا قطعت رجلاه جميعاً فلا يمكنه المشي فمعنى ذلك إتلاف جنس العضو.
فالذي يترجح هو ما ذهب إليه علي لا سيما في أنه قال ذلك لعمر والظاهر أن عمر أقره على ذلك والله أعلم.
فإن سرق بعد ذلك وقلنا بالقطع فهل يقتل أولاً؟
قال أبو مصعب المالكي وهو قياس قول شيخ الإسلام أنه يقتل وفي ذلك أثر رواه النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد سرق فقال: اقتلوه، فقيل: إنه قد سرق فقال: اقطعوه ثم أتى الثانية فقال كذلك ثم أتي به الثالثة فقال كذلك ثم أتي به الرابعة فقال كذلك، ثم أتي به الخامسة فقال:"اقتلوه" لكن الحديث أنكره النسائي وأعله بمصعب بن ثابت في سننه وقال لا أرى أن في هذا الباب حديثًا صحيحاً.
فالذي يتبين أن هذا الحديث منكر إذ كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم في أول مرة اقتلوه والواجب قطعه.
فالذي يترجح أن هذا الحدبث منكر لكن من باب التعزير فإنه يثبت بالقتل كما قال شيخ الإسلام في شارب الخمر فمرجع ذلك إلى الإمام من حيث التعزير أما في الحكم في الأصل فلا قتل.
قال: [ومن سرق شيئاً من حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع] .
الكثر: هو الجمّار الذي يكون في النخل.
المشهور في المذهب أن من سرق تمراً أو كثراً أو شاة من غير حرز فلا قطع لعدم الحرز، قالوا: لكن يجب عليه غرامة مثلية فالشاه شاتان، والتمر إذا كان صاعاً فصاعان، وإذا أخذ من الكثر القيمة الفلانية فعليه ضعفها.
واستدلوا: بما ثبت في سنن النسائي باسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في التمر المعلق: (من أصاب بقية من ذي صاحب حاجة غير متخذ خبنةً - وهي طرف الثوب - فليس عليه شيء ومن خرج بشيء منه فعليه الغرامة والعقوبة) .
وفي رواية: " فعليه غرامة مثلية".
ونحوه في أبي داود وابن ماجه في الشاة.
قالوا: وأما سوى ذلك فليس فيه غرامة مثلية بل ضمان مثله لأن هذا هو الأصل، فالأصل هو ضمان المثل ولا يستثنى إلا ما دل عليه الحديث وهو التمر ونحوه والشاة.
وقال شيخ الإسلام واختاره ابن سعدي وهو القول الثاني في المذهب وهو ظاهر كلام المؤلف في قوله "أو غيرهما" وهو أن هذا الحكم ليس بمختص بالشاة والتمر، بل كل ما أخذ من غير حرز ففيه غرامة مثلية.
للقياس الصحيح، وللقاعدة وهي أن ما اسقطت عقوبته لمانع فإن الضمان يضاعف.
وعلى ذلك فليس مختصاً بالتمر والشاة بل هو عام في كل ما سرق من غير حرز فلما اسقطت العقوبة ضاعفنا الغرم.
" باب حد قطاع الطريق"
قطاع الطريق: وهم الذين يخيفون السبل بالقتل وأخذ المال.
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)) .
قال رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح] .
كالسيف والنبل ونحو ذلك.
ومثله أيضاً عند جماهير العلماء العصا والحجر، ونحو ذلك مما يتلف الأطراف ويجرح الأبدان وفيه معنى المحاربة والإفساد في الأرض.
قال: [في الصحراء أو البنيان] .
فسواء كان هذا في الصحراء أو كان في البنيان أي في المدن والقوى، وهو مذهب جماهير العلماء واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
لعموم الآية: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً)) فالآية عامة في البنيان وفي الصحراء.
وقال بعض أهل العلم كما هو قول بعض الحنابلة وهو مذهب أبي حنيفة: بل في الصحراء فقط، وأما في البنيان فليسوا من المحاربين.
قالوا: لوجود الغوث في البنيان، أي من استغاث فيها أغيث بخلاف الصحراء.
والصحيح هو الأول لظاهر الآية الكريمة فهي عامة في البنيان والصحراء.
ثم إن البنيان أعظم وذلك لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة فلا شك أن من جعل الخوف فيها، أشد وأقبح ممن جعل ذلك في الصحراء لأن البنيان موضع الأمن والطمأنينة.
قال: [فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة] .
فإذا كانت سرقة فكما تقدم.
لكن هنا يأخذون المال مجاهرة، يرفعون عليهم العصي والسلاح فيأخذون أموالهم.
قال: [فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] .
فمن فيهم قتل مكافئاً أو غيره، كالوالد يقتل ولده كالحر يقتل العبد، وكالمسلم يقتل الذمي، وأخذ المال فإنهم يقتل ويصلب.
فلو أن الأب قتل ولده في الحرابة فإنه يقتل به أو قتل مسلم ذمياً كأن يخيف بعض المسلمين السُبل فيقتلون ذمياً فإن يقتلون به.
أو حراً أخاف الطريق فقتل عبداً وتقدم أن المشهور في المذهب أن الحر لا يقتل بالعبد، وأما هنا فإنه يقتل.
وذلك لحق الله تعالى، فهناك في باب القصاص هو لحق الآدمي، وأما هنا فهو لحق الله تعالى، فهو حد من الحدود فالفرق بين هذا الباب وباب القصاص:-
أن باب القصاص حق للآدمي وعليه فلا يقتل الوالد بولده ولا يقتل في المشهور السيد بالعبد ولا يقتل المسلم بالذمي.
وأما هنا فهو حق لله تعالى.
ولذا فإن الله لم يرجع قتلهم إلى أولياء المقتول فهو حد فقال: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله.. أن يقتلوا)) ولم يجعل ذلك إلى أوليائهم بخلاف آية القصاص فقد أرجع الله ذلك إلى أولياء المقتول وأن أولياء المقتول بالخيرة بين القتل والدية والعفو.
وقوله: "فمن منهم" قد يفهم من ذلك خلاف المذهب فقد يفهم أنه لو قتل واحد منهم يقتل وأما البقية فإنهم لا يقتلون.
والمشهور في المذهب خلاف ذلك فالمشهور في المذهب أن قطاع الطريق إذا قتل واحد منهم فحكمهم جميعاً القتل وإذا أخذ المال واحد منهم فحكمهم جميعاً القطع وإذا أخذ واحد منهم المال وقتل فحكمهم جميعاً القتل والصلب هذا هو مذهب الحنابلة.
وقال الشافعية: بل إنما يقتل القاتل ويقطع الآخذ.
والصحيح هو القول الأول وذلك لأن المحاربة مبناها على المنعة والمناصرة، فهو لولا هؤلاء لم يخف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال.
فمن منهم قتل وأخذ المال أي جمع بين معصيتين، القتل وأخذ المال، فإنه يتقل ويصلب.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
قال تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)) .
وقد اختلف أهل العلم في لفظة هل هي للتنويع أم هي للتخبير؟
أي هل هذه العقوبات تختلف باختلاف الجنايات فكل عقوبة لجناية، فالقتل والصلب لجناية والقتل لجناية وقطع الأيدي والأرجل لجناية والنفي لجناية.
أم أنها للتخيير، فالإمام مخير بين هذه العقوبات فإن شاء قتل وصلب وإن شاء قتل، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل من خلاف وإن شاء نفى من الأرض.
1) فمذهب المالكية إلى أنها للتخيير فقالوا: مرجع ذلك إلى الإمام فإن رأى أن يقتلوا ويصلبوا فعل ذلك، وإن رأى أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فعل ذلك، وإن رأى أن ينفوا من الأرض فعل ذلك.
2) وقال الجمهور: بل هي عقوبات مختلفة لجنايات مختلفة فإن قتل وأخذ المال فعقوبته الجمع بين القتل والصلب وإن قتل فقط ولم يأخذ المال فعقوبته القتل فقط وإن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى.
وإن أخاف السبيل ولم يأخذ مالاً فإنه ينفى من الأرض هذا هو القول الراجح ويدل عليه الأثر والنظر.
أما الأثر: فما ثبت عن ابن عباس من غير ما وجه فهو أثر حسن فقد رواه ابن جرير الطبري والبيهقي وعبد الرزاق وغيرهم أنه قال: " إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن قتلوا، ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا مالاً ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض" فهذا أثر ابن عباس في تفسير هذه الآية.
أما النظر: فإن مقتضى العدل اختلاف العقوبات باختلاف الجنايات.
وإرجاع ذلك إلى الحاكم قد يترتب عليه تضييع وعبث فلا شك من إرجاع ذلك إلى الشرع كونها مسألة منضبطة من الشارع أولى من إرجاعها إلى الحاكم لئلا يدخل فيها شئ من العبث وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
فمن قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب حتى يشتهر إذن ليس هناك مدة محددة لصلبه.
والصلب معروف: وهو أن يوضع الخشب كالصليب ثم يوضع الرجل كالصليب قد ربطت كل يد بخشبه، فيصلب حتى يشتهر أمره بين الناس وينزجرون عن معصيته وليس محدداً بثلاثة أيام كما ذكر الشافعية بل مرجع ذلك إلى اشتهاره، فمتى ما اشتهر وحصلت المصلحة المقصودة من صلبه فإنه يزال عنه الصلب.
وهذا هو القول الراجح لعدم الدليل على التحديد ولأن المصلحة قد تكون في أكثر من ثلاثة أيام.
وكلام المؤلف هنا وهو المذهب فيه أنه يقتل ثم يصلب وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وصلبه قبل قتله) ليس من إحسان القتلة، وعليه فيقتل أولاً ويصلب ثانياً إحساناً لقتلته.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب المالكية أنه يصلب ثم يقتل أي يكون صلبه وهو حي.
وهذا هو القول الراجح لقوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا)) فجعل التصليب جزاءاً لهم فدل على أن ذلك عقوبة لهم فليس المقصود فيه مجرد انزجار الناس وردعهم بل المقصود أيضاً ايلامه وعقوبته على معصيته بذلك.
وقد ذكره في الإنصاف بلفظة "قيل" أي قال بعض الحنابلة يعني قولاً ضعيفاً قاله بعض الحنابلة فليس مخرجاً في المذهب.
قال: [وإن قتل ولم يأخذ المال قتل حتماً ولم يصلب] .
إذا قتل بعضهم ولم يأخذ المال فعقوبته القتل بلا صلب لما نقلده في أثر ابن عباس.
قال: [وإن جنوا بما يوجب قوداً في الطرف تحتم استيفاؤه] .
إذا جنى هؤلاء القطاع أو بعضهم بما يوجب قوداً أي قصاصاً كأن يقطعوا اليد من المفصل فإنه يتحتم استيفاؤه.
لكن لو جنوا بما لا يوجب القصاص كأن يقطعوا اليد من غير مفصل فهذا لا يوجب القصاص وعليه فلا يقطع طرفه للعلة المتقدمة في باب القصاص.
إذن: هنا إذا جنوا بما يوجب قوداً فإنه يتحتم استيفاؤه فليس مرجع ذلك إلى المجني عليه فيقال له: إن شئت أن يقطع طرفه وإن شئت أن تأخذ الدية، بل يتحتم استيفاؤه هذا هو أحد القولين في المسألة وهو ما ذكره المؤلف قياس على القتل.
والقول الثاني: وهو المذهب، " فالمذهب على خلاف ما ذكره المؤلف هنا" أنه لا يتحتم استيفاؤه.
وذلك لأن الله إنما ذكر القتل وهو حيث قتلوا، وقطع الطرف ليس بمنصوص عليه وكذلك الجرح، فالله إنما نص على النفس وأما ما دون النفس من الجراح والأطراف فإن الله لم ينص عليها فكانت كسائر الجنايات والأظهر القول الأول وهو ما ذكره المؤلف، قياساً على القتل، فكما أنه يتحتم قتل النفس فأولى من ذلك أن يتحتم قطع الطرف وأن يتحتم الاستيفاء في الجرح وكونه لم ينص عليه لا يمنع القياس فإنه في معنى المنصوص عليه.
قال: [وإن أخذ كل واحدٍ من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا ثم خلى] .
فإذا أكل واحد منهم من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق، وهو ربع دينار فصاعداً ولم يقتلوا قطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى.
وعليه فلو أخذوا من المال أقل من ربع دينار فلا يقام عليهم هذا الحد.
قالوا: قياساً على السرقة.
وقال المالكية: بل لو أخذ أقل من النصاب فإنه يحد وهذا هو القول الراجح للإطلاق في الآية وفي الأُمر المتقدم وما قياس الحنابلة ففيه نظر، وذلك لأنه قياس مع الفارق والفارق بين حد السرقة وحد الحرابة، أن حد الحرابة أعظم فإن فيه قطعاً لليد اليمنى والرجل اليسرى، وأما حد السرقة فهو أخف، فكان قياساً مع الفارق فلا يصح أن يقاس الأعظم بالأخف.
وتقطع يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد لظاهر الآية، فظاهرها أن ذلك يكون في مقام واحد ولأن في عدم جعلهما في مقام واحد، بأن تقطع يده اليمنى اليوم ورجله اليسرى غداً في ذلك تعذيباً له.
وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف، وتقطع الرجل اليسرى مع الكعب مع إبقاء العقب اليمنى عليه، أي كالقطع في السرقة.
[وحسمتا] بالزيت المغلي.
[ثم خلي] سبيله لأنه قد استوفى منه فلا يسجن إذ لا دليل على ذلك.
قال: [فإن لم يصيبوا نفسًا ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد] .
إذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالاً وعلى المذهب لو أخذوا مالاً دون النصاب فكذلك نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلاد، بمعنى ينفون متفرقين في الصحاري ولا يقرون في بلد حتى يتوبوا.
وهذا هو أحد أقوال أهل العلم في المسألة، وأنهم لا يقرون في بلد حتى يتوبوا، فمثلاً ثبت للحاكم، أنهم ذهبوا إلى الرياض فإنه بأمر بإخراجهم منها، وإذا نزل في القصيم فإنه يأمر بإخراجه منها وهكذا حتى تظهر توبته.
قالوا: لقوله تعالى: ((أو ينفوا من الأرض)) قالوا: فظاهره حتى ينفوا من الأرض كلها فلا يقرون في أرض.
وقال الأحناف بل يحبسون، وهذا في الحقيقة في معنى النفي من الأرض لأن السجين ليس في الدنيا فكما لو نفي من الأرض، لكن ظاهر الآية يخالف ذلك.
وقال مالك: ينفى من البلد الذي قطع فيه الطريق إلى بلد آخر ويسجن، وهذا فيما يظهر أصحها.
وأما كونه ينفى من الأرض فلظاهر الآية وعلى ذلك فقوله (ينفوا من الأرض) أي الأرض المعهودة وهذا حيث لم نقل بالسجن لكن لو قلنا بالسجن وهو الراجح فيكون المعنى ينفوا من الأرض كلها فإذا أخرجوا من بلد إلى آخر فقد حصل النفي، وإذا سجنوا فقد فعلنا ما نستطيع لأن الله أمر بنفيهم من الأرض وعندما نحشرهم في موضع واحد نكون قد فعلنا ما نستطيع فلم يقروا في أرض إلا الأرض التي لا يمكن أن يخرجوا منها إلا بالموت وهذا أظهر الأقوال وهو اختيار ابن جرير.
وأما كونه يسجن: فلأنه إذا سجن فقد اخرج من الأرض كلها كما تقدم إلا الأرض التي هو فيها حيث لا سبيل لنا إلى إخراجه منها فقد فعلنا ما نستطيع وهذا تفسير ابن جرير لهذه الآية.
وأما ما ذهب إليه الحنابلة: فقد تترتب عليه بعض المفاسد كخروجهم إلى أرض الكفار فيكونون محاربين للإسلام.
أو أن يكون الأمن أضعف مما ينبغي فيعودون إلى قوتهم مرة أخرى.
مسألة:
ما حكم أخذ الإتاوة وهي الضريبة التي كانت تؤخذ مقابل المرور بمنطقة معينة؟
الأظهر أن يقال: فيه تفصيل:-
فإذا كانت الأرض لهم فتكون حينئذ شبهة فتكون كالجمارك التي تؤخذ الآن، فليسوا من قطاع الطريق وإن كان هذا لا يحل لكنها تكون من باب المكوس ولا تكون من باب أخذ المال على سبيل قطع الطريق لأنهم يقولون نحن لا نخيف بل نحفظ لهم وأما إذا كانت الأرض ليست لهم فإنه لا يتبين أنها شبهة وحينئذ يكونون قطاع طريق.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقولون: هؤلاء مكاساً ولا يعتبرون قطاع طريق قال: لأنهم لا يقصدون قطع الطريق بفعلهم فأطلق رحمه الله ولم يفرق بين ما إذا كانت البلدة لهم أو لم تكن لهم.
لكن فيما يظهر التفصيل المتقدم فيه قوة.
مسألة:
هل يجوز لنا أن نخدر اليد عند القطع أم لا؟
الأظهر: أنه يجوز ذلك في حد السرقة لأن المقصود من قطع اليد لا إيلام السارق قال تعالى: ((فاقطعوا أيديهما)) .
وكذلك هنا لان المقصود هو القطع.
لكن إذا قطع طرف رجل آخر فلا يجوز لنا أن نخدر يده عند القطع وذلك للمثلية لأنه إذا بنج فإنه لا يشعر بالألم كما شعر به المجني عليه، فإذن: في باب القصاص لا يجوز ذلك، وفي باب القطع يجوز ذلك.
قال رحمه الله: [ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتمِ قتلٍ] .
ومن تاب منهم يعني قطاع الطريق قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتم قتل وهذه أحكام قاطع الطريق كما تقدم.
وأما إن تاب من بعد القدرة عليه فإن حد الحرابة يقام عليه.
قال: [وأخذ بما للآدميين] .
وذلك لأن حقوق الآدميين محفوظة لأن مبناها على المشاحة.
قال: [من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها] .
فإن قتل أحد منهم نفساً فإنه يقتل إلا أن يفعوا الأولياء أو يقبلوا الدية.
وإن أخذوا مالاً ففيه الضمان.
وإن قطعوا طرفاً فإن الطرف يقطع إلا أن يعفى له عنها.
إذن: من تاب منهم قبل القدرة عليه فإن حق الله يسقط وأما حق الآدميين فمبنية على المشاحة.
وهل هذا الحكم خاص في حد الحرابة أم هو عام في سائر الحدود؟
قولان لأهل العلم:-
القول الأول: وهو مذهب الجمهور قالوا: هو خاص في حد الحرابة، وهو مذهب المالكية والأحناف وأحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد.
فلو أن رجلاً زنا ثم تاب قبل أن يقدر عليه ثم ثبت عليه الحكم فإن الحد يقام عليه.
ولو أن رجلاً سرق ثم تاب قبل أن يبلغ ذلك الحاكم، ثم بلغه ذلك بعد توبته فإنه يقام عليه الحد.
واستدلوا: بعمومات الأدلة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة) .
(السارق والسارقة فاقطعوا أيدهما) قالوا: وهذه العمومات تدل على أن هذا الحد لا يسقط بالتوبة.
قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية، وكانا تائبين.
والقول الثاني: وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم، وهو المعتمد في مذهب الشافعية واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الحد لا يقام عليه كحد الحرابة.
ومما استدلوا به.
القياس على حد الحرابة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فقال: أصليت معنا، قال: نعم، فقال: قد غفر الله لك.
ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه وهو حديث حسن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) فدل على أنه مساوٍ لمن لا ذنب له، ويدخل في ذلك عدم إقامة الحد عليه.
قالوا: وأما ما استدل به أهل القول الأول: فهي عمومات مخصوصة بالأدلة التي ذكرناها.
وأما استدلالهم برجم ماعز والغامدية.
فالجواب عنه: أنهما كانا طالبين لذلك مريدين له، ومن ثم أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، فإن الحد مطهر والتوبة مطهرة وهما اختارا الحد، ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماعز لما فر:"هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" فدل على أنه لا يتعين إقامة الحد، وإنما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم لاختيارهما ذلك.
وعليه فإذا اختار صاحب المعصية إقامة الحد، فإن الحاكم يقيم عليه الحد.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأن الحدود عامة تسقط بالتوبة.
وأصح القولين وهما أحد الوجهين في مذهب أحمد، أنه لابد أن يظهر منه ما يدل على صدق التوبة من صلاح العمل.
ويدل على هذا قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فقال سبحانه: "وأصلح" فدل على أن التوبة لابد أن يظهر ما يدل عليها فليس مجرد اقلاعه كافياً أو ندمه لأن هذا أي الندم لا يعلم فهو أمر قلبي، بل لابد أن يظهر عليه من صلاح العمل وظهور الاستقامة ما يدل على توبته.
قال: [ومن صال على نفسه أو حرمته أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك] .
فمن صال على نفسه أو حرمته أي حريمه أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك.
ففي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد) .
وقال: كما في الترمذي وصححه وهو كما قال: (من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) .
وثبت في مسلم أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن أراد رجل مالي ليأخذه، قال، فلا تعطه، قال: فإن قاتلني، قال قاتله، قال: فإن قتلني قال: فأنت شهيد قال: فإن قتلته قال، فهو في النار) .
فهذا يدل على أن القاتل يدفع.
وهنا ذكر المؤلف أن له الدفع، وقال بعد ذلك:[ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله] .
إذن هنا قوله: "له" ليس المراد منه أنه لا يجب، بل المراد أنه مأذون له في ذلك لكن هل يجب أم لا؟
إن كان القاتل قد صال على نفسه أو على أهله فإنه يجب عليه الدفع في أصح الروايتين عن الإمام أحمد.
ويدل على وجود ذلك: وجوب حفظ العرض والنفس وقوله تعالى: ((ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)) فما دام أنه قادر على الدفاع عن نفسه فيجب عليه ذلك لأنه إن لم يدفع عن نفسه فقد ألقى بنفسه في التهلكة.
ويجب أيضاً حفظ العرض.
وأما المال: فلا يجب وذلك لأنه يجوز له أن يبذل المال فلم يجب عليه أن يدفع عنه الصائل.
ولكن هل يجب عليه حفظ ماله من الضياع والتلف أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
المشهور في المذهب أنه لا يجب.
والقول الثاني في المذهب أنه يجب.
والصحيح هو الوجوب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، دليل ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن إضاعة المال) وعليه فلا يجوز له أن يتلف ماله ولا أن يضيعه.
لكن إن صال عليه آخر فيجوز له أن يتركه مرجحاً لمصلحة حفظ النفس ولأنه يجوز له أن يبذله، وهنا قد بذله في وجه يجوز وهو حفظ النفس.
وهل يجب عليه أن يدفع عن مال أخيه وعن حرمة أخيه وعن نفس أخيه أم لا؟
فلو أن رجلاً أتاه لص أو صائل فهل يجب علي الآخر أن يدفع عنه أم لا؟.
قولان:
القول الأول: وهو ظاهر كلام الموفق، أنه لا يجب.
القول الثاني: وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام أنه يجب وهو الراجح.
وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) إلا أنه يشكل على هذا وهو صريح كلام شيخ الإسلام أنه يجب أن يدافع عن مال أخيه مع أنه لا يجب عليه أن يدافع عن مال نفسه.
لكن إذا رجحت السلامة فإنه يقوى الوجوب كما هو نص كلام شيخ الإسلام فقد نص على مسألة المال وغيرها أولى ولذا ذكرت أنه ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالصحيح أنه يجب عليه أن يدافع عن مال أخيه إذا ترجحت السلامة وعن نفسه وأهله.
قال: [بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به] .
فإذا كان يكفي بالتهديد فإنه يفعل، فإن لم يكف فبالعصا، فإن لم يكف فبالحديد، فإن لم يكف فبما هو أعلى منه إلى أن يصل ذلك إلى القتل.
لكن إن كان ينزجر بالتهديد ولكنه اعتدى عليه بالحديد أو قتله فحينئذ قد فعل مالا يحل له وعليه الضمان.
إذن يجب التدرج بالأسهل.
لكن لو قال: أنا لو هددته وعلم بموضعي خشيت على نفسي وأنا أعلم أنه لا يمكنني أن أنفك منه إلا بضربه فحينئذ يجوز له ذلك.
قال: [فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه] .
لأنه فعل مأذون شرعاً.
لما ثبت في البخاري: أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده فخرجت ثناياه فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل فلا دية) .
فهنا لم يوجب له دية ثناياه، وهذا يدل كما قال ابن القيم أن من تخلص من يد ظالم، فأتلف نفس الظالم أو شيئاً من أطرافه أو ماله فذلك هدر.
لكن لو قتله ويمكن أن يندفع بدون ذلك فإن عليه الضمان.
وكذلك: لو أصاب يديه، وحينئذ لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فأتى إلي رجليه، فإن عليه دية الأرجل، لأن هذا الفعل ليس بمأذون فيه.
فإذا اعتدى رجل عليه أو على أهله فقتله فهذا حلال حتماً بينه وبين الله، لكن الذي يحكم به القاضي هو الظاهر فيقتل القاتل إلا أن تقر بذلك أولياء المقتول فإنه لا يقتل وهذا هو كلام الحنابلة.
لكن شيخ الإسلام استثنى ما إذا كانت القرينة الظاهرة تدل على صدقه، كأن يكون رجل معروف بالبر، ودخل في بيته رجل معروف بالفجور فقال شيخ الإسلام تقبل يمين القاتل فيحلف أنه دخل بيته وأراد الاعتداء على عرضه فقتله ولم يتمكن من دفعه إلا بالقتل فحينئذ يقبل قال: لا سيما إذا كان معروفاً بالتعرض له قبل ذلك.
وما اختاره شيخ الإسلام هو الظاهر، ولا يمكن قيام مصالح الناس إلا بهذا.
ولأنه في الغالب في مثل هذه المسائل لا توجد البينة أي الشهود ومعلوم أن البينة ما أبان الحق، فإذا كان هذا الرجل معروفاً بالصلاح والآخر معروف بالاعتداء والفجور فوجدناه في بيته قتيلاً وادعى أولياء المقتول أنه قتله فاعترف بذلك وأخبر بما تقدم ذكره وحلف على ذلك فإن الحق ظاهر معه.
إذن: الأصل أنه لابد من بينة أو أن يقر أولياء المقتول لكن إن كانت القرينة ظاهرة في صدق القاتل فإنا نكتفي بيمينه.
قال: [فإن قتل فهو شهيد] .
كما تقدم
قال: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله] .
تقدم أيضاً.
قال: [ومن دخل منزل رجل متلصصًا فحكمه كذلك] .
فمن دخل منزل رجل متلصصاً أي ليسرق ونحو ذلك فحكمه كذلك وقد يكون البيت ليس فيه شيء فلا يكون سارقاً ولا يريد القتل ولا يريد العرض فحينئذ حكمه كذلك والعلة أنه معتد في دخوله البيت.
فإن نظر من نافذة أو من شق في الباب فحذفه بعصا، ففقع عينه، فلا ضمان.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن إمرءاً اطلع عليك بغير إذن ففقأت عينه فلا جناح عليك) متفق عليه وظاهره ولو لم يكن في البيت نساء لكن لو كان متساهلاً قد فتح بابه فنظر إليه رجل من الباب فلا يكون الحكم كذلك فلي له أن يفقأ عينيه لأنه مفرط.
مسألة:
لو تصنت وتسمع من شق ونحوه بغير إذن فهل يشق أذنه أم لا؟
قولان:-
المشهور في المذهب: أنه ينذره قبل ذلك.
وقال بعض الحنابلة: بل يشق أذنه وهذا أظهر للحديث المتقدم في فقيء العين.
المسألة الأولى:
تقدم في الدرس السابق أن من نظر في شق ففقئت عينه أنه لا ضمان ولادية.
وهل هذا من باب عقوبة المعتدي أو من باب دفع الصائل؟
هو من باب عقوبة المعتدي كما قرره شيخ الإسلام وليس من دقع الصائل.
ولذا لا يجب تحذيره وهو ظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك: ما اختاره شيخ الإسلام أن من وجد مع امرأته رجلاً فقتله فيما بينه وبين الله، فلا شيء عليه لا فرق بين أن يكون المقتول الزاني محصناً أو غير محصن معروفاً بالفجور أم ليس معروفاً به.
قال: أي شيخ الإسلام: " وعليه يدل كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم".
ومن ذلك أثران:
الأول: ما رواه سعيد بن منصور: بينما عمر يتغذى إذ أقبل رجل معه سيف ملطخ بالدم وخلفه قوم يجرون فجلس عند عمر، فأتى أولئك فقالوا: يا أمير لمؤمنين إن هذا قد قتل صاحبنا، فقال: ما تقول فقال: ضربت بين فخذي امرأتي فإن كان بين ذلك أحد فقد قتلته فقال: مما تقولون؟ قالوا: لقد ضرب بالسيف وسط الرجل وفخذي المرأة- "وهذا اقرار منهم بما فعل - فأخذ عمر السيف فهزه ودفعه له وقال: إن عادوا فعُد" وهو أثر صحيح مشهور وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره.
الثاني: ما ثبت عن علي كما في مصنف عبد الرزاق، لما سئل عن رجل قتل رجلاً وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فإنه يؤخذ برمته".
وظاهره أنه إذا أتى بأربعة شهداء فإنه لا يؤخذ برمته وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره.
وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في حكم القاضي فإنه يحكم بالظاهر.
ولذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل على قوله: يا رسول الله إذا وجد الرجل مع امرأته رجلاً فقتله قتلتموه، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله، كما في الصحيحين.
ومما يدل على جواز ذلك فيما بينه وبين ربه أن سعد بن معاذ سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى أتي بأربعة شهداء؟ فقال: نعم، وهذا جواب في الحكم بالظاهر، فقال سعد والذي بعثك بالحق لأعاجله بالسيف، فقال صلى الله عليه وسلم:(اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وإني لغيور والله أغير منا) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه ولم يأذن له، لأنه لو أذن له بذلك في سؤاله الأول لكان هو حكم الشرع ظاهراً وباطناً لكنه أقره ولم ينهه.
المسألة الثانية:
إذا اجتمعت حدود فلا يخلو هذا من ثلاثة أحوال:-
الحال الأولى:
أن تكون كلها حدود لحق آدمي، ويدخل في هذه المسائل ما لو لم تكن حدوداً كالقتل وقطع الطرفين ونحو ذلك.
فإذا كانت حقوقاً للآدميين فيجب استيفاؤها كلها فلو أن رجلاً قتل شخصاً وقطع طرف آخر، فيجب قطع طرفه ثم يقتل.
وإذا قلنا إن حق القذف حق للآدمي كما هو المذهب فإذا قذف فإنه أيضاً يجلد.
وهذا باتفاق العلماء لأن حقوق الآدميين مبناها على المشاحة.
الحالة الثانية:
أن تكون الحدود كلها لله تعالى، كأن يجتمع عليه حد حرابة وحد سرقة ونحو ذلك، فلا تخلو هذه الحال من حالتين:-
1) ألا يكون فيها قتل فحينئذ يجب استيفاؤها كلها اتفاقاً.
كأن يكون قد سرق وعليه حد حرابة لكنها لا تصل إلى القتل وإنما النفي مثلاً فإنه يستوفي هذا وهذا باتفاق العلماء.
2) أن يكون فيها قتل، فقولان:-
القول الأول: وهو مذهب الجمهور: إن القتل يحيط بكل شيء وفيه أثر عن ابن مسعود عند ابن أبي شيبه لكن إسناده ضعيف.
وقالوا: لأن المقصود هو الإنزجار.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعي يجب استيفاؤها كلها وذلك لأنها عقوبات فقطع يده لسرقته وقتله في الحرابة لحرابته فيجب أن نستوفي هذا وأن نستوفي هذا.
وهذا أظهر والله أعلم.
الحالة الثالثة:
أن تكون الحدود بعضها لله تعالى وبعضها للآدميين.
فحدود الآدميين يجب استيفاؤها، وكما تقدم لفظة حدودهنا فيها تجوز فيدخل فيها القصاص وهو ليس من الحدود.
وأما حدود الله تعالى فيرجع إلى الخلاف المتقدم فالشافعي يقول، يجب استيفاؤها كلها.
والجمهور يقولون: إن كان فيها قتل فإنا نكتفي به والراجح ما تقدم.
" باب قتال أهل البغي"
البغي: من بغا يبغي إذا اعتدى
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) .
وما يتفرع في هذا الباب من مسائل، فأصله قتال علي رضي الله عنه لمن خالفه من الصحابة وغيرهم في صفين والجمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره:"يقتل عمراً الفئة الباغية".
وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامه قال: " شهدت صفين فكانوا لا يجيزون جريحاً أي لا يجهزون عليه، ولا يطلبون دماً أي إذا فر من القتال فإن دمه لا يطلب ولا يسلبون قتيلاً) .
وليس هذا أي قتال أهل البغي - ليس من جنس قتال الخوارج، فإن قتال الخوارج ولا شك، أوجب وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم في قوله: (فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل .
وهؤلاء أي البغاة مأولون تأويلاً سائغاً وإن كان منهم من يكون غاصباً.
وأما الخوارج فليس لهم تأويل سائغ.
ولذا اختلف أهل العلم، هل قتال الخوارج كقتال البغاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
المشهور في مذهب أحمد، أن قتال الخوارج كقتال البغاة فلا يجاز جريحهم ولا يطلب دم فارهم ولا يسلب قثيلهم.
والقول الثاني في المذهب وصححه الموفق والشارح وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس لهم هذا الحكم، بل يجهر على جريحهم ويسلب قتيلهم ويتبع فارهم ويطلب دمة.
والمسألة مسألة توقف وإن كان القول الثاني فيما يظهر أقرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل . والله أعلم.
إذن في الخوارج خلاف في مذهب أحمد وغيره، وبعض أهل العلم يرجع هذه المسألة إلى الحكم بتكفيرهم هل يكفرون أم لا لكن الذي عليه نصوص أحمد وهو المشهور عنه أنهم لا يكفرون وهو قول علي وهو أعظم من قاتل الخوارج فإنه لما سئل كما نقل هذا شيخ الإسلام وغيره لما سئل أكفارهم فقال:" من الكفر فمروا" وهناك رواية عن الإمام أحمد في التكفير.
لكن الذي يظهر أن هذه المسألة لا تنبني على مسألة تكفيرهم وإنما ينبني على أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين وأموالهم وتكفيرهم بالمعاصي، وأما البغاة فليسوا كذلك، ولذا فقد فرف بينهم بعض أهل العلم كما تقدم.
قال رحمه الله: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة] .
شوكة: من قوة وسلاح.
ومنعة: أي بعضهم يمنع بعضاً، فهم جماعة كثيرة يمنع بعضها بعضاً ولهم سلاح يقاتلون به.
قال: [على الإمام] .
أي الأعظم.
قال: [بتأويل سائغ] .
قال شيخ الإسلام: التأويل السائغ هو التأويل الجائز من جنس تأويل الفقهاء في موارد الاجتهاد، وليس من جنس تأويل الخوارج.
[فهم بغاة] .
فهؤلاء هم البغاة.
فإن اختل شرط من هذه الشروط فهم قطاع طريق، فإن كان ليس لهم شوكة ومنعة أو لم يخرجوا على الإمام وإنما خرجوا على أمير بلد وهم يقولون نرى السمع والطاعة للإمام، أو خرجوا على الشرط ونحو ذلك فهم قطاع طريق وليسوا ببغاة.
قال: [وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه] .
فيسألهم ما الذي ينقمون عليه، وما الذي أجاز لهم الخروج عليه بالسيف.
قال: [فإن ذكروا مظلمة أزالها] .
فإذا ذكروا ظلماً حصل لبعض الناس، أو ظلماً عاماً فإنه يجب عليه أن يزيله.
وإزالة الظلم واجبة في الأصل، لكن هنا يتأكد وجوبها لدرء المفسدة وحقن دماء المسلمين.
قال: [وإن ادعوا شبهة كشفها] .
إذا قالوا: خرجنا لأنك قد أوجبت علينا ما ليس بواجب أو حرمت علينا ما ليس بحرام فما هو دليلك على ذلك وما هي حجتك فحينئذ يبين لهم بالحجة والبرهان ما يزيل لهم شبهتهم ويكشفها أي بما يرسل لهم من أهل العلم لقوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) وهذا من الإصلاح.
قال: [فإن فاءوا وإلا قاتلهم] .
لقوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي)) .
وقوله (فقاتلوا) يدل على أنه يجب على الرعية أن يقاتلوا لقوله تعالى: ((فقاتلوا التي تبغي)) لكن هذا ليس على إطلاقه كما تدل عليه النصوص وآثار الصحابة رضوان الله عليهم في قتال صفين والجمل.
فإن أكثر الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشتركوا في القتال مع أن علياً هو أمير المؤمنين بالبيعة، وشارك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كعمار بن يسار وغيره.
وإنما لم يشارك منهم من لم يشارك لأنه رأى أن في القتال مفسدة راجحة فحينئذ يكون قتال فتنة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تكون فتن، فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل) رواه أحمد وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود: (فكن كخير ابني آدم) وهم أي الذين لم يشاركوا مع علي، قد تعارض لديهم وجوب طاعة الإمام، ونص النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن قتال الفتنة.
ووجوب طاعة الإمام نص عام، وهذا نص خاص فترجح النص الخاص وهو النهي عن القتال في الفتنة.
ولذا كما ذكر شيخ الإسلام، لم يكن علي يستدل بنص في قتاله لمعاوية رضي الله عنهم ومن معهم، وإنما ذكر أنه رأي قد رآه، وكان أحياناً يثني على من لم يشارك.
وقتال البغاة كما تقدم لا يجهز فيه على جريحهم، ولا يطلب فارهم، ولا يسلب قتيلهم.
فدماؤهم معصومة وأموالهم معصومة وإنما هو من جنس دفع الصائل فالجريح قد إندفعت صولته، والفار قد أندفعت صولته، والأثر المتقدم أي أثر أبي أمامة يدل على ذلك.
أيضاً لا يجوز أن يقاتلهم بما فيه إهلاك عام كالإحراق وكالمنجنيق أو نحو ذلك وذلك لأن قتالهم من باب دفع الصائل فيدفع بالأسهل.
لكن لو كان مضطراً محتاجاً إلى الدفع بالأصعب بأن كان لا يمكنه دفع صولتهم إلا بالأهلاك العام فإن ذلك يجوز.
فإذا وضعت الحرب أوزارها فلا ضمان من الطرفين أي لا هؤلاء يضمنون الدماء التي سفكوها، والأموال التي أتلفوها ولا الآخرون كذلك.
أما أهل العدل، الذين هم الإمام ومن معه، فإن هذا ظاهر لأنه قتال مأذون لهم فيه، فليس عليهم ضمان.
وأما الطائفة الأخرى وهي طائفة البغي، فلا يضمنون لأنهم متأولون.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين لم يضمن أسامة دم الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله لأنه قتله متأولاً.
فلو أن أحدهم فر فتبعه بعض أهل العدل فقتله فإنه يضمن وذلك لأنه بغير حق، وهو فعل ليس بمأذون فيه لكن هل يثبت القصاص أم لا؟
وجهان في مذهب أحمد وغيره، أصحهما أن القصاص لا يثبت للشبهة.
فإن فر إلى فئة أخرى ليتقوى فهل يجوز قتله أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقتل أيضاً أي لا يتبع فيقتل.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أبي حنيفة، ومذهب كثير من الشافعية أنه يقتل، وهذا أظهر لأنه فر للقتال والحرب فهو ليس فاراً من القتال بل فارُ له.
قال: [وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة فهما ظالمتان] .
عصبية ما تقع بين القبائل فتتعصب هذه ويتعصب تلك من غير أن تكون إحداهما تطلب الرياسة من الأخرى.
"أو رياسة"وكل واحدة منهما تريد الرياسة على الأخرى فالطائفتان جميعاً ظالمتان، فكل واحدة من الطائفتين ليست بطائفة عدلٍ وليس من البغاة المتأولين.
قال: [وتضمن كل واحدة، ما أتلفت على الأخرى] .
من الأموال والأنفس.
فإذا انتهت الحرب ننظر ما أتلفت هذه على الأخرى من الأموال والأنفس، ولنفرض أنهم قدروها بمائة ألف وينظر ما أتلفت هي على الأخرى من الأموال، والأنفس فقدرناها بخمسين ألف، فالفارق بينهما وهو خمسين ألف يدفع إلى الطائفة التي الإتلاف منها أكثر في الأموال والأنفس.
"باب حكم المرتد"
المرتد لغة: هو الراجع.
أما في الاصطلاح: فعرفه المؤلف بقوله: [وهو الذي يكفر بعد إسلامه] .
فالمرتد هو الذي يكفر بعد اسلامه.
الردة تكون طوعاً لا كرهاً كما قال تعالى: ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) .
والإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، كما قرر هذا شيخ الإسلام فليس الإكراه المعتبر على كلمة الكفر كالإكراه المعتبر على الهبة.
فالمرأة قد تخاف أن يطلقها زوجها فتهبه مالها فهذا إكراه معتبر في الهبة، وليس هذا معتبراً في الكفر فلو كفرت خوفاً من طلاق زوجها فإنها تكفر وليست بمكرهة حينئذ أي لا يقبل منها هذا الإكراه.
قال الإمام أحمد: " الإكراه أي هنا بالتعذيب والضرب" فإذا أكره منطق بكلمة الكفر فكفر بعد إسلامه بهذا لا يكون كافراً بذلك بل هو معذور عند الله عز وجل".
وليس من العذر الخوف ولا الرجاء فإن الله لم يستثن إلا الإكراه، وكما ذكر الله عز وجل في موالاة الكفار وكفر بها ثم قال:(فترى الذي في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة) .
فهم كانوا خائفين أن تكون الدائرة للكفار عليهم، فلم يعذرهم الله عز وجل بذلك.
والردة قد تكون بالاعتقاد، وقد يكون بالنطق، وقد يكون بالفعل وقد يكون بالشك.
فمثاله في الاعتقاد اعتقاد قدم العالم فمن اعتقد أن العالم قديم فهو كافر.
أو جحد ربوبية الله واعتقد ألا رب فهذا كفر بالاعتقاد ومثاله في النطق كمن استهزأ بدين الله عز وجل ولو كان هازلاً أو سب الله أو سب رسوله أو سب الإسلام ولو كان هازلاً فإنه يكفر بالإجماع وإن لم يعتقد ذلك في قلبه، أي ولو أدعى أنه لم يعتقد ذلك في قلبه.
ودليل هذا أن الله عز وجل قال في كتابه الكريم عن الذين أكفرهم الله بالاستهزاء: ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)) أي لم نكن معتقدين هذا في قلوبنا وإنما كان هذا بمجرد اللسان من باب الخوض واللعب فقال الله عز وجل: ((لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)) .
ومن أمثلة النطق أن يتلفظ بما فيه تنقص لله عز وجل كقول اليهود: " يد الله مغلولة".
ومثال الكفر بالفعل، عبادة غير الله عز وجل، من أتخذه وسائط يعبدهم من دون الله عز وجل ويتوكل عليهم، فهو كافر بالإجماع، وكذلك أن يطأ المصحف.
ومثال الكفر بالشك، أن يشك في كفر اليهود والنصارى، فمن شك في كفر اليهود والنصارى فهو كافر، أو شك في البعث، أو غير ذلك من الشك فيما يجب الجزم به فإن ذلك من الكفر بالله عز وجل.
قال: [فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته] .
أي قال: الله ليس برب أو ليس لهذا الكون خالق.
قال: [أو وحدانيته] .
أي أنكر أن يكون الله عز وجل، متفرداً بالعبادة، بل يجوز أن يعبد معه غيره.
قال: [أو صفة من صفاته، أو اتخذ لله صاحبة أو ولداً أو جحد بعض كتبه أو رسله أو سب الله أو رسوله فقد كفر] .
وهنا المؤلف لم يستثن الجاهل بخلاف المسائل الأخرى بعد ذلك، فإنه قال:(ومن جحد تحريم الزنا إلى أن قال: بجهل عرف ذلك) .
فالمسائل الظاهرة المعلومة من الدين، هذه يكفر قائلها أو فاعلها، يكفر بالله عز وجل إن أقيمت عليه حجة الله على العباد.
والمراد بالكفر هنا أحكام الكفر وهي ما يترتب على الكفر من الوعيد، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:(وأن حكم الوعيد على الكفر لا يترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله) .
فأحكام الوعيد من القتل في الدنيا، واستباحة المال والسبي، ومن أحكام الآخرة وهي التخليد في نار جهنم هذه أحكام الوعيد المترتبة على الكفر فهذه لا تترتب على العبد حتى تقوم عليه حجة الله عز وجل على عباده التي بعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) .
فالله لا يعذب في الآخرة ولا يأذن بالعذاب في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، حتى تقوم حجة الله تعالى على العباد.
وهذه اللفظة المتقدمة من كلام شيخ الإسلام تدل على أن عامة كلامه في هذا الباب يريد به أحكام الوعيد وأن أحكام الوعيد على الكفر لا تترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله على العباد.
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى:
أن حجة الله على العباد، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قائمة بالقرآن فمن بلغه فقد بلغته حجة الله عز وجل قال تعالى:((لينذركم به ومن بلغ)) وقال: ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)) .
المسألة الثانية:
أنه لا يشترط في إقامة الحجة هنا فهمها، ففهم الحجة نوع وشيء، وإقامتها نوع وشيء آخر كما بين هذا الإمام محمد وغيره يتبين هذا، أن الله سبحانه وتعالى قد كفر من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، مع أنه أخبر أنه قد جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، فقال تعالى:((أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً)) .
فكونهم لا يفهمون حجة الله عز وجل هذا لا يعذرهم عند الله عز وجل بل متى ما قامت عليهم الحجة بحيث يفقهونها ويفهمونها لكنهم لم يفهموها ولم يفقهوها فإن الحجة قائمة عليهم بذلك.
نعم لو أبلغ أعجمي القرآن لم تقم عليه بذلك حجة الله عز وجل أما من كان يعرف لغة العرب ويفهم القرآن لكنه لم يفهم حجة الله عز وجل بسبب ما ران على قلبه ذلك ليس بعذر عند الله عز وجل.
ويدل عليه كلام أهل العلم عامة فإنهم إنما يذكرون التعريف ويذكرون بيان الحجة، ولا يذكرون فهمها بل بمجرد ما تبين له الحجة ويعرف فإنه يقتل كما قرر أهل العلم في مسائل كثيرة من هذا الباب وأنهم يعرفون بالحق فإن رجعوا وإلا اقتلوا ولا يشترطون أن يعرف الحق ثم يعاند.
كما وقع لقدامة بن مظعون رضي الله عنه، ومن معه ممن أباح الخمر واستدل بقوله تعالى:((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات)) ، فكانت هذه الآية شبهة لهم فاتفق الصحابة كعمر وعلي بن أبي طالب أنهم يعرفون بالحق فإن تابوا وإلا قتلوا، فلم يكفروهم ابتداءً لأجل هذه الشبهة.
وأما الحكم على الشخص بالكفر الذي لا تترتب عليه أحكام الوعيد، فهذا شيء آخر.
بمعنى: كون الرجل يحكم عليه بالكفر الذي لا يترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة من قتل وسبي واستباحة مال وتخليد في نار جهنم فهذا شيء آخر وفي بعض أجوبة أئمة الدعوة النجدية كإجابة الشيخ عبد الله وحسين ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيمن عرف بفعل الشرك ومات على ذلك.
فقال: إنه إذا كان الأمر كذلك أي عرف بفعل الشرك بالله تعالى: فإن الظاهر منه أنه قد مات على الكفر، وعليه فلا يستغفر له ولا يضحى عنه.
أما في حقيقة الأمر فإن كانت قد قامت عليه حجة الله على عباده فهو كافر في الظاهر والباطن.
وأما إن لم تقم عليه حجة الله على عباده فأمره إلى الله تعالى، فهنا في هذه الفتوى بينوا أن هناك كفراً في الظاهر وأن هناك كفراً في الظاهر والباطن.
أما الكفر الذي يكون كفراً في الظاهر والباطن فهو الذي تترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة فهو من قامت عليه حجة الله على عباده فهذا يستباح ماله ودمه ويخلد في نار جهنم.
وأما من لم تقم عليه حجة الله على عباده فهو في الظاهر، أي في أحكام الدنيا يسمى كافراً ومشركاً فلا تحل ذبيحته ولا يحل نكاح نسائه ولا يستغفر له ولا يضحى عنه ولا غير ذلك مما يترتب على المسلمين فليس بمسلم.
قال ابن القيم: والإسلام هو توحيد الله تعالى وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبالرسول واتباعه فيما جاء به، فمن كان على ذلك فهو المسلم، ومن لم يكن على ذلك فليس بسلم إما أن يكون كافراً معانداً وإما أن يكون كافراً جاهلاً) أ. هـ.
فمن ناقض التوحيد وناقض أصل الرسالة فليس بمسلم إما أن يكون كافراً جاهلاً ومن هنا فإن الإسلام ألحق غير المكلفين بآبائهم فإن الأطفال في الدنيا وهكذا المجانين لهم أحكام آبائهم كما صح هذا في البخاري وغيره وقد تقدم فالمقصود من هذا أن هؤلاء الذين لم تقم عليهم حجة الله على عباده وليسوا على دين الإسلام وإن أدعوا أنهم عليه فهم كفار في الظاهر، لا تحل ذبائحهم ولا تحل نساؤهم ولا يستغفر لهم ونحو ذلك من الأحكام في الدنيا.
لكن لا يعذبون لا في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، ولا في الآخر في نار جهنم حتى تقام عليهم حجة الله على عباده.
وأما المسائل الخفية، وهي التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، التي ليس فيها مناقضة للتوحيد ولا مناقضة للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الشيخ عبد الله أبا بطين في تفسير كلام شيخ الإسلام فهذه المسائل الخفية كإنكار بعض الصفات: الذي يميل إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أن هذه المسائل لا يكفر المخالف فيها، حتى يفهم حجة الله عز وجل فلا يكفي أن تقام عليه الحجة، بل لابد وأن يفهم حجة الله عز وجل على عباده ويعلم أنه ليس بمعاند هذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام كما فسره الشيخ عبد الله أبا بطين، ويدل عليه شيخ الإسلام كان يقول للجهمية:" أنا لو وافقتكم لكنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لستم بكفار لأنكم جهال" أ. هـ.
مع أنه رحمه الله قد أقام عليهم حجة الله عز وجل وجادلهم وناظرهم في شرع الله ودينه، وقع ذلك لم يكفرهم.
فهؤلاء ليسوا بكفار حتى يفهموا حجة الله عز وجل، فإذا علم أن لهم شبهة أو أن الحق لم يثبت عندهم، فإنهم لا يكفرون بذلك.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: والمشهور في المذهب خلاف هذا والمسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد.
فهذه المسألة من المسائل التي فيها خلاف.
ولذا فإن عبارة شيخ الإسلام هي: " ولو كانت من المسائل الخفية فقد يقال إنهم لا يكفرون حتى تقام عليه حجة الله التي يكفر من خالفها، ولكنهم يصدر منهم ذلك في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، واليهود والنصارى والمشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بها وكفرّ من خالفها" أ. هـ.
أي هؤلاء الذين قد صدرت منهم هذه الأخطاء لم تكن في مسائل خفية وإنما كانت في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، بل يعلم اليهود والنصارى والمشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفّر من خالفها.
وضرب أي شيخ الإسلام لذلك أمثلة.
منها الشرك بالله عز وجل وعدم إيجاب الصلوات الخمس وعدم تحريم الفواحش من الزنا ونحوه، فهذه من المسائل الظاهرة التي يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث بها.
قال: [ومن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهل عُرف ذلك] .
فمن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها أو شيئاً من الفرائض الظاهرة المجمع عليها كالصلاة بجهل لكن لا يقبل عند أهل العلم مجرد ادعاء الجهل، بل لابد أن يكون مثله يجهل ذلك، ولذا قال بعد ذلك:[وإن كان مثله لا يجهله كفر] .
فإذا كان أحد في البلاد الإسلامية التي يظهر فيها العلم وأدعى أنه لا يعلم أن الزنا حرام أو أن الصلاة فرض فإن ذلك لا يقبل منه.
وأما إن كان مثله يجهل ذلك كمن نشأ في بادية بعيدة أو كان حديث عهدٍ بالإسلام، فإن ذلك يقبل منه بمعنى، إن كانت حاله تصدق ذلك.
وعليه فالجهل عذره في ثلاث مسائل:-
المسألة الأولى: أن يكون مدعي الجهل ناشئاً في بادية.
المسألة الثانية: أن يكون حديث عهد بإسلام.
المسألة الثالثة: أن تكون من المسائل الخفية.
على أن المسألتين الأوليين ليست هي في كل المسائل.
مسألة:
لا يكفر من حكى كفراً سمعه وهو لا يعتقده، قال صاحب الفروع ولعلة إجماع أي حيث لم يعتقد ذلك.
ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين وهو حديث مشهور في الرجل الذي قال: لما وجد راحلته، " اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح، فقد قال الكفر وهو لا يريده ولا يعتقده فكذلك من يحكي الكفر وهو لا يعتقده.
كذلك إذا كان سبق لسان أو غير ذلك فإنه لا يكفر بذلك كشدة فرح أو غير ذلك.
وهل يكون من ذلك ما ورد في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا هو مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم به، فأمر الله عز وجل البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال له: لم قلت ما قلت؟ فقال: من خشيتك وأنت أعلم فغفر له) والكفر الذي وقع فيه الشك في عموم قدرة الله عز وجل وظاهر الحديث أن الذي حمله على ذلك شدة الخوف.
لكن شيخ الإسلام وكثيراً من أهل العلم يحملون هذا على أنه لم تبلغه الدعوة، فأنكر صفة من الصفات ولم تبلغه الدعوة.
ويكون هذا دليلاً على المسألة المتقدمة.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: " مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ فقال: نعم) فهذا شك في عموم علمه سبحانه ولم تكفر بذلك لأن هذه من المسائل التي قد تخفى فلا يكفر إلا من قامت عليه حجة الله عز وجل وفهمها.
ولذا فإن شيخ الإسلام يقول وغيره من أهل العلم: " من أخطأ في مسألة سواء كانت في المسائل النظرية أو المسائل العملية، (لا نفرق بين الأصول والفروع فالتفريق بينهما قول محدث يقوله المعتزلة) فإنه يعذر بالجهل، لأنه قد لا يبلغه الحق الذي يحبى القول به، أو يبلغه لكنه لا يثبت عنده أو تقوم عنده بعض الشبهات، وهذا فيمن آمن بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله ثم أخطأ في مسألة من المسائل ولو كانت في باب الصفات أو غير ذلك فهذا هو حكمه.
ويدل عليه أن الله عز وجل قد رحم هذه الأمة بالعذر بالجهل فقال سبحانه: ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) والخطأ هو الجهل، وفي مسلم قال الله تعالى:((قد فعلتُ)) وكما تقدم من الأدلة السابقة.
قال أي شيخ الإسلام وعليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماهير علماء الأمة.
وذكر رحمه الله أن الناس قد اضطربوا في مسألة تكفير أهل الأهواء فعن الإمام أحمد روايتان، وكذلك عن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي قولان، ثم ذكر ما تقدم تقريره في أهل الأهواء كمن يقع له بعض الغلط في باب القدر وفي باب الإرجاء وفي إنكار بعض الصفات ونحو ذلك وهو من المؤمنين بالله ورسوله لكن وقع له بعض الخطأ، إما أن الحق لم يبلغه، أو بلغه لكنه لم يثبت عنده أو قامت عنده بعض الشبهات.
مسألة:- من نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها فإنه لا يكفر بذلك.
مسألة:
لو قال: هو يهودي أو نصراني، فإنه يكفر بذلك.
أما إذا قال: " هو يهودي إن لم يفعل كذا" فسيأتي في باب الأيمان إن شاء الله.
مسألة:
من قذف النبي صلى الله عليه وسلم أو قذف أمه أي أم النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
مسألة:
قال شيخ الإسلام: " من اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يُعبد فيها وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله وطاعةً له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه فهو كافر، أو إيمانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم واعتقد أن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر لتضمنه اعتقاد صحة دينهم.
لكن لو فتح لهم الباب فقط، فقد لا يكفر لأنه لا يتضمن اعتقاد صحة دينهم.
قال شيخ الإسلام:
ومن اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عٌرف ذلك فإن أصر صار مرتداً لتضمنه تكذيب قول الله تعالى:((إن الدين عند الله الإسلام)) .
مسألة:
من قذف عائشة فقد كفر لأنه مكذب للقرآن، أما غيره من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمن قذفهن ففيه قولان أصحهما، أنه يكفر لأنه قدح بالنبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة:
قال شيخ الإسلام: " من سب الصحابة أو سب أحداً منهم واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي، أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره"ا. هـ.
وذلك لأنه مخالف لنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
مسألة:
من أنكر أن يكون أبو بكر الصديق صاحب رسول الله فقد كفر لأنه تكذيب للقرآن في قوله تعالى: ((إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)) والقاعدة أن من نفى صحبة صحابي فترتب على ذلك تكذيب للقرآن أو لما تواتر عند المسلمين وأجمعوا عليه وهو معلوم عندهم ظاهر كصحبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة ممن صحبته كذلك فإنه يكون كافراً.
مسألة:
من حرم شيئاً مجمعاً على حله كالماء كفر، وكذلك من أباح شيئاً محرماً مجمعاً على تحريمه..
قال: [فصل: " فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف رجل أو امرأة دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قتل بالسيف] .
"وهو مكلف": والمكلف هو البالغ العاقل فالصبي غير المميز ومن ذهب عقله بدواء، أو النائم لا خلاف في ذلك، أنه إذا أتى ما يكفر بمثله لا يكفر هو به وذلك لأنه إذا فعل ما يقتضي التكفير فإنه لا يحكم عليه.
ظاهره أن الصبي المميز كذلك، أي لا يحكم عليه بالردة، فمثلاً لو قال أو فعل ما يكفر به فإنه لا يكفر في ظاهر كلام المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد واستظهره صاحب الفروع والموفق وهو مذهب الشافعي.
والقول الثاني: وهو المذهب أنه يكفر بذلك وهو مذهب الجمهور قالوا: الصبي المميز يصح إسلامه فكذلك ردته ويدل عليه صحة العبادات منه فإنه لو صلى وصام أي الصبي المميز فإن ذلك يصح منه ولا تصح إلا من مسلم، فدل على أن الصبي المميز يصح إسلامه فإذا ثبت صحة إسلامه فردته كذلك وأما أهل القول الأول، وهو ظاهر كلام المؤلف كما تقدم فاستدلوا بالأدلة التي تدل على أن الصبي المميز مرفوع عنه القلم، كقوله صلى الله عليه وسلم:(رفع القلم عن ثلاثة وفيه والصبي حتى يبلغ) .
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة لقوة دليله، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني، فهو أن هذا قياس مع الفارق، فإن إسلامه مصلحة محضة له، وأما ردته وكفره فهو مفسدة محضة، فما كان فيه مصلحة محضة له قُبل وهو الإسلام، وما كان فيه مفسدة محضة رُد وهو الكفر بالله عز وجل،
إذن أصح القولين أن من ارتد وهو صبي مميز فإنه لا يحكم بردته خلافاً للمشهور في المذهب، وعلى المذهب لا يقتل حتى يبلغ فيستتاب فإن تاب وإلا قتل.
[مختار] فإن كان مكرهاً فلا يحكم عليه بالردة، لقوله تعالى:((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) .
[رجل أو امرأة] لعموم قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري.
والحديث عام في الذكر والأنثى.
[دعي إليه] أي إلى الإسلام [ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قُتل بالسيف] .
المذهب أنه يجب أن يستتاب ثلاثة أيام ويحبس فإن تاب وإلا قتل وهو مذهب الجمهور استدلوا: بما رواه مالك في موطئة أن عمر قال في رجل كفر بعد إسلامه: " لولا حبستموه ثلاثة أيام واطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه فإن تاب أو راجع وإلا قتلتموه" ثم قال: " اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني".
وفي الدارقطني: "أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت".
والأثر الأول: ضعيف لانقطاعه وجهالة بعض رواته، والحديث الذي رواه الدارقطني فيه معمر السعدني وهو ضعيف الحديث.
وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي: أنه لا يستتاب وجوباً وإنما يستتاب استحباباً وهو مذهب أهل الظاهر.
واستدلوا: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يدل دينه فاقتلوه) .
قالوا: والفاء تفيد التعقيب فدل على أن القتل يكون عقيب ارتداده عن دينه وليس فيه ذكر الإستتابة بل ظاهره ترك الإستتابة.
وفي الصحيحين أن معاذ بن جبل قال في رجل أسلم ثم تهود: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله فأمر به فقتل".
وأما ما في أبي داود من أنه كان قد استتيب قبل ذلك فهذا من فعل أبي موسى الأشعري وليس في الأثر أن معاذا استفصل عن ذلك أي لم يقل هل استتبتموه أم لا؟
هذا من الأثر:
وأما من النظر: فيدل على ذلك أن الكافر المحارب للإسلام إذا بلغته الشريعة الإسلامية فقامت عليه حجة الله على عباده فإنه لا تجب استتابته عند إرادة قتله.
وهذا هو القول الراجح وأن استتابته لا تجب لكن إذا كان لم تبلغه الحجة فحينئذ لابد أن يعرف وذلك لقوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) وأحكام الوعيد على الكفر في الدنيا والآخرة لا تثبت إلا بعد إقامة الحجة قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) .
لكن إذا علمنا أن الحجة قد قامت عليه فهل يجب علينا أن نكررها عليها استتابة له أم لا؟ هنا الخلاف.
[فإن لم يسلم قتل بالسيف] لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) والقتلة بالسيف قتلة حسنة.
قال: [ولا تقبل توبة من سب الله أورسوله] .
ليس كلام المؤلف هنا في التوبة في الباطن، فإنها تقبل توبته إذا كان صادقاً، تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل، فلا إشكال في أن كل من تاب من ذنب فإن الله يقبل توبته.
لكن إذا أتينا برجل قد سب الله أو رسوله لنقتله فقال: تبت فهل تقبل توبته؟.
الجواب: لا تقبل توبته.
فقد تقدم أن المشهور في المذهب أن من ارتد فإنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب، وإلا قتل لكن استثنى المؤلف مسائل.
فهنا: من سب الله أو رسوله، فهذا لا تقبل توبته، أي في الظاهر وهذا لعظيم اعتدائه.
ويتوجه عندي أن يقال: إن هذا يدل على نفاقه وزندقته وسيأتي الكلام على الزنديق أو المنافق.
قال: [ولا من تكررت ردته بل يقتل بكل حال] .
أي أسلم ثم كفر، ثم أسلم ثم كفر، فقد تكررت ردته، فإذا أتى به إلى القاضي ليقتل فقال: أسلمت فهل يقبل منه ذلك أم لا؟
قال المؤلف هنا: لا يقبل، لقوله تعالى:((إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً)) .
ومثل ذلك أيضاً، الساحر، لقول عمر:" اقتلوا كل ساحر وساحرة" رواه البخاري. هذا كلام فيه إطلاق فلم يستثن من تاب ومثل هذا أيضاً الزنديق وهو ما يسمى عند السلف، المنافق وهو من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا ثبت لنا ذلك كأن يشهد عليه من تقبل شهادته أنه قد قال كلمة تدل على نفاقه وأنه ليس بمسلم فكذلك لا تقبل توبته في الظاهر أي عند الحاكم.
هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسألة وهو مذهب مالك.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أن توبته تقبل لعموم الأدلة التي تدل على قبول التوبة.
والصحيح هو القول الأول: وذلك لأن المنافق أو الزنديق الذي ظهر منه الإسلام وبطن منه الكفر إذا استدللنا على كفره فأراد أن يظهر الإسلام فإننا لا نستفيد من إظهاره للإسلام لأنه كاذب علينا في الأول فلم يكن مظهراً الكفر فإذا أظهر الإسلام كان إظهاره للإسلام مقبولاً حينئذ لأنه استبدل ظاهره، لكن هنا ظاهره الإسلام في السابق وباطنه الكفر فعرفنا زندقيتة فلا نأمن إذا ادعى الإسلام مرة أخرى أن يكون منافقاً والشرع يقصد حفظ الأديان، وإن كان صادقاً في توبته فالله يقبل توبته فيما بينه وبينه عز وجل، فهذا هو القول الراجح.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شاتم الرسول وألف في ذلك مؤلفاً مشهوراً.
واختار ابن القيم هذا القول لكن قيّده بتقييد صحيح وهو ألا تقبل توبته إذا كانت بعد القدرة عليه، وأما إذا كانت قبل القدرة عليه، فإنها تقبل.
فلو أن رجلاً كان ساحراً فتاب إلى الله عز وجل قبل أن يقدر عليه السلطان فإن توبته تقبل لأن ما يخشى مأمون حينئذ.
فلو أتينا به فوقفناه عند السيف فإنه يخشى أن يكون كاذباً في دعواه فإذا أظهر أنه ترك السحر فهذا أمر ليس بجديد منه فقد كان يظهره قبل ذلك فإذا أظهره الآن فلا نأمن أن يكون مبطناً للسحر وفي ذلك ضرر عظيم على الأبدان والنفوس.
أما إذا تاب قبل أن يقدر عليه فإن هذا يقبل لأن ما يخشى قد أمن.
إذا: الصحيح أن هؤلاء لا تقبل توبتهم في الظاهر بل يقتلون في كل حال، هذا حيث كانت هذه التوبة فيهم بعد القدرة عليهم، وأما قبل القدرة عليهم، فإن التوبة تقبل في الظاهر كما تقبل في الباطن.
ومثل هذا في المشهور في المذهب المبتدع الداعية إلى بدعته.
واختار شيخ الإسلام أنه تقبل توبته، وهو أصح لأن الله قد قبل توبة أئمة الكفر فأولى من ذلك أئمة البدعة.
ولأن الفارق ظاهر بينه وبين من تقدم، فإنه كان يظهر البدعة ويدعو إليها في الظاهر، فإذا تاب فقد تاب من أمر ظاهر ليس من أمر باطن لا يُدرى أصادق فيه أم كاذب.
بخلاف أولئك فقد تابوا من أمر باطن فالساحر عند ما يقول تركت السحر، والزنديق عندما يقول اترك الزندقة هذا لا يدري أصدق في الباطن أم لا، بخلاف هذا فإن توبته تدل على أنه قد ترك ما هو عليه.
مسألة:
أصح القولين لأهل العلم، أن السكران لا قول له، أي لا يعتد بقوله حتى في كفره.
خلافاً للمشهور في المذهب وتقدم الاستدلال على هذا في كتاب الطلاق.
قال: [وتوبة المرتد وكل كافر اسلامه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله] .
توبة المرتد وتوبة الكافر تثبت بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله".
أو أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله".
ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل".
وقال في الفروع: " ويتوجه احتمال قبول شهادته بالوحدانية أي بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله" أو يقول: " لا إله إلا الله فإنه يقبل منه.
ودليل ذلك حديث أسامة بن زيد في الصحيحين فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه قتل من قال: " لا إله الله".
وليس فيه أنه قال: " وأن محمداً رسول الله".
وهذا ظاهر جداً حيث استلزم ذلك الإيمان بالرسالة فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى " لا إله إلا الله فإذا أقروا بذلك فهذا دليل على إقرارهم بالرسالة.
بخلاف اليهود، مثلاً فإنهم إنما كانوا إذا قالوا:" لا إله إلا الله" فإن هذا لا يستلزم إيمانهم بالرسالة، فإنهم إنما كانوا يجحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يجحدوا ألوهية الله عز وجل ووحدانيته.
إذن: الصحيح أنه لابد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
كما يدل عليه الحديث المتقدم.
لكن لو كان قوله: " لا إله إلا الله" أو قوله: " محمد رسول الله" يستلزم الشق الآمر ويدل عليه فحينئذ يقبل منه ذلك لأن الألفاظ إنما يقصد منها المعاني، فإذا دل لفظه على المعنى الآخر الذي يريد اثباته فإن ذلك يكفي.
قال: [ومن كان كفر بجحد فرض ونحوه] .
كأن يكون قد كفر بجحد النبوات أو بححد فريضة من فرائض الإسلام كأن ينكر وجوب الصلاة أو أحل محرماً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كأن يحل الزنا أو حرم حلالاً مجمعاً على حله كأن يحرم الماء.
قال: [فتوبته مع الشهادتين اقراره بالمجحود به] .
فتوبته أن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" ويقر بالمجحود به.
فالشهادتان كان يقر بهما سابقاً وهنا قد أنكر شيئاً آخر فلا يكفي أن يقر بالشهادتين بل لابد أن يقر بما نفاه وجحده فيقول: " وأن الصلاة فرض أو وأن الزنا حرام" ونحو ذلك فلا يقبل منه ذلك إلا بهذا لأنه إنما كفر به.
والقول الثاني: في المسألة: أن الشهادتين لا تجب عليه.
وفي ذلك قوة، لأنه لم ينف ذلك بل هو مقر بهما، وهو على اقراره بهما.
فالأظهر، أنه لو أنكر الصلاة فيكفي في توبته أن يقول رجعت إلى الإسلام فأقول الصلاة فرض وهكذا.
مع أن الإقرار بالشهادتين أحوط، وفيه قوة أيضاً من حيث إنه يقال: إن جحده للصلاة ترتب عليه إبطال شهادته، فأصبحت الشهادتان باطلتين لأنه جحد ما يكفر به وهذا يبطل الشهادتين.
قال: [أو قوله: " أنا برئ من كل دين يخالف الإسلام"] .
أو قال: " أنا مسلم، أو " أنا مؤمن" فيكفي هذا في دخوله في الإسلام.
وقال الموفق: ويحتمل- وذكر تفصيلاً قوياً - وهو أن يقال إن كان هذا في إسلام الكافر الأصلي فيكفي أن يقول أسلمت ومن جحد وحدانية الله فيكفي أن يقول "أسلمت".
وأما من جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك: فإنه لا يكفي أن يقول "أسلمت" وذلك لأنه قد يعتقد أن هذا الجحد هو الإسلام فمثلاً بعض اليهود الذين ليسوا على عناد يعتقدون أن الإسلام جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأن دين النبوة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم هو الإسلام، فإذا قال اليهودي:" أسلمت" فقد يكون مراده على دين اليهود، فلا بد أن يقول " أقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم".
ومما يدل على أن قول " أسلمت" أو "آمنت" يكفي عند الشهادتين، ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد بن عمرو أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أرأيت إن جاء أحد الكفار يقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فلما أردت أن أقتله قال: أسلمت أفأقتله يا رسول الله؟، فقال صلى الله عليه وسلم "لا".
فدل هذا على أنه إذا قال: "أسلمت" أو "آمنت" فإن ذلك يكفي لكن بالتفصيل الذي ذكره الموفق أي حيث كان قوله أسلمت يستلزم الإسلام الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود من ذلك كله، أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فإذا كان لفظ أسلمت، يدل على معنى الشهادتين فإنه يكفي عنهما وإذا قال قوله: " آمنت بالله ورسوله، يكفي عن الشهادتين وهو كذلك فهو كاف.
مسألة:
إذا فعل الكافر ما لا يفعله إلا المسلم فهل يحكم بإسلامه؟
كأن يصلي مثلاً.
الظاهر: نعم وذلك للمعنى المتقدم فإن المقصود هو ثبوت الإسلام.
[وثبوت الإسلام يكون بالتلفظ أو بالفعل الذي يدل عليه إلا أن يأبى أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" فهذا شيء آخر] .
مسألة:
إذا كان رجل من المسلمين يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهو لا يدري ما معنى ذلك فحياته كلها على الشرك يذبح للقبور وينذر لها ويعبدها من دون الله عز وجل، فهل هو مسلم أم لا؟
تقدم أنه ليس بمسلم، لكن هل هو كافر أصلي أو كافر مرتد؟
والذي يترتب على هذا أن المرتد لا تحل ذبيحته وإن انتقل إلى اليهودية أو النصرانية ولا يقر على دينه بل يقتل وإذا كانت امرأة فارتدت إلى اليهودية أو النصرانية فلا يجوز نكاحها كسائر الكتابيات بل يجب قتلها.
فهنا هل نقول هو كافر أصلي أم مرتد؟
أما الشيخ الصنعاني فإنه يقول هو كافر أصلي.
يقول: لأنه لا يدري ما معنى " لا إله إلا الله"، والشيء لا يصح إلا بتوفر شروطه، ومن شروط " لا إله إلا الله" العلم وفي الصحيح من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهذا لا يعلم معناها ولا يدري ما المراد بها، وربما لو قيل له إن معناها أن تترك هذه العبادات لم يقرّ بها.
والمشهور عند أئمة الدعوة النجدية أنه كافر مرتد، فإن الشيخ عبد اللطيف أو الشيخ عبد الرحمن لما ذكر قول الصنعاني قال:" وشيخنا لا يوافقه" يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى والمسألة فيها تجاذب، وإن كانت النفس تميل إلى قول الصنعاني من باب ما تقدم.
ومن باب آخر أن آباءهم كذلك أي على هذا الأمر من الشرك بالله فهذا فيه قوة، وعبارة الشيخ عبد الرحمن لا تدل على أن خلاف الصنعاني خلاف شاذ.
وظاهر كلام الشيخ حمد بن معمر موافقة الصنعاني على ذلك والله أعلم.