المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كتاب الصيام (5) - شرح زاد المستقنع - عبد الكريم الخضير - جـ ٥

[عبد الكريم الخضير]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ كتاب الصيام (5)

زاد المستقنع -‌

‌ كتاب الصيام (5)

صيام عشر ذي الحجة - إفراد رجب، والجمعة، والسبت، والشك بصوم – ليلة القدر- وعلاماتها – الاعتكاف – وما يشغل به نفسه فيه.

الشيخ/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير

أما الحاج فإنه لا يصوم، ولا يسن له ذلك، بل لا يشرع على الصحيح من قولي العلماء، وإن قال بعضهم بشرعيته، وعرف عن بعض الصحابة كابن عمر صوم يوم عرفه بعرفة، النبي عليه الصلاة والسلام شرب من لبن بقدح يوم عرفة ضحىً والناس ينظرون إليه، وأما حديث:((نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة)[رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه]، الحديث فيه كلام، ولو ثبت لكان نصاً في الموضوع، فالأولى: الفطر في يوم عرفة اقتداءً به عليه الصلاة والسلام وقال بعض العلماء: بتحريم صومه، وإثم فاعله، النبي عليه الصلاة والسلام أفطر ضحىً، شرب من اللبن ضحى، لكي يراه الناس، وهو المشرع، وهو القدوة، قد يقول قائل: روى الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: "أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يصوم العشر"، نعم، فكيف نقول باستحباب صيام عشر ذي الحجة؟

أولاً: هذا إخبار عن علمها رضي الله عنها ولعلها أخبرت بذلك بعد طول العهد؛ لأنها عمرت بعده عليه الصلاة والسلام ما يقرب من نصف قرن، هي تخبر عن علمها وقوله عليه الصلاة والسلام عموم قوله مقدم عن خبرها، ولعله عليه الصلاة والسلام أفطر لأمر أهم من أمور يتعدى نفعها، وقد رجح الإمام أحمد - رحمه الله تعالى- أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم عشر ذي الحجة، نعم النبي عليه الصلاة والسلام قد يحث على العمل ولا يفعله، رفقاً بأمته، كيف يتصور حال الناس لو تظافر عمله مع قوله؟

ص: 1

الرسول عليه الصلاة والسلام حث على العمرة في رمضان ولم يعتمر في رمضان، وحال الناس ما ترون، فكيف لو اعتمر النبي عليه الصلاة والسلام مع حثه على العمرة في رمضان؟ كان الوضع شديد جداً، قد لا يحتمل، الآن الزحام مثل ما ترون، وأسف النبي عليه الصلاة والسلام على دخول الكعبة؛ لئلا يحرج أمته، ولئلا يشق عليها وهذا من رحمته ورأفته عليه الصلاة والسلام، فهو يحث على العمل وقد يتركه شفقة بأمته، وأيضاً وضعه عليه الصلاة والسلام وهو الإمام الأعظم بالنسبة للأمة، والقائم بمصالحها، لو قدر أن شخصاً قائم على أعمال الأمة، والأمة كلها بحاجة إليه، وإذا صام ضعف عن القيام بهذه المهمة، هل الأفضل له أن يصوم أو يفطر؟ الأفضل له أن يفطر، علماً بأن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - رجح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم العشر وقد ثبت هذا عن بعض أزواجه عليه الصلاة والسلام في السنن، وأفضله أفضل صوم التطوع، صوم يوم وفطر يوم، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:"لأصومن النهار ولا أفطر، ولأقومن الليل ولا أنام" فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فسأله: ((أنت الذي قلت كذا؟ )) قال: نعم، ((أنت الذي قلت كذا؟ )) قال: نعم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:((صم كذا، صم كذا))، يعرض عليه النبي عليه الصلاة والسلام الأخف الأخف، كما عرض عليه بالنسبة للقرآن، ((اقرأ القرآن في شهر)) قال: إنه يطيق أكثر من ذلك، اقرأه في كذا، اقرأه في كذا، ثم قال:((اقرأ القرآن في سبع، ولا تزد))، فمثل هذا يقال لمن عرف منه شدة الحرص؛ لئلا يبلغ به حرصه إلى مجاوزة السنة، بخلاف من عرف منه التساهل، فإنه يؤمر بالعزيمة قبل الرخصة، من عرف بالتساهل تعرض عليه الرخصة؟ لا، لا يعان على تساهله، لكن من عرف بشدة الحرص على فعل الخير تعرض عليه الرخص؛ لئلا يحمله زيادة الحرص على مجاوزة السنة.

ص: 2

فالنبي عليه الصلاة والسلام بدأ بعبد الله بن عمرو بالأسهل فالأسهل، إلى أن قال له:((صم يوماً وأفطر يوماً، فذلك أفضل الصيام، وهو صيام داود عليه السلام))، الحديث، لا شك أن الإكثار من فعل الخيرات مطلوب، فالإكثار من الصيام مطلوب، الإكثار من الصدقة مطلوب، الإكثار من الجهاد، من الحج، من العمرة، من التلاوة من بذل الخير للناس، النفع العام والخاص، كل هذا مطلوب، وهذا هو الطريق الموصل إلى الجنة، لكن مثل ما ذكرنا، لو أن شخص عرف بشدة الحرص، شخص موسوس تقول له: تراك ما أسبغت الوضوء، نعم، هذا تفرح أنه ينتهي من الوضوء، نعم، لكن شخص متساهل تقول له: أسبغ الوضوء، أسبغ الوضوء، ومثله شخص لا يقرأ القرآن، إلا في المناسبات، أو على حسب التيسير إن جاء إلى المسجد قبل الأذان بخمس دقائق أو عشر دقائق وإلا فلا، تقول له: كان السلف يختمون كل يوم يا أخي، تحفز همته، وتشحذ همته للعمل الصالح، شخص ثري ولا يتصدق تقول له: أبو بكر جاء بجميع ماله، نعم، فتخبره بالعزائم، أما من كان حاله بضد ذلك، عرف بالحرص الشديد، ما في شك أنه بحاجة إلى من يمتص بعض هذا الحرص؛ لئلا يحمله ذلك الحرص على مخالفة السنة، ولذا بدأ النبي عليه الصلاة والسلام بعبد الله بن عمرو؛ لأنه عرف بالحرص الشديد، يعني تتصورن لو قال له النبي عليه الصلاة والسلام اقرأ القرآن في ثلاث، يكفيه هذا، مع ما عنده من زيادة الحرص؟ قال له:((أقرأ القرآن في سبع ولا تزد)) قال: "إني أستطيع أكثر من ذلك"، ومع ذلك ما أخذ بهذه الوصية، فصار يقرأ القرآن في ثلاث فندم بعد ذلك، وتمنى أن لو قبل وصية النبي عليه الصلاة والسلام.

على كل حال صيام يوم وفطر يوم أفضل الصيام على الإطلاق، هذا بالنسبة لمن لا يعوقه الصيام عن النفع العام المتعدي، أما من عاقه صيامه عن الواجبات شخص إذا صام النفل أخل بالدوام الواجب، نقول: لا، لا تصوم يا أخي، نعم، شخص متبرع لتعليم الناس وإفتائهم وقضاء حوائجهم، وأجره على الله ما يأخذ أجر، ما أخل بواجب إذا صام، لكن يعوقه صيامه عن مثل هذا النفع المتعدي نقول له: ابذل الخير للناس، وأرشدهم ووجههم، والصيام إن وجدت فرصة وإلا فمثل هذا العمل المتعدي أفضل.

ص: 3

يقول: ويكره إفراد رجب، والجمعة، والسبت، والشك بصوم.

إفراد رجب أولاً نعرف أن كل ما يروى في فضل صومه، أو زيادة الصلاة فيه، أو الصدقة، أو العمرة، جميع ما يذكر من زيادة في العبادات في رجب على وجه الخصوص فإنه لا يصح باتفاق أهل العلم، جميع ما ورد فيه ضعيف، وقد ألف أبو الخطاب ابن دحية كتاباً نفيساً سماه:(أداء ما وجب في بيان وضع الوضاعين في فضل رجب)، (أداء ما وجب في بيان وضع الوضاعين في فضل رجب)، وابن حجر له رسالة صغيرة أصغر بكثير من رسالة أو من كتاب ابن دحية، سماها:(تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب) وهي مطبوعة ومعروفة، وأما كتاب ابن دحية فهو محقق وجاهز للطبع، ما أدري هل طبع أو لم يطبع، ما أدري والله، إن تم طبعه؟

طالب:

نعم، ابن دحية.

طالب:

يشتغل عليه محمد الفوزان، عندنا بقسم السنة، قديم، قديم من خمسة عشر سنة وأكثر.

طالب: كبير؟

يأتي في مجلد إيه.

على كل حال ما يذكر في فضل رجب من زيادة من صيام، أو قيام، أو زيادة تلاوة، أو عمرة خاصة برجب، لا يثبت وأما ما ذكر عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر في رجب فقد أنكرته عليه عائشة، أنكرته عليه عائشة رضي الله عنها.

والجمعة أي يكره إفراد الجمعة بالصوم لحديث: ((لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]، وروى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً:((لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام)).

وعن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها: ((أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: ((أصمت أمس)) قالت: لا، قال:((أتريدين أن تصومي غداً؟ )) قالت: لا، قال:((فأفطري)) [رواه البخاري]، فدل على أن المكروه إفراد الجمعة، لا أن يضاف إلى الخميس أو السبت.

يقول: والسبت، أي: يكره إفراده، وأما جمعه مع الجمعة لقوله عليه الصلاة والسلام لجويرية:((أتصومين غداً)) يعني السبت مع الجمعة، فدل على أنه لا يكره صيام السبت مع يوم قبله.

ص: 4

وفي المسند، وأبي داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه وغيرهم، من حديث: عبد الله بن مسلم عن أخته الصماء رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم، ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجر)) – يعني فيمضغه فيفطر به – يعني: فليفعل، الحديث مختلف في حكمه منهم من حسنه، كالترمذي، وصححه الحاكم ومنهم من ضعفه وحكم عليه بالشذوذ، ومنهم من قال: هو ثابت لكنه منسوخ، ولذا اختار شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أنه لا يكره إفراد يوم السبت بالصوم، بناءً على أن هذا الحديث لا يثبت.

والشك وقد تقدم الكلام فيه، وقول عمار:"من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم".

ويحرم صوم العيدين ولو في فرض، بإجماع العلماء، يحرم صوم العيدين بالإجماع فلا يجوز لإنسان أن يصوم يوم العيد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام:((نهى عن صوم يومي العيدين، عيد الفطر، وعيد الأضحى))، كما أنه لا يجوز صيام أيام التشريق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال فيها:((هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) فهذا يدل على أن هذه الأيام لا تصلح أن تكون أيام إمساك، وهي ثلاثة أيام بعد عيد الأضحى.

يقول: إلا عن دم متعة وقران

طالب: عندنا فطرة الثلاثة ما يقال أنها أيام التشريق من ناحية أنها أيام أكل وفرح وإظهار السرور.

لا، لا ما يلزم، أيام أكل، وهناك فيه أضاحي، وفيه هدي، وفيه، لا تختلف عنها.

طالب: أو يقال: على الأقل أن الأفضل أن يؤخر هذا عن بعد ثلاث؟

لا لا، لفظ وأتبعه يدل على المبادرة.

أيام التشريق ثلاثة أيام بعد عيد الأضحى، لكن من لم يجد هدي المتعة والقران، يجوز له أن يصوم أيام التشريق، لحديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا:((لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن يجد الهدي، إلا لمن لم يجد الهدي)).

طالب: ....

يقول بعد هذا: ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه.

ص: 5

من شرع في صوم فرض حرم عليه قطعه، من شرع في أي عمل مفروض حرم قطعه، ولو كان وقته موسعاً، والمضيق من باب أولى، يستثنى من ذلك قطع المنفرد في الصلاة، وتحويل الفرض إلى نفل، وإن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز، يحول الفرض إلى نفل، تحصيلاً لما هو أفضل من ذلك، يصلي في جماعة مثلاً، والأصل في ذلك قوله تعالى:{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد: 33]، فقطع الصوم المفروض إبطال للعمل، قطع الصلاة المفروضة إبطال للعمل.

ولا يلزم في النفل.

أي لا يلزم إتمام صوم النفل لفعله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم عن عائشة وكما جاء في الخبر: ((المتطوع أمير نفسه))، أمير نفسه، ويستثنى من ذلك المتطوع بالحج أو بالعمرة؛ لأن من دخل في النسك يلزمه إتمامه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [سورة البقرة: 196]، وهذا يستوي فيه الفرض والنفل.

ولا يلزم في النفل، ولا قضاء فاسدة أي: لو فسد النفل فإنه لا يلزمه قضاء، يعني لو دعي إلى وليمة وهو صائم، ثم رأى أن من المصلحة أن يجبر خاطر أخيه المسلم ويأكل معه في هذه الدعوة، لا بأس، لكن ما يلزمه أن يقضي ذلك اليوم، إلا الحج، وكذلك العمرة، إذا أفسد الحج أو العمرة بالجماع قبل التحلل الأول فإنه يمضي في فاسده ويلزمه قضاءه، ويلزمه قضاءه.

يقول رحمه الله: وترجى ليلة القدر في العشر الأخير أو الأواخر وأوتاره آكد، وليلة سبع وعشرين أبلغ ويدعو فيها بما ورد.

ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) وجاء في سورة القدر أنها خير من إيش؟ من ألف شهر، من حرم خيرها حرم الخير كله، إذا فاتته هذه الليلة من السنة، طول السنة ليلة واحدة إذا فاتت ماذا يبقى له من الأجر؟ ماذا يحرص عليه من المغانم، والله المستعان.

ص: 6

سميت ليلة القدر بذلك لأنها ليلة ذات قدر، لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو لأن الذي يحييها يصير ذا قدر، وقيل: القدر هنا بمعنى القدر، القدر بإسكان الدال بمعنى القدر بفتحها الذي هو مؤاخي قضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [سورة الدخان: 4]، وبه صدر النووي كلامه فقال: قال العلماء: "سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ".

قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} : يكتب من أم الكتاب ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق والآجال حتى الحاج وإنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى.

وقال ابن الجوزي في زاد المسير: "أن ذلك ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة، وقد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال في ليلة القدر، وعلى هذا جرى المفسرون". يعني ما يذكر أن معنى قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} في ليلة النصف من شعبان ضعيف لا يثبت، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري، أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى)) قال: هو حديث مرسل ومثله لا تعارض به النصوص.

وعلى هذا فليس لليلة النصف من شعبان مزية، على غيرها من الليالي، وما رواه ابن ماجه عن علي عن النبي عليه الصلاة والسلام:((إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلاً فأعافيه، ألا كذا، ألا كذا حتى يطلع الفجر)) [فهو حديث ضعيف]، وجمهور العلماء على تضعيف جميع ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان.

ص: 7

قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في اللطائف: أنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة، لكن من صام يوم النصف من شعبان؛ لأنه من جملة الأيام البيض وقد اعتاد ذلك فلا بأس؛ لأنه من الأيام البيض، وفضل ليلة القدر نزل بفضلها سورة كاملة، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}

وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) وهذا تقدم.

وقيام ليلة القدر يكون بأي شيء؟ يعني بمجرد الانتباه؟ رجل قائم منتبه، قيامها يكون بالصلاة، والذكر والدعاء، وقراءة القرآن، وغير ذلك من وجوه الخير، وقد دلت سورة القدر على أن العمل في هذه الليلة خير من ألف شهر مما سواها، وهذا فضل عظيم ورحمة من الله بعبادة، فجدير بالمسلمين أن يعظموها وأن يحيوها بالعبادة.

ص: 8

وقد أخبر أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأن أوتار العشر آكد أرجى من غيرها، فقال عليه الصلاة والسلام:((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في الوتر)) وقال: ((من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) وغير ذلك من النصوص التي تدل على أن هذه الليلة متنقلة في العشر، وليست في ليلة معينة تكون فيها دائماً، فقد تكون في ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون في ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون في ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في ليلة سبع وعشرين، وقد تكون في تسع وعشرين، وقد تكون في الأشفاع، وقد تكون في الأشفاع، نعم الأوتار آكد، لكن قد تكون في الأشفاع، لأنه لما قال عليه الصلاة والسلام:((التمسوها لخامسة تبقى، لسابعة تبقى)) إلى آخره، يحتمل أن تكون في الأشفاع إذا كان الشهر كاملاً، ويحتمل أن تكون في الأوتار إذا كان الشهر ناقصاً، فمن قام ليالي العشر كلها إيماناً واحتساباً أدرك هذه الليلة بلا شك، وفاز بما وعد الله أهلها، ليحرص أن يقوم هذه الليالي كلها، وأن يحضر قلبه، لا يحضر بجسده وقلبه في أمور الدنيا، هذا لا يفيده مثل هذا القيام؛ لأنه ليس له من صلاته إلا ما عقل، فمن عقل من الصلاة العشر مثلاً، أو - نسأل الله العافية - طرأ عليه شيء من الرياء فأحبط عمله، هذه مصيبة، يتعب الإنسان وأخيراً يرجع بلا فائدة.

فمن قام ليالي العشر كلها إيماناً، احتساباً أدرك هذه الليلة بلا شك وفاز بما وعد الله أهلها، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يخص هذه الليالي بمزيد اجتهاد لا يفعله في العشرين الأول.

قالت عائشة رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها"، وقالت:" كان إذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله، وجد وشد مئزره"، إلى غير ذلك من النصوص.

هل يلزم العلم بليلة القدر؟ أو يحصل الأجر ولو لم يعلم بذلك؟ إذا صادفها ولو لم يعلم بها يثبت له أجرها أو لا بد من العلم بها؟

ص: 9

اختلف العلماء في ذلك وا لصواب أن من قامها نال أجرها، ولو لم يعلم بها، وقول من قال: أنه لا ينال أجرها إلا من شعر بها قول ضعيف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رتب الأجر على مجرد القيام، فقال:((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)) ولم يقل عالماً بها، ولو كان العلم شرطاً لحصول الثواب لبينه النبي عليه الصلاة والسلام.

وذكر العلماء في ليلة القدر علامات منها: زيادة النور في تلك الليلة، ومنها طمأنينة القلب، وانشراح الصدر من المؤمن، فالمؤمن يجد من انشراح الصدر وطمأنينة القلب في تلك الليلة أكثر مما يجده في بقية الليالي، لا شك أن المؤمن كامل الإيمان قد يشعر بها، حديث عائشة دليل على أنها تشعر بها.

من الأمور التي ذكرت من علامات ليلة القدر: أن الرياح تكون فيها ساكنة، فلا يأتي فيها رياح ولا عواصف بل يكون الجو هادئاً، فقد أخرج ابن خزيمة، وابن حبان من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إني كنت رأيت ليلة القدر ثم نسيتها، وهي في العشر الأواخر وهي طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة، أن فيها قمراً يفضح كوكبها، لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها)) الموجود عند ابن حبان وابن خزيمة.

وأخرج الإمام أحمد من حديث عبادة من الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمي به فيها حتى تصبح)) [قال الهيثمي: رجاله ثقات].

من الأمور التي ذكرها أهل العلم أن الإنسان قد يجد في هذه الليلة لا سيما في القيام لذة أكثر مما يجده في غيرها، لا سيما إذا أحضر قلبه وتدبر القرآن، ذكر عن بعض الصحابة أنه تسنى له أن يرى الله سبحانه وتعالى في تلك الليلة في المنام، وهذا مجرد ذكر.

من علاماتها: بل هو من أصح هذه العلامات أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع، صافية، في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال:((أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)).

ص: 10

وفي المسند من حديث عبادة ((وأن أمارتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل لشيطان أن يخرج معها)).

وأما ما يذكره بعض الناس من أن الكلاب لا يسمع لها نباح تلك الليلة، أو أن الماء يسكن، فلا دليل عليه، أما كون الماء يسكن لقلة الرياح هذا ممكن.

والدعاء فيها، يستحب للمسلم أن يغتنم هذه الليلة المباركة، فيكثر من الأدعية المأثورة، أن يصلي عامة الليل، ويتلو ويدعو ولا يغفل في هذه الليلة؛ لأنها ليلة من سنة، من الأدعية المأثور كقوله:((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) حديث عائشة في ذلك أنها قالت: " يا رسول الله، أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول فيها؟ " قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) [أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح]، وغير ذلك من الأدعية الجوامع الواردة في الكتاب والسنة فيحرص على الأدعية المأثورة، وليبتعد كل البعد من الاعتداء في الدعاء، أو يضيع وقته بما لا ينفع، ويجتنب الأدعية المسجوعة، وما فيه من إثم أو قطيعة رحم.

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسيلماً كثيراً.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: باب الاعتكاف:

هو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى، مسنون، ويصح بلا صوم، ويلزمان بالنذر، ولا يصح إلا في مسجد يجمع فيه، إلا المرأة ففي كل مسجد سوى مسجد بيتها،

يُجْمع وإلا يُجَّمع؟ يُجَّمع، يُجَّمع فيه.

إلا في مسجد يُجَّمع فيه، إلا المرأة ففي كل مسجد سوى مسجد بيتها، ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة، وأفضلها الحرام، فمسجد المدينة، فالأقصى لم يلزمه فيه، وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه وعكسه بعكسه، ومن نذر زمناً معينا دخل معتكفه قبل ليلته الأولى، وخرج بعد آخره، ولا يخرج المعتكف إلا لما لا بد منه، ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، إلا أن يشترطه، وإن وطئ في فرج فسد اعتكافه، ويستحب اشتغاله بالقرب واجتناب ما لا يعنيه.

ص: 11

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الاعتكاف في اللغة: اللزوم، لزوم الشيء، والمداومة عليه، ومنه قول إبراهيم عليه السلام لقومه:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [سورة الأنبياء: 52]، أي: ملازمون، قال تعالى:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [سورة الأعراف: 138]، أي: يلازمونها ويداومون عليها، وهو اصطلاح مستعمل، الطلاب حينما يقرب الامتحان يعكفون على دروسهم بالمذاكرة، ومما يؤسف أن اعتكاف غالب المسلمين على ما لا ينفع، من مشاهدة لأفلام خليعة مثيرة، أو كرة أو غيرها، هذه اهتمامات المسلمين وهذا اعتكافهم في الكثير الغالب، وهذا اعتكاف، وهذا عكوف، - نسأل الله العافية -، وهم بهذا يشبهون الذين يعكفون على أصنام لهم، يعكف الوقت الطويل يشاهد المباريات، أو يعكف الوقت الطويل يشاهد أفلاماً تضره في دينه ودنياه ولا تنفعه.

على كل حال على الإنسان أن يحافظ على هذا العمر الذي هو نفسه، فيصرفه فيما يرضي الله سبحانه وتعالى ويوصل إلى جنته ومرضاته.

الاعتكاف في الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله: هو لزوم مسجد لطاعة الله – تعالى-.

الدليل على مشروعيته قوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سورة البقرة: 125]، وفي وقوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [سورة البقرة: 187]، فتعين محل الاعتكاف وهو أنه المسجد.

لزوم مسجد لطاعة الله – تعالى-، يدخل في طاعة الله سبحانه وتعالى الصلاة دخولاً أولياً، والذكر والتلاوة يعني الطاعات الخاصة اللازمة، وهل يدخل في ذلك الطاعات العامة المتعدية، كطلب العلم؟

ص: 12

أولاً: لا شك أن طلب العلم طاعة بل هو من أفضل القربات، لكن الذي قرره أهل العلم أن الاعتكاف إنما يكون في الطاعات الخاصة، لكن إن زاول شيئاً يسيراً من ذلك بأن اصطحب معه كتاباً غير القرآن ينظر فيه فلا بأس، لكن غالب الوقت يصرف في التلاوة والصلاة والذكر، وإن كان الكتاب المصطحب مما يشوقه إلى العبادة من كتب الرقائق والوعظ كان أنسب؛ لأن هذا يعينه على مقصوده من الطاعات الخاصة، والعلم كله فاضل، لكن الأوقات تتفاوت.

ص: 13

هل يسوغ للمعتكف أن ينظر في كتب البدع ولو كان بقصد الرد عليها؟ لا، هل يسوغ للمعتكف أن ينظر في علوم الآلة ولو كان مما يحتاجها لفهم الكتاب والسنة؟ يقرأ نحو وهو معتكف مثلاً، أو أصول فقه وغيره، نقول: لا، أصل الاعتكاف للعبادات الخاصة، قد يحتاجه في تلاوته وتدبره للقرآن فهم بعض معاني الآيات فيرجع إلى بعض التفاسير الميسرة التي لا تبعده كثيراً عن روح القرآن؛ لأن بعض التفاسير المطولة تبعد به طويلاً عن روح القرآن، وخصوصيته لا سيما في هذا الوقت، نعم، قد يحتاج لفهم الآية والربط بينها وبين غيرها لتفسير ميسر لا بأس، هذا مما يعينه على فهم القرآن، والشهر شهر القرآن، ولذا كان السلف يتركون التعليم في رمضان، والإمام مالك معروف إذا دخل رمضان ترك التحديث، وأقبل على كتاب الله سبحانه وتعالى، السلف لهم معاملة خاصة في القرآن، فمنهم من يقرأ القرآن طول العام في سبع، فإذا جاء رمضان قرأه في ثلاث، فإذا دخلت العشر ختم كل ليلة، وقصصهم وأخبارهم مع كتاب الله سبحانه وتعالى مستفيضة مشهورة من الصحابة والتابعين فمن دونهم، واغتنام الأوقات، واغتنام الأماكن الفاضلة هذا مما ينبغي أن يكون نصب عيني طالب العلم، فلا تضيع عليه مثل هذه الفرص وهذه المواسم سدى، فعليه أن يغتنمها، قد يقول قائل: إذا أكثرت من قراءة القرآن، أنا لا أتدبر، أنا لا؟ نقول: عليك أن تتدبر فإن أمكن أن تقرأ أكبر قدر ممكن لتحصيل ثواب الحروف، الثواب المرتب على الحروف، يعني: كل حرف له عشر حسنات، مع التدبر، أو شيء من التدبر، الجمع بينهما طيب، لكن إن لم يمكن فالتدبر أفضل، وأهل العلم يختلفون في مثل هذا، الشافعي - رحمه الله تعالى- يرى: أن كثرة الحروف ولو كان من غير تدبر أفضل، وغيره على العكس، والمسألة مفترضة في شخص يقرأ في الساعة خمسة أجزاء من غير تدبر، أو جزأين مع التدبر أيهما أفضل؟ الخمسة أو الجزأين؟ الجمهور على أن الجزأين مع التدبر أفضل، والشافعي: يرى أن الخمسة أفضل ولو كانت بغير تدبر، لتحصيل أجر الحروف، وليس الخلاف مفترض في مثل من يقرأ جزء من القرآن بغير تدبر أو جزء من غير تدبر، هذا لا يختلف فيه، هذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم أن التدبر أفضل، لكن

ص: 14

الخلاف بينهم فيمن يقرأ خمسة، أو يقرأ جزأين، هذا مع التدبر، وهذا مع تحصيل أكبر قدر من الحروف؛ لأنه بكل حرف عشر حسنات، المقصود أن على طالب العلم أن يكون له ورد يومي من كتاب الله، لا يفرط فيه سفراً ولا حضراً في المواسم وغيرها، ولا يترك القرآن على الفرغة أو على الراحة إن تيسر وإلا لا حزن عليه، كما يقوله كثير، لا، العمر يمضي، ومن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة، ونحن نعرف بعض الإخوان من خيار الناس مخبرا ومظهرا، في أشرف الأوقات، وأشرف الأماكن، تضيع عليهم الأيام سدى، قد يأتي إلى البيت الحرام من صلاة العصر ويمكث فيه إلى أن ينتهي من صلاة التراويح، وقد هجر بلده ووطنه، وتحمل المشقة، والزحام للعبادة، وتحصيل أكبر قدر من الحسنات، إذا صلى العصر مسك المصحف، هذا إن كان معتاد على القراءة في الرخاء وله ورد معين هذا يعان بلا شك، لكن إذا كان ما اعتاد، طول السنة ما يقرأ القرآن إلا في المناسبات، أو إن تيسير أو جاء قبل إقامة الصلاة أو تجده يفتح المصحف يقرأ خمس دقائق عشر دقائق ثم ما يتحمل، يطبق المصحف ويبدأ يتلفت يشوف وين راح فلان، وين جاء فلان، ما تعرف على الله في الرخاء هذا، لكن نعرف أناس تعرفوا على الله في أيام الرخاء، ولهم ورد يومي من القرآن، ما يخلون به لا سفراً ولا حضراً، يجلس بعد إشراق الشمس ما يأذن الظهر إلا وهو خاتم القرآن، لكن من يطيق مثل هذا وهو ما اعتاده؟ هذا أمر لا يطيقه كثير من الناس؛ لأنه ما تعود، المسألة تحتاج إلى مران، وتحتاج إلى دربة، ولا بد أن تري الله سبحانه وتعالى من نفسك الخير ليعينك وهو يعلم منك صدق النية، وهذا شيء ملاحظ ومشاهد، فمن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة، الإنسان يريد أن يصلي ركعة بالبقرة مثلاً، والثانية بآل عمران، ما يدرك من صلاته، إذا كان ما تعود ما يمكن يصلي هذه، وإن كان معتاد فالأمر سهل، عثمان رضي الله عنه وعمره يناهز أو يزيد على السبعين، عرف عنه طول القيام، حتى ذكر عنه أنه يختم القرآن بركعة، وذكر عن السلف ذكر ابن رجب وابن كثير، وجمع من أهل العلم من أهل التحقيق مثل هذه الأخبار، وبعض الناس يقدح فيها، ويجعلها مخالفة لمثل قوله -عليه الصلاة

ص: 15

والسلام-: ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) وأهل العلم يحملون ذلك على أوقات السعة، أو على قيام الليل كما يقول بعضهم، أما اغتنام الأوقات والأماكن الفاضلة فالسلف عرف عنهم ذلك، فالذي لا يؤنس من نفسه مثل هذه الأشياء بل يشق عليه أن يتابع القراءة مثل هذا يقدح في مثل هذه الأمور ولا يصدق، هذا ليس بمعقول، حتى قال بعضهم: المؤسف أنه الآن أستاذ في القرآن وعلومه، نعم لكنه ليس من أهل القرآن، لما ذكر له أن الإمام أحمد يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة قال: ليس بمعقول، وكان المدرس يقول: هذا الكلام طالب، المدرس يقول له: ليس بمعقول؛ لأن عنده صالون يجلس فيه ثلاث ساعات يحلق شعره؛ لأنه شخص حليق، ما هو بمعقول، اهتمامهم غير اهتمامك، وجلدهم غير جلدك، وصبرهم غير صبرك، عرف في السلف كثرة العبادة وطول القيام، وأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام قام حتى تفطرت قدماه، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، و"من كان بالله أعرف كان منه أخوف"، والذي لا يزاول هذه الأشياء لا يصدق بها، لا يصدق، كيف يقرأ القرآن بيوم؟ لا، يقرأ القرآن بيوم، لكن ما ينبغي أن يكون ديدن وعادة وطول السنة يختم كل يوم؛ لأنه يعوقه عن بعض المصالح التي نفعها أعم.

(أل) في قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [سورة البقرة: 187]، للجنس، فكل مساجد الدنيا يسن فيها الاعتكاف، وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة –أعني المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والأقصى- وما ما يروى عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)) [هذا حديث ضعيف]، ويدل على ضعفه أن ابن مسعود رضي الله عنه ضعفه حين ذكر له حذيفة رضي الله عنه:" أن قوماً يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفة وبيت ابن مسعود فجاء حذيفة إلى ابن مسعود زائراً له، وقال: " إن قوماً كانوا معتكفين في المسجد الفلاني ينتقدهم" فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: " لعلهم أصابوا فأخطأت، وذكروا فنسيت"، وعلى فرض صحته يحمل على أنه لا اعتكاف أكمل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة.

والاعتكاف مسنون، هذا حكمه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.

ص: 16

أما الكتاب فقوله تعالى لإبراهيم وإسماعيل: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سورة البقرة: 125]، ومعلوم أن تطهير البيت التطهير المعنوي من الشرك، والبدع، والمعاصي الظاهرة أولى من تطهيره التطهير الحسي الغسيل، والتنظيف، وإن كان هذا مطلوب، فطلب منهما أن يطهرا بيت الله لمن؟ للطائفين، والعاكفين، والركع السجود، فدل على فضل الاعتكاف، وأنه مقرون بالصلاة والطواف.

وقد اعتكف النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وأزواجه من بعده.

والأفضل أن يكون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ لأنه هو الذي استقر عليه أمر النبي عليه الصلاة والسلام.

قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده" وهذا في الصحيحين وإن اعتكف في غير هذه العشر فلا بأس، العشر الأول، العشر الوسطى، في شوال، في القعدة في غيرها من الأشهر، العبادة ليس لها وقت، لكن أفضلها ما داوم عليه النبي عليه الصلاة والسلام وهو العشر الأواخر من رمضان.

ولا يجب الاعتكاف ولا يلزم إلا بالنذر لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) [رواه البخاري].

والاعتكاف مع الصيام أكمل، لكنه يصح بلا صوم؛ لأن عمر رضي الله عنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن نذر نذره أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له:((أوف بنذرك)) ولأن الاعتكاف والصيام عبادتان منفصلتان فلا يشترط لأحدهما وجود الأخرى، ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه أي تقام فيه صلاة الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة واجبة بالنسبة للرجال، فلا يعتكف في مسجد مهجور، كان مسجد ثم ترك، ارتحل عنه أهله، أو في مسجد طريق وإلا شبهه، ما تقام فيه الجماعة، لا، لأن الجماعة واجبة والاعتكاف سنة، لا يفرط بواجب لتحصيل سنة.

هذا بالنسبة للرجال الذين تلزمهم الجماعة، وأما المرأة فيصح الاعتكاف منها.

ص: 17

في كل مسجد سوى مسجد بيتها، مسجد البيت، وإن سمي مسجد إلا أنه لا تثبت له أحكام المسجد، لا تثبت له أحكام المسجد، فلا يصح الاعتكاف فيه، وتجلس فيه وهي حائض، ويباع مع البيت، لكن هو مكان مخصص للصلاة، والتلاوة ينبغي أن ينظف ويطيب من هذه الحيثية وأما بالنسبة لأحكام المسجد فلا.

من نذر زمناً معيناً، دخل المعتكف مع غروب الشمس من ليلة أول يوم وخرج بعد آخره، يدخل مع غروب الشمس؛ لأن اليوم يدخل مع غروب الشمس، إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام، يدخل مع غروب الشمس في اليوم الأول، فإذا غربت الشمس من اليوم العاشر خرج من معتكفه، انتهت العشرة الأيام، ويلازم المتكف معتكفه وهو المسجد ولا يخرج إلا لما لا بد منه، ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة، قالت عائشة رضي الله عنها:" السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج للحاجة إلا لما لا بد منه"، يعني: لقضاء حاجة أو وضوء أو أكل إن لم يتيسر في المسجد، [رواه أبو داود]، قال ابن حجر في البلوغ: ولا بأس برجاله، إلا أن الراجح وقف أخره، يستحب للمعتكف أن يشتغل بما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى وأن يجتنب ما لا يعنيه، لقوله عليه الصلاة والسلام:((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) وهذا في جميع الأحوال، في جميع الأوقات، في جميع الأماكن، لكن في حق المعتكف من باب أولى، وإذا كان هذا بالنسبة لما أباحه الله سبحانه وتعالى فكيف بمعتكف يزال المحرمات، من غيبة ونميمة، وغيرها؟!

يقول: ومن نذره أو الصلاة يعني: نذر الصلاة، في غير الثلاثة، المساجد الثلاثة الفاضلة، لم يلزمه فيه، نذر أن يعتكف في جامع الرياض، لا يلزمه أن يعتكف في جامع، يعتكف في أي جامع، نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لا بد أن يعتكف في المسجد الحرام، نذر أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لا بد أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو في المسجد الحرام لأنه أفضل منه، نذر أن يعتكف في المسجد الحرام عليه أن يعتكف إما فيه، أو في المسجد النبوي؛ لأنه أفضل منه، أو في المسجد الحرام.

ص: 18

يقول: ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة، وأفضلها المسجد الحرام، فمسجد المدينة، فالمسجد الأقصى لم يلزمه فيه؛ لأنه ليست له مزية تميزه، لكن إذا نذر أن يعتكف في أحد هذه المساجد الثلاثة الفاضلة لا يجوز له أن يعتكف بغيرها، نعم له أن ينتقل إلى الأفضل دون المفضول، وإن عين الأفضل لم يجب فيما دونه، يعني نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لا يجزئه أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو المسجد الأقصى، وعكسه بعكسه، نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى، يجزئه أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو في المسجد الحرام من باب أولى، وهكذا.

يقول: ومن نذر زمناً معينا دخل معتكفه قبل ليلته الأولى، وخرج بعد آخره،

وانتهى؛ لأن اليوم يبدأ بغروب الشمس.

ولا يخرج المعتكف إلا لما لا بد منه،

له منه، يخرج لصلاة الجمعة، يخرج للدرة يتوضأ ويأكل، لا بأس، وما زاد على ذلك مما له منه بد، مندوحة لا يجوز له أن يخرج.

ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إلا أن يشترط، إذا اشترط له ذلك؛ لأن الأمر إليه، ويفسد الاعتكاف بالوطء، {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [سورة البقرة: 187]، فالمباشرة تبطل الاعتكاف، ولا بأس أن يزار المعتكف في المسجد يزوره أهله وأولاده، على أن لا يطيلوا المكث، ويقطعوا عليه خلوته بربه، يطمئنون عليه، ويطمئن عليهم وينصرفون، وقد كان نسوة النبي عليه الصلاة والسلام نسائه يزورنه في المسجد فيقلب إحداهن يرجعها إلى بيتها لا بأس للحاجة.

ويستحب اشتغاله بالقرب واجتناب ما لا يعنيه.

هو اعتكف لماذا؟ لأي شيء؟ لينال الثواب والأجر من الله سبحانه وتعالى ويحيي هذه السنة، فعليه أن يشتغل بما يقربه من الله سبحانه وتعالى.

هذا قبل ما.

يقول: اعتكاف عشر رمضان يبدأ ليلة عشرين أم ليلة إحدى وعشرين؟

أولاً: ليلة عشرين هذه تبع العشر الأواسط، اليوم عشرين المكمل للعشر الأواسط، فالعشر الأواخر تبدأ من غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون تسع وإن كانت يطلق عليها العشر كما يقال: عشر ذي الحجة يسن صيام عشر ذي الحجة، والعاشر هو العيد لا يجوز صيامه؛ لكن هذا تغليب.

ص: 19

وهل للمعتكف الخروج من الحرم ليأتي بالطعام أو يذهب إلى المغسلة ونحو ذلك؟

مغسلة إيش؟ مغسلة الثياب؟ هذا كمال، ينبغي أن يحفظ وقته، أما بالنسبة للطعام وهو ما لا بد له منه مما لا يسمح بدخوله إلى المسجد فلا بأس؛ لأن هذا لا يقوم إلا به.

طالب: لكن بعض الأحيان يا شيخ الرائحة الرائحة مع صوت مرتفع مع كثرة الناس تنبعث رائحة العرق، ويتأذى؟

يغتسل، يغتسل لا بأس.

طالب: تبقى الرائحة على الثياب؟

يكلف، يكلف.

طالب: أصلاً منقطعين يأتي ما يعرف أحد.

على كل حال إذا لم يتمكن من أموره الضرورية إلا بالخروج لا بأس؛ لأن هذا لا بد له منه.

هذا يطلب يقول: لماذا تنهون الدورة قبل موعدها المحدد لها، لماذا لا يكون يوم الغد لقاءاً مفتوحاً تجيبون فيه على ما أشكل علينا، أتمنى ألا تردنا أصفار الأيدي؟

على كل حال أنا عندي درس في موضع آخر والعهد الذي بيننا وبينكم كتاب الصيام، وانتهى، وعلى كل حال ما نرد طلب، ولا، لكنا عطلنا إخواننا في مسجدنا هناك، لهم دروس أحياناً بعد العشاء، ومنها يوم الجمعة بعد العشاء، ودورة شرح كتاب المناسك يعني بعد رمضان، حددت؟

طالب: في ذي القعدة.

في شهر القعدة نتمكن إن شاء الله وقتها أسبوع أو أكثر؟

طالب:

يا الله تكفيهم، يا الله تكفيهم ولو أسبوعين.

فإن أنا ألمحت إلى أنه يمكن أن يكون اليوم الأخير لقاء مفتوح، ألمحت بالأمس وقبل الأمس، فإن اعتقتموني وأعفيتموني من ذلك وإلا فالأمر لكم، ولا أرد الطلب إلا بإذن.

لكن من باب التأكيد يا إخوان ترى كتاب المناسك في شهر ذي القعدة إن شاء الله، أخذنا الفسح وإن شاء الله يعلن في وقته، شرح كتاب المناسك من الزاد بإذن الله الشيخ.

الأسئلة ما أدري؛ لأن عندنا مسألة قيام رمضان، وهي مهمة وتشكل على كثير من الإخوان والنصوص فيها أقول: كثيرة ومتواترة، بعضها قد يشكل على بعض طلاب العلم.

ص: 20

المراد بقيام رمضان وهذا تروه استطراد، وهو يدخل في كتاب الصلاة، ولا يدخل في كتاب الصيام، لكن المناسبة بينه وبين الصيام ظاهرة؛ لأنه جاء الخبر ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) و ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) في بعض الروايات ((وما تأخر)) هذه عند النسائي صححها بعضهم.

على كل حال المناسبة ظاهرة، ورمضان قادم فلا مانع أن نعرض لقيام رمضان.

والمراد به قيام لياليه مصلياً، إحياء لياليه بالصلاة، مصلياً تالياً ذاكراً، ذكر النووي -رحمه الله تعالى -:"أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يريد أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين"، وهذا يدل على أي شيء؟ على الإطالة، وكأن ذلك لطول صلاتهم، روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))، وروى أيضاً عن عروة إن عائشة أخبرته أن ورسول الله صلى الله عليه وسلم: " خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلي بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، تركهم النبي عليه الصلاة والسلام فلما قضى الفجر

".

ص: 21