المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شرح حديث أنس في قصة العرنيين - شرح سنن النسائي - الراجحي - جـ ١٦

[عبد العزيز بن عبد الله الراجحي]

الفصل: ‌شرح حديث أنس في قصة العرنيين

‌شرح حديث أنس في قصة العرنيين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بول ما يؤكل لحمه.

أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم: (أن أناساً أو رجالاً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلموا بالإسلام، وقالوا: يا رسول الله! إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف -واستوخموا المدينة-، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا -وكانوا بناحية الحرة- كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب في آثارهم فأتي بهم، فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، ثم تركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا)].

هذا الحديث رواه الشيخان، وفيه: أن هؤلاء الناس جاءوا من عكل نحو النبي صلى الله عليه وسلم فتكلموا بالإسلام، فحكم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم به، ونطقوا بالشهادتين، فقالوا: يا رسول الله! إنّا أهل ضرع، يعني: عشنا في البادية والصحراء، وعندنا غنم وإبل.

ثم قالوا: ولم نكن أهل ريف، أي: ما تعودنا أن نسكن في البلد، قوله:(واستوخموا المدينة)؛ لأنهم معتادون على الهواء الطلق، فلما دخلوا المدينة أصابتهم الروائح فمرضوا، قوله:(فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع) الذود: هي الثلاث من الإبل فأكثر، قوله:(وأمرهم أن يخرجوا فيها) أي: أن يخرجوا خارج البلد مع الإبل فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحّوا؛ لأن الذود تأكل من الحشائش في البر، فخرجوا معها، وشربوا من أبوالها وألبانها.

قوله: (فلما صحوا) أي: زال ما بهم من المرض والوخم، (كفروا بعد إسلامهم) والعياذ بالله وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اللفظ الآخر: أنهم مجموعة رعاة، فقتلوهم، وسرقوا الإبل فاستاقوها، فهؤلاء جمعوا شراً كثيراً: فكفروا بعد إسلامهم، وقتلوا، وسرقوا، وقطعوا الطريق، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، بعث الطلب في آثارهم، أي: بعث فرساناً يطلبونهم فأتوا بهم، وفي اللفظ الآخر: أنهم أتوا بهم قبل أن يشتد النهار، فسمر النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم قصاصاً؛ لأنهم فعلوا ذلك بالرعاة أو بالراعي، فاقتص النبي صلى الله عليه وسلم منهم فسمر أعينهم، وذلك بأن يؤتى بشيء من الحديد ويحمى بالنار فيوضع على أعينهم قصاصاً كما فعلوا؛ لأنهم سمروا أعين الراعي، وقتلوه وسرقوا الإبل وكفروا بعد إسلامهم، فالنبي أمر بهم فسمرت أعينهم، وقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف كما فعلوا، وتركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا، وفي اللفظ الآخر: أنهم لهثوا الثرى بألسنتهم، ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم كما فعلوا قصاصاً.

وإنما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ لأنهم قطعوا الطريق، وسرقوا الإبل، ثم تركهم، وفي اللفظ الآخر:(ولم يحسمهم)؛ لأنه أخذ من كل واحد منهم يده اليمنى ورجله اليسرى ولم يوقف نزول الدم، أي: استمر الدم ينزف منهم حتى ماتوا.

لكن السارق إذا قطعت يده فتحسم حتى يقف الدم ولا يموت، وأما هؤلاء فالمراد قتلهم؛ لأنهم مرتدون وقطاع طريق، فعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم تركهم في الحرة حتى ماتوا، قال أنس كما في رواية مسلم: هؤلاء سرقوا وقتلوا وقطعوا الطريق وكفروا بعد إسلامهم.

والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يشربوا من أبوال الإبل، فدل على أن البول طاهر، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أفواههم، ففيه دلالة على طهارة بول ما يؤكل لحمه، كما هو أصح قولي العلماء خلافاً للشافعي وجماعة، الذين يقولون: إن أبوال الإبل نجسة؛ لأن الأصل أن الأبوال نجسة، بدليل عموم الأحاديث التي فيها الأمر بالتنزه من البول، وقالوا: هذا عام يدخل فيه كل بول.

والصواب: أن المراد بتلك الأحاديث بول الآدمي أو بول ما لا يؤكل لحمه، وأما بول ما يؤكل لحمه فهو طاهر، وكذا روثه وفرثه ومنيه، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، فلو كانت نجسة لقال: اغسلوا أفواهكم فإنها نجسة، بل كيف يأمرهم بشربها وهي نجسة؟! وهذه حجة واضحة في طهارة بول ما يؤكل لحمه؛ ولهذا بوب المؤلف بقوله:(باب بول ما يأكل لحمه) ولم يجزم بشيء، فلم يقل: باب طهارة بول ما يؤكل لحمه؛ لأن الخلاف قوي في المسألة، فقال: باب بول ما يؤكل لحمه، يعني: ما حكمه هل هو طاهر أم نجس؟ فترك الحكم للقارئ، وهو طاهر، والتقدير: باب طهارة بول ما يؤكل لحمه، لكن حذف الحكم من أجل الخلاف.

وهل ينقض الطهارة شرب أبوال الإبل وألبانها؟

‌الجواب

لا، لا ينقض الطهارة، وإنما ينقضها أكل اللحم، وأما إذا شرب مرقاً أو لبناً أو بولاً فلا حرج، وهذا موجود حتى الآن -أي: الشرب من أبوال الإبل وألبانها- كما في بعض المدن المجاورة للرياض، فقد وجدنا بها بعض الشيوخ الكبار يشربون من أبوال الإبل.

فالمقصود: أن أن الأبوال يرى أن فيها صحة وفائدة، وهي كذلك بلا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم -أي: العرنيين- فاستفادوا وصحوا.

وكذلك روث ما يؤكل لحمه طاهر، بل جميع الفضلات.

والفرس وإن كان لا يؤكل لحمه، لكن منيه وفضلاته جميعها طاهرة، وبعض العلماء يرى أنه لا ينقض الوضوء إلا اللحم الأحمر وهو الهبر، أما لو أكل من الكرش أو من لحم الرأس أو من الكبد فلا ينقض.

والصواب: أن الجميع ينقض.

وفي المسألة خلاف بين أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ولكن الصواب ما قدمناه؛ لأن الله تعالى قد قال لما حرم لحم الخنزير:{أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145].

ولا يقول أحد: إن شحم الخنزير وكذلك لحم رأسه أو كبده طاهرة يجوز أكلها! ونقض الوضوء بلحم الإبل فيه خلاف، فيرى الأئمة الثلاثة أنه لا ينقض الوضوء، ويرون أن ما ورد فيه منسوخ بحديث جابر:(كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار).

والصواب: أن لحم الإبل مستثنى بأدلة خاصة، كحديث جابر بن سمرة وحديث البراء (توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤا من لحوم الغنم) وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئتم، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس عندي إشكال في وجوب الوضوء من لحم الإبل، ففيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولحم الإبل ينقض الوضوء سواء أكان نيئاً أم مطبوخاً، وأما حديث جابر:(كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار) فهذا خاص بالذي تمسه النار، وأما لحم الإبل فينقض الوضوء ولو لم تمسه النار، فهو ينقض الوضوء مطلقاً سواء أكان في البلد أم في الصحراء.

ص: 13