الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم تعلم منازل القمر، وشرح أثر قتادة في ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به) ا.
هـ وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه.
ذكره حرب عنهما.
ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق].
الصواب: أن تعلم منازل القمر لا بأس به؛ لأن بذلك يعرف الحساب، ويعرف الوقت، فهو لا تأثير له في الحوادث وغيرها، إلا أن هذه المعرفة لا طائل تحتها، غير أنها أمر مباح، وشرح ذلك: أن القمر له منازل، كل ليلة يكون في واحدة، إلا ليلتين في الشهر أو ليلة، فإذا كان كاملاً فيكون في ليلتين ليس له منزلة، ويسمى الاستسرار، وإذا كان ناقصاً فليلة واحدة ليس له منزلة، والمنازل ثمان وعشرون منزلة فقط، وسميت منازل لأن القمر يكون بحذائها أو قريباً منها، وإلا فهي فوقه بكثير، ليست معه ولا قريباً منه، والكواكب كما هو معلوم تتفاوت في البعد، فبعضها بعيد بعداً شاسعاً جداً، وبعضها أقرب من ذلك، والصواب أنها كلها تحت السماء الدنيا، وليس منها شيء فوق السماء الدنيا، أو في السماء الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو السابعة، كما يقول المنجمون قديماً، فإنهم يزعمون -كما هو مشهور عندهم- أن القمر في السماء الدنيا، وأن الشمس في السماء الرابعة، وأن زحل في السماء السابعة، وهكذا كانوا يجعلون كل كوكب من الكواكب السيارة السبعة وغيرها في منزل، فهذا في سماء، وذاك في سماء أخرى.
فإذا قيل لهم: كيف ذلك؟ قالوا: إن السماوات شفافة، يعني: أن الكواكب ترى من خلفها، وهذا تحكم، وليس لهم عليه أيّ دليل، بل هو كذب، وعلم هذا عند الله جل وعلا، والله جل وعلا أخبرنا في كتابه أنها في السماء الدنيا، فقال سبحانه:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، وجاء في عدد من آيات الله جل وعلا يخبر أنها في السماء الدنيا، ولكن بعضها تحت بعض؛ لأن كل واحد منها له فلك يسير فيه، وهي مختلفة المسير، فبعضها بطيئة السير، وبعضها سريعة، وبعضها يكون سيرها عكسياً، ولكنها متقنة إتقاناً عجيباً؛ حيث إنها تسير سيراً منتظماً، وبعضها كبير وبعضها موغل في الكبر، وبعضها أصغر من ذلك، وبعضها ثابت، وبعضها غير ثابت، بمعنى: أنه لا يقطع السماء إلا بعد ثلاثين سنة، أعني: يغيب عن الأرض ويخرج عليها مرة أخرى بعد ثلاثين سنة، وبعضها في أقل من ذلك بكثير، وبعضها في شهر، وبعضها في أسبوع، وبعضها في أقل من ذلك، فهي تختلف، وكل هذه الأمور من النظر إلى مسيرها، وإلى أوقاتها، وإلى أجرمها وأبعادها يدخل في تعلم منازل القمر، وقد ذكر عن قتادة أنه لم يرخص فيه، ورأى أنه من الأمور التي قد تكون -أقل ما تكون- مشكلة عند غيره.
وبعضهم رخص في ذلك، وقال: لا بأس به؛ لأن فاعل ذلك يعترف أنها مدبَرة ومسخرَة، وأنها آيات دالة على وجود الله جل وعلا، أما إذا كان يتعلق فيها بشيء آخر كمعرفة الحوادث ووقائع الأمور فهذا أمر آخر، وسبق أنه لا يجوز.
والمقصود: أن القمر ينزل كل ليلة في واحدة من هذه المنازل، وكل واحدة من هذه المنازل تسمى (منزلة القمر)، وليس معنى ذلك أن الكوكب يقترن بها، بل يكون محاذياً لها، وقد يكون عن يمينها، أو عن شمالها، أو أمامها، أو خلفها، وهي فوقه بكثير؛ لأن القمر هو أقرب الكواكب إلى الأرض؛ وكل الكواكب فوقه، فتسميتها منازلاً هذا معناه: أنه يكون قريباً منها، وكل منزلة بينها وبين الأخرى ثلاثة عشر يوماً في الطلوع والغروب، أعني: إذا طلعت هذه فبعد ثلاثة عشر يوماً تطلع التي بعدها، وكذلك إذا غربت تلك تطلع المقابلة لها من الشرق؛ لأن على سطح الأرض دائماً يُرى أربعة عشر منه، وتحت الأرض أربعة عشر، فهي دائمة المسير هكذا.
وهذه هي التي يسميها العرب (الأنواء)، ويضيفون إليها هطول المطر، وهبوب الرياح، وما إلى ذلك، وقد أنكر ذلك السلف، ولهذا لما قال رجل عند الحسن البصري: طلع سهيل وبرد الليل، قال الحسن: ليس عنده أي شيء لا من البرودة ولا من الحرارة، والله جعل الأوقات مختلفة، فلا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى سهيل ولا إلى غيره، وإنما هو الفاعل الله جل وعلا، وهو الذي جعل الأوقات متغيرة: فمرة تكون برداً، ومرة تكون حراً، ووقتاً تكون معتدلة وهكذا، فهذا كله إلى الله، لا يجوز أن نضيفه إلى النجوم، ولا إلى مخلوق من مخلوقاته؛ لأنه صنع رب العالمين جل وعلا، وهو الذي يدبر الكون كله.
وكذلك منازل القمر ليس عندها شيء من هذا، وإن كان يستدل بها على هذه الأوقات؛ لأن السنة تتكون من بروج معروفة، وهي: اثنا عشر برجاً، كل برج له أربع من هذه المنازل.
وعلى كل حال هذه الأمور: أمور الحساب، ومعرفة القمر من الأشياء المباحة، ولكن غيرها أنفع منها.
قال الشارح رحمه الله: [هذا الأثر علقه البخاري في صحيحة، وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم.
وأخرجه الخطيب في كتاب (النجوم) عن قتادة، ولفظه قال:(إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناساً جهلة بأمر الله، قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما نجم إلا ويولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء).
انتهى].
قوله: (وعلمه أسماء كل شيء)، أي: هو فُضّل بذلك على سائر الخلق، فلو كان هذا فيه منة وفيه خير لعلمه.
وقوله: (لعمري)، قد يشكل على بعض طلبة العلم؛ لأنهم يظنون أن هذا قسم، والقسم لا يجوز أن يكون بغير الله جل وعلا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال:(من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وقال:(إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فلا يجوز أن يحلف الإنسان بغير الله، وكلمة:(لعمري) ليست بحلف، إنما هي أسلوب من أساليب اللغة العربية للتأكيد فقط، ولهذا جاءت عن الصحابة وعن غيرهم من السلف كما في قول قتادة هنا.
وأما قوله جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فهو قسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه دليل على جواز الحلف بغير الله، بل هذا جارٍ على أسلوب اللغة العربية، والقرآن نزل بلغة العرب.