المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الغلو في الصالحين - شرح كتاب التوحيد - عبد الرحيم السلمي - جـ ٣

[عبد الرحيم السلمي]

الفصل: ‌الغلو في الصالحين

‌الغلو في الصالحين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.

وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]].

هذه الآية تدل على أن الغلو سبب من أسباب الشرك، ولهذا نهى الله عز وجل أهل الكتاب عن الغلو في الدين؛ لأن الغلو في الدين عندهم هو الذي جعل النصارى يعبدون المسيح ويقولون: إنه ابن الله، وهو الذي جعل اليهود يعتبرون عزيراً ابن الله أيضاً.

والغلو: هو مجاوزة الحد والمبالغة في الإطراء والمدح والثناء، وقد يكون الغلو قولاً، وقد يكون الغلو فعلاً، وقد يكون الغلو اعتقاداً.

فمن الغلو القولي إطراء النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين إلى درجة التعظيم، وإلى درجة تقرب من مقام الألوهية، كالذي يقول مثلاً: إن الصلاة بجوار قبر الولي مثل الصلاة في الحرم، أو مثل الصلاة في المسجد الأقصى، أو مثل الصلاة في المسجد النبوي، وهذا كلام باطل، وهو من الغلو، وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه صرف للعبادة لغير الله عز وجل.

ومن الغلو: طلب الدعاء من الأموات، وهناك فرق بين طلب الأموات، وطلب الدعاء من الأموات، فطلب الأموات هو أن يأتي شخص إلى الميت ويقول: اغفر لي ذنبي أيها الميت، ويدعوه من دون الله، وهذا شرك أكبر؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، والعبادة التي صرفها لغير الله هي الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، وهكذا.

أما طلب الدعاء من الأموات فهو أن يأتي إلى الميت ويقول: يا فلان! ادع الله أن يغفر ذنبي، فيطلب من الميت أن يدعو الله له، وهذا ليس من الشرك الأكبر؛ لأنه ليس فيه عبادة مصروفة لغير الله، بل هو من الشرك الأصغر، وهو من الذرائع الموصلة إلى الشرك الأكبر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن: انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت].

هذه الآية تدل على أن الغلو في الصالحين سبب من الأسباب التي توصل إلى الشرك، فهؤلاء الذين عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً في البداية لم يقعوا هؤلاء في الشرك الأكبر المخرج عن الإسلام.

لكن الأمر الذي وقعوا فيه هو الغلو، وهو أنهم صوروا على أشكالهم تماثيل ووضعوها في الأماكن العامة، وقالوا: إنكم إذا رأيتم هذه الصور تذكرتم هؤلاء الصالحين وكيفية عبادتهم لله، فتدفعكم للعبادة، وهذا غلو؛ لأن الإنسان لا يصح له أن يتذكر بهذه الطريقة المبتدعة، وهو أن يتخذ صوراً يعلقها وأصناماً يصنعها لتذكره، وإنما يتذكر من كتاب الله، ويتذكر من أخبار الأنبياء، ويتذكر عظمة الله عز وجل، وينظر في ملكوت السماوات والأرض، كل ذلك من وسائل الذكرى، وليس من وسائل الذكرى هذا العمل الذي قاموا به.

ولم تعبد في بداية الأمر، بل حين إذا هلك ذلك الجيل وجاء جيل آخر ونُسِيَ العلم، وفي لفظ:(نُسِخُ) بمعنى: محُيَ وقَلَّ وتناقص قليلاً قليلاً حتى زال بالكلية.

فجاءهم الشيطان مرة أخرى -وهذه خطوات الشيطان- وقال لهم: انصبوا على أشكالهم صوراً حتى تذكركم بالعبادة، فلما نُسِيَ العلم جاء إلى الجيل الذي بعد وقال: إن آباءكم كانوا يأتون إليها فيسترزقون بها فترزقهم، ويستنصرون بها فتنصرهم، ويستسقون بها فتسقيهم، فعبدوها من دون الله سبحانه وتعالى.

والأمران غلو، فحال الأوائل الذين وضعوا هذه الأصنام حتى تذكرهم غلو، ولكنه غلو لا يصل إلى الكفر الأكبر.

والجيل الذي جاء بعد نسيان العلم كانت عبادتهم لهم من دون الله غلواً أيضاً، لكنه من الشرك الأكبر، وهذه قضية مهمة تدل على أن الشيء أحياناً قد يبدأ صغيراً ثم يتطور حتى يصبح أمراً كبيراً وخطيراً.

كإنسان -مثلاً- رأى امرأة من بعيد، ثم اقترب منها وحاول أن يقنع نفسه بأنه يريد أن يدلها على طريق، فهذه درجة ربما تلحقها درجة أخرى، كأن يتكلم معها فيما لا داعي إليه، وربما تلحقها درجة أخرى، وهي أن يتعرف عليها، وربما تلحقها درجة أخرى، وهي أن يقع في الفاحشة معها، والعياذ بالله.

وهكذا تبدأ الأمور بهذه الطريقة، وهذه هي القاعدة التي سبق أن بينت، وهي قاعدة سد الذرائع، ولهذا لا يجوز الاختلاط، ولا يجوز أن تكون مدارس البنات قريبة من مدارس الأولاد مثلاً؛ لأن هذا ذريعة ووسيلة إلى الزنا والعياذ بالله، ولأنه عندما تخرج الفتاة من هذا الباب ويخرج الشاب من هذا الباب يراها وتراه، وقد لا يكون في اليوم الأول مشكلة، وفي اليوم الثاني يأتي الشيطان إلى كل واحد منهما، وفي اليوم الثالث يحصل شيء آخر، ويترقى الأمر مع الأيام حتى يصل إلى درجة لا تحمد عقباها.

ولهذا ينهى أهل العلم دائماً عن الذرائع التي توصل إلى الأخطاء، والتي توصل إلى المش

ص: 10