المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تابع النوع السادس والأربعون - البرهان في علوم القرآن - جـ ٤

[بدر الدين الزركشي]

الفصل: ‌تابع النوع السادس والأربعون

‌المجلد الرابع

‌تابع النوع السادس والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم

مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ

تَارَةً يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا كقوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} {حافظوا على الصلوات} فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَقْتَضِي اللَّفْظُ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ بِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَبِالِاسْتِبَاقِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ كَمَا يُقَالُ لَبِسَ الْقَوْمُ ثِيَابَهُمْ وَرَكِبُوا دَوَابَّهُمْ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأعتدت لهن متكأ} أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَذَكَّرَ جَمِيعُ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي مُدَّةٍ وَعُمْرٍ وَاحِدٍ

وَقَوْلِهِ: {إنها ترمي بشرر كالقصر} أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْقَصْرِ وَالْقَصْرُ الْبَيْتُ مِنْ أَدَمٍ كَانَ يُضْرَبُ عَلَى الْمَاءِ إِذَا نَزَلُوا بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرَرُ كُلُّهُ كَقَصْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْوَعِيدِ فَإِنَّ الْمَعْنَى تَعْظِيمُ الشَّرَرِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْقَصْرِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ بعده {كأنه جمالت صفر} فَشُبِّهَ بِالْجَمَاعَةِ أَيْ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْجَمَلِ فَجَمَاعَتِهِ إِذِ الْجِمَالَاتُ الصُّفْرُ كَذَلِكَ الْأَوَّلُ كُلُّ شَرَرَةٍ مِنْهُ كَالْقَصْرِ قَالَهُ ابْنُ جني وقوله: {واستغشوا ثيابهم}

ص: 3

وَقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ورسله} فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ

وَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عليكم أمهاتكم} الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ جَمِيعَ أُمَّهَاتِ الْمُخَاطَبِينَ وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمَّهُ وَبِنْتَهُ

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} فَإِنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ الْأَزْوَاجِ نِصْفُ مَا تَرَكَ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ زَوْجُهُ فَقَطْ

وَكَذَا قَوْلُهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أولادكم} وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذريتهم} إِنَّمَا مَعْنَاهُ اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ ذُرِّيَّتُهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الذُّرِّيَّةِ اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْآبَاءِ وَقَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادهن} أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فاقتلوا المشركين} فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ أَفَادَتِ الْمُكْنَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ مَنْ وَجَدَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

وقوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فذكر المرافق بلفظ الجمع والكعبين بلفظ التثنية

ص: 4

لأن مقابلة الجمع تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ وَلِكُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ فَصَحَّتِ الْمُقَابَلَةُ وَلَوْ قِيلَ إِلَى الْكِعَابِ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فَإِنَّ لِكُلِّ رِجْلٍ كَعْبًا وَاحِدًا فَذَكَرَ الْكَعْبَيْنِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِيَتَنَاوَلَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ كُلِّ رِجْلٍ

فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَلَّا يَجِبَ إِلَّا غَسْلُ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ؟

قُلْنَا: صَدَّنَا عَنْهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْإِجْمَاعُ وَتَارَةً يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ ثُبُوتِ الْجَمْعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدة}

وَجَعَلَ مِنْهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي من تحتها الأنهار}

وَتَارَةً يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَيَفْتَقِرُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ أَحَدَهُمَا

أَمَّا مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْمُفْرَدِ وَقَدْ يَقْتَضِيهِ بِحَسَبِ عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُقَابِلِ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مسكين}

الْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} إِنَّمَا هُوَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ

ص: 5

قَاعِدَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا وَمُفْرَدًا وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ

فَمِنْهُ أَنَّهُ حَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا مُفْرَدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وَحِكْمَتُهُ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ السُّفْلِ وَالتَّحْتِ وَلَكِنْ وُصِفَ بِهَا هَذَا الْمَكَانُ الْمَحْسُوسُ فَجَرَتْ مَجْرَى امْرَأَةِ زَوْرٍ وَضَيْفٍ فَلَا مَعْنَى لِجَمْعِهِمَا كَمَا لَا يُجْمَعُ الْفَوْقُ وَالتَّحْتُ وَالْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَإِنْ قَصَدَ الْمُخْبِرُ إِلَى جُزْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَيَّنَ قِطْعَةً مَحْدُودَةً مِنْهَا خَرَجَتْ عَنْ مَعْنَى السُّفْلِ الَّذِي هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْعُلُوِّ فَجَازَ أَنْ تُثَنَّى إِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا جُزْءًا آخَرَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ فَجَمَعَهَا لَمَّا اعْتَمَدَ الْكَلَامُ عَلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَأَثْبَتَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ لِآحَادِهَا دُونَ الْوَصْفِ بِكَوْنِهَا تَحْتُ أَوْ سُفْلُ في مقابلة علو وأما جمع السموات فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا ذَاتُهَا دُونَ مَعْنَى الْوَصْفِ فَلِهَذَا جُمِعَتْ جَمْعَ سَلَامَةٍ لِأَنَّ الْعَدَدَ قَلِيلٌ وَجَمْعُ الْقَلِيلِ أَوْلَى بِهِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَعْنَى التَّحْتِ وَالسُّفْلِ دُونَ الذَّاتِ وَالْعَدَدِ

وَحَيْثُ أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ وَالْعَدَدُ أُتِيَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الأرض مثلهن}

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا نِسْبَةَ إِلَيْهَا إِلَى السموات وَسَعَتِهَا بَلْ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَحَصَاةٍ فِي صَحْرَاءَ فَهِيَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ كَالْوَاحِدِ الْقَلِيلِ فَاخْتِيرَ لَهَا اسْمُ الْجِنْسِ

وَأَيْضًا فَالْأَرْضُ هِيَ دَارُ الدُّنْيَا الَّتِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَمَا يُدْخِلُ الْإِنْسَانُ إِصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ فَمَا يُعَلَّقُ بِهَا هُوَ مِثَالُ الدُّنْيَا وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الدنيا إلا مقللا لها

ص: 6

وأما السموات فَلَيْسَتْ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا أريد الوصف الشامل للسموات وَهُوَ مَعْنَى الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِ أَفْرَدْتَهُ كَالْأَرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يخسف بكم الأرض} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عليكم حاصبا} فَأُفْرِدَ هُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْوَصْفَ الشَّامِلَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَمَاءً مُعَيَّنَةً

وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض ولا في السماء} بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سَبَأٍ {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا في الأرض} فَإِنَّ قَبْلَهَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَعَةَ عِلْمِهِ وأن له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَاقْتَضَى السِّيَاقُ أَنْ يَذْكُرَ سعة علمه وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السموات كُلُّهَا وَالْأَرْضُ

وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي سُورَةِ يُونُسَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَفْرَدَهَا إِرَادَةً لِلْجِنْسِ

وَقَالَ: السُّهَيْلِيُّ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِفْرَادِ مُقِرُّونَ بِأَنَّ الرِّزْقَ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ وَهُوَ سَمَاءٌ وَلِهَذَا قال في آخر الآية {فسيقولون الله} وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِمَا نَزَلَ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّحْمَنِ وَغَيْرِهَا وَلِهَذَا قَالَ في آية سبأ {قل الله} أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْقَوْلِ لِيَعْلَمَ بِحَقِيقَتِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}

ص: 7

فَإِنَّهَا جَاءَتْ مَجْمُوعَةً لِتَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِمَا فِي اسْمِ اللَّهِ تبارك وتعالى مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ فَالْمَعْنَى هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ من السموات فَذِكْرُ الْجَمْعِ هُنَا أَحْسَنُ وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى بَعْضِ الْمُجَسِّمَةِ قَالَ بِالْوَقْفِ عَلَى قوله {في السماوات} ثم يبتدئ بقوله {وفي الأرض}

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَتْ مُفْرَدَةً فِي قَوْلِهِ {فَوَرَبِّ السماء والأرض إنه لحق} أَرَادَ لِهَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ أَيْ رَبِّ كُلِّ مَا عَلَا وَسَفَلَ وَجَاءَتْ مَجْمُوعَةً فِي قَوْلِهِ {سَبَّحَ لله ما في السماوات والأرض} فِي جَمِيعِ السُّوَرِ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ عَنْ تَسْبِيحِ سُكَّانِهَا عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَبَايُنِ مَرَاتِبِهِمْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ جَمْعِ مَحَلِّهِمْ

وَنَظِيرُ هَذَا جَمْعُهَا فِي قَوْلِهِ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبادته ولا يستحسرون}

وقوله {تسبح له السماوات السبع} أَيْ تُسَبِّحُ بِذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا عَلَى اخْتِلَافِ عَدَدِهَا وَلِهَذَا صَرَّحَ بِالْعَدَدِ بِقَوْلِهِ {السَّبْعُ}

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَتْ مُفْرَدَةً فِي قَوْلِهِ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وما توعدون} فـ "الرزق" المطر وما توعدون الجنة وكلاهما في هذه الجهة لأنها في كل واحدة واحدة من السموات فَكَانَ لَفْظُ الْإِفْرَادِ أَلْيَقَ

وَجَاءَتْ مَجْمُوعَةً فِي قَوْلِهِ {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله} لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْ كُلِّ مَنْ هُوَ فِي وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السموات أَتَى بِهَا مَجْمُوعَةً

ص: 8

وَلَمْ يَجِئْ فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ بِنُزُولِ الْمَاءِ مِنْهَا إِلَّا مُفْرَدَةٌ حَيْثُ وَقَعَتْ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ نُزُولَهُ مِنْ ذَاتِهَا بَلِ الْمُرَادُ الْوَصْفُ

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ {قُلْ مَنْ يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ {قُلْ مَنْ يرزقكم من السماوات والأرض قل الله} ؟

قِيلَ: السِّيَاقُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُرْشِدٌ إِلَى الْفَرْقِ فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِي يُونُسَ سِيقَتْ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهُمْ وَمَالِكُ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ بِأَنْ يُخْرِجَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فَلَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِهَذَا كُلِّهِ حَسُنَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ فَاعِلُ هَذَا هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {فسيقولون الله} أَيْ هُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَلَا يَجْحَدُونَهُ وَالْمُخَاطَبُونَ الْمُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُزُولِ الرِّزْقِ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ السَّمَاءِ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا وَلَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ وَلَا عَالِمِينَ بِنُزُولِ الرِّزْقِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَيْهِمْ فَأُفْرِدَتْ لَفْظَةُ السَّمَاءِ هُنَا لِذَلِكَ

وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي سَبَأٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَظِمْ لَهَا ذِكْرُ إِقْرَارِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ولهذا أمر رسوله بأن يجيب وأن يَذْكُرْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُجِيبُونَ فَقَالَ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} وَلَمْ يَقُلْ {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي يُنْزِلُ رِزْقَهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَمَنَافِعِهِ من السموات وَمِنْهَا ذِكْرُ الرِّيَاحِ فِي الْقُرْآنِ جَمْعًا وَمُفْرَدَةً فَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الرَّحْمَةِ جَاءَتْ

ص: 9

مَجْمُوعَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فتثير سحابا}

{وأرسلنا الرياح لواقح}

{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات}

وَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الْعَذَابِ أَتَتْ مُفْرَدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أيام نحسات}

{فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها}

{وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية}

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ به الريح}

{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}

وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا" وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ رِيَاحَ الرَّحْمَةِ مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ وَالْمَاهِيَّاتِ وَالْمَنَافِعِ وَإِذَا هَاجَتْ مِنْهَا رِيحٌ أُثِيرَ لَهَا مِنْ مُقَابِلِهَا مَا يَكْسِرُ سَوْرَتَهَا فَيَنْشَأُ مِنْ بَيْنِهِمَا رِيحٌ لَطِيفَةٌ تَنْفَعُ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ وَكَانَتْ فِي الرَّحْمَةِ رِيَاحًا وَأَمَّا فِي الْعَذَابِ فَإِنَّهَا تَأْتِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَا مُعَارِضَ وَلَا دَافِعَ وَلِهَذَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِالْعَقِيمِ فَقَالَ {وَفِي عَادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} أَيْ تَعْقِمُ مَا مَرَّتْ بِهِ وَقَدِ اطَّرَدَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ لِحِكْمَةٍ فَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا

ص: 10

كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف} فَذَكَرَ رِيحَ الرَّحْمَةِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لَفْظِيٌّ وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا يُقَابِلُهَا رِيحَ الْعَذَابِ وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلَّا مُفْرَدَةً وَرُبَّ شَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَلَا يَجُوزُ استقلالا نحو {ومكروا ومكر الله}

الثَّانِي: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ تَمَامَ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَحْدَةِ الرِّيحِ لَا بِاخْتِلَافِهَا فَإِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَسِيرُ إِلَّا بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهَا الرِّيَاحُ وَتَصَادَمَتْ كَانَ سَبَبُ الْهَلَاكِ وَالْغَرَقِ فَالْمَطْلُوبُ هُنَاكَ رِيحٌ وَاحِدَةٌ وَلِهَذَا أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فَوَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ عَاصِفَةً بَلْ هِيَ رِيحٌ يُفْرَحُ بِطِيبِهَا

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} وَهَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ الرِّيحُ رَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ وَسُكُونُهَا شِدَّةٌ عَلَى أَصْحَابِ السُّفُنِ

قَالَ: الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ وَكَذَا جَاءَ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ {وَاللَّهُ الذي أرسل الريح} {وهو الذي يرسل الريح} وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يَنْشُرُ السَّحَابَ

ص: 11

وَمِنْ ذَلِكَ جَمْعُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظلمات}

وَلِذَلِكَ جَمَعَ سَبِيلَ الْبَاطِلِ وَأَفْرَدَ سَبِيلَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}

وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَطُرُقُهُ مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَمَّا كَانَتِ الظُّلَمُ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقِ الْبَاطِلِ وَالنُّورُ بِمَنْزِلَةِ طريق الجنة بَلْ هُمَا هُمَا أَفْرَدَ النُّورَ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ وَلِهَذَا وَحَّدَ الْوَلِيَّ فَقَالَ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمنوا} لِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ وَجَمَعَ أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ لِتَعَدُّدِهِمْ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ وَهِيَ طُرُقُ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا وَوَحَّدَ النُّورَ وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ

وَمِنْ ذلك أفرد الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ فِي قَوْلِهِ {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشمال عزين} وَجَمَعَهَا فِي قَوْلِهِ {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} وَلَا سُؤَالَ فِيهِ إِنَّمَا السُّؤَالُ فِي جَمْعِ أَحَدِهِمَا وَإِفْرَادِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ إِذَا وَحَّدَ ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الظُّلْمَةِ وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْيَمِينِ بِالْإِفْرَادِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْيَمِينُ جِهَةَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَأَهْلُهَا هُمُ النَّاجُونَ أُفْرِدَتْ وَلَمَّا كَانَتِ الشِّمَالُ جِهَةَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}

ص: 12

وفيه وجوه أخر:

أحدهما: أَنَّ الْيَمِينَ مَقْصُودٌ بِهِ الْجَمْعُ أَيْضًا فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ فَقَامَ الْعُمُومُ مَقَامَ الْجَمْعِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ فعيل، وهو مخصوص بالمبالغة فسدت مبالغته جَمْعِهِ كَمَا سَدَّ مَسَدَّ الشَّبَهِ قَوْلُهُ {عَنِ اليمين وعن الشمال قعيد} قَالَهُ ابْنُ بَابْشَاذَ

الثَّالِثُ: أَنَّ الظِّلَّ حِينَ يَنْشَأُ أَوَّلَ النَّهَارِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الطُّولِ ثُمَّ يَبْدُو كَذَلِكَ ظِلًّا وَاحِدًا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ وَإِذَا أَخَذَ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ فَإِنَّهُ يَتَزَايَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَالثَّانِي فِيهِ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَكُلَّمَا زَادَ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ قَبْلَهُ فَصَارَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ظِلًّا فَحَسُنَ جَمْعُ الشَّمَائِلِ فِي مُقَابَلَةِ تَعَدُّدِ الظِّلَالِ قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ وَغَيْرُهُ

قَالَ: ابْنُ بَابْشَاذَ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إِذَا كَانَا مُتَوَجِّهَيْنِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ

الرَّابِعُ: إِنَّ الْيَمِينَ يُجْمَعُ عَلَى أَيْمُنٍ وَأَيْمَانٍ فَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ غَالِبًا وَالشِّمَالَ يُجْمَعُ عَلَى شَمَائِلَ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَالْمَوْطِنُ مَوْطِنُ تَكْثِيرٍ وَمُبَالَغَةٍ فَعَدَلَ عَنْ جَمْعِ الْيَمِينِ إِلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى قَصْدِ التَّكْثِيرِ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ

وَأَمَّا إِفْرَادُهَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشمال} فَلِأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ هَذِهِ الْجِهَةِ وَمَصِيرُهُمْ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ جِهَةُ أَهْلِ الشِّمَالِ مُسْتَقَرُّ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهَا مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الشِّمَالِ فَلَا يَحْسُنُ مَجِيئُهَا مَجْمُوعَةً وَأَمَّا إِفْرَادُهُمَا فِي قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} فَإِنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ قَعِيدًا وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ شِمَالَهُ يُحْصِيَانِ عَلَيْهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ إِبْلِيسَ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ

ص: 13

وعن أيمانهم وعن شمائلهم} فَإِنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ مِمَّا يُرِيدُ إغوائهم فَجُمِعَ لِمُقَابَلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ الْمُقْتَضِي لِتَوْزِيعِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ

وَمِنْهَا: حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهَا تَجِيءُ تَارَةً مَجْمُوعَةً وَتَارَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ وَالنَّارُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا مُفْرَدَةً وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَتِ الْجَنَّاتُ مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ حَسُنَ جَمْعُهَا وَإِفْرَادُهَا وَلَمَّا كَانَتِ النَّارُ وَاحِدَةً أُفْرِدَتْ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى {بأكواب وأباريق وكأس من معين} ولم يقل وكؤوس لِمَا سَنَذْكُرُهُ

الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّارُ تَعْذِيبًا وَالْجَنَّةُ رَحْمَةً نَاسَبَ جَمْعُ الرَّحْمَةِ وَإِفْرَادُ الْعَذَابِ نَظِيرَ جَمْعِ الرِّيحِ فِي الرَّحْمَةِ وَإِفْرَادِهَا فِي الْعَذَابِ

وَأَيْضًا فَالنَّارُ دَارُ حَبْسٍ وَالْغَاضِبُ يَجْمَعُ جَمَاعَةً مِنَ الْمَحْبُوسِينَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أنكد لعيشهم والكريم لا يترك ضيفه ولاسيما إِذَا كَانَ لِلدَّوَامِ إِلَّا فِي دَارٍ مُفْرَدَةٍ مُهَيَّأَةٍ لَهُ وَحْدَهُ فَالنَّارُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ وَلِكُلِّ مطيع الجنة فَجَمَعَ الْجِنَانَ وَلَمْ يَجْمَعِ النَّارَ

وَمِنْهَا: جَمْعُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعٍ وَإِفْرَادُهَا فِي آخَرَ فَحَيْثُ جُمِعَتْ فَلِجَمْعِ الدَّلَائِلِ وَحَيْثُ وُحِّدَتْ فَلِوَحْدَانِيَّةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ لِمَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحِجْرِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ثُمَّ قَالَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} فَلَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَحَّدَ الْآيَةَ وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ إِلَّا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ في ذلك لآية}

ص: 14

وَمِنْهَا مَجِيءُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً بِالْجَمْعِ وَأُخْرَى بِالتَّثْنِيَةِ وَأُخْرَى بِالْإِفْرَادِ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ

فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ برب المشارق والمغارب}

والثاني: كقوله: {رب المشرقين ورب المغربين}

وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إلا هو} فحيث جمع كان المراد نفي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَحَيْثُ ثُنِّيَا كَانَ الْمُرَادُ مَشْرِقَيْ صُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا فَإِنَّهَا تَبْتَدِئُ صَاعِدَةً حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى غَايَةِ أَوْجِهَا وَارْتِفَاعِهَا فَهَذَا مَشْرِقُ صُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَيَنْشَأُ مِنْهُ فَصْلَا الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ فَجَعَلَ مَشْرِقَ صُعُودِهَا بِجُمْلَتِهِ مَشْرِقًا وَاحِدًا وَمَشْرِقَ هُبُوطِهَا بِجُمْلَتِهِ مَشْرِقًا وَاحِدًا وَمُقَابِلَهُمَا مَغْرِبًا

وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ مُتَحَرِّكَةٍ بِحَرَكَاتٍ مُتَدَارِكَةٍ لَا تَنْضَبِطُ لِخُطَّةٍ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ قِيَاسٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَرَكَةِ انْتِقَالُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَفْلَاكِ قَالَ تَعَالَى {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} الْآيَةَ فَهَذَا وَجْهُ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ مَطْلَعٍ غَيْرِ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ بِالْأَمْسِ وَكَذَلِكَ الْغُرُوبُ فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ فِي تِلْكَ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ وَمَغْرِبِهِ عِنْدَ أَوَّلِ فَصْلِ الْخَرِيفِ ثُمَّ تَأْخُذُ جَنُوبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي مَطْلَعٍ وَمَغْرِبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى آخَرَ مِثْلِهَا الَّذِي يُقَدِّرُ اللَّهُ لَهَا عِنْدَ أَوَّلِ فَصْلِ الشِّتَاءِ ثُمَّ تَرْجِعُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ وَمَغْرِبِهِ وَهَكَذَا أَبَدًا فَحَيْثُ أَفْرَدَ اللَّهُ لَهُ لَفْظَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أَرَادَ بِهِ الْجِهَةَ نَفْسَهَا الَّتِي تَشْتَمِلُ الْوَاحِدَةُ عَلَى تِلْكَ الْمَطَالِعِ جَمِيعِهَا وَالْأُخْرَى عَلَى تِلْكَ الْمَغَارِبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَعَدُّدِهَا وَحَيْثُ جِيءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُرَادِ بِهِ

ص: 15

كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَدُّدِ تِلْكَ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ وَهِيَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا وَحَيْثُ كَانَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَالْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْجِهَةُ الَّتِي تَأْخُذُ مِنْهَا الشَّمْسُ مِنْ مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ إِلَى آخِرِ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ الْجَنُوبِيَّةِ وبهذا الِاعْتِبَارِ مَشْرِقَانِ وَمَغْرِبَانِ

وَأَمَّا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ فَأَبْدَى فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَانِيَ لَطِيفَةً فَقَالَ:

أَمَّا مَا وَرَدَ مُثَنًّى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فَلِأَنَّ سِيَاقَ السُّورَةِ سِيَاقُ الْمُزْدَوِجَيْنِ:

الثَّانِي: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا ذَكَرَ نَوْعَيِ الْإِيجَادِ وَهُمَا الْخَلْقُ وَالتَّعْلِيمُ ثُمَّ ذَكَرَ سِرَاجَيِ الْعَالَمِ وَمَظْهَرَ نُورِهِ وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ النَّبَاتِ فَإِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى سَاقٍ وَمِنْهُ مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُمَا النَّجْمُ وَالشَّجَرُ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ السَّمَاءِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَفَعَ هَذِهِ وَوَضَعَ هَذِهِ وَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذِكْرَ الْمِيزَانِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَدْلَ وَالظُّلْمَ فِي الْمِيزَانِ فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمَا الْجَنُوبُ ثُمَّ ذكر نوعي المكلفين وهما نوع إلا لإنسان وَالْجَانِّ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَحْرَ مِنَ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ فَلِهَذَا حَسُنَ تَثْنِيَةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَإِنَّمَا أُفْرِدَا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَهُ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَمَّمَهُ بِذِكْرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَظْهَرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَكَانَ وُرُودُهُمَا منفردين فِي هَذَا السِّيَاقِ أَحْسَنَ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّ ظُهُورَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَا فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ فِي قَوْلِهِ {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ

ص: 16

إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وما نحن بمسبوقين} لأنه لما كان هذا القسم سَعَةِ مَشَارِقِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِحَاطَةِ قُدْرَتِهِ وَالْمُقْسَمَ عَلَيْهِ إِذْهَابُ هَؤُلَاءِ وَالْإِتْيَانُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ ذَكَرَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ لِتَضَمُّنِهَا انْتِقَالَ الشَّمْسِ الَّتِي فِي أَحَدِ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ وَنَقْلَهُ سُبْحَانَهُ لَهَا وَتَصْرِيفَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا كَيْفَ يُعْجِزُهُ أَنْ يُبَدِّلَ هَؤُلَاءِ وَيَنْقُلَ إِلَى أَمْكِنَتِهِمْ خَيْرًا مِنْهُمْ

وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْثِيرَ مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ سَبَبًا لِتَبَدُّلِ أَجْسَامِ النَّبَاتِ وَأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَانْتِقَالِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ بَرْدٍ إِلَى حَرٍّ وَصَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَكَيْفَ لَا يَقْدِرُ مَعَ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَبْدِيلِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ {وَمَا نَحْنُ بمسبوقين} فَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ سِوَى لَفْظِ الْجَمْعِ

وَأَمَّا جَمْعُهُمَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ {ورب المشارق} لَمَّا جَاءَتْ مَعَ جُمْلَةِ الْمَرْبُوبَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَهِيَ السموات وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْأَحْسَنُ مَجِيئَهَا مَجْمُوعَةً لِتَنْتَظِمَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّعَدُّدِ

ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَشَارِقِ دُونَ الْمَغَارِبِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَشَارِقَ مَظْهَرُ الْأَنْوَارِ وَأَسْبَابٌ لِانْتِشَارِ الْحَيَوَانِ وَحَيَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي مَعَاشِهِ وَانْبِسَاطِهِ فَهُوَ إِنْشَاءُ شُهُودٍ فَقَدَّمَهُ بَيْنَ يدي..... عَلَى مَبْدَأِ الْبَعْثِ فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ المشارق

ص: 17

ها هنا فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْكَامِلَةَ وَالْآيَاتِ الْفَاضِلَةَ الَّتِي تَرْقُصُ الْقُلُوبُ لَهَا طَرَبًا وَتَسِيلُ الْأَفْهَامُ مِنْهَا رَهَبًا!

وَحَيْثُ وَرَدَ الْبَارُّ مَجْمُوعًا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ قِيلَ أبرار كقوله {إن الأبرار لفي نعيم} وقال في صفة الملائكة {بررة} قَالَ الرَّاغِبُ فَخَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ أَبْرَارٍ جَمْعِ بَرٍّ وَأَبْرَارٍ جَمْعِ بَارٍّ وَبَرٌّ أَبْلَغُ مَنْ بَارٍّ كَمَا إِنَّ عَدْلًا أَبْلَغُ مِنْ عَادِلٍ

وَهَذَا بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ

وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخَ يُطْلَقُ عَلَى أَخِي النَّسَبِ وَأَخِي الصَّدَاقَةِ وَالدِّينِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْجَمْعِ فَيُقَالُ فِي النَّسَبِ إِخْوَةٌ وَفِي الصَّدَاقَةِ إِخْوَانٌ كَمَا قيل {إخوانا على سرر متقابلين} وَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} قال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمُ ابْنُ فَارِسٍ وَحَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَصْدِقَاءِ وَالنَّسَبِ إِخْوَةٌ وَإِخْوَانٌ قال تعالى {إنما المؤمنون إخوة} لَمْ يَعْنِ النَّسَبَ وَقَالَ {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} وَهَذَا فِي النَّسَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ {وَلَا يُبْدِينَ زينتهن إلا لبعولتهن} إلى قوله {أو بني أخواتهن} وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَاشْتِقَاقُ اللَّفْظَيْنِ مِنْ تَآخَيْتُ

ص: 18

الشَّيْءَ فَسَمَّى الْأَخَوَانِ أَخَوَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَأَخَّى مَا تَأَخَّاهُ الْآخَرُ أَيْ يَقْصِدُهُ

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَيُقَالُ أُخُوَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ

وَمِنْهَا إِفْرَادُ الْعَمِّ وَالْخَالِ

وَمِنْهَا إِفْرَادُ السَّمْعِ وَجَمْعُ الْبَصَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم} لِأَنَّ السَّمْعَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرِيَّةُ فَأُفْرِدَ بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الْجَارِحَةِ وَإِذَا أَرَدْتَ الْمَصْدَرَ قُلْتَ أَبْصَرَ إِبْصَارًا وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَعْمَلَ الْحَاسَّةَ جَمَعَهُ بِقَوْلِهِ {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وقال {وفي آذاننا وقر}

وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ أَيْ عَلَى حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ

وَقِيلَ: لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ السَّمْعِ الْأَصْوَاتُ وَهِيَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَمُتَعَلِّقَ الْبَصَرِ الْأَلْوَانُ وَالْأَكْوَانُ وَهِيَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ فَأَشَارَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مُتَعَلِّقِهِ

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَصَرُ الَّذِي هُوَ نُورُ الْعَيْنِ مَعْنًى يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُقْلَتَيْنِ وَلَا كَذَلِكَ السَّمْعُ فَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَلِهَذَا إِذَا غَطَّيْتَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ يَنْتَقِلُ نُورُهَا إِلَى الْأُخْرَى بِخِلَافِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ بِنُقْصَانِ أَحَدِهِمَا

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ ورعد وبرق} أَجْرَى الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ عَلَى أَصْلِهِمَا مَصْدَرَيْنِ فَأَفْرَدَهُمَا دُونَ الظُّلُمَاتِ يُقَالُ: رَعَدَتِ السَّمَاءُ رَعْدًا

ص: 19

وَبَرَقَتْ بَرْقًا وَالْحَقُّ إِنَّ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ مَصْدَرَانِ فَأَفْرَدَهُمَا أَوْ هُمَا مُسَبَّبَانِ عَنْ سَبَبٍ لَا يَخْتَلِفُ بِخِلَافِ الظُّلْمَةِ فَإِنَّ أَسْبَابَهَا مُتَعَدِّدَةٌ

وَمِنْهَا حَيْثُ ذِكْرُ الْكَأْسِ فِي الْقُرْآنِ كَانَ مُفْرَدًا وَلَمْ يُجْمَعْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وكأس} ولم يقل وكؤوس لِأَنَّ الْكَأْسَ إِنَاءٌ فِيهِ شَرَابٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرَابٌ فَلَيْسَ بِكَأْسٍ بَلْ قَدَحٌ وَالْقَدَحُ إِذَا جُعِلَ فِيهِ الشَّرَابُ فَالِاعْتِبَارُ لِلشَّرَابِ لَا لِإِنَائِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَشْرُوبُ وَالظَّرْفُ اتُّخِذَ لِلْآلَةِ وَلَوْلَا الشَّرَابُ وَالْحَاجَةُ إِلَى شُرْبِهِ لما اتخذا والقدح مصنوع والشراب جنس فلو قال كؤوس لَكَانَ اعْتَبَرَ حَالَ الْقَدَحِ وَالْقَدَحُ تَبَعٌ وَلَمَّا لَمْ يَجْمَعِ اعْتَبَرَ حَالَ الشَّرَابِ وَهُوَ أَصْلٌ وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى فَانْظُرْ كَيْفَ اخْتَارَ الْأَحْسَنَ مِنَ الْأَلْفَاظِ

وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُصَحَاءِ قَالُوا: دَارَتِ الكؤوس ومال الرؤوس فَدَعَاهُمُ السَّجْعُ إِلَى اخْتِيَارِ غَيْرِ الْأَحْسَنِ فَلَمْ يَدْخُلْ كَلَامُهُمْ فِي حَدِّ الْفَصَاحَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْكَأْسَ وَاعْتَبَرَ الْأَصْلَ قَالَ {وَكَأْسٍ مِنْ معين} فَذَكَرَ الشَّرَابَ

وَحَيْثُ ذَكَرَ الْمَصْنُوعَ وَلَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى الشَّرَابِ جَمَعَ فَقَالَ {وأكواب وأباريق} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ فَقَالَ {مِنْ فضة}

وَمِنْهَا إِفْرَادُ الصَّدِيقِ وَجَمْعُ الشَّافِعِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حميم} وَحِكْمَتُهُ كَثْرَةُ الشُّفَعَاءِ فِي الْعَادَةِ وَقِلَّةُ الصَّدِيقِ قال الزمخشري:

ص: 20

أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا امْتُحِنَ بِإِرْهَاقِ ظَالِمٍ نَهَضَتْ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ بِشَفَاعَتِهِ رَحْمَةً لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ بِأَكْثَرِهِمْ مَعْرِفَةٌ وَأَمَّا الصَّدِيقُ فَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّدِيقِ فَقَالَ اسْمٌ لَا مَعْنَى لَهُ

وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالصَّدِيقِ الْجَمْعَ

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ إِذَا قُلْتَ عَبِيدٌ وَنَخِيلٌ فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ قال الله تعالى: {وزرع ونخيل} وقال {وما ربك بظلام للعبيد} وحين ذكر المخاطبين منهم قال العباد ولذلك قَالَ حِينَ ذَكَرَ التَّمْرَ مِنَ النَّخِيلِ {وَالنَّخْلَ باسقات} و {أعجاز نخل منقعر} فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَاخْتِيَارِ الْكَلَامِ!

وَأَمَّا فِي مَذْهَبِ اللُّغَةِ فَلَمْ يُفَرِّقُوا هَذَا التَّفْرِيقَ وَلَا نَبَّهُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الدَّقِيقِ

وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْجَمْعَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قوله: {وله ذرية ضعفاء} وَقَالَ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضعافا} فَأَمَّا وَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَمْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ}

ص: 21

فَخَالَفَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي الْأَبْنَاءِ وَفِي سُورَةِ الأحزاب {ولا أبناء إخوانهن}

ومنه قوله تعالى: {أنبتت سبع سنابل} وفي موضع آخر {وسبع سنبلات} فَالْمَعْدُودُ وَاحِدٌ

وَقَدِ اخْتَلَفَ تَفْسِيرُهُ فَالْأَوَّلُ جَاءَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَالثَّانِي بِجَمْعِ الْقِلَّةِ

وَقَدْ قيلفي تَوْجِيهِهِ: إِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ سِيقَتْ فِي بَيَانِ الْمُضَاعَفَةِ وَالزِّيَادَةِ فَنَاسَبَ صِيغَةَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَآيَةَ يوسف لحظ فيها وَهُوَ قَلِيلٌ فَأَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ لِيُصَدِّقَ اللَّفْظُ الْمَعْنَى

تَنْبِيهٌ

جَمْعُ التَّكْسِيرِ يَشْمَلُ أُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ وَجَمْعُ السَّلَامَةِ يَخْتَصُّ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ بأولى الْعِلْمِ وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِهِمْ فَبِحُكْمِ الْإِلْحَاقِ وَالتَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} ،وَعَلَى هَذَا فَأَشْرَفُ الْجَمْعَيْنِ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَمَا يُجْمَعُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مِنْ مُذَكَّرِ غَيْرِ الْعَاقِلِ قَدْ يُتْبَعُ بِالصِّفَةِ الْمُفْرَدَةِ مُؤَنَّثَةً بِالتَّاءِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْخَبَرِ تَقُولُ: حُقُوقٌ مَعْقُودَةٌ وَأَعْمَالٌ مَحْسُوبَةٌ قَالَ تَعَالَى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مبثوثة}

وقال: {أياما معدودة}

وَقَدْ يُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي غَيْرِ الْمُفْرَدِ وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ إِلَّا أَنَّهُ فَصِيحٌ وَمِنْهُ {واذكروا الله في أيام معدودات}

ص: 22

قَاعِدَةٌ نَحْوِيَّةٌ

نُونُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي جَمْعِ العلاقات سَوَاءٌ الْقِلَّةُ كَالْهِنْدَاتِ أَوِ الْكَثْرَةُ كَالْهُنُودِ فَتَقُولُ الْهِنْدَاتُ يَقُمْنَ وَالْهُنُودُ يَقُمْنَ قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يرضعن} : {والمطلقات يتربصن} هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بالإفراد قال تعالى: {وأزواج مطهرة} وَلَمْ يَقُلْ مُطَهَّرَاتٌ

وَأَمَّا جَمْعُ غَيْرِ الْعَاقِلِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ

إِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ أَتَيْتَ بِضَمِيرِهِ مفردا فقلت الجذوع انكسرت وإن كان القلة أتيت جَمْعًا وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتاب الله} إلى أن قال {منها أربعة حرم} فَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا يَعُودُ إِلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُنَّ ثُمَّ قال سبحانه {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} فَهَذَا عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السِّرُّ فِي هَذَا حَيْثُ كَانَ يُؤْتَى مَعَ الْكَثْرَةِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ وَمَعَ الْقِلَّةِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَهَلَّا عَكَسَ قُلْنَا ذَكَرَ الْفَرَّاءُ لَهُ سِرًّا لَطِيفًا فَقَالَ لَمَّا كَانَ الْمُمَيَّزُ مَعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَاحِدًا وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَصِيرُ مُمَيَّزُهُ وَاحِدًا وهو أندرهم وَأَمَّا جَمْعُ الْقِلَّةِ فَمُمَيَّزُهُ جَمْعٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ ثلاثة دراهم أربعة دراهم وهكذا إلى العشر تَمْيِيزُهُ جَمْعٌ فَلِهَذَا أَعَادَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمُمَيَّزِ جَمْعًا وَإِفْرَادًا وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {سَبْعَةُ أبحر} فَأَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ وَلَمْ يَقُلْ بُحُورٌ لِتُنَاسِبَ نَظْمَ الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ فِي إِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ

ص: 23

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَأَضَافَ الثَّلَاثَةَ إِلَى الْقُرُوءِ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ قَالَ الْحَرِيرِيُّ الْمَعْنَى لِتَتَرَبَّصَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فَلَمَّا أَسْنَدَ إِلَى جَمَاعَتِهِنَّ وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةٌ أَتَى بِلَفْظِ قُرُوءٍ لِتَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُرَادَةِ وَالْمَعْنَى الْمَلْمُوحِ

قَاعِدَةٌ فِي الضَّمَائِرِ

وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي بَيَانِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُجَلَّدَيْنِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْأَوَّلُ: لِلْعُدُولِ إِلَى الضَّمَائِرِ أَسْبَابٌ:

مِنْهَا وَهُوَ أَصْلُ وَصْفِهَا لِلِاخْتِصَارِ وَلِهَذَا قَامَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وأجرا عظيما} مقام خمسة وعشرين لَوْ أَتَى بِهَا مُظْهَرَةً

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيٍّ أَنَّهُ لَيْسَ في كتاب آيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمَائِرَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا وَقَدْ قِيلَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا مَا بَيْنَ ضَمِيرٍ وَظَاهِرٍ وَمِنْهَا الْفَخَامَةُ بِشَأْنِ صَاحِبِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ لِفَرْطِ شُهْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتَفِي عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة الْقَدْرِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَوْلِهِ {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قلبك} وَمِنْهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ

ص: 24

وَمِنْهَا: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مبين} يَعْنِي الشَّيْطَانَ وَقَوْلِهِ {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ من حيث لا ترونهم}

{إنه ظن أن لن يحور}

الثَّانِي: الْأَصْلُ أَنْ يُقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، بِدَلِيلِ الْأَكْثَرِيَّةِ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بعضهم} فَأَخَرَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ

وَقَدْ قَسَّمَ النَّحْوِيُّونَ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ إِلَى أَقْسَامٍ

أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصْلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي اللَّفْظِ بِالْمُطَابَقَةِ نَحْوُ {وعصى آدم ربه فغوى}

{ونادى نوح ابنه}

{إذا أخرج يده لم يكد يراها}

وقوله {يستمعون القرآن فلما حضروه}

الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مُؤَخَّرٍ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٍ فِي النِّيَّةِ كقوله تعالى {فأوجس في نفسه خيفة}

ص: 25

وقوله: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}

وَقَوْلِهِ {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جان}

الثَّالِثُ: أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالتَّضَمُّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَدْلِ الْمَفْهُومِ مِنِ اعْدِلُوا

وَقَوْلِهِ {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عليه وإنه لفسق} فَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ لِلْأَكْلِ لِدَلَالَةِ تَأْكُلُوا

وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حضر القسمة} إلى قوله {فارزقوهم منه} أَيِ الْمَقْسُومُ لِدَلَالَةِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا

الرَّابِعُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ كَإِضْمَارِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فلولا إذا بلغت الحلقوم} {كلا إذا بلغت التراقي} أَضْمَرَ النَّفْسَ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْحُلْقُومِ وَالتَّرَاقِي عَلَيْهَا

وقوله {حتى توارت بالحجاب} يَعْنِي الشَّمْسَ

وَقِيلَ: بَلْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَهُوَ الْعَشِيُّ لِأَنَّ الْعَشِيَّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَالْمَعْنَى إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ

وَقِيلَ: فَاعِلُ تَوَارَتْ ضَمِيرُ الصَّافِنَاتِ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْفُتُوحَاتِ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ اتِّفَاقَ الضَّمَائِرِ أَوْلَى مِنْ تَخَالُفِهَا وَسَنَذْكُرُهُ فِي الثامن

ص: 26

وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جمعا} قِيلَ الضَّمِيرُ لِمَكَانِ الْإِغَارَةِ بِدَلَالَةِ وَالْعَادِيَاتِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَكَانٍ

وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أنزلناه في ليلة الْقَدْرِ} أُضْمِرَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان} فَـ" عُفِيَ" يَسْتَلْزِمُ عَافِيًا إِذْ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ وَأُعِيدَ الْهَاءُ مِنْ {إِلَيْهِ} عَلَيْهِ

الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَيُضْمَرُ ثِقَةً بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله {ما ترك على ظهرها من دابة} وقوله {كل من عليها فان} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ الضَّمِيرَ لِلدُّنْيَا وَقَالَ وَإِنْ لم يقدم لَهَا ذِكْرٌ لَكِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا وَالْبَعْضُ يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تهجرون} يَعْنِي الْقُرْآنَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَوْلُهُ قَالَ {هي راودتني عن نفسي} {يا أبت استأجره} {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُوصِيكُمُ الله في أولادكم عُلِمَ أَنَّ ثَمَّ مَيِّتًا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وقوله: {وإذا حضر القسمة} ثم قال {فارزقوهم منه} أَيْ مِنَ الْمَوْرُوثِ وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ ما سبق

ص: 27

وَقَوْلُهُ {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا} وَلَمْ يَقُلْ اتَّخَذَهُ رَدًّا لِلضَّمِيرِ إِلَى شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بَلْ كَانَ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ آيَاتِ اللَّهِ اسْتَهْزَأَ بِجَمِيعِهَا وَقِيلَ شَيْئًا بِمَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ آيَةٌ وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الصَّاحِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِاسْتِحْضَارِهِ بِالْمَذْكُورِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْأَيْدِي لِأَنَّهَا تُصَاحِبُ الْأَعْنَاقَ فِي الْأَغْلَالِ وَأَغْنَى ذِكْرُ الْأَغْلَالِ عَنْ ذِكْرِهَا

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا ينقص من عمره} أَيْ مِنْ عُمُرِ غَيْرِ الْمُعَمَّرِ فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ الْمُعَمَّرِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُعَمَّرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِتَقَابُلِهِمَا فَكَانَ يُصَاحِبُهُ الِاسْتِحْضَارُ الذِّهْنِيُّ

وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ لَهُ كقوله تعالى {فإن كن نساء} بعد قوله {يوصيكم الله في أولادكم}

وقوله {وبعولتهن أحق بردهن} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ مَعَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرُّجْعَى وَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ فِيهِ خِلَافٌ أُصُولِيٌّ وَقَوْلِهِ {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} فَإِنَّ الْفِضَّةَ بَعْضُ الْمَذْكُورِ فَأَغْنَى ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْجَمِيعِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} أَصْنَافُ مَا يُكْنَزُ

وَقَدْ يَعُودُ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ دُونَ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُعَمَّرُ من معمر ولا ينقص من عمره} وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ

ص: 28

وَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ في مرية من لقائه} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ

وَمِمَّا يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ {وَبُعُولَتُهُنَّ أحق بردهن} وَيُسْتَرَاحُ مِنْ إِلْزَامِ تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ

وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ {فَإِنْ كانتا اثنتين} وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظٌ مُثَنًّى يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ كَانَتَا قَالَ الْأَخْفَشُ إِنَّمَا يُثَنَّى لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَثَنَّى الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَيْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا فِي مَنْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا

وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِنَّمَا جَازَتْ مِنْ حَيْثُ كَانَ يُفِيدُ الْعَدَدُ مُجَرَّدًا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ السَّادِسُ أَلَّا يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ وَلَا مَعْلُومٍ بِالسِّيَاقِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْهُولُ الذي يلزمه بالتفسير بِجُمْلَةٍ أَوْ مُفْرَدٍ فَالْمُفْرَدُ فِي نِعْمَ وَبِئْسَ وَالْجُمْلَةُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ نَحْوُ هُوَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَيِ الشَّأْنُ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَوْلِهِ {لَكِنَّا هُوَ الله ربي}

وقوله {أنا الله}

وقوله {فإنها لا تعمى الأبصار} وَقَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا إِذَا كَانَ عَائِدُهُ مُؤَنَّثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مجرما فإن له جهنم} فذكر

ص: 29

الضَّمِيرَ مَعَ اشْتِمَالِ الْجُمْلَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ مؤنثة لأنها في حكم الفضلة إذا المعنى من يأت ربه مجرما يجز جَهَنَّمَ

تَنْبِيهٌ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْفَصْلَ يَكُونُ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ وَالْمُتَكَلِّمِ والمخاطب قال تعالى {هذا هو الحق} {كنت أنت الرقيب} {إن ترن أنا أقل منك مالا} وَيَكُونُ لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ يَكُونُ إِلَّا غَائِبًا وَيَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ وَمَنْصُوبَهُ قال تعالى: {قل هو الله أحد} {وأنه لما قام عبد الله}

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تعالى {وأتوا به متشابها} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنَظِيرُهُ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أَيْ بِجِنْسِ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} عَلَى الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْمُتَكَلَّمِ بِهِ لَوَحَّدَهُ

الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَدْ يُذْكَرُ شَيْئَانِ وَيُعَادُ الضَّمِيرُ عَلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ الْغَالِبُ كَوْنُهُ لِلثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وإنها لكبيرة} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ

ص: 30

وَقَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نورا وقدره منازل} وَالْأَصْلُ: قَدَّرَهُمَا لَكِنِ اكْتَفَى بِرُجُوعِ الضَّمِيرِ لِلْقَمَرِ لِوَجْهَيْنِ قُرْبِهِ مِنَ الضَّمِيرِ وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الشُّهُورُ وَيَكُونُ بِهِ حِسَابُهَا

وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْفِضَّةِ لِقُرْبِهَا

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمَكْنُوزِ وَهُوَ يَشْمَلُهَا.

وَقَوْلِهِ {وَاللَّهُ ورسوله أحق أن يرضوه} أَرَادَ يُرْضُوهُمَا فَخَصَّ الرَّسُولَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهُ هُوَ دَاعِي الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَالْمُخَاطِبُ لَهُمْ شِفَاهًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَذُكِرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ تَعْظِيمًا وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ الرَّسُولِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله ورسوله ليحكم بينهم} فَذُكِرَ اللَّهُ تَعْظِيمًا وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ رَسُولِهِ

ومثله قوله تعالى {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عنه}

وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو إثما ثم يرم به بريئا} أَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْإِثْمِ لِقُرْبِهِ وَيَجُوزُ رُجُوعُهُ إِلَى الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ عَلَى لَفْظِهَا بِتَأْوِيلِ وَمَنْ يَكْسِبُ إثما ثم يرم به.

وقال الْأَنْبَارِيِّ: وَلَمْ يُؤْثَرُ الْأَوَّلُ بِالْعَائِدِ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} معناه إِلَيْهِمَا فَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ الِانْفِضَاضِ عَنْهُ وَهُوَ يَخْطُبُ قَالَ فَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَإِنَّهَا تَارَةً تُؤْثِرُ الثَّانِيَ بِالْعَائِدِ وَتَارَةً الْأَوَّلَ فَتَقُولُ إِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلَةٌ وَإِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلٌ

ص: 31

قُلْتُ: لَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَقَوْلُهُ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يرم به بريئا} لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَحَدِهِمَا لِوُجُودِ لَفْظِهِ أَوْ هِيَ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فَمَنْ جَعَلَهُ نَظِيرَ هَذَا فَلَمْ يُصِبْ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ

وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ وَمُؤَنَّثَةً لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِقُلُوبِ الْعِبَادِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا أَكْثَرُ مِنَ اللَّهْوِ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لِقُدُومِهَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَأَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْإِثْمِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذَكُّرِ

الْخَامِسُ: قَدْ يَذْكُرُ شَيْئَانِ وَيَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ فِي المعنى كقوله تعالى {وكنا لحكمهم شاهدين} يعني حكم سليمان وداود وقوله {أولئك مبرأون مما يقولون} فَأَوْقَعَ أُولَئِكَ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ

الْبَحْثُ السَّادِسُ: قَدْ يُثَنَّى الضَّمِيرُ ويعود عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللؤلؤ والمرجان} قَالُوا: وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَقَوْلِهِ {نَسِيَا حوتهما} وَإِنَّمَا نَسِيَهُ الْفَتَى

ص: 32

السَّابِعُ: قَدْ يَجِيءُ الضَّمِيرُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَهُوَ لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي آدَمَ ثُمَّ قَالَ {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فَهَذَا لِوَلَدِهِ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء إن تبد لكم تسؤكم} قِيلَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ حُذَافَةَ حِينَ قَالَ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَبِي؟: قَالَ: حُذَافَةُ " فَكَانَ نَسَبُهُ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ {لا تسألوا عن أشياء} وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَجِّ حِينَ قَالُوا أَفِي كل مرة ثم قال وإن تسألوا عنها يُرِيدُ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ دِينِكُمْ بِكُمْ إِلَى عِلْمِهَا حَاجَةٌ تَبْدُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ طَلَبَهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا طَلَبٌ فَلَيْسَتِ الْهَاءُ رَاجِعَةً لِأَشْيَاءَ مُتَقَدِّمَةٍ بَلْ لِأَشْيَاءَ أُخَرَ مَفْهُومَةٍ من قوله {لا تسألوا عن أشياء} وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى أَشْيَاءَ مَذْكُورَةٍ لَتَعَدَّى إِلَيْهَا بِـ "عَنْ" لَا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَا مَفْعُولٌ بِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين من قبل} يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ هو عائد لإبراهيم لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {وَفِي هَذَا} رَاجِعٌ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا هُوَ قَالَهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَعْنِي {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قبل} يَعْنِي فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْمَعْنَى جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَهُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ لِتَكُونُوا أَيْ سَمَّاكُمْ وَجَعَلَكُمْ مُسْلِمِينَ لِتَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَوْلُهُ {ملة أبيكم إبراهيم} منصوب بتقدير اتبعوا لأن هذا

ص: 33

لناصب نَصَبَهُ قَوْلُهُ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي سُورَةِ يس مَوْضِعَانِ تَوَهَّمَ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هم مظلمون} فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُمْ رَاجِعٌ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهَارَ لَيْسَ مُظْلِمًا وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَانِ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ إِنَّمَا الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ وَ {مظلمون} داخلو الظلام كقولك مصبحون وممسون إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ العليم} يظن بعضهم أن معناه مثل السموات والأرض وهو فاسد لوجهين أحدهما أنهم ما أنكروا إعادة السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِعَادَتَهُمَا بِابْتِدَائِهِمَا وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا إِعَادَةَ أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ لِيَتَحَقَّقَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ الثَّانِي لِتَبَيُّنِ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ {وَلَمْ يَعْيَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى} فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَثْبَتَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ مِثْلِهِمْ لَا عَلَى إِعَادَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِمْ قُلْنَا الْمُرَادُ بِمِثْلِهِمْ هُمْ كَمَا في قوله {ليس كمثله شيء} وَقَوْلِهِمْ مِثْلِي لَا يَفْعَلُ كَذَا أَيْ أَنَا وَبِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَوْلُهُ {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قَدْ يُتَوَهَّمُ عَوْدُهُ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ

ص: 34

وَإِلَّا لَنُصِبَ الْعَمَلُ كَمَا تَقُولُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرًا يَضْرِبُهُ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالْهَاءُ لِلْكَلِمِ قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي التذكرة الْمَنْصُوبُ فِي يَرْفَعُهُ عَائِدٌ لِلْكَلِمِ لِأَنَّ الْكَلِمَ جَمْعُ كَلِمَةٍ قَالَ كَلِمٌ كَالشَّجَرِ فِي أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِالْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ {مِنَ الشَّجَرِ الأخضر} وَكَذَلِكَ وُصِفَ الْكَلِمُ بِالطَّيِّبِ وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدًا إِلَى الْعَمَلِ لَكَانَ مَنْصُوبًا فِي هَذَا الْوَجْهِ وَمَا جَاءَ التَّنْزِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أليما} وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى قَوْلِهِ {يَصْعَدُ} وَيُضْمَرُ لَهُ فِعْلٌ نَاصِبٌ كَمَا أُضْمِرَتْ لِقَوْلِهِ {وَالظَّالِمِينَ} وَالْمَعْنَى يَرْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ وَمَعْنَى يُرْفَعُ الْعَمَلُ أَنَّهُ لَا يُحْبَطُ ثَوَابُهُ فَيُرْفَعُ لِصَاحِبِهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْعَمَلِ السيء الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ الْإِحْبَاطُ فَلَا يُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ

الثَّامِنُ: إِذَا اجْتَمَعَ ضَمَائِرُ فَحَيْثُ أَمْكَنَ عَوْدُهَا لِوَاحِدٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهَا لِمُخْتَلِفٍ وَلِهَذَا لَمَّا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} إِلَخْ أَنَّ الضمير في {فاقذفيه في اليم} ل لتابوت وَمَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ لِمُوسَى عَابَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَعَلَهُ تَنَافُرًا وَمُخْرِجًا لِلْقُرْآنِ عَنْ إِعْجَازِهِ فَقَالَ وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ لِمَا يؤدي إليه من تنافر النظر

فَإِنْ قُلْتَ: الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ

ص: 35

قُلْتُ: مَا ضَرَّكَ لَوْ جَعَلْتَ الْمَقْذُوفَ وَالْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ هُوَ مُوسَى فِي جَوْفِ التَّابُوتِ حَتَّى لَا تُفَرِّقَ الضَّمَائِرَ فَيَتَنَافَرَ عَلَيْكَ النَّظْمُ الذي هو قوام إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ انْتَهَى وَلَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِهِ

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} الضَّمَائِرُ لِلَّهِ عز وجل وَالْمُرَادُ بِتَعْزِيزِ اللَّهِ تَعْزِيزُ دِينِهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ فَرَّقَ الضَّمَائِرَ فَقَدْ أَبْعَدَ أَيْ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا لِلرَّسُولِ إِلَّا الْأَخِيرَ لَكِنْ قَدْ يَقْتَضِي الْمَعْنَى التَّخَالُفَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أحدا} الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي فِيهِمْ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي مِنْهُمْ لِلْيَهُودِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} بعد قوله {إنما سلطانه}

وقوله {وما بلغوا معشار ما آتيناهم}

وقوله {وعمروها أكثر مما عمروها} أَيْ عَمَرُوا الْأَرْضَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ قُرَيْشٍ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَتْهَا قُرَيْشٌ وَقَوْلِهِ {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فقد نصره الله} الْآيَةُ فِيهَا اثْنَا عَشَرَ ضَمِيرًا، خَمْسَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ وَالثَّالِثُ ضَمِيرٌ فِي {الْغَارِ} لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَارٍ مَحْذُوفٍ

ص: 36

فَيَحْتَمِلُ ضَمِيرًا وَالرَّابِعُ: {صَاحِبُهُ} وَالْخَامِسُ: {لَا تَحْزَنْ} وَالسَّادِسُ: {مَعَنَا} وَالسَّابِعُ فِي {عَلَيْهِ} عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ لِأَنَّ السَّكِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَائِمًا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ إذا كَانَ خُرُوجُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ أنزل الله سكينته على رسوله} فَالسَّكِينَةُ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَخْفَ عَلَى نَفْسِهِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا مِنْ أَجْلِهِ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} قيل الضميران عائدان على يُوسُفَ قَالَ لِلنَّاجِي ذَكِّرِ الْمَلِكَ بِأَمْرِي

وَرَجَّحَ ابْنُ السِّيدِ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِي نجا منهما وادكر بعد أمة} أَيْ بَعْدَ حِينٍ

وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ بَعْدَ "أَمَهٍ" بِالتَّخْفِيفِ أَيْ نِسْيَانٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِيَذْكُرَ تَذَكُّرَ الْفَتَى بَعْدَ النِّسْيَانِ وَالذِّكْرُ عَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ وَيَكُونَ مَصْدَرَ ذَكَرْتُهُ ذِكْرًا فَالتَّقْدِيرُ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فَأَضَافَ الذِّكْرَ إِلَى الرَّبِّ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ يُوسُفَ وَجَازَ ذَلِكَ لِمُلَاءَمَتِهِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يُخَالَفُ بَيْنَ الضَّمَائِرِ حَذَرًا مِنَ التَّنَافُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {منها أربعة حرم} كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ قال {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} لما أعاد عَلَى أَرْبَعَةٍ وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ

وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ عَوْدَهُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا بَلْ هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَيُبِيحَ الظُّلْمَ فِي الثَّمَانِيَةِ بَلْ تَرْكُ الظُّلْمِ فِي الْكُلِّ وَاجِبٌ

ص: 37

قُلْتُ: لَكِنْ يَجُوزُ التَّنْصِيصُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْحُرُمِ فَإِنَّ الظُّلْمَ قَبِيحٌ مُطْلَقًا وَفِيهِنَّ أَقْبَحُ فَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ

التَّاسِعُ: قَدْ يَسُدُّ مَسَدَّ الضَّمِيرِ أُمُورٌ:

مِنْهَا الْإِشَارَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولا}

وَمِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}

وقوله {نجب دعوتك ونتبع الرسل} أَيْ رُسُلَكَ

وَقَوْلِهِ {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أَصْلُ الْكَلَامِ أَجْرَهُ وَصَبْرَهُ وَلَمَّا كَانَ الْمُحْسِنُونَ جنسا ومن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ وَاحِدٌ تَحْتَهُ أَغْنَى عُمُومُهُ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ

وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ.

قَالَ: ابْنُ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} وزعم الزمخشري أَنَّ الْأَبْوَابَ بَدَلٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِي مُفَتَّحَةً

وَهَذَا تَكَلُّفٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَبْوَابُ مُرْتَفِعَةً بمفتحة الْمَذْكُورِ أَوْ بِمِثْلِهِ مُقَدَّرًا وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مُفَتَّحَةً صَالِحٌ لِلْعَمَلِ فِي الْأَبْوَابِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِبْدَالٍ أَيْضًا

ص: 38

وَمِنْهَا الِاسْمُ الظَّاهِرُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِضْمَارَ فَيُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ التَّأْكِيدِ

الْعَاشِرُ: الْأَصْلُ فِي الضَّمِيرِ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَلَنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ وَذُكِرَ بَعْدَهُمَا ضَمِيرٌ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَحْوَ لَقِيتُ غُلَامَ زَيْدٍ فَأَكْرَمْتُهُ فَالضَّمِيرُ لِلْغُلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}

وَعِنْدَ التَّعَارُضِ رَاعَى ابْنُ حَزْمٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ فَقَالَا إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {أَوْ لحم خنزير فإنه رجس} يَعُودُ عَلَى الْخِنْزِيرِ دُونَ لَحْمِهِ لِقُرْبِهِ وَقَوَّاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ مُطَّرِدٍ فَقَدْ يَعُودُ إِلَى المضاف إليه كقوله تعالى {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون}

وَكَذَا الصِّفَةُ فَإِنَّهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إني أرى سبع بقرات سمان}

وَلِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا: وَكَذَا عَوْدُهُ لِلْأَقْرَبِ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَقَدْ يَخْرُجُ عَنِ الْأَصْلِ لِدَلِيلٍ وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلَانِ تَسَاقَطَا وَنُظِرَ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ بَلْ قَدْ يُقَالُ عَوْدُهُ إِلَى مَا فِيهِ الْعَمَلُ بِهِمَا أَوْلَى كَمَا يَقُولُهُ الْمَاوَرْدِيُّ إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَوْجُودٌ فِيهِ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لها خاضعين} فأخبر خَاضِعِينَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَلَوْ أَخْبَرَ عَنِ المضاف لقال خاضعة

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فقد عاد

ص: 39

الضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُوسَى وَالظَّنُّ بِفِرْعَوْنَ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى نَفْسَهُ قَدْ غَلِطَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ {إِلَهِ مُوسَى} اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا

الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا عُطِفَ بِـ "أَوْ" وَجَبَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ نَحْوَ إِنْ جَاءَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَأَكْرِمْهُ لِأَنَّ "أَوْ" لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أولى بهما} فَقِيلَ إِنَّ "أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ بَلِ الْمَعْنَى إِنْ يَكُنِ الْخَصْمَانِ فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْنَى

وَقِيلَ: لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلْعَطْفِ وَعَكْسُ هَذَا إِذَا عُطِفَ بِالْوَاوِ وَجَبَ تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ

فَائِدَةٌ

قَوْلُهُ {إِلَّا عشية أو ضحاها} أي ضحى يَوْمِهَا فَدَلَّ بِالْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ

قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: وَإِنَّمَا أَضَافَ الضُّحَى إِلَى نَهَارِ الْعَشِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ لَمْ يَحْسُنِ التَّرْدِيدُ بِـ "أَوْ" لِأَنَّ عَشِيَّةَ كُلِّ نَهَارٍ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْغُرُوبِ وَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ وَضُحَاهَا مِقْدَارُ رُبْعِهِ مَثَلًا وَهُوَ مِقْدَارُ نِصْفِ الْعَشِيَّةِ فَلَمَّا أَضَافَهُ إِلَى نَهَارِهَا عُلِمَ تَقَارُبُهُمَا فَحَسُنَ التَّرْدِيدُ لِإِفَادَتِهِ التَّرْدِيدَ بَيْنَ اللُّبْثِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَلَوْ أَطْلَقَهُ لَجَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَشِيَّةُ نَهَارٍ قَصِيرٍ وَضُحَى يَوْمٍ طَوِيلٍ فَتَسَاوَى ذَلِكَ الضُّحَى بِالْعَشِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ التَّرْدِيدُ بينهما

ص: 40

فَإِنْ قِيلَ"كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ {لَمْ يلبثوا إلا ساعة من نهار} وَهُوَ الْجُزْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الزَّمَانِ وَبَيْنَ الضُّحَى وَالْعَشِيَّةِ؟ وَكَيْفَ حَسُنَ التَّرْدِيدِ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْحِسَابَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ طويلا ومنهم من يحسبه قصيرا قال تَعَالَى {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} ثُمَّ قَالَ {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لبثتم إلا يوما}

وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَخِفَّتِهِ وَلَبِثْتُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَرْزَخِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ

فَائِدَةٌ

وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ {أَهَذَا الذي بعث الله رسولا} أَيْ بَعَثَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يتوفون منكم} إِلَى قَوْلِهِ {يَتَرَبَّصْنَ} إِذَا جَعَلْنَاهُ الْخَبَرَ فَالْأَصْلُ يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فَوَضَعَ الضَّمِيرَ مَوْضِعَ الْأَزْوَاجِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِنَّ فَأَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ

فَائِدَةٌ

الْمُضْمَرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الظَّاهِرِ لَفْظًا أَوْ مَرْتَبَةً أَوْ لَفْظًا وَمَرْتَبَةً وَلَا يَكُونُ قَبْلَ الظَّاهِرِ لَفْظًا وَمَرْتَبَةً إِلَّا فِي أَبْوَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ كَمَا سَبَقَ وَبَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ كَقَوْلِهِ تعالى {فنعما هي} و {ساء مثلا} وَالضَّمِيرِ فِي رُبَّهُ رَجُلًا وَبَابِ الْإِعْمَالِ إِذَا أعملت

ص: 41

الثَّانِيَ وَالْأَوَّلُ يَطْلُبُ عُمْدَةً فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّكَ تُضْمِرُ فِي الْأَوَّلِ فَتَقُولُ ضَرَبُونِي وَضَرَبْتُ الزَّيْدَيْنِ

فَائِدَةٌ

الضَّمِيرُ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَى مُشَاهَدٍ مَحْسُوسٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَابِقًا فِي عِلْمِ اللَّهِ كَوْنُهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدِ الْمَوْجُودِ فَصَحَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ

وَقِيلَ: بَلْ يَرْجِعُ لِلْقَضَاءِ لِدَلَالَةِ قَضَى عَلَيْهِ وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّهُ لحب الخير لشديد} أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ

قَاعِدَةٌ

فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ

الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ إِذَا كَانَ السُّؤَالُ مُتَوَجِّهًا وَقَدْ يُعْدَلُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا يَقْتَضِيهِ السُّؤَالُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَيُسَمِّيهِ السَّكَّاكِيُّ الْأُسْلُوبُ الْحَكِيمُ

وَقَدْ يَجِيءُ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السُّؤَالِ وَأَغْفَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ

وَقَدْ يَجِيءُ أَنْقَصَ لضرورة الحال

ص: 42

مِثَالُ: مَا عُدِلَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فَعَدَلَ عَنِ الْجَوَابِ لَمَّا قَالُوا مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَمْتَلِئَ وَيَسْتَوِيَ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ فَأُجِيبُوا بما أجيبوا به لينتهوا عَلَى أَنَّ الْأَهَمَّ مَا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَنْهُ

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابن السبيل} سَأَلُوا عَمَّا يُنْفِقُونَ فَأُجِيبُوا بِبَيَانِ الْمَصْرِفِ تَنْزِيلًا لِسُؤَالِهِمْ مَنْزِلَةَ سُؤَالِ غَيْرِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ {قُلْ مَا أنفقتم من خير} بَيَانَ مَا يُنْفِقُونَهُ وَهُوَ خَيْرٌ ثُمَّ زِيدُوا عَلَى الْجَوَابِ بَيَانَ الْمَصْرِفِ

وَنَظِيرُهُ {وَمَا تِلْكَ بيمينك يا موسى} فَيَكُونُ طَابَقَ وَزَادَ نَعَمْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَهُ مَالٌ عَظِيمٌ فَقَالَ مَاذَا أُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا؟ وَأَيْنَ نَضَعُهَا؟ فَنَزَلَتْ فَعَلَى هَذَا لَيْسَتِ الْآيَةُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِغَيْرِ مَا يَطْلُبُ بَلْ أُجِيبَ بِبَعْضِ مَا سَأَلَ عَنْهُ

وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ كَانَ سُؤَالًا عَنِ النَّفَقَةِ إِلَى مَنْ تُصْرَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ وَالْجَوَابُ يَخْرُجُ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ وَأَمَّا هَذَا السُّؤَالُ الثَّانِي فَعَنْ قَدْرِ الْإِنْفَاقِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ أَيْضًا

وَمِنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةُ مُوسَى عليه السلام لِفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ فِرْعَوْنُ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لِأَنَّ "مَا" سُؤَالٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ أَوْ عَنِ الْجِنْسِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ خَطَأً لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ لَيْسَ تُرَى مَاهِيَّتُهُ فَتُبَيَّنُ وَلَا جنس له

ص: 43

فَيُذْكَرُ عَدَلَ الْكَلِيمُ عَنْ مَقْصُودِ السَّائِلِ إِلَى الجواب بما يعرف الصواب عِنْدَ كَيْفِيَّةِ الْخِطَابِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَرَيَانَ مَعَهُ فَأَجَابَهُ بِالْوَصْفِ الْمُنَبِّهِ عَنِ الظَّنِّ الْمُؤَدِّي لِمَعْرِفَتِهِ لكنه لما لم يطابق السؤال عنه فِرْعَوْنَ لِجَهْلِهِ وَاعْتَقَدَ الْجَوَابَ خَطَأً {قَالَ لِمَنْ حوله ألا تستمعون} فَأَجَابَهُ الْكَلِيمُ بِجَوَابٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ وَيَتَضَمَّنُ الْإِبْطَالَ لِعَيْنِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ بقوله {ربكم ورب آبائكم الأولين} فَأَجَابَ بِالْأَغْلَظِ وَهُوَ ذِكْرُ الرُّبُوبِيَّةِ لِكُلِّ مَا هو من عالمهم نصا وَلَمَّا لَمْ يَرَهُمْ مُوسَى عليه السلام تَفَطَّنُوا غَلُظَ عَلَيْهِمْ فِي الثَّالِثَةِ، بِقَوْلِهِ:{إِنْ كُنْتُمْ تعقلون} فَكَأَنَّهُ شَكَّ فِي حُصُولِ عَقْلِهِمْ

فَإِنْ قِيلَ: قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام} وَلَمْ يَقُلْ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْقِتَالِ فِيهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى!

وَقِيلَ: لَمْ يَقَعِ السؤال إلا بعد القتال فَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِالسُّؤَالِ عَنْ هَذَا الشَّهْرِ هَلْ أُبِيحَ فِيهِ الْقِتَالُ وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ وَلَمْ يقل هو كبير ليعلم حكم قِتَالٍ وَقَعَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ

وَقَدْ يُعْدَلُ عَنِ الْجَوَابِ إِذَا كَانَ السَّائِلُ قَصْدُهُ التَّعَنُّتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ من أمر ربي} فَذَكَرَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا سَأَلُوا تَعْجِيزًا وَتَغْلِيظًا إِذَا كَانَ الرُّوحُ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَجِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ الرُّوحُ وَصِنْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى فَقَصَدَ الْيَهُودُ أَنْ يَسْأَلُوهُ فَبِأَيٍّ يُسَمَّى أَجَابَهُمْ قَالُوا لَيْسَ هُوَ فَجَاءَهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا فَكَانَ هَذَا الْإِجْمَالُ كَيْدًا يُرْسِلُ به كيدهم

ص: 44

وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ: هَلْ هِيَ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ أَمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؟ فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ جَوَابٌ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ ذَلِكَ أَوْ يَقُولَ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ فِعْلِهِ وَخَلْقِهِ

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَحِينَئِذٍ فَوَقَعَ الْجَوَابُ مَوْقِعَهُ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ الرُّوحُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ يَجْعَلُهُ دَلَالَةً وَعِلْمًا عَلَى صِدْقِهِ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِمْ

وَحَكَاهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي الْغُرَرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} فكأنه قال تعالى إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَلَوْ شَاءَ لَرَفَعَهُ

وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وما تلك بيمينك يا موسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} فَإِنَّهُ عليه السلام فَهِمَ أَنَّ السُّؤَالَ يَعْقُبُهُ أمر عظيم يحدثه الله فِي الْعَصَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّهَ لِصِفَاتِهَا حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَكَذَا قَوْلُهُ {وما تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} وَحَسَّنَهُ إِظْهَارُ الِابْتِهَاجِ بِعِبَادَتِهَا وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى مُوَاظَبَتِهَا لِيَزْدَادَ غَيْظُ السَّائِلِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ منها ومن كل كرب} بَعْدَ قَوْلِهِ {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البر والبحر تدعونه تضرعا} الْآيَةَ وَلَوْلَا قَصْدُ بَسْطِ الْكَلَامِ لِيُشَاكِلَ مَا تَقَدَّمَ لَقَالَ: "يُنَجِّيكُمُ اللَّهُ"

ص: 45

وَمِثَالُ النُّقْصَانِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أن أبدله من تلقاء نفسي} أَيِ ائْتِ بِقُرْآنٍ لَيْسَ فِيهِ سَبُّ آلِهَتِنَا أو بدله بأن تجعل مكان آية العذاب آية الرحمة وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ آلِهَتِنَا فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ وَطَوَى الْجَوَابَ عَنِ الِاخْتِرَاعِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِي إِمْكَانِ الْبَشَرِ بِخِلَافِ الِاخْتِرَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَقْدُورِ فَطَوَى ذِكْرَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ مُحَالٌ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّبْدِيلَ قَرِيبٌ مِنَ الِاخْتِرَاعِ فَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى جَوَابٍ وَاحِدٍ لَهُمَا وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّبْدِيلُ أَسْهَلَ مِنَ الِاخْتِرَاعِ وَقَدْ نَفَى إِمْكَانَ التَّبْدِيلِ كَانَ الِاخْتِرَاعُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى

فَائِدَةٌ

قِيلَ أَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُعَادَ فِي نَفْسِ سُؤَالِ السَّائِلِ لِيَكُونَ وَفْقَ السَّائِلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أإنك لأنت يوسف قال أنا يُوسُفَ} وَأَنَا فِي جَوَابِهِ عليه السلام هُوَ أنت في سؤالهم

قال {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} فَهَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا عِوَضَ ذَلِكَ مَحْذُوفَ الْجَوَابِ اخْتِصَارًا وَتَرْكًا لِلتَّكْرَارِ

وَقَدْ يُحْذَفُ السُّؤَالُ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ بِتَقْدِيرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هَلْ مِنْ

ص: 46

شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يبدأ الخلق ثم يعيده} فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ {قُلِ اللَّهُ} جَوَابَ سُؤَالٍ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا لَمَّا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ {من يبدأ الخلق ثم يعيده} فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ عز وجل {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فَتَرَكَ ذِكْرَ السُّؤَالِ

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قل الله يهدي للحق}

قَاعِدَةٌ

الْأَصْلُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُشَاكِلًا لِلسُّؤَالِ فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قَوْلِكَ مَنْ قَرَأَ فَتَقُولُ زَيْدٌ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْفِعْلِ عَلَى جَعْلِ الْجَوَابِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً قَالَ وَإِنَّمَا قَدَّرْتُهُ كَذَلِكَ لَا مُبْتَدَأً مَعَ احْتِمَالِهِ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْأَجْوِبَةِ إِذَا قَصَدُوا تَمَامَهَا قَالَ تَعَالَى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أنشأها}

ومثله {خلقهن العزيز العليم} {قل أحل لكم الطيبات} فَلَمَّا أَتَى بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ مَعَ فَوَاتِ مُشَاكَلَةِ السُّؤَالِ عُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْفِعْلِ أَوَّلًا أَوْلَى انْتَهَى

وَمِمَّا رُجِّحَ بِهِ أَيْضًا تَقْدِيرُ الْفِعْلِ أَنَّهُ حَيْثُ صَرَّحَ بِالْجُزْءِ الْأَخِيرِ صَرَّحَ بِالْفِعْلِ

ص: 47

وَالتَّشَاكُلُ لَيْسَ وَاجِبًا بَلِ اللَّائِقُ كَوْنُ زَيْدٍ فَاعِلًا أَيْ قَرَأَ زَيْدٌ أَوْ خَبَرًا أَيِ الْقَارِئُ زَيْدٌ لَا مُبْتَدَأَ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأُولَى: التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَوْ حَذْفُهُ؟ وَهَلْ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ؟

وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ يَعِيشَ التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ أَجْوَدُ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلِ الْأَكْثَرُ الْحَذْفُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى {قل أحل لكم الطيبات} {ليقولن خلقهن العزيز العليم} {قل يحييها الذي أنشأها} فَكَانَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمُرَحِّلِ رحمه الله يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا لِنُكْتَةٍ

وَفِيهِ نَظَرٌ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ مَنْ جَاءَ فَقُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً وَلَوْ قُلْتَ زَيْدٌ كَانَ نَصًّا فِي أَنَّهُ جَوَابٌ وَفِي الْعُمُومِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مَنْ وَكَأَنَّكَ قُلْتَ الَّذِي جَاءَ زَيْدٌ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ وَهَاتَانِ الْفَائِدَتَانِ إِنَّمَا حَصَلَتَا مِنَ الْحَذْفِ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِمَنِ الملك اليوم لله الواحد القهار} إِذِ التَّقْدِيرُ الْمُلْكُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ مِنَ الْجَوَابِ إِذِ الْمَعْنَى لَا مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ

وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِمَنِ الْأَرْضُ ومن فيها} {لمن ما في السماوات والأرض} {قل من يرزقكم من السماوات والأرض}

وَمِنَ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}

ص: 48

وَلَعَلَّهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ {قُلْ من رب السماوات السبع} وقوله {خلقهن العزيز العليم} لِأَنَّ ظَاهِرَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَطِّلَةً وَدَهْرِيَّةً فَأُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ

وَقَوْلُهُ: {نبأني العليم الخبير} لِأَنَّهَا اسْتَغْرَبَتْ حُصُولَ النَّبَأِ الَّذِي أَسَرَّتْهُ

وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ أَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ زَيْدًا فَاعِلٌ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي جواب مَنْ قَامَ عَلَى تَقْدِيرِ قَامَ زَيْدٌ وَالَّذِي يُوجِبُهُ جَمَاعَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ لِوَجْهَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْجُمْلَةِ الْمَسْئُولِ بِهَا فِي الِاسْمِيَّةِ كَمَا وَقَعَ التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} في الجملة الفعلية وإنما لم يقطع التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا أساطير الأولين} لأنهم لو طبقوا لَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِنْزَالِ وَهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ بِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ الثَّانِي: أَنَّ اللَّبْسَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ السَّائِلِ إِلَّا فِيمَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَرَضِ السَّائِلِ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ فَحَرِيٌّ أَنْ يَقَعَ فِي الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْمِلَاتِ وَالْفَضَلَاتِ

وكذلك: أَزَيْدٌ قَامَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَالْوَجْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ قَامَ أَوْ عَمْرٌو قَامَ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي جَوَابِ:

ص: 49

{أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا} فَإِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْفَاعِلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَ الْجَوَابُ بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوا عَنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ بَلْ كَانَ عَنِ الشَّخْصِ الْكَاسِرِ لَهَا

وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا بَعْدَ بَلْ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِلْهَمْزَةِ فَإِنَّ بل لا يصلح أَنْ يُصَدَّرَ بِهَا الْكَلَامُ وَلِأَنَّ جَوَابَ الْهَمْزَةِ بنعم أو بلى فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَقَالَ مَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا تَقْدِيرَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ

فَإِنْ قُلْتَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنْ يَكُونَ الْخُلْفُ وَاقِعًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا الْمُقَدَّرَةِ وَالْمَعْطُوفَةِ الْمَلْفُوظِ بِهَا بَعْدَ بَلْ

قُلْتُ: وَإِنَّهُ لَازِمٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا أَنَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا مَعَ زِيَادَتِهِ بِالْخُلْفِ عَمَّا أفادته الجملة الأولى من التعريض إذا مَنْطُوقُهَا نَفْيُ الْفِعْلِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَمَفْهُومُهَا إِثْبَاتُ حُصُولِ التَّكْسِيرِ مِنْ غَيْرِهِ

فَإِنْ قلت: ولابد مِنْ ذِكْرِ مَا يَكُونُ مَخْلَصًا عَنِ الْخُلْفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ

فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ فِي التَّعْرِيضِ مَخْلَصًا عَنِ الْكَذِبِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ عليه السلام أَنْ يَنْسِبَ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ إِلَى الصَّنَمِ حَقِيقَةً بَلْ قَصْدُهُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ لِيَحْصُلَ غَرَضُهُ مِنَ التَّبْكِيتِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُثْبِتٌ مُعْتَرِفٌ لِنَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ

وَالثَّانِي: إِنَّهُ غَضِبَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ غَيْرَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمَّا كَانُوا لِأَكْبَرِهَا أَشَدَّ تَعْظِيمًا كَانَ مِنْهُ أَشَدَّ غَضَبًا فَحَمَلَهُ ذلك على تكسيرها وذلك كله حامل لِلْقَوْمِ عَلَى الْأَنَفَةِ

ص: 50

أَنْ يَعْبُدُوهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخُصُّوهُ بِزِيَادَةِ التعظيم ومنبه لَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَسِّرَةَ مُتَمَكِّنٌ فِيهَا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ مُنَادًى عَلَيْهَا بِالْفَنَاءِ مُنْسَلِخَةٌ عَنْ رِبْقَةِ الدَّفْعِ فَضْلًا عَنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ حَقِيقٌ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ لَا التَّوْقِيرِ وَالْفِعْلُ يُنْسَبُ إِلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالسَّبَبِ إِذْ لِلْفِعْلِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ تَعَلُّقَاتٌ وَمُلَابَسَاتٌ يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عليه السلام مِنْهُمْ بَادِرَةَ تَعْظِيمِ الْأَكْبَرِ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ مِنْ بَاقِي الْأَصْنَامِ وَعَلِمَ أَنَّ مَا هَذَا شَأْنَهُ يُصَانُ أَنْ يَشْتَرِكَ مَعَهُ مِنْ دُونِهِ فِي التَّبْجِيلِ وَالتَّكْبِيرِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى تَكْسِيرِهَا مُنَبِّهًا لهم على أن الله أَغْيَرُ وَعَلَى تَمْحِيقِ الْأَكْبَرِ أَقْدَرُ وَحَرِيٌّ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ فَلَمَّا كَانَ الْكَبِيرُ هُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَكْسِيرِ الصَّغِيرِ صَحَّتِ النِّسْبَةُ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَلَفَ وَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إِذْ وَضَعْتُمُ الْعِبَادَةَ بِغَيْرِ مَوْضِعِهَا

وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ فَالْأَكْثَرُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْجَوَابِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْمِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُضْمَرًا فَوَجَبَ التَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ لِضَعْفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يُلْفَظَ بِهِ

وَهُوَ مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال رجال} فِيمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُسَبِّحُهُ فَقِيلَ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ وَنَظِيرُهُ ضُرِبَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَى بِنَاءِ ضُرِبَ لِلْمَفْعُولِ نَعَمُ الْأَوْلَى ذِكْرُ الْفِعْلِ لِمَا ذُكِرَ وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظٍ قَالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ نَحْوُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فقالوا سلاما قال

ص: 51

سلام} كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ لَهُمْ؟ {قَالَ أَلَا تأكلون} وَلِذَلِكَ قَالُوا لَا تَخَفْ

وَعَلَى هَذِهِ السِّيَاقَةِ تَخْرُجُ قِصَّةُ مُوسَى عليه السلام فِي قَوْلِهِ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السماوات والأرض} إلى قوله {إن كنت من الصادقين}

وَعَلَى هَذَا كُلُّ كَلَامٍ جَاءَ فِيهِ لَفْظَةُ قَالَ هَذَا الْمَجِيءَ غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْضَحُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قوم} فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ {فَمَا خطبكم أيها المرسلون}

وَمِثْلُهُ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءها المرسلون} إِلَى قَوْلِهِ {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}

فائدة

في أن أقل الأمم سؤالا أمة محمد عليه السلام

نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا فَأُجِيبُوا

قَالَ الْإِمَامُ: ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ {وَإِذَا سَأَلَكَ عبادي عني} {يسألونك عن

ص: 52

الأهلة} وَالْبَاقِي سِتَّةٌ فِيهَا وَالتَّاسِعَةُ {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم} في المائدة

والعاشرة: {يسألونك عن الْأَنْفَالِ}

الْحَادِي عَشَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عن الروح}

الثَّانِي عَشَرَ فِي الْكَهْفِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القرنين}

الثَّالِثَ عَشَرَ فِي طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}

الرَّابِعَ عَشَرَ فِي النَّازِعَاتِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}

وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبٌ: اثْنَانِ مِنْهَا فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} فإنه سؤال عن الذات وقوله {عن الأهلة} سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ

وَاثْنَانِ فِي الْآخَرِ فِي شرح المعاد وقوله: {ويسألونك عن الجبال} وقوله: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها}

وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أولهما {يا أيها الناس} في النصف

ص: 53

الْأَوَّلِ وَهُوَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ سُورَةُ النِّسَاءِ وَالثَّانِيَةُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَهِيَ سُورَةُ الْحَجِّ ثُمَّ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الَّذِي فِي الْأَوَّلِ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ وَالَّذِي فِي الثَّانِي يشتمل على شرح حال

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {يَسْأَلُونَكَ} ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بغير واو {يسألونك عن الأهلة} {يسألونك عن الشهر الحرام} {يسألونك عن الخمر والميسر} ثُمَّ جَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالْوَاوِ {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا ينفقون} {ويسألونك عن اليتامى} {ويسألونك عن المحيض} ؟

قُلْنَا: لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْحَوَادِثِ الْأَوَّلُ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا عَنِ الْحَوَادِثِ وَالْآخَرُ وَقَعَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عني فإني قريب} وَعَادَةُ السُّؤَالِ يَجِيءُ جَوَابُهُ فِي الْقُرْآنِ بِـ "قُلْ" نَحْوَ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وَنَظَائِرِهِ؟

قِيلَ: حُذِفَتْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَاسِطَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاعِي وَاسِطَةً وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الدُّعَاءِ تَجِيءُ الْوَاسِطَةُ

ص: 54

الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ دُونَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ

كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {أَيْنَ شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} وَقَعَتْ إِضَافَةُ الشَّرِيكِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ لِأَنَّ الْقَدِيمَ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَهُ

وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أندادا}

وقوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}

وقوله: {لأنت الحليم الرشيد} أي بزعمك واعتقادك

وقوله: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}

وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}

وقوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة}

وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أو هو أقرب} أَيْ أَنَّكُمْ لَوْ عَلِمْتُمْ قَسَاوَةَ قُلُوبِكُمْ لَقُلْتُمْ إِنَّهَا كَالْحِجَارَةِ أَوْ إِنَّهَا فَوْقَهَا فِي الْقَسْوَةِ وَلَوْ عَلِمْتُمْ سُرْعَةَ السَّاعَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ فِي سُرْعَةِ الْوُقُوعِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ عِنْدَكُمْ

وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى قَوْمٍ هُمْ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَشَكَكْتُمْ وَقُلْتُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا

ص: 55

وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إن قومي كذبون} ونحوه مِمَّا كَانَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خِلَافَهُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى طَمَعٍ أَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَعْتَادُهُ الْمَخْلُوقُونَ فِي أَنَّ الْإِعَادَةَ عِنْدَهُمْ أَهْوَنُ مِنَ الْبُدَاءَةِ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَيَكُونُ الْبَعْثُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْإِنْشَاءِ

وَحَكَى الْإِمَامُ الرَّازِّيُّ فِي مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ قَالَ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْعِبْرَةِ عِنْدَكُمْ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلْعَدَمِ" كُنْ" فَخَرَجَ تَامًّا كَامِلًا بِعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمَفَاصِلِهِ فَهَذَا فِي الْعِبْرَةِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِشَيْءٍ قَدْ كَانَ عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِبْرَتِكُمْ لَا أَنَّ شَيْئًا يَكُونُ عَلَى اللَّهِ أَهْوَنَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ

وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي {عَلَيْهِ} يَعُودُ لِلْخَلْقِ لِأَنَّهُ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ فَيَقُومُونَ وَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا نُطَفًا ثُمَّ عَلَقًا ثُمَّ مُضَغًا إِلَى أن يصيروا رجالا ونساء

وقوله {يا أيها الساحر} أي يأيها الْعَالِمُ الْكَامِلُ وَإِنَّمَا قَالُوا هَذِهِ تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا مِنْهُمْ لَهُ لِأَنَّ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ عَظِيمًا وصنعة ممدوحة

وقيل: معناه يأيها الَّذِي غَلَبَنَا بِسِحْرِهِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ خَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْخُصُومَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَعْيِيبَ مُوسَى عليه السلام بِالسِّحْرِ وَلَمْ يُنَافِسْهُمْ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِهِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} جيء بـ" إن" الَّتِي لِلشَّكِّ وَهُوَ وَاجِبٌ دُونَ إِذِ الَّتِي لِلْوُجُوبِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ عَلَى حَسَبِ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ

ص: 56

مُعَارَضَتَهُ فِيهَا لِلتَّهَكُّمِ كَمَا يَقُولُهُ الْوَاثِقُ بِغَلَبَتِهِ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ إِنْ غَلَبْتُكَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبُهُ تَهَكُّمًا بِهِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يخلق كمن لا يخلق} وَالْمُرَادُ بِـ" مَنْ لَا يَخْلُقُ" الْأَصْنَامُ وَكَانَ أَصْلُهُ كَمَا لَا يَخْلَقُ لِأَنَّ" مَا" لِمَنْ لَا يَعْقِلُ بِخِلَافِ "مَنْ" لَكِنْ خَاطَبَهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً وَعَبَدُوهَا فَأَجْرَوْهَا مَجْرَى أُولِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ لِلْأَصْنَامِ {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بها أم لهم أيد} الْآيَةَ أَجْرَى عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ أُولِي الْعَقْلِ كَذَا قِيلَ

وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُمْ خطأ وضلالة فالحكم يقتضي ألا يَنْزِعُوا عَنْهُ وَيُقْلِعُوا لَا أَنْ يُبْقُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْغَرَضُ مِنَ الْخِطَابِ الْإِيهَامُ وَلَوْ خَاطَبَهُمْ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِمْ فَقَالَ: كَمَا لَا يَخْلُقُ لَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْأَصْنَامِ مِنَ الْجَمَادِ

وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ بِعَسَى وَلَعَلَّ فَإِنَّهَا عَلَى بَابِهَا فِي التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَقُولَا لَهُ قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} اذْهَبَا إِلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ عِنْدَكُمَا فَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَالِمٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ وما يؤول إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ إِنَّهَا تَعْلِيْلَةٌ أي يَتَذَكَّرَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ

وَمِنْهُ التَّعَجُّبُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ نحو فما أصبرهم على النار أَيْ هُمْ أَهْلٌ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَمِنْ طول تمكنهم في النار

ص: 57

ونحوه {قتل الأنسان ما أكفره} و {أبصر به وأسمع} وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَعِيْمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشَقَاءِ أَهْلِ النَّارِ {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَزُولَانِ لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَصَدُوا الدَّوَامَ أَنْ يُعَلِّقُوا بِهِمَا فَجَاءَ الْخِطَابُ عَلَى ذَلِكَ

تنبيه

في التهكم يَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّهَكُّمُ وَهُوَ إِخْرَاجُ الْكَلَامِ عَلَى ضِدِّ مُقْتَضَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمر الله} مع العلم بأنه لا يحفظ من أمره الله شيء

ص: 58

التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ بِإِضَافَةِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ

وإن الكل بيده كقوله تعالى: {أنعمت عليهم} ثم قال: {غير المغضوب عليهم} وَلَمْ يَقُلْ غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ

وَقَوْلِهِ {بيدك الخير} ولم يقل والشر وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا بِيَدِهِ لَكِنَّ الْخَيْرَ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَةَ مَحَبَّةٍ وَرِضًا وَالشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَّا إِلَى مَفْعُولَاتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَى صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ بَلْ كلها كمال لَا نَقْصَ فِيهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَهُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ

وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {فصرف عنه كيدهن} فَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ صَرَفَهُ وَلَمَّا ذَكَرَ السِّجْنَ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي سَبَّبَ السَّجْنَ لَهُ وَأَضَافَ مَا مِنْهُ الرَّحْمَةُ إِلَيْهِ وَمَا مِنْهُ الشِّدَّةُ إِلَيْهِمْ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يشفين} وَلَمْ يَقُلْ أَمْرَضَنِي

وَتَأَمَّلْ جَوَابَ الْخَضِرِ عليه السلام عَمَّا فَعَلَهُ حَيْثُ قَالَ فِي إِعَابِةِ السفينة {فأردت} وقال في الغلام {فأردنا} وفي إقامة الجدار {فأراد ربك}

ص: 59

قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْمَنْصُورِ فِي كِتَابِ فَكُّ الْأَزْرَارِ عَنْ عُنُقِ الْأَسْرَارِ لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ الْعَيْبِ لِلسَّفِينَةِ نَسَبَهُ لِنَفْسِهِ أَدَبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ فَقَالَ فَأَرَدْتُ وَلَمَّا كَانَ قَتْلُ الْغُلَامِ مُشْتَرَكَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ اسْتَتْبَعَ نَفْسَهُ مَعَ الْحَقِّ فَقَالَ فِي الْإِخْبَارِ بِنُونِ الِاسْتِتْبَاعِ لِيَكُونَ الْمَحْمُودُ مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ رَاحَةُ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ مِنْ كُفْرِهِ عَائِدًا عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَالْمَذْمُومُ ظَاهِرًا وَهُوَ قَتْلُ الْغُلَامِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَائِدًا عَلَيْهِ وَفِي إِقَامَةِ الْجِدَارِ كَانَ خَيْرًا مَحْضًا فَنَسَبَهُ لِلْحَقِّ فَقَالَ {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ التَّوْحِيدِيِّ مِنَ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ {وَمَا فَعَلْتُهُ عن أمري}

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا أَفْرَدَ أَوَّلًا فِي الْإِرَادَةِ لِأَنَّهَا لَفْظُ غَيْبٍ وَتَأَدَّبَ بِأَنْ لَمْ يُسْنِدِ الْإِرَادَةَ فِيهَا إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا تَأَدَّبَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام فِي قَوْلِهِ {وَإِذَا مرضت فهو يشفين} فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ قَبْلُ وَبَعْدُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ إِذْ هُوَ مَعْنَى نَقْصٍ وَمَعَابَةٍ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ

وَهَذَا النَّوْعُ مُطَّرِدٌ فِي فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ كَثِيرًا أَلَا تَرَى إِلَى تَقْدِيمِ فِعْلِ الْبَشَرِ فِي قَوْلِهِ تعالى {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ! وَتَقْدِيمِ فِعْلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ تاب عليهم ليتوبوا} وَإِنَّمَا قَالَ: الْخَضِرُ فِي الثَّانِيَةِ {فَأَرَدْنَا} لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ الصَّالِحُونَ وَتَكَلَّمَ فِيهِ فِي مَعْنَى الْخَشْيَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَتَمَنَّى التَّبْدِيلَ لَهُمَا وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ فِي الثَّالِثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ غَيْبٌ مِنَ الْغُيُوبِ فَحَسُنَ إِفْرَادُ هَذَا الْمَوْضِعِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى

وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الأرض

ص: 60

أم أراد بهم ربهم رشدا} فَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي إِرَادَةِ الشَّرِّ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ وَأَضَافُوا إِرَادَةَ الرُّشْدِ إِلَيْهِ

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عليه السلام فِي خِطَابِهِ لَمَّا اجْتَمَعَ أَبُوهُ وَإِخْوَتُهُ {إذ أخرجني من السجن} وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْجُبِّ مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ أَعْظَمُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ

وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ السَّجْنِ لِوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ

أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي ذِكْرِ الْجُبِّ تَجْدِيدَ فِعْلِ إخوته وتقريعهم بذلك وتجديد تلك الغوائل

وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجُبِّ إِلَى الرِّقِّ وَمِنَ السِّجْنِ إِلَى الْمُلْكِ وَالنِّعْمَةُ هُنَا أَوْضَحُ انْتَهَى

وَأَيْضًا وَلِأَنَّ بَيْنَ الْحَالَيْنِ بَوْنًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قِصَرُ الْمُدَّةِ فِي الْجُبِّ وَطُولُهَا فِي السِّجْنِ وَأَنَّ الْجُبَّ كَانَ فِي حَالِ صِغَرِهِ وَلَا يَعْقِلُ فِيهَا الْمُصِيبَةَ وَلَا تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ كَتَأْثِيرِهَا فِي حَالِ الْكِبَرِ وَالثَّالِثُ أَنَّ أَمْرَ الْجُبِّ كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَأَمْرُ السِّجْنِ كَانَ لِعُقُوبَةِ أَمْرٍ دِينِيٍّ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَكَانَ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرفث إلى نسائكم} وَقَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تبتغوا بأموالكم} فَحَذَفَ الْفَاعِلَ عِنْدَ ذِكْرِ الرَّفَثِ وَهُوَ الْجِمَاعُ وَصَرَّحَ بِهِ عِنْدَ إِحْلَالِ الْعَقْدِ

وَقَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله به} فَحَذَفَ الْفَاعِلَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ

ص: 61

وَقَالَ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

وقال: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ الْإِعْلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عليه السلام: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطور الأيمن} وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمر} ،وَالْمَكَانُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ قَالَ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ أَنَّ الْأَيْمَنَ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْمَادَّةِ فَلَمَّا حَكَاهُ عَنْ مُوسَى فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ أَتَى بِلَفْظِهِ وَلَمَّا خَاطَبَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الْغَرْبِيِّ لِئَلَّا يُخَاطِبَهُ فَيَسْلُبَ عَنْهُ فِيهِ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنَ الْيُمْنِ أَوْ مُشَارِكًا فِي الْمَادَّةِ رِفْقًا بِهِمْ فِي الْخِطَابِ وَإِكْرَامًا لهما هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضح

وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ

وَقَالَ: أَيْضًا فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا.......} الْآيَةَ أَضَافَهُ هُنَا إِلَى النُّونِ وَهُوَ الْحُوتُ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحوت} وَسَمَّاهُ هُنَا ذَا النُّونِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَلَكِنْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتٌ كَبِيرٌ فِي حُسْنِ الْإِشَارَةِ إلى الحالين وتنزيل الكلام في الموضوعين فَإِنَّهُ حِينَ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَالَ ذَا النُّونِ وَلَمْ يَقُلْ صَاحِبُ الْحُوتِ وَلَفْظُ النُّونِ أَشْرَفُ لِوُجُودِ هَذَا الِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ نَحْوُ {ن والقلم} وقد قيل إن هذا قسم بالنون والقلم وإن لم يكن قسما فقد عظمه بعطف المقسم به عليه وهو القلم وهذا

ص: 62

الاشتراك يشرف هذا الاسم وليس في الاسم وليس في اللفظ الآخر وهو الحوت مَا يُشَرِّفُهُ

فَالْتَفِتْ إِلَى تَنْزِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَتَيْنِ يَلُحْ لَكَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي هَذَا فَإِنَّ التَّدَبُّرَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ مُفْتَرَضٌ

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} خَاطَبَهُ بِمُقَدِّمَةِ الصِّدْقِ مُوَاجَهَةً وَلَمْ يُقَدِّمِ الْكَذِبَ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى الصِّدْقِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ وَمَتَى كَانَ يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ قُدِّمَ الصِّدْقُ ثُمَّ لَمْ يُوَاجِهْهُ بِالْكَذِبِ بَلْ أَدْمَجَهُ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ أَدَبًا فِي الْخِطَابِ

وَمِثْلُهُ: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}

وَهَذَانِ الْمِثَالَانِ مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لِلْخَصْمِ ليدخل في المقصود بألطف موعود

قاعدة

في ذكر الرحمة والعذاب في القرآن مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ حَيْثُ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ وَالْعَذَابَ أَنْ يَبْدَأَ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ كَقَوْلِهِ

ص: 63

تَعَالَى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"

وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَوَاضِعُ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ فِيهَا تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعَذَابِ تَرْهِيبًا وَزَجْرًا

مِنْهَا: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يشاء والله على كل شيء قدير} لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالسُّرَّاقِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعَذَابِ لِهَذَا خَتَمَ آيَةَ السَّرِقَةِ بِـ "عَزِيزٌ حَكِيمٌ" وَفِيهِ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ وَخَتَمَهَا بِالْقُدْرَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّرْهِيبِ لِأَنَّ مَنْ تَوَعَّدَهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ كَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ حِكَايَةِ إِنْذَارِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ

وَمِثْلُهَا {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

ص: 64

قل سيروا} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} وَبَعْدَهَا {بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير}

وَمِنْهَا فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن سورة الأنعام كلها مناظرة للكفار ووعيد لهم خُصُوصًا وَفِي آخِرِهَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِيَسِيرٍ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الْآيَةَ وَهُوَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ إِلَى قَوْلِهِ {قُلْ أغير الله أبغي ربا} الْآيَةَ وَهُوَ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ وَإِفْسَادٌ لِدِينِهِمْ إِلَى قوله {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} ،فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الْعِقَابِ تَرْهِيبًا لِلْكُفَّارِ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّفَرُّقِ وَزَجْرًا لِلْخَلَائِقِ عَنِ الْجَوْرِ فِي الْأَحْكَامِ

وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لغفور رحيم} لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ ذِكْرِ مَعْصِيَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ وَتَعْذِيبِهِ إِيَّاهُمْ فَتَقْدِيمُ الْعَذَابِ مُنَاسِبٌ

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَنْعَامِ حَيْثُ أَتَى هُنَا باللام فقال {لسريع العقاب} دون هناك أن اللَّامَ تُفِيدُ التَّوْكِيدَ فَأَفَادَتْ هُنَا تَأْكِيدَ سُرْعَةِ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْعِقَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا عِقَابٌ عَاجِلٌ وَهُوَ عِقَابُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذُّلِّ وَالنِّقْمَةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْمَسْخِ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القيامة من يسومهم سوء العذاب} ،فَتَأْكِيدُ السُّرْعَةِ أَفَادَ بَيَانَ التَّعْجِيلِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ بِخِلَافِ الْعِقَابِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهُ آجِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ

ص: 65

فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فَاكْتَفَى فِيهِ بِتَأْكِيدِ إِنَّ وَلَمَّا اخْتَصَّتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ بِزِيَادَةِ الْعَذَابِ عَاجِلًا اخْتَصَّتْ بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ لَفْظًا بِـ "إِنَّ" وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ يُنَاسِبُهُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَعَلَيْهِ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا تَفْصِيلِيٌّ وَهُوَ الِاسْتِقْرَاءُ فَانْظُرْ أَيَّ آية شئت تَجِدْ فِيهَا مُنَاسِبًا لِذَلِكَ وَالثَّانِي إِجْمَالِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ وَهَذَانِ دَلِيلَانِ عَامَّانِ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَغَيْرِهَا

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رحمة واسعة} وَلَمْ يَقُلْ: ذُو عُقُوبَةٍ شَدِيدَةٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ نَفْيًا لِلِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ مَعْنَاهُ لَا تَغْتَرُّوا بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَذَابُهُ

وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {يا أبت إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} وَقَدْ سَبَقَتْ

فَائِدَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْخِطَابِ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ

وَأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ وَالِاسْمَ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَالثُّبُوتِ وَلَا يَحْسُنُ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ

فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} لو قِيلَ يَبْسُطُ لَمْ يُؤَدِّ

ص: 66

الْغَرَضَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِمُزَاوَلَةِ الْكَلْبِ الْبَسْطَ وأنه يتجدد له شيء بعد شيء فـ "باسط" أَشْعَرُ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ

وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غير الله يرزقكم} لَوْ قِيلَ رَازِقُكُمْ لَفَاتَ مَا أَفَادَهُ الْفِعْلُ مِنْ تَجَدُّدِ الرِّزْقِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَلِهَذَا جَاءَتِ الْحَالُ فِي صُورَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي يُفِيدُهُ مَاضٍ كَقَوْلِكَ جَاءَ زَيْدٌ يَضْرِبُ وَفِي التَّنْزِيلِ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} إِذِ الْمُرَادُ أَنْ يُرِيدَ صُورَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ وَأَنَّهُمْ آخِذُونَ فِي الْبُكَاءِ يُجَدِّدُونَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَى صَرِيحِ الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ

وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ لِمَ قِيلَ {الذين ينفقون} وَلَمْ يَقُلِ الْمُنْفِقِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقِيلَ كَثِيرًا الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُتَّقُونَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّفَقَةِ أَمْرٌ فِعْلِيٌّ شَأْنُهُ الِانْقِطَاعُ وَالتَّجَدُّدُ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ لَهُ حَقِيقَةً تَقُومُ بِالْقَلْبِ يَدُومُ مُقْتَضَاهَا وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا كَذَلِكَ التَّقْوَى وَالْإِسْلَامُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ وَالْعَمَى وَالْبَصَرُ فَمَعْنَاهَا أَوْ مَعْنَى وَصْفِ الْجَارِحَةِ كُلُّ هَذِهِ لَهَا مُسَمَّيَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ مَجَازِيَّةٌ تَسْتَمِرُّ وَآثَارٌ تَتَجَدَّدُ وَتَنْقَطِعُ فَجَاءَتْ بِالِاسْتِعْمَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ لِكُلِّ مَحَلٍّ مَا يَلِيقُ بِهِ فَحَيْثُ يُرَادُ تُجَدُّدُ حَقَائِقِهَا أَوْ آثَارِهَا فَالْأَفْعَالُ وَحَيْثُ يُرَادُ ثُبُوتُ الِاتِّصَافِ بِهَا فَالْأَسْمَاءُ وَرُبَّمَا بُولِغَ فِي الْفِعْلِ فَجَاءَ تَارَةً بِالصِّيغَةِ الِاسْمِيَّةِ كَالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لِلشَّأْنِ وَالصِّفَةِ هَذَا مَعَ أَنَّ لَهَا فِي الْقُلُوبِ أُصُولًا وَلَهُ بِبَعْضِ مَعَانِيهَا الْتِصَاقٌ قَوَّى هَذَا التَّرْكِيبَ إذ القلب فيه جهاد الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ وَعَقْدٌ عَلَى فِعْلِ الْمُهَاجَرَةِ كَمَا فِيهِ عَقْدٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَحَيْثُ يَسْتَمِرُّ الْمُعَاهَدُ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ

ص: 67

وَانْظُرْ هُنَا إِلَى لَطِيفَةٍ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَفْعَلَ إِلَّا مُجَازَاةً وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذْكُرَ الِاتِّصَافَ بِهِ لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِي تَرَاكِيبِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ تعالى {ويضل الله الظالمين} وقال {وإن الله لهاد الذين آمنوا ولكل قوم هاد}

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فَإِنَّ الْإِهْلَاكَ نَوْعُ اقْتِدَارٍ بَيِّنٍ مَعَ أَنَّ جنسه مقتضي بِهِ عَلَى الْكُلِّ عَالِينَ وَسَافِلِينَ لَا كَالضَّلَالِ الَّذِي جَرَى مَجْرَى الْعِصْيَانِ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {تذكروا فإذا هم مبصرون} لِأَنَّ الْبَصَرَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْمُتَّقِي وَعَيْنُ الشَّيْطَانِ رُبَّمَا حُجِبَتْ فَإِذَا تَذَكَّرَ رَأَى الْمَذْكُورَ وَلَوْ قِيلَ يُبْصِرُونَ لَأَنْبَأَ عَنْ تَجَدُّدِ وَاكْتِسَابِ فِعْلٍ لَا عَوْدِ صِفَةٍ

وَقَوْلُهُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يهدين} أَتَى بِالْمَاضِي فِي خَلَقَ لِأَنَّ خَلْقَهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ وَأَتَى بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّهُ كَالْجَوَابِ إِذْ مَنْ صَوَّرَ الْمَنِيَّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُصَيِّرَهُ ذَا هُدًى وَهُوَ لِلْحَصْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَهْدِيهِمْ ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِي هو يطعمني ويسقين} فَأَتَى بِالْمُضَارِعِ لِبَيَانِ تَجَدُّدِ الْإِطْعَامِ وَالسُّقْيَا وَجَاءَتِ الْوَاوُ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُطْعِمِ وَالسَّاقِي وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ إِلَهٍ وأتى به هُوَ لِرَفْعِ ذَلِكَ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي {فَهُوَ يشفين} لِأَنَّهُ جَوَابٌ وَلَمْ يَقُلْ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ إِذْ يَفُوتُ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ

ص: 68

التَّعْقِيبِ، وَيَذْهَبُ الضَّمِيرُ الْمُعْطِي مَعْنَى الْحَصْرِ وَلَمْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ الْمَوْتَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَدَخَلَتْ ثُمَّ لِتَرَاخِي مَا بَيْنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ يَحْتَمِلُ هَذَا الْحُكْمَ دَائِمًا وَوَقْتًا دُونَ وَقْتٍ فَلَمَّا قَالَ {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أَيْ سُكُوتُكُمْ عَنْهُمْ أَبَدًا وَدُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ واحد لأن {صَامِتُونَ} فِيهِ مُرَاعَاةٌ لِلْفَوَاصِلِ فَهُوَ أَفْصَحُ وَلِلتَّمْكِينِ مِنْ تَطْرِيفِهِ بِحَرْفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ وَهُوَ لِلطَّبْعِ أَنْسَبُ مِنْ صَمْتِهِمْ وَصْلًا وَوَقْفًا

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ مُوَازِنٌ لِلْآخَرِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنْتُمْ دَاعُونَ لَهُمْ دَائِمًا أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَعْكِسُ؟

قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ الْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ لَا الْمَاضِي لِأَنَّ قَبْلَهُ {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لا يتبعوكم} وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ فَالْحُكْمُ بِهِ قَدْ يُرَجَّحُ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ،وَلَمْ يَقُلْ: أَمْ لَعِبْتَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْعَبَ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرًا وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ أَحَدَ رَجُلَيْنِ إِمَّا مُحِقٌّ وَإِمَّا مُسْتَمِرٌّ عَلَى لَهْوِ الصِّبَا وَغَيِّ الشَّبَابِ فَيَكُونُ اللَّعِبُ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَصْدُرَ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ أَمْ لَعِبْتَ لَمْ يُعْطِ هَذَا

وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يريدون أحدثنا الإيمان وأعرضنا عن الكفر ليروح ذَلِكَ خِلَافًا مِنْهُمْ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ في قوله {يخادعون الله والذين آمنوا}

ص: 69

وَجَاءَتِ الِاسْمِيَّةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ {وَمَا هم بمؤمنين} لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ إِذْ يَقْتَضِي إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْطَوِي تَحْتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ نَفْيٌ بِمَا أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النار وما هم بخارجين منها} مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِمْ وَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِالْبَاءِ وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا كَمَا قِيلَ خَلِيٌّ مِنَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ مُفَرْقَعُ

وَإِذَا قِيلَ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَبْلَغُ مَنْ آمَنَ وَنَفْيُ الْأَبْلَغِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا دُونَهُ وَمَا حَقِيقَةُ إِخْرَاجِ ذَوَاتِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْبَيَانِ إِلَّا عَلَى عَيٍّ أَوْ تَرْوِيجٍ وَلَكِنْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى طَائِفَةً تَقُولُ آمَنَّا وَهِيَ حَالَةَ الْقَوْلِ لَيْسَتْ بِمُؤْمِنَةٍ بَيَانًا لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا صَدَرَ عَنْهَا ادِّعَاءً بِحُضُورِ الْإِيمَانِ حَالَةَ الْقَوْلِ وَالِانْتِظَامِ بِذَلِكَ فِي سِلْكِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فَإِذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ شَمِلَ الذَّمُّ أَنْ يَكُونُوا آمَنُوا يَوْمًا ثُمَّ تَخَلَّوْا وَأَنْ يَكُونُوا مَا آمَنُوا قَطُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالتَّعْمِيمِ فَقَطْ وَأَعْلَمُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَنِ ادَّعَى هَذَا الدَّعْوَى عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَبَيْنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا قَصَدُوا بِهِ التَّمْوِيهَ بِقَوْلِهِ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وَلَوْ قَالَ وَمَا آمَنُوا لَمْ يَفِدْ إِلَّا نَفْيَهُ عَنْهُمْ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَفِدْ ذَمَّهُمْ إِنْ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَهَذَا أَفَادَ نَفْيَهُ فِي الْحَالِ وَذَمَّهُمْ بِكُلِّ حَالٍ وَلِأَنَّ مَا فِيهِ مُؤْمِنِينَ أَحْسَنُ مِنْ آمَنُوا لِوُجُودِ التَّمْكِينِ بِالْمَدِّ وَالْوَقْفَ عَقِبَهُ عَلَى حَرْفٍ لَهُ مَوْقِفٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا هُمْ مِنْهَا بمخرجين} دُونَ يَخْرُجُونَ فَقِيلَ مَا سَبَقَ وَقِيلَ اسْتَوَى هُنَا يَخْرُجُونَ وَخَارِجِينَ فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَى وَاخْتِيرَ الِاسْمُ لِخِفَّتِهِ وَأَصَالَتِهِ

ص: 70

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شَيَاطِينِهِمْ} يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِمْ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الميت ويخرج الميت من الحي} قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِشَأْنِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ لَمَّا كَانَ أَشَدَّ أَتَى بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ كَمَا في قوله تعالى {الله يستهزئ بهم}

تَنْبِيهٌ

مُضْمَرُ الْفِعْلِ كَمُظْهَرِهِ فِي إِفَادَةِ الْحُدُوثِ وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَالُوا إِنَّ سَلَامَ الْخَلِيلِ عليه السلام أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قال {قالوا سلاما قال سلام} فَإِنَّ نَصْبَ سَلَامًا إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ أَيْ سَلَّمْنَا سَلَامًا وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُؤْذِنَةٌ بِحُدُوثِ التَّسْلِيمِ مِنْهُمْ إِذِ الْفِعْلُ تَأَخَّرَ عَنْ وُجُودِ الْفَاعِلِ بِخِلَافِ سَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ فَاقْتَضَى الثُّبُوتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَوْلَى بِمَا يَعْرِضُ لَهُ الثُّبُوتُ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ بِأَحْسَنَ مِمَّا حَيَّوْهُ بِهِ اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو ردوها}

وَذَكَرُوا فِيهِ أَوْجُهًا أُخْرَى تَلِيقُ بِقَاعِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَكَمَالُ الْبَشَرِ تَدْرِيجِيٌّ فَنَاسَبَ الْفِعْلَ وَكَمَالُ الْمَلَائِكَةَ مُقَارِنٌ لِوُجُودِهَا عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ

قِيلَ: وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُنْشَأَ هُوَ تَسْلِيمُهُمْ أَمَّا السَّلَامُ الْمَدْعُوُّ بِهِ فَلَيْسَ فِي مَوْضُوعِهِ تَعَرُّضٌ لِتَدَرُّجٍ وَسَلَامُهُ أَيْضًا مَنْشَأُ فِعْلٍ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّدْرِيجِ غَيْرَ أَنَّ سَلَامَهُ لَمْ يَدُلَّ بِوَضْعِهِ

ص: 71

اللُّغَوِيِّ وُقُوعَ إِنْشَائِهِ ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا لَشُرِعَ السَّلَامُ بَيْنَنَا بِالنَّصْبِ دُونَ الرَّفْعِ

تَنْبِيهٌ

هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ وَأَنْكَرَ أَبُو الْمُطَرِّفِ بْنُ عَمِيرَةَ فِي كِتَابِ التَّمْوِيهَاتِ عَلَى كِتَابِ التِّبْيَانِ لِابْنِ الزَّمَلْكَانِيِّ قَالَ هَذَا الرَّأْيُ غَرِيبٌ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ نَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ فِي مَقُولِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّجَدُّدِ فَظَنَّ أَنَّهُ الْفِعْلُ الْقَسِيمُ لِلْأَسْمَاءِ فَغَلِطَ ثُمَّ قَوْلُهُ الِاسْمُ يُثْبِتُ الْمَعْنَى لِلشَّيْءِ عَجِيبٌ وَأَكْثَرُ الْأَسْمَاءِ دَلَالَتُهَا عَلَى مَعَانِيهَا فَقَطْ وَإِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يَفْعَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يوم القيامة تبعثون} وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِعَيْنِهَا {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بآيات ربهم يؤمنون} وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ طَرِيقَةُ الْعَرَبِ تَدْبِيجُ الْكَلَامِ وَتَلْوِينُهُ وَمَجِيءُ الْفِعْلِيَّةِ تَارَةً وَالِاسْمِيَّةِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِمَا ذَكَرُوهُ وَقَدْ رَأَيْنَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ تَصْدُرُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْخُلَّصِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَاصِلُ بِدُونِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ربنا آمنا} ولا شيء بعد {آمن الرسول} وَقَدْ جَاءَ التَّأْكِيدُ فِي كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ {إنما نحن مصلحون}

ص: 72

قاعدة في قوله تعالى: {من في السماوات والأرض} ونحوها

جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَوْضِعٍ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَفِي مَوْضِعٍ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}

وَالْأَوَّلُ: جَاءَ فِي تِسْعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي الرَّحْمَنِ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السماوات والأرض}

وَالثَّانِي: فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا فِي يُونُسَ {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأرض}

وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا أَوَّلُهَا فِي الْبَقَرَةِ {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كل له قانتون}

وَجَاءَ قَوْلُهُ {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا أَوَّلُهَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ

قَالَ بَعْضُهُمْ وَتَأَمَّلْتُ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ فَوَجَدْتُ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ التَّنْصِيصَ عَلَى الْإِفْرَادِ ذَكَرَ الْمَوْصُولَ وَالظَّرْفَ أَلَا تَرَى إِلَى الْمَقْصُودِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنْ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَى الْمَقْصُودِ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ فِي إِحَاطَةِ الْمُلْكِ

ص: 73

وَحَيْثُ قُصِدَ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُولَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً إِشَارَةً إِلَى قَصْدِ الْجِنْسِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ أَلَا تَرَى إِلَى سُورَةِ الرَّحْمَنِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا علو قدرة الله وعلمه وشأنه وكونه سئولا وَلَمْ يَقْصِدْ إِفْرَادَ السَّائِلِينَ

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ

قاعدة في قوله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} ونحوها

قَدْ يَكُونُ نَحْوَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كذبا} {فمن أظلم ممن كذب على الله} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعرض عنها} {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ

وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ فَحِينَئِذٍ فَهُوَ خَبَرٌ وَإِذَا كان خبر أفتوهم بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا أُخِذَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ولا أحد أظلم ممن افترى عل اللَّهِ كَذِبًا وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى طُرُقٍ:

أَحَدُهَا: تَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى صِلَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ

ص: 74

كَذِبًا وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا وَإِذَا تَخَصَّصَ بِالصِّلَاتِ زَالَ عَنْهُ التَّنَاقُضُ

الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّبْقِ لَمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدٌ إِلَى مِثْلِهِ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ سَالِكًا طَرِيقَتَهُمْ وَهَذَا يَئُولُ مَعْنَاهُ إِلَى السَّبْقِ فِي الْمَانِعِيَّةِ وَالِافْتِرَائِيَّةِ

الثَّالِثُ: وَادَّعَى الشَّيْخُ أَبُو حيان الصواب ونفى الْأَظْلَمِيَّةِ لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الْظَالِمِيَّةِ لِأَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُطْلَقِ فَلَوْ قُلْتَ مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ ظَرِيفٌ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ رَجُلٍ وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الظَّالِمِيَّةِ لَمْ يَلْزَمِ التَّنَاقُضُ لِأَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ التَّسْوِيَةِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَإِذَا ثَبَتَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ وُصِفَ بِذَلِكَ يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْأَظْلَمِيِّةِ وَصَارَ الْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى وَمِمَّنْ كَذَّبَ وَنَحْوَهَا وَلَا إِشْكَالَ فِي تَسَاوِي هَؤُلَاءِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ أَظْلَمُ مِنَ الْآخَرِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أَحَدَ أَفْقَهُ مِنْ زَيْدٍ وَعُمَرَ وَخَالِدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمْ أَفْقَهُ مِنَ الْآخَرِ بل نفى أن يكون أحدهم أَفْقَهَ مِنْهُمْ

لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا وَلَمْ يَفْتَرِ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَقَلُّ ظُلْمًا مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْأَظْلَمِيَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْكُفَّارِ فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْأَظْلَمِيَّةِ فَهِيَ كُلُّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْكُفْرِ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِإِفْرَادِ مَنِ

ص: 75

اتَّصَفَ بِهِ وَإِنَّمَا تُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِي الظُّلْمِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ وَلِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكُوا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَتَقُولُ الْكَافِرُ أَظْلَمُ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَنَقُولُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ ظُلْمَ الْكَافِرِ يَزِيدُ عَلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ انْتَهَى

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَمْ يَدَّعِ الْقَائِلُ نَفْيَ الظَّالِمِيَّةِ فَيُقِيمَ الشَّيْخُ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهَا وَإِنَّمَا دَعْوَاهُ أَنَّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَثَلًا وَالْغَرَضُ أَنَّ الْأَظْلَمِيَّةَ ثَابِتَةٌ لِغَيْرِ مَا اتَّصَفَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حصل التعارض ولابد مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَطَرِيقُهُ التَّخْصِيصُ فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ

وَقَوْلُ الشَّيْخِ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الْأَفْرَادَ الْمَنْفِيَّ عَنْهَا الْأَظْلَمِيَّةُ فِي آيَةٍ وأثبتت لِبَعْضِهَا الْأَظْلَمِيَّةُ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْآيَاتِ الْوَارِدِ فِيهَا ذَلِكَ وَكَلَامُ الشَّيْخِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ اسْتُفِيدَ لَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ بَلْ بِطَرِيقِ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةَ لهذا الحكم في آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ خُصَّتْ بِأُخْرَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ بِالصِّلَاتِ وَلَا بِالسَّبْقِ

الرَّابِعُ: طَرِيقَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ مَتَى قَدَّرْنَا لَا أَحَدَ أَظْلَمُ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا اسْتِوَاءُ الْكُلِّ في الظلم وأن المقصود نفي الأظلمية من غَيْرِ الْمَذْكُورِ لَا إِثْبَاتَ الْأَظْلَمِيَّةِ لَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ وَإِمَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَظْلَمُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا لَزِمَ مِنْ جَعْلِ مَدْلُولِهَا إِثْبَاتَ الْأَظْلَمِيَّةِ للمذكور حقيقة أو نفيها من غَيْرِهِ

وَهُنَا مَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى وَسَالِمٌ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَهُوَ الْوُقُوفُ مَعَ مدلول

ص: 76

اللَّفْظِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَظِيمٌ فَظِيعٌ قَصَدْنَا بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ تَخْيِيلَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فَوْقَهُ لِامْتِلَاءِ قَلْبِ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ بِعَظَمَتِهِ امْتِلَاءً يَمْنَعُهُ مِنْ تَرْجِيحِ غَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَقُولَ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ وَتَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعَارَةً لَا حَقِيقَةً فَلَا يَرِدُ كَوْنُ غَيْرِهِ أَظْلَمَ مِنْهُ إِنْ فُرِضَ وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّهْوِيلُ فَيُقَالُ أَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا إِذَا قُصِدَ إِفْرَاطُ عَظَمَتِهِ وَلَوْ قِيلَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ أَنْتَ قُلْتَ إِنَّهُ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ لَأَبَى ذَلِكَ فَلْيَفْهَمْ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْكَلَامَ يَنْتَظِمُ مَعَهُ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ

قاعدة

في الجحد بين الكلامين

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطعام} قَالَ صَاحِبُ الْيَاقُوتَةِ قَالَ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ جَمِيعًا الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِجَحْدَيْنِ كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا فَمَعْنَاهُ إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمِثْلُهُ مَا سَمِعْتُ مِنْكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ مَالًا وَإِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدٌ كَانَ الْكَلَامُ مَجْحُودًا جَحْدًا حَقِيقِيًّا نَحْوَ مَا زَيْدٌ بِخَارِجٍ فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ جَحْدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ أَحَدُهُمَا زَائِدًا كَقَوْلِهِ مَا مَا قُمْتُ يُرِيدُ مَا قُمْتُ وَمِثْلُهُ مَا إِنْ قُمْتُ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فيما إن مكناكم فيه} فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ

ص: 77

قَاعِدَةٌ فِي أَلْفَاظٍ يُظَنُّ بِهَا التَّرَادُفُ وَلَيْسَتْ مِنْهُ

وَلِهَذَا وُزِّعَتْ بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ فَلَا يَقُومُ مُرَادِفُهَا فِيمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مَقَامَ الْآخَرِ فَعَلَى المفسر مراعاة الِاسْتِعْمَالَاتِ وَالْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّرَادُفِ مَا أَمْكَنَ فَإِنَّ لِلتَّرْكِيبِ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْإِفْرَادِ وَلِهَذَا مَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وُقُوعَ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ فِي التَّرْكِيبِ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي الْإِفْرَادِ

فَمِنْ ذَلِكَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَشْيَةَ أَعْلَى مِنَ الْخَوْفِ وَهِيَ أَشَدُّ الْخَوْفِ فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ شَجَرَةٌ خَشِيَّةٌ إِذَا كَانَتْ يَابِسَةً وَذَلِكَ فَوَاتٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخَوْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ نَاقَةٌ خَوْفَاءُ إِذَا كَانَ بِهَا دَاءٌ وَذَلِكَ نَقْصٌ وَلَيْسَ بِفَوَاتٍ وَمِنْ ثَمَّةَ خُصَّتِ الْخَشْيَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَيَخْشَوْنَ ربهم ويخافون سوء الحساب}

وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الْخَشْيَةَ تَكُونُ مِنْ عِظَمِ الْمَخْشِيِّ وَإِنْ كَانَ الْخَاشِي قَوِيًّا وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ الْخَائِفِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَوِّفُ أَمْرًا يَسِيرًا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَاءَ وَالشِّينَ وَالْيَاءَ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ قَالُوا شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ الْكَبِيرِ وَالْخَيْشُ لِمَا عَظُمَ مِنَ الْكَتَّانِ وَالْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ وَانْظُرْ إِلَى الْخَوْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَّةِ وَقَالَ تَعَالَى {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} فَإِنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ يَخْشَاهُ كُلُّ أَحَدٍ كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ وَسُوءُ الْحِسَابِ رُبَّمَا لَا يَخَافُهُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحِسَابِ وَحَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يحاسب

ص: 78

وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وقال لموسى {لا تخف} أَيْ لَا يَكُونُ عِنْدَكَ مِنْ ضَعْفِ نَفْسِكِ ما تخاف منه من فِرْعَوْنَ

فَإِنْ قِيلَ: وَرَدَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} ؟

قِيلَ: الْخَاشِي مِنَ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ ضَعِيفٌ فَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ يَخْشَى رَبَّهُ لِعَظَمَتِهِ وَيَخَافُ رَبَّهُ أَيْ لِضَعْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى

وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ أَقْوِيَاءُ ذَكَرَ صِفَتَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ويفعلون ما يؤمرون} فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ضُعَفَاءُ وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ ضُعَفَاءُ لَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ ضَعْفِهِمْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وَلَمَّا ذَكَرَ ضَعْفَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَالْمُرَادُ فَوْقِيَّةٌ بِالْعَظَمَةِ

وَمِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ وَالشُّحُّ هُوَ الْبُخْلُ الشَّدِيدُ وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالضَّنِّ بِأَنَّ الضَّنِّ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَوَارِيِّ وَالْبُخْلُ بالهيئات وَلِهَذَا يُقَالُ هُوَ ضَنِينٌ بِعِلْمِهِ وَلَا يُقَالُ: هُوَ بَخِيلٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْبَهُ بِالْعَارِيَّةِ مِنْهُ بالهيئة لِأَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا وَهَبَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ مُلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا هو على الغيب بضنين} وَلَمْ يَقُلْ بِـ "بَخِيلٍ"

ص: 79

وَمِنْ ذَلِكَ الْغِبْطَةُ وَالْمُنَافَسَةُ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ قَالَ تعالى {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ" وَأَرَادَ الْغِبْطَةَ وَهِيَ تَمَنِّي مثل ماله مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْتَمَّ لِنَيْلِ غَيْرِهِ فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجِدُّ وَالتَّشْمِيرُ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فَهُوَ مُنَافَسَةٌ

وَقَرِيبٌ مِنْهَا الْحَسَدُ وَالْحِقْدُ فَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّهَا وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ سَعْيٍ فِي إِزَالَتِهَا كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْقَيْدَ أَعْنِي الِاسْتِحْقَاقَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَمَنِّيَ زَوَالِهَا عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لَا يَكُونُ حَسَدًا

وَمِنْ ذَلِكَ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ السَّبِيلِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى إِنَّهُ وَقَعَ فِي الرُّبْعِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} ولم يقع ذكر الطريق مرادا بِهِ الْخَيْرُ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِوَصْفٍ أَوْ بِإِضَافَةٍ مِمَّا يُخَلِّصُهُ لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَى الْحَقِّ وإلى طريق مستقيم}

ومن ذلك جاء وأتى يستويان في الماضي ويأتي أَخَفُّ مِنْ يَجِيءُ وَكَذَا فِي الْأَمْرِ جِيْئُوا بِمِثْلِهِ أَثْقَلُ مِنْ فَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ إِلَّا يَأْتِي وَيَأْتُونَ وَفِي الْأَمْرِ فَأْتِ فَأْتِنَا فَأْتُوا لِأَنَّ إِسْكَانَ الْهَمْزَةِ ثَقِيلٌ لِتَحْرِيكِ حروف المد واللين تقول جيء أَثْقَلُ مِنِ ائْتِ

وَأَمَّا فِي الْمَاضِي فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ جَاءَ يُقَالُ فِي الْجَوَاهِرِ والأعيان وأتى في المعاني والأزمان وفي مقابلتها ذهب ومضى يُقَالُ ذَهَبَ فِي الْأَعْيَانِ وَمَضَى فِي الْأَزْمَانِ وَلِهَذَا يُقَالُ حُكْمُ فُلَانٍ مَاضٍ وَلَا يُقَالُ ذَاهِبٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مِنَ الْأَعْيَانِ

ص: 80

وقال {ذهب الله بنورهم} وَلَمْ يَقُلْ مَضَى لِأَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِالْمَعَانِي الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى الْحَالِ وَيُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بالأعيان القائمة بأنفسها فذكر الله جَاءَ فِي مَوْضِعِ الْأَعْيَانِ فِي الْمَاضِي وَأَتَى فِي مَوْضِعِ الْمَعَانِي وَالْأَزْمَانِ

وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى {ولمن جاء به حمل بعير} لأن الصواع عين {ولما جاءهم كتاب} لأنه عين وقال {وجيء يومئذ بجهنم} لِأَنَّهَا عَيْنٌ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَ أجلهم} فَلِأَنَّ الْأَجَلَ كَالْمُشَاهَدِ وَلِهَذَا يُقَالُ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ وَقَالَ تَعَالَى {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كانوا فيه يمترون} أَيِ الْعَذَابِ لِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ يُشَاهِدُونَهُ وَقَالَ {وَأَتَيْنَاكَ بالحق وإنا لصادقون} حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مَرْئِيًّا

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نهارا} وقال {ولما جاء أمرنا} فَجُعِلَ الْأَمْرُ آتِيًا وَجَائِيًا

قُلْنَا: هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ {جَاءَ} وَهُمْ مِمَّنْ يَرَى الْأَشْيَاءَ قَالَ {جَاءَ} أَيْ عِيَانًا ولما كان الزرع لا يبصر ولا يرى قال {جاء} وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ جَاءَ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَيُقَالُ أَجَاءَهُ قَالَ تَعَالَى {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النخلة} وَلَمْ يَرِدْ أَتَاهُ بِمَعْنَى ائْتِ مِنَ الْإِتْيَانِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفْسِهِ وَمِنْ ذَلِكَ الْخَطْفُ وَالتَّخَطُّفُ لَا يُفَرِّقُ الْأَدِيبُ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ

ص: 81

بَيْنَهُمَا فَتَقُولُ: {خَطِفَ} بِالْكَسْرِ لِمَا تَكَرَّرَ وَيَكُونُ من شأن الخاطف الخطف وخطف بِالْفَتْحِ حَيْثُ يَقَعُ الْخَطْفُ مِنْ غَيْرِ مَنْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ الْخَطْفُ بِكُلْفَةٍ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ خَطَفَ بِالْفَتْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ عَلَى تَكَلُّفٍ وَلَمْ يَكُنْ مُتَوَقَّعًا مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فَعِلَ بِالْكَسْرِ لَا يَتَكَرَّرُ كعلم وسمع وفعل لا يشترط فيه ذلك كقتل وَضَرَبَ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فَإِنَّ شُغْلَ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ وَقَالَ {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ

وَقَالَ: {تَخَافُونَ أَنْ يتخطفكم الناس} فَإِنَّ النَّاسَ لَا تَخْطِفُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى تكلف

وقال {ويتخطف الناس من حولهم}

وقال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} لِأَنَّ الْبَرْقَ يُخَافُ مِنْهُ خَطْفُ الْبَصَرِ إِذَا قوي

ومن ذلك مد وأمد قَالَ الرَّاغِبُ أَكْثَرُ مَا جَاءَ الْإِمْدَادُ فِي المحبوب {وأمددناهم بفاكهة} {وظل ممدود} وَالْمَدُّ فِي الْمَكْرُوهِ {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مدا}

ومن ذلك سقى وأسقى وقد سبق ومن ذلك عمل وفعل والفرق بينهما

ص: 82

أَنَّ الْعَمَلَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ كُلُّ عَمَلٍ فعل ولا ينعكس، ولهذا جعل النجاة الْفِعْلَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْمِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَالْعَمَلُ مِنَ الْفِعْلِ مَا كَانَ مَعَ امْتِدَادٍ لِأَنَّهُ فَعِلَ وَبَابُ فَعِلَ لِمَا تَكَرَّرَ

وَقَدِ اعْتَبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} حَيْثُ كَانَ فِعْلُهُمْ بِزَمَانٍ

وَقَالَ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون} حَيْثُ يَأْتُونَ بِمَا يُؤْمَرُونَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ فَيَنْقُلُونَ الْمُدُنَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ يَقُومَ الْقَائِمُ مِنْ مَكَانِهِ

وَقَالَ تَعَالَى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، {وما عملته أيديهم} فَإِنَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ وَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِامْتِدَادٍ، وَقَالَ {كيف فعل ربك بأصحاب الْفِيلِ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وتبين لكم كيف فعلنا بهم فَإِنَّهَا إِهْلَاكَاتٌ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ

وَقَالَ: {وعملوا الصالحات} حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُثَابَرَةَ عَلَيْهَا لَا الْإِتْيَانَ بها مرة

وقال {وافعلوا الخير} بمعنى سارعوا كما قال: {فاستبقوا الخيرات} وقال: {والذين هم للزكاة فاعلون} أَيْ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ فَهَذَا هُوَ الْفَصَاحَةُ فِي اخْتِيَارِ الْأَحْسَنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ

ومن ذلك القعود والجلوس إِنَّ الْقُعُودَ لَا يَكُونُ مَعَهُ لُبْثَةٌ وَالْجُلُوسَ

ص: 83

لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ذَلِكَ وَلِهَذَا تَقُولُ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ وَلَا تَقُولُ جَوَالِسُهُ لِأَنَّ مَقْصُودَكَ مَا فِيهِ ثَبَاتٌ وَالْقَافُ وَالْعَيْنُ وَالدَّالُ كَيْفَ تَقَلَّبَتْ دَلَّتْ عَلَى اللُّبْثِ وَالْقَعْدَةُ بَقَاءٌ عَلَى حَالَةٍ وَالدَّقْعَاءُ لِلتُّرَابِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْقَى فِي مَسِيلِ الْمَاءِ وَلَهُ لُبْثٌ طَوِيلٌ وَأَمَّا الْجِيمُ وَاللَّامُ وَالسِّينُ فَهِيَ لِلْحَرَكَةِ مِنْهُ السِّجِلُّ لِلْكِتَابِ يُطْوَى لَهُ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَعَدَ يَقْعُدُ بِضَمِّ الْوَسَطِ وَقَالُوا جَلَسَ يَجْلِسُ بِكَسْرِهِ فَاخْتَارُوا الثَّقِيلَ لِمَا هُوَ أَثْبَتُ

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَقَاعِدَ للقتال} فَإِنَّ الثَّبَاتَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَالَ: {اقْعُدُوا مَعَ القاعدين} أَيْ لَا زَوَالَ لَكُمْ وَلَا حَرَكَةَ عَلَيْكُمْ بعد هذا وقال: {في مقعد صدق} وَلَمْ يَقُلْ مَجْلِسٌ إِذْ لَا زَوَالَ عَنْهُ

وَقَالَ: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُجْلَسُ فِيهِ زَمَانًا يَسِيرًا لَيْسَ بِمَقْعَدٍ فَإِذَا طُلِبَ مِنْكُمُ التَّفَسُّحُ فَافْسَحُوا لِأَنَّهُ لَا كُلْفَةَ فِيهِ لِقِصَرِهِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ قَعِيدُ الْمُلُوكِ وَإِنَّمَا يُقَالُ جَلِيسُهُمْ لِأَنَّ مجالسة الملوك يستحب فيها التخفيف والقعيدة لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تَلْبَثُ فِي مَكَانِهَا

وَمِنْ ذَلِكَ التَّمَامُ وَالْكَمَالُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فَقِيلَ الْإِتْمَامُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْأَصْلِ وَالْإِكْمَالُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْعَوَارِضِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَصْلِ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كاملة} أَحْسَنُ مِنْ تَامَّةٌ فَإِنَّ التَّمَامَ مِنَ الْعَدَدِ قَدْ عُلِمَ وَإِنَّمَا بَقِيَ احْتِمَالُ نَقْصٍ فِي صفاتها

ص: 84

وَقِيلَ تَمَّ يُشْعِرُ بِحُصُولِ نَقْصٍ قَبْلَهُ وَكَمُلَ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ رَجُلٌ كَامِلٌ إِذَا جَمَعَ خِصَالَ الْخَيْرِ وَرَجُلٌ تَامٌّ إِذَا كَانَ غَيْرَ نَاقِصِ الطُّولِ وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ الْكَمَالُ اسْمٌ لِاجْتِمَاعِ أَبْعَاضِ الْمَوْصُوفِ بِهِ وَالتَّمَامُ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَوْصُوفُ وَلِهَذَا يَقُولُونَ الْقَافِيَةُ تَمَامُ الْبَيْتِ وَلَا يَقُولُونَ كَمَالُهُ وَيَقُولُونَ الْبَيْتُ بِكَمَالِهِ

وَمِنْ ذَلِكَ الضِّيَاءُ وَالنُّورُ

فائدة

عن الجويني في الفرق بين الإتيان والإعطاء

قَالَ: الْجُوَيْنِيُّ لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْإِتْيَانِ وَظَهَرَ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ انْبَنَى عَلَيْهِ بَلَاغَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَهُ مُطَاوِعٌ يُقَالُ: أَعْطَانِي فَعَطَوْتُ ولا يقال في الإتيان أَتَانِي فَأَتَيْتُ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آتَانِي فَأَخَذْتُ وَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مُطَاوِعٌ أَضْعَفُ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ مِنَ الَّذِي لَا مُطَاوِعَ لَهُ لِأَنَّكَ تَقُولُ قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمَحَلِّ لَوْلَاهُ لَمَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ وَلِهَذَا يَصِحُّ قَطَعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا مُطَاوِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبْتُهُ فَانْضَرَبَ أَوْ مَا انْضَرَبَ وَلَا قَتَلْتُهُ فَانْقَتَلَ أَوْ مَا انْقَتَلَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْفَاعِلِ ثَبَتَ لَهَا الْمَفْعُولُ فِي الْمَحَلِّ وَالْفَاعِلُ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا مُطَاوِعَ لَهَا فَالْإِيتَاءُ إِذَنْ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ

ص: 85

قَالَ: وَقَدْ تَفَكَّرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مُرَاعًى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الملك {تؤتي الملك من تشاء} لِأَنَّ الْمُلْكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُلْكِ أَثْبَتُ مِنَ الْمِلْكِ فِي الْمَالِكِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَخْرُجُ الْمُلْكُ مِنْ يَدِهِ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَيُخْرِجُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ

وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِذَا ثَبَتَتْ فِي الْمَحَلِّ دَامَتْ

وقال: {آتيناك سبعا من المثاني} لِعِظَمِ الْقُرْآنِ وَشَأْنِهِ

وَقَالَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ يَرِدُونَ عَلَى الْحَوْضِ وُرُودَ النَّازِلِ عَلَى الْمَاءِ وَيَرْتَحِلُونَ إِلَى مَنَازِلِ الْعِزِّ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ فِي الْجِنَانِ وَالْحَوْضُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ عِنْدَ عَطَشِ الْأَكْبَادِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ فَقَالَ فِيهِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لِأَنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ وَيَنْتَقِلُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ

وَقَالَ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خلقه} لأن من الأشياء ماله وُجُودٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ وَقَالَ {لسوف يعطيك ربك فترضى} لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا يُرْضِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُهُ وَيَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ كُلِّ الرِّضَا إِلَى أَعْظَمِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُ لَا بَلْ حَالُ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} فِيهِ بِشَارَةٌ

وَقَالَ: {حَتَّى يُعْطُوا الجزية عن يد} لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولٍ مِنَّا وَهُمْ

ص: 86

لَا يُؤْتُونَ إِيتَاءً عَنْ طِيبِ قَلْبٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ كُرْهٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِعْطَاؤُهُ لِلزَّكَاةِ بِقُوَّةٍ لَا يَكُونُ كَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ

فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ اللَّطِيفَةِ الْمُوقِفَةِ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ

قَاعِدَةٌ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ

اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامًا لَا يَلِيقُ بِالْآخَرِ

فَأَمَّا التَّعْرِيفُ فَلَهُ أَسْبَابٌ:

الْأَوَّلُ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْهُودٍ خَارِجِيٍّ كقوله تعالى: {بكل ساحر عليم فجمع السحرة} ،عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ فَإِنَّهُ أُشِيرَ بِالسَّحَرَةِ إِلَى سَاحِرٍ مَذْكُورٍ وَقَوْلُهُ {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا فعصى فرعون الرسول} وَأَغْرَبَ ابْنُ الْخَشَّابِ فَجَعَلَهَا لِلْجِنْسِ فَقَالَ: لِأَنَّ مَنْ عَصَى رَسُولًا فَقَدْ عَصَى سَائِرَ الرُّسُلِ

وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ آمَنُوا سفهاء

ص: 87

وقوله {وليس الذكر كالأنثى} أَيِ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْهُ كَالْأُنْثَى الَّتِي وُهِبَتْ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا لِلْخَارِجِيِّ لِمَعْنَى الذَّكَرِ فِي قَوْلِهِا:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بطني محررا} وَمَعْنَى الْأُنْثَى فِي قَوْلِهِا {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}

الثَّانِي: لِمَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ أَيْ فِي ذِهْنِ مُخَاطِبِكَ كقوله تعالى {إذ هما في الغار} {إذ يبايعونك تحت الشجرة} وَإِمَّا حُضُورِيٍّ نَحْوُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ

الثَّالِثُ: الْجِنْسُ وَهِيَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْخَبَرِ فَيُقْصَرَ جِنْسُ الْمَعْنَى عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ نَحْوُ زَيْدٌ الرَّجُلُ أَيِ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا مِنْ ذَلِكَ

وَثَانِيهَا: أَنْ يَقْصُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ لَا الْمُبَالَغَةِ وَيُسَمَّى تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ نَحْوُ {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} وَقَوْلِهِ {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَيْ جَعَلْنَا مُبْتَدَأَ كُلِّ حَيٍّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ ثُبُوتُ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ لَا الشَّامِلَةِ لِأَفْرَادِ الْجِنْسِ نَحْوُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ لَا يُرِيدُونَ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هَذَا الْجِنْسُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ بِسَبَبِ عَوَارِضَ

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ بَابْشَاذَ: إِنَّ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَعْيَانِ وَتَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَذْهَانِ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْجِنْسِ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ فِي الذِّهْنِ

ص: 88

إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّفْضِيلِ فِي الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ وإنما أضاف إلى الذهن لأن تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ لِاشْتِمَالِ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا مُطَابَقَةٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تُسَمَّى الْكُلِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ

الرَّابِعُ: أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا الَّتِي إِذَا نُزِعَتْ حَسُنَ أَنْ يَخْلُفَهَا كُلٌّ وَتُفِيدُ مَعْنَاهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ حَقِيقَةً وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى شُمُولِ الْأَفْرَادِ وَهِيَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْفَرْدِ نَحْوُ {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وَفِي صِحَّةِ وَصْفِهِ بِالْجَمْعِ نَحْوُ {أَوِ الطِّفْلِ الذين لم يظهروا}

قال صاحب ضوء المصباح: سواء أَكَانَ الشُّمُولُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ فَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ بِزَوَالِ الْفِعْلِ فَهِيَ لِلنَّوْعِ وَمَا دخلت عليه من وَصْفِهِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ أَبَدًا هَذَا كُلُّهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُفْرَدٍ نَحْوُ {إِلَى عالم الغيب والشهادة} {وخلق الإنسان ضعيفا} {إن الأنسان لفي خسر} خِلَافًا لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يَعُمُّ وَلَنَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} دَلَالَةٌ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا زَعَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ

فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنِ السَّارِقُ عَامًّا فَبِمَاذَا تُقْطَعُ يَدُ كُلِّ سَارِقٍ مِنْ لَدُنْ سُرِقَ رِدَاءُ صَفْوَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ

ص: 89

قِيلَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِنْسُ أَيْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِصِفَةِ السَّرِقَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ كَمَا تُوجَدُ مَعَ الْوَاحِدِ تُوجَدُ مَعَ الْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ سَلَبَتْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَيَصِيرُ لِلْجِنْسِ وَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَى الْكَلِمَةِ عُمُومَانِ أَوْ مَعْنَى الْجَمْعِ بَاقٍ معها؟

مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْأَوَّلِ وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا الثَّانِي وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا الْعَامِلِينَ وَيُلْزِمُ الْحَنَفِيَّةُ أَلَّا يَصِحَّ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يُخَصِّصَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وقال {فاقتلوا المشركين} إلى قوله {حتى يعطوا الجزية} وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي بَابِ الْعُمُومِ مِنْ بَحْرِ الْأُصُولِ

ثُمَّ الْأَكْثَرُ فِي نَعْتِهَا وَغَيْرِهَا مُوَافَقَةُ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب} وَقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}

وَتَجِيءُ مُوَافِقَةَ مَعْنَى لَا لَفْظًا عَلَى قِلَّةٍ كَقَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء}

وَأَمَّا التَّنْكِيرُ فَلَهُ أَسْبَابٌ:

ص: 90

الْأَوَّلُ: إِرَادَةُ الْوَحْدَةِ نَحْوُ {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أقصى المدينة يسعى}

الثَّانِي: إِرَادَةُ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ للمتقين لحسن مآب} أَيْ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ

{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ،وَهِيَ التَّعَامِي عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الظَّاهِرَةِ لِكُلِّ مبصر ويجوز أن يكون للتعظيم وجريا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ من ماء} {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْرِصُوا عَلَى أَصْلِ الْحَيَاةِ حَتَّى تُعْرَفَ بَلْ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ نَوْعٍ وَإِنْ كَانَ الزَّائِدُ أَقَلَّ شَيْءٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَيَاةِ

الثَّالِثُ: التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من الله ورسوله} أَيْ بِحَرْبٍ وَأَيُّ حَرْبٍ

وَكَقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أليم بما كانوا يكذبون} أَيْ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ

وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عذاب من الرحمن} وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ خِلَافُهُ وَهَذَا لَمْ يصرح بأن العذاب لا حق بِهِ بَلْ قَالَ: {يَمَسَّكَ} وَذَكَرَ الْخَوْفَ وَذَكَرَ اسْمَ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَقُلِ الْمُنْتَقِمُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ التَّعْظِيمَ

وَقَوْلَهُ: {أَنَّ لهم جنات}

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَمْ يُنْكِرِ الْأَنْهَارَ فِي قَوْلِهِ {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ؟

ص: 91

قُلْتُ: لَا غَرَضَ فِي عِظَمِ الْأَنْهَارِ وَسَعَتِهَا بخلاف الجنات

ومنه {سلام على إبراهيم} {وسلام عليه يوم ولد}

وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ سَلَامَ عِيسَى فِي قَوْلِهِ {والسلام علي يوم ولدت} فإنه

في قصة دعائه الرَّمْزُ إِلَى مَا اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّلَامُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ وَكُلُّ اسْمٍ نَادَيْتَهُ بِهِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ ذَلِكَ الِاسْمُ نَحْوُ يَا غَفُورُ يَا رَحِيمُ

الرَّابِعُ: التَّكْثِيرُ نَحْوُ إِنَّ لَهُ لَإِبِلًا وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّ لنا لأجرا} أَيْ أَجْرًا وَافِرًا جَزِيلًا لِيُقَابِلَ الْمَأْجُورَ عَنْهُ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَى مِثْلِ مُوسَى عليه السلام فَإِنَّهُ لَا يُقَابِلُ الْغَلَبَةَ عَلَيْهِ بِأَجْرٍ إِلَّا وَهُوَ عَدِيمُ النَّظِيرِ فِي الْكَثْرَةِ

وَقَدْ أَفَادَ التَّكْثِيرَ وَالتَّعْظِيمَ مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فقد كذبت رسل} أَيْ رُسُلٌ عِظَامٌ ذَوُو عَدَدٍ كَثِيرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِوَضًا عَنْ قَوْلِهِ فَلَا تَحْزَنَ وَتَصَبَّرْ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ وَتَكَاثُرِ الْعَدَدِ

الْخَامِسُ: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَيِّ شيء خلقه} قالالزمخشري: أَيْ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ مَهِينٍ ثُمَّ بَيَّنَهُ بقوله {من نطفة خلقه}

وكقوله تعالى: {إن نظن إلا ظنا} أَيْ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَإِلَّا لَاتَّبَعُوهُ لِأَنَّ ذلك دينهم {إن يتبعون إلا الظن} السَّادِسُ: التَّقْلِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أكبر} أي رضوان

ص: 92

قَلِيلٌ مِنْ بِحَارِ رِضْوَانِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ رِضَا الْمَوْلَى رَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ للناس} إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ أَصْلُ الشِّفَاءَ فِي جُمْلَةِ صُوَرٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ

وَعَدَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْهُ {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} أَيْ بَعْضَ اللَّيْلِ

وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّقْلِيلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيلِ الْجِنْسِ إِلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَا بِبَعْضِ فَرْدٍ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ

تَنْبِيهٌ

هَذِهِ الْأُمُورُ إِنَّمَا تُعْلَمُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالسِّيَاقِ كَمَا فُهِمَ التَّعْظِيمُ فِي قَوْلِهِ تعالى {لأي يوم أجلت} مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدَهُ {لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ ما يوم الفصل} وَكَمَا فُهِمَ التَّحْقِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: {مِنْ أَيِّ شيء خلقه} من قوله بعده {من نطفة خلقه}

قاعدة فِيمَا إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ

إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ أَوْ نَكِرَتَيْنِ أَوِ الثَّانِي مَعْرِفَةٌ وَالْأَوَّلُ نَكِرَةٌ أَوْ عَكْسَهُ

ص: 93

فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ وَالثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هو الأصل في اللام أو الإضافة كـ "العسر" فِي قَوْلِهِ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} وَلِذَلِكَ وَرَدَ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ قَالَ التَّنُوخِيُّ إِنَّمَا كَانَ مَعَ الْعُسْرِ وَاحِدًا لِأَنَّ اللام طبيعة لَا ثَانِيَ لَهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْجِنْسَ هِيَ وَالْكُلِّيُّ لَا يُوصَفُ بِوَحْدَةٍ وَلَا تَعَدُّدٍ

وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إنهم لمحضرون}

وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}

وَقَوْلُهُ: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تق السيئات}

وَقَوْلُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظلم اليوم}

وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكن أكثر الناس لا يعلمون}

وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر}

وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين}

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً وَهِيَ مَنْقُوضَةٌ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الإحسان} فَإِنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَهُمَا غَيْرَانِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَمَلُ وَالثَّانِي الثَّوَابُ

ص: 94

وقوله تعالى: {أن النفس بالنفس} أي القاتلة والمقتولة

وقوله: {الحر بالحر}

وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}

وقوله: {إنا خلقنا الْإِنْسَانِ}

وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لما بين يديه}

وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكتاب يؤمنون به}

وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تشاء}

فَالْمُلْكُ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللَّهُ لِلْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ مُلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَا وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ لَكِنْ يَصْدُقُ أَنَّهُ إِيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ كَمَا صَرَّحَ بِنَحْوِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ من يشاء} فَقَدْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي الْمُنْفَصِلِ الْمُسْتَغْرَقِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْفَضْلِ

وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}

وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض}

فَالْأَوَّلُ عَامٌّ وَالثَّانِي خَاصٌّ

وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناس لا يعلمون}

ص: 95

{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون}

وقوله: {قال فالحق والحق أقول}

فَالْأَوَّلُ نُصِبَ عَلَى الْقَسَمِ وَالثَّانِي نُصِبَ بِـ "أَقُولُ"

وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزل}

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فالأولى مُعَرَّفَةٌ بِالضَّمِيرِ وَالثَّانِيَةُ عَامَّةٌ وَالْأُولَى خَاصَّةٌ فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي

وَكَذَا قَوْلُهُ: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}

وقوله: {رب العالمين رب موسى وهارون}

وقوله: {أبلغ الأسباب أسباب السماوات}

وَقَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}

وَقَوْلُهُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ،ثُمَّ قَالَ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ،فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا يَكُونُ الْأَوَّلُ خَاصًّا وَالثَّانِي عَامًّا مُتَّفِقَانِ بِالْجِنْسِ

وَكَذَلِكَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئا}

ولذلك استبدل بِهَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ إِلْغَاءُ الظَّنِّ مُطْلَقًا

ص: 96

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء} بعد قوله: {قالت إحداهما} فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى هِيَ الثَّانِيَةُ وَأَلَّا تَكُونَ

وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فتذكر إحداهما الأخرى}

فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا الثَّانِيَةُ مَفْعُولًا فَالِاسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمَعْرِفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ فَاعِلًا فَهُمَا وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ الْإِعْرَابَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ تَعَيَّنَ كَوْنُ الْأَوَّلِ فَاعِلًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فما زالت تلك دعواهم}

وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} ،فَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ مَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ كَرَّرَهُ بقوله:{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} وَالْكِتَابُ الثَّانِي التَّوْرَاةُ وَالثَّالِثُ جِنْسُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مَا هُوَ مِنْ شَيْءٍ فِي كتب الله تعالى وكلامه قاله الرَّاغِبُ

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَكِرَتَيْنِ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا قَالُوا وَالْمَعْنَى فِي هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ النَّكِرَةَ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ وَالْمَعْرِفَةَ تَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ وَالْمَشْهُورُ فِي تَمْثِيلِ هَذَا الْقِسْمِ الْيُسْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}

ص: 97

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَنْكِيرَ يُسْرًا لِلتَّعْمِيمِ وَتَعْرِيفَ اليسر للعهد الذي كان عَلَيْهِ يُؤَكِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ أَوِ الْجِنْسُ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ لِيَكُونَ الْيُسْرُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْعُسْرِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ هُنَا تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى لِتَقْدِيرِهَا فِي النَّفْسِ وَتَمْكِينِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَلِأَنَّهَا تَكْرِيرٌ صَرِيحٌ لَهَا وَلَا تَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْيُسْرِ كَمَا لَا يَدُلُّ قَوْلُنَا وَإِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا إِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا عَلَى أَنَّ مَعَهُ كِتَابَيْنِ فَالْأَفْصَحُ أَنَّ هَذَا تَأْكِيدٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي خلقكم من ضعف} الْآيَةَ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورِ غَيْرُ الْآخَرِ فَالضَّعْفُ الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ وَالثَّانِي الضَّعْفُ الْمَوْجُودُ فِي الطِّفْلِ وَالْجَنِينِ وَالثَّالِثُ فِي الشَّيْخُوخَةِ وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ حَرَكَةً وَهِدَايَةً لِاسْتِدْعَاءِ اللَّبَنِ وَالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبُكَاءِ وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ

قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي قَوْلِهِ تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} : الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ شَهْرٍ الْإِعْلَامُ بِمِقْدَارِ زَمَنِ الْغُدُوِّ وَزَمَنِ الرَّوَاحِ وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِلْمَقَادِيرِ لَا يَحْسُنُ فِيهَا الْإِضْمَارُ

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَأْتِيَ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ فِي نَحْوِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ هَلْ يَكُونُ أَمْرَيْنِ بِمَأْمُورَيْنِ وَالثَّانِي تَأْسِيسٌ أولا وَفِيهِ قَوْلَانِ وَقَدْ نَقَضُوا هَذَا الْقِسْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرض إله} فَإِنَّ فِيهِ نَكِرَتَيْنِ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ وَإِنَاطَةِ أَمْرٍ زائد

ص: 98

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُقْصَدِ التَّكْرِيرُ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَصْدِ التَّكْرِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ ذِكْرِ الرَّبِّ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {سبحان رب السماوات والأرض رب العرش}

وأجاب غيره بأن إله بِمَعْنَى مَعْبُودٍ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الصِّفَةِ فَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ زَيْدٌ ضَارِبُ عَمْرٍو ضَارِبُ بَكْرٍ لَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ وَإِنْ أَخْبَرَ بِهِمَا عَنْ ذَاتٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ الْمَضْرُوبَانِ لَا الضَّارِبَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُخْتَلِفَانِ

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبير} الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ

وَأُجِيبُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَحْكِيٌّ مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ وَالثَّانِي مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُقُوعِهِمَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فباءوا بغضب على غضب}

وَمِنْهَا: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جاءنا نذير}

وَمِنْهَا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ ينزل آية}

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً فَهُوَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا فعصى فرعون الرسول}

ص: 99

وَقَوْلِهِ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كأنها كوكب دري}

وَقَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عليهم من سبيل إنما السبيل}

وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} وَهَذَا مُنْتَقَضٌ

بِقَوْلِهِ: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فابتغوا عند الله الرزق}

وَقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صلحا والصلح خير} فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى اسْتِحْبَابِ كُلِّ صُلْحٍ فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي وَلَيْسَ بِجِنْسِهِ

وَكَذَلِكَ {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يغني من الحق شيئا}

وقوله: {ويؤت كل ذي فضل فضله} الْفَضْلُ الْأَوَّلُ الْعَمَلُ وَالثَّانِي الثَّوَابُ

وَكَذَلِكَ {وَيَزِدْكُمْ قوة إلى قوتكم} وكذلك {يزدادوا إيمانا مع إيمانهم}

وكذلك {زدناهم عذابا فوق العذاب} تَعْرِيفُهُ أَنَّ الْمَزِيدَ غَيْرُ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ

وَكَذَلِكَ {كتاب أنزلناه إليك}

وقوله: {وتقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب}

الرَّابِعُ: عَكْسُهُ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرَائِنِ فَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى التغاير

ص: 100

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لبثوا غير ساعة}

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عليهم كتابا}

وَقَوْلُهُ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسرائيل الكتاب هدى}

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْهُدَى جَمِيعُ مَا آتَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالشَّرَائِعِ وَالْهُدَى وَالْإِرْشَادِ

وَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى الِاتِّحَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا}

وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن} إلى قوله {إنا سمعنا كتابا}

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {بِالْمَعْرُوفِ}

وقوله أيضا: {من معروف} فَهُوَ مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ مُعْرِفَةً لِأَنَّ {مِنْ مَعْرُوفٍ} وَإِنْ كَانَ فِي التِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ {بِالْمَعْرُوفِ} فَهُوَ فِي الْإِنْزَالِ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ

قَوَاعِدُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَطْفِ

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى

يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ إِلَى عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى مِثْلِهِ وَعَطْفِ الْجُمَلِ

ص: 101

فَأَمَّا عَطْفُ الْمُفْرَدِ فَفَائِدَتُهُ تَحْصِيلُ مُشَارَكَةِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ فِي الْإِعْرَابِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي فَاعِلِيَّتِهِ أَوْ مَفْعُولِيَّتِهِ لِيَتَّصِلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَوْ حُكْمٌ خَاصٌّ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا في قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْوُجُوهِ كَانَتِ الْأَرْجُلُ مَغْسُولَةً وَمَنْ قَرَأَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الرُّءُوسِ كَانَتْ مَمْسُوحَةً لَكِنْ خُولِفَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ يُرَجِّحُ وَلَا بُدَّ فِي هَذَا مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فَتَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لِأَنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَلَوْ قُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ وَرَجُلٌ لَمْ يَسْتَقِمْ لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ نَكِرَةً نَعَمْ إِنْ تَخَصَّصَ فَقُلْتَ وَرَجُلٌ آخَرُ جَازَ

وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى مِنَ النَّحْوِيِّينَ: وَأَمَّا عَطْفُ الْجُمْلَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَكَمَا سَبَقَ لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَحَلَّ الْمُفْرَدِ نَحْوُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ خُلُقُهُ حَسَنٌ وَخُلُقُهُ قَبِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَا مَحَلَّ لَهَا نَحْوُ زَيْدٌ أَخُوكَ وَعَمْرٌو صَاحِبُكَ فَفَائِدَةُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ فِي مُقْتَضَى الْحَرْفِ الْعَاطِفِ فَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِغَيْرِ الْوَاوِ ظَهَرَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنَ التَّعْقِيبِ كَالْفَاءِ أَوِ التَّرْتِيبِ كَـ "ثُمَّ" أَوْ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الْبَاقِي كَـ "لَا"

وَأَمَّا الْوَاوُ فَلَا تُفِيدُ شَيْئًا هُنَا غَيْرَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْإِعْرَابِ

وَقِيلَ: بَلْ تُفِيدُ أَنَّهُمَا كَالنَّظِيرَيْنِ وَالشَّرِيكَيْنِ بِحَيْثُ إِذَا عَلِمَ السَّامِعُ حَالَ الْأَوَّلِ عَسَاهُ أَنْ يَعْرِفَ حَالَ الثَّانِي وَمِنْ ثَمَّةَ صَارَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ فِي اللَّفْظِ يُوجِبُ القران في الحكم ومن ها هُنَا شَرَطَ الْبَيَانِيُّونَ التَّنَاسُبَ بَيْنَ الْجُمَلِ لِتَظْهَرَ الْفَائِدَةُ حَتَّى إِنَّهُمْ مَنَعُوا عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَعَكْسَهُ

وَنَقَلَهُ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ يَقْبُحُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا الْكَلَامَ الْوَاجِبَ فِي مَوْضِعِ الْمَنْفِيِّ فَيَصِيرُوا قَدْ ضَمُّوا إِلَى الْأَوَّلِ مَا لَيْسَ بِمَعْنَاهُ انْتَهَى وَلِهَذَا مَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْوَاوِ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْأُولَى

ص: 102

خَبَرِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ طَلَبِيَّةٌ وَجَوَّزَهُ ابْنُ الطَّرَاوَةِ لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي التَّبَرُّكِ

وَخَالَفَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ كَابْنِ خَرُوفٍ وَالصَّفَّارِ وَابْنِ عَمْرٍو وَقَالُوا يُعْطَفُ الْأَمْرُ عَلَى الْخَبَرِ وَالنَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ قال تعالى {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يعصمك من الناس} ،فَعَطَفَ خَبَرًا عَلَى جُمْلَةِ شَرْطٍ وَجُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى الْأَمْرِ

وَقَالَ تَعَالَى {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ من المسلمين}

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ من المشركين} فعطف نهيا على خبر

ومثله {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}

قَالُوا: وَتُعْطَفُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا اشْتِرَاكَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والراسخون في العلم} عَلَى قَوْلِنَا بِالْوَقْفِ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اختص به

وقال: {وأولئك هم الفاسقون} فَإِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ بِخَبَرِهَا فَلَا يُوجِبُ الْعَطْفُ الْمُشَارَكَةَ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ الْجُمْلَتَانِ الْأُولَيَانِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المحصنات ثم لم يأتوا} كَقَوْلِكَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ طَلَاقُ الثَّانِيَةِ بِالشَّرْطِ وَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ لِمَا تَقَدَّمَهُ وَيَبْقَى الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قلبك ويمح الله الباطل} فإنه

ص: 103

عِلَّةٌ تَامَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الشَّرْطِ وَلَوْ دَخَلَتْ كَانَ خَتْمُ الْقَلْبِ وَمَحْوُ الْبَاطِلِ مُتَعَلِّقَيْنِ بِالشَّرْطِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وَقَدْ عُدِمَ خَتْمُ الْقَلْبِ وَوُجِدَ مَحْوُ الْبَاطِلِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا سَقَطَتِ الْوَاوُ فِي الْخَطِّ وَاللَّفْظُ لَيْسَ لِلْجَزْمِ بَلْ سُقُوطُهُ مِنَ اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَفِي الْخَطِّ اتِّبَاعًا لِلَّفْظِ كَسُقُوطِهِ فِي قوله تعالى {ويدع الأنسان} وقوله {سندع الزبانية} وَلِهَذَا وَقَفَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ بِالْوَاوِ نَظَرًا لِلْأَصْلِ وَإِنْ وَقَفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ وَاوٍ اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَاءُ إِعَادَةِ الِاسْمِ في قوله {ويمح الله} وَلَوْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا لَقِيلَ وَيَمْحُ الْبَاطِلَ وَمِثْلُهُ {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام ما نشاء}

وَقَوْلُهُ: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى من يشاء}

وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ولباس التقوى} وَغَيْرُ ذَلِكَ

قُلْتُ: وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَأَمَّا {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} وَمَا بَعْدَهُ فَهِيَ لِلِاسْتِئْنَافِ إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعَطْفِ لَانْتَصَبَ "نُقِرُّ" وجزم"ويتوب" وكذلك فِي {وَالرَّاسِخُونَ} لِلِاسْتِئْنَافِ {وَيَمْحُ اللَّهُ}

وَقَالَ: الْبَيَانِيُّونَ لِلْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ مِنَ الْمَوْصُوفِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ الْمُؤَكَّدِ فَلَا يَدْخُلُهَا عَطْفٌ لِشِدَّةِ الِامْتِزَاجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}

ص: 104

وقوله {ختم الله على قلوبهم} مع قوله {لا يؤمنون}

وكذلك: {يخادعون الله} مع قوله: {وما هم بمؤمنين} فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَ قَوْلِهِمْ {آمَنَّا} مِنْ غَيْرِ اتِّصَافِهِمْ

وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ {إِنَّا مَعَكُمْ} أَنَّا لَمْ نُؤْمِنْ وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} خَبَرٌ لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ

وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أذنيه وقرا}

وَقَوْلِهِ: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا ملك كريم} فَإِنَّ كَوْنَهُ مَلِكًا يَنْفِي كَوْنَهُ بَشَرًا فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى

وَقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مبين}

وَقَوْلِهِ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وحي يوحى}

وقوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} فإنها مؤكدة لقوله: {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}

وَقَوْلِهِ: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم} فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ

ص: 105

وقوله: {إن المتقين في مقام أمين} بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تمترون}

وقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} إِذَا جُعِلَتْ {إِنَّا لَا نُضِيعُ} خَبَرًا إِذِ الْخَبَرُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ

وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} بَعْدَ قَوْلِهِ {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يسمعون}

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُغَايِرَ مَا قَبْلَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نوع من الارتباط بِوَجْهٍ فَلَا عَطْفَ أَيْضًا إِذْ شَرْطُ الْعَطْفِ الْمُشَاكَلَةُ وَهُوَ مَفْقُودٌ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الذين كفروا سواء عليهم} بعد قوله {وأولئك هم المفلحون}

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَاحِدًا أَدَّى إِلَى الْإِلْبَاسِ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْطِفِ الْتَبَسَ حَالَةُ الْمُطَابَقَةِ بِحَالَةِ المغايرة وهلا عطفت الحالة الأولى بِالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ يُوهِمُ الْمُطَابَقَةَ والعطف يوهم عدمها فلما اخْتِيرَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ عَنْ إِلْبَاسٍ؟

قِيلَ: الْعَاطِفُ يُوهِمُ الْمُلَابَسَةَ بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ بِخِلَافِ سُقُوطِ الْعَاطِفِ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَوْهَمَ الْمُطَابَقَةَ إِلَّا أَنَّ أَمْرَهُ وَاضِحٌ فَبِأَدْنَى نَظَرٍ يُعْلَمُ فَزَالَ الْإِلْبَاسُ

الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُغَايِرَ مَا قَبْلَهَا لَكِنْ بَيْنَهُمَا نوع ارتباط وهذه هي الَّتِي يَتَوَسَّطُهَا الْعَاطِفُ كَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خالدون}

ص: 106

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سَقَطَ الْعَطْفُ مِنْ {أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضل} وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ؟

قُلْتُ: لِأَنَّ الْغَفْلَةَ شَأْنُ الْأَنْعَامِ فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كَأَنَّهَا هِيَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فَإِنْ قُلْتَ لِمَ سَقَطَ في قوله {الله يستهزئ بهم} ؟

قُلْتُ: لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَالْمَسْئُولِ عَنْهَا فَنُزِّلَ تَقْدِيرُ السُّؤَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِهِ

الْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لِمَ كَانَ كذا فقيل كذا فهاهنا لَا عَطْفَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عشاء يبكون قالوا يا أبانا} وقوله: {فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا} التَّقْدِيرُ فَمَا قَالُوا أَوْ فَعَلُوا فَأُجِيبَ هَذَا التَّقْدِيرُ بِقَوْلِهِ قَالُوا

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ

يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى مِثْلِهِ وَالْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ إِلَى أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: عَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَشَرَطَ ابْنُ عَمْرُونٍ وَصَاحِبُهُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ أَنْ يَصِحَّ أَنْ يُسْنَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى مَا أُسْنِدَ إِلَى الْآخَرِ وَلِهَذَا مَنَعَ أَنْ يَكُونَ {وزوجك} في {اسكن أنت وزوجك} معطوفا على المستكن في أنت وَجَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سوى} لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ حُلُولَهُ مَحَلَّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ حُلُولُ زَوْجِكَ مَحَلَّ الضَّمِيرِ لأن فاعل

ص: 107

فِعْلِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ الْمُذَكِّرِ نَحْوَ قُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا فَكَيْفَ يَصِحُّ وُقُوعُ الظَّاهِرِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي قَبْلَهُ!

وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ تَقُومُ هِنْدٌ وَزَيْدٌ وَلَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ زَيْدٍ لِـ "تَقُومُ" لِتَأْنِيثِهِ

الثَّانِي: عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّفَاقُ زَمَانِهِمَا فَإِنْ خَالَفَ رد إلى الاتفاق بالتأويل لاسيما إِذَا كَانَ لَا يُلْبِسُ وَكَانَتْ مُغَايَرَةُ الصِّيَغِ اتِّسَاعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وأقاموا الصلاة} عطف الْمَاضِيَ عَلَى الْمُضَارِعِ لِأَنَّهَا مِنْ صِلَةِ الَّذِينَ وَهُوَ يُضَارِعُ الشَّرْطَ لِإِيهَامِهِ وَالْمَاضِي فِي الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ تَغَايَرَتِ الصِّيَغُ فِي هَذَا كَمَا تَرَى وَاللَّبْسُ مَأْمُونٌ وَلَا نَظَرَ فِي الْجُمَلِ إِلَى اتِّفَاقِ الْمَعَانِي لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا انْتَهَى

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} ثم قال {ويجعل لك قصورا}

وقوله: {ويوم نسير الجبال} ثُمَّ قَالَ {وَحَشَرْنَاهُمْ}

وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: لَا يَتَمَشَّى عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا فِي الْمُضَارِعِ مَنْصُوبًا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا} أَوْ مَجْزُومًا كَقَوْلِهِ {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ويؤخركم إلى أجل مسمى}

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَكَمْتُمْ بِأَنَّ الْعَاطِفَ مُخْتَصٌّ بِالْمُضَارِعِ وَهُمْ يَقُولُونَ قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ

ص: 108

بَكْرٌ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} فِيهِ عَطْفُ الْمَاضِي عَلَى الْمَاضِي وَعَطْفُ الدُّعَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ!

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَطْفِ هُنَا أَنْ تَكُونَ لَفْظَتَانِ تَتْبَعُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا الْأُولَى فِي إِعْرَابِهَا وَإِذَا كَانَتِ اللَّفْظَةُ غَيْرَ مُعَرَّبَةٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ فِيهَا التَّبَعِيَّةُ فَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا الْعَطْفَ الَّذِي نَقْصِدُهُ الْآنَ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ مَعْطُوفَةٌ الْعَطْفَ الَّذِي لَيْسَ لِلْإِتْبَاعِ بَلْ يَكُونُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هُمَا جُمْلَتَانِ وَالْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْإِعْرَابِ إِلَّا أَنْ تَحِلَّ مَحَلَّ الْفَرْدِ وَظَهَرَ أَنَّهُ يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَطْفِ عَلَيْهِ وَعَدَمُهُ بِاعْتَبَارَيْنِ

الثَّالِثُ: عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ وَالِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صافات ويقبضن} وقوله: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله}

وَاحْتَجَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْمُصَّدِّقِينَ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا

قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ: وَيَدُلُّ لِعَطْفِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ

ص: 109

من بينهم فويل للذين كفروا} فعطف {فويل للذين كفروا} وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عَلَى {فَاخْتَلَفَ} وَهِيَ فِعْلِيَّةٌ بِالْفَاءِ

وَقَالَ تَعَالَى: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يفقهون} وَقَالَ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خافية فأما من أوتي كتابه بيمينه}

قال وأذن جَازَ عَطْفُ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ بِـ" أَمْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أنتم صامتون} إذا لوضع لِلْمُعَادَلَةِ

وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوْقَعَ الِاسْمِيَّةَ مَوْقِعَ الْفِعْلِيَّةِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى "أَصَمَتُّمْ" فَمَا الْمَانِعُ هُنَا وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ من الحي} عَطْفًا عَلَى {يُخْرِجُ} لِأَنَّ الِاسْمَ فِي تَأْوِيلِ الفعل

والتحقق مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهُ عَطَفَ عَلَى: {فَالِقُ الحب والنوى} ،

ولا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى {يُخْرِجُ} لِأَنَّهُ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ {فَالِقُ الْحَبِّ} فَيُعْطَفُ عَلَى تَفْسِيرِهِ بَلْ هُوَ قَسِيمٌ لَهُ

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ

يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ إِلَى أَقْسَامٍ عَطْفٍ عَلَى اللَّفْظِ وَعَطْفٍ عَلَى الْمَوْضِعِ وَعَطْفٍ عَلَى التَّوَهُّمِ

فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ مَوْجُودٍ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى اللَّفْظِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا ذَاهِبٍ وَهُوَ الْأَصْلُ

ص: 110

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ لَمْ يُوجَدْ في المعطوف إلا أنه مقدر الْوُجُودِ لِوُجُودِ طَالِبِهِ فَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَوْضِعِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا ذَاهِبًا بِنَصْبِ ذَاهِبًا عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ قَائِمٍ لِأَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة} بِأَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ هذه ذكره الفارسي

وقوله: {ومن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طغيانهم يعمهون} فِي قِرَاءَةِ الْجَزْمِ إِنَّهُ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ {فَلَا هَادِيَ لَهُ}

وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى} إِنَّ بُشْرَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ لِيُنْذِرَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ

وَغَلَطَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَالْمَحَلُّ لَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَرُّ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ وَإِنَّمَا النَّصْبُ نَاشِئٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سكنا والشمس} كَوْنَ الشَّمْسِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ اللَّيْلِ

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ لَمْ يُوجَدْ هُوَ وَلَا طَالِبُهُ هُوَ الْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا وَلَا ذَاهِبٍ بِجَرِّ ذَاهِبٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ الْمَنْصُوبِ بِاعْتِبَارِ جره بالباء ولو دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَالْجَرُّ عَلَى مَفْقُودٍ وَعَامِلِهِ وَهُوَ الْبَاءُ مَفْقُودٌ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ مُتَوَهَّمُ الْوُجُودِ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِ فِي خَبَرِ لَيْسَ فَلَمَّا تُوُهِّمَ وجوده صح اعتبار مثله وهذا قليل من كَلَامِهِمْ

وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَلَكِنْ جَوَّزَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وعليه

ص: 111

خَرَّجَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} كَأَنَّهُ قِيلَ أَصْدُقَ وَأَكُنْ

وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ أَيْ مَحَلِّ "أَصَّدَّقَ"

وَالتَّحْقِيقُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: هُوَ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْفَاءَ لَمْ يُنْطَقْ بِهَا

وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ شَنَّعَ الْقَوْلَ بِهَذَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى النَّحْوِيِّينَ وَقَالَ كَيْفَ يَجُوزُ التَّوَهُّمُ فِي الْقُرْآنِ

وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ بِمُرَادِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّوَهُّمِ الْغَلَطَ بَلْ تَنْزِيلَ الْمَوْجُودِ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصَّدَّقَ} لِيُبْنَى عَلَى ذَلِكَ مَا يُقْصَدُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فيمن فَتَحَ الْبَاءَ كَأَنَّهُ قِيلَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة:

مشأيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلا ببين غرابها

وقد يجيء اسم آخَرُ وَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ربه} ثم قال {أو كالذي} عَطْفُ الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِ" إِلَى" حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَى الَّذِي فِي مَعْنَى أَرَأَيْتَ كَالَّذِي

وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قوله تعالى {وحفظا من كل شيطان} أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى

ص: 112

{إنا زينا السماء الدنيا} وَهُوَ إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ: إِنَّهُ عَطْفُ مَعْنَى {لَعَلِّي أَبْلُغُ} وَهُوَ لَعَلِّي أَنْ أَبْلُغَ فَإِنَّ خَبَرَ لَعَلَّ يَقْتَرِنُ بِـ" أَنْ" كَثِيرًا

الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ

الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ وَقَدْ يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ وَقَدْ سَبَقَ إِفْرَادُهُ بِنَوْعٍ فِي فُصُولِ التَّأْكِيدِ

الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ

يَجُوزُ فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْمُخَاطَبَيْنِ إِذَا طَالَتْ قَالَ زَيْدٌ قَالَ عَمْرٌو مِنْ غَيْرِ أَنْ تَأْتِيَ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا من المغرب} الْآيَةَ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قال رب السماوات والأرض} وَنَظَائِرُهَا

وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ

ص: 113

يَسْتَدْعِي التَّأَخُّرَ مِنْهُمَا فَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ مَبْنِيًّا عَلَى الِانْفِصَالِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُسْتَأْنَفًا ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ الذِّهْنُ يُلَائِمُ بَيْنَهُمَا

الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ

الْعَطْفُ عَلَى الْمُضْمَرِ إِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا مَرْفُوعًا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ فَاصِلِ تَأْكِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ يراكم هو وقبيله}

{فاذهب أنت وربك فقاتلا}

{اسكن أنت وزوجك الجنة} عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ فِي جَعْلِهِ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِتَقْدِيرِ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ

وَقَوْلِهِ: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}

{يدخلونها ومن صلح}

{فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن}

وجعل الزمخشري منه {إنا لمبعوثون أو آباؤنا} فِيمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَجَعَلَ الْفَصْلَ بِالْهَمْزَةِ

وَرُدَّ بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ

وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} وَأَعْرَبَ ابْنُ الدَّهَّانِ {وَلَا آبَاؤُنَا} مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ {أشركوا} مقدرا

ص: 114

وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْعَطْفَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ كَقَوْلِهِ تعالى {والذين هادوا والصابئون}

فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} فَقَالَ الْفَارِسِيُّ {وَهُوَ} مُبْتَدَأٌ وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى ضَمِيرٍ {فَاسْتَوَى} وَإِنْ كَانَ مَجْرُورًا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ الْجَارِّ فِيهِ نَحْوُ مَرَرْتُ بِهِ وَبِزَيْدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تحملون} {فقال لها وللأرض} {جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون}

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ومنك ومن نوح} فَإِنْ جَعَلْنَا {وَمِنْ نُوحٍ} مَعْطُوفًا عَلَى {مِنْكَ} فَالْإِعَادَةُ لَازِمَةٌ وَإِنْ جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى {النَّبِيِّينَ} فَجَائِزَةٌ

وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا تَلْزَمُ الْإِعَادَةُ مُحْتَجِّينَ بِآيَاتٍ:

الْأُولَى: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءلون به والأرحام} بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي {بِهِ}

فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْخَفْضُ عَلَى الْعَطْفِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رقيبا}

قُلْنَا: رَدَّهُ الزَّجَّاجُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ

الثانية: قوله تعالى: {فيها معايش ومن لستم له برازقين} {ومن لستم} أو لها الْمَانِعُونَ كَابْنِ الدَّهَّانِ بِتَقْدِيرِ وَيَرْزُقُ مَنْ لَسْتُمْ وَالزَّجَّاجُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي مَنْ لَسْتُمْ قَالَ أَبُو البقاء لأن المعنى أغناكم وأغنى مَنْ لَسْتُمْ وَقَدَّمَ أَنَّهَا نَصْبٌ

ص: 115

بِـ {جَعَلْنَا} قَالَ وَالْمُرَادُ بِـ "مَنْ" الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ وَالْبَهَائِمُ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِهَا

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تعالى {وكفر به والمسجد الحرام} وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ {الْمَسْجِدَ} مَعْطُوفٌ عَلَى {سَبِيلِ اللَّهِ} فِي قَوْلِهِ {وَصَدٌّ عَنْ سبيل الله} ويدل لذلك أنه صَرَّحَ بِنِسْبَةِ الصَّدِّ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِ {أن صدوكم عن المسجد الحرام}

وَهَذَا الْوَجْهُ حَسَنٌ لَوْلَا مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الفصل بين {صد} و {المسجد} بقوله {وكفر} وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ

وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ معطوف على {الشهر} لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ وَلَا عَلَى {سَبِيلِ} لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَصْدَرِ وَلَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَصْدَرِ قَبْلَ تَمَامِهِ

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك} قَالُوا الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِـ "مَنْ" عَلَى الْكَافِ الْمَجْرُورَةِ وَالتَّقْدِيرُ حَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ

وَرُدَّ بِأَنَّ الواو للمصاحبة ومن في محل نصب عطف عَلَى الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ

*فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ*

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذكرا} كَمَا تَقُولُ كَذِكْرِ قُرَيْشٍ آبَاءَهُمْ أَوْ قَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُمْ ذِكْرًا

لَكِنَّ هَذَا عُطِفٌ عَلَى الضمير المخفوض وذلك لا يجوز عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ.

ص: 116

وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَجَعَلُوهُ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى {ذِكْرِكُمْ} الْمَجْرُورِ بِكَافِ التَّشْبِيهِ تَقْدِيرُهُ أَوْ كَذِكْرِكُمْ أَشَدَّ فَجَعَلَ لِلذِّكْرِ ذِكْرًا مَجَازًا وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَتَابَعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُمَا

وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ الْعَطْفُ عَلَى عَامِلَيْنِ نَحْوُ لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا قَاعِدٍ عَمْرٌو عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَا قَاعِدٍ مَعْطُوفًا عَلَى قَائِمٍ وَعَمْرٌو عَلَى زَيْدٍ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَأَجَازَهُ الْأَخْفَشُ محتجا بقوله تعالى {واختلاف الليل والنهار} 2 ثُمَّ قَالَ {آيَاتٍ} بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ {لَآيَاتٍ} الْمَنْصُوبِ بِ إِنَّ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَ {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى {السماوات} 4 الْمَجْرُورِ بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ فِي فَقَدْ وُجِدَ الْعَطْفُ عَلَى عَامِلَيْنِ وَأُجِيبُ بِجَعْلِ {آيَاتٍ} تأكيد لِ آيَاتٍ الْأُولَى

قَوَاعِدُ فِي الْعَدَدِ

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى

فِي اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْعَدَدِ لَهُ اسْتِعْمَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَهَذَا يُضَافُ لِلْعَدَدِ الْمُوَافِقِ لَهُ نَحْوُ رَابِعِ أَرْبَعَةٍ وَخَامِسِ خَمْسَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِضَافَةُ خِلَافًا لِثَعْلَبٍ فَإِنَّهُ أَجَازَ ثَالِثٌ ثَلَاثَةٍ بِالتَّنْوِينِ قَالَ تَعَالَى {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وهذا لايجوز إِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى

ص: 117

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة}

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَهَذَا يُضَافُ إِلَى الْعَدَدِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي اللَّفْظِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْهُ بِوَاحِدٍ كَقَوْلِكَ ثَالِثُ اثْنَيْنِ وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ وَخَامِسُ أَرْبَعَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} أَيْ يُصَيِّرُهُمْ بِعِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ أَرْبَعَةً وَخَمْسَةً

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ بَدَأَ بِالثَّلَاثِ وَهَلَّا جَاءَ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ ثَانِيهِ وَلَا اثْنَيْنِ إِلَّا هُوَ ثَالِثُهُمْ قِيلَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ عِبَادِهِ كَفَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَادَّعَى أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَلَوْ قَالَ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ ثَانِيهِ لَثَارَتْ ضَلَالَةٌ مِنْ كُفْرٍ بِاللَّهِ وَجَعْلِهِ ثَانِيًا وَقَالَ وَهَذَا قَوْلُ اللَّهِ هَكَذَا وَلَوْ قَالَ وَلَا اثْنَيْنِ إِلَّا هُوَ ثَالِثُهُمْ لَتَمَسَّكَ بِهِ الْكُفَّارُ فَعَدَلَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذلك ولا أكثر} فَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِالتَّلْوِيحِ لَا بِالتَّصْرِيحِ فَدَخَلَ تَحْتَهُ مَالَا يَتَنَاهَى وَهَذَا مِنْ بَعْضِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ

حَقُّ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْعَدَدُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ أَوِ اسْمَ جَمْعٍ وَحِينَئِذٍ فَيُجَرُّ بِـ "مَنْ" نَحْوُ {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ}

ويجوز إضافته نحو {تسعة رهط}

وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْجُمُوعِ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ عَلَى مِثَالِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنَ التَّكْسِيرِ وَعِلَّتُهُ أَنَّ الْمُضَافَ مَوْضُوعٌ لِلْقِلَّةِ فَتَلْزَمُ إِضَافَتُهُ إِلَى جَمْعِ قِلَّةٍ طَلَبًا لِمُنَاسَبَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ

ص: 118

الْمُضَافَ فِي الْقِلَّةِ لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ عَلَى حَسَبِ الْمُفَسَّرِ فَتَقُولُ ثَلَاثَةُ أَفْلُسٍ وَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ قَالَ تعالى {من بعده سبعة أبحر}

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} فَإِنَّ قُرُوءَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى الثَّلَاثَةِ وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْقَاعِدَةِ لَقَالَ أَقْرَاءٌ

وَالْجَوَابُ: مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ أُوثِرَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ هُنَا لِأَنَّ بِنَاءَ الْقِلَّةِ شَاذٌّ فَإِنَّهُ جَمْعُ قَرْءٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَجَمْعُ فَعْلٍ عَلَى أفعال شاذ فَجَمَعُوهُ عَلَى فُعُولٍ إِيثَارًا لِلْفَصِيحِ فَأَشْبَهَ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا جَمْعَ كَثْرَةٍ فَإِنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ كَثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ

وَالثَّانِي: أن القلة بالنسبة إلى كل واحد مِنَ الْمُطْلَقَاتِ وَإِنَّمَا أَضَافَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ نَظَرًا إِلَى كَثْرَةِ الْمُتَرَبِّصَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةً حَكَاهُ فِي الْبَسِيطِ عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي

الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قُرُوءٌ

الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِضَافَةَ نَعْتٌ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ أَيْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ

كَمَا أَجَازَ الْمُبَرِّدُ ثَلَاثَةَ حَمِيرٍ وَثَلَاثَةَ كِلَابٍ عَلَى إِرَادَةِ "مِنْ" أَيْ مِنْ حَمِيرٍ وَمِنْ كِلَابٍ

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ

أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصٌ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْمَجَازِ فِي إِطْلَاقِ الْكُلِّ

ص: 119

وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْعَدَدِ وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٍ شَرِيفَةً

الْأُولَى: قَوْلُهُ تعالى: {تلك عشرة كاملة} وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّأْكِيدَ هُنَا لَيْسَ لِدَفْعِ نُقْصَانِ أَصْلِ الْعَدَدِ بَلْ لِدَفْعِ نُقْصَانِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْفَاقِدَ لِلْهُدَى لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما} وَلَوْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصًا لَمَا دَخَلَهَا الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَامًّا وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّجَوُّزَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَلْفِ فَإِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْمُبَالَغَةِ لِلتَّكْثِيرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ رَفَعَ ذَلِكَ

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثنين} وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ التَّأْكِيدِ الْجَوَابُ عَنْهُ

الرَّابِعَةُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وقوله {سبعون ذراعا} قَالُوا الْمُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ وَخُصُوصُ السَّبْعِينَ لَيْسَ مُرَادًا وَهَذَا مَجَازٌ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {ثُمَّ ارجع البصر كرتين} قِيلَ الْمُرَادُ الْمُرَاجَعَةُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَجِيءَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصْلِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ مجاز

ص: 120

أحكام الألفاظ يكثر دورانها في القرآن

لفظ "فعل"

من ذَلِكَ لَفْظُ "فَعَلَ" كَثِيرًا مَا يَجِيءُ كِنَايَةً عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَفَائِدَتُهُ الِاخْتِصَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لبئس ما كانوا يفعلون}

{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به}

وقوله: {فإن لم تفعلوا} أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

وَحَيْثُ أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}

{وتبين لكم كيف فعلنا بهم}

لفظ كَانَ

وَمِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ أو صفاته بِـ" كَانَ"

وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَلَى مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُفِيدُ الِانْقِطَاعَ لِأَنَّهَا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ

ص: 121

وَالثَّانِي: لَا تُفِيدُهُ بَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ مُعْطٍ فِي أَلْفِيَّتِهِ حَيْثُ قَالَ

*وَكَانَ لِلْمَاضِي الَّذِي مَا انْقَطَعَا*

وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كفورا} نَبَّهَ بِقَوْلِهِ كَانَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُنْذُ أُوْجِدَ مُنْطَوِيًا عَلَى الْكُفْرِ

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ سَابِقٍ وَلَا عَلَى انْقِطَاعِ طَارِئٍ وَمِنْهُ قوله تعالى {وكان الله غفورا رحيما} قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أخرجت للناس}

وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّهَا حيث وقعت في صفات الله فَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ

وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مَقَالَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَأَنَّهَا تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِالزَّمَنِ الْمَاضِي لَا غَيْرَ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا نَفْسِهَا عَلَى انْقِطَاعِ ذلك المعنى ولا بقائه بل إن أفاد الْكَلَامِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لِدَلِيلٍ آخَرَ

إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَدَ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ كَانَ كَثِيرًا نَحْوُ {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عليما} {واسعا حكيما}

ص: 122

{غفورا رحيما} {توابا رحيما} {وكنا بكل شيء عالمين} {وكنا لحكمهم شاهدين}

فحيث وقع الإخبار بـ "كان" عَنْ صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِهَا وَأَنَّهَا لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهُ وَلِهَذَا يُقَرِّرُهَا بَعْضُهُمْ بما زَالَ فِرَارًا مِمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ إِنْ كَانَ يُفِيدُ انْقِطَاعَ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ الْوُجُودِ لِقَوْلِهِمْ دَخَلَ فِي خَبَرِ كَانَ قَالُوا فَكَانَ وَمَا زَالَ مَجَازَانِ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ مَجَازًا بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَزَلِيَّةِ الصِّفَةِ ثُمَّ تَسْتَفِيدُ بَقَاءَهَا فِي الْحَالِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سُؤَالَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَكَيْفَ تَدُلُّ كَانَ الزَّمَانِيَّةُ عَلَى أَزَلِيَّةِ صِفَاتِهِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ؟

وَثَانِيهُمَا: مَدْلُولُ كَانَ اقْتِرَانُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ اقْتِرَانًا مُطْلَقًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِغْرَاقِهِ الزَّمَانَ؟

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّمَانَ نَوْعَانِ:

حَقِيقِيٌّ وَهُوَ مُرُورُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَوْ مِقْدَارُ حَرَكَةِ الْفَلَكِ عَلَى مَا قِيلَ فِيهِ

وَتَقْدِيرِيٌّ وَهُوَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بكرة وعشيا} ولا بكرة هنا وَلَا عَشِيًّا وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانٌ تَقْدِيرِيٌّ فَرْضِيٌّ

وكذلك قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيام}

ص: 123

مَعَ أَنَّ الْأَيَّامَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بوجود السموات وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَيَّامٍ تَقْدِيرِيَّةٍ

وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ كَانَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَفْرَادِ الْأَزْمِنَةِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ فَإِمَّا أَلَّا يَتَعَلَّقَ مَضْمُونُهَا بِزَمَانٍ فَيُعَطَّلَ أَوْ يُعَلَّقَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ زَمَانٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ

وَحَيْثُ وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ فَالْمُرَادُ تَارَةً الْإِخْبَارُ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْأَزَلِ نَحْوَ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا وَرَازِقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا وَتَارَةً تَحْقِيقُ نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ نَحْوَ: {وَكُنَّا فاعلين} وَتَارَةً ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ وَإِنْشَاؤُهُ نَحْوَ {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} فَإِنَّ الْإِرْثَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ

وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ فَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا فِيهِمْ غَرِيزَةٌ وَطَبِيعَةٌ مَرْكُوزَةٌ فِي نَفْسِهِ نَحْوُ {وكان الأنسان عجولا} {إنه كان ظلوما جهولا}

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} أي خلق على هذه الصفة وهي مُقَدَّرَةٌ أَوْ بِالْقُوَّةِ ثُمَّ تَخَرَّجَ إِلَى الْفِعْلِ

وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ أَفْعَالِهِمْ دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ نَحْوَ {إِنَّهُمْ كَانُوا يسارعون في الخيرات}

ص: 124

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحِكَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بلفظ كان يصوم وكنا نَفْعَلُ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يُفِيدُ الدَّوَامَ فَإِنْ عَارَضَهُ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّوَامِ مِثْلَ أَنْ يُرْوَى كَانَ يَمْسَحُ مَرَّةً ثُمَّ نُقِلَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا فَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَإِنْ رُوِيَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ تَعَارَضَا

وَقَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: إِذَا اسْتُعْمِلَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاضِي فَهَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاتِّصَالَ أو لَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا فَهَلْ هُوَ الْآنَ قَائِمٌ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ ضَرُورَةً وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جَعْلِهَا لِلدَّوَامِ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غفورا رحيما} وقوله {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} وَهَذَا عِنْدَنَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ هَلْ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَالْمَعْنَى أَيْ قَدْ كَانَ عِنْدَكُمْ فَاحِشَةً وَكُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ فِيهِ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ

قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: فِي أَمَالِيهِ اخْتُلِفَ فِي كَانَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ {وَكَانَ اللَّهُ عزيزا حكيما} عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى لَمْ يَزَلْ كَأَنَّ الْقَوْمَ شَاهَدُوا عِزًّا وَحِكْمَةً وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فَقِيلَ لَهُمْ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ كَذَلِكَ قَالَ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ

وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ فَإِذَا كَانَ فِعْلًا مُتَطَاوِلًا لَمْ يَدُلَّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّهُ زَالَ وَانْقَطَعَ كَقَوْلِكَ كَانَ فُلَانٌ صَدِيقِي لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ صَدَاقَتَهُ قَدْ زَالَتْ بَلْ يَجُوزُ بَقَاؤُهَا وَيَجُوزُ زَوَالُهَا

ص: 125

فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لكم عدوا مبينا} لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ بَاقِيَةٌ

وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم}

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَأَمَّا فِي الزَّمَنِ الْحَاضِرِ فَقَدْ يَكُونُ بَاقِيًا مُسْتَمِرًّا وَقَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رحيما} وَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ

قَالَ السِّيرَافِيُّ: قَدْ يَرْجِعُ الِانْقِطَاعُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَغْفُورِ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُغْفَرُ لَهُ وَلَا مَنْ يُرْحَمُ فَتَنْقَطِعَ الْمَغْفِرَةُ والرحمة

وكذا: {وكان الله عليما حكيما} وَمَعْنَاهُ الِانْقِطَاعُ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ لَا نَفْسَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ

وَفِيهِ نَظَرٌ

وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ مَا مَعْنَاهُ إِنَّ" كَانَ" تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصْفِ وَقِدَمِهِ وَمَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ

وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ فَلَاحٍ الْيَمَنِيُّ فِي كِتَابِ الْكَافِي: قَدْ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ كَقَوْلِهِ {وَكَانَ الله غفورا رحيما} {وكان الله سميعا بصيرا} {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} دَلَّتْ عَلَى الدَّوَامِ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَدَوَامِ التَّعَبُّدِ بِالصِّفَاتِ وَقَدْ تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ نَحْوَ كَانَ هَذَا الْفَقِيرُ غَنِيًّا وَكَانَ لِي مَالٌ

ص: 126

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ كَانَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:

بِمَعْنَى الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وكان الله عليما حكيما}

وَبِمَعْنَى الْمُضِيِّ الْمُنْقَطِعِ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تسعة رهط} وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مَعَانِي كَانَ كَمَا تَقُولُ كَانَ زَيْدٌ صَالِحًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُ

وَبِمَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خير أمة} وَقَوْلِهِ {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا موقوتا}

وَبِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شره مستطيرا}

وبمعنى صار كقوله: {وكان من الكافرين}

مسألة

في حكم "كان" إذا وقعت بعد "إن"

كَانَ فِعْلٌ مَاضٍ وَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ إِنْ كَانَتْ فِي الْمَعْنَى لِلِاسْتِقْبَالِ

وَقَالَ الْمُبَرِّدُ تَبْقَى عَلَى الْمُضِيِّ لِتَجَرُّدِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ فَلَا يُغَيِّرُهَا أَدَاةُ الشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قلته} {إن كان قميصه}

وَهَذَا ضَعِيفٌ لِبِنَائِهِ عَلَى أَنَّهَا لِلزَّمَانِ وَحْدَهُ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ مَعَ إِنْ للاستقبال قال تعالى {إن كنتم صادقين} وأما {إن كنت قلته} فَتَأَوَّلَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ أَكُنْ قُلْتُهُ وَكَذَا {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إِنْ يَكُنْ قميصه

ص: 127

مسألة في نفي كان وأخواتها

إِذَا نُفِيَتْ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَزَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا إِذَا نُفِيَتْ كَانَ اسْمُهَا مُثْبَتًا وَالْخَبَرُ مَنْفِيًّا قَالَ لِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ما كان حجتهم إلا أن قالوا} فَالْقَوْلُ مُثَبَتٌ وَالْحُجَّةُ هِيَ الْمَنْفِيَّةُ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ لَازِمٍ إِذْ قَدْ قُرِئَ مَا كَانَ حُجَّتُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ وَلَكِنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ كَانَ مُلْغَاةٌ أَيْ زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ مَا حُجَّتُهُمْ إِلَّا

وَهَذَا إِنْ ساغ له هاهنا فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} فَإِنَّهُ قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هنا ملغاة

لفظ جَعَلَ

وَمِنْ ذَلِكَ جَعَلَ وَهِيَ أَحَدُ الْأَفْعَالِ المشتركة التي هي أمهات أحداث وهي فعل وعمل وجعل وطفق وأنشأ وأقبل وَأَعَمُّهَا فَعَلَ يَقَعُ عَلَى الْقَوْلِ وَالْهَمِّ وَغَيْرِهِمَا {ويفعلون ما يؤمرون}

ودونه عمل لأنه يعم النِّيَّةَ وَالْهَمَّ وَالْعَزْمَ وَالْقَوْلَ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عملوا من عمل} أي من صلاة وصدقة وجهاد

ولجعل أحوال:

ص: 128

أَحَدُهَا: بِمَعْنَى سَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عضين} أَيْ سَمَّوْهُ كَذِبًا وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هم عباد الرحمن إناثا} عَلَى قَوْلٍ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثى}

الثاني: بمعنى المقاربة مثل كاد وطفق لَكِنَّهَا تُفِيدُ مُلَابَسَةَ الْفِعْلِ وَالشُّرُوعَ فِيهِ تَقُولُ جَعَلَ يَقُولُ وَجَعَلَ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا شَرَعَ فِيهِ

الثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ فَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ كقوله تعالى {وجعل الظلمات والنور} أَيْ خَلَقَهُمَا

فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَعْلِ وَالْخَلْقِ؟

قِيلَ: إِنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ وَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمَخْلُوقُ

وَأَيْضًا، فَالْخَلْقُ يَكُونُ عَنْ عَدَمٍ سَابِقٍ حَيْثُ لَا يتقدم مادة لا سَبَبٌ مَحْسُوسٌ وَالْجَعْلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْجُودٍ مُغَايِرٍ لِلْمَجْعُولِ يَكُونُ مِنْهُ الْمَجْعُولُ أَوْ عَنْهُ كَالْمَادَّةِ وَالسَّبَبِ وَلَا يَرِدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ جَعَلَ فِي الْأَكْثَرِ مُرَادًا بِهِ الْخَلْقُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ قَبْلَهُ مَا يَكُونُ عَنْهُ أَوْ منه أو شيئا فيه محسوسا عنه يكون ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ الثَّانِيَ بِخِلَافِ خَلَقَ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَقَعُ كَثِيرًا بِهِ عَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُودَهُ وُجُودٌ مُغَايِرٌ يَكُونُ عَنْهُ هَذَا الثَّانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وجعل الظلمات والنور} وَإِنَّمَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ عَنْ أَجْرَامٍ تُوجَدُ بِوُجُودِهَا وَتُعْدَمُ بِعَدَمِهَا وَقَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وجعل فيها رواسي}

ص: 129

وَقَالَ {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تركبون}

وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {وَجَعَلَ مِنْهَا زوجها}

وفي سورة النساء: {وخلق منها زوجها} فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ الْمُتَرَادِفَيْنِ

الرَّابِعُ: بِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالتَّصْيِيرِ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِمَّا حِسًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} {والله جعل لكم الأرض بساطا} {فجعلهم جذاذا} {وجعلناهم أئمة} {وجعلناكم أكثر نفيرا} وَإِمَّا عَقْلًا مِثْلَ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} {جاعل الملائكة رسلا} ونحو قوله {اجعل هذا البلد آمنا} وقوله {وجعلنا الليل لباسا} لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَيْئَيْنِ الْمَنْقُولِ وَهُوَ اللَّيْلُ وَالْمَنْقُولِ إِلَيْهِ وَهُوَ اللِّبَاسُ

وَأَبْيَنُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} {جعلنا عاليها سافلها} {وجعلنا نومكم سباتا}

والمعاش في قوله: {وجعلنا النهار معاشا} اسْمُ زَمَانٍ لِكَوْنِ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَيَجُوزُ أن يكون مصدر لِمَعْنَى الْمَعِيشِ {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وَمَعْنَاهُ صَيَّرْنَاهُ لِأَنَّ مَرْيَمَ إِنَّمَا صَارَتْ مَعَ وَلَدِهَا عليه السلام لَمَّا خُلِقَ مِنْ جَسَدِهَا لا من أب فصار عِنْدَ ذَلِكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَمُحَالٌ أَنَّهُ

ص: 130

يُرِيدُ خَلَقْنَاهُمَا لِأَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تُخْلَقْ فِي حِينِ خَلْقِ وَلَدِهَا بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَمُحَالٌ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودًا فِي حَالِ بَقَائِهِ

فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عربيا} ،فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ أَيْ صَيَّرْنَاهُ يُقْرَأُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ لِأَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ عِبْرِيٌّ وَسُرْيَانِيٌّ وَلِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وإنه لفي زبر الأولين} {إن هذا لفي الصحف الأولى}

وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْمَعْنَى وَالْفَارِسِيَّةُ تُؤَدِّي الْمَعْنَى وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَكَأَنَّهُ نَقَلَ الْمَعْنَى مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَصَيَّرَهُ عَرَبِيًّا

وَأَخْطَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ جَعَلَهُ بِالْخَلْقِ وَهُوَ مَرْدُودٌ صِنَاعَةً وَمَعْنًى أَمَّا الصِّنَاعَةُ فَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ وَتَعْدِيَتُهُ لِمَفْعُولَيْنِ وَإِنِ احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى لَكِنْ بِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ أَوِ التَّصْيِيرِ عَلَى مَا سَبَقَ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقْنَا التِّلَاوَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي حُدُوثِ مَا يَقُومُ بِأَلْسِنَتِنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ

وَقَالَتِ: الْقَدَرِيَّةُ إِنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ أَوْجَدَهُ بَعْدَ عَدَمِهِ وَأَحْدَثَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ عِنْدَ حُدُوثِهِ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى تأويله ليس فيها تضمن لِعَقِيدَتِهِ الْبَاطِلَةِ

وَقَالَ: الْآمِدِيُّ فِي أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ الْجَعْلُ فِيهِ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جعلوا القرآن عضين} أَيْ يُسَمُّونَهُ كَذِبًا

ص: 131

قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْجَعْلَ عَلَى بَابِهِ وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ دُونَ مَدْلُولِهَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ إِذْنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى فِي الْقُرْآنِ" أَيْ بِالْقِرَاءَةِ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاعِدَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ وَتَارَةً يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فَإِنْ تَعَدَّى لِوَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَأَمَّا إذا تعدى لاثنين فيجيء بمعنى الخلق كقوله تعالى {وجعلنا الليل والنهار آيتين} وَبِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} {الذين جعلوا القرآن عضين}

وَيَجِيءُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مريم وأمه آية} أي صيرناهما

إذا علمت هذا فإذن ثَبَتَ أَنَّ الْجَعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لِاثْنَيْنِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْخَلْقِ بَلْ يَحْتَمِلُ الْخَلْقَ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ تَعَلُّقٌ لِلْقَدَرِيَّةِ عَلَى خَلْقِ القرآن لأن الدليل لابد أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ عَلَى مَعْنَى جَعَلْنَا التِّلَاوَةَ عَرَبِيَّةً

قُلْتُ: وَهَذَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَهُ وَإِنْ جَوَّزْنَا حُدُوثَ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ عَنِ السَّلَفِ بَلْ نَقُولُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ

الْخَامِسُ: بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لله شركاء الجن} {ويجعلون لله ما يكرهون}

ص: 132

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عباد الرحمن إناثا} أَيِ اعْتَقَدُوهُمْ إِنَاثًا

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَبْلَهُ وَوَجْهُ النَّقْلِ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسُوا إِنَاثًا فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ نَقَلُوهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ فَصَيَّرُوهُمْ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ إِنَاثًا

وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فلا تجعلوا لله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَلَا تَعْتَقِدُوهَا لِأَنَّهُمْ مَا سَمَّوْهَا حَتَّى اعْتَقَدُوهَا

وَكَذَلِكَ: {الذين جعلوا القرآن عضين} أي سموه وجزؤوه أَجْزَاءً فَجَعَلُوا بَعْضَهُ شِعْرًا وَبَعْضَهُ سِحْرًا وَبَعْضَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ

وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ} إنها بمعنى.......

وقوله: {أجعلتم سقاية الحاج} أَيِ اعْتَقَدْتُمْ هَذَا مِثْلَ هَذَا

فَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأرض} ،فَالنَّقْلُ وَالتَّصْيِيرُ رَاجِعَانِ إِلَى الْحَالِ أَيْ لَا تَجْعَلْ حَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ حَالِ هَؤُلَاءِ وَلَا تَنْقِلْهَا إِلَيْهَا

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شركاء خلقوا كخلقه} أَيِ اعْتَقَدُوا لَهُ شُرَكَاءَ

السَّادِسُ: بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَالْحَقُّ كَقَوْلِهِ {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}

ص: 133

وَالْبَاطِلُ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث} الْآيَةَ

وَبِمَعْنَى أَوْجَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كنت عليها} أَيْ أَوْجَبْنَا الِاسْتِقْبَالَ إِلَيْهَا

وَكَقَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ الله من بحيرة} ، {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} وَمَعْنَى كُنْتُ عَلَيْهَا أَيْ أَنْتَ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ {كنتم خير أمة أخرجت للناس} أي أأنتم

السَّابِعُ: ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ بِمَعْنَى أَلْقَى فَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا فِي قَوْلِكِ جَعَلْتَ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ

وَمِثْلُهُ قوله: {وجعل فيها رواسي}

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بعض} وبعضه بَدَلٌ مِنَ الْخَبِيثِ

وَقَوْلُهُ عَلَى بَعْضٍ أَيْ فَوْقَ بَعْضٍ

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أَيْ أَلْقَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَّلَ فِيهَا الْمُرَادَ بِخَلْقِ الْجِبَالِ وَأَبَانَ إِنْعَامَهُ فَقَالَ {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تميد بكم}

فَائِدَةٌ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} قِيلَ كَيْفَ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْجَعْلِ

ص: 134

هُنَا مَعَ أَنَّ الْمَجْعُولَ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ قَبْلَ الْجَعْلِ مَعَ صِفَةِ الْمَجْعُولِ كَقَوْلِكَ جَعَلْتُ زَيْدًا قَائِمًا فَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ الْقِيَامِ وَهُنَا لَمْ يُوجَدِ الْجَعْلُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْجَعْلِ فِيهِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّيْلَ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ السَّوَادُ وَالنَّهَارُ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ النُّورُ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ جِسْمٌ قَامَ بِهِ ضَوْءٌ وَالْأَجْسَامُ وَالْجَوَاهِرُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالذَّاتِ وَالْعَرَبُ تُرَاعِي مِثْلَ هَذَا نَقَلَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُمْ قَالُوا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَكَسَوْتُكَ فَجَعَلُوا الْإِحْسَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ بِدَلِيلِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَقَدُّمٌ ذَاتِيٌّ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ فِي الْخَارِجِ هُوَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ

وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْسَانَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ بَلْ مَعْنًى يَقُومُ بِالنَّفْسِ ينشأ عَنْهُ الْكِسْوَةُ

حَسِبَ

يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَحَيْثُ جَاءَ بعدها أن الفعل كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} {أم حسبتم أن تتركوا} وَنَظَائِرُهُ فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَالثَّانِي عِنْدَهُ مُقَدَّرٌ

وَيَشْهَدُ لِسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ كَلَامِهِمْ نُطْقٌ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ لَنَطَقُوا بِهِ وَلَوْ مَرَّةً

ص: 135

كَادَ

وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: أَنَّ إِثْبَاتَهَا إِثْبَاتٌ وَنَفْيَهَا نَفْيٌ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ

وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُفِيدُ الدَّلَالَةَ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ بِعُسْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ جِنِّي

وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِثْبَاتَهَا نَفْيٌ وَنَفْيَهَا إِثْبَاتٌ فَإِذَا قِيلَ كَادَ يَفْعَلُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وإن كادوا ليفتنونك} وَإِذَا قِيلَ لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فعله بدليل قوله {وما كادوا يفعلون}

وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ فِي النَّفْيِ بَيْنَ الْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي فَنَفْيُ الْمُضَارِعِ نَفْيٌ وَنَفْيُ الْمَاضِي إِثْبَاتٌ بِدَلِيلٍ {فذبحوها وما كادوا يفعلون} وقوله {لم يكد يراها} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ وَقَالَ إِنَّهُ الصَّحِيحُ

وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْمُقَارَبَةُ فَمَعْنَى كَادَ يَفْعَلُ قَارَبَ الْفِعْلَ وَمَعْنَى مَا كَادَ يَفْعَلُ لَمْ يُقَارِبْهُ فَخَبَرُهَا مَنْفِيٌّ دَائِمًا

أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً فَوَاضِحٌ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَتْ مُقَارَبَةُ الْفِعْلِ اقْتَضَى عَقْلًا عَدَمَ حُصُولِهِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا أخرج يده لم يكد يراها} وَلِهَذَا كَانَ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَرَهَا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرَ قَدْ يُقَارِبُ الرُّؤْيَةَ

وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُقَارَبَةُ مَنْفِيَّةً فَلِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِقُرْبِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي عُرْفًا عَدَمَ حُصُولِهِ وَإِلَّا لَمْ يَتَّجِهِ الْإِخْبَارُ بِقُرْبِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فذبحوها وما كادوا يفعلون}

ص: 136

فَإِنَّهَا مَنْفِيَّةٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْفِعْلِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ {فَذَبَحُوهَا}

وَوَجْهُهُ أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا بُعَدَاءَ مِنْ ذَبْحِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَنُّتِهِمْ وَحُصُولُ الْفِعْلِ إِنَّمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ {فَذَبَحُوهَا}

وَالْأَقْرَبُ أَنْ يقال: إن النفي وارد على الإثبات وَالْمَعْنَى هُنَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ الذَّبْحَ قَبْلَ ذلك لأنهم قالوا {أتتخذنا هزوا} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئا قليلا} فَالْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَوْلَا الِامْتَنَاعِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مُقَارَبَةُ الرُّكُونِ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ وُجُودِ التَّثْبِيتِ لِيَنْتَفِيَ الْكَثِيرُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ كَادَ الْمُقْتَضِيَةُ الْمُقَارَبَةَ لِلْفِعْلِ بقدر الظاهرة للتقليل كُلُّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَكَادُ يَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قليلا للتثبيت مع ما جبلت عليه

وهكذا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَغَيْرِهِ فَهُمْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ بِمَعْزِلٍ

وَحَكَى الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرَرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَكَدْ يراها}

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِعُسْرٍ أَيْ رَأَهَا بَعْدَ عُسْرٍ وَبُطْءٍ لِتَكَاثُفِ الظُّلَمِ

ص: 137

وَالثَّانِي: أَنَّهَا زَائِدَةٌ وَالْكَلَامُ عَلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَيْ لَمْ يَرَهَا أصلا لأن الله تعالى قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بعضها فوق بعض} كان مقتضى هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَحُولُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ النَّظَرِ إِلَى الْبَدَنِ وَسَائِرِ الْمَنَاظِرِ

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى أراد من قوله {كدنا ليوسف} أَيْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرَاهَا

وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} مُمْتَحِنًا لِبَصَرِهِ لم يكد يخرجها ويراها صِفَةٌ لِلظُّلُمَاتِ تَقْدِيرُهُ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ يَرَاهَا

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أكاد أخفيها لتجزى} فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى أُرِيدُ أُخْفِيهَا لِكَيْ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِسَعْيِهَا

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى

وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {آتِيَةٌ أَكَادُ} وَالْمَعْنَى أَكَادُ آتِي بِهَا ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى}

وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَكَادُ أَخْفِيهَا بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا يُقَالُ أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ وَإِذَا أَظْهَرْتُهُ

وَقِرَاءَةُ الضَّمِّ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَقِرَاءَةُ الْفَتْحِ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِظْهَارِ وَمَعْنَى سَتَرْتُهَا لِأَجْلِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا أَخْفَى وَقْتَهَا قَوِيَتِ الدَّوَاعِي عَلَى التَّأَهُّبِ لَهَا خَوْفَ الْمَجِيءِ بَغْتَةً

ص: 138

وأما قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء} فَلَمْ يُثْبِتْ لِلزَّيْتِ الضَّوْءَ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الْمُقَارَبَةَ مِنَ الضَّوْءِ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ ثُمَّ أَثْبَتَ النُّورَ بِقَوْلِهِ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النُّورَ دُونَ الضَّوْءِ لَا نَفْسُهُ

فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكَادُ يُضِيءُ مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ فَيُعْطِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ مِسَاسَ النَّارِ لَا يُضِيءُ وَلَكِنْ يُقَارِبُ الْإِضَاءَةَ لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْمِسَاسِ يُضِيءُ قَطْعًا أُجِيبُ بِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَالِ أَيْ يَكَادُ يُضِيءُ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَوْ مَسَّتْهُ لَأَضَاءَ قَطْعًا

قَاعِدَةٌ في مجيء كاد بمعنى أراد

تجيء كَادَ بِمَعْنَى أَرَادَ وَمِنْهُ {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} {أكاد أخفيها} وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي يكاد

قاعدة

فعل المطاوعة

فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ هُوَ الْوَاقِعُ مُسَبَّبًا عَنْ سَبَبٍ اقْتَضَاهُ نَحْوَ كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْخُلَاصَةِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى قَبُولِ مَفْعُولٍ لِأَثَرِ الْفَاعِلِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُطَاوِعَ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ لِقَوْلِكِ كَسَرْتُ الشَّيْءَ يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ مُعَالَجَتِكِ فِي إِيْصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَإِذَا قُلْتَ فَانْكَسَرَ عُلِمَ أَنَّهُ قَبِلَ

ص: 139

الفعل وإذا قلت لم ينكسر على أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَأَمَّا الْمُطَاوَعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَيَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ الْفَاعِلِ فِي إِيصَالِ فِعْلِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ قَبِلَ الْفِعْلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ

وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره أن المطاوع والمطاوع لابد وأن يشتركا في أصل المعنى والفرق بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ التَّأَثُّرِ وَالتَّأْثِيرِ كَالْكَسْرِ وَالِانْكِسَارِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْمُطَاوَعَةِ إِلَّا حُصُولُ فِعْلٍ عَنْ فِعْلٍ فَالثَّانِي مُطَاوِعٌ لِأَنَّهُ طَاوَعَ الْأَوَّلَ وَالْأَوَّلُ مُطَاوَعٌ لِأَنَّهُ طَاوَعَهُ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمُطَاوَعُ لَازِمًا لِلْمُطَاوِعِ وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى على الهدى}

فَأَثْبَتَ الْهُدَى بِدُونِ الِاهْتِدَاءِ

وَقَوْلُهُ: أَمَرْتُهُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ فَأَثْبَتَ الْأَمْرَ بِدُونِ الِائْتِمَارِ وَأَيْضًا فَاشْتِرَاطُ الْمُوَافَقَةِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ أَمَرْتُهُ فَأْتَمَرَ أَيِ امْتَثَلَ فَإِنَّ الِامْتِثَالَ خِلَافُ الطَّلَبِ

وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِـ {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} الْهَدْيَ الْحَقِيقِيَّ بَلْ أَوْصَلْنَا إِلَيْهِمْ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ مِنْ بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الِاهْتِدَاءِ وَأَمَّا الْأَمْرُ فَيَقْتَضِيهِ لُغَةً أَلَّا يَثْبُتَ إِلَّا بِالِامْتِثَالِ وَالِائْتِمَارِ

وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: الِائْتِمَارُ مِنَ الْأَضْدَادِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي الْأَسَاسِ يُقَالُ أَمَرْتُهُ فَائْتَمَرَ وَأَبَى أَنْ يَأْتَمِرَ أَيْ أَمَرْتُهُ فَاسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْتَمِرِ الْمُمْتَثِلُ وَيُقَالُ عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ فِعْلٌ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْعِلْمِ لِإِيجَادِهِ

ص: 140

كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ

وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ لَمَا صَحَّ عَلَّمْتُهُ فَعَلِمَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعْلِيمُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْعِلْمِ وَهُوَ عِلَّةٌ فِيهِ فَمَعْلُولُهُ وَهُوَ التَّعَلُّمُ يُوجَدُ مَعَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِنَا فَتَعَلَّمَ تَقْتَضِي تَعَقُّبَ الْعِلْمِ وَإِنْ قُلْنَا الْمَعْلُولُ يَتَأَخَّرُ فَلَا فَائِدَةَ فِي فَتَعَلَّمَ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ قَدْ فُهِمَ مِنْ عَلَّمْتُهُ فَوَضَحَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ لَكَانَ إِمَّا أَلَّا يَصِحَّ عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ أَوْ لا تكون فِي قَوْلِنَا فَتَعَلَّمَ فَائِدَةٌ بِتَأَخُّرِ الْمَعْلُولِ

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ مَنَعُوا كَسَرْتُهُ فَمَا انْكَسَرَ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ قَوْلِهِمْ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ؟

قِيلَ: فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْقَلْبِ مِنَ اللَّهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْمُعَلِّمِ وَمِنَ الْمُتَعَلِّمِ وَكَانَ عِلْمُهُ مَوْضُوعًا لِلْجَزَاءِ الَّذِي مِنَ الْمُعَلِّمِ فَقَطْ لِعَدَمِ إِمْكَانِ فِعْلٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ وَلَا بُدَّ بِخِلَافِ الْكَسْرِ فَإِنْ آثَرَهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْكِسَارِ

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْمُطَاوَعَةُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ تَقُولُ دَعَوْتُهُ فَأَجَابَ وَأَعْطَيْتُهُ فَأَخَذَ وَلَا تَقُولُهَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْمُرَادَ إِفَادَةُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المهتدي}

وَيَجُوزُ عَطْفُهُ بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}

وكقوله: {فاستجبنا له ونجيناه}

وفي موضع آخر: {فاستجبنا له فنجيناه}

ص: 141

وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ إِلَّا بِالْفَاءِ

وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قلبه عن ذكرنا} ،بِأَنَّ أَغْفَلَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى وَجَدْنَاهُ غَافِلًا لَا جَعَلْنَاهُ يَغْفُلُ وَإِلَّا لَقِيلَ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَاوِعًا

وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ اتِّبَاعُ الْهَوَى مُطَاوِعًا لِـ "أَغْفَلْنَا" بَلِ الْمُطَاوِعُ لِـ "أَغْفَلْنَا" غَفَلَ

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْغَفْلَةِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالْمُسَبَّبُ عَنِ السَّبَبِ سَبَبٌ

قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُسَبَّبٌ عَنِ الْغَفْلَةِ بَلْ قَدْ يُغْفَلُ عَنِ الذِّكْرِ وَلَا يُتَّبَعُ الْهَوَى وَيَكُونُ الْمَانِعُ لَهُ مِنْهُ غَفْلَةً أُخْرَى عَنْهُ

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي الْفَتْحِ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ اعْتِقَادُهُ الِاعْتِزَالِيُّ أَنَّ مَعْصِيَةَ الْعَبْدِ لَا تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا مُسَبَّبَةٌ لَهُ فَلِهَذَا جَعَلَ أَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى وَجَدَ لَا بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ كَلَامِهِ وَأَنَّ الْمُطَاوِعَ لَا يَجِبْ عَطْفُهُ بِالْفَاءِ

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسليمان علما وقالا الحمد لله} هَذَا مَوْضِعُ الْفَاءِ كَمَا يُقَالُ أَعْطَيْتُهُ فَشَكَرَ وَمَنَعْتُهُ فَصَبَرَ وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا قَالَاهُ بَعْضُ مَا أَحْدَثَ فِيهِمَا إِيتَاءُ الْعِلْمِ فَأَضْمَرَ ذَلِكَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالتَّحْمِيدِ كَأَنَّهُ قَالَ فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ وَعَرَفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةِ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ

وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا صَنَعَ بِهِمَا وَعَمَّا قَالَا كَأَنَّهُ قَالَ نَحْنُ فَعَلْنَا إِيتَاءَ الْعِلْمِ وَهُمَا فَعَلَا الْحَمْدَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَقَوْلِكَ قُمْ يَدْعُوكَ بَدَلَ قُمْ فَإِنَّهُ يدعوك

ص: 142

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ التَّعْلِيمِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْبُطِ الْفِعْلَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يقل واتقوا الله يعلمكم وَلَا قَالَ فَيُعَلِّمْكُمُ اللَّهُ وَإِنَّمَا أَتَى بِوَاوِ الْعَطْفِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِلثَّانِي وَإِنَّمَا غَايَتُهُ الِاقْتِرَانُ وَالتَّلَازُمُ كَمَا يُقَالُ زُرْنِي وَأَزُورُكَ وَسَلِّمْ عَلَيْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَقْتَضِي اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ وَالتَّعَارُضَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدٌ لِسَيِّدِهِ أَعْتِقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طلقني ولك أَلْفٌ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَتَّى عَلَّمَ اللَّهُ الْعِلْمَ النَّافِعَ اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِحَسَبِ ذَلِكَ

وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}

وَقَوْلُهُ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ الله تواب رحيم} وَوَجْهُ هَذَا الْخِتَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الاغتياب وهو من الظلم

وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ هَلْ يَسْتَدْعِي مُطَاوَعَةً أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ

أَحَدُهُمَا: نَعَمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يهد الله فهو المهتدي} فَأَخْبَرَ عَنْ كُلِّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يهتدي وأما قوله {وأما ثمود فهديناهم} فَلَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ فِيهِ الدَّعْوَةُ بدليل {فاستحبوا العمى على الهدى}

وَالثَّانِي: لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} وَقَوْلِهِ {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} لِأَنَّ التَّخْوِيفَ حَصَلَ وَلَمْ يَحْصُلْ

ص: 143

لِلْكُفَّارِ خَوْفٌ نَافِعٌ يَصْرِفُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ الْمُطَاوِعُ لِلتَّخْوِيفِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فِي الزَّمَانِ وَيَكُونُ أَخْرَجْتُهُ فما خرج حقيقة

فائدة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يخشاها}

قالوا في قوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} إِنَّ التَّقْدِيرَ مُنْذِرُ إِنْذَارًا نَافِعًا مَنْ يَخْشَاهَا قال الشيخ عز الدين ولا حاجة إِلَى هَذَا لِأَنَّ فَعَلَ وَأَفْعَلَ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُطَاوَعَةٌ كَخَوْفٍ وَعِلْمٍ وَشِبْهِهِ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً لِأَنَّ خَوْفٌ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الخوف وعلم إذا لم يحصل العلم كان مجازا ومنذر مَنْ يَخْشَاهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَهُوَ الْخَشْيَةُ فيكون حقيقة لمن يخشاها فإذا لَيْسَ مُنْذِرًا مَنْ لَمْ يَخْشَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرٌ فَعَلَى هَذَا {إِنَّمَا أَنْتَ منذر} فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَخْشَى دُونَ مَنْ لَمْ يَخْشَ

احْتِمَالُ الْفِعْلِ لِلْجَزْمِ وَالنَّصْبِ

فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظالمين} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ مَجْزُومًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَإِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَانَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ فَيَكُونُ قَدْ نَهَى عَنِ الظُّلْمِ كَمَا نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ فكأنه قال {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}

ص: 144

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْتُمُوا مَجْزُومًا فَهُوَ مُشْتَرِكٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَرْفِ النَّهْيِ وَالتَّقْدِيرُ لَا تَلْبِسُوا وَلَا تَكْتُمُوا أَيْ لَا تَفْعَلُوا هَذَا كَمَا فِي قَوْلِكَ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ بِالْجَزْمِ أَيْ لَا تَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَالتَّقْدِيرُ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ وَيَكُونُ مِثْلَ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ وَالْمَعْنَى لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ لَقِيتَهُ أَمَا كَفَاكَ أَحَدُهُمَا حَتَّى جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ فِي هَذَا إِبَاحَةُ أَحَدِهِمَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ

وَقَوْلُهُ {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فريضة} ،أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمَسُّ أو الفرض الْمُسْتَلْزِمُ لِعَدَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْكُمُ الْجُنَاحُ وهو المهر أو نصف المفروض وتفرضوا مجزوم عطفا على تمسوهن

وقيل: نصب وأو بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ لَمْ بَعْدَ أَوْ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِذْ يُؤَوَّلُ إِلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَسِّ مَعَ الْفَرْضِ وَعَدَمِهِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْفَرْضِ مَعَ الْمَسِّ وَعَدَمِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا يُقَدَّرُ فِيمَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا لِلُزُومِ نَفْيِ الْجُنَاحِ عِنْدَ نَفْيِ أَحَدِهِمَا وَوُجُودِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ وَانْسِحَابِ حُكْمِ لَمْ عَلَيْهِ

وَنَظِيرُهُ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كفورا}

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحكام}

ص: 145

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} وَالْوَجْهُ الْجَزْمُ وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ به الله} الآية

وقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النساء كرها ولا تعضلوهن}

وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}

وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}

وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فتنقلبوا خاسرين}

وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فتكونا من الظالمين}

وقوله في الأنفال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أماناتكم وأنتم تعلمون}

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا}

وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه}

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يروا العذاب الأليم} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى {لِيُضِلُّوا عَنْ سبيلك} فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفَاءِ

ص: 146

عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ وَأَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وتكونوا من بعده}

وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كان عاقبة الذين من قبلهم}

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ: {ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لدن حكيم خبير ألا تعبدوا} أي بأن لا تعبدوا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَيَجُوزُ جَزْمُهُ لِأَنَّهُ نَهْيٌ

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بما صددتم} يجوز عطف {وتذوقوا} على {تخذوا} أَوْ {فَتَزِلَّ} قَبْلَ دُخُولِ الْفَاءِ فَيَكُونُ مَجْزُومًا

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تعبدوا إلا إياه} أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا أَوْ عَلَى نَهْيٍ

وَفِيهَا {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحق}

وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم}

وَقَوْلُهُ فِي الْحَجِّ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسم الله} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ وَفَائِدَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ

وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} فِيمَنْ كَسَرَ اللَّامَاتِ

ص: 147

وَقَوْلُهُ فِي النَّمْلِ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مسلمين} أَيْ بِإِنْ أَوْ نَهْيٌ

وَقَوْلُهُ فِي الْعَنْكَبُوتِ {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا}

وَفِي فَاطِرٍ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}

وفي يس {ليأكلوا من ثمره} هَلْ هِيَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ

وَفِي الْمُؤْمِنِ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}

وَفِي فُصِّلَتْ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}

وفي الأحقاف {ألا تعبدوا إلا الله}

وَفِي الْقِتَالِ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}

وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّصْبِ ظُهُورُهُ فِي مِثْلِهِ {فتكون لهم قلوب}

وقوله {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم}

وقوله {ألا تطغوا في الميزان} أَيْ لِئَلَّا أَوْ مَجْزُومٌ وَقَوْلُهُ {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يكونوا لكم أعداء}

وقوله {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} فَإِنَّ {يَعْتَذِرُونَ} دَاخِلٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي النَّفْيِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} فَإِنْ كَانَ النُّطْقُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالِاعْتِذَارُ نُطْقٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ:

ص: 148

{ولا يؤذن لهم} وَلَوْ حُمِلَ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ أَيْ فَهُمْ يَعْتَذِرُونَ لَجَازَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي لَا يَنْطِقُونَ أَنَّهُمْ وَإِنْ نَطَقُوا فَمَنْطِقُهُمْ كَلَا نُطْقٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الَّذِي أَرَادُوهُ كَقَوْلِهِمْ تَكَلَّمْتَ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ

وَقَوْلُهُ {فَلَوْ أَنَّ لنا كرة} وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا قَوْلًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبي} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامَ كَيْ وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ أَوْ لَامَ الْأَمْرِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ وَقَوْلُهُ {أَتَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَمَنْ نَصَبَ {وَيَذَرَكَ} عَطَفَهُ عَلَى {لِيُفْسِدُوا}

رَأَى

إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ أَوْ عِلْمِيَّةً تَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ وَحَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَصْرِيَّةِ مَنْصُوبًا كَانَ الْأَوَّلُ مَفْعُولَهَا وَالثَّانِي حَالًا

وَمِمَّا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سكارى وما هم بسكارى} ،فَإِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً كَانَ النَّاسُ مَفْعُولًا وَسُكَارَى حَالًا وَإِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً فَهُمَا مَفْعُولَاهَا

وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية}

وقوله {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وجوههم مسودة}

ص: 149

فهذه الجملة أعني قوله {وجوههم مسودة} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ كَانَتْ قَلْبِيَّةً

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ: {ألم يروا كم أهلكنا} ،فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا فِي الْأَنْعَامِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَاءِ {أفلم يروا}

وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَّصِلَ بِمَا كَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فَيُذْكَرُ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَلِتَدُلَّ الْأَلْفُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ عَلَى عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلِهَا وَكَذَلِكَ الْفَاءُ لَكِنَّهَا أَشَدُّ اتِّصَالًا مِمَّا قَبْلَهَا

وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّصِلَ بِمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَلِفِ دُونَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ لِيَجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِئْنَافِ

وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ فِي النحل {ألم يروا إلى الطير} لِاتِّصَالِهَا بِقَوْلِهِ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وَسَبِيلُهَا الِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَبُنِيَ عَلَيْهِ {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}

وَأَمَّا أَرَأَيْتَ فَبِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا إِلَّا الشَّرْطُ وَبَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أخذ الله سمعكم} الْآيَةَ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا}

ص: 150

وقوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين}

وَأَمَّا رَأَيْتَ الْوَاقِعَةُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فَهِيَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يَلْجَئُونَ فِيهَا وَجَوَابُهَا أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا كَيْفَ يَكُونُ كَذَا بِمَعْنَى عَدَمِ الشَّرْطِ ثُمَّ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ عَلَى نَمَطِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ،فَدَخَلَهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَلَمْ تَعْجَبْ إلى كذا فتعدت بـ "إلى" كَأَنَّهُ أَلَمْ تَنْظُرْ وَدَخَلَتْ"إِلَى" بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَعُلِّقَ الْفِعْلُ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَيْسَتْ بِبَدَلٍ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُعَلَّقُ

وَأَمَّا أَرَأَيْتُكَ فَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ لَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ عَلَامَتَيْ خِطَابٍ وَهُمَا التَّاءُ وَالْكَافُ وَالتَّاءُ اسْمٌ بِخِلَافِ الْكَافِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ حَرْفٌ يُفِيدُ الْخِطَابَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى مَبْنَاهَا عَلَيْهِ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَهُوَ ذِكْرُ الِاسْتِبْعَادِ بِالْهَلَاكِ وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِخِطَابٍ وَاحِدٍ

قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْإِتْيَانُ بِأَدَاةِ الْخِطَابِ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُفِيدِ لِذَلِكَ تَأْكِيدٌ

ص: 151

بِاسْتِحْكَامِ غَفْلَتِهِ كَمَا تَحَرَّكَ النَّائِمُ بِالْيَدِ وَالْمُفْرِطُ الْغَفْلَةِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَلِهَذَا حُذِفَتِ الْكَافُ فِي آيَةِ يُونُسَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهَا ذِكْرُ صَمَمٍ وَلَا بَكَمٍ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْخِطَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا قَوْلُهُ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} إِلَى مَا بَعْدَهُنَّ فَحَصَلَ تَحْرِيكُهُمْ وَتَنْبِيهُهُمْ بِمَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إِلَّا التَّذْكِيرُ بِعَذَابِهِمْ انْتَهَى

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كرمت علي} قال البصريون هذه الكاف زائدة زيدت لمعنى المخاطبة قال محمد بن يزيد وكذلك رويدك زيدا قال والدليل على ذلك أنك إذا قلت أرأيتك زيدا فإنما هي أرأيت زيدا لأن الْكَافُ لَوْ كَانَتِ اسْمًا اسْتَحَالَ أَنْ تُعَدَّى أرأيت إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ يُرِيدُ قَوْلَهُمْ أرأيت زيدا قائما لا يعدي رأيت إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ هُوَ زَيْدٌ وَمَفْعُولٍ آخَرَ هُوَ قَائِمٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي

وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ جَعَلَ الْأَدَاةَ الْمُؤَكَّدَ بِهَا الْخِطَابُ فِي أرأيتكم ضمير لَمْ يَلْزَمْهُ اعْتِرَاضٌ بِتَعَدِّي فِعْلِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي بَابِ الظَّنِّ وَفِي فِعْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَابِ ظننت وهما فقدت وعدمت وَكَذَلِكَ تَعَدِّي فِعْلِ الظَّاهِرِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ جَائِزٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ بَابِ الظَّنِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ "رَأَيْتُ" رُؤْيَةَ الْقَلْبِ فَهِيَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ مُطْلَقًا تعدي

ص: 152

فِعْلِ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى ظَاهِرِهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِي مَنْعِ هَذَا مِنْ كُلِّ الْأَفْعَالِ

وَأَمَّا مَنْ جَرَّدَ أَدَاةَ الْخِطَابِ الْمُؤَكَّدِ بِهَا لِلْحَرْفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْكَافِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَقْوَالٍ:

قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا مَوْضِعَ لها

وقال السكاكي: موضعها نصب

وقال الفراء: رفع

إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَهَا مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى اسم مفرد أو جملة شرط كقوله {أرأيت إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} الْآيَةَ وَلَا يَقَعُ الشَّرْطُ إِلَّا مَاضِيًا لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِـ" أَرَأَيْتُكَ" وَجَوَابُ الشَّرْطِ إِمَّا مَحْذُوفٌ للعلم به وإما للاستفهام مع عامله وَإِذَا ثُنِّيَ هَذَا أَوْ جُمِعَ لَحِقَتْ بِالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ الْكَافُ وَكَانَتِ التَّاءُ مُفْرَدَةً بِكُلِّ حَالٍ

قَالَ السِّيرَافِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُهُمْ لِلتَّاءِ اسْتِغْنَاءً بِتَثْنِيَةِ الْكَافِ وَجَمْعِهَا لِأَنَّهَا لِلْخِطَابِ وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَغَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمْتُ

وَالثَّانِي: تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى انْتَبِهْ كَقَوْلِكَ أَرَأَيْتَ زَيْدًا فَإِنِّي أُحِبُّهُ أَيِ انْتَبِهْ لَهُ فَإِنِّي أُحِبُّهُ وَلَا يلزمه الاستفهام

ص: 153

وَقَدْ يُحْذَفُ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ لِلْعِلْمِ به فلا يذكر كقوله تعالى {قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بالله} فَلَمْ يَأْتِ بِجَوَابٍ

وَأَتَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْجَوَابِ وَلَمْ يَأْتِ بِالشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة فمن يهديه} فَـ" مَنْ" الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ "الَّذِي"

تَنْبِيهٌ

قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ أَرَأَيْتَ كَمَا يُلْغَى: عَلِمْتُ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي أَرَأَيْتَ وَلَا بُدَّ مِنَ النَّصْبِ إذا قلت أرأيت زيد أَبُو مَنْ هُوَ؟

قَالَ: لِأَنَّ دُخُولَ مَعْنَى أَخْبِرْنِي فِيهَا لَا يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَخْبِرْنِي فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي خِلَافَ قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ مُلْغَاةٌ لأن الاستفهام مطلوبها وعليه وقع فِي قَوْلِهِ {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يعلم} فَقَوْلُهُ {أَلَمْ يَعْلَمْ} اسْتِفْهَامٌ وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ أَرَأَيْتَ وكذلك أرأيتم وأرأيتكم فِي الْأَنْعَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ وَاقِعٌ بَعْدَهَا نَحْوَ {هَلْ يهلك إلا القوم الظالمون} و {الفاسقون}

ص: 154

وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَ سِيبَوَيْهِ فِي أَرَأَيْتَ وأرأيتك وَلَا يُقَالُ أَرَأَيْتَكَ أَبُو مَنْ أَنْتَ قَالَ لكن الذي قال سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ لَكِنْ إِذَا وَلِيَ الِاسْتِفْهَامُ أَرَأَيْتَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَفْعُولٌ سِوَى الْجُمْلَةِ

وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي التَّنْزِيلِ فَلَيْسَتِ الجملة المستفهم عنها هي مفعول أرأيت ولم يكن لها مفعول مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ وَلَا بُدَّ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا كَمَا تَقُولُ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتَ الْعَدُوَّ أَتُقَاتِلُ أَمْ لَا تَقْدِيرُهُ أَرَأَيْتَ رَأْيَكَ وَصُنْعَكَ إِنْ لَقِيتَ العدو فحذف الشَّرْطِ وَهُوَ إِنَّ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ وَمُرْتَبِطٌ بِهِ وَالْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُنْقَطِعٌ إِلَّا أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَلَوْ زَالَ الشَّرْطُ وَوَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ لقبح كما قال سيبويه وغيره فِي عَلِمْتَ وَهَلْ عَلِمْتَ وَهَلْ رَأَيْتَ وَإِنَّمَا يتجه مَعَ أَرَأَيْتَ خَاصَّةً وَهِيَ الَّتِي دَخَلَهَا مَعْنَى أَخْبِرْنِي

عَلِمَ الْعَرَفَانِيَّةُ

لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَعَانِي نحو: {لا تعلمون شيئا}

فَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نعلمهم} وَقَوْلِهِ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فَالتَّقْدِيرُ لَا تَعْلَمُ خَبَرَهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُ خَبَرَهُمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ صِدْقَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ نِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ

وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْيَقِينِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الظَّنِّ أَيْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات}

وله أن يقول: العلم على حقيقته. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ اللِّسَانِيُّ

ص: 155

ظَنَّ

أَصْلُهَا لِلِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ ظنا أن يقيما}

وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لِأَنَّ الظَّنَّ فِيهِ طَرَفٌ مِنَ الْيَقِينِ لَوْلَاهُ كَانَ جَهْلًا كَقَوْلِهِ تعالى {يظنون أنهم ملاقو ربهم} {إني ظننت أني ملاق} {وظن أنه الفراق} {ألا يظن أولئك} وَلِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ ضَابِطَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ فَهُوَ الشَّكُّ

الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بَعْدَهُ "أَنْ" الْخَفِيفَةُ فَهُوَ شَكٌّ كَقَوْلِهِ {إِنْ ظنا أن يقيما حدود الله} وَقَوْلِهِ {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ}

وَكُلُّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حسابيه} {وظن أنه الفراق}

وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةَ لِلتَّأْكِيدِ فَدَخَلَتْ عَلَى الْيَقِينِ وَأَنَّ الْخَفِيفَةَ بِخِلَافِهَا فَدَخَلَتْ فِي الشَّكِّ

مِثَالُ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضعفا} ذكر بِـ" أَنَّ" وَقَوْلُهُ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الله}

ومثال الثاني: {وحسبوا ألا تكون فتنة} وَالْحُسْبَانُ الشَّكُّ

فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ من الله إلا إليه}

ص: 156

قيل: لأنها اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ

فَتَمَسَّكْ بِهَذَا الضَّابِطِ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ

ثُمَّ رَأَيْتُ الرَّاغِبَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ

الظَّنُّ أَعَمُّ أَلْفَاظِ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا حَصَلَ عَنْ أَمَارَةٍ فَمَتَى قَوِيَتْ أَدَّتْ إِلَى الْعِلْمِ وَمَتَى ضَعُفَتْ جِدًّا لَمْ تَتَجَاوَزْ حَدَّ الْوَهْمِ وَأَنَّهُ مَتَى قوي استعمل فيه أن المشددة وأن الْمُخَفَّفَةُ مِنْهَا وَمَتَى ضَعُفَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ إِنْ المختصة بالمعدومين من الفعل نَحْوُ ظَنَنْتُ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْ يَخْرُجَ فَالظَّنُّ إِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَحْمُودٌ وَإِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَمَذْمُومٌ

فَمِنَ الْأَوَّلِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنهم ملاقو ربهم}

ومن الثاني: {إن هم إلا يظنون} وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئا}

فَائِدَةٌ

لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِي بَابِ ظَنَّ عَلَى أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بضنين} قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالظَّاءِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالضَّمِيرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالضَّادِ وَهُوَ بِمَعْنَى فاعل وفيه ضمير هو فاعله والمعنى بخيل عَلَى الْغَيْبِ فَلَا يَمْنَعُهُ كَمَا تَفْعَلُهُ الْكُهَّانُ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ عَلَى الْغَيْبِ لِأَنَّهُ الصَّادِقُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظنونا} فإنها بمنزلتها في قولك نزلت بزيد

ص: 157

شَعَرَ

وَمِنْهُ شَعَرَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَمَصْدَرُهُ شِعْرَةٌ بِكَسْرِ الشِّينِ كَالْفِطْنَةِ وَقَالُوا لَيْتَ شِعْرِي فَحَذَفُوا التَّاءَ مَعَ الْإِضَافَةِ لِلْكَثْرَةِ قَالَ الْفَارِسِيُّ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّعَارِ وَهُوَ مَا يَلِي الْجَسَدَ فَكَأَنَّ شَعَرْتُ بِهِ عَلِمْتُهُ عِلْمَ حِسٍّ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: {وَهُمْ لا يشعرون} أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِلْبُعْدِ عَنِ الْفَهْمِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ قَدْ تَشْعُرُ بِحَيْثُ كَانَتْ تُحِسُّ فَكَأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِنِهَايَةِ الذَّهَابِ عَنِ الْفَهْمِ

وَعَلَى هَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} إلى قوله {ولكن لا تشعرون} وَلَمْ يَقُلْ لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عَلِمُوا أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ {لَا تَشْعُرُونَ} لِأَنَّهُ ليس كل ما علموه يشعرون به كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمُوهُ يُحِسُّونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ فَلَمَّا كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ بِحَوَاسِّهِمْ حَيَاتَهُمْ وأنهم علموها بإخبار الله وَجَبَ أَنْ يُقَالَ {لَا تَشْعُرُونَ} دُونَ لَا تَعْلَمُونَ

عَسَى وَلَعَلَّ

مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا رَجَاءً وَطَمَعًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ لأن الخلق هم الذين يعرض لَهَمُ الشُّكُوكُ وَالظُّنُونُ وَالْبَارِئُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ

وَالْوَجْهُ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُمْكِنَةَ لِمَا كَانَ الْخَلْقُ يَشُكُّونَ فِيهَا

ص: 158

وَلَا يَقْطَعُونَ عَلَى الْكَائِنِ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْكَائِنَ مِنْهَا عَلَى الصِّحَّةِ صَارَتْ لَهَا نِسْبَتَانِ:

نِسْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تُسَمَّى نِسْبَةَ قَطْعٍ وَيَقِينٍ وَنِسْبَةٌ إِلَى الْمَخْلُوقِ وَتُسَمَّى نِسْبَةَ شَكٍّ وَظَنٍّ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِذَلِكَ تَرِدُ تَارَةً بِلَفْظِ الْقَطْعِ بِحَسَبِ مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يحبهم ويحبونه}

وَتَارَةً بِلَفْظِ الشَّكِّ بِحَسَبِ مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ كَقَوْلِهِ {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بالفتح أو أمر من عنده} {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}

وَقَوْلِهِ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يخشى} وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَرْسَلَهُمَا مَا يُفْضِي إِلَيْهِ حَالُ فِرْعَوْنَ لَكِنْ وَرَدَ اللَّفْظُ بِصُورَةِ مَا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ انْهَضَا إِلَيْهِ وَقُولَا فِي نُفُوسِكُمَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى

وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ جَاءَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَالْعَرَبُ قَدْ تُخْرِجُ الْكَلَامَ الْمُتَيَقَّنَ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ لِأَغْرَاضَ فَتَقُولُ لَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يُسْخِطُنِي فَلَعَلَّكَ إِنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ سَتَنْدَمُ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ يَنْدَمُ لَا محالة ولكنه أخرجه مخرج الشك تحرير لِلْمَعْنَى وَمُبَالَغَةً فِيهِ أَيْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لَهُ فَكَيْفَ وَهُوَ كَائِنٌ لَا شَكَّ فِيهِ

وَبِنَحْوٍ مِنْ هَذَا فَسَّرَ الزَّجَّاجُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مسلمين}

وأما قوله: {لعلي أبلغ الأسباب} ،فَاطِّلَاعُهُ إِلَى الْإِلَهِ مُسْتَحِيلٌ فَبِجَهْلِهِ اعْتَقَدَ فِي الْمُسْتَحِيلِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ الْجِسْمِيَّةَ والمكان

ص: 159

ونص ابن الدهان في لعل جواز استعماله فِي الْمُسْتَحِيلِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ لَعَلَّ زَمَانًا تَوَلَّى يَعُودُ

وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَسَى فَاعِلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَهِيَ وَاجِبَةٌ وَقَالَ قَوْمٌ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ قَالَ تعالى {عسى ربه إن طلقكن} وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ وَلَمْ يُبَدِّلْ بِهِنَّ

وَقَوْلُهُ: {عَسَى ربكم أن يرحمكم} وَهَذِهِ فِي بَنَى النَّضِيرِ وَقَدْ سَبَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَتَلَهُمْ وَأَبَادَهُمْ

وَقَالَ أَيْضًا: وَهَذَا عِنْدِي مُتَأَوَّلٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَقْدِيرُهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ يُبْدِلْهُ وَمَا فَعَلَ فَهَذَا شَرْطٌ يَقَعُ فِيهِ الْجَزَاءُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَالثَّانِي تَقْدِيرُهُ إِنْ عُدْتُمْ رَحِمَكُمْ وَهُمْ أَصَرُّوا وَعَسَى عَلَى بَابِهَا

قَالَ: وَعَسَى مَاضِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ طمع وذلك حصل فِي شَيْءٍ مُسْتَقْبَلٍ

وَقَالَ: قَوْمٌ مَاضِي اللَّفْظِ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَمَعٍ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ

وَاعْلَمْ أَنَّ عَسَى تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَرْفَعُ اسْمًا صَرِيحًا وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِخَبَرٍ وَيَلْزَمُ كَوْنُهُ فِعْلًا مُضَارِعًا نَحْوُ عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ فَلَا يَجُوزُ قَائِمًا لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَعَسَى الله أن يأتي بالفتح} فيكون أن والفعل في موضع نصب بـ" عسى"

ص: 160

وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ

وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَرْفُوعُ بِهَا أَنْ وَالْفِعْلُ وَهُوَ عَسَى أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ فَلَا يَفْتَقِرُ هنا إلى منصوب

ونظيره: {وحسبوا ألا تكون فتنة}

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاما محمودا} لَا يَجُوزُ رَفْعُ رَبِّكِ بِـ "عَسَى" لِئَلَّا يَلْزَمَ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ رَبُّكَ لِأَنَّ مَقَامًا مَحْمُودًا مَنْصُوبٌ بِـ" يَبْعَثَكَ"

وَكَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خير لكم} لِأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُتَّصِلَانِ بِـ" تَكْرَهُوا" وَ"تُحِبُّوا" فلا يكون في عسى ضمير

اتخذ

قال تعالى: {لو شئت لتخذت عليه أجرا} قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ تَخِذْتُ يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ

وَقِيلَ: أَصْلُ اتَّخَذْتُ تَخِذْتُ فَأَمَّا اتخذت فعلى ثلاثة أضرب:

أحدهما: ما يتعدى به إلى مفعول واحد كقوله تعالى: {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا}

{أم اتخذ مما يخلق بنات}

{واتخذوا من دونه آلهة}

ص: 161

{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا}

{كمثل العنكبوت اتخذت بيتا}

وَالثَّانِي: مَا يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ وَالثَّانِي مِنْهُمَا الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى

وَهُمَا إِمَّا مَذْكُورَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتخذوا أيمانهم جنة}

وقال: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}

{فاتخذتموهم سخريا}

وَإِمَّا مَعَ حَذْفِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ:{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} ،فَمَفْعُولُ اتَّخَذُوا الْأَوَّلُ، الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الرَّاجِعُ إِلَى الذين الثاني آلهة وقربانا عَلَى الْحَالِ.

قَالَ الْكَوَاشِيُّ وَلَوْ نُصِبَ قُرْبَانًا مفعولا ثانيا وآلهته بَدَلًا مِنْهُ فَسَدَ الْمَعْنَى

وَإِمَّا مَعَ حَذْفِ الثاني، كقوله:{اتخذتم العجل}

{اتخاذكم العجل}

{اتخذوه وكانوا ظالمين}

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عجلا جسدا} ، تَقْدِيرُهُ فِي الْجَمِيعِ اتَّخَذُوهُ آلِهَةً لِأَنَّ نَفْسَ اقْتِنَاءِ الْعِجْلِ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فَيَتَعَيَّنُ تقدير آلهة

الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}

ص: 162

فَإِنْ جَوَّزْنَا زِيَادَةَ مَنْ فِي الْإِيجَابِ كَانَ مِنَ الْمُتَعَدِّي لِاثْنَيْنِ وَإِنْ مَنَعْنَا كَانَ لِوَاحِدٍ

ونظيره جعلت قال {وجعل الظلمات والنور} ،أَيْ خَلَقَهُمَا

فَإِذَا تَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ كَانَ الثَّانِي الأول في المعنى كقوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة} {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا}

أَخَذَ

تَجِيءُ بِمَعْنَى غَصَبَ وَمِنْهُ مَنْ أَخَذَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ

وَبِمَعْنَى عَاقَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أخذه أليم شديد}

{أخذنا أهلها بالبأساء والضراء}

{وأخذ الذين ظلموا الصيحة}

{وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس}

{فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}

{لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}

{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا}

ص: 163

وَ {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}

{ايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}

وَتَجِيءُ لِلْمُقَارَبَةِ، قَالُوا: أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا كَمَا قَالُوا جَعَلَ يَقُولُ وَكَرَبَ يَقُولُ وَتَجِيءُ قَبْلَ القسم كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}

{وإذ أخذنا ميثاقكم}

وَبِمَعْنَى اعْمَلْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بقوة} أَيِ اعْمَلُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَانْتَهُوا عَمَّا نهيتهم عنه بجد واجتهاد

سأل

تتعدى لمفعوليين كَأَعْطَى وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا

ثُمَّ قَدْ تتعدى بِغَيْرِ حَرْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وليسألوا ما أنفقوا} {فاسألوا أهل الذكر}

وقد تتعدى بِالْحَرْفِ إِمَّا بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقع}

وإما بـ "عن" كَقَوْلِكِ: سَلْ عَنْ زَيْدٍ وَكَذَا {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القرية} وَالْمُتَعَدِّيَةُ لِمَفْعُولَيْنِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَعْطَيْتُ كَقَوْلِكَ سَأَلْتُ زَيْدًا بَعْدَ عَمْرٍو حَقًّا أَيِ اسْتَعْطَيْتُهُ أَوْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذلك

ص: 164

وَالثَّانِي: بِمَنْزِلَةِ: اخْتَرْتُ الرِّجَالَ زَيْدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا يسأل حميم حميما} ،أي عن حميم لذهوله عنه

والثاني: أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ الثَّانِي مِنْهُمَا اسْتِفْهَامٌ كَقَوْلِهِ تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم}

{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون}

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، فالمعنىسأل: سَائِلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوِ الْمُسْلِمِينَ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ فَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ وَسُؤَالُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْجَالُهُمْ لَهُ كَاسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ وَلِرَدِّهِمْ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنْهُ

وَعَلَى هَذَا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ من قبلهم المثلات}

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" مِنْ" فِيهِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَأَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا وَالصِّفَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حفي عنها} فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَنْهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالسُّؤَالِ كَأَنَّهُ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا فَحَذَفَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فَحَسُنَ ذَلِكَ لِطُولِ الْكَلَامِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: {عنها} بمنزلة بها وتتصل بالحفاوة

وعد

فعل يتعدى لمفعوليين يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَأَعْطَيْتُهُ وَلَيْسَ كَظَنَنْتُ، قال

ص: 165

تعالى: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} فَـ "جَانِبَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ أَيْ وَعُدْنَاكُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ مُكْثًا فِيهِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} فَالْغَنِيمَةُ تَكُونُ الْغُنْمَ

فَإِنْ قُلْتَ: الْغُنْمُ حَدَثٌ لَا يُؤْخَذُ إِنَّمَا يَقَعُ الْأَخْذُ عَلَى الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَعَانِي

قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ كَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ أَوْ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ أَيْ تَمْلِيكُ مَغَانِمَ

فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وَقَوْلُهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنهم}

فَإِنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ إِلَى مَفْعُولٍ ثان ولكن قوله: {ليستخلفنهم} ولهم: {مَغْفِرَةٌ} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثيين} تبيين للوصية في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم}

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حسنا} {إن الله وعدكم وعد الحق} ،فَيُحْتَمَلُ انْتِصَابُ الْوَاحِدِ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَسُمِّيَ الْمَوْعُودُ بِهِ الْوَعْدَ كَالْمَخْلُوقِ الْخَلْقَ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وَ {إِحْدَى} فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ ثَانٍ وَ {أَنَّهَا لَكُمْ} بَدَلٌ مِنْهُ أَيْ إِتْيَانَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ تَمْلِيكَهُ وَالطَّائِفَتَانِ الْعِيرُ وَالنَّصْرُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ} فَمَنْ قَدَّرَ فِي أَنَّ الثَّانِيَةَ الْبَدَلُ

ص: 166

فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ مَحْذُوفًا لِيَتِمَّ الْكَلَامُ فَيَصِحُّ الْبَدَلُ وَالتَّقْدِيرُ أَيَعِدُكُمْ إِرَادَةَ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ لِيَكُونَ اسْمُ الزَّمَانِ خَبَرًا عَنِ الْحَدَثِ وَمَنْ قَدَّرَ فِي الثَّانِيَةِ الْبَدَلَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه}

فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِلنَّكِرَةِ وَقَدْ عَادَ الضَّمِيرُ فِيهَا إِلَى الْمَوْصُوفِ وَالْفِعْلُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثلاثين ليلة} فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ ظَرْفًا لِأَنَّ الْوَعْدَ لَيْسَ فِي كُلِّهَا بَلْ فِي بَعْضِهَا فَيَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا

وَدَّ

قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الأصبهاني بمعنى تمنى يستعمل معها لو وإن وَرُبَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا نَحْوُ وَدُّوا لَوْ أَنْ فَعَلَ وَمَصْدَرُهُ الْوَدَادَةُ وَالِاسْمُ مِنْهُ وُدٌّ وَقَدْ يَتَدَاخَلَانِ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ

وَقَالَ الرَّاغِبُ إِذَا كَانَ وَدَّ بِمَعْنَى أَحَبَّ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ لَوْ فِيهِ أَبَدًا

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، إذا كان بمعنى تمنى صلح للمضي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ لَمْ يَصْلُحْ لِلْمَاضِي لِأَنَّ الْإِرَادَةَ هِيَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ وَإِذَا كَانَ لِلْمَاضِي لَمْ يَجُزْ "أَنْ" وَإِذَا كَانَ لِلْحَالِ أَوْ لِلِاسْتِقْبَالِ جَازَ "أَنْ" وَ"لو" وفيما قاله نظرا لِأَنَّ "أَنْ" تُوصَلُ بِالْمَاضِي نَحْوُ سَرَّنِي أَنْ قمت

ص: 167

قُلْتُ فَكَانَ الْأَحْسَنُ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِكَلَامِهِ وَهُوَ أَنَّهُ جَوَّزَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ دُخُولَ أَنْ وَهِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا

أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ

فِيهِ قَوَاعِدُ

الْأُولَى إِذَا أُضِيفَ إِلَى جِنْسِهِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُ كَقَوْلِكَ زِيدٌ أَشْجَعُ الْأُسُودِ وَأَجْوَدُ السُّحُبِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى زِيدٌ أَشْجَعُ مِنَ الْأُسُودِ وَأَجْوَدُ مِنَ السُّحُبِ وَعَلَيْهِ قوله تعالى {خير الرازقين} و {أحكم الحاكمين} و {أحسن الخالقين}

أَيْ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَسَمَّى بِرَازِقٍ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَسَمَّى بِحَاكِمٍ كَذَا قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السَّعْدِيُّ

قَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ الَّذِي تَقَرَّرَ عَنِ الشُّيُوخِ أَنَّ أَفْعَلَ هَذِهِ لَا تُضَافُ إِلَّا وَيَكُونُ الْمُضَافُ بَعْضَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَلَا يُقَالُ هَذَا الْفَرَسُ أَسْبَقُ الْحَمِيرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضَ الْحَمِيرِ وَعَلَى هَذَا بَنَى الْبَصْرِيُّونَ مَنْعَ زَيْدٌ أَفْضَلُ إِخْوَتِهِ وَأَجَازُوا أَفْضَلُ الْإِخْوَةِ إِلَّا إِذَا أُخْرِجَتْ عَنْ مَعْنَاهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ

الثَّانِيَةُ إذا ذكر بعد أفعل جنسه وواحد مِنْ آحَادِ جِنْسِهِ وَجَبَ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِكَ زيد أحسن الرجال وأحسن رجل

وَإِذَا ذُكِرَ بَعْدَ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَجَبَ نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ نَحْوُ زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا وَأَغْزَرُ عِلْمًا

ص: 167

وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أو أشد خشية} وقوله: {أزكى طعاما} فَقَدْ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ وَانْتَصَبَ

وَقَدْ تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا حَتَّى رَجَعُوا بِهِ إِلَى جَعْلِ أَشَدَّ لِغَيْرِ الْخَشْيَةِ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَى: {يخشون الناس كخشية الله} أَيْ مِثْلِ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ مِثْلِ قَوْمٍ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ

قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يُحْمَلُ مَا خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ

الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ فِيهِ الْأَفْضَلِيَّةُ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ وَأَشْكَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إلا هي أكبر من أختها} لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا مِنْ آيَةٍ مِنَ التِّسْعِ إِلَّا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَاضِلَةً وَمَفْضُوْلَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ

وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ الْغَرَضَ وَصْفُهُنَّ بِالْكِبَرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِي الْفَضْلِ التَّفَاوُتَ الْيَسِيرَ أَنْ تَخْتَلِفَ آرَاءُ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ آرَاءُ الْوَاحِدِ فِيهَا كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:

مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لَاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ

مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي

وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْلَى أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا عِنْدَهُمْ وَقْتَ حُصُولِهَا لِأَنَّ لمشاهدة الآية في النفس أثر عَظِيمًا لَيْسَ لِلْغَائِبِ عَنْهَا

الرَّابِعَةُ: قَالُوا: لَا يَنْبَنِي مِنَ الْعَاهَاتِ: فَلَا يُقَالُ: مَا أَعْوَرَ هَذِهِ الْفَرَسَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 169

{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى} فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنَ الضَّلَالَةِ وَهُوَ مَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ لَا مِنْ عَمَى الْبَصَرِ الَّذِي يَحْجُبُ الْمَرْئِيَّاتِ عَنْهُ

وَقَدْ صَرَّحَ بِبَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}

وَعَلَى هَذَا فَالْأَوَّلُ اسْمُ فَاعِلٍ وَالثَّانِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ فَقْدِ الْبَصِيرَةِ

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ أَعْمَى فَلَا يَكُونُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ

وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْأَوَّلَ، على عَمَى الْقَلْبِ وَالثَّانِي عَلَى فَقْدِ الْبَصِيرَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَمْرٍو فَأَمَالَ الْأَوَّلَ وَتَرَكَ الْإِمَالَةَ فِي الثَّانِي لَمَّا كَانَ اسْمًا وَالِاسْمُ أَبْعَدُ مِنَ الْإِمَالَةِ

الْخَامِسَةُ: يَكْثُرُ حَذْفُ الْمَفْضُولِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَكَانَ أَفْعَلُ خَبَرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خير}

{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى ألا ترتابوا}

{والله أعلم بما وضعت}

{وما تخفي صدورهم أكبر}

{إنما عند الله هو خير لكم}

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أملا}

{أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا}

ص: 170

{فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا}

وَقَدْ يُحْذَفُ الْمَفْضُولُ وَأَفْعَلُ لَيْسَ بِخَبَرٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {فإنه يعلم السر وأخفى}

السادسة: قد يجيء مجردا عن مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَيَكُونُ لِلتَّفْضِيلِ لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ

ثُمَّ هُوَ تَارَةً يَجِيءُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرض}

وَمُؤَوَّلًا بِصِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}

فـ "أعلم" هاهنا بِمَعْنَى عَالِمٌ بِكُمْ إِذْ لَا مُشَارِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَأَهْوَنَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى هَيِّنٍ إِذْ لَا تَفَاوُتَ فِي نِسْبَةِ الْمَقْدُورَاتِ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يُلْقَى في النار خير}

وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}

أَوْ لَفْظًا لَا مَعْنًى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{نَحْنُ أعلم بما يستمعون به}

و {نحن أعلم بما يقولون}

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ من نفعه} فَمَعْنَاهُ الضَّرَرُ بِعِبَادَتِهِ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ بِهَا

فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: {أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} وَلَا نَفْعَ مِنْ قَبْلِهِ أَلْبَتَّةَ؟

قِيلَ لَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} تَبْعِيدٌ لِنَفْعِهِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ

ص: 171

لما لم يصح في اعتقادهم هَذَا بَعِيدٌ جَازَ الْإِخْبَارُ بِـ" بُعْدِ" نَفْعِ الْوَثَنِ وَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ

{أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد}

السَّابِعَةُ: أَفْعَلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:

مُضَافٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}

وَمُعَرَّفٍ بِاللَّامِ، نَحْوُ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {ليخرجن الأعز منها الأذل}

وَخَالٍ مِنْهُمَا وَيَلْزَمُ اتِّصَالُهُ بِـ" مِنْ" الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ جَارَّةً لِلْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أنا أكثر منك مالا}

وَقَدْ يُسْتَغْنَى بِتَقْدِيرِهَا عَنْ ذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأعز نفرا}

وَيَكْثُرُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ خَبَرًا كقوله: {والآخرة خير وأبقى}

وَحَيْثُ أُضِيفَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى جَمْعٍ مُعَرَّفٍ نَحْوُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ وَلَا أَفْضَلُ رِجَالٍ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ لَا بُدَّ أَنْ يكون جماعة يُفَضِّلُهَا وَإِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ تَقُولَ أَفْضَلُ الرِّجَالِ

فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سافلين} فَجَوَابُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَيْهِ تَقْدِيرًا بَلِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ وَقَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ وَكَأَنَّهُ قال أسفل قوم سافلين ولا خلاف أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى اسْمِ الْجَمْعِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا نحو أفضل الناس والقوم وأفضل ناس أفضل قَوْمٍ

فَإِنْ قِيلَ لِمَ أَجَازُوا تَنْكِيرَ هَذَا ولم يجيزوا ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ؟

ص: 172

قُلْتُ: لِأَنَّ أَفْضَلُ الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ بَلْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ فَخَفَّفُوهُ بِتَرْكِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الثَّانِيَةِ إِذَا كَانَ أَفْعَلُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ مُضَافًا جَازَ تَثْنِيَتُهُ وَجَمْعُهُ قَالَ تعالى: {واتبعك الأرذلون} و {بالأخسرين أعمالا}

وقال في المفرد {إذ انبعث أشقاها}

وقال في الجمع: {أكابر مجرميها} و {إلا الذين هم أراذلنا}

وَتَقُولُ فِي الْمُؤَنَّثِ هَذِهِ الْفُضْلَى قَالَ تَعَالَى: {إنها لإحدى الكبر} {فأولئك لهم الدرجات العلى} وَحُكْمُ فَعَلَى حُكْمُ أَفْعَلَ لَا يُسْتَعْمَلُ بِغَيْرِ "مِنْ" إِلَّا مُضَافًا أَوْ مُعَرَّفًا بِأَلْ وَأَمَّا قوله: {وأخر متشابهات} فَقَالُوا إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْ أَيْ وَأُخَرُ مِنْهَا مُتَشَابِهَاتٌ

تَنْبِيهٌ

لَفَظُ سَوَاءٍ

سَوَاءٌ: أَصْلُهُ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ يَجْرِي عَلَيْهِ يُقَالُ اسْتَوَى اسْتِوَاءً وَسَاوَاهُ مُسَاوَاةً لَا غَيْرَ فَإِذَا وَقَعَ صِفَةً كَانَ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ وَلِهَذَا تَقُولُ هُمَا سَوَاءٌ هُمْ سَوَاءٌ كَمَا تَقُولُ هُمَا عَدْلٌ وَهُمْ عَدْلٌ وَالسَّوَاءُ التَّامُّ وَمِنْهُ دِرْهَمٌ سَوَاءٌ أَيْ تَامٌّ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {في أربعة أيام سواء} أَيْ مُسْتَوِيَاتٍ وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى

ص: 173

الْمَصْدَرِ أَيِ اسْتَوَتِ اسْتِوَاءً كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ

ويجيء السواء بمعنى الوسط كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أَيْ عَدْلٍ وَهُوَ الْحَقُّ

قَالَ ابْنُ أَبِي الربيع: وسواء لا يَرْفَعُ الظَّاهِرَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُضْمَرِ فِي سَوَاءٍ وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِسَوَاءٍ وَهُوَ مِمَّا جَازَ فِي الْمَعْطُوفِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ

ص: 174