الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح حديثي سهل بن سعد وأبي هريرة في حفظ اللسان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لا بالاً يهوي بها في جهنم)].
إن الرابط بين الحديثين ظاهر، فالأول أعم والثاني أخص، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:(من يضمن)، الضمان: هو الوفاء، وهنا ذكر الضمان وأراد لازمه، أي: أراد القيام بالحق المترتب عليه، ومعنى الحق المترتب عليه: أن الله جل وعلا ذكر حقوقاً طالب بها عباده.
قوله: (من يضمن لي ما بين لحييه) اللحيان: هما العظمان اللذان في جانبي الوجه، والمقصود بالحديث ما بينهما وهو اللسان، وضمان اللسان يكون في أن يتكلم فيه بما أمر به أن يتكلم فيه، ويكف عما حرم عنه، أو ما لا يعنيه، (كفى بالمرء أن يحدث بكل ما سمع)، (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
وقد قال بعض أهل العلم كـ ابن بطال وغيره: إن أعظم الشرور والبلاء إنما تقع من اللسان والفرج، فمن حفظ لسانه إلا فيما أمر به، وحفظ فرجه إلا فيما أبيح له فهذا ضمن النبي صلى الله عليه وسلم له الجنة، ومن لم يتوق شر لسانه ولا شر فرجه -عياذاً بالله- فهذا وقع في المهالك، وقارب على الهلاك، وكاد أن يضيع.
وأما الحديث الذي بعده فليس فيه ذكر الفرج، وإنما فيه ذكر الكلمة:(إن الرجل ليتكلم بالكلمة)، والكلمة هنا ليست الكلمة ذات الحروف المعدودة، وإنما المقصود بالكلمة هنا كل ما أشعر بخير أو شر، سواء طال أو قصر، فكل قول فهم منه خير أو شر طال أو قصر فإنه يسمى كلمة، قال الله جل وعلا:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] فقال: كلمة، والمقصود بالكلمة التي خرجت من أفواههم: زعمهم أن لله ولداً، فسماها الله جل وعلا كلمة، رغم أنها جملة ذات معنى كامل مفيد، فالكلمة تطلق على هذا وتطلق على هذا، والمقصود الأول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله)، ولن يطلب العبد شيئاً أعظم من رضوان الله، والله يقول:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، (لا يلقي لها بالاً) أي: لم يدر في خاطره، ولم يجر على تفكيره أنه سيكون وراءها ثواب عظيم، فتكون هذه الكلمة سبباً في رضوان الله عليه.
وعلى النقيض من ذلك قد يأتي الإنسان في مجلس فيتكلم بكلمة تكون سبباً في هلاكه، إلا أن الإمام ابن عبد البر المالكي المعروف صاحب (التمهيد) يقول: إن المقصود بالكلمة هنا هي الكلمة التي تقال عند سلطان جائر فيكون بسببها هلاك الناس، فهي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي في النار)، وفي رواية عند مالك:(تهوي به في النار سبعين خريفاً)، فحصرها ابن عبد البر فيما يقال عند السلطان الجائر، ولو كان المتكلم لم يدر بخلده ولم يتوقع أن الضرر الذي سيصيب صاحبه المتضرر قد يصل إلى هذا الحد، بل قال بعضهم: حتى لو لم يهلك ذلك المتضرر من هذه الكلمة فإنه يدخل القائل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً لتهوي به في النار سبعين خريفاً).
فهذا الحديث والذي بعده يجعل الإنسان ينبغي عليه أن يتقي الله جل وعلا فيما أعطاه من الجوارح، ويوم القيامة جوارح الإنسان في الدنيا تعينه إن عزم على خير أو عزم على شر؛ لأنها تبع لمن عقد في قلبه، وعلى ما جرى في لسانه، فإذا كان يوم القيامة وختم على اللسان فإن الجوارح بين يدي الله تستحيي من ربها، فلا تنتصر لصاحبها، قال الله جل وعلا:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
وأخبر أن هؤلاء لم يكن يدور بخلدهم ولا في ظنهم أن هذه الجوارح تشهد عليهم، لكن هذه الجوارح إذا انفصلت عن صاحبها قلبياً، وانعقد لسانياً، ورأت جلالة الموقف بين يدي الله جل وعلا، تخلت عن صاحبها بالكلية؛ حتى تعلم ويستقر في قلبك أنه لا أحد أعظم من الله، فإن كان الأمر كذلك فكل أحد والاك أو واليته في غير الله فإنك تتبرأ منه؛ لأنك رضيت أو لم ترض لن تدوم موالاتكم بين يدي الله، {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، وإنما يدخر المؤمن لنفسه بين يدي الله جل وعلا ما تثبت به القدم، وتقوم به الحجة، ويظهر به العذر، وتنال به الرحمة، ويصرف به العذاب، هذا الذي ينبغي أن يسعى المؤمن فيه قولاً أو فعلاً، (من يضمن لي ما بين لحييه) وهو اللسان، (وما بين رجليه) وهو الفرج، يقول الله جل وعلا:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
وتأديب المرء نفسه، وقيامه بواجب الله جل وعلا الذي أمر به؛ خوفاً من لقاء الله، هو المقصود الأسمى من حياة المرء كلها، وهذا مقام رفيع عظيم في مقام العبودية للرب تبارك وتعالى، وقد مر معنا بالأمس عظمة لا إله إلا الله التي هي باعث العبودية الأول، فالإنسان إذا كان فيه باعث للعبودية فإنه يجعل من جوارحه ولسانه وقلبه من قبل تبعاً لما أمر الله جل وعلا به، فيتقرب إلى الله بما يحب جل وعلا ويرضاه، وينأى بنفسه عما حرمه الله جل وعلا.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله في هذا المجلس المبارك، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ويلبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.