المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شرح كشف الشبهات - شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌شرح كشف الشبهات

‌شرح كشف الشبهات

بسم (1) الله (2) الرحمن (3) الرحيم (4) . . . . . . . . . .

ــ

(1)

أبتدأ المؤلف - رحمه الله تعالى - كتابه بالبسملة إقتداء بكتاب الله عز وجل فإنه مبدوء بالبسملة، وإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يبدأ كتبه ورسائله بالبسملة.

والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف مؤخر مناسب للمقام

تقديره: بسم الله أكتب.

وقدرناه فعلاً لأن الأصل في العمل الأفعال.

وقدرناه مؤخراً لفائدتين:

الأولى: التبرك بالبداءة باسم الله تعالى.

الثانية: إفادة الحصر لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.

وقدرناه مناسباً لأنه أدل على المراد فلو قلنا مثلاً عندما نريد أن نقرأ كتاباً بأسم الله نبتدئ، لكن بسم الله نقرأ أدل على المراد.

(2)

لفظ الجلالة علم على الباري جل وعلا وهو الأسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى إنه في قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) سورة إبراهيم، الآيتان: 1، 2 لا نقول إن لفظ الجلالة (الله) صفة بل نقول هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة تبعاً تبعية النعت للمنعوت، ولهذا قال العلماء أعرف المعارف لفظ (الله) لأنه لا يدل على أحد سوى الله-عز وجل.

(3)

الرحمن أسم من الأسماء المختصة بالله لا يطلق على غيره ومعناه: المتصف بالرحمة الواسعة.

(4)

الرحيم أسم يطلق على الله- وعلى غيره.

ص: 13

أعلم (1) . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ومعناه: ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة، فإذا جمعا صار المراد بالرحيم الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده كما قال الله تعالى:(يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون)

(1)

العلم هو "إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً ".

ومراتب الإدراك ست: -

الأولى: العلم وتقدم تعريفه.

الثانية: الجهل البسيط وهو "عدم الإدراك بالكلية".

الثالثة: الجهل المركب وهو "إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه" وسمي مركباً لأنه جهلان: جهل الإنسان بالواقع، وجهله بحاله حيث ظن أنه عالم وليس بعالم

الرابعة: الوهم وهو "إدراك الشيء مع إحتمال ضد راجح".

الخامسة: الشك وهو "إدراك الشيء مع احتمال ضد مساو".

السادسة: الظن وهو "إدراك الشيء مع إحتمال ضد مرجوح".

والعلم ينقسم إلى قسمين: ضروري ونظري:

فالضروري ما يكون إدراك المعلوم فيه ضرورياً بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا إستدلال كالعلم بأن النار حارة مثلاً.

والنظري ما يحتاج إلى نظر وإستدلال كالعلم بوجوب النية في الوضوء.

ص: 14

رحمك الله (1) أن التوحيد هو إفراد الله -سبحانه-بالعبادة (2) . . . .

ــ

(1)

أي أفاض الله عليك من رحمته التي تحصل بها على مطلوبك وتنجو من محذورك، فالمعنى غفر الله لك ما مضى من ذنوبك، ووفقك وعصمك فيما يستقبل منها، هذا إذ1 أفردت الرحمة، أما إذا قرنت بالمغفرة فالمغفرة لما مضى من الذنوب، والرحمة التوفيق للخير والسلامة من الذنوب في المستقبل. وصنيع المؤلف رحمه الله يدل على شفقته وعنايته بالمخاطب.

(2)

التوحيد لغة: مصدر وحد يوحد، أي جعل الشيء واحداً، وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، نفي الحكم عما سوى الموحد، وإثباته له لأن النفي وحده ت عطيل، والإثبات وحده لا يمنع المشاركة، فمثلاً لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله فينفي الألوهية عما سوى الله تعالى ويثبتها لله وحده.

وفي الاصطلاح عرف المؤلف -رحمه الله تعالى- التوحيد بقوله "التوحيد هو إفراد الله عز وجل بالعبادة" أي أن تعبد الله وحده ولا تشرك بل تفرده وحده بالعبادة محبة وتعظيماً ورغبة، ورهبة.

ومراد الشيخ -رحمه الله تعالى- التوحيد الذي بعثت الرسل" لتحقيقه لأنه هو الذي حصل الإخلال به والخلاف بين الرسل وأممهم.

وهناك تعريف أعم للتوحيد وهو: "إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به" وأنواعه ثلاثة:

الأول: توحيد الربوبية وهو " إفراد الله تعالى بالخلق، والملك، والتدبير" قال الله عز وجل {الله خالق كل شيء} [سورة الزمر، الآية: 62] . وقال تعالى: {هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو} [سورة فاطر، الآية: 3] .

ص: 15

وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده (1) ،

ــ

وقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} {سورة الملك، الآية: 1} ، وقال تعالى {إلا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} . {سورة الأعراف، الآية: 54} .

الثاني: توحيد الألوهية وهو "إفراد الله تعالى بالعبادة بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحداً يعبده كما يعبد الله أو يتقرب إليه كما يتقرب إلى الله تعالى".

الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته الواردة في كتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل".

(1)

مراد الشيخ -رحمه الله تعالى- هنا توحيد الألوهية فهو دين الرسل فكلهم أرسلوا بهذا الاصل الذي هو التوحيد كما قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت){سورة النحل، الآية: 36} وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون){سورة الأنبياء، الآية: 25} وهذا النوع هو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، واستباح دماءهم وأموالهم، وأرضهم وديارهم وسبى نساءهم وذريتهم.

ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات.

فإفراد الله وحده بالعبادة هو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده كما قال الشيخ-رحمه الله-فها هو أول الرسل نوح عليه السلام يقول كما حكى الله عنه: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير

ص: 16

فأولهم نوح عليه السلام (1) ، أرسله الله إلى قومه لما غلوا (2) ،. . . . . .

ــ

مبين أن لا تعبدوا إلا الله) {سورة هود، الآيتان: 25: 26} وقال تعالى: (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا اله مالكم من إله غيره){سورة هود، الآيتان: 50} وقال تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره){سورة هود، الآية: 61} وقال تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره){سورة هود، الآية: 84} .

(1)

هذا حق فإنه لم يبعث قبل نوح عليه الصلاة والسلام رسول وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا إن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح لأن الله تعالى يقول: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده){سورة النساء، الآية: 163} وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة "أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض"(1)

فلا رسول قبل نوح بإجماع العلماء.

فنوح أول الرسل بالكتاب، والسنة، والإجماع.

ونوح عليه الصلاة والسلام أحد الرسل الخمسة الذين هم أولوا العزم وهم: محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم، وموسى، ونوح، وعيسى عليهم الصلاة والسلام وقد ذكرهم الله في موضعين من كتابه في سورة الأحزاب وسورة الشورى.

(2)

يعني أن الله أرسل نوحاً عليه الصلاة والسلام إلى قومه لما وقع فيهم الغلو في الصالحين، وقد بوب المؤلف-رحمه الله-في كتاب التوحيد على هذه المسألة فقال:"باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين". والغلو هو: "مجاوزة الحد في التعبد والعمل والثناء قدحاً مدحاً" والغلو ينقسم إلى أربعة أقسام:

(1) البخاري/كتاب التوحيد/ باب كلام الله مع الأنبياء ومسلم / كتاب الإيمان / باب أدنى أهل الجنة منزلاً.

ص: 17

في الصالحين (1) :. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

القسم الأول: الغلو في العبادات كغلو الخوارج الذين يرون كفر فاعل الكبيرة وغلو المعتزلة حيث قالوا إن فاعل الكبيرة بمنزلة بين المنزلتين وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة حيث قالوا لا يضر مع الإيمان ذنب. والوسط مذهب أهل السنة والجماعة أن فاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر المعصية.

القسم الثالث: الغلو في المعاملات وهو التشدد بتحريم كل شيء وقابل هذا التشدد تساهل من قال بحل كل شيء ينمي المال والاقتصاد حتى الربا والغش وغير ذلك.

والوسط أن يقال تحل المعاملات المبنية على العدل وهي ما وافق ما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة.

القسم الرابع: الغلو في العادات وهو التشدد في التمسك بالعادات القديمة وعدم التحول إلى ما هو خير منها. أما أن كانت العادات متساوية في المصالح فإن كون الإنسان يبقى على ما هو عليه خير من تلقي العادات الوافدة.

(1)

الصالح هو الذي قام بحق الله وبحق عباد الله.

ص: 18

ودا، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسرا (1) وآخر الرسل محمد، صلى الله عليه وسلم (2) ،. . . . . . . . . .

ــ

(1)

هذه أصنام في قوم نوح عليه السلام كانوا رج إلا صالحين، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذ هلك أولئك ونسي العلم عبدت". (1)

وهذا التفسير فيه إشكال حيث يقول رضي الله عنه "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، وظاهر القرآن أنها قبل نوح قال الله تعالى: (وقال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكراً كباراً وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً (. {سورة نوح، الآيات: 21-23} فظاهر الآية يدل على ما ذكره ابن عباس. إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح عليه السلام والله أعلم.

(2)

دليل هذا قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين){سورة الأحزاب، الآية: 40} . فلا نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: إن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ينزل آخر الزمان وهو رسول.

فنقول: هذا حق ولكنه لا ينزل على أنه رسول مجدد بل ينزل على أنه حاكم بشريعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لأن الواجب على

(1) البخاري/ كتاب التفسير - سورة نوح - رقم {4636}

ص: 19

وهو كسر صور هؤلاء الصالحين (1) أرسله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً (2) ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين (3) . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإتباعه ونصره كما قال الله تعالى: صلى الله عليه وسلم، وإتباعه ونصره كما قال الله تعالى:(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين){سورة آل عمران، الآية: 81} . وهذا الرسول المصدق لما معهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك عن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنه، وغيره

(1)

أي أن النبي صلى الله عليه وسلم، كسر صور الأصنام وذلك يوم الفتح حين دخل الكعبة فوجد حولها وفيها ثلثمائة وستين صنماً وجعل يطعنها عليه الصلاة والسلام بالحربة وهو يتلو قوله تعالى:(جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقاً)(1) . (1){سورة الإسراء الآية: 81}

(2)

أي أن الله بعث رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام إلى قوم يتعبدون لكنها عبادة باطلة ما أنزل بها من سلطان، ويتصدقون ويفعلون كثيراً من أمور الخير لكنها لا تنفعهم، لأنهم كفار، ومن شرط التقرب إلى الله تعالى أن يكون المتقرب إلى الله مسلماً وهؤلاء غير مسلمين.

(3)

أي أنهم يعبدون هذه الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى فهم مقرون بأنها دون الله، وأنها لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً، وأنهم شفعاء لهم عند

(1) أخرجه البخاري / كتاب التفسير. سورة الإسراء

ص: 20

فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام السلام ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى ولا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقربٍ ولا لنبي مرسلٍ فضلاً عن غيرهما (1) .

ــ

الله-وأنهم شفعاء لهم عند الله عز وجل ولكن هذه الشفاعة شفاعة باطلة لا تنفع أصحابها لأن الله عز وجل يقول: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين){سورة المدثر الآية: 48} . وذلك لن الله تعالى لا يرضى لهؤلاء المشركين شركهم، ولا يمكن أن يأذن بالشفاعة لهم؛ لأنه لا شفاعة إلا لمن ارتضاه الله عز وجل والله لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد، فتعلق المشركين بآلهتهم يعبدونها ويقولون:(هؤلاء شفعاؤنا عند الله){سورة يونس، الآية 18} تعلق باطل غير نافع بل هذا لا يزيدهم من الله تعالى إلا بعداً، على أن المشركين يرجون شفاعة أصنامهم بوسيلة باطلة وهي عبادة هذه الأصنام، وهذا من جهلهم وسفههم أن يحاولوا التقرب إلى الله تعالى لا يزيدهم منه إلا بعداً.

(1)

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- إنهم ما زالوا على هذا الكفر وهو عبادة هذه الأصنام لتقربهم بزعمهم إلى الله تعالى حتى بعث الله رسوله وخاتم أنبيائه محمداً صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى بالتوحيد الخالص يدعو الناس إلى عبادة الله الواحد ويحذرهم من الشرك قال الله تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار){سورة المائدة، الآية: 72} ويبين لهم أن العبادة حق لله وحده، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغيره سبحانه وتعالى لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما فقال تعالى) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (. {سورة يس، الآيتان: 60-61} .

ص: 21

وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وانه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن؛ كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره (1) .

ــ

وقوله: "يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم كأنه يشير إلى قوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) {سورة النحل، الآية 123} . وقوله: "محض حق الله". أي خالص حقه.

(1)

يقول -رحمه الله تعالى- إن هؤلاء المشركين الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بأن الله وحده هو الخالق، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه هو الذي خلقهم، وأنه هو المدبر للأمور كما ذكر الله عنهم في آيات عديدة من القرآن الكريم قال الله تعالى:(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم){سورة الزخرف، الآية: 9 {. وقوله تعالى} ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [سورة الزخرف. آية 87] والآيات في هذا المعنى كثيرة، لكن هذا لا ينفعهم؛ لأن هذا إقرار بالربوبية فقط، ولا ينفع الإقرار بالربوبية حتى يكون معه الإقرار بالألوهية وعبادة الله وحده. واعلم أن الإقرار بالربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية، وأن الإقرار بالألوهية متضمن الإقرار بالربوبية

أما الأول: فهو دليل ملزم أي أن الإقرار دليل ملزم لمن أقر به أن يقر بالألوهية لأنه إذا كان الله وحده هو الخالق وهو المدبر للأمور وهو الذي بيده ملكوت كل شيء فالواجب أن تكون العبادة له وحده لا لغيره.

ص: 22

فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يشهدون بهذا (1) فاقرأ قوله تعالى:(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون)(2) . (1){سورة يونس، الآية: 31}

وقوله (قل لمن الأرض (3) ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون له قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير

ــ

والثاني: متضمن للأول يعني أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية لنه لا يتأله إلا للرب عز وجل الذي يعتقد أنه هو الخالق وحده وهو المدبر لجميع الأمور سبحانه وتعالى.

(1)

ذكر المؤلف-رحمه الله-هنا دليل ما قرر أن هؤلاء يقرون بتوحيد الربوبية ولكنه أتى به على سبيل السؤال والجواب ليكون هذا أمكن وأثبت وأتم في الاستدلال فقال: "فإذا أردت الدليل. . . . . . فاقرأ قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض (الآية.

(2)

) فقل أفلا تتقون (يعني إذا كنتم تقرون بهذا أفلا تتقون الله الذي أقررتم له بتمام الملك وتمام التدبير وأنه وحده الخالق الرازق المالك للسمع والأبصار، المخرج للحي من الميت، وللميت من الحي المدبر لجميع الأمور، وهذا الاستفهام للتوبيخ والإلزام، أي أنكم إذا أقررتم بذلك لزمكم أن تتقوا الله وتعبدوه وحده لا شريك له.

(3)

وقوله يعني واقرأ قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها (إلى آخر الآيات وهذه الآيات مما يدل على أن المشركين الذين بعث فيهم

ص: 23

ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون) {سورة المؤمنون، الآيات: 84-89} وغير ذلك من الآيات.

فإذا تحققت أنهم (1) مقرون بهذا (2) ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا: "الاعتقاد"(4) .

ــ

النبي صلى الله عليه وسلم يقرون بتوحيد الربوبية فإنهم يقرون بأن الأرض ومن فيها لله لا شريك له، ويقرون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه رب العرش العظيم، ويقرون بأن بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو الذي يجير ولا يجار عليه الصلاة والسلام، وكل هذا ملزم لهم بأن يعبدوا الله وحده ويفردوه بالعبادة، ولهذا جاء توبيخهم بصيغة الاستفهام في ختام كل آية من الآيات الثلاث.

والآيات الدالة على أن المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم يقرون بتوحيد الربوبية كثيرة.

(1)

أي الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين

(2)

يعني توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور.

(3)

أي أن إيمانهم بأن الله هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور لم يدخلهم في توحيد العبادة الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم ولم يعصم دماءهم وأموالهم.

(4)

أي إذا عرفت أن الذي أنكروه هو توحيد العبادة الذي يسميه كما قال الشيخ-رحمه الله عز وجل مشركوا زماننا "الاعتقاد" تبين لك أن هذا الذي

ص: 24

كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً، ثم منهم من يدعوا الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل: اللات، أو نبياً مثل عيسى (1) .

ــ

أقروا به لا يكفي في التوحيد بل ولا يكفي في الإسلام كله فإن من لم يقر بتوحيد العبادة فإنه ليس بمسلم حتى ولو أقر بتوحيد الربوبية ولهذا قاتل النبي صلى الله عليه وسلم.

المشركين مع أنهم يقرون بتوحيد الربوبية كما تقدم.

(1)

يعني أن هؤلاء المشركين في عبادة الله كانوا يدعون الله تعالى إذا اضطروا إلى ذلك، ومنهم من يدعوا الملائكة لقربهم من الله عز وجل، ويزعمون أن من قرب من الله سبحانه وتعالى فهو مستحق للعبادة وهذا من جهلهم فإن العبادة حق الله وحده لا يشركه فيها أحد.

وأن منهم من يدعو اللات، واللات بالتشديد أسم فاع من اللت، وأصله رجل كان يلت السويق للحجاج، أي جعل فيه السمن ويطعمه الحجاج فلما مات عكفوا على قبره ثم عبدوه، وأن منهم من يعبد المسيح عليه الصلاة والسلام السلام لكونه آية من آيات الله، وأن منهم من يعبد الأولياء لقربهم من الله سبحانه وتعالى، وكل هذا تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي ضلوا بها عن الصراط المستقيم قال الله تعالى:(قل هل ننبئكم بالاخسرين أعم إلا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً){سورة الكهف، الآيات: 103-105} .

ص: 25

وعرفت (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلهم على هذا الشرك (2) ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده (3) كما قال الله تعالى:(فلا تدعو مع الله أحداً (وكما قال تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشي)(4){سورة الرعد، الآية: 14}

وتحققت (5) أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قاتلهم ليكون

ــ

(1)

هذه معطوفة على قوله "فإذا تحققت".

(2)

أي الشرك في العبادة حيث كانوا يعبدون غير الله معه وليس المراد الشرك في الربوبية؛ لأن المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يؤمنون بان الله وحده هو الرب وأنه مجيب دعوة المضطرين وأنه هو الذي يكشف السوء إلى غير ذلك مما ذكر الله عنهم من إقرارهم بربوبية الله عز وجل وحده.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قاتل هؤلاء المشركين الذين لم يقروا بتوحيد العبادة بل أستحل دماءهم وأموالهم وإن كانوا يقرون بأن الله وحده هو الخالق لأنهم لم يعبدوه ولم يخلصوا له العبادة.

(3)

الإخلاص لله معناه: "أن يقصد المرء بعبادته التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والوصول إلى دار كرامته".

(4)

يعني أن هذه الأصنام التي يدعونها من دون الله لا تستجيب لهم بشيء كما قال تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين){سورة الأحقاف، الآية: 5} .

(5)

قوله: "وتحققت" معطوف على قوله فإذا تحققت.

ص: 26

الدعاء كله لله (1) ، والذبح كله لله (2) ،. . . . . .

ــ

(1)

الدعاء على نوعين:

الأول: دعاء عبادة بأن يتعبد للمدعو طلباً لثوابه وخوفاً من عقابه، وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله شرك أكبر مخرج من الملة، وعليه يقع الوعيد في قوله تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (. {سورة النمل الآية: 87} .

النوع الثاني: دعاء المسألة وهو دعاء الطلب أي طلب الحاجات وينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: دعاء الله سبحانه وتعالى بما لا يقدر عليه الصلاة والسلام إلا هو وهو عبادة لله تعالى لأنه يتضمن الأفتقار إلى الله تعالى واللجوة إليه، واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة، فمن دعا غير الله عز وجل بشيء لا يقدر عليه الصلاة والسلام إلا اله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو حياً أو ميتاً.

القسم الثاني: دعاء الحي بما يقدر عليه الصلاة والسلام مثل يا فلان اسقني فلا شيء فيه.

القسم الثالث: دعاء الميت أو الغائب بمثل هذا فإنه شرك لأن الميت أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه يدل على أنه يعتقد أن له تصرفاً في الكون فيكون بذلك مشركاً.

(2)

الذبح: "إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص".

ويقع على وجوه:

الأول: أن يقصد به تعظيم المذبوح له والتذلل له والتقرب إليه فهذا عبادة لا يكون إلا لله تعالى على الوجه الذي شرعه الله تعالى،

ص: 27

والنذر كله لله (1) والاستغاثة كلها بالله (2) . . . . .

ــ

وصرفه لغير الله شرك أكبر لقوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له)

{سورة الأنعام، الآية: 162} .

الثاني: أن يقصد به إكرام الضيف، أو وليمة لعرس ونحو ذلك فهذا مأمور به إما وجوباً أو إستجاباً لقوله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"(1)(1)

وقوله لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج " أولم ولو بشاة"(1)

الثالث: أن يقصد به التمتع بالأكل أو الاتجار به ونحو ذلك فهذا من قسم المباح فالأصل فيه الإباحه لقوله تعالى: (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون){سورة يس، الآيتان: 71، 72} وقد يكون مطلوباً أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة له.

(1)

النذر يطلق على العبادات المفروضة عموماً، ويطلق على النذر الخاص وهو إلزام الإنسان نفسه بشيء لله عز وجل والمراد به هنا الأول فالعبادات كلها لله تعالى لقوله تعالى:(وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه){سورة الإسراء الآية: 23} .

(2)

الإستغاثة: طلب الغوث والإنقاذ من الشدة والهلاك.

وهو أقسام:

الأول: الإستغاثة بالله عز وجل وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم

ودليله قوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فإستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (. {سورة الأنفال الآية: 9} .

(1) أخرجه البخاري / كتاب الأدب / باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومسلم / كتاب الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار والضيف.

ص: 28

وجميع أنواع العبادات كلها لله. وعرفت (1) أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، والأنبياء الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى اله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون (2)

ــ

الثاني: الإستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة فهذا شرك، لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفياً في الكون فيجعل لهم حظاً من الربوبية، قال الله تعالى: (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً مما تذكرون (. {سورة النمل، الآية: 62} .

الثالث: الإستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة فهذا جائز كالاستعانة بهم، قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام:(فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من) عدوه فوكزه موسى فقضى عليه) {سورة القصص، الآية: 15} .

الرابع: الإستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية مثل أن يستغيث بمشلول على دفع عدو صائل. فهذا لغو وسخرية بالمستغاث به، فيمنع لهذه العلة ولعلة أخرى وهي أنه ربما أغتر بذلك غيره فتوهم أن لهذا المستغاث به وهو عاجز أن له قوة خفية ينقذ بها من الشدة.

(1)

قوله "وعرفت" معطوف على "تحققت" الأولى.

وقوله "عرفت جواب " فإذا تحققت" وما عطف عليها.

(2)

قرر المؤلف رحمه الله أن التوحيد الذي جاءت به الرسل من الله هو توحيد الألوهية لأن هؤلاء المشركين الذين بعث فيهم رسول الله صلى

ص: 29

وهذا التوحيد هو معنى قولك: "لا إله إلا الله"(1) فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً، أو نبياً أو ولياً، أو شجرة أو قبراً، أو جنياً لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون

ــ

الله عليه وسلم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ومع هذا إستباح النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم على أنهم يعبدون الملائكة وغيرهم مما يعبدونهم من الأولياء والصالحين يريدون بذلك أن يقربوهم إلى الله وهي كما قال تعالى: (والذين إتخذوا من دونه أولياء ما تعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى){سورة الزمر، الآية: 3} فهم مقرون بأن اللهو هو المقصود ولكنهم يقصدون الملائكة وغيرهم ليقربوهم إلى الله ومع ذلك لم يدخلهم في التوحيد.

(1)

قوله: وهذا التوحيد هو معنى قولك "لا إله إلا الله" أي أن

التوحيد هو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو معنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبود حق إلا الله عز وجل فهم يعلمون أن معناها لا معبود حق إلا الله عز وجل، وليس معناها لا خالق، أو لا رازق، أو لا مدبر إلا الله، أو لا قادر على الإختراع إلا الله كما يقوله كثير من المتكلمين فإن هذا المعنى لا ينكره المشركون ولا يردونه، وإنما يردون معنى "لا إله إلا الله" أي لا معبود حق إلا الله كما قال تعالى عنهم: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب وإنطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا إختلاق (. {سورة ص، الآيات: 5-7} .

ص: 30

بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ (السيد) فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي "لا إله إلا الله"(1) .

والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها (2) والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم قولوا:"لا إله إلا الله" قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب)(3){سورة ص، الآية: 5} .

فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك (4) فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار (5)

ــ

(1)

يريد رحمه الله بيان أن المشركين لا يريدون بقول لا إله إلا الله، لأنهم يعرفون أن ذلك حق وإنما ينكرون معناها لا معبود حق إلا الله، وهذا الذي بدأ به المؤلف وأعاد، إنما قاله للتأكيد والرد على من يقول: إننا لا نعبد الملائكة أو غيرهم إلا من أجل أن يقربونا إلى الله زلفى، ولسنا نعتقد أنهم يخلقون أو يرزقون.

(2)

قوله: "من هذه الكلمة" أي قول: (لا إله إلا الله) .

(3)

هذه الجملة كالتي قبلها يبين فيها رحمه الله عز وجل -أن معنى لا إله إلا الله لا معبود حق إلا الله، وأن المشركين قد فهموا هذا منها، وعلموا أنه ليس المراد بها مجرد لفظها، وأن المراد بها لا معبود حق إلا الله، ولهذا أنكروه مع أنهم لا ينكرون أن الله وحده هو الخالق الرازق.

(4)

أي يعرفون أن معنى لا إله إلا الله، لا معبود حق إلا الله.

(5)

يريد المؤلف رحمه الله عز وجل -أن يبين أن من الناس من يدعي الإسلام ولا

ص: 31

بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير إعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها "لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله" فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى "لا إله إلا الله".

إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب (1)، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن

ــ

يعرفون معنى كلمة "لا إله إلا الله" حيث يظنون أن المقصود هو التلفظ بحروفها دون معرفة معناها وإعتقاده. ومن الناس من يظن أن المراد بها توحيد الربوبية أي لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله.

ومن الناس من يفسرها بأن المراد بها "إخراج اليقين الصادق عن ذات الأشياء، وإدخال اليقين الصادق على ذات الله" وهذا التفسير باطل لم يعرفه السلف الصالح، وليس المراد به أن تتيقن بالله عز وجل وتخرج اليقين من غيره لأن هذا لا يمكن فإن اليقين ثابت في غير الله) لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) {سورة التكاثر، الآيتان 6، 7} . وتيقن الأشياء الواقعة الحسية المعلومة لا ينافي التوحيد.

ومن الناس من يفسرها بأنه "لا معبود إلا الله" وهذا التعريف لا يصح على ظاهرة لأن هناك أشياء عبدت من دون الله عز وجل.

فيكون هؤلاء أجهل من الجهال الذين بعث فيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يعرفون من معناها ما لا يعرفه هؤلاء.

(1)

أي عرفت معنى لا إله إلا الله الحقيقي وأن معناها "لا معبود حق إلا الله".

ص: 32

يشاء) (1){سورة النساء، الآية: 48} وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه (2) وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا (3) .

ــ

(1)

أختلف أهل العلم-رحمهم الله تعالى-في هذه الآية هل تشمل كل الشرك أم أنها خاصة بالشرك الأكبر.

فمنهم من قال: تشمل كل شرك ولو كان اصغر كالحلف بغير الله فإن الله لا يغفره.

ومنهم من قال: إنها خاصة بالشرك الأكبر فهو الذي يغفره الله.

وشيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه اللهعز وجل -أختلف كلامه فمرة قال بالقول الأول ومرة قال بالقول الثاني.

وعلى كل حال يجب الحذر من الشرك مطلقاً، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر لأن قوله:(أن يشرك به)(أن) وما بعدها في تأويل مصدر تقديره "إشراكاً به" فهو نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.

(2)

وهو عبادة الله وحده كما قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (. {سورة الأنبياء، الآية: 25} . وهذا هو الإسلام الذي قال الله فيه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه){سورة آل عمران، الآية: 85}

(3)

أي بمعنى هذه الكلمة مما تقدم ذكره عند قول المؤلف رحمه الله "فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة. . إلخ"

ص: 33

أفادك (1) فائدتين (2) : الأولى الفرح بفضل الله ورحمته كما قال الله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون){سورة يونس، الآية: 58} وأفادك أيضاً الخوف العظيم (3) .

ــ

(1)

قوله "أفادك" جواب قوله: "إذا عرفت ما ذكرت لك. . إلخ"

(2)

يحصل ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن الله تعالى فتح عليك حتى عرفت المعنى الصحيح لهذه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله". وهذا فضل عظيم من الله ورحمة، والفرح بمثل هذا مما أمر الله به ودليله ما ذكره المؤلف رحمه الله:(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (وفرح العبد بما أنعم الله عليه الصلاة والسلام من العلم والعبادة من الأمور المحمودة كما جاء في الحديث: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه" (1)

(3)

أي من ان تقع في مثل ما وقع فيه هؤلاء من الجهل بمعناها والخطر العظيم في ذلك.

(1) أخرجه البخاري/ كتاب الصوم/ باب هل يقول إني صائم إذا شتم، ومسلم/ كتاب الصيام/ باب فضل الصيام

ص: 34

فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل (1) .

ــ

(1)

تعليقنا على هذه الجملة من كلام المؤلف رحمه الله:

أولاً: لا أظن الشيخ رحمه الله لا يرى العذر بالجهل اللهم إلا أن يكون منه تفريط بترك التعلم مثل أن يسمع بالحق فلا يلتفت إليه ولا يتعلم، فهذا لا يعذر بالجهل وإنما لا أظن ذلك من الشيخ لأن له كلاماً أخر يدل على العذر بالجهل فقد سئل -رحمه الله تعالى- عما يقاتل عليه؟ فأجاب:

أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ فالأربعة: إذا أقر بها، وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها؛ والعلماء أختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام العلماء كلهم، وهو: الشهادتان.

وأيضاً: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر، فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع:

النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس؛ واقر أيضاً: أن هذه الإعتقادات في الحجر، والشجر والبشر، الذي هو دين غالب الناس: أنه الشرك بالله الذين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله، ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهو كافر، نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول، فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكنه تبين في سب دين الرسول، مع إدعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، ومن عبد أبا علي، والخضر من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى:(فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين){سورة البقرة، الآية: 89} وهو ممن قال الله فيه: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أثمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون){سورة التوبة، الآية: 12.}

النوع الثالث: من عرف التوحيد، وأحبه، واتبعه، وعرف الشرك، وتركه ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضاً كافر، فيه قوله تعالى:(ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم){سورة محمد، الآية 9}

النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد، وإتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، ويتعذر بأن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضاً كافر؛ فإنهم لو يأمرونه بترك صوم، ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل؛ ول يأمرونه بتزوج إمرأة أبيه ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم فعل؛ وموافقتهم على الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير، كثير؛ فهذا أيضاً كافر، وهو ممن قال الله فيهم: (ستجدون

ص: 36

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم (-إلى قوله _: (سلطاناً مبيناً){سورة النساء، الآية: 91} فهذا الذي نقول.

وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه؛

فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.

وإذا كنا: لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟ ) سبحانك هذا بهتان عظيم) {سورة النور، الآية: 16}

بلك نكفر تلك الأنواع الأربعة، لأجل محادتهم لله ورسوله، فرحم الله إمرءاً نظر نفسه، وعرف أنه ملاق الله، الذي عنده الجنة والنار؛ وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم.

(*) تتمه:

الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافاً لفظيا في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين، أي أن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضى في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات، أو وجود بعض الموانع. وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين:

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام أو لا يدين بشيء ولم يكن يخطر بباله أن ديناً يخالف ما هو عليه الصلاة والسلام فهذا تجري عليه الصلاة والسلام أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل -تعالى- والقول الراجح أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل -والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله-تعالى-: (ولا يظلم ربك أحداً (. {سورة الكهف، الآية: 49} .

وإنما قلنا تجرى عليه الصلاة والسلام أحكام الظاهر في الدنيا وهي أحكام الكفر؛ لأنه لا يدين بالإسلام فلا يمكن أن يعطي حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة لنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "طريق الهجرتين" عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.

النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام ولكنه عاش على هذا المكفر ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبهه أحد على ذلك فهذا تجري عليه الصلاة والسلام أحكام الإسلام ظاهراً، أما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل -وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وأقوال أهل العلم:

فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً){سورة الإسراء، الآية: 15} وقوله: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون){سورة القصص،، الآية 59}

وقوله: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد

ص: 38

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الرسل) ، {سورة النساء، الآية: 165} . وقوله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء){سورة إبراهيم، الآية: 4} . وقوله: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون){سورة التوبة، الآية: 115} وقوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة){سورة الأنعام، الآية: 155-157} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.

وأما السنة: ففي صحيح مسلم 1/134 عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة-يعني أمة الدعوة-يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".

وأما كلام أهل العلم: فقال في المغني 8/131 "فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي 3/229 مجموع ابن قاسم: "إني دائماً-ومن جالسني يعلم ذلك مني-من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وأني أقرر أن الله-تعالى-قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخيرية القولية، والمسائل العملية، وما زال

ص: 39

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية-إلى أن قال-وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأثمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين-إلى أن قال-والتكفير هو من الوعيد فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً" أ. هـ. وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 1/56 من الدرر السنية:"وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره". وفي ص66 "وأما الكذب والبهتان فقولهم إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهم لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل" ا. هـ.

إذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب، والسنة، وكلام أهل العلم فهو مقتضى حكمة الله تعالى، ولطفه ورأفته، فلن يعذب

ص: 40

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أحداً حتى يعذر إليه، ولطفه ورأفته، فلن يعذب أحداً حتى يعذر إليه، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله تعالى من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.

فالأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره لأن في ذلك محذورين عظيمين:

أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.

أما الأول فواضح حيث حكم بالكفر على من لم يكفره الله تعالى فهو كمن حرم ما أحل الله؛ لأن الحكم بالتكفير أو عدمه إلى الله وحده كالحكم بالتحريم أو عدمه.

وأما الثاني فلأنه وصف المسلم بوصف مضاد، فقال: إنه كافر، مع أنه بريء من ذلك، وحري به أن يعود وصف الكفر عليه لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما"(1) وفي رواية: "إن كان كما قال وإلا رجعت عليه"(2) وله من حديث أبي ذر-رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه". (3) يعني رجع عليه. وقوله في حديث ابن عمر: "إن كان كما قال" يعني في حكم الله - تعالى-

ص: 41

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وهذا هو المحذور الثاني أعني عود وصف الكفر عليه الصلاة والسلام إن كان أخوه بريئاً منه، وهو محذور عظيم يوشك أن يقع به؛ لأن الغالب أن من تسرع بوصف المسلم بالكفر كان معجباً بعمله محتقراً لغيره فيكون جامعاً بين الإعجاب بعمله الذي قد يؤدي إلى حبوطه، وبين الكبر الموجب لعذاب الله - تعالى- في النار كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله عز وجل الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار". (1)

فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:

الأمر الأول: دلالة الكتاب، والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.

الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتتنتفي الموانع.

ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت كفره لقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً){سورة النساء الآية: 115} فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة لرسول من بعد أن يتبين الهدى له. ولكن هل يشترط أن يكون عالماً بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره أو يكفي أن يكون عالماً بالمخالفة وإن كان جاهلاً بما يترتب عليها؟

الجواب: الثاني؛ أي أن مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما

(1) اخرجه الإمام أحمد جـ 2ص376، وأبو داود / كتاب اللباس / باب ما جاء في الكبر، وابن ماجه / كتاب الزهد / باب البراءة من الكبر.

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تقتضيه لن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعمله بالمخالفة مع جهله بالكفارة؛ ولأن الزاني المحصن العالم بتحريم الزنا يرجم وإن كان جاهلاً بما يترتب على زناه، وربما لو كان عالماً ما زنا.

ومن الموانع من التكفير أن يكره على المكفر لقوله تعالى -: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم){سورة النحل، الآية: 106} .

ومن الموانع أن يغلق عليه الصلاة والسلام فكره وقصده بحيث لا يدري ما يقول لشدة فرح، أو حزن، أو غضب، أو خوف ونحو ذلك، لقوله-تعالى-) وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمد قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً) {سورة الأحزاب، الآية: 5} وفي صحيح مسلم 2104 عن أنس بن مالك- رضي الله عنه الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فأنفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة.

الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".

ومن الموانع أيضاً أن يكون شبهة تأويل في الكفر بحيث يظن أنه على حق، لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلاً في

ص: 43

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قوله -تعالى-: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم){سورة الأحزاب، الآية: 5} . ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله - تعالى-: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها){سورة البقرة، الآية: 286} . قال في المغني 8/131: " وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك - يعني يكون كافراً - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع أستحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى" إلى أن قال "وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم وإستحلال دماءهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم إستحل بتأويل مثل هذا". وفي فتاوى شيخ الإسلام.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ابن تيمية 13/30 مجموع ابن قاسم: "وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه مالم يدل عليه الصلاة والسلام، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب" وفي ص 210 منه " فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم. . وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم، ولا إتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن، وقال أيضاً 28/518 من المجموع المذكور: "فإن الأثمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين"، لكنه ذكر في 7/217 "أنه لم يكن في الصحابة

ص: 44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع". وفي 28/518"أن هذا هو المنصوص عن الأثمة كأحمد وغيره". وفي 3/282 قال:"والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أثمة الدين من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه". إلى أن قال: "وإذا كان المسلم متأولاً في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك". إلى أن قال في ص 288: "وقد أختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حقل العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. . والصحيح ما دل عليه القرآن في

ص: 45

وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله كما كان يظن المشركون خصوصاً إن ألهمك الله تعالى ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: (أجعل لنا إلها كما لهم آلهة){سورة الأعراف، الآية 138} . فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله (1) .

ــ

قوله - تعالى-: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً){سورة الإسراء الآية: 15} . وقوله: (رسلاً مبشرين ومنرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (. سورة النساء، الآية 165} .

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين"(1)

والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك الأدلة من الكتاب والسنة، والإعتبار، وأقوال أهل العلم.

(1)

حينما حذر الشيخ رحمه الله عز وجل -من أمرين أحدهما خوف الإنسان على نفسه من أن يظن ما ظن هؤلاء في معنى التوحيد أنه هو إفراد الله تعالى بالخلق والرزق والتدبير بين رحمه الله أن الواجب على الإنسان أن يكون على خوف دائماً، ثم يذكر حال القوم الذين قالوا لموسى:(أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون){سورة الأعراف، الآيتان: 138، 139} .

فبين لهم أن سؤالهم أن يجعل لهم آلهة كما كان هؤلاء لهم آلهة من الجهل فهذا يؤدي إلى خوف الإنسان على نفسه من أن يتيه في الضلالات والجهالات حيث يظن أن معنى "لا إله إلا الله" أي لا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا الله عز وجل -وهذا الذي قاله الشيخ-رحمه الله-وحذر منه وقع فيه عامة المتكلمين الذي تكلموا

(1) البخاري / كتاب التوحيد / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا شخص أغير من الله) ، ومسلم / كتاب اللعان.

ص: 46

وأعلم الناس أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلاجعل له أعداء كما قال الله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القولِ غروراً)(1){سورة الأنعام، الآية: 112} .

ــ

في التوحيد حيث قالوا إن معنى "لا إله إلا الله" أي لا مخترع ولا قادر على الإختراع إلا الله ففسروا هذه الكلمة العظيمة بتفسير باطل لم يفهمه أحد من المسلمين، بل ولا غير المسلمين حتى المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون معنى هذه الكلمة أكثر مما يعرفها هؤلاء المتكلمون.

(1)

نبه المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذه الجملة على فائدة عظيمة حيث بين أن من حكمة الله عز وجل أنه لم يبعث نبياً إلا جعل له أعداء من الإنس والجن، وذلك أن وجود العدو يمحص الحق ويبينه فإنه لكما وجد المعارض قويت حجة الآخر، وهذا الذي جعله الله تعالى للأنبياء جعله أيضاً لأتباعهم فكل اتباع الأنبياء يحصل لهم مثل ما يحصل للأنبياء قال الله تعالى:(وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) وقال: (كذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً){سورة الفرقان، الآية: 31} فإن هؤلاء المجرمين يعتدون على الرسل واتباعهم وعلى ما جاءوا به بأمرين:

الأول: التشكيك

الثانية: العدوان.

أما التشكيك فقال الله تعالى في مقابلته) كفى بربك هادياً (لمن أراد أن يضله أعداء الأنبياء.

ص: 47

وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال الله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم)(1){سورة غافر الآية: 83}

ــ

وأما العدوان فقال الله تعالى في مقابلته) ونصيراً (لمن أراد أن يردعه أعداء الأنبياء.

فالله تعالى يهدي الرسل وأتباعهم وينصرهم على أعدائهم ولو كانوا من أقوى الأعداء، فعلينا أن لا نيأس لكثرة الأعداء وقوه منن يقاوم الحق فإن الحق كما قال ابن القيم-رحمه الله:

الحق منصور وممتحن فلا

تعجب فهذي سنة الرحمن

فلا يجوز لنا أن نيأس بل علينا أن نطيل النفس وأن ننتظر وستكون العاقبة للمتقين، فالأمل دافع قوي للمضي في الدعوة والسعي في إنجاحها، كما أن اليأس سبب للفشل والتأخر في الدعوة.

(1)

يعني أن أعداء الرسل الذين يجادلونهم ويكذبونهم قد يكون عندهم علوم كثيرة وكتب وشبهات يسمونها "حججاً" يلبسون بها على الناس فيلبسون الحق بالباطل كما قال تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما ندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (وهذا الفرح مذموم؛ لأنه فرح بغير ما يرضي الله فيكون من الفرح المذموم.

وأشار المؤلف -رحمه الله تعالى- بهذه الجملة إلى أنه ينبغي أن نعرف ما عند هؤلاء من العلوم والشبهات من أجل أن نرد عليهم بسلاحهم وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب"(1) وذلك من أجل أن يستعد لهم ويعرف ما عندهم من الكتاب حتى يرد عليهم بما جاءوا به.

ص: 48

إذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه الصلاة والسلام، أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل) لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (1){سورة الأعراف، الآيتان: 16، 17}

ــ

(1)

إذا عرفت هذا أي أن لهؤلاء الأعداء كتباً وعلوماً وحججاً يلبسون بها الحق بالباطل فعليك أن تستعد لهم، والاستعداد لهم يكون بأمرين: -

أحدهما: -ما أشار إليه المؤلف رحمه الله عز وجل بان يكون لديك من الحجج الشرعية والعقلية ما تدفع به حجج هؤلاء وباطلهم.

الثاني: أن تعرف ما عندهم من الباطل حتى ترد عليهم به، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله-في كتابه درء تعارض النقل والعقل، قال:"إنه ما من إنسان يأتي بحجة يحتج بها على الباطل إلا كانت حجة عليه الصلاة والسلام وليست حجة له". وهذا الأمر كما قال رحمه الله فإن الحجة الصحيحة إذا إحتج بها المبطل على باطله فإنها تكون حجة عليه الصلاة والسلام وليست له، فعلى من أراد أن يجادل هؤلاء يتأكد أن يلاحظ هذين الأمرين: -

الأمر الأول: - أن يفهم ما عندهم من العلم حتى يرد عليهم به.

والأمر الثاني: -أن يفهم الحجج الشرعية والعقلية التي يرد بها على هؤلاء.

ص: 49

ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن) إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) (1){سورة النساء، الآية: 76}

والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: (وإن جندنا لهم الغالبون)(1){سورة الصافات، الآية: 173} .

ــ

(1)

يريد المؤلف رحمه الله أن يشجع من أقبل على الله تعالى وعرف الحق بأن لا يخاف من حجج أهل الباطل؛ لأنها حجج واهية وهي من كيد الشيطان وقد قال الله تعالى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً (.

وفي ذلك يقول القائل:

حجج تهافت كالزجاج تخالها

حقاً وكل كاسر ومكسور

(1)

قال الشيخ رحمه الله تعالى: "والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين" وأستدل بقوله تعالى) وإن جندنا لهم الغالبون (العامي من الموحدين يعني من الذين يقرون بالتوحيد بأنواعه الثلاثة (الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات) ، يغلب ألفاً من علماء المشركين؛ لأن علماء هؤلاء المشركين يوحدون الله عز وجل -توحيداً ناقصاً حيث إنهم لا يوحدونه إلا بتوحيد الربوبية فقط، وهذا توحيد ناقص ليس هو توحيداً في الحقيقة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين الذي يوحدون الله هذا التوحيد، ولم ينفعهم هذا التوحيد ولم تعصم به دماءهم وأموالهم، والعامي من الموحدين يقر بأنواع التوحيد الثلاثة: -

توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، فيكون خيراً من هؤلاء.

ص: 50

وجند الله لهم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان (1)

ــ

(1)

أشار المؤلف رحمه الله إلى أن جند الله وهم عباده المؤمنون الذين ينصرون الله ورسوله يجاهدون الناس بأمرين:

الأول: الحجة والبيان وهذا بالنسبة للمنافقين الذين لا يظهرون عداوة المسلمين فهؤلاء يجاهدون بالحجة والبيان.

الثاني: من يجاهد بالسيف والسنان وهم المظهرون للعداوة وهم الكفار الخلص المعلنون بكفرهم وفي هذا والذي قبله يقول الله عز وجل) يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (. {سورة التحريم، الآية: 9} .

والجهاد بالحجة والبيان يكون للكفار الخلص المعلنين لكفرهم أولاً، ثم يجاهدون بالسيف ثانياً، ولا يجاهدون بالسيف والسنان إلا بعد قيام الحجة عليهم.

والواجب على الأمة الإسلامية أن تقابل كل سلاح يصوب نحو الإسلام بما يناسبه، فالذين يحاربون الإسلام بالأفكار والأقوال يجب أن يبين بطلان ما هم عليه الصلاة والسلام بالأدلة النظرية العقلية إضافة إلى الأدلة الشرعية، والذين يحاربون الإسلام من الناحية الاقتصادية يجب أن يدافعوا، بل أن يهاجموا إذا أمكن، بمثل ما يحاربون به الإسلام، والذين يحاربون الإسلام بالأسلحة يجب أن يقاوموا بما يناسب تلك الأسلحة.

ص: 51

وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح (1) .

وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله: (تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)(2){سورة النحل، الآية: 89}

ــ

(1)

أي أن الخوف من أعداء الأنبياء إنما هو على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح؛ لأنه ليس له علم يتسلح به فيخشى أن يجادله أحد من هؤلاء المشركين فتضيع حجته فيهلك، فلابد أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات ويفحم به الخصم؛ لأن المجادل يحتاج إلى أمرين:

الأول: إثبات دليل قوله.

الثاني: إبطال دليل خصمه.

ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة ما هو عليه من الحق، وما عليه الصلاة والسلام خصمه من الباطل ليتمكن من دحض حجته.

(2)

من الله علينا بكتابه العزيز الذي) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) {سورة فصلت، الآية: 42} وجعله سبحانه وتعالى تبايناً أي مبيناً لكل شيء يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم ثم إن تباين القرآن للأشياء ينقسم إلى قسمين: -

الأول: أن يبين الشيء بعينه مثل قوله تبارك وتعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير){سورة المائدة، الآية: 3} وقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الرضعة وأمهات نسآئكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً * والمحصنت من النسآء إلا ما ملكت أيمناكم كتب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم) {سورة النساء الآيتان: 23، 24} .

الثاني: أن يكون التباين بالإشارة إلى موضع البيان مثل قوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة){سورة النساء الآية: 113} . فأشار الله تعالى إلى الحكمة التي هي السنة، فإنها تبين القرآن وكذلك قوله تعالى:(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون){سورة الأنبياء، الآية: 7} .

فهذا يبين أننا نرجع في كل شيء إلى أهله الذين هم أهل الذكر به ولهذا يذكر أن بعض أهل العلم أتاه رجل من النصارى يريد الطعن في القرآن الكريم وكان في مطعم فقال له هذا النصراني: أين بيان كيف يصنع هذا الطعام؟ فدعا الرجل صاحب المطعم وقاله له: صف لنا كيف تصنع هذا الطعام؟ فوصفه، فقال: هكذا جاء في القرآن فتعجب النصراني وقال: كيف ذلك؟ فقال: إن الله عز وجل عز وجل يقول: (فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون){سورة الأنبياء، الآية: 12} . فيبين لنا مفتاح العلم بالأشياء بأن نسأل أهل الذكر بها أي أهل العلم به، وهذا من بيان القرآن بلا شك فالإحالة على من يحصل بهم العلم هي فتح للعلم.

ص: 53

فلا يأتي صاحب باطل إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى:(ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً)(1){سورة الفرقان، الآية 33} .

قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة ياتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة، وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا (2) .

ــ

(1)

لا يأتي مبطل بحجة على باطله إلا وفي القرآن ما يبين هذه الحجة الباطلة، بل إن كل صاحب باطل أستدل لباطله بدليل صحيح من الكتاب والسنة فهذا الدليل يكون دليلاً عليه الصلاة والسلام كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في مقدمة كتابه درء تعارض النقل والعقل أنه ما من صاحب بدعة وباطل يحتج لباطله بشيء من الكتاب أو من السنة الصحيحة إلا كان ذلك الدليل دليلاً عليه وليس دليلاً له.

(2)

قال المؤلف رحمه الله مستدلاً على أن الرجل الموحد ستكون له حجة أبلغ وأبين من حجة غير الموحد مهما بلغ من الفصاحة والبيان كما قال تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلى جئناك بالحق وأحسن تفسيراً (أي لا يأتونك بمثل يجادلونك به ويلبسون الحق بالباطل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ولهذا تجد في القرآن كثيراً ما يجيب الله تعالى عن أسئلة هؤلاء المشركين وغيرهم ليبين-عز وجل -للناس الحق وسيكون الحق بيناً لكل أحد.

ولكن هاهنا أمر يجب التفطن له وهو: أنه لا ينبغي للإنسان أن

ص: 54

فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل، ومفصل، أما المجمل: -فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تاويله إلا الله)(1){سورة آل عمران، الآية: 7} .

ــ

يدخل في مجادلة أحد إلا بعد أن يعرف حجته ويكون مستعداً لدحرها والجواب عنها، لأنه إذا دخل في غير معرفة صارت العاقبة عليه، إلا أن يشاء الله كما أن الإنسان لا يدخل في ميدان المعركة مع العدو إلا بسلاح وشجاعة، ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه سيذكر في كتابه هذا كل حجة أتى بها المشركون ليحتجوا بها على شيخ الإسلام رحمه الله ويكشف هذه الشبهات لأنها في الحقيقة ليست حججاً، ولكنها تشبيه وتلبيس.

(1)

بين رحمه الله تعالى أنه سيجيب على هذه الشبهات بجوابين: -

أحدهما: -مجمل عام صالح لكل شبهة.

الثاني: -مفصل، وهكذا ينبغي لأهل العلم في باب المناظرة والمجادلة أن يأتوا بجواب مجمل حتى يشمل ما يحتمل أن يورده الملبسون المشبهون ويأتي بجواب مفصل لكل مسألة بعينها قال الله تعالى:(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير){سورة هود، الآية: 1} فذكر في الجواب المجمل رحمه الله: أن هؤلاء الذين يتبعون المتشابه هم الذين في قلوبهم زيغ كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في يقوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات

ص: 55

وقد صح (1) عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم".

مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: (إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، {سورة يونس، الآية: 62} . وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم، يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره، فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه.

ــ

محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون. . .) {سورة آل عمران، الآية: 7}

ولهذا تجد أهل الزيغ والعياذ بالله يأتون بالآيات المتشابهات ليلبسوا بها على باطلهم فيقولون مثلاً قال الله تعالى كذا وقال في موضع آخر كذا؟ فكيف يكون، وهذا مثل ما حصل لنافع ابن الأزرق مع ابن عباس رضي الله عنهما في مناظرته التي ذكرها السيوطي في الإتقان وربما يكون غيره ذكرها وهي مفيدة.

(1)

قال الشيخ رحمه الله وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه. فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"(1) أستدل المؤلف رحمه الله عز وجل بهذا الحديث على أن الرجل الذي يتبع المتشابه من القرآن أو من السنة وصار يلبس به على باطله فهؤلاء هم الذين سماهم الله ووصفهم بقوله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ){سورة آل عمران، الآية: 7} الآية ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم

(1) البخاري / كتاب التفسير- سورة آل عمران، ومسلم / العلم / باب النهي عن أتباع متشابه القرآن

ص: 56

وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم:(هؤلاء شفعاؤنا عند الله){سورة يونس، الآية: 18} هذا أم رمحكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه (1) .

ــ

فقال أحذروهم من أن يضلوكم عن سبيل الله باتباع هذا المتشابه واحذروا طريقهم أيضاً فالتحذير هنا يشمل التحذير عن طريقهم والتحذير منهم أيضاً، ثم ضرب المؤلف لهم مثلاً بأن يقول لك المشرك أليس الله يقول: (إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (أوليس للأولياء جاه عند الله سبحانه وتعالى؟ أو ليست الشفاعة ثابتة القرآن والسنة؟ وما أشبه ذلك من هذه الأشياء فقل: نعم كل هذا حق ولكنه ليس فيه دليل على أن تشرك بهؤلاء الأولياء، أو بهؤلاء الرسل، أو بهؤلاء الذين عندهم شفاعة عند الله عز وجل -ودعواك أن هذا يدل على ذلك دعوى باطلة لا يحتج بها إلا مبطل وما أنت إلا من الذين قال الله فيهم: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه (ولو أنك رددت هذا المتشابه إلى المحكم لعلمت أن هذا لا دليل لك فيه.

(1)

ذكر المؤلف رحمه الله كيف نرد المتشابه إلى المحكم أن المشركين كانوا مقرون بتوحيد الربوبية ويؤمنون بذلك إيماناً لا شك فيه عندهم ولكنهم يعبدون الملائكة وغيرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ومع هذا كانوا مشركين استباح النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وهذا نص محكم لا اشتباه فيه دال على أن الله لا شريك له في ألوهيته وفي عبادته كما أنه لا شريك له في ربوبيته وملكه، وأن من

ص: 57

وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله (1) .

ــ

أشرك بالله في ألوهيته فهو مشرك وإن وحده في الربوبية.

(1)

قوله رحمه الله "ما ذكرت أيها المشرك من كلام الله تعالى وكلام رسوله لا أعرف معناه، ولكني أعلم أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله" يريد بقوله: "لا أعرف معناه" أي لا أعرف معناه الذي أنت تدعيه، وإنني أنكره ولا اقر به، لأنني أعلم أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله، قال تعالى:(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه أختلافاً كثيراً){سورة النساء، الآية: 82} ، وقال تعالى:(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء){سورة النحل، الآية: 89} ، وقال تعالى:(لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون){سورة النحل، الآية: 44} وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله، وكذلك كلام الله لا يناقض بعضه بعضاً، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا شريك له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بين الإسلام على خمس: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. . . . " (1) إلى آخر الحديث، وهذا كله يؤيد بعضه بعضاً، ويدل على أن الله تعالى ليس له شريك في الألوهية كما أنه ليس له شريك في الربوبية.

(1) البخاري / الإيمان / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"، ومسلم /كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإسلام.

ص: 58

وهذا جواب جيد سديد (1) ولكن لا يفهمه (2) إلا من وفقه الله فلا تستهن به، فإنه كما قال تعالى:(وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاه إلا ذو حظ عظيم){سورة فصلت، الآية: 35} .

وأما الجواب المفصل (3) فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه، منها: قولهم نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن عبد القادر أو غيره.

ــ

(1)

قوله رحمه الله: "وهذا جواب جيد سديد" يعني قول الإنسان لخصمه أن كلام الله تعالى لا يتناقض، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله، وأن الواجب رد المتشابه إلى المحكم، فهذا أجاب بجواب سديد أي ساد لمحله لا يمكن لأحد أن يناقضه، أو يرد عليه الصلاة والسلام ما ينقضه لأنه كلام محكم مبني على الدليلين: السمعي، والعقلي وما كان كذلك فإنه جواب لا يمكن لأي مبطل أن ينقضه.

(2)

قوله: "ولكن لا يفهمه. . . . إلخ"

(3)

والجواب الأول كان مجملاً يرد به الإنسان على كل شبهة، ثم هناك جواب مفصل أي مميز بعضه عن بعض بحيث تدفع به شبهة كل واحد بعينها.

ص: 59

ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم، فجاوبه بما تقدم وهو: أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بما ذكرت، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئاً، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة (1) ، واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه (2)

ــ

فإذا قال لك المشرك: أنا لا أشرك بالله، بل أشهد انه لا يخلق، ولا يرزق، ولا ينفع، ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عمن دونه صلى الله عليه وسلم، كعبد القادر يعني ابن موسى الجيلاني-على خلاف في اسم أبيه-كان من كبار الزهاد في والمتصوفين ولد سنة 471 بجيلان وتوفي سنة 561 في بغداد وكان حنبلي المذهب، وهذا هو التوحيد، فهذه شبهة يلبس بها ولكنها شبهة داحضة لا تفيده شيئاً.

(1)

قوله "ولكن أنا مذنب. . . .إلخ" هذا بقية كلام المشبه، فأجبه بأن ما ذكرت هو ما كان عليه الصلاة والسلام المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم ونساءهم وأموالهم، ولم يغنهم هذا التوحيد شيئاً.

(2)

قوله: "واقرأ عليه ما ذكر الله تعالى في كتابه ووضحه"، يريد بذلك أن تقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه من توحيد الألوهية فإنه جل وعلا أبدأ فيه وأعاد وكرر من أجل تثبيته في قلوب الناس وإقامة الحجة عليهم فقال تعالى:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون){سورة الأنبياء، الآية: 25} ، وقال تعالى:(وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون){سورة الذاريات، الآية: 56} وقال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط

ص: 60

فإن قال: هؤلاء (1) الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً فجاوبه بما تقدم.

فإنه إذا (2) أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره.

ــ

لا إله إلا هو العزيز الحكيم) {سورة آل عمران، الآية: 18} وقال تعالى) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) {سورة البقرة، الآية 163} ، وقال تعالى:(فإيي فاعبدون){سورة العنكبوت، الآية: 56} إلى غيرها من الآيات الكثيرة الدالة على وجوب توحيد الله عز وجل في عبادته، وأن لا يعبد أحد سواه، فإذا إقتنع بذلك فهذا هو المطلوب وإن لم يقتنع فهو مكابر معاند يصدق عليه قول الله تعالى:(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فأنظر كيف كان عاقبة المفسدين){سورة النمل، الآية 14} .

(1)

قوله:: "فإن قال: هؤلاء" يعني أهل الشرك هذه الآيات نزلت في المشركين الذين يعبدون الأصنام وهؤلاء الأولياء ليسوا بأصنام.

فجاوبه بما تقدم أي بأن كل من عبد غير الله فقد جعل معبوده وثناً فأي فرق بين من عبد الأصنام وعبد الأنبياء والأولياء؟ إذ أن الجميع لا يغني شيئاً عن عابديه.

(2)

يقول: "فإنه" أي هذا القائل يعلم أن المشركين قد أقروا بالربوبية، وأن الله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء وخالقه ومالكه، ولكنهم عبدوا هذه الأصنام من أجل أن تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم فقد أقر

ص: 61

فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) {سورة الإسراء، الآية: 57} . ويدعون عيسى بن مريم وامه وقد قال الله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم أنظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم)(1){سورة المائدة، الآيتان: 76. 75} .

ــ

بأن مقصودهم كمقصوده ومع ذلك لم ينفعهم هذا الاعتقاد كما سبق.

(1)

قوله: "فأذكر له أن هؤلاء المشركين منهم من يدعو الأصنام لطلب الشفاعة كما أنت كذلك موافق لهم في المقصود، ومنهم من يعبد الأولياء كما أنت كذلك موافق لهم في المقصود والمعبود، ودليل أنهم يدعوا الأولياء قوله تعالى:(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب (وكذلك يعبدون الأنبياء كعبادة النصارى المسيح ابن مريم، وكذلك يعبدون الملائكة كقوله تعالى) ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) {سورة سبأ، الآية: 40} الآية، فتبين بذلك الجواب عن تلبيسه بكون المشركين يعبدون الأصنام وهو يعبد الأولياء والصالحين من وجهين:

الوجه الأول: أنه لا صحة لتلبيسه لأن من أولئك المشركين من يعبد الأولياء والصالحين.

الوجه الثاني: لو قدرنا أن أولئك المشركين لا يعبدون إلا الأصنام فلا فرق بينه وبينهم لأن الكل عبد من لا يغني عنه شيئاً.

ص: 62

وأذكر له قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون)(1){سورة سبأ الآيتان: 40: 41}

وقوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي (2) ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) (1){سورة المائدة، الآية: 116}

فقل له: (3) أعرفت أن الله كفر من قصد الأصنام، وكفر أيضاً من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ .

ــ

(1)

قوله: "وأذكر له قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة (" الآيتين، هذه معطوفة على قوله سابقاً:"فأذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام. . . إلخ". والمقصود من هذا أن يتبين له أن من الكفار من يعبد الملائكة وهم من خيار خلق الله وأوليائه فيبطل تلبيسه بأن الفرق بينه وبين الكفار أنه هو يدعو الصالحين والأولياء، والكفار يعبدون الأصنام من الأحجار ونحوها.

(2)

قوله: "وقوله تعالى: (وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم ("الآية، أي وأذكر له قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى. . . . . (لتلقمه حجرا في أن الكفار كانوا يعبدون الأولياء والصالحين، فلا فرق بينه وبين أولئك الكفار.

(3)

قوله: "فقل له. . . ألخ" أي قل ذلك مبيناً له أن الله سبحانه وتعالى كفر

ص: 63

فإن قال: (1) الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصلاحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.

فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواء وأقرأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: (والذين أتخذوا من دونه أوليا ءما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى){سورة الزمر، الآية: 3} وقوله تعالى: (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله){سورة يونس، الآية: 18} .

ــ

من عبد الصالحين، ومن عبد الأصنام والنبي صلى الله عليه وسلم الله قاتلهم على هذا الشرك ولم ينفعهم أن كانا المعبودون من أولياء الله وأنبيائه.

(1)

قوله: "فإن قال" يعني هذا المشرك، الكفار يريدون منهم أي يريدون أن ينفعوهم أو يضروهم وأنا لا أريد إلا من الله، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، وأنا لا أعتقد فيهم ولكن أتقرب بهم إلى الله عز وجل ليكونوا شفعاء.

فقل له: وكذلك المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم لا يعبدون هؤلاء الأصنام لاعتقادهم أنها تنفع وتضر ولكنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى كما قال تعالى عنهم:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وقال: (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله (فتكون حالة كحال هؤلاء المشركين سواء بسواء.

ص: 64

وأعلم: أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها لنا في كتابه وفهمتها فهماً جيداً فما بعدها أيسر منها (1) .

ــ

(1)

قوله رحمه الله تعالى: وهذه الشبه الثلاث: -

الشبهة الأولى: - قولهم: "إننا لا نعبد الأصنام إنما نعبد الأولياء".

الشبهة الثانية: -قولهم: "أننا ما قصدناهم وإنما قصدنا الله عز وجل -في العبادة".

الشبهة الثالثة: -قولهم: "أننا ما عبدناهم لينفعونا أو يضرونا، فإن النفع والضرر بيد الله عز وجل، ولكن ليقربونا إلى الله زلفى، فنحن قصدنا شفاعتهم بذلك، يعني فنحن لا نشرك بالله سبحانه وتعالى".

فإذا تبين لك إنكشاف هذه الشبه فانكشاف ما بعدها من الشبه أهو وأيسر لأن هذه من أقوى الشبه التي يلبسون بها.

ص: 65

فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الإلتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.

فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة لله (1) وهو حقه عليك، فإذا قال نعم فقل له: يبين لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه، عليك فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها.

فبينها له بقولك قال الله تعالى: (أدعوا ربكم تضرعاً وخفية، إنه لا يحب المعتدين){سورة الأعراف، الآية: 55} فإذا أعلمته بهذا، فقل له: هل علمت هذا عبادة لله فلا بد أن يقول نعم، والدعاء مخ العبادة (2) .

ــ

(1)

إذا قال هذا المشبه أنا لست أعبدهم كما أعبد الله عز وجل -والإلتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة فهذه شبهة.

وجوابها أن تقول: إن الله فرض عليك إخلاص العبادة له وحده. فإذا قال: نعم، فاسأله ما معنى إخلاص العباده له؟ فإما أن يعرف ذلك، وإما أن لا يعرف، فإن كان لا يعرف فبين له ذلك ليعلم أن دعاءه للصالحين وتعلقه بهم عبادة.

(2)

قوله: "فبينها له" أي بين له أنواع العبادة فقل له: إن الله يقول: (أدعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين (والدعاء عبادة، وإذا كان عبادة فإن دعاء غير الله يكون إشراكاً بالله عز وجل وعلى هذا فالذي يستحق أن يدعى ويعبد ويرجى هو الله وحده لا شريك له.

ص: 66

فقل له (1) إذا أقررت أنها عبادة، ودعوت الله ليلاً ونهاراً، خوفاً وطمعاً، ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلابد أن يقول: نعم، فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى: (فصل لربك وأنحر (وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلابد أن يقول: نعم.

فقل له إذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله فلابد أن يقر ويقول: نعم

وقل له أيضا (2) : المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا

ــ

(1)

قوله: "فقل له. . . . . إلخ"، يعني إذا بينت أن الدعاء عبادة وأقر به فقل له: ألست تدعو الله تعالى في حاجة ثم تدعو في تلك الحاجة نفسها نبياً أو غيره فهل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلابد أن يقول: نعم لأن هذا لازم لا محالة، هذا بالنسبة للدعاء.

ثم إنتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى نوع آخر من العبادة وهو النحر قال:، فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى: (فصل لربك وأنحر (وأطعت الله ونحرت له أهذا عبادة؟ فلابد أن يقول نعم فقد إعترف أن النحر لله تعالى عبادة وعلى هذا يكون صرفه لغير الله شركاً، قال المؤلف-رحمه الله مقرراً ذلك:" فقل له إذا نحرت لمخلوق. . . . إلخ" وهذا إلزام واضح لا محيد عنه.

(2)

قوله: "وقل له أيضاً: المشركون. . . .إلخ" إنتقل المؤلف إلى إلزام آخر سبقت الإشارة إليه وهو أن يسأل هذا المشبه هل كان المشركون يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك فلابد أن

ص: 67

يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والإلتجاء ونحو ذلك، وغلا فهم مقرون أهم عبيده وتحت قهره، وأن الله، هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجأوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جداً.

فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها؟ فقال: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله، كما قال الله تعالى:(قل لله الشفاعة جميعاً)(1){سورة الزمر، الآية: 44} .

ــ

يقول: نعم فيسأل مرة أخرى: هل كانت عبادتهم إلا في الدعاء والذبح والإلتجاء ونحو ذلك مع إقرارهم بأنهم عبيد الله وتحت قهره وأن الله هو الذي يدبر الأمر لكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة كما سبق وهذا ما وقع فيه المشبه تماماً

(1)

قوله: "فإن قال" يعني إذا قال لك المشرك المشبه هل تنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول هذا من أجل أن يلزمك بجواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن يشفع لك عند الله إذا دعوته، فقل له: لا أنكر هذه الشفاعة ولا أتبرأ منها، ولكني أقول إن الشفاعة لله ومرجعها كلها إليه وهو الذي يأذن فيها إذا شاء ولمن شاء لقول الله تعالى:(قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض){سورة الزمر، الآية: 44} .

ص: 68

ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) {سورة البقرة، الآية: 255} ولا يشفع في أحدٍ إلا من بعد أن يأذن الله فيه (1) كما قال عز وجل) ولا يشفعون إلا لمن إرتضى) {سورة الأنبياء، الآية: 28} . وهو لا يرضى إلا التوحيد كما قال عز وجل: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه){سورة آل عمران، الآية 85}

فإذا كانت الشفاعة كلها لله (2) ، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد تبين لك أن الشفاعة كلها لله فأطلبها منه، فأقول اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه في، وأمثال هذا.

ــ

(1)

قوله: "ولا تكون إلا بعد إذن الله. . . إلخ". بين رحمه الله أن الشفاعة لا تكون إلا بشرطين:

الشرط الأول: - أن يأذن الله بها لقوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه (.

الشرط الثاني: أن يرضى الله عز وجل عن الشافع والمشفوع له، لقوله تعالى:(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً){سورة طه، الآية: 109} ، ولقول الله تعالى:(ولا يشفعون إلا لمن إرتضى وهم من خشيته مشفقون){سورة الأنبياء الآية: 28} ومن المعلوم أن الله لا يرضى إلا بالتوحيد ولا يمكن أن يرضى الكفر لقوله تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم){سورة الزمر، الآية: 7} ، فإذا كان لا يرضى الكفر فإنه لا يأذن بالشفاعة للكافر.

(2)

قوله: "فإذا كانت الشفاعة كلها لله. . . . . إلخ" أراد المؤلف -رحمه الله تعالى-

ص: 69

فإن قال (1) النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله؟

فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا فقال} فلا تدعو مع الله أحداً) {سورة الجن، الآية: 18} فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك فأطعه في قوله: (فلا تدعو مع الله أحداً (وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون،، والأفراط يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟

فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا. بطل قولك "أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله".

ــ

أنه إذا كانت الشفاعة لله، ولا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمن أرتضى ولا يرضى إلا التوحيد لمن من ذلك أن لا تطلب الشفاعة إلا من الله تعال لا من النبي صلى الله عليه وسلم فيقول اللهم شفع في نبيك اللهم لا تحرمني من شفاعته وأمثال ذلك.

(1)

قوله: "فإن قال" أي المشرك الذي يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم الشفاعة فأنا أطلبها منه.

فالجواب: من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك أن تشرك به في دعائه فقال: (فلا تدعو مع الله أحداً (.

الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الشفاعة ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا لمن إرتضاه الله، ومن كان

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مشركاً فإن الله لا يرتضيه فلا يأذن أن يشفع له كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن إرتضى){سورة الأنبياء، الآية: 28} .

الثالث: إن الله تعالى أعطى الشفاعة غير محمد صلى الله عليه وسلم فالملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون والأولياء يشفعون، فقل: له: هل تطلب الشفاعة من كل هؤلاء؟ فإن قال: لا فقد خصم وبطل قوله وإن قال: نعم. رجع إلى القول بعبادة الصالحين، ثم إن هذا المشرك المشبه ليس يريد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، ولو كان يريد ذلك لقال " اللهم شفع في نبيك محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولكنه يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة ودعاء غير الله شرك أكبر مخرج من الملة، فكيف يريد هذا الرجل الذي يدعو مع الله غيره أن يشفع له أحد عند الله سبحانه وتعالى؟ .

وقال المؤلف "إن الملائكة يشفعون، والأولياء" سنده حديث أبي سعيد الخدري رضي الله

عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم مطولاً وفيه فيقول الله عز وجل " شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون"(1) الحديث.

وقوله " والأفراط يشفعون" الأفراط هم الذين ماتوا قبل البلوغ وسنده حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا من تحلة القسم" أخرجه البخاري وله عنه وعن أبي سعيد من حديث آخر "لم يبلغوا الحنث".

(1) مسلم / كتاب الإيمان / باب معرفة طريق الرؤية.

ص: 71

فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئاً حاشا وكلا، ولكن الألتجاء إلى الصالحين ليس بشرك.

فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وتقر أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري (1) .

فقل له: كيف تبرئ نفسك (2) من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه، أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟

ــ

(1)

إذا قال هذا المشرك أنا لا أشرك بالله شيئاً والألتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. فجوابه أن يقال له: ألست تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وان الله لا يغفره فما هذا الشرك؟ فإنه سوف لا يدري ولا يجيب بالصواب مادام يعتقد أن طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ليس بشرك فهو دليل على أنه لا يعرف الشرك الذي عظمه الله تعالى وقال فيه:(إن الشرك لظلم عظيم){سورة لقمان، الآية: 13} .

(2)

قوله: "فقل له كيف تبرئ نفسك. . . إلخ" يعني إذا برأ نفسه من الشرك بلجوئه إلى الصالحين فجوابه من وجهين:

الأول: أن يقال كيف تبرئ نفسك من الشك وأنت لا تعرفه، وهل الحكم على الشيء إلا بعد تصوره فحكمك براءة نفسك من الشرك وأنت لا تعلمه حكم بلا علم فيكون مردوداً.

الوجه الثاني: أن يقال لماذا؟ لا تسال عن الشرك الذي حرمه الله تعالى

ص: 72

فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام، فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق، وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن (1) .

وإن قال (2) : هو من قصد خشية، أو حجراً، أو بنية على قبر أو غيره، يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا ببركته.

فقل: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها، فهذا اقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب.

ــ

أعظم من تحريم قتل النفس والزنا وأوجب لفاعله النار وحرم عليه الجنة أتظن أن الله حرمه على عباده ولم يبينه لهم حاشاه من ذلك.

(1)

يعني إذا قال لك المشرك المشبه: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام فأجبه بجوابين:

يعتقد أنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها فإن زعم ذلك فقد كذب القرآن.

(2)

قوله: "وإن قال. . . إلخ هذا مقابل قولنا " إن زعم ذلك فقد كذب القرآن" يعني إن قال عبادة الأصنام أن يقصد خشبة أو حجراً أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ن ويذبحون له، ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى قلنا: صدقت وهذا هو فعلك سواء بسواء وعليه فتكون مشركاً بإقرارك على نفسك وهذا هو المطلوب.

ص: 73

ويقال له أيضاً: قولك الشرك عبادة الأصنام، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا وأن الإعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين (1) . فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.

وسر المسألة (2) : أنه إذا قال أنا لا أشرك بالله.

فقل له: وما الشرك بالله؟ فسره لي؟

فإن قال (3) : هو عبادة الأصنام.

ــ

(1)

قوله " ويقال له أيضاً قولك: الشرك عبادة الأصنام" إلى قوله " وهذا هو المطلوب" هذا هو الجواب الثاني أن يقال: هل أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.

(2)

قوله: "وسر المسألة" يعني لبها أنه إذا قال أنا لا أشرك بالله فاسأله ما معنى الشرك؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام، فاسأله ما معنى عبادة الأصنام؟ ثم جادله على ما سبق بيانه.

(3)

قوله: "فإن قال. . . إلخ" يعني إذا أدعى هذا المشرك أنه لا يعبد إلا الله وحده فاسأله: ما معنى عبادة الله وحده؟ وحينئذ لا يخلو من ثلاث حالات:

الأولى: أن يفسرها بما دل عليه القرآن فهذا هو المطلوب والمقبول، وبه يتبين أنه لم يحقق عبادة الله وحده حيث أشرك به.

ص: 74

فقل: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي (1) .

فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله فقل: ما معنى عبادة الله فسرها لي؟ فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدعي شيئاً وهو لا يعرفه؟

وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه.

وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب){سورة ص، الآية: 5} .

ــ

الثانية: أن لا يعرف معناها، فيقال: كيف تدعي شيئاً وأنت لا تعرفه؟ أم كيف تحكم به لنفسك والحكم على الشيء فرع عن تصوره؟ .

الثالثة: أن يفسر عبادة الله بغير معناها، وحينئذ يبين له خطوه ببيان المعنى الشرعي للشرك وعبادة الأوثان وأنه الذي يفعلونه بعينه ويدعون أنهم موحدون غير مشركين.

(1)

يعني ويبين له أيضاً أن عبادة الله وحده هي التي ينكرونها علينا ويصرخون بها علينا كما فعل ذلك أسلافهم حين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن أمشوا وأصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء عجاب وأنطلق الملأ يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) {سورة ص، الآيات 705} .

ص: 75

فإذا عرفت (1) أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا "كبير الإعتقاد" هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه، فأعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى:(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً){سورة الإسراء، الآية: 67} .

ــ

(1)

قوله: "إذا عرفت" يعني علمت معنى العبادة وأن ما عليه أولئك المشركون في زمنه هو ما كان المشركون عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرفت أن شرك هؤلاء أعظم من شرك الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين: -

الوجه الأول: -أن شرك هؤلاء يشركون بالله في الشدة والرخاء، وأما أولئك المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يشركون في الرخاء ويخلصون في حال الشدة، كما قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه. . . . (الآية فكانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا لله مخلصين له الدين لا يدعون غيره ولا يسألون سواه، ثم إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون، أو فريق منهم بربهم يشركون، فهذا هو وجه".

ص: 76

وقوله: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله وأتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إلهي إن شاء وتنسون ما تشركون)(1){سورة الأنعام، الآيتان: 41. 40} .

وقوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه) إلى قوله: (تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار)(2){سورة الزمر، الآية: 8}

وقوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظل دعوا الله مخلصين له الدين)(3){سورة لقمان، الآية: 22} .

ــ

(1)

كما قال تعالى: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) فهم في هذه الحال ينسون ما يشركون، ولا يدعون سوى الله عز وجل.

(2)

وهذه أيضاً كالآيتين اللتين قبلها، تدل على أن الإنسان إذا مسه الضر دعا ربه مبيناً إليه، ولكنه إذا خوله نعمة منه نسى ما كان إليه من قبل، وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. . فيشرك في حال الرخاء ويخلص في حال الشدة.

(3)

هذه أيضاً كالآيات السابقة تدل على أن هؤلاء المشركين إنما يشركون بالله في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيلجأون لله وحده.

ص: 77

فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضراء والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له وينسون سادتهم (1) . تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة هذه المسألة فهما راسخاً، والله المستعان (2) .

ــ

(1)

يبين رحمه الله أن المشركين في زمانه أشد شركاً من مشركي زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن مشركي زمانه يدعون غير الله في الرخاء وفي الشدة وأما المشركون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم يدعون الله ويدعون غيره في حال الرخاء، وأما في حال الشدة فلا يدعون إلا الله عز وجل، وهذا يدل على أن شرك المشركين في زمانه رحمه الله أعظم من شرك المشركين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

قوله: "تبين له الفرق. . . إلخ" هذا جواب قوله: "فمن فهم هذه المسألة. . . إلخ" أي تبين له الفرق، بين له الفرق، بين مشركي زمانه رحمه الله والمشركين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن شرك الأولين أخف من شرك أهل زمانه، ولكن أين من يفهم قلبه ذلك، أكثر الناس في غفلة عن هذا وأكثر الناس يلبس عليهم الحق بالباطل فيظنون الباطل حقاً كما يظنون الحق باطلاً.

ص: 78

الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله إما أنبياء، وإما أولياء وإما ملائكة، أو يدعون أشجاراً، أو أحجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا ًمن أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك (1) .

ــ

(1)

قوله: "الأمر الثاني" أي في بيان أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زمانه رحمه الله أن المشركين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، يدعون أناساً مقربين من أولياء الله عز وجل أو يدعون أحجاراً أو أشجاراً مطيعة لله ذليلة له، أما هؤلاء أعني المشركين في زمانه فإنهم يدعون من يحكون عنهم الفجور والزنا والسرقة وغير ذلك من معاصي الله عز وجل ومعلوم أن من يعتقد في الصالح، أو الجهاد الذي لا يعصي الله تعالى أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه ويشهد به وهذا ظاهر.

ص: 79

والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به. إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصح عقولاً، وأخف شركاً من هؤلاء، فأعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها وهي:

أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ (1) .

ــ

(1)

في هذه الجملة يبين رحمه الله الله شبهة من أعظم شبههم ويجيب عنها فيقول: إذا تحققت أن المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء فأعلم أنهم يوردون شبهة حيث يقولون إن المشركين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان فكيف تجعلوننا مثلهم، وهذه شبهة عظيمة.

ص: 80

فالجواب: -أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شيء وكذبه في شيء، أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن بعضه كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاء، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقذ أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، للحج أنزل الله في حقهم) ولله على الناس حج البيت من أستطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) (1){سورة آل عمران، الآية: 97} .

ــ

(1)

يقول رحمه الله: إنهم إذا قالوا هذا، يعني أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. . . إلخ، يعني فكيف يكونون كفاراً؟ .

وجوابه أن يقال:

إن العلماء أجمعوا على أن من كفر ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكذب به، فهو كمن كذب بالجميع وكفر به ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميع الأنبياء لقول الله تعالى) إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً) {سورة النساء الآيتان: 150، 151} وقوله تعالى في بني إسرائيل) أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) {سورة البقرة، الآية 85} .

ص: 81

ومن أقر بهذا كله (1) وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله،

ــ

ثم ضرب المؤلف لذلك أمثلة:

المثال الأول: الصلاة فمن أقر بالتوحيد وأنكر وجوب الصلاة فهو كافر.

قوله: "أو أقر بالتوحيد. . . .إلخ" هذا هو المثال الثاني وهو من أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة فإنه يكون كافراً.

المثال الثالث: من أقر بوجوب ما سبق وجحد وجوب الصوم فإنه يكون كافراً.

المثال الرابع: من أقر بذلك كله وجحد وجوب الحج فإنه كافر، واستدل المؤلف على ذلك بقوله تعالى:(ولله على الناس حج البيت من أستطاع إليه سبيلا ومن كفر-يعني من كفر بكون الحج واجباً أو جبه الله على عباده-فإن الله غني عن العالمين){سورة آل عمران، الآية: 97} .

قول المؤلف رحمه الله "ولما لم ينقد. . . إلخ" ظاهره أن للآية سبب نزول هو هذا ولم أعلم لما ذكره الشيخ دليلاً.

(1)

قوله: "ومن أقر بهذا كله" أي بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوب الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، لكنه كذب بالبعث فإنه كافر بالله لقول الله تعالى:(زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير){سورة التغابن، الآية: 7} وقد حكى المؤلف رحمه الله الإجماع على ذلك.

ص: 82

كما قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً)(1){سورة النساء، الآيتان: 150، 151} .

فإذا كان الله قد صرح في كتابه: أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الإحساء في كتابه الذي أرسله إلينا (2) .

ويقال أيضاً (3) إذا كنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا.

ــ

(1)

قوله كما قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله (الآية، سبق الكلام على هذه الآية وقد ساقها المؤلف مستدلاً بها على أن الإيمان ببعض الحق دون بعض كفر بالجميع كما قرره بقوله.

(2)

لا أعلم عن هذا الكتاب شيئاً فليبحث عنه.

(3)

قوله: " ويقال أيضاً إذا كنت تقر أن من صدق الرسول. . . . إلخ" هذا جواب ثان فإن مضمونه أنك إذا عرفت وأقررت بأن من جحد الصلاة

ص: 83

فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل

ــ

والزكاة والصيام والحج والبعث كافر بالله العظيم، ولو أقر بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سوى ذلك فكيف تنكر أن يكون من جحد التوحيد وأشرك بالله تعالى كافراً؟ إن هذا لشيء عجيب، أن تجعل من جحد التوحيد مسلماً، ومن جحد وجوب هذه الأشياء كافراً، مع أن التوحيد هو أعظم ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أعم ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أعم ما جاءت به الرسل، فجميع الرسل قد أرسلت به، كما قال تعالى:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون){سورة الأنبياء، الآية: 25} وهو أصل هذه الواجبات التي يكفر من أنكر وجوبها إذ لا تصح إلا به كما قال الله تعالى: (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) ، {سورة الزمر، الآية: 65} . فإذا كان من أنكر وجوب الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج، أو أنكر البعث كافراً، فمنكر التوحيد أشد كفراً وأبين وأظهر.

ص: 84

ويقال أيضاً: (1) هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذنون ويصلون.

فإن قال إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي.

فقل: هذا هو المطلوب إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات والأرض؟ سبحان الله، ما أعظم شأنه) كذلك يطيع الله على قلوب الذين لا يعلمون) {سورة الروم، الآية 59}

ــ

(1)

قوله: "ويقال أيضاً هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . إلخ" هذا جواب ثالث ومضمونه أن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مسيلمة وأصحابه (1) ، واستحلوا دماءهم وأموالهم مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويؤذنون، ويصلون وهم إنما رفعوا رجلاً إلى مرتبة جبار السموات والأرض أفلا يكون أحق بالكفر ممن رفع مخلوقاً إلى منزلة مخلوق آخر؟ وهذا أمر واضح، ولكن كما قال الله تعالى:(كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون){سورة الروم، الآية: 59} .

ص: 85

ويقال أيضاً (1) الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وامثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يكفر؟

ويقال أيضاً: بنو عبيد القداح (2) الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى أستنفذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.

ــ

(1)

قوله: "ويقال أيضاً إن الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار (1) . . . إلخ"، هذا جواب رابع فقد كان هؤلاء يدعون الإسلام، وتعلموا من الصحابة ومع ذلك لم يمنعهم هذا من الحكم بكفرهم، وتحريقهم بالنار لأنهم قالوا في علي ابن أبي طالب إنه إله، مثل ما يدعي هؤلاء بمن يؤلهونهم، كشمسان وغيره.

فكيف أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتل هؤلاء، أتظنون أن الصحابة رضي الله عنهم يجمعون على قتل من لا يحل قتله، وتكفير من ليس بكافر؟! ذلك لا يمكن أم تظنون أن الاعتقاد في علي بن أبي طالب يضر.

(2)

قوله: "ويقال أيضاً بنو عبيد القداح. . . إلخ" هذا جواب خامس وهو إجماع العلماء على كفر بني عبيد القداح الذين ملكوا مصر والمغرب وكانوا

ص: 86

ويقال أيضاً (1) إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن، وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب:(باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.

ــ

يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويصلون الجمعة والجماعات ويدعون أنهم مسلمين، ولكن ذلك لم يمنعهم من حكم المسلمين عليهم بالردة حين أظهروا مخالفة المسلمين في أشياء دون التوحيد حتى قاتلوهم وأستنفذوا ما بأيديهم.

(1)

قوله: "ويقال أيضاً إذا كان الأؤلون لم يكفروا إلا أنهم. . . إلخ" هذا جواب سادس مضمونه أنه إذا كان الأؤلون لم يكفروا إلا حين جمعوا جميع أنواع الكفر من الشرك والتكذيب والاستكبار فما معنى ذكر أنواع من الكفر في (باب حكم المرتد) كل نوع منها يكفر حتى ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب، فلولا أن الكفر يحصل بفعل نوع منه وإن كان الفاعل مستقيماً في جانب آخر لم يكن لذكر الأنواع فائدة.

يقول رحمه الله تعالى: ومما يدفع شبه هؤلاء، هم الفقهاء في كل مذهب ذكروا في كتبهم (باب حكم المرتد وذكروا أنواعاً كثيرة، حتى ذكروا الكلمة يذكرها الإنسان بلسانه ولا يعتقدها بقلبه، أو يذكرها الإنسان بلسانه ولا يعتقدها بقلبه، أو يذكرها على سبيل المزح، ومع ذلك كفروهم وأخرجوهم من الإسلام بها وسيأتي لذلك مزيد بيان وإيضاح.

ص: 87

ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم (1)) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة كفر وكفروا بعد إسلامهم) {سورة التوبة الآية: 74} أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون، ويزكون، ويحجون، ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم:(قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ولا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)

ــ

(1)

قوله: "ويقال أيضاً الذين قال الله فيهم) يحلفون بالله ما قالوا (. . . إلخ" هذا جواب سابع مضمونه واقعتان:

الأولى: أن الله تعالى حكم بكفر المنافقين الذين قالوا كلمة الكفر مع أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يصلون ويزكون ويحجون ويجاهدون ويوحدون.

الثانية: أنه حكم بكفر المنافقين الذين أستهزؤا بالله وآياته ورسوله وقالوا "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء"(1) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فأنزل الله فيهم) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ولا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (. فحكم بكفرهم بعد إيمانهم مع أنهم ذكروا أنهم كانوا

(1) ابن جرير الطبري جـ14 وابن كثير جـ2 ص 381.

ص: 88

ومن الدليل على ذلك (1) أيضاً ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: (أجعل لنا آلهاً كما لهم إلهة){سورة الأعراف، الآية: 138} وقول أناس من الصحابة: "أجعل لنا ذات أنواط" فحلف النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا نظير قول بني إسرائيل أجعل لنا إلهاً.

ولكن المشركين شبهة يدلون عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا.

فالجواب: أن نقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، لم يفعلوا ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب.

ــ

يستهزؤن ولم يقولوا ذلك على سبيل الجد وكانوا يصلون ويتصدقون، ثم ذكر المؤلف رحمه الله أن الجواب على هذه الشبهة من أنفع ما في هذه الأوراق.

(1)

قوله: "ومن الدليل على ذلك" أي على أن الإنسان قد يقول أو يفعل ما هو كفر من حيث لا يشعر قول بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم لموسى عليه الصلاة والسلام:

ص: 89

ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل (التوحيد فهمناه) أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان (1) .

ــ

(أجعل لنا آلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون){سورة الأعراف، الآية: 138} لتركبن سنن من كان قبلكم" (1) وهذا يدل على أن موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام قد أنكرا ذلك غاية الإنكار وهذا هو المطلوب، فإن هذين النبيين الكريمين لم يقرا أقوامهما على هذا الطلب الذي طلبوه بل أنكراه.

وقد شبه بعض المشركين في هذا الدليل فقال: إن الصحابة وبني إسرائيل لم يفعلوا ذلك حين لقوا من الرسولين الكريمين إنكار ذلك.

(1)

هذا شروع في بيان ما تفيده هذه القصة أعني قصة الأنواط وبني إسرائيل من الفوائد:

الفائدة الأولى: أن الإنسان وإن كان عالماً قد يخفى عليه بعض أنواع الشرك، وهذا يوجب على الإنسان أن يتعلم ويعرف حتى لا يقع في الشرك وهو لا يدري، وأنه إذا قال أنا أعرف الشرك وهو لا يعرف كان ذلك من أخطر ما يكون على العبد، لأن هذا جهل مركب شر من الجهل البسيط، لأن الجاهل جهلاً مركباً فإنه يظن نفسه عالما وهو جاهل فيستمر فيما هو عليه من العمل المخالف للشريعة.

ص: 90

وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد (1) إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم.

وتفيد أنه لو لم يكفر (2) فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وللمشركين شبهة أخرى (3) يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال " لا إله إلا الله"، وكذلك قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر، ولا يقتل ولو فعل ما فعل.

ــ

(1)

قوله: "وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر. . . إلخ" هذه هي الفائدة الثانية، أن المسلم إذا قال ما يقتضي الكفر جاهلاً بذلك ثم نبه فأنتبه وتاب في الحال فإن ذلك لا يضره لأنه معذور بجهله ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما لو إستمر على ما علمه من الكفر فإنه يحكم بما تقتضيه حاله.

(2)

قوله: "وتفيد أيضاً لو لم يكفر. . . إلخ" هذه هي الفائدة الثالثة، أن الإنسان وإن كان لا يدري عن الشيء إذا طلب ما يكون به الكفر فإنه يغلظ عليه تغليظاً شديداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "الله أكبر إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" وهذا إنكار ظاهر.

(3)

قوله: "وللمشركين شبهة أخرى. . . إلخ" يعني للمشركين المشبهين شبهة أخرى مع ما سبق من الشبهات وهي: أن النبي صلى الله عليه

ص: 91

فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار (1) .

ــ

وسلم أنكر على أسامة بن زيد رضي الله عنه قتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله فقال: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله" وما زال يكررها عليه الصلاة والسلام على أسامة حتى قال أسامة: "تمنيت أني لم أكن أسلمت بعد"(1) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"(2) وأمثال ذلك من الأحاديث التي يستدلون بها على أن من قال: "لا إله إلا الله" لا يكفر ولا يقتل وإن على الشرك من جهة أخرى، وهذا من الجهل العظيم، فليس قول "لا إله إلا الله" منجياً من عذاب النار ومخلصاً للإنسان من الشرك إذا كان يشرك من جهة أخرى.

(1)

قوله: "فيقال لهؤلاء المشركين الجهال. . . . إلخ" هذا جواب الشبهة التي أوردها هؤلاء الجهال فيما سبق وجوابها بما يلي:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله.

ثانياً: أن الصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله. وأن محمد رسول الله ويصلون ويدعون أنهم مسلمون.

ثالثأ: أن الذين حرقهم علي بن أبي طالب كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله.

ص: 92

وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله. وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟ (1) .

ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث: فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً إدعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما أدعى. الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك) يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) {سورة النساء، الآية: 94} أي فتثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى:(فتبينوا (ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى (2) .

ــ

(1)

قوله: "وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث. . . . إلخ" هذا إلزام لهؤلاء الجهال واحتجاج عليهم بمثل ما قالوا به، فقد قالوا إن من أنكر البعث فإنه يقتل كافراً، ويقولون من جحد وجوب شيء من أركان الإسلام، فإنه يحكم بكفره ويقتل وإن قال لا إله إلا الله، فكيف لا يكفر ولا يقتل من يجحد التوحيد هو أساس الدين وإن قال لا إله إلا الله؟! أفلا يكون هذا أحق بالتكفير ممن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة؟! ، وهذا إلزام صحيح لا محيد عنه.

(2)

قوله: "ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث. . . . إلخ" يعني الأحاديث التي شبهوا بها ثم أخذ رحمه الله يبين معناها فقال:

ص: 93

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فأما حديث أسامة، يعني الحديث الذي قتل فيه أسامة رضي الله عنه من قال لا إله إلا الله حين لحقه أسامة ليقتله وكان مشركاً، فقال:"لا إله إلا الله"، فقتله أسامة لظنه أنه لم يكن مخلصاً في قوله وإنما قاله تخلصاً فليس فيه دليل على أن كل من قال "لا إله إلا الله" فهو مسلم ومعصوم الدم، ولكن فيه دليل على أنه يجب الكف عمن قال "لا إله إلا الله"، ثم بعد ذلك ينظر في حاله حتى يتبين وأستدل المؤلف لذلك بقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا){سورة النساء، الآية: 94} . الآية، فأمر الله تبارك وتعالى بالتبين أي التثبت وهذا يدل على أنه إذا تبين أن الأمر كان خلاف ما كان عليه فإنه يجب أن يعامل بما يتبين من حاله، فإذا بان منه ما يخالف الإسلام قتل ولو كان لا يقتل مطلقاً إذا قالها لم يكن فائدة للأمر بالتثبت.

وعلى كل حال فإن حديث أسامة رضي الله عنه ليس فيه دليل على أن من قال "لا إله إلا الله" وهو مشرك يعبد الأصنام والملائكة والجن وغير ذلك يكون مسلماً.

ص: 94

وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين ما يناقض ذلك والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله" وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" هو الذي قال في الخوارج "أينما لقيتموهم فأقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عادٍ" مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً، حتى أن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة (1) .

ــ

(1)

قوله: "وكذلك الحديث الآخر وأمثاله" يريد بالحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس. . . إلخ" فبين رحمه الله تعالى أن معنى الحديث أن من أظهر الإسلام.

وجب الكف عنه حتى يتبين أمره، لقوله تعالى:(فتبينوا (لأن الأمر بالتبين يحتاج إليه إذا كنا في شك من ذلك، أما لو كان قوله "لا إله إلا الله" بمجرده عاصماً من القتل فإنه لا حاجة إلى التبين، ثم استدل المؤلف رحمه الله لما ذهب إليه بأن الذي قال لأسامة "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله" (1) وقال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. . . "(2) هو الذي أمر بقتال الخوارج وقال "إينما لقيتموهم فاقتلوهم"(3) مع أن الخوارج يصلون ويذكرون الله ويقرؤون القرآن، وهم قد تعلموا من الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك لم ينفعهم ذلك شيئاً؛ لأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه لا يجاوز حناجرهم"(4)

ص: 95

وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود، وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله تعالى:(يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا){سورة الحجرات، الآية: 6} . وكان الرجل كاذباً عليهم (1) ، وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه (1) .

ولهم شبهة أخرى: وهو ما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فهذا يدل على أن الإستغاثة بغير الله ليست شركاً.

والجواب: أن نقول سبحان من طبع على قلوب أعدائه فإن الإستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال الله تعالى في قصة موسى:{فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [سورة القصص، الآية: 15] . وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا عليها إلا الله (1) .

ــ

(1)

وهو أن مجرد قول "لا إله إلا الله" ليس مانعاً من القتل بل يجوز قتال من قالها إذا وجد سبب يقتضي قتاله.

(2)

قوله: "ولهم شبهة أخرى" يعني في أن الإستغاثة بغير الله ليست شركاً وقد أجاب عنها بجوابين:

(1) أخرجه ابن جريز الطبري جـ26 ص 123، وابن كثير جـ4 ص187 وقال:"قد روى طرق لهذا الحديث من أحسنها ما رواه الإمام أحمد"، والهيثمي في "المجمع" جـ7 ص111 وقال:"رواه أحمد ورجاله ثقات".

ص: 96

إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك فتقول له: أدع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه؟ (1)

ــ

الأول: أن هذه استغاثة بمخلوق فيما يقدر عليه وهذا لا ينكر لقوله تعالى في قصة موسى:} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه {.

الجواب الثاني: أن الناس لم يستغيثوا بهؤلاء الأنبياء الكرام ليزيلوا عنهم الشدة، ولكنهم يستشفعون بهم عند الله عز وجل ليزيل هذه الشدة، وهناك فرق بين من يستغيث بالمخلوق ليكشف عنه الضرر والسوء، ومن يستشفع بالمخلوق إلى الله عنه ذلك.

(1)

قوله: "إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء. . . .إلخ" هذا هو الجواب الثاني وهو أن استغاثتهم بالأنبياء من باب طلب دعائهم إلى الله عز وجل أن يريح الخلق من هذا الموقف العظيم، وليس دعاء لهم، بل طلب دعائهم لربهم عز وجل، وهذا أمر جائز كما أن الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يخطب فقال: "يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، ولم يقل فأغثنا يا

ص: 97

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رسول الله، بل قال:"فادع الله يغيثنا" ثلاث مرات، فأنشأ الله سبحانه وتعالى سحابة فأمطرت، ولم يرو الشمس أسبوعاً كاملاً والمطر ينهمر، وفي الجمعة التالية دخل رجل أو الرجل الأول فقال:"يا رسول الله غرق المال، وتهدم البناء فادع الله تعالى يمسكها عنا" فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر"، (1) فانفجرت السماء وخرج الصحابة يمشون في الشمس.

فهذا طلب دعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لله عز وجل وليس دعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استغاثة به، وبهذا يعرف أن هذه الشبهة التي لبس بها هؤلاء شبهة لا تنفعهم بل هي حجة داحضة عند الله عز وجل.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا بأس أن تأتي لرجل صالح تعرفه وتعرف صلاحه فتسأله أن يدعو الله لك، وهذا حق إلا أنه لا ينبغي للإنسان أن يتخذ ذك ديدناً له كلما رأى رجلاً صالحاً قال أدع الله لي، فإن هذا ليس من عادة السلف رضي الله عنهم، وفيه إتكال على دعاء الغير، ومن االمعلوم أن الإنسان إذا دعا ربه بنفسه كان خيراً له لأنه يفعل عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل فإن الدعاء من العبادة كما قال الله تعالى {أدعوني أستجب لكم} [سورة غافر، الآية: 60] . الآية، والإنسان إذا دعا ربه بنفسه فإنه ينال أجر العبادة ثم يعتمد على الله عز وجل في حصول المنفعة ودفع المضرة، بخلاف ما إذا طلب من غيره أن يدعو الله له فإنه يعتمد على ذلك الغير وربما يكون تعلقه بهذا الغير أكثر من تعلقه

(1) أخرجه البخاري / كتاب الأستسقاء / باب الأستسقاء في خطبة الجمعة، ومسلم / كتاب صلاة الأستسقاء / باب الدعاء في الأستسقاء.

ص: 98

ولهم شبهة (1) أخرى وهي: قصة إبراهيم لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، قالوا: فلو كانت الإستغاثة بجبريل شركاً لم يعرضها على إبراهيم؟ فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى: فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه:{شديد القوى} [سورة النجم، الآية: 5] فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه، أو أن يهبه شيئاً يقضي به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد. فأين هذا من إستغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟!

ــ

بالله عز وجل، وهذا الأمر فيه خطورة وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله "إذا طلب الإنسان من شخص أن يدعو له أن ينوي بذلك نفع ذلك الغير بدعائه له، فإنه يؤجر على هذا وربما ينال ما جاء به الحديث أن الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة آمين ولك بمثلها.

(1)

قوله: "ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار. . . إلخ". والجواب عن هذه الشبهة:

أن جبريل إنما عرض عليه أمراً ممكناً يمكن أن يقوم به فلو أذن الله لجبريل لأنقذ إبراهيم بما أعطاه الله تعالى من القوة فإن جبريل كما وصفه الله تعالى {شديد القوى} [سورة النجم الآية: 5] فلو أمره الله أن يأخذ نار إبراهيم وما

ص: 99

ولنختم الكلام (1) -إن شاء الله تعالى-بمسألة عظيمة مهمة جداً تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن أختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما.

ــ

حولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل ولو أمره أن يحمل إبراهيم إلى مكان بعيد عنهم لفعل ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.

ثم ضرب المؤلف بهذا مثلاً رجل غني أتى إلى فقير فقال هل لك حاجة في المال؟ من قرض أو هبة أو غير ذلك؟ فإنما هذا مما يقدر عليه، ولا يعد هذا شركاً لو قال نعم لي حاجة أقرضني، أو هبني لم يكن مشركاً.

(1)

ختم المؤلف هذه الشبهات بمسألة عظيمة هي:

أنه لابد أن يكون الإنسان موحداً بقلبه وقوله وعمله فإن كان موحداً بقلبه ولكنه لم يوحد بقوله أو بعمله فإنه غير صادق في دعواه، لأن توحيد القلب يتبعه توحيد القول والعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب"(1) فإذا من جنس فرعون الذين كان مستيقناً بالحق عالماً به لكنه أصر وعاند وبقي على ما كان عليه من دعوى الربوبية، قال الله تعالى:{وجحدوا بها وأستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} [سورة النمل، الآية: 14] وقال تعالى عن موسى أنه قال لفرعون

{لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} {سورة الإسراء، الآية: 102} .

ص: 100

وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون: هذا حق ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكنا لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، وغير ذلك من الأعذار (1) .

ولم يدر المسكين (2) أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى {أشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} [سورة التوبة، الآية: 9] . وغير ذلك من الآيات كقوله: {يعرفونه كما يعرفون أبنائهم} [سورة البقرة، الآية: 146] .

ــ

(1)

قوله: "وهذا يغلط فيه كثير من الناس. . . إلخ" يعني أن كثيراً من الناس يعرف الحق في هذا ويقولون نحن نعرف أن هذا هو الحق ولكننا لا نقدر عليه لمخالفته أهل بلدنا ونحو ذلك من الأعذار، وهذا العذر لا ينفعهم عند الله عز وجل، لأن الواجب على المرء أن يلتمس رضا الله عز وجل ولو سخط الناس، وأن لا يتبع رضا الناس بسخط الله عز وجل، وهذا يشبه من يحتجون بما كان عليه آباؤهم وهم الذين حكى الله عنهم {وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [سورة الزخرف، الآية: 23] .

(2)

قوله: "ولم يدر المسكين" أي المعدم من الفقه والبصيرة أن غالب أئمة الكفر كانوا يعرفون الحق لكنهم كانوا يعرفون الحق لكنهم عائدوا فخالفوا الحق كما قال تعالى:} الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم {وقال:} أشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً {فكانوا يعتذرون بأعذار لا تنفعهم كخوف بعضهم من فوات الرئاسة وتصدر المجالس ونحو ذلك.

فكثير من أئمة الكفار يعرفون الحق ولكنهم يكرهونه ولا يتبعونه، ومعرفة الحق دون العمل به أشد من الجهل بالحق، لأن الجاهل بالحق

ص: 101

فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً (1) وهو لا يفهمه، أو لا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شرمن الكافر الخالص لقوله تعالى:{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [سورة النساء، الآية: 145] .

وهذه المسألة كبيرة طويلة (1) تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا، أو جاه، أو مداراة لأحد، وترى من يعم لبه ظاهراً لا باطناً فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله:

ــ

يعذر، وقد يعلم فيتنبه ويتعلم بخلاف المعاند المستكبر، ولهذا كان اليهود مغضوباً عليهم.

(1)

يقول رحمه الله: فإن عمل بالتوحيد ظاهراً أي باللسان والجوارح، ولكنه لم يعتقده بقلبه ولم يفهمه فإنه منافق، وهو شر من الكافر المصرح بكفره لقوله تعالى:} إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار {وهذا ظاهر فيمن كان معانداً يعلم الحق ولكنه كرهه بقلبه ولم يطمئن إليه، ولم يستقر به، ولكنه أظهر الإلتزام بالشريعة خداعاً الله ولرسوله وللمؤمنين، وأما من كان لا يفهمه بالكلية ولا يدري ولكنه يعمل كما يعمل الناس ولم يتبين له ذلك الشيء الذي يعملونه والمقصود منه، فإن الواجب أن يبلغ ويعلم، فإن أصر على ما هو عليه من إنكاره بقلبه فهو منافق.

(1)

بين رحمه الله-أن هذه المسألة مسألة كبيرة طويلة يعني أن تتبعها يطول بواسطة أن كثيراً من الناس قد يأبى الحق خوفاً من أن يلام عليه، أو رجاء لجاه أو دنيا، فيحتاج أن يتتبع أحوال الناس ويعرفها تماماً حتى

ص: 102

أولاهما (1) : قوله تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [سورة التوبة: الآية: 96] ، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفاً من نقص مال، أو جاه، أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.

والآية الثانية: (2) : قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} [سورة النحل، الآية: 106] . فلم يعذر الله

ــ

يعلم من هو منافق ومن هو مؤمن إيماناً خالصاً.

(1)

يحث المؤلف رحمه الله على تدبر آيتين من كتاب الله عز وجل:

أولاهما قوله تعالى:} لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم {وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء.

فالمؤلف رحمه الله يقول إذا كان هؤلاء المنافقون الذين غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كفروا بكلمة قالوها على سبيل المزاح لا على سبيل الجد فما بالك بمن يكفر كفراً جدياً يريده بقلبه من أجل خوف فوات مركز، أو جاه، أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون أعظم وأعظم، فالواقع أن كلهم كفروا بعد إيمانهم سواء فعلوا ذلك استهزاء أو فعلوه على سبيل الجد والكفر، خوفاً أو رجاء، فإن كل إنسان يظهر الإسلام ويبطن الكفر فهو منافق على أي وجه كان.

(2)

هذه هي الآية الثانية التي حث المؤلف رحمه الله تعالى على تدبرها وهذه الآية تدل على أنه لا يعذر أحد كفر بعد إيمانه إلا من كان

ص: 103

من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره.

فالآية تدل على هذا (1) من جهتين:

الأولى: قوله:} إلا من أكره {فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد.

والثانية: (2) : قوله تعالى} ذلك بأنهم أستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة {فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين.

ــ

مكرها، وأما من كفر على سبيل الأختيار لأي غرض من الأغراض سواء كان مزاحاً، أو مشحة في وظيفة، أو دفاعاً عن وطن، أو ما أشبه ذلك فإنه يكون كافراً، فالله عز وجل لم يعذر من كفر إلا من كان مكرها بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالأيمان.

(1)

أي أن الله تعالى لم يستثن في الآية من الكافرين إلا من أكره، والإكراه لا يكون إلا على القول أو الفعل، أما عقيدة القلب فلا يطلع عليها إلا الله، ولا يتصور فيها الإكراه لأنه لا يمكن لأحد أن يكره شخصاً فيقول: لا بد أن تعتقد كذا وكذا؛ لأنه أمر باطن لا يعلم به، وإنما الإكراه على ما ظهر فقط بالقول والفعل.

(2)

الوجه الثاني: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فكان كفرهم سببه أنهم استحبوا الدنيا على الآخرة ويعني بالدنيا كل ما يتعلق بها من جاه،

ص: 104

والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .

ــ

أو مال، أو رئاسة أو غير ذلك ممن آثر الدنيا بما فيها على الآخرة وكفره من أجل إيثار الدنيا فإنه يكون كافراً وإن لم يكن مستحباً للكفر ولكنه مستحب لحياة الدنيا فإنه يكفر، وذلك أن بعض الناس يكفر لأنه يحب الكفر ويعجبه، وبعض الناس يكفر لمال، أو جاه، أو رئاسة، وبعض الناس يكفر لينال بذلك شيئاً من السلطان وما أشبه ذلك فالأغراض كثيرة.

نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا

(1)

ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتابه هذا برد العلم إلى الله عز وجل والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا انتهى كتاب كشف الشبهات فنسأل الله تعالى أن يثيب مؤلفه أحسن ثواب وأن يجعل لنا نصيباً من أجره وثوابه وأن يجمعنا وإياه في دار كرامته إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلي وسلم على نبينا محمد

تم شرح كشف الشبهات

* * *

ص: 105