الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي الْعَالِمُ مِنْهَا عَجَبَهُ.
فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، أَيْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ.
و {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، هِيَ عَائِشَةُ.
و {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] ، طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ.
و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان: 53] ، عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ.
و {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.
و {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] ، فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
و {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبإ: 1-2] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
و {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] ، هُوَ عَلِيٌّ، وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ. وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ.
وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَبُو بَكْرٍ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عُمَرُ {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عُثْمَانُ {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] عَلِيٌّ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: {وَالتِّينِ} أَبُو بَكْرٍ {وَالزَّيْتُونَ} عُمَرُ {وَطُورِ سِينِينَ} عُثْمَانُ {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1-3] عَلِيٌّ.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ:
تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتي لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ!
وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] ، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنَ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِي، وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِير الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ.
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ.
كَمَا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا إمَّا عَقْلِيَّةٌ وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ.
كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
والْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفَسَّرُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ.
فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ:
أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ.
وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ.
وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ.
ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ.
وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ شَرْحِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فهذا السياق الطويل من شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أراد به أن يمثل على نوع من أنواع التفسير بالرأي المذموم، وبيان بطلان ذلك من طريق مجمل وكذلك الإشارة إلى أنه يبطل بالطريق المفصل.
هذا التفسير بالرأي المذموم -هو كما ذكرت لكم- هو أن يفسره بما يعتقده من خالف نهج الصحابة والتابعين ونهج سلف هذه الأمة، مثل تفاسير الرافضة فيما ذكر من أنواع التفسير الذي نقله شيخ الإسلام رحمه الله عن تفاسيرهم، ولاشك أن هذه التفاسير التي فسروها باطلة لأوجه:
أولا لأن اللفظ لا يحتمل ذلك، فكونهم يفسرون آية ما بأنها (علي) ، واللفظ لا يدل عليه، مثل ما ذكروا، نعم مثل {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، وتفسيرهم للجبت والطاغوت بأنهما أبا بكر وعمر ونحو ذلك.
هذه التفاسير لا يدل عليها اللفظ، كونهم فسروا لفظا معروفا معناه في اللغة بأن المراد به معين من الصحابة، هذا باطل من أوجه كما ذكرت، الأول أن هذا لا يدل عليه معنى اللفظ في اللغة. يقولون: إن هذا تأويل.
والتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنى آخر لقرينة تدل على ذلك، ويقولون صرفناه لقرينة التي دلت على ذلك، القرينة عندهم حججهم التي بين أيديهم، الحجج الباطلة التي فيها الأمر بذبح أبي بكر مثلا أو بذبح عثمان أو بذبح عمر رضي الله عنه ونحو ذلك، أو أنّ الجبت والطاغوت اللذان أضلا الناس وهما أبو بكر وعمر.
لكن التأويل عند العلماء ثلاثة أنواع؛ منه تأويل صحيح، ومنه تأويل مرجوح، ومنه تأويل باطل؛ وهو من اللعب، وذلك إذا كان التأويل لغير قرينة تدلّ عليه من اللغة أو من مقصد الشارع الصحيح.
فهذه التفاسير التي فسروها إذا سموها تأويلا يقولون: خرجنا عن ظاهر اللفظ للتأويل. كما يزعمه الرافضة، الجواب عنه: أن هذا تأويل باطل ومن اللعب والتلاعب بالقرآن وبنصوص الكتاب والسنة؛ لأن هذا تأويل لم يأت عليه دليل؛ بل الأدلة تُبطل ذلك فإن فضل أبي بكر وفضل عمر وأنهما أفضل الصحابة على الإطلاق هذا جاءت به الأدلة، فكيف يصرفونه عن ظاهره إلى غيره.
المقصود أن هذا وإن سَمَّوه تأويلا فإنه تأويل من نوع اللعب وهذا كفر عند كثير من العلماء.
الوجه الثاني أنّ هذه التفاسير باطلة لأن معتمدها أنها الهوى فهو فسروا القرآن الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بما أُحْدِثَ من الاعتقادات بعد أكثر من قرن من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فتلك الاعتقادات من اعتقادات الرافضة واعتقادات المعتزلة ومن شابه هؤلاء وهؤلاء، تلك الاعتقادات أُحدثت، ولم يكن شيء منها في الصحابة ولا في كبار التابعين، وإنما أحدثت بعد ذلك، فكيف يكون المراد بالقرآن الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم؟ يكون المراد به التأويلات والاعتقادات المحدثة بعد أكثر من قرن من نزول هذا القرآن ومن وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.
الوجه الثالث من إبطال هذه التفاسير أنها تفاسير خرجت عن تفسير الصحابة والتابعين، وهذا هو الأصل العظيم الذي يريد شيخ الإسلام رحمه الله تقريره، هذه التفاسير خرجت عما فسر به الصحابة والتابعون لهم فإحسان تلك الآيات، فالصحابة تفاسيرهم لتلك الآيات محفوظة، وكذلك التابعين تفاسيرهم لتلك الآيات محفوظة، فمن خرج عن تفاسيرهم وأتى بمعنىً بناقض ما قالوه فإنه مردود قطعا؛ لأن أعلم الأمة بالقرآن هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يقال إن هناك معنًى في القرآن حُجب عن الصحابة وحُجب عن التابعين لهم بإحسان وأدركه من بعدهم، يكون المعنى من أصله حجبوا عنه، وأدركه من بعدهم هذا باطل، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن خير الأمة قرنه عليه الصلاة والسلام فقال «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» والخيرية لها جهات، ومن أعظم جهات الخيرية العلم، فالعلم بالكتاب وبالسنة كان محفوظا في الصحابة رضوان الله عليهم ولم يحجب عن مجموع الصحابة علم مسألة من الكتاب والسنة، نعم قد يكون بعض الصحابة يجهل بعض معاني الكتاب والسنة؛ لكن يعلمه بعض الصحابة الآخرون، وأما بعمومهم فلا يجهل الصحابة بمجموعهم معنى آية أو معنى سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لهذا نقول: هذا الطريق مجمل طريق في بيان بطلان تلك الأقوال من أصلها. ما هذا الطريق المجمل؟ أن تلك الأقوال خرجت عن أخبار الصحابة والتابعين في تفاسيرهم، تفاسير الصحابة والتابعين محفوظة لدينا وليس فيها شيء من تلك البدع والضلالات التي يذكرها الرافضة أو يذكرها أهل الاعتزال.
الطريق الثاني طريق مفصل وهذا أشار إليه شيخ الإسلام، وهو أن الأقوال التي تخالف أقوال الصحابة والتابعين في التفسير، تخالفها؛ بمعنى أن أقوال الصحابة لا تدل عليها ولا تشمل ذلك التفسير المحدث، مثل تفسير آيات الصفات بالمعان المؤولة والمحرفة، ومثل تفاسير الرافضة، ومثل تفاسير الصوفية في إشارياتهم، ومثل تفاسير أهل البدع والإسماعيلية والباطنية ونحو ذلك.
هذه التفاسير باطلة أيضا على التفصيل، وذلك أنه ما من قول وإلا وفي الكتاب والسنة من الدلائل ما يدلّ على بطلان ذلك القول الذي أحدثه المبتدعة وكل قول له دليل يبطله، فإذا قالوا مثلا: الجبت والطاغوت عمر وأبو بكر رضي الله عنهما. أو قال المعتزلة: إن قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} المراد به الإنعام، أو نفوا الحوض في السنة أو نفوا الميزان الذي جاء ذكره في القرآن وقالوا لا ميزان أو نفوا الصراط هذه كلها أقوال لأهل الاعتزال ومن شابههم، إذا أتت آية فيها ذكر الصراط فإنهم ينفون أن يكون ثَم صراط على متن جهنم، كذلك الميزان في قوله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] ، وفي قوله {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102] ، ونحو ذلك، ينفون وجود الميزان الحسي ويقولون هذه تشبيهات.
هذه أقوال، كل قول منها ثم أدلة مفصلة من الكتاب والسنة على بطلان ذلك القول بخصوصه. (1)
..في الآية وعلى بطلان نفي ما جاءت الأدلة بإثباته، فمثلا في الصفات الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة الرحمة أكثر من إن تحصى، وهذا جواب مفصل؛ يعني رد مفصل على تأويلاتهم الباطلة التي هي من جنس اللعب وشر التحريف لآيات القرآن.
وكذلك الذين نفوا الميزان هناك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تمنع ذلك، وهذا هو الدليل المفصل.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.
فإذن نقول على وجه الاختصار من خالف تفاسير الصحابة والتابعين وأتى بمعنى جديد لا يشمله تفاسير الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذا قولهم مردود عليه من جهتين:
الجهة الأولى مجملة، الدليل الأول مجمل؛ يعني بدليلين، الدليل الأول مجمل وذلك الدليل الأول هو أن ما خرج عن تفاسير الصحابة والتابعين فهو مردود؛ لأن العلم محفوظ فيهم، ولا يمكن أن يدّخر لمن بعدهم علم ويحجب عن الصحابة؛ لأنهم خير هذه الأمة.
الثاني دليل مفصل ووجه مفصل وهو أنه ما من تفسير يخالف تفاسيرهم ويأتي بمعنى محدث إلا وثم أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تبطل ذلك التفسير المعيَّن. نعم.
[المتن]
وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ؛ فَمِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا؛ مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدًا.
[الشرح]
وهذا هو الذي يسمى عند الصوفية بالتفسير الإشاري، يقولون: أشارت الآية إلى كذا. فيفسرونها بما تُشير، ويجعلون ما يفهمونه من الآية بالإشارة يجعلونه تفسيرا للآية وهو مشهور باسم التفسير الإشاري.
وثَم كتب كثيرة من جنس كتاب حقائق التأويل لأبي عبد الرحمن السلمي الصوفي المشهور وهو كتاب مطبوع، وكذلك كتاب التفسير تفسير القرآن المشهور لأبي بكر ابن العربي، وكذلك ما ذكره في الإشاريات الألوسي في أواخر كل مجموعة من الآيات يفسرها في كتابه روح المعاني، هذه تسمى التفاسير الإشارية، والتفاسير الإشارية على أقسام:
منها أن يكون المعنى الذي ذكروه صحيحا في نفسه؛ لكن كما قال شيخ الإسلام الآية لا تدل عليه، فتكون الآية مثلا في فتح من الفتوح في الجهاد، فيفسر الآية بفتح القلب؛ فتح باب المجاهدة في القلب، وأن هذا يعقب نصرا على الشيطان، فيجعل الجهاد جهاد القلب والنصر والغلبة -غلبة العدو الكافر الذي هو الشطيان-، هذا المعنى في نفسه صحيحا؛ لكن هو معنى لم يرد بالآية؛ لأن الآية فيها ذكر معاني واضحة بالعربية من ذكر مثلا جهاد المؤمنين ضد الكفار ونحو ذلك، وهذا يراد به الجهاد الظاهر لجماعة المؤمنين ضد الكفار الذي هم من البشر.
القسم الثاني أن يكون التفسير باطلا في نفسه، وهذا رده يكون من جهتين:
الجهة الأولى: أنه مخالف لما تدل الآية عليه.
الثاني: أنه باطل في نفسه؛ لأن الشرع أتى بغير هذا الكلام.
مثل ما يذكرون في أحوالهم التي لم تدل عليها السنة؛ بل كان هدي السلف على غيرها فيستدلون ببعض الآيات على ما اصطلحوا عليه، أو على ما كانت عليه أحوال الصوفية بما خالفوا فيه سيرة السلف الصالح رضي الله عنهم في الزهد والورع والسلوك، هذا معنى باطل في نفسه.
القسم الثالث معاني يتوقف فيها لا يمكن أن تحكم عليها في نفسها بالصحة ولا بالبطلان، وذلك لاشتمالها على مصطلحات للصوفية، فيتوقف تصحيح المعنى أو إبطاله على فهم تلك المصطلحات، فإنهم لهم مصطلحات، لهم مصطلح معنى المقام عنهم له كمعنى، الحال عندهم له معنى، الرضى عندهم له تفسير خاص، وهكذا في مصطلحات كثيرة للصوفية، الشهود له معنى، الفناء له معنى، فهناك تفسيرات يفسر بها هؤلاء القوم.
والتفسير في نفسه مثلا يظهر للمتأمل الذي يعرف مصطلحات الصوفية صحة ذلك التفسير ولا بطلانه حتى يقف على مرادهم من مصطلحاتهم.
وجميع هذه الأنواع الثلاثة والأقسام الثلاثة لا تمت إلى الآية بصلة لأنها من باب الإشاريات عندهم.
إذا تقرر هذا، فهل التفسير الإشاري مردود مطلقا؟ هل التفسير الإشاري باطل أم أن التفسير الإشاري لبعض الآيات الكتاب والسنة منه ما هو صحيح؟
الجواب: التفسير الإشاري منه ما هو صحيح، وتفسير الآية بالإشارة يؤخذ به إذا توفرت فيه شروط ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه التبيان في أقسام القرآن، (1) وأشار إليه ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه.
أول شرط من تلك الشروط التي يصح معها التفسير بالإشارة أن يكون ثم اشتراك في اللغة؛ يعني أن يكون التّفسير بالإشارة تحتمله الآية لغةً، ما يكون فيه معنى لا تعلمه الآية لغةً. مثلا إن فسر البيت بالقلب، القلب بيت، وإذا فسر آية مثلا أو حديث فيه ذكر البيت بأنه القلب، هذا له دلالة في اللغة؛ لأن القلب بيت وهذا المعنى صحيح.
الشرط الثاني أن يكون التفسير مما دلّت عليه أدلة أخرى في الشرع.
يقول: في الآية الإشارة إلى كذا، الشرط الأول أن يكون في الآية لفظ يحتمل وهذه الإشاري لغة، الثاني أن يدل على هذا التفسير دليل شرعي آخر على صحته؛ يعني أن يكون المعنى المشار غلبه أتى دليل آخر به.
الشرط الثالث أن لا يناقض دليلا من الكتاب والسنة، فإذا كان التفسير بالإشارة يُناقض دليلا آخر فإنه باطل.
ومثال ذلك من السنة كما ذكر ابن القيم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فسَّر الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو قوله «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة» قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالملائكة لا تحيط بقلب قد ملئ من كلاب الشبهات وصور الشهوات.
(1) قال ابن القيم في كتابه التبيان: تفسير على الإشارة والقياس وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم وهذا لا بأس به بأربعة شرائط:
أن لا يناقض معنى الآية.
وأن يكون معنى صحيحا في نفسه.
وأن يكون في اللفظ إشعار به.
وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطا حسنا.
فأولا البيت فسره بالقلب، هذا ذكره إشارة. الكلاب قال إشارة إلى الشبهات، وهكذا الشبهات كلاب، لماذا؟ لأن الكلب لا يزال يلهث، وهكذا الشبهة لا تزال تلهث بصاحبها أما الشهوة تعرض وتزول، أما الشبهة ملازمة له.
الثالث الصورة، الصورة من جنس الشهوات، الصورة من الشهوات، وعلى هذا يكون شيخ الإسلام في تفسير ذلك قد فسره بالشروط جميعا:
أولا دلالة الألفاظ في اللغة واردة.
الثاني أن المعنى الّذي ذهب إليه وقال إن في الحديث إشارة إليه، هذا المعنى صحيح جاءت الأدلة بذكره. فالشبهات والشهوات مرض إذا استحكم في العبد أو دخل القلب حفت الشياطين واستحوذت صاحبها وابتعدت عنه ملائكة الرحمة.
الثالث الشبهات والشهوات هي من فهم معنى الكلب والصورة.
إذن نقول التفسير الإشاري إذا استعمله أحد من أهل العلم في باب الاستنباط فإنه يكون صحيحا إذا توفرت فيه هذه الشروط الثلاثة، وأما إذا لم تتوفر فه هذه الشروط الثلاثة فهو من باب اللعب والتفسير الذي لم تدل الآية عليه، مثل صنيع الصوفية يعتقدون معتقدا يدخل في الآية على أي موضع.
بل إنهم عجب -يعني الصوفية- من إشاراتهم، حتى شكل الحروف دخلوا فيه يعني شكل حروف القرآن دخلوا فيه بدلالات عندهم وإشارات، مثلا قالوا في (بسم الله) قالوا الباء أبتدئ بها الكلام ونقطت من تحتها نقطة واحدة إشارة إلى توحيد الله جل وعلا، لا علاقة، وهذا الكلام موجود وهو تفسير صوفي بحت لا دليل عليه، موجود في كتاب توحيد الخلاّق المنسوب للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا الكتاب توحيد الخلاق فيه في أوله كثير من الصّوفيات وهو ليس للشيخ سليمان، وإنما هو لرجل من أهل العراق قدِم على الشيخ في الدرعية، وعُثر عليه بتهمة في الدين كأنه له شأن أو نحو ذلك فقتل في الدرعية بعد تصنيفه لهذا الكتاب.
المقصود أنه فيه إشاريات كثيرة، هذا الكتاب الإشاريات التي فيه غلط، منها هذه، يقول: السين [شُرْشِرَت] بثلاث يعني ثلاث شرطات فسرت بثلاث بعد الباء المنقوطة من تحت ردا على المثلثة. لا علاقة، هذا كلام ما له علاقة؛ يعني بمعنى أنه أوهام جعلوها تفسيرا.
الميم دُورت حتى يحيط اسم الله بالقلب، يعني صارت دائرة فيها أيضا حتى يحيط اسم الله بالقلب هذا خرافة.
فإذن التفسير الإشاري منه ما هو تفسير معان، ومنه ما هو تفسير للخط أيضا، وهذا كله باطل إلا ما كانت المعاني توفّرت فيه الشروط التي ذكرنا.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(( (( (
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري