الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثاني عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
[تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ]
وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا؛ وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ (1) : وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ.
(1) انتهى الشريط الرابع.
وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ داود عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ.
فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ؟.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.
وَلِهَذَا فإنّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السّدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ (1) قَالَ:«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِمَاد فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ.
والثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.
(1) يعني فيما يجمله من الحديث أنه روايات في هذا يدخل حديث ابن عباس في حديث ابن مسعود، يقول دخل حديث بعضهم في بعض يعني وهذا كثير عند ابن جرير ويميّز
…
والثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ:
كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ، (1) وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ، وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}
فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا؛
(1) هل هو الفخذ هل هو الكتف؟ هل هو
…
فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا.
ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} ، فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيُشْتَغَلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ.
فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا.
فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ.
كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
[الشرح]
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يعلمنا من القرآن ما فيه انشراح صدورنا وثبات أمرنا واستقامة أحوالنا، وأن يذكرنا منه ما نسينا، وأن يعلمنا منه ما جهلنا إنه سبحانه جواد كريم.
قد ذكر المصنف رحمه الله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى فيما سبق أنّ تفسير القرآن يكون بالقرآن، ثم يكون بالسنة، وقد يكون بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة رضوان الله عليهم الذين نُقل عنهم التفسير ليسوا بالكثير؛ بل كانوا قليلين فممن نقل عنهم التفسير الخلفاء الأربعة:
أبو بكر رضي الله عنه، كما نقل عنه تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، فإنه لما قرأها قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. إلى آخر الحديث ففسر هذه الآية لأنهم ذهبوا إلى غير التفسير الصحيح فيها.
عمر رضي الله عنه أيضا نقل عنه تفسير كثير فيلك وعثمان.
وكان أكثر الخلفاء الأربعة تفسيرا الأمام الحبر علي رضي الله عنه؛ ولهذا صار تلامذة علي بن أبي طالب في التفسير الذين تلقوا عنه التفسير والأقوال في تفسير الآي أكثر من غيره من الخلفاء الأربعة يعني من الخلفاء الثلاثة.
وفسر القرآن أيضا من الصحابة ابن مسعود، وكان له مدرسة كبيرة في التفسير في الكوفة.
وفسره أيضا ابن عباس، وله مدرسة كبيرة في مكة، أخذ عنه جمع كثير كما هو معروف.
وحاصل مدارس التفسير عند الصحابة ترجع إلى ثلاث مدارس:
مدرسة المدينة هي مدرسة الخلفاء الأربعة وأكثرهم علي بن أبي طالب.
ومدرسة الكوفة عبد الله بن مسعود وتلامذته.
ومدرسة مكة رفيها عبد الله بن عباس وتلامذته.
وهناك آخرون من الصحابة نُقل عنهم التفسير الكثير؛ لكنها أقل من هؤلاء كأبي بن كعب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وغير هؤلاء من الصحابة.
ولاشك أن تفسير الصحابة للقرآن هو أوثق التفاسير بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر شيخ الإسلام هنا كما سمعتم عدة أسباب لذلك تُجمل في الآتي:
أولا أنهم شهدوا التنزيل شهدوا تنزيل الآي على النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة سبب النزول ومشاهدة وقت التنزيل الآية هذا يعين كثيرا على فهم معنى الآي، لهذا أجمع العلماء على أن معرفة سبب نزول الآية يعين على فهم الآية ويحقق أو يدرك به المفسر الصحيح في معنى الآية وإن لم يصر إلى الاقتصار على ورود السبب أو على السبب، والعبرة كما هو معلوم بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب؛ لكن هذه مهمة.
لهذا الصحابة شهدوا التنزيل وعرفوا مواقعه ومتى أنزلت الآية، وهذا يعطي الدلالة عن معنى هذه الآية، والصحابة هم أولى الناس بذلك.
السبب الثاني أنّ أعمق هذه الأمة في فهم اللغة التي نزل بها القرآن هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة القرشيين منهم؛ لأن علماء الصحابة كانوا يعتنون بموارد التفسير في اللغة، كما جاء مثلا عن عمر رضي الله عنه حينما فسر قوله تعالى في سورة النحل {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 47] ، قام رجل وقال: يا عمر أو عمر قال: ما التخوف؟ سأل الناس على المنبر؛ لأنه كان يقرؤها يوم الجمعة كثيرا قال: ما التخوف؟ فسكت الناس فقال رجل من هذيل وقال: يا أمير المؤمنين التخوف في لغتنا التنقص، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا
…
كما تَخَوَّف عُودَ النّبْعَةِ السَّفَنُ
فالتخوف التنقص؛ يعني نقص.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قال عمر: عليكم بديوان العرب فإن به معرفة كلام ربكم؛ يعني التخوف التنقص، يأخذهم على تخوف يعني يبدؤهم ينقصهم شيئا فشيئا في النعمة مما هم فيه حتى يهلكهم.
عَلِمَ اللغة والصحابة هنا نظروا إلى اللغة ففسرها بذلك.
وهكذا بقية الصحابة ابن عباس رضي الله عنه كان عالما بأشعار العرب، فكان يجلس في منزله في مكة ويصيح غلامه من أراد أن يسأل عن شعر العرب ولغتها فليدخل، فيدخل من يريد أن يسأل عن الأشعار فيجيب ابن عباس رضي الله عنهما وهكذا.
فالاهتمام باللغة هذا أساس التفسير لأن القرآن أنزل اللسان عربي مبين أصح الناس لفهم اللغة هم الصحابة؛ لأن اللحن لا يوجد فيهم ولم يداخلهم العجم ولم تدخلهم العجمة، ولم يتفرقوا في البلاد بمخالطة من ليس من أهل اللغة، فهم أهل اللسان الصحيح، هذا هو السبب الثاني من أن الاعتماد على تفاسير الصحابة يتعيّن وصحة تفاسيرهم في ذلك ظاهرة.
السبب الثالث: هو أن الصحابة رضوان الله عليهم هم أسلم الأمة في التعبير عن القرآن من حيث ما يتورّع أن لا يدخل في القرآن، ولذلك كان كلامهم في التفسير قليلا كثير الفائدة فلم يكونوا يكثرون من الكلام خشبة أن يقال في القرآن ما ليس بحق، فكان كلامهم قليلا كثير الفائدة في التفسير، فهم يعرفون مواطن الزلل ومواطن الهداية فيتفعون الناس في تفسير القرآن فالصحابة رضي الله عليهم شهد لهم الله جل وعلا بعمومهم ولعلمائهم بخصوصهم.
ثم النبي صلى الله عليه وسلم شهد للخلفاء الراشدين ولعلماء الصحابة في التفسير ومتهم ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وجماعات منهم، فقال لابن عباس «اللهم علمه التأويل» وقال لابن مسعود «من سره أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» وابن مسعود وقال عن نفسه: والله لو أعلم أن أحدا ف الأرض يعلم أية من كتاب الله جل وعلا تبلغه المطي لرحلته إليه. وشهد أبي مسعود لابن عباس كما ذكر شيخ الإسلام بإسناد الصحيح شهد له قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وهذه شهادة من بعضهم لبعض في ذلك.
المصير إلى تفاسير الصحابة بعد التفسير بالقرآن والسنة هو أقوى طرق التفسير ولابد من الرجوع إليه، فلا يصح لأحد أن يفسر القرآن بدون الرجوع إلى تفاسير الصحابة، قد يزيد يفصل في تفاسير الصحابة، يفصل ما أجملوه؛ لكن لا يصح أن يكون هناك تفسير للصحابة، ونذهب عنه إلى غيره؛ لأن هذا مصير إلى أنهم لم يدركوا الصواب في تفسير القرآن.
ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك الكلام على الإسرائيليات، لما ذكر جمع إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي الكبير تفسيرا عن ابن عباس وتفسير ابن مسعود.
طبعا من طرق التفسير لهؤلاء الصحابة منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هر ضعيف، وطرق التفسير بمعنى الأسانيد، منها ما هو؟ جادة معروفة يروى بها التفسير آيات كثيرة عن علي رضي الله عنه بإسناد، عن ابن مسعود بإسناد، وهذه معروفة اسمها جواد الأسانيد في التفسير، لذلك تجد ابن جرير يكررها لأنها منقولة في نسخ، أكثرها رواية بمعنى نسخ موجودة رواها المتأخر عن تلامذة ابن مسعود، وظلت نسخة فيها تفسير آيات كثيرة جدا ثم يفرّقها من ألّف في التفسير في تفسيره، وهكذا ابن عباس رضي الله عنه مجاهد عرض عليه القرآن من أوله إلى آخره ومعرفة أسانيد التفسير لها بحث آخر ربما يطول.
ممن نقل التفسير بأسانيد على الجادة إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي الكبير، وقولنا هنا السُّدي الكبير؛ لأنه فيه السُّدي الصغير محمد بن مروان وهو متهم بالكذب، أما إسماعيل بن عبد الرحمن فهو صدوق في الرواية، لكنه عمدة في نقل التفسير، وهو في الحديث صدوق، وإن روى له مسلم في الصحيح لكنه هو ليس بمرتبة الثقات الرواة الضابطين؛ لكنه في التفسير صحيح الرواية إلا أنه نصرف في تفسير ابن مسعود وابن عباس ونصه على ذلك يقول: دخل حديث بعضهم في بعض. وربما قال: وربما زدتُ أشياء من غير حديثهم، فخلط. وذكر لك بن تيمية أن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي أدخل أشياء من الإسرائيليات في التفسير بما سمع لماذا أدخلها؟ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «حدثوا عن بتي لإسرائيل ولا حرج» وهذا قاده إلى البحث في الكلام على الإسرائيليات وأن هذه الإسرائيليات طغت في كتب التفسير وزادت حتى دخلت في أشياء لا فائدة منها البتة كما ذكر عن أهل الكهف عدتهم، كلبهم، لون كلبهم، والشجرة التي كلم الله موسى، ونوع كذا أو نوع كذا؛ يعني تفاصيل يذكرها أصحاب الإسرائيليات، الإسرائيليات ذكر شيخ الإسلام بن تيمية أنها ثلاثة أنواع والصحيح أنها أربعة:
أما الأول يعني ما ذكره مما يعلم أنه في شريعتنا، هذا لا بأس بروايته لأنه جاء في شريعتنا ما يؤيده.
والثاني ما نعلم في شريعتنا ما يكذّبه ويرده؛ مسائل العقائد والأخبار عن الأنبياء أو عن الكتب ونحو ذلك، فهذا يجب علينا أن لا ترويه؛ لأن روايته هي رواية ما جاء بشريعتنا خلافه، والمعتمد ما جاء في شريعتنا؛ لأن الإسرائيليات دخل فيها الكذب في ذلك.
والثالث ما لا نعلم في شريعتنا أنه صحيح أو أنه غير صحيح لا نعلم ما يؤيده أو ما يبطله، فهذا هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «إذا حدثكم بني إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذّبوهم» فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ لأنهم إذا حدثوا بشيء لا نعلم صدقه بشريعتنا ولا نعلم كذبه من شريعتنا، ولا نعلم صدقه ولا كذبه فينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ، وينطبق عليه الحديث الآخر «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ، وهذا هو الذي جعل الصحابة يروون التفسير كما فعل عبد الله بن عمرو وغيرهم؛ رووا التفسير عن الإسرائيليات خاصة في قصص الأنبياء وذكر المغيبات مما هو موجود في كتبهم وشروحهم، توسعوا فيه لأجل «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» .
أما النوع الرابع فهو ما تحيله العقول؛ يعني هو لم يرد في شريعتنا؛ لكن العقول تحيله، العقل يرفضه العقل الصحيح والعقل الصريح هنا يرفضه، هنا يجب أن يرد، من مثل تفسير ق أنه جيل محيط بالأرض أو أن الأرض صفتها كذا وأنها تنتهي إلى طرف كذا وطرف كذا، وأن الشمس كانت كذا ثم مسخت إلى الجبل؛ يعني تفاصيل تتعلق بمواقع أو تتعلق بأجرام، أكثر هذا النوع مما يتعلق بمواقع أو أجرام أكثر هذا النوع مما يتعلق بمواقع، هذا إذا أحالته العقول فيجب أن يرد ولا يدخل القسم الثالث، ما يدخل في القسم الثالث مما لا تحيله العقول، أما إذا حالته العقول فيجب رده ولا يروى.
لذلك دخل كثير من التفسير في هذا النوع في كتب التفسير من قبيل أنه «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ولكنه مما تحيله العقول.
وهذا لو قيدناه بهذا القيد صار ما ورد عن بني إسرائيل مما يدخل تحت قوله إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فيكون قليلا جدا بالنسبة لما هو موجود.
فإذا استغنينا عن القسم الأول وهو ما جاء في شريعتنا ولا حاجة لنا لمرويات بني إسرائيل فيه، وإن ذكرت فتذكر هكذا، لا حاجة لنا بما جاء في شريعتنا رده، ما جاء ما رده العقل أيضا لا حاجة لنا به، فبقي نوع واحد وهذا قليل بالنسبة للبقية.
فهذا القول هو الصحيح -ما ذكره ابن تيمية هنا- هو التوسط في مسألة النقل عن بني إسرائيل؛ لأن الناس النقل عن بني إسرائيل من زمن التابعين وزمن الأئمة على ثلاث أنحاء:
منهم من يمنعها.
ومنعم من يقبلها مطلقا.
ومنهم من ينقل ما يدخل تحت هذه الشروط التي ذكرنا، وهو أن يكون النوع الثالث، ولا يكون داخل في النوعين الآخرين الثاني والرابع.
أهل العصر اليوم كما تسمعون ينقدون أي تفسير لأن فيه إسرائيليات، يقولون: هدا فيه لإسرائيليات، ونقّوا كتب التفسير من الإسرائيليات. هذا ليس بمنهج علمي صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وقال «إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإنه إن يكن حقا فتكذبوهم أو يكن باطلا فتصدقوهم» .
وهذا جعل كثيرا الآن يعتني بتخليص كتب التفسير من الإسرائيليات، وأحيانا الإسرائيليات هذه توضح المقصود، مثل مثلا في حديث الفتون المعروف عن ابن عباس الحديث الطويل عند قوله تعالى {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 46] ، ذكر الحديث الطويل، بعضه من القرآن، وبعض ما ذكر ابن عباس من قصة موسى عليه السلام والفتون يعني ما تدرج به وابتلاه الله جل وعلا به؛ بعضه من بني إسرائيل؛ لكن دخل في تفسير بن عباس ويقبل في ذلك لأنه مما لم يأتِ في القرآن رده.
فالقول بأن كل تفسير فيه إسرائيليات مردود أو ضعيف أو لا يصلح، هذا فيه نظر؛ بل ينبغي أن يقيد بهذه الضوابط التي قلنا.
المسالة الثانية التي بحثها شيخ الإسلام هي مسائل خلاف الترجيح بين الأقوال، وهذه لها ميدان بحث يطول الترجيح بين أقوال أهل التفسير في ذلك، وهو ذكر مثال في الخلاف حول عدة أصحاب الكهف، ورجح قولا واعتمد في الترجيح على نوع برهان وهو أنه في قوله {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، لم يقل بعدها (رجما بالغيب) وإنما قال {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22] ، قبلها، وهذا مما يؤيد هذا مع ضميمة قول بن عباس أنت أعلم عنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. هذا نوع من الترجيح والترجيح باللفظ لأنه قال في الأول رجما بالغيب وفي الآخر لم يقل، والترجيح يقول بقول الصحابي قول بن عباس: أنا أعلم عدتهم. طبعا ابن عباس يعلم عدتهم بناء على برهان من الفائدة في ذلك.
وأوجه الترجيح كثيرة متعددة وهي التي سيصير المصنف رحمه الله إلى الكلام عن اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن اختلاف السلف في التفسير -يعني اختلاف الصحابة في التفسير- هو اختلاف تنوع ليس اختلاف تضاد؛ بمعنى أن أحدهما يسقط الآخر أو ضده، وأن اختلاف التضاد قليل جدا بالنسبة لاختلاف التنوع.
اختلاف التضاد هذا هو الذي يرجح الصواب فيه بناء على براهين وأدلة في ذلك، لكل مقام ما يناسبه.
[المتن]
فَصْلٌ
[فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ التَّابِعِينَ]
إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ؛ كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرضَات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا.
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ (1) قَالَ: رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ.
وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ.
وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ. وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَأَبِي الْعَالِيَةِ. وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وقتادة. وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.
(1) يصح أنك تقول في أي لفظ من ألفاظ التحمل أو ألفاظ الأسانيد أن تجعل قبلها (قال)، إذا قال: حدثنا تقول: قال حدثنا، إذا قال: أخبرنا، تقول قال أخبرنا، إذا قال عن. يصح أن تقول: قال عن، (عن) هذه هو يبتدئ الكلام؛ المحدث تارة يقول: حدثنا وتارة يبتدئ الكلام ويقول: عن مجاهد؛ هو قوله؛ عن مجاهد، ويصح أن تحذف أيضا وهو الأكثر عندهم أنهم قبل (عن) لا يقول قال؛ لأنه هناك احتمال أن يكون لفظ التحمل وهو حدثنا أخبرنا أنبأنا ونحو ذلك أنه من قبل، وليس مما ينسب له أنه قال عنه؛ يعني احتمال أن يقول عن مجاهد احتمال أن يكون أصله حدثنا مجاهد؛ لكن هو الأعمش قال حدثنا مجاهد أسقط وقال عن مجاهد لأجل طول الصحبة وما أشبه ذلك، تارة تحذف اللفظة من الرواة وتارة يبقونها على ما هي عليه، لذلك في (عن) يصح أن تقول: عن. وإذا قلت: قال عن. ليس فيها إشكال.
وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ، فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي.
وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً، فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ؟! يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ.
[الشرح]
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى لآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فصلة لما سبق من الكلام عن طرق التفسير، ذكر أنّ القرآن يفسر بالقرآن، ثم القرآن يفسر بالسنة، ثم يفسر بأقوال الصحابة، هذا سبق شرحه وبيانه فيما مضى.
والآن صار إلى تفسير القرآن بأقوال التابعين، والتابعون في مآخذهم في التفسير أخذوا من عدة اتجاهات أو مدارس:
الأولى هي مدرسة ما سمعوه من الصحابة وهي الأكثر، تجد أن الملازم للصحابي يفسر بتفسيره، الملازم لابن مسعود يفسر بتفسيره، الملازم لأبيّ يفسر بتفسيره، الملازم لعلي رضي الله عنهم أجمعين يفسر بتفسيره، وكذلك من لازم ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يفسر بتفسيره.
كما لأطال هنا في الكلام عن مجاهد وهو من أوضح الصور في التزام مدرسة ابن عباس في التفسير، هذا هو المأخذ الأول.
المأخذ الثاني: أن يجتهد التابعي في التفسير فيفسر باجتهاده، وهذا الاجتهاد راجع إلى نظره في الآيات، أو نظره في السنة أو إلى ما سمعه ويكون لديه من علوم مختلفة، وهذا كثير الاجتهاد عند التابعين، كثير باعتبار ما سمعوه أو اللغة أو ما شابه ذلك، ولهذا كثر اختلافهم من أجل كثرة اجتهاداتهم.
القسم الثالث أو النوع الثالث في مآخذهم: هو حال التّابعي في التفسير؛ يعني في أثناء تفسيره، وهو تارة يفسر فيختصر بكلمة لأنه سئل عنها، وتارة يفسر فيطيل لأن المقام يقتضي ذلك، ولهذا تستغرب؛ لأن التابعين حينما فسروا، تجد أن من تفاسيرهم ما هو مقتضب جدا، ومنه ما هو مطول تجده يسهب في تفسير الآية.
وسبب ذلك اختلاف الحال التي فسر فيها، وهذه الأحوال في الغالب لا تُنقل لنا، وإنما ينقل لنا القول الذي قاله دون الحال أو بساط الحال الذي جعل التابعي يُطنب أو يختصر، كما هو أيضا في حال الصحابة رضوان الله عليهم.
وذكر لك عددا من أسماء مفسري التابعين ممن نُقل عنهم التفسير، وهؤلاء مشاهير تفاسيرهم منقولة في التفسير بالأثر.
هذه المدرسة مدرسة التفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، تفسير القرآن بأقوال الصحابة تفسير القرآن بأقوال التابعين، هذه تسمى مدرسة التفسير بالأثر؛ يعني بالأثر يعني من نقل عن صحابي فإنه يكون فسر بالأثر، من نقل عن التابعي فإنه يكون قد فسر بالأثر، حتى ولو كان تفسير الصحابي اجتهادا منه في اللغة، أو كان تفسير التابعي اجتهادا منه في اللغة، وليس مما نقله.
وتفسير القرآن هناك مدرستان مشهورتان مدرسة التفسير بالأثر ومدرسة التفسير بالرأي.
مدرسة التفسير بالرأي لها عدة مدارس بداخلها منها مدرسة التفسير باللغة.
والصحابة رضوان الله عليهم اجتهدوا في التفسير باللغة وكما ذكر لكم أمثلة في الماضي إن كان [ذكري] صحيحا وكذلك التابعون فسروا باللغة؛ لكن ما نقل عنهم التفسير حتى ولو كان تفسيرا لغويا لا يصنفهم في مدرسة التفسير باللغة بل هي مدرسة التفسير بالأثر، وسبب ذلك أن اجتهادهم في اللغة ليس اجتهادا راجعا إلى اجتهاد في اللغة، هذا الاجتهاد في التفسير ليس لاجتهادهم في اللغة؛ ولكن لأن اللغة العربية هي اللغة التي يتكلمون بها وهي سليقتهم وفطرتهم لم يأخذوها بالتطبع مثلما جاء في مدرسة التفسير بالرأي فشا اللحن وفشا الفساد في اللغة فيكون تفسير العالم في اللغة يكون مما تعلمه من اللغة وليس مما طبع عليه.
ولهذا لم يعد العلماء تفسير التابعين ولا تفاسير الصحابة من التفاسير اللغوية، حتى ولو كان ما اجتهدوا فيه لغويا لهذا السبب وهو أن تفسيرهم باللغة كان عن طبع ولم عن اجتهاد، فسروا في اللغة صحيح اجتهدوا في اللغة التي هي طبعهم وهي سليقتهم لا اللغة التي تعلموها كما هو صنيع المتأخرين، ولذلك لا تجد في تفسيرهم باللغة تفسيرا بالنحو لا تجد فيه التفسير البلاغي لا تجد فيه تفسير ألفاظ اللغة عن طريق الاشتقاق الذي كان عند المتأخرين، وإنما هو بالسليقة العامة التي ينقلون فيها الكلام عن الصحابة أو عن من أدركوه من أصحاب السليقة العربية.
تفاسير التابعين قد يكون فيها اختلاف، وقد ذكر لك المصنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى أن ما اختلفوا فيه فيندر أو يقلّ أن يكون فيه اختلاف تضادّ في التفسير الواحد وإنما يكون التنوع في العبارات والمآل واحد، إما أن يكون بعضهم جاء بالعموم وبعضهم خص، بعضهم جاء بفرد من الأفراد والآخر أتى بالكل، واحد جاء بالكل وآخر جاء بالجزء، وهكذا فيما اختلفوا فيه اختلاف تنوع.
المسألة الثالثة التي طرقها مسألة خيالية لا مصير إليها وهي مسألة الإجماع في التفسير، والتابعون صعب بل لا أذكر أحدا من أهل العلم قال أجمع التابعون على أن تفسير هذه الكلمة هي كذا؛ لكن شيخ الإسلام فيما ذكر هذا بناء على تنظيره المعتاد أنهم إن أجمعوا على شيء فالحجة فيما أجمعوا عليه؛ لكن في الواقع لم ينقل عنهم الإجماع في تفسير آية، وإنما الصحابة رضوان الله عليهم نقل أما التابعون فإنهم لم ينقل عنهم أنهم أجمعوا في تفسير كلمة أو آية أنها كانت تفسر بكذا.
ولهذا صار خلاف المفسرين والأئمة في التفسير بتفسير التابعين سائغا لأنهم اختلفوا، وإذا كان كذلك فيرجع فيه المجتهد في التفسير إلى الحجة من القرآن أو الحجة من السنة أو طرق التفسير الأخرى.
فتفاسير التابعين ليست حجة إلا في حال أنهم أجمعوا، وهذه حال خيالية كما قال الإمام أحمد من ادّعى الإجماع فقد كذب؛ لأن الإجماع في المسائل الفروعية صعب، فكيف عن المسائل العلمية فالتفسير عند التابعين، سيما وأن مدارس التابعين في التفسير مختلفة متباينة، مدرسة مكة، مدرسة المدينة، والكوفة والبصرة والشام، هي تفاسير لاشك أنها عرضة للاختلاف الكبير.
يمكن أن نقول هنا أن تفسير التابعين يتميز بمزايا:
الأولى أنه لا خلط فيه من حيث النواحي العقدية؛ بل تفاسيرهم فيما يتعلّق بالاعتقاد صحيحة، هذا الذي جعل عددا من أئمة السنة ينقلون بعض تفاسير التابعين في كتب العقيدة والسنة، مثل ما يروى عن عكرمة وعن مجاهد في بعض المسائل التي منها مسألة الإجْلاس ونحوها. (1) فالأصل أنهم لا يقع عندهم خلل فيما يذكرونه في أبواب الغيبيات، وهذه ميزة لتفاسيرهم قد يكون هناك نزاع بين أهل السنة في مسألة مما نقل عنهم لكن الأصل أن ما نقلوه في مسائل الاعتقاد الأصل فيه السلامة؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك بما أثنى الله عليهم به وأثنى عليهم به رسوله صلى الله عليه وسلم.
الميزة الثانية أن كلامهم قليل الألفاظ كثير المعاني كسمة تفاسير الصحابة، تجد أن تفاسير التابعين إذا تأملته يمكن أن تخرج من التفاسير إشارة أو معنى كبير جدا يتطرق له الداعية، يتطرق له العالم يتطرق له الواعظ، وهكذا في كلمات وجيزة وكثيرة المعاني.
السّمة الثالثة أن تفاسيرهم لا تخالف اللغة، تفاسير التابعين متفقة مع اللغة بخلاف تفاسير من أتى بعدهم فإنه قد فشا اللحن وقد يقع الخلل في التفسير اللغوي عندهم.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
المزية الرابعة من مزايا تفسير التابعين الإجمالي أن تفاسير التابعين في كثير منها دُونت وأصبحت تنقل من طريق صحف أو من طريق أسانيد ثابتة عرفت تفاسير التابعين بها تفسير نجاهد منقول بإسناد معروف عنه، أو صحيفة مجاهد نفسها منقولة بتفسير وبإسناد واحد، وكذلك المشاهير الآخرون من التابعين، إما أن يكون عنده صحيفة في التفسير مكتوبة أو يكون هناك جادة في الإسناد واحدة منقول عنها في التفسير، ويكون الأسانيد الأخرى التي نقلت عنه في التفسير قليلة، وهذا بخلاف تفاسير الصحابة فإن الكتابة عنهم غير موجودة إلا ما ذكر عن كتابات قليلا عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما وابن مسعود لكنها ليست كاملة كتفاسير التابعين، والأسانيد أيضا متنوعة في الصحابة بخلاف أسانيد التابعين.
هذا بعض ما يحضرني من مزايا تفسير التابعين رحمهم الله تعالى.
سائل: يفسرونها تفسيرا واحدا وإنما يكون الاختلاف في العبارة، هذا كثير جدا، هل هذا يعتبر إجماع؟
لا، هذا ليس إجماعا؛ لأن الإجماع أن يكون كل من عُرف بالتفسير من التابعين نُقل تفسيره للآية فاتفقوا عليه، نجد أن المنقول في الآية ينقل عن واحد اثنين فقط، لا يسوغ أن نقول أن البقية الذين لم يُنقل كلامهم متفقون معهم في ذلك، كذلك عدم ذكر الخلاف لا يعني الإجماع، بعض العلماء يسميه إجماع سكوتي وبعضهم يقول لم يعلم لهم مخالف فكان إجماعا هذه كلها فيها تجوّز وليس موافقة لشروط الأصوليين في مسألة الإجماع.
قراءة ابن مسعود مفسرة، ابن مسعود رضي الله عنه قراءته قراءة مفسرة ابن مسعود يذكر الآية يعني الآية ويقرأ معها التفسير يعني يضيف كلمات فيها التفسير، لذلك اشتبه هذا على عدد من المتأخرين لأنهم يعتقدون أن هذه الزيادات في قراءة ابن مسعود وهذا ليس بصحيح، وإنما هي متن تفسيرات ابن مسعود مثل الآية المشهورة (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ منه) هذه في قراءة ابن مسعود، وهي تفسيرية ليست بقراءته؛ لكن يقال بالتجوّز أنها كقراءة ابن مسعود لكن ابن مسعود كان يفسر يعني يقرأ ويفسر لها أمثلة كثيرة، قد ذكر كثيرا منها الحافظ ابن أبي داوود في كتابه المصاحف؛ يعني أطنب في هذه المسألة تعرفون الكتاب المصاحف لابن أبي داوود كتاب مشهور بالأسانيد نقل كثيرا من هذا. نعم
[المتن]
[تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِالرَّأْيِ]
فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» .
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» .
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ. وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ؛ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ؟
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ.
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رضي الله عنهما إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لقوله تعالى تَعَالَى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 27-30] .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5]، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا:{يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا.
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ شوذب: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ [مُحَمَّدٍ] ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ.
وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا حَدَّثْت عَنِ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هشيم، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ.
فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ.
فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ؛ لقوله تعالى:{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ:«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا.
وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ.
وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ.
وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الشرح]
هذا ختام هذا الكتاب العظيم المفيد جدّا المسمى مقدمة في التفسير، وذكر فيه مسألة التفسير بالرأي.
والتفسير بالرأي معناه أن نفسر القرآن بلا حجة وبلا دليل يرجع إليه، وإنما بمجرد رأي رآه هو، فليس له ما يدل على كلامه من القرآن ولا من السنة ولا من أقوال الصحابة ولا من اللغة ولا من السياق والسباق، وإنما هو رأى رأيا ففسر به.
وهذا قول بلا علم، الله جل وعلا جعل القول عليه بلا علم قرين الشرك به؛ لأن الشرك به قول على الله بلا علم.
فلا يحل لأحد أن يفسر القرآن بمجرد رأيه، فالتفسير بالرأي المجرد مذموم ومنهي عنه؛ لأنه داخل في القول على الله جل وعلا بلا علم، فالذي يفسر بالرأي هو يقول إن معنى قول الله هو كذا بغير دليل يستدل عليه وإنما لمجرد شيء بدر له وظهر بدون حجة لا نقلية ولا لغوية، ولهذا الأحاديث التي جاء فيها الوعيد فيمن فسر القرآن برأيه، معناها ما جاء في الروايات الكثيرة يعني المتعددة في النهي عن تفسير القرآن أو الوعيد بتفسير القرآن بغير علم؛ لأنه جاء لفظان «من فسر القرآن بغير علم» واللفظ الثاني «من قال في القرآن» ، وجاءت رواية «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» فنرجع بالرأي إلى الرأي الذي ليس عليه علم، وهو الذي صار إليه شيخ الإسلام في آخر الكلام بعد النقول عن السلف الكثيرة:
أولا عن لأبي بكر رضي الله عنه بعد أن ساق الأحاديث من قال في القرآن بغير علم ذكر عن أبي بكر وإسناده عن أبي بكر حسن، وعن عمر لا تثبت في قوله {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} وإنّما هي أقرب عن أبي بكر لتعدد رواياتها عنه، وفيها التحذير الشديد من أن يقال في القرآن بغير علم.
أما إذا احتج بعلم إما بآية أو بسنة أو بلغة، فإن هذا علم يصح أن يفسر بناء على فهمه من آية أو حديث أو لغة، وهذا هو الذي صار من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد اجتهدوا بناء على فهم فهموه، فهو قول في القرآن بعلم وليس بغير علم، فيحمل المروي عنهم عن الخلفاء وعن الصحابة من النهي عنه تفسير القرآن بالرأي، أو أن يقول قولا في القرآن؛ لأن هذا القول هو الذي لا يستند إلى حجة ودليل.
أما ما يستند إلى حجة ودليل عند صاحبه فهو مأذون له به كما هو الشائع في تفاسير العلماء في هذا الصدد.
إذا تبين ذلك فيجب الحذر الشديد من أن يُقدم على القرآن بتفسير الآي بغير علم، ما يكون عند الإنسان حفظ للقرآن حيث يحمل بعض الآيات على بعض وفهم لمعانيها، أو معرفة بالسنة أو معرفة باللغة، وإنما هو يفسّر بحسب وَجْدِه أو ما يطرأ له.
فحينئذ فالعلم الذي تكون معه النجاة في هذا الأمر بحيث يستطيع أن يفسر بعلم وأنه إذا اجتهد بالتعبير يكون مقبولا أن يكون يراجح التفاسير الأثرية أولا كتفسير الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني رحمه الله تعالى وكتفسير الإمام أحمد فيما نقل عنه وكتفسير سعيد وابن جرير وتفسير ابن مردويه وتفسير ابن المنذر وما أشبهها من التفاسير الأثرية، وكذلك ما لخصت فيه هذه التفاسير كتفسير ابن الجوزي وتفسير الحافظ ابن كثير وغيرها.
ثم هو مع ذلك يكون عنده بصر بالعقيدة الصحيحة التي قررها أئمة الإسلام وأئمة السنة حتى يفهم القرآن عليها، وعنده بصر أيضا بمواقع التفسير من اللغة بمواقع اللغة حتى يعرف الإعراب يعرف المتقدم والمتأخر ويعرف طرفا من علم المعاني حتى يعرف فائدة التقديم والتأخير وفائدة الحصر وفائدة التأكيد وفائدة تنوع وحروف وأشباه ذلك مما هو مقرر في علم المعاني، إذا كان عنده طرف من علوم اللغة هذه مع معرفة بالقرآن والسنة ومراجعة لكتب التفسير فإنه إذا اجتهد يُرجى أن يكون اجتهاده ليس به تجاوزا لقولي «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» .
الأمر الثاني فيما ذكرت أن تفسير القرآن بالرأي المذموم له أشكال وله أنحاء:
تفسير القرآن بالرأي المذموم في المسائل الغيبية كمسائل صفات الله جل وعلا أو الجنة والنار أو ما يحصل يوم القيامة، القرآن مملوء بالآيات التي فيها ذكر للغيبيات، فالإقدام على تفسير هذه الغيبيات بما يخالف قاعدة أمرّوها كما جاءت، هذا تفسير بالرأي، إلا ما كان فيه علم مقتفى فإن هذا يُصار إليه كتفسير الكرسي بأنه موضع القدمين، وتفسير الميزان بأنه له كفتان وأشباه ذلك.
الأمر الثاني أن التفسير بالرأي يكون بحمْل القرآن على ما يخالف ما علم من الآيات الأخرى كصنيع أصحاب المذاهب الرّدية والفرق المنحرفة في تفسير بعض الآيات بما يخالف آيات أخر، آيات فيها ثناء على الصحابة رضوان الله عليهم لا يأخذون لها فيفسرون آيات أخر بتفسير يضاد هذه الآيات، وهكذا في مسائل الحلال والحرام فإن تفسيرها بما يناقض غيرها هذا يعدّ من التفسير بالرأي المذموم.
المسألة الثالثة أو الشكل الثالث التفسير بالرأي المذموم هو التفسير بالتأويل المردود، والتأويل قد يكون صحيحا وقد يكون باطلا، والباطل هو أن يكون ليس هناك حجة في صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، هذا أيضا يكون تفسيرا بالرأي، من صرف لفظا عن ظاهره أو إلى غيره دون قرينة دون حجة تدل على ذلك فهذا من التأويل المذموم كما هو صنيع أصحاب المذاهب والفرق المختلفة.
إذا تبين هذا فمدارس التفسير بالرأي عند علماء التفسير وعلماء علوم القرآن تنقسم إلى قسمين شهيرين:
الأول التفسير بالرأي المقبول على ما ذكرنا.
القسم الثاني التفسير بالرأي المذموم المردود، وهو القول على الله بغير علم.
أما التفسير بالرأي المقبول فيسمونه الرأي، وصحته أن يقال بالاجتهاد} التفسير بالاجتهاد مقبول، هو ما كانت عناصر الاجتهاد فيه تامة أو متوافرة، وهذا له عدة أمثلة أو مدارس في داخله:
منها المدرسة الفقهية في التفسير، كل أصحاب مذهب فسر القرآن تفسيرا فقهيا خاصة في الآيات التي لها صلة بالفقه أو بأصول الفقه، وهذا كثير الحنابلة لهم تفاسير فقهية، والمالكية لهم تفاسير فقهية، والحنفية لهم تفاسير فقهية، والشافعية لهم تفاسير فقهية، والظاهرية لهم أيضا تفسير فقهي وهكذا، هذا تفسير بالاجتهاد الفقهي الذي له دليله لكن لم يفسر القرآن من حيث هو، لكن فسروه لكن بما يوافق المذهب الفقهي هذا داخل في هذه المدرسة.
الثاني مدرسة التفسير بالاجتهاد النحوي، وهذا كثير ويدخل فيها الكتب المسماة إعراب القرآن، كإعراب القرآن للزجاج، وإعراب القرآن للزجاجي وإعراب القرآن للفراء، وتفاسير اعتنى فيها بالإعراب كإعراب القرآن للعكبري وتفسير البحر المحيط لأبي حيان وأشباه هذه الكتب.
الثالث مدرسة التفسير بالاجتهاد اللغوي، واللغوي يدخل فيه التفسير في المفردات، أو في البلاغة وهذه عدد من الكتب التي اعتنت بهذا التفسير، وقد تشترك مع غيرها في مدرسة مثلا مدرسة فقهية أو مدرسة عقدية ونحو ذلك، وهذه لها أمثلة متعددة كتفسير ابن الجوزي وتفسير البحر المحيط وكتفسير السمعاني وتفسير السمين الحلبي وتفاسير كثيرة في هذا الصدد، ومن المتأخرين تفسير الألوسي وما شابه ذلك، وهذه قد يكون ذلك عناية بالبلاغة أو عناية بالاشتقاق والمفردات.
الصنف الرابع فيها التفاسير العقدية وهي التي اعتنت بالاجتهاد لكنها مالت إلى تقرير العقيدة، وهذه يصح أن نقول أن ما يدخل في هذه المدرسة، مدرسة الاجتهاد المقبول هي المدرسة العقدية السلفية أو التي تكون تبعا لأئمة الحديث رحمهم الله تعالى، والتي توافق ظاهر القرآن، هذه يصح أن نقول فيها أنها تفسير بالاجتهاد المقبول.
والمدرسة الأخيرة المدرسة الإشارية، والمدرسة الإشارية هي مدرسة للتفسير بالاجتهاد لكن بذكر الإشارة، ومنها ما هو مقبول، ومنها ما يدخل في الرأي المذموم في القسم الثاني.
والتفسير بالإشارة سبق أن ذكرته لكم لكن أعيده باختصار إنه يصح التفسير الإشاري بأربعة شروط.
أما النوع الثاني وهو التفسير بالرأي المذموم فهو كل ما كان الاجتهاد فيه غير متوافر الشروط، ويدخل فيها كل التفاسير التي يذهب إليها أهل البدع، مثل تفاسير غلاة الصوفية، وتفاسير الشيعة التي ينحون فيها إلى منحى التأويل والرأي الذي لا حجة فيه، مثل تفاسير الباطنية وتفاسير المعتزلة والخوارج وما أشبه ذلك من التفاسير.
على العموم تقسيم المدارس يعني يحتاج إلى تفصيل أكثر لكن سبق أن أشرنا إليه أظن بأحد المحاضرات يمكن أن يرجع إليه في ذلك.
وقد صار ابن تيمية رحمه الله في آخر الكلام إلى ما سبق أن ذكرناه في الأول؛ وهو أن التفسير بالاجتهاد إذا توافرت الشروط فإنه لا حرج منه.
وأما إذا كان قولا بمجرد الرأي فهو مذموم فليحذر منه؛ لأن القول على الله بلا علم شديد جدا وكبيرة من الكبائر، وقد يكون كفرا إذا كان متعلقا بإباحة ما لم يأذن به الله.
ذَكر فيما سمعتم في الأخير كلمة يجب أن توضَّح وهي أن من سُئل عن علم فإنه يجب عليه؛ سئل عن آية ولديه علم فإنه يجب عليه أن يجيب وأن يبين المعنى إذا كان لديه علم، وهذا ليس على إطلاقه، وإنما يجب عليه إذا كان ليس هناك من يعلمها إلا هو، أما إذا كان من يعلم غير المسؤول فإنه يجوز له أن يمتنع عن الجواب ويُحيل إلى غيره كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يحيل بعضهم إلى بعض، أما إذا تعينت عليه فإنه يجب عليه أن يبين، ولا يجوز له الكتمان، إذا لم تتعين عليه بوجود من يجيب غيره أو بوجود من يبين غيره فإنه حينئذ له في ذلك مندوحة.
وهذا ختام بيان بعض ما يتعلق بهذه الرسالة النفيسة.
أسأل الله جل وعلا أن يرحم مؤلفها؛ كاتبها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يجزيه عنا وعن الموحدين خير الجزاء، وأن يجمعنا به في دار كرامته، وأن ينفعنا بعلومه إنه سبحانه جواد كريم.
كما أسأله سبحانه أن ينور قلوبنا جميعا وأن يفيض علينا من الفهم الصحيح، وأن يقينا العثار ويجنبنا الزلل وأن يلهمنا في كل تقوى البدار إنه سبحانه خير مسؤول، وهو المعطي قبل السؤال، والمنيل قبل استحقاق النوال سبحانه وتعالى تعالى اسمه وتقدست أسماؤه لا إله إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[الأسئلة]
س/ قول مجاهد رحمه الله تعالى: إن الله أنزل من الكتب ألفا، ثم عادت علومها إلى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ثم عادت علوم الأربعة إلى القرآن، ثم عادت علوم القرآن إلى المفصل منه، ثم عادت علوم المفصل منه إلى الفاتحة، ثم عادت علوم الفاتحة إلى البسملة منه، ثم عادت علوم البسملة إلينا؟
ج/ هذا لا يدخل في التفسير الإشاري؛ لأن الإشارة كما ذكر فيها أربعة شروط لصحتها، وهي غير موجودة هنا، الإشارة أن يكون هناك لفظ يقال إنه إشارة إلى كذا، إشارة إلى معنى وهذا يصح بشروطه، مثل الماء تقول الماء إشارة إلى الوحي في بعض الآيات الماء وإحياء الأرض الميتة أنه إشارة إلى الوحي {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17] ، إحياء هنا إشارة إلى إحياء القلوب، هذا نقول صحيح، من قال هذا إحياء القلوب نقول هذا صحيحا لماذا؟ لأنه اجتمعت شروطه:
أولا أن لا يشتمل على عقيدة باطلة.
ثانيا اللفظ المنقول منه ثابت يعنى الأرض الميتة ثابت المعنى.
وفيه إشارة مزيدة على ذلك إلى القلب، والقلب أرض والإحياء صحيح، وهذا الربط صحيح.
مثل ما فسر الحديث «إن الملائكة لا تدخل بيت فيه كلب ولا صورة» قال ابن تيمية في تفسيره، وكذلك لا تدخل قلبا لأن البيت جعله قلبا، وهو صحيح القلب بيت، قال: لا يدخل قلبا قد ملئ بكلاب الشبهات وصور الشهوات. وهذا صحيح النقل يعني الربط هذا صحيح.
أما الأثر الذي ذكرته فأنا في ظني إن كان حفظي صحيحا أنه لا يصح وأنه نقله بعض المتصوفة، سيما وأن الباء ليس فيها سرّ، قد يحمل يعني فيه تكلف إذا قلنا المقصود هنا يرجع إلى معنى واحد وهو الاستعانة، وهذه الاستعانة لا ترجع لها علوم كتب الله جل وعلا، الاستعانة فيها الربوبية وهي مفتاح كل خير؛ لكن لا ترجع إليها علوم القرآن جميعا وعلوم الفاتحة جميعا.
س/....
ج/ هذا تفسير بالاجتهاد أي نعم؛ يعني بالرأي إذا استوفي الشروط فهو مقبول، أو يكون مذموما، نعم
س/
…
ج/ ثلاثة؟ يمكن جاء الوهم مني، أنا أذكر:
أن يكون أن لا يشتمل على عقيدة باطلة يعني نعلم أنها باطلة
الثاني أن يكون المعنى الأصلي ثابت.
الثالث: أن يكون المعنى المنقول إليه أيضا صحيح في نفسه في اللغة وفي نفسه.
الرابع: أن لا يكون هناك دليل يبطل هذه الإشارة.
على العموم أنا أذكرها من كتاب ابن القيم التبيان هي موجودة فيه، التبيان هو كتاب مهم مهم جدا، التبيان قل يمكن من يطالعه ويمر عليه؛ لكن فيه علوم كثيرة خاصة فيما يتعلق بالقرآن وتفسيره فيه فوائد كثيرة جدا.
ثلاثة ليس لها أصول قال: التفسير والمغازي والملاحم يعني ما لها أصول أسانيد أكثرها تنقل بدون أسانيد. نعم
س/....
ج/ لا تكون صحيحة من حيث التفسير أو من حيث النقل، لا، من حيث التفسير ما لها علاقة، قد يكون الإسناد ضعيف والتفسير صحيح؛ يعني بمعنى الإسناد هو نقل الكلام إلى قائله، طيب نقول: هذا النقل إلى القائل الإسناد ضعيف، ولا يعني كون الإسناد ضعيفا أن يكون ضعيفا في نفس الأمر لأن الضعيف قد يحصل؛ لكن من باب الاحتياط قلنا أنه ضعيف، ولذلك في الحلال والحرام نشتد في مسألة الأسانيد لكن في أسانيد التفسير لا ينبغي التشدد أولا.
ثاني ليس كل راوي يحكم عليه في باب الحلال والحرام بأنه ضعيف أن يكون ضعيفا في التفسير، هناك رواة كثير ضعاف في حفظ أحاديث الأحكام لكنهم أصحاب قرآن، هذا كيف أضعفهم فيما هو صنعتهم؟ يجيء مثلا يقول نلقاه في التقريب يقول الضعيف تراجعه تجده ضعيف في الروايات؛ لكنه صاحب قرآن، إذا كان صاحب قرآن فأضعفه في التفسير فيه نظر، إذا إسناد ضعيفا لكن التفسير في نفسه عن ابن عباس مستقيما؛ يعني أن لا يستغرب أن يقوله ابن عباس لأنه يوافق تفسير الآية مثلا يفسر (الأب) نقول الإسناد ضعيف، يقول ما يصح عن ابن عباس ما فيه ما يستغرب، ولذلك مسألة اللجوء إلى أن الإسناد في التفسير نقول ضعيف ليس هو الأصل، الأصل أن نقبل ما جاء في التفسير إلا إذا كان هناك غرابة في التفسير.
أما التفسير هو تفسير آية، ويكون لهذا التفسير مستنده، بخلاف ما إذا كان الإسناد منكرا أو الإسناد موضوع ونحو ذلك هذا يجب صده، مثل إسناد الكلبي المشهور الذي يروى به تفسير ابن عباس الطويل المسمى تنوير المقباس، هذا في إسناده الكلبي الذي هو والسُّدي الصغير محمد بن مروان
…
(( (( (
تم هذا الشرح المبارك
تم بحمد الله
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري