الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
[وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ.
كَقَوْلِهِمْ: إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ.]
وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عُوَيْمَرْ العَجْلَانِي أَوْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ.
وَأَنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] ، نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106](1) نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ.
وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. الْحَدِيثَ.
(1) وأيضا في البقرة الآية 181.
وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ. وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ.
وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا أو نَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ.
وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ (1) إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا.
وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا.
[الشرح]
(1) قال الشيخ صالح هنا: يعني رُجِع الحالف ببعض الأيمان يُسأل عن نيته ماذا قصد بذلك، إذا قال ما اتضح له الأمر، فيرجع، قال: والله أنا ما أدري ما عندي يقين هو كذا أو كذا فهذا يحصل كثيرا، ويرجع في ذلك إلى سبب اليمين وما هيجها، أوش السبب؟ ينظر فإذا كان غضب و [
…
] بحكمه، إذا كان الرضى يقول: لا، أنا والله جالس مرتاح ثم فأطلقت هذه العبارة هذا ما فيه سبب يحمله على شيء معين؛ يعني يريد أن أخذ الأحوال، المعاني، من جهة الأسباب أنه مطرد عند العلماء؛ يعني رعاية الأسباب وفهم الشيء بفهم سببه هذا موجود عند العلماء حتى في الفقه فكيف بالتفسير. نعم
قوله هنا في أول الكلام أنه قد يجيء السبب الواحد للآية مختلفا، وقد يجيء ذكر السبب واحدا فإذا جاء السبب واحدا مثل قولهم في آية الظهار نزلت في أوس بن الصامت، فهذا لا يعني أن عموم اللفظ يُخص بهذا السبب بل إن العلوم له أفراد ومن أفراده هذه الحادثة التي حدثت، وهذا يدل له دلالة واضحة ما جاء في الصحيح أن رجلا قبل امرأة في الطريق وجاء للنبي عليه الصلاة والسلام قال: إني لقيت امرأة في الطريق أو قال في أحد البساتين أو قال في أحد الحوائط ولا شيء يأتيه الرجل من أمراه إلا فعلته إلا النكاح. يعني إلا الوطء، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أنزل الله جل وعلا عليه قوله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، الحسنات ومنها الصلاة تذهب السيئات، فأخذها، فقال الرجل: يا رسول الله ألي وحدي. هذا السائل قال: ألي وحدي قال: «لا بل لأمتي جميعا» ، وهذا يعني أن خصوص السبب لا يُخص به عموم اللفظ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هل هو بخصوص هذا الرجل؟ لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «بل لأمتي جميعا» فاستدل العلماء بهذا الحديث الذي في الصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وإذن ما ذكره هنا لأن أحد قسمي اختلاف التنوع أنه يرد لفظ عام يفسّره الصحابة يفسره السلف لأحد أفراده، ذكر لك أمثلة، ثم ذكر هنا أمثلة أسباب النزول، فأسباب النزول من ذلك، يكون اللفظ عام كل واحد يقول نزلت في كذا، أحيانا يقول بعضهم نزلت في كذا وفي كذا وهذه كلها أفراد.
نعم إن العلم بالسبب يورد العلم بمعنى الآية لأنها هي التي تسبب عنها أو التي أنزلت لهذا السبب تارة يقول الآية يقولون نزلت في كذا أو نزلت في كذا، ولا يعنون أنه سبب النزول؛ ولكن يعنون أنه يصلح للآية.
مثلا في سورة المطففين هل هي مكية أو مدنية؟ قالوا: نزلت في مكة، ثم قال بعضهم: نزلت في المدينة. وفي سورة الفاتحة قالوا: نزلت في المدينة. مثل المعوذتين قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس قالوا: نزلت في كذا لما سُحر النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بعد ذلك، ونحو ذلك من هذه الأنواع.
هذا عند الصحابة وعند السلف يعنون به أنها تصلح لهذا المعنى، نزلت في كذا؛ يعني تلاها النبي عليه الصلاة والسلام عليهم سورة المطففين لما ذهب إلى المدينة تكون نزلت بكذا لأنهم خوطبوا بها.
فإذن قولهم: نزلت في كذا -هذا كالخلاصة- نزلت في كذا يعني:
أولا تخصيص المعنى بالسبب، هذا واحد؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الثاني أنه قد تذكر أكثر من حادثة نزلت في كذا أو في كذا، وهذه كلها أفراد للعام؛ لا يعني تخصيصها أو إلغاء معنى الآية لأجل الاختلاف في السبب؛ سبب النزول.
الفائدة الثالثة: أنهم قد يقولون أنها نزلت في كذا. ولا يعنون سبب نزولها أو مرة ولكن يعنون أن الآية صالحة لتناول هذا الذي حصل حيث تلا النبي عليه الصلاة والسلام تلك الآيات.
السبب الثاني: يختلفون، بعضهم يقول نزلت في كذا، وبعضهم نزلت في كذا، وبعضهم يقول نزلت في كذا؛ يعني الاختلاف في هذا السبب كذا وكذا لا يلغي دلالة الآية؛ يعني لا يكون أن الآية لا تدل على ما عمّه لفظها لأجل أنه اختلفوا في سبب النزول، فأسباب النزول أفراد للعموم، مثل ما تقول مثلا القوم يدخل فيها فلان وفلان وفلان، إذا قلنا فلان وفلان وفلان اختلفنا، تقول دخل الرجال، قلت أنت: محمد وصالح وأحمد. قال الثاني: لا خالد وأحمد وعبد العزيز. قال الثالث: عبد الله ومحمد وخالد. اختلفوا في من هم الرجال؛ هل الاختلاف في هذا في تحديد المعنى هل يعني اختلاف الدخول؟ فهم دخلوا لكن التحديد هذا هو الذي الاختلاف فيه، طيب حضرت الواقعة ما الذي لم؟ قال بعضهم السبب كذا وكذا وكذا، وقال الآخرون: لا، سبب هذه الواقعة كذا وكذا وكذا، فالاختلاف في السبب لا يعني أنها لم تحصل أو أن المعنى الذي فيها ليس بمأخوذ به. لا.
فإذن اختلاف في أسباب النزول هو من قبيل ذكر أفراد العام لا من قبيل التقسيم، يريد شيخ الإسلام أن يذكر هذه القاعدة؛ لأنه ذكرها بعد ذكر العام وأفراده.
[المتن]
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ؟
فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ.
[الشرح]
روى الحافظ في المستدرك قال كلمة في كتاب التفسير مهمة يقول: وقول الصاحب الذي شهد التنزيل -لاحظ الكلمة الذي شهد التنزيل- نزلت في كذا حديث مسند. يعني مرفوع لأنه هو شهد ذلك هذا معناه متصل، هو شهده ورآه ويذكر ما شهده، فبناءً على هذا قول الصحابة الذين شهدوا الأمور تكون من قبيل المسند لا من قبيل الموقوف؛ يعني ليست بآثار بل هي مسندة، وهذا مثل ما ذكر ما جرى عليه الإمام أحمد في مسنده وأصحاب المسانيد، فليس كل ما فيها مرفوعة؛ بل قد يكون منها شيء يقول نزلت في كذا حصل كذا لأن مشاهدته للتنزيل مشاهدته للحادثة هذه تكفي في كونها مسندا فيكون المراد بالمسند أنه متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم إما قولا أو زمانا إما قولا أو زمانا.
[المتن]
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ. وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا؛ فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ.
[الشرح]
هنا يقول قد تكون نزلت مرتين، طبعا النزول الاصطلاحي يكون للمرة الأولى، نزلت لكذا التي هي المرة الأولى، أما المرة الثانية فيكون إنزالها للتذكير بها، ينزل بها جبريل عليه السلام إما سورة كاملة كسورة الفاتحة وإما بعض سورة مثل سورة ويل للمطففين وغيرها، فيكون للتذكير بشمول ما حدث لهذه الآيات أو بشمول الآيات لما حدث، بدخول ما حدث في الآية وبشمول الآية لما حدث.
[المتن]
وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ:
تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ كَالتَّمْثِيلَاتِ.
هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ.
وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَة (1) كَلَفْظِ (قَسْوَرَة) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ. وَلَفْظِ (عَسْعَسَ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ.
[الشرح]
يعني أن بعض الخلاف المنقول عن السلف راجع إلى اللغة، فيكون اللفظ الذي اختلفوا فيه في اللغة محتملا، احتماله لا من جهة الحقيقة والمجاز كما يدّعيه المتأخرون؛ لكن من جهة أنه مشترك يطلق على هذا وهذا، مثل لفظ (قسورة) مثل مثلا لفظ (العين) العين يطلق على أشياء كثيرة هذا عين؛ عين الإنسان وعين الذهب وعين الماء ونحو ذلك. القسورة وتطلق على الأسد، الأسد هو قسورة سمي بذلك، والقوس هذه قسورة {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50-51] ، يعني فرت من أسد لأنها خافت منه، أو فرت من رام بقوسه؟ هذا محتمل وهذا محتمل، لاحتمال اللفظ، لاحتمال اللفظ لاشتراكه في هذا وهذا، عسعس {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] ، كذلك.
فإذن هذا الاختلاف -اختلاف المنقول- قد يكون سببه اللغة وهذا لا يعني أنه اختلاف تضاد؛ بل إذا كان في اللغة هذا وارد وهذا وراد، فإننا نقول إن هذا صحيح وهذا صحيح كل من القولين صحيح.
سؤال يقول: ذكرتَ أن اللام تأتي إذا كان المخاطب منكرا أو منزلا منزلة المنكر. فمن هو مخاطب في قوله تعالى {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] .
(1) بعض الطبعات: اللفظ.
الجواب: المخاطب بهذا الخطاب الخاص هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن القسم وهذه المؤكدات ليست لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتأكيد الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن هي لمن أنكر رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، يعني أن المخاطب الخاص هو النبي عليه الصلاة والسلام، ليس المراد بالتنزيل بهذه المؤكدات النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما المراد المخاطب العام الذي يسمع هذا الوحي وهم كفار قريش.
كثير من الآيات فيها مخاطبة النبي عليه الصلاة والسلام ويُعنى بخطابه ذكر ما عليه المشركون أو ذكر أحوالهم ونحو ذلك. نعم.
[المتن]
وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8-9]، وَكَلَفْظِ:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1-3] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَتْهَا السَّلَفُ، وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛
فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً.
وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ.
وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنَ الصِّنْفِ الثَّانِي.
وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ.
وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ.
وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ.
فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9] ، إنَّ الْمَوْرَ هُوَ الْحَرَكَةُ كَانَ تَقْرِيبًا إذْ الْمَوْرُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ سَرِيعَةٌ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: (الْوَحْيُ) الْإِعْلَامُ، أَوْ قِيلَ:{أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} أَنْزَلْنَا إلَيْك أَوْ قِيلَ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ} [الإسراء: 4] أَيْ أَعْلَمْنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ إعْلَامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ، وَالْقَضَاءُ إلَيْهِمْ أَخَصُّ مِنْ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ إنْزَالًا إلَيْهِمْ وَإِيحَاءً إلَيْهِمْ.
[الشرح]
الكلام على الترادف هذا مهم للمفسر جدا، وكما ذكر شيخ الإسلام أن الترادف في القرآن قليل نادر أو معدوم، يقول في اللغة قليل وفي القرآن نادر أو معدوم، والصواب أنه معدوم لا يوجد كلمة في القرآن تساوي الكلمة الأخرى بجميع معانيها؛ بل يكون تفسيرها تقريبا لها، وهذا التقريب قد يكون فيه تنازع من جهة المفسرين؛ لأن كل واحد يقرّب المعنى ببعضه.
فإذا فسر المور كما ذكر في قوله {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} قال المور الحركة، قال آخر المور نفوذ في سرعة، فهذا وهذا كله مقرّب، المور كلمة في اللغة معناها ليس هو الحركة فقط؛ بل هو الحركة وزيادة، حركة وزيادة أشياء، كل كلمة نفسر في القرآن ليس تفسيرها تحقيقا؛ يعني أن تفسيرها هو معناها بالمطابقة؛ يعني لا تخرج منه أبدا، هذا ليس كذلك لهذا نقول إن تفسير المفسر هو نقل للمعاني.
ومن هذا الوجه مُنعت ترجمة القرآن حرفيا؛ لأنه لا يمكن أحد أن يترجم القرآن بمعانيه وإنما يمكنه أن ينقل تفسيره، ينقل معاني القرآن يذكر بعض كما دلت عليه مما يفهمه المفسر، أما اللفظ نفسه فإنه في اللغة لا يمكن أن تفسر شيء بشيء.
تقول مثلا: العهن هو الصوف {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة: 5] ، العهن كالصوف لا العهن صوف في حالة خاصة، العهن صوف في حالة خاصة.
مثلا في قوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} نقول كوت صارت كرة أو كالكرة، هذا تقريب؛ لأن التكوير هو جعْلها كرة مع الزيادة أوصاف.
في قوله مثلا {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، قال: الوردة ما كان فيه حمرة مع تفتّح. هذا تقريب أيضا؛ لأن الوردة قد يفهم العربي معناها لكن يُقرِّب المعنى في كلمتين تارة في ثلاث كلمات تارة يقرب معنى الكلمة في أربع، وهذا من عجائب أسرار اللسان العربي.
أما غيره من الألسنة فيكثر فيها أن تعبر الكلمة بأخرى.
مثل فاسعوا السعي والمشي، يقول لك: السعي هو مشي سريع هذا أيضا تقريب، السعي مشي سريع لكن فيه أيضا معنى القصد مع ذلك يعني مشي سريع من جهة القصد والرغبة، وهكذا.
فإذن نقول: مما ينبغي أن يعتني به المفسِّر والمطالِع في التفسير أن يعلم أن أخذ معنى الكلمة من معجمات اللغة أنه ليس تفسيرا للألفاظ بمعناها العام وإنما هو تقريب.
ولهذا شَرُفَتْ تفاسير السلف؛ لأنهم يفسّرون لا من جهة اللفظ فقط ولكن من جهة فهمهم للمعنى، فَهُم يفهمون المعنى والسياق الذي جاء فيه اللفظ -يعني سياق الآية- فيفسرون ناضرين إلى الجهتين جهة اللفظ ومعناه وجهة السياق؛ لأن الجميع تقريبا تفسير اللفظ في اللغة يعني بمفردها تقريب وتفسير اللفظ بما دل عليه السياق تقريب أيضا للمعنى؛ ولكن التقريب الذي فيه الدرجتان وفيه الأمران -الذي هو لآية الأمر ولأية السياق كما عليه السلف- هذا لاشك أنه أبلغ وأبلغ.
ولهذا يشرف في التفسير العلماء، كلما زاد علم العالم لكما نال من التفسير أكثر وأكثر، لم؟ لأنه يفسر من الجهتين، إذا كان عالما باللغة فهو ينظر إلى المعنى وينظر إلى السياق ويقرب من جهتين.
وهذه مسألة مهمة من جهة التقريب.
فإذن لا تنازع في تفسير بعض الكلمات، مثلا لو فسرها بعض السلف فسر يعض الآيات بكلمة، ثم وجدت من المفسرين من ذكر معنى آخر، فهنا لا يعد هذا اختلافا للسلف بل تنظر: هل هذا المعنى الثاني مواكب لمعان السلف، أم مضاد لها، إذا كان يدور في فلكها فالعمدة جميعا التقريب تقريب المعنى، وأما إذا كان مضادا لها فإذا هو الذي ينكر، ولهذا توسع العلماء في التفسير في التقريب، التفسير بالتقريب توسعوا فيه، فيذكروا العالم فيذكر العالم ما يفهمه من الآية مقربا المعنى للناس، وهذا التقريب لابد أن يكون محكوما بأصول تفاسير السلف، وهذه طريقة المحققين من العلماء الذين يتابعون السلف في التفسير.
ويذكرون مثالا مثل ما مر معنا في قوله تعالى {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} [النحل: 41]، حسنة هذه ما هي؟ قال بعضهم: المال، الإمارة، الزوجة الصالحة، هذا تمثيل.
مثل الصراط المستقيم: القرآن، الإسلام، السنة والجماعة، هذا إذا فسره فإنما يعني به أن يذكر بعض أفراده؛ يعني تمثيل له حتى يتضح المعنى.
[المتن]
وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ [تعالى] : {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]، أَيْ مَعَ نِعَاجِهِ و {مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52، الصف: 14] أَيْ مَعَ اللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مِنْ التَّضْمِينِ فَسُؤَالُ النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إلَى نِعَاجِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} [الإسراء: 73] ، ضُمِّنَ مَعْنَى يُزِيغُونَك وَيَصُدُّونَك.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء77]، ضُمِّنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ، ضُمِّنَ يُرْوَى بِهَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
[الشرح]
هذه قاعدة عظيمة تحتاج إلى بيانها البيان المفصل، وتحتاج إلى محاضرة كاملة لأنها من أنفع علوم التفسير؛ قاعدة التضمين.
وذلك أن العلماء -علماء العربية- اختلفوا في الأحرف؛ أحرف الجر هذه وأحرف المعاني، اختلفوا فيها على قولين:
منهم من يقول: إن الأحرف قد ينوب بعضها عن بعض، مثل ما قال بعضهم في تفسير {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} يقول {إلَى} هنا بمعنى مع.
القول الثاني أن هذا ليس بصحيح؛ بل الفعل إذا كان الجادة أن يُعدى بنفسه أو يعدى بحلاف جر ثم خولفت الجادة، وأوتي بحرف جر آخر؛ ليس معنى هذا الاختلاف من المتكلم أنه يريد بالحرف الثاني هو الحرف الذي هو حرف الجادة، مثل هنا يريد بـ {إلَى نِعَاجِهِ} مع نعاجه، هذا ما يكون في الكلام عمق؛ ولكن يقول نحاة البصرة كما ذكر وهو التحقيق وهو الصحيح وهو كثير في القرآن يقولون: إن تعدية الفعل بحرف جر لا يناسب معناه أن يثبت معنى الفعل الأصلي ومعه يثبت معنى فعل آخر مضمّن فيه في داخله يناسب حرف الجر.
فالعربي يريد أن يفهم شيئين بكلامه؛ يريد أن يفهم فعلين، كيف هل يكرر الفعل؟ هو أتى بفعل قال {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ} قال جل وعلا سبحانه وكلامه باللسان العربي المبين قال {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} ، هنا سؤال {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} السؤال ما يتعدى بـ {إلَى} سأله كذا إلى كذا! فإذن يكون يريد السؤال ومع السؤال شيء آخر؛ فعل آخر نستنتجه من حرف الجر المذكور الذي هو {إلَى} ، فما الذي يناسب حرف {إلَى} ؟ في هذا يناسبه الضم} ضمّ شيئا إلى شيء، جمع شيئا إلى شيء.
فإذن هم سألوا ومع السؤال ضمّوا شيئا إلى شيء {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} ، إذن هم سألوا وأيضا حصل منهم الضم وحصل منهم الجمع، وهذا نبه عليه بـ {إلَى} ، هذا كثير في القرآن.
مثلا قال {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، قالوا:{فِي} بمعنى على. ليس كذلك، التحقيق أن {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أن التصليب أصلا لا يكون إلا على الجذع؛ ولكن {فِي} دلّت على فعل آخر ضمنه الفعل أصلب.
كذلك قوله {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] أراد، ما تقول بكذا، الله سبحانه وتعالى قال {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} والجادة أن أراد تتعدى بنفسها، تقول: أردتُ الشيء، أراد الذهاب، أردتُ الظلم، أردتُ الحق. فلم عداه بالباء؟ هذا معناه أنه أراد معنى الإرادة ومع معنى الإرادة معنى فعل آخر تستنتجه بهذا الحرف المذكور.
ولهذا قال السلف في تفسيره مثلا {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال أراد هامّا بظلمٍ، وهذا لأجل عدم التكرير لأجل أن مبنى اللغة على الاختصار، فبدل أن يكرر الفعلين يقول: أراد الظلم وهم بالظلم، أراد الظلم هاما به. هذا يكون فيه تطويل في الكلام.
فإذن العرب عمدة كلامها على الاختصار والقرآن العظيم كلام الله جل وعلا الذي أعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا جميعا، هذا فيه من أسرار التضمين الشيء الكثير، التضمين علم مهم.
قال { [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (1) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} [آل عمران: 75]، يقولون: الباء بمعنى (على) . ليس كذلك. نعم هي المعنى تأمنه على قنطار؛ لكن لماذا أتى بالباء؟ أمنه على الشيء، ما يقال أمنه بالشيء، فمعنى الباء أن هناك كلمة أخرى؛ فعل آخر دخل في كلمة {تَأْمَنْهُ} ، كيف تستنتجه؟ تذهب إلى الفعل الذي يناسب التعدية بالباء.
وانتبه لهذه القاعدة قاعدة التضمين، وانظر إلى كلام المفسرين فيها والتطبيقات عليها سترى أنها من أعظم الفوائد في التفسير، ولاشك أن علمها يكون بمعرفة حروف المعاني.
(1) الشيخ قال: ومنهم.
ذكرنا لكم مثال فيما سبق واضح مثلا قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة: 29، فصلت: 11]، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} هنا {اسْتَوَى إِلَى} هل {إِلَى} بمعنى على؟ أصلا استوى الجادة أنها تعدى بـ (على) {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] ، {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] . هنا عداها بـ {إِلَى} ، فمعنى ذلك أنه أراد الاستواء الذي هو بمعنى العلو أولا، ثم أراد فيه معنى الاستواء الذي هو بمعنى العلو فعل آخر تناسبه التعدية بـ {إِلَى} الذي هو القصد والعمد. فيكون المعنى أنه جل وعلا عَلَا على السماء قاصدا عامدا على وقصد وعمد، بخلاف المؤولين فإنهم يقولون استوى بمعنى قصد ويزيلون معنى العلو، وهذا غير طريقة أهل السنة، فأهل السنة في باب التضمين يقولون المعنى الأول مراد ومعه المعنى الثاني الذي يناسب التعدية بـ {إِلَى} . فانتبه لهذه القاعدة، فإنها مهمة للغاية.
نكتفي بهذا القدر.
[الأسئلة]
س1/ يقول هل نستطيع أن نقول أنه لا يوجد اسم يدل على صفة فعلية لله جل وعلا؟
ج/ لا، لا نستطيع؛ لأن أسماء الله جل وعلا منها ما يكون فيه الصفات الذاتية، ومنها ما يكون فيه الصفات الفعلية، نعم ليس كل صفة فعل لله جل وعلا تصاغ له منها اسم ولن قد يكون من أسمائه ما هو من قبيل الصفات الفعلية مثل الخالق والرازق والسّتير ونحو ذلك.
س2/ يقول: فُسرت كلمة (عسعس) بأقبل وأدبر. فظاهر التفسيرين التناقض، فكيف الجمع بينهما؟
ج/ ليس متناقضا، هذا يسمى الألفاظ المشتركة، يعني يرِد هذا ويرد هذا، عسعس الشيء بمعنى أقبل، عسعس الشيء بمعنى أدبر.
اللديغ هو الملدوغ واللديغ هو السليم من اللدغ، تقول فلان لديغ يعني سلم من الدغ، وفلان لديغ بمعنى ملدوغ أصابه اللدغ.
هذا يرد، بعض العلماء يجعل هذا في باب التضاد، وبعضهم لا يجعله في باب التضاد، هذا من استعمال اللفظ في معنيين فأكثر، يسمى المشترك.
هنا {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) } [التكوير: 17-18]، هنا الليل إذا عسعس يكون المراد بتفسير من فسّر عسعس بأنه أقبل يعني: والليل إذا أقبل. أو من فسر عسعس بالإدبار قال: والليل إذا أدبر. ورُجّح الثاني وهو الإدبار لفائدة قوله {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ؛ لكن كلا القولين صحيح، يعني أن تفسير اللفظ بالمشترك لا يعدّ اختلافا؛ لأن هذا صحيح وهذا صحيح وقد يرجح أحدهما عن الآخر بأضرب من الترجيح.
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا.
* * *
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري