المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الدرس التاسع بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] فَصْلٌ [فِي النَّوْعُ الثَّانِي الخِلَافُ الوَاقِعُ فِي - شرح مقدمة التفسير لصالح آل الشيخ - جـ ٩

[صالح آل الشيخ]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌الدرس التاسع بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] فَصْلٌ [فِي النَّوْعُ الثَّانِي الخِلَافُ الوَاقِعُ فِي

‌الدرس التاسع

بسم الله الرحمن الرحيم

[المتن]

فَصْلٌ

[فِي النَّوْعُ الثَّانِي الخِلَافُ الوَاقِعُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ جِهَةِ الاسْتِدْلَالِ]

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ.

فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ صِرْفًا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دُحَيم، وَمِثْلَ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنة وَسَنِيدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَه، وَابْنِ مَرْدُويَه:

إحْدَاهُمَا (1) : قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا.

(1) قال الشيخ صالح: هذا كل ما مضى من التفاسير كالجملة المعترضة، ثم قال (إحْدَاهُمَا) يعني الوجهين اللذين يدخل منهما الغلط في التفسير بالاجتهاد.

ص: 1

والثَّانِيَةُ: قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ، (1) مَنْ كَانَ مِنَ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ. (2)

فالْأَوَّلُونَ رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ.

والْآخَرُونَ رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ عِنْدَهُمْ بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ.

ثُمَّ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخَرُون، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْأَوَّلِينَ إلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَنَظَرُ الآخرين إلَى اللَّفْظِ أَسْبَقُ.

[الشرح]

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وخشية، يا أرحم الراحمين، أما بعد:

(1) قال الشيخ صالح: (أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ) يعني فسروه بمجرد احتمال إرادة المتكلم من العرب بكلامه هذا المعنى لو تكلم بهذه الجملة. هذا ما يريد. والله أعلم.

(2)

انتهى الشريط الثالث.

ص: 2

فهذا صلة بما سبق الكلام عليه في أصول التفسير، وكلامه فيما سمعنا متصل بتفاسير الناس بعد القرون الثلاثة المفضلة، والتفاسير المنقولة عن الصحابة وعن التابعين وعن تبع التابعين، هذه التفاسير يقلّ أو يندر فيها الغلط، وذلك لأنهم فسروا القرآن، رَعَوْا فيه المتكلم به، وهو الله جل جلاله، ورَعَوْا فيه المخاطب به وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ورَعَوْا فيه المخاطَبين به أيضا وهم العرب قريش ومن حولهم في أول الأمر أو العرب بعمومهم، وأيضا رَعَوْا فيه اللفظ وراعوا فيه السياق، ولهذا تجد أن تفاسيرهم قد تبتعد في بعض الألفاظ عن المشهور في اللغة؛ لكنها توافق السياق.

أما المتأخرون -يعني ما جاء بعد هذه الطبقات الثلاث- فيكثر في تفاسيرهم الغلط، وجهة الغلط إما أن تكون أن المفسر اعتقد اعتقادات باطلة، كحال أصحاب الفرق الضالة إما المجسمة كمقاتل، أو المرجئة أو المؤولة أو المنكرين للصفات كالجهمية والمعتزلة وما شابه هؤلاء، تجد أنهم فسّروا القرآن ونزّلوه على وفق ما يعتقدون، فجاء الغلط في أنهم قرروا عقيدة عندهم وجعلوا القرآن يفهم على وفق ما يعتقدونه، وهذا نوع من أنواع التفسير بالرأي المذموم، وفي الأصل التفسير بالرأي معناه التفسير بالاجتهاد والاستنباط، والتفسير بالرأي من السلف من منعه أصلا ومنهم من أجازه واجتهد في التفسير وهؤلاء هم أكثر الصحابة، وإذا جاز الاجتهاد فتفسير القرآن بالرأي، فإنما نعني بذالك أن يُفسر القرآن بالاجتهاد الصحيح وبالرأي الصحيح؛ يعني بالاستنباط الصحيح، وأما الرأي المذموم فهو استنباط أو تفسير من ردود، وذلك لعدم توفر شروط التفسير بالرأي فيه.

ص: 3

من ذلكم أن يفسر القرآن على وفق ما يعتقده، يأتي الجهمي مثلا يفسر أسماء الله جل وعلا التي جاءت في القرآن بأثر تلك الأسماء المنفصلة في ملكوت الله جل وعلا، يأتي المرجئ يفسر آيات الوعيد على نحو ما يعتقده، يأتي الرافضي يفسر الألفاظ التي في القرآن مثل قوله تعالى {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] ، يفسِّرون الشجرة الملعونة بأنها معاوية رضي الله عنه وذريته، هذا كله من التفسير بالرأي المذموم؛ لأنه تفسير عن هوى اعتقد اعتقادات، ثم حمل القرآن عليها هذا من جهة العقيدة.

كذلك من جهة الفقه تجد أن بعض المفسرين الذين جاؤوا بعد القرون الثلاثة ينحى في الفقه منحىً، يذهب إلى مذهب يرجح في المسألة ترجيحا، ثم هو يأتي إلى الآية فيفسر الآية التي فيها الأحكام يفسرها على ما يعتقد من المذهب الفقهي؛ يعني يفسرها على ما يذهب إليه، فيأتي بذلك يأتي في ذلك بغلط أي أنه فسر الآية لا على ما تدل عليه؛ ولكن على ما يذهب إليه هو فيكون حمل القرآن على رأيه.

وهذا وأمثاله هو الذي جاء فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام «من تكلم في القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار» وفي لفظ آخر «من قال في القرآن فقد أخطا لو أصاب» ، وهي أحاديث أسانيدها ضعيفة لكنها بمجموعها لعلها تبلغ مرتبة الحسن.

المقصود من ذلك أن هذا من قسم التفسير بالرأي المذموم.

ص: 4

إلى خلاف هذا؛ يعني من العقيدة والفقه في غير هذا، مثلا يعتقد الأصولي مسألة ويرجحها في حكم الأصولي، فإذا أتى إلى الآية التي تدل على خلاف ما يقول حمل الآية على ما يرجحه ويراه، وهذا كثير في تفاسير المتأخرين، ولهذا صنف أصحاب المذاهب العقدية كل مذهب صنّف في تفسير القرآن مصنفا ينصر به مذهبه، فصنف المجسمة تصنيفا، وصنف المعتزلة في تفسير القرآن، وصنف الماتريدية تصنيف الماتريدي موجود، وصنف الأشاعرة كذلك وصنف المرجئة وهكذا في أصناف شتى.

كذلك في المذاهب الفقهية تجد أحكام القرآن للبيهقي مثلا، أحكام القرآن للجصاص الحنفي، أحكام القرآن لابن العربي المالكي، أحكام القرآن لابن [عاد] الحنبلي مثلا إلى آخره، وهذا يدخل المفسر إلى الغلط وذلك أنه يحمل القرآن على ما يميل إليه ويعتقده ويذهب إليه، لاشك انه إذا كان المفسر على هذه الحال فإن قوله لا يقبل؛ لأن القرآن يجب أن يُفهم مع التجرد عن تلك الأمور السابقة للاستدلال بالقرآن، نعم إذا المرء اعتقد العقيدة الصحيحة المبنية على الدلائل من الكتاب والسنة فان اعتقاده على العقيدة الصحيحة المبنية للدلائل يعينه على فهم القرآن فهما صحيحا، وهذا هو الذي كان عليه اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجتهدون ويفسرون ويكون اجتهادهم واجتهاد التابعين -أعني غالب التابعين- يكون اجتهادهم صوابا؛ وذلك لأنهم فهموا القرآن بمجموعه واستدلوا بأدلتهم باستدلالات صواب في نفسها ولهذا يفهمون ويفسرون بعض الآيات التي تشكل بما فهموه وعلموه من الآيات الأخرى هذا يختلف عن التفسير بالرأي المذموم. هذا صنف من الناس.

ص: 5

والطريقة الأخرى والجهة الأخرى التي دخل الغلط إلى كثير من المفسرين من جهتها أنهم فسّروا القرآن بمجرد احتمال اللفظ في اللغة، وتفسير القرآن بمجرد احتمال اللفظ لمعانٍ، هذا ليس في مراعاة الحال، وقد ذكرنا أنّ من مميزات تفسير الصحابة أنهم رعوا حال المخاطب به ورعوا في تفاسيرهم أسباب النزول ورعوا في تفاسيرهم ما يعلمون من السنة، ورعوا في تفاسيرهم اللغة.

فإذن هم حين يفسرون لا يفسرون بمجرد اللفظ؛ بدلالة اللفظ؛ بل يفسرون بدلالة اللفظ مع العلم الذي معهم وفيما ذكرت ولهذا تجد أن تفاسيرهم في الغالب لا يكون فيه اختلاف أعني اختلاف تضاد؛ بل هي متفقة لأنهم راعوا ذلك الأصل.

أما كثير من المتأخرين فوسّعوا الأمر ففسروا بمجرد احتمال اللفظ في اللغة، واحتمال اللفظ في اللغة الذي جاء في القرآن قد يكون له عدة معاني في اللغة؛ لكن لا يصلح في التفسير إلا واحدا منها، وذلك إما مراعاة لمعنى اللفظ في القرآن، القرآن العظيم ترد فيه بعض الألفاظ في أكثر القرآن أو في كله على معنى واحد، وهذا يكون باستقراء، فتحمل الآية التي فيها اللفظ يحمل على معهود القرآن لا يحمل على احتمالات بعيدة.

لهذا صنف العلماء في ذلك مصنفات بعيدة من الوجوه والنظائر لبيان هذا الأصل فمثلا الخير في القرآن يقول العلماء الأصل فيه أنه المال {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ؛ يعني لحب المال. قال {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ؛ يعني طريقا لتحصيل المال، وهكذا فإذا إذا أتى في آية استعمال لفظ الخير فأول ما يتبادر للذهن أن المراد بالخير المال، فإذا لم بناسب للسياق صرف إلى معنى آخر هذا يسمّى المعهود؛ معهود استعمال القرآن.

ص: 6

مثال آخر في الزينة، الزينة في القرآن أخص من الزينة في لغة العرب، لغة العرب فيها أن الزينة: كل ما يتزين به، وقد يكون من الذات، وقد لا يكون من الذات. يعني إذا تزيّن المرء بالأخلاق سمي متزينا، لكن في القرآن الزينة أطلقت واستعملت في أحد المعنيين دون الآخر ألا وهو الزينة الخارجة عن الذات التي جلبت لها الزينة، لهذا قال جل وعلا {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] ؛ لأن ما على الأرض زينة لها، فإذن الزينة ليست من ذات الأرض وإنما هي مجلوبة إلى الأرض، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، الزينة خارجة عن ذات ابن آدم فهي شيء مجلوب ليتزين به. {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] ، زينها جل وعلا بزينة هذه الزينة من ذاتها أو خارجة عنها؟ قال {زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ، فالكواكب هي خارجة عن ذات السماء وهي في السماء فجعلها الله جل وعلا زينة..

ص: 7

فإذا أتت آية مشكلة مثل آية النور في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ؛ يأتي لفظ الزينة هنا، فيُحمل هل يحمل على كل المعهود في اللغة أو يحمل على المعهود في القرآن؟ لاشك أنّ الأولى -كما قال شيخ الإسلام في تفصيله أن يراعى حال معهود المتكلم به والمخاطب والمخاطبين والحال، فهنا في أحد هذه فالقرآن فيه أن الزينة خارجة عن الذات، شيء مجلوب إلى الذات، إذا أتى واحد وقال {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن ما ظهر من الزينة هو الوجه، هذا فسر الزينة بأنه شيء في الذات، وهذا معناه أنه فسرها بشيء غير معهود في استعمال القرآن للفظ الزينة، لهذا كان الصحيح التفسير المشهور عن الصحابة كابن عباس وابن مسعود وغيرهما أنّ الزينة -التفسير المشهور عن ابن عباس وهو مروي عن ابن مسعود وجماعة- أن الزينة هي القرط مثلا الكحل اللباس ونحو ذلك، {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فإذن لا تبدي الزينة؛ لكن ما ظهر منها، ما ظهر من الزينة، ما ظهر من الشيء المجلوب للتزين به فلا حرج على المرأة في ذلك.

فإذن لا تفسر الزينة بأنها الوجه لماذا؟ لأن تفسير الزينة بأنها الزوجة تفسير للزينة بشيء في الذات، وهذا مخالف لما هو معهود من معنى الزينة في القرآن، وهذا له أمثلة كثيرة نكتفي بما مر.

والمقصود بهذا أن معرفة استعمال القرآن للألفاظ التي لها في العربية معاني كثيرة هذا من أعظم العلم بالتفسير، وهذا لا يؤتاه إلا الحافظ للقرآن المتدبر له الذي يعلم تفاسير السلف؛ لأنك تأتي للكلمة ويُشكل تفسيرها فيوردها المفسر على نظائر هذا اللفظ في القرآن، ثم بعد ذلك يظهر له تفسير بعد ذلك وهذه كانت طريقة الصحابة رضوان الله عليهم فيما اجتهدوا في ذلك.

ص: 8

أحيانا وفسروا الآية بخلاف حال المخاطبين، تفسر الآية باحتمال لغوي لكن هذا الاحتمال ليس بوارد على حال المخاطبين، مثلا في قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فيأتي من يأتي من المفسرين بالرأي فيجعلون سؤالهم عن الآلهة سؤالا فلكيا معقدا، وهم إنما سألوا عن الهلال علم يبدوا في أول الشهر صغيرا ثم يكبر ثم يكبر، وكان سؤالا بسيطا؛ لأن هذه هي حال العرب لم يكن عندهم علم الفلك العلم المعقد، إنما سأله عن أمر ظاهر بيّن، فتفسير سؤالهم بأنه سؤال عن أمر فلكي معقد، هذا لم يرعَ فيه حال أولئك، وإنما فُسِّر بغرائب الأهلة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} فيأتي المفسر مثل الرازي وغيره يأتون ينطلقون في الأحوال الفلكية في ذلك.

هذا ليس من المعهود ولا من المعروف في حال الذين سألوا ولا حال العرب الذين نزل القرآن ليخاطبهم أول الأمر.

إذن فهنا حصل الغلط من هذه الجهة.

وهاتان الجهتان لاشك أن الغلط واقع فيهما وكلا الجهتين من التفسير بالرأي؛ لكن الأولى من التفسير بالرأي المذموم الذي توعد فاعله، والثانية من التفسير بالرأي الذي أخطأ من ذهب إليه، فيكون الضابط في التفسير بالرأي أنه فيما اتبع هواه في التفسير صار ذلك من التفسير بالرأي المذموم المردود الذي جاء الوعيد على من قال به، أما التفسير بالرأي الذي يخطئ فيه صاحبه هو ما لم يرعى فيه ما ذكره شيخ الإسلام هنا، وإنما وجهه على أحد الاحتمالات العربية وأخطأ فيما وجه إليه الكلام.

ص: 9

لاشك أن هذا الكلام من شيخ الإسلام تفصيل نفيس، وهو يدل على سعة الإطلاع على كلام المفسرين واختلافهم وآرائهم المباينة لآراء السلف، فلهذا قال: إن التفاسير التي تُذكر فيها أقوال الصحابة والتابعين وتبع التابعين لا تجد فيها مثل هذه الآراء. ذكر لك جملة من التفاسير، وهذه التفاسير منها ما هو مطبوع منها ما هو مخطوط ومنها ما هو مفقود أصلا كتفسير الإمام أحمد رحمه الله تعالى. نعم

[المتن]

وَالْأَوَّلُونَ صِنْفَانِ: تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ.

وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ.

وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ.

وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ.

فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ - مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ.

تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا.

وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ.

ص: 10

وَهَذَا كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَامًا وَجِدَالًا، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ؛ مِثْلِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ. وَمِثْلِ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي. وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني. والجَامِعُ لِعِلْمِ القُرْآنِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ. وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِي؛

فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ: التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.

وتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الجهمية الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَعَنْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَلَا بَصَرٌ، وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ.

وَأَمَّا عَدْلُهُمْ فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا؛ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ، لَا خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا، وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَة.

ص: 11

وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالْمُفِيدِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ لَكِنْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.

وَمِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ إنْفَاذُ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ شَفَاعَةً وَلَا يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنْ النَّارِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ والكَرَّامِيَّة والكُلَاّبِيَّة وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاءُوا أُخْرَى حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ.

وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ:

تَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ.

وَتَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ، إمَّا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ.

ص: 12

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرُوجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ.

ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي مِنْهَا الْعَالِمُ عَجَبَهُ.

فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

[الشرح]

نكتفي لهذا القدر.

* * *

أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري

ص: 13