المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أمثلة على العزيز: - شرح نخبة الفكر للخضير - جـ ٣

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: ‌أمثلة على العزيز:

سمي بذلك إما لقوته أو لندرته وقلته، هناك كتاب اسمه:(فتح الملهم شرح لصحيح مسلم) شرح لمتأخر شبير أحمد، شرح فيه فوائد كثيرة جداً، فيه نقول طيبة، صاحب هذا الكتاب تمنى أن لو سمى المحدثون ما رواه الثلاثة العزيز، وعرفنا أن ابن الصلاح تبعاً لابن منده يسمون ما رواه الثلاثة العزيز، والمشهور ما رواه فوق الثلاثة، تمنى أن لو سمى المحدثون ما رواه الثلاثة بالعزيز لقوله تعالى:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [(14) سورة يس] وما رواه اثنان بالمئزر، يقول: لو سمون أهل الحديث بالمئزر ما سموه عزيز لقوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} [(29) سورة طه] يقول: لأن الاصطلاح كلما قرب من الاستعمال القرآني كان أحسن وأليق، هذا رأيه، لكن بالنسبة للعزيز وما رواه الثلاثة قيل به، وأما بالنسبة للمئزر فلا يوجد في استعمالهم، لا يوجد حديث اسمه: المئزر، لكن هذه أمنية منه أن لو سمى أهل الحديث هذا ليقرب من الاصطلاح القرآني.

‌أمثلة على العزيز:

مثلوا للحديث العزيز بحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)) ادعى ابن حبان أن رواية اثنين عن اثنين لا توجد أصلاً، قال الحافظ ابن حجر: إن أراد أن رواية اثنين عن اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلاً يعني يستوي جميع الإسناد من أوله إلى آخره برواية اثنين عن اثنين يمكن أن يسلم، يقول:"وأما صورة العزيز التي حررناها بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين فموجودة"، يعني كونه يوجد اثنين يروونه عن ثلاثة عن عشرة عن اثنين عن ثلاثة لا بأس، المقصود أنه لا يقل العدد عن اثنين، والزيادة مقبولة؛ لأن العدد الأقل يقضي على الأكثر على ما سيأتي في الغريب.

والعزيز كغيره من أقسام الآحاد لا يوصف بكونه صحيحاً أو غير صحيح، بل منه الصحيح والحسن والضعيف.

ص: 12

ثم قال المصنف: "وليس شرطاً للصحيح خلافاً لمن زعمه"، وليس شرطاً للصحيح خلافاً لمن زعمه، يعني أن العزة ليست بشرط لصحة الخبر، فكون الحديث عزيزاً بأن يروى عن اثنين وهو بمعنىً آخر تعدد الطرق ليست بشرط لصحة الخبر، بل قد يصح الخبر ولو كان مروياً من طريق واحد كالغريب على ما سيأتي، خلافاً لمن زعم ذلك، وإليه يومئ كلام الإمام الحاكم أبي عبد الله في المعرفة، يقول ناظم النخبة:

وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ

وقيل: شرط وهو قول الحاكمِ

في نسخة أخرى.

وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ

وقد رمي من قال بالتوهمِ

لأن الحاكم ليس بصريح، كلام الحاكم ليس بصريح في الاشتراط.

ابن العربي المالكي في شرح البخاري وفي عارضة الأحوذي في شرح حديث: ((هو الطهور ماؤه)) ادعى أن هذا هو شرط البخاري، وأن البخاري لا يخرج حديث يتفرد به واحد، وقال عن حديث البحر:"إنه لم يخرجه البخاري لأنه تفرد به أحد رواته وليس من شرطه".

الكرماني الشارح -شارح البخاري- في مواضع من شرحه يزعم أن تعدد الرواة شرط للبخاري في صحيحه، لكن هذه الدعوى مرفوضة وليست صحيحة، ويكفي في رد هذه الدعوى أول حديث في صحيح البخاري وآخر حديث في صحيح البخاري أول حديث في الصحيح حديث:((إنما الأعمال بالنيات)) إنما يروى من طريق عمر رضي الله عنه فقط، لم يثبت إلا من طريق عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من طريق عمر إلا عن علقمة بن وقاص الليثي فقط، تفرد بروايته عن عمر، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، تفرد بروايته عن علقمة، ولم يروه عنه سوى يحيى بن سعيد الأنصاري تفرد به، ثم انتشر بعد يحيى بن سعيد، حتى وصلت طرقه المئات عن يحيى بن سعيد.

آخر حديث في الكتاب: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) هذا أيضاً مثل أول حديث التفرد وقع في أربع من طبقات إسناده تفرد به أبو هريرة وعنه أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، وعنه عمارة بن القعقاع، وعنه محمد بن فضيل، وعن محمد بن فضيل انتشر، مثل حديث: الأعمال بالنيات سواء.

الغريب:

والرابع من تقسيم الحافظ: الغريب.

تعريف الغريب في اللغة:

ص: 13

في اللغة مأخوذ من الغرابة تقول: غرب الشخص عن وطنه أي بعد، وجمعه غرباء، ويجمع المحدثون الغريب على غرائب، وللدار قطني كتاب في غرائب مالك.

تعريف الغريب في الاصطلاح:

الغريب في الاصطلاح: ما رواه واحد منفرد بروايته في أي موضع من السند، يقول الحافظ: الغريب والفرد مترادفان لغة واصطلاحاً إلا أن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثيرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي، هذا من حيث إطلاق الاسمية عليهما، أما من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون بين الغريب والفرد، فيقولون في المطلق والنسبي: تفرد به فلان، وأغرب به فلان، لكن الحافظ نوزع في دعواه الترادف اللغوي، نوزع، يقول: هما مترادفان لغة واصطلاحاً، لكنه نوزع في ذلك يقول ابن فارس في المجمل: غرب بعد، والغربة الاغتراب عن الوطن، والفرد الوتر والمنفرد، فعلى هذا الفرد غير الغريب في اللغة.

وأما من حيث الفرق بينهما من حيث الاصطلاح ذكره الحافظ رحمه الله، أقسام الغريب تأتي -إن شاء الله تعالى-.

مثال الغريب:

ومثاله: حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ومسح رأسه بماء غير فضل يديه، رواه مسلم، قال الحاكم: هذه سنة غريبة تفرد بها أهل مصر ولم يشاركه فيها أحد، ومثال الفرد حديث:((إنما الأعمال بالنيات)).

حكم الغريب:

والغريب كسابقه لا يحكم له بحكم عام مطرد، بل قد يكون صحيحاً وقد يكون حسناً وقد يكون ضعيفاً، لكن الغالب في الفرائد الضعف؛ لأن تفرد الراوي بالحديث مظنة الخطأ والوهم، ولذا حذر العلماء من الغرائب ونهوا عن الاستكثار منها.

الآحاد:

يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "وكلها سوى الأول آحاد"، يعني الأقسام الثلاثة المشهور والعزيز والغريب آحاد، "سوى الأول" يعني المتواتر.

الآحاد لغة:

والآحاد في اللغة: جمع أحد، الآحاد في اللغة جمع أحد، بمعنى الواحد قاله في القاموس، وفي العباب سئل أبو العباس ثعلب: هل الآحاد جمع أحد؟ فقال: معاذ الله ليس للأحد جمع، فقال: معاذ الله ليس للأحد جمع، ولكن إن جعلته جمع الواحد فهو محتمل كشاهد وأشهاد.

ص: 14

قلنا لغة: جمع أحد بمعنى الواحد كما في القاموس، وهنا أبو العباس ثعلب وهو من ثقات اللغويين يقول:"معاذ الله ليس للأحد جمع، ولكن إن جعلته جمع واحد فهو محتمل كشاهد وأشهاد".

هل هذا الكلام متعارض؟ نعم؟ ثعلب حينما نفى أن يكون للأحد جمع نظر إلى أن الأحد من أسماء الله سبحانه وتعالى، وهو واحد أحد فرد صمد لا يشركه في هذا الاسم أحد، حينئذٍ إذا جمعنا أحد على آحاد كأننا جمعنا الرحمن وهو من أسماء الله عز وجل، لكن كم في الشهر من أحد؟ أربعة إيش؟ آحاد، هو نظر إلى أن أحد اسم من أسماء الله عز وجل، فقال: لا يجمع، "معاذ الله ليس للأحد جمع"، لكن إذا نظرنا إلى أن الأحد يطلق على غير الله سبحانه وتعالى نجمع، كما نجمع كريم، وهو من أسماء الله على كرماء، وعليم على علماء وهكذا.

الآحاد في الاصطلاح:

الآحاد في الاصطلاح ما اختل فيه شرط من شروط التواتر، أو ما لم يجمع شروط المتواتر، يقول إمام الحرمين:"ولا يراد بخبر الواحد الخبر الذي ينقله الواحد، ولكن كل خبر عن جائز ممكن لا سبيل إلى القطع بصدقه، ولا إلى القطع بكذبه، لا اضطراراً ولا استدلالاً فهو خبر الواحد"، وخبر الواحد والآحاد سواءٌ نقله واحد أو جماعة منحصرون، يعني ما لم يبلغ إلى حد التواتر فهو آحاد، سواء رواه واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ما لم يبلغ حد التواتر.

سم.

المقبول والمردود:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:

"وفيها المقبول والمردود لتوقف الاستدلال بها على البحث عن أحوال رواتها دون الأول، وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار".

يكفي، يكفي، يقول الحافظ -رحمة الله عليه-:"وفيها المقبول" يعني في أخبار الآحاد المقبول، لكونه صحيحاً أو حسناً، وفيها ما يكون مردوداً لضعفه تبعاً لأسانيدها ونتيجة البحث عن رواتها، دون القسم الأول وهو المتواتر، القسم الأول كله مقبول ليس فيه مردود، بل مقطوع بصدقه وصحته، أما الآحاد فيها المقبول وفيها المردود، فيها الصحيح، فيها الحسن، فيها الضعيف، على ما تقدم.

ص: 15

ثم قال: "وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار"، عندنا أمور، عندنا العلم والظن والشك والوهم، العلم والظن والشك والوهم، الذي لا يحتمل النقيض بوجه لا يحتمل النقيض بل مقطوع بصحته وهو الذي نسبة الصدق فيه ومطابقة الواقع مائة بالمائة، هذا يقال له: علم، إذا نزلت هذه النسبة ولو واحد تسعة وتسعين فما دون هذا يقال له: الظن، وهو الاحتمال الراجح، إذا استوى الطرفان صارت النسبة خمسين بالمائة صار شكاً، إذا نزل عن خمسين بالمائة يقابل الظن الوهم، الوهم.

ص: 16

يقول: "قد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن"، عرفنا أن المتواتر يفيد العلم الضروري، يفيد العلم الضروري في أخبار الآحاد ما يفيد العلم النظري، فيها ما يفيد العلم النظري، بالقرائن أيضاً، فيعني أن أخبار الآحاد قد يقع فيها ما يفيد العلم النظري، وعرفنا أن العلم النظري: ما يحتاج إلى نظر واستدلال، هذا أشرنا إليه سابقاً، أهل العلم مختلفون فيما يفيده الخبر الواحد، هل يفيد العلم مطلقاً أو يفيد الظن مطلقاً أو يفيد العلم بالقرائن؟ إن احتفت به قرينة أفاد العلم وإلا أفاد الظن؟ نقول: هذه المسألة لا بد من استيعابها؛ لأنه كثر الكلام حولها، النووي -رحمه الله تعالى- عزا للمحققين والأكثرين أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، إيش معنى لا يفيد إلا الظن؟ يعني أن النسبة أقل من مائة بالمائة، تسعة وتسعين فما دون، لماذا؟ لأن الرواة مهما بلغوا من الحفظ والضبط والإتقان إلا أنهم ليسوا بمعصومين من الخطأ، ولوجود هذا الاحتمال نزلت النسبة من مائة بالمائة إلى تسعة وتسعين فما دون، وكل بحسبه، كل بحسبه، كل شخص تعطيه من النسبة ما يليق به، فإذا أعطيت الإمام مالك نجم السنن تسعة وتسعين أو ثمانية وتسعين بالمائة من الإصابة لا تستطيع أن تعطيه مائة بالمائة؛ لأنه ليس بمعصوم، صح إلا لا؟ نعم، إذاً تعطيه غلبة ظن تسعة وتسعين ثمانية وتسعين، حصل أوهام للإمام مالك وهو نجم السنن، وغيره وغيره حصل أخطاء، هذه تجعل الإنسان ينزل النسبة عن مائة بالمائة، فإذا نزلت النسبة مائة بالمائة انتقل ما يفيده هذا الخبر من العلم إلى الظن، وعرفنا أن الظن يطلق ويراد به اليقين والاعتقاد الجازم، ويطلق ويراد به غلبة الظن، والمراد به هنا غلبة الظن لا اليقين الجازم، ولا الوهم الذي لا يغني من الحق شيئاً، إنما يطلق ويراد به الغلبة، فأنت حينما يبلغك خبر يقول لك شخص: جاء زيد فنسبة تصديقك بهذا الخبر تتبع ثقة هذا الرجل المخبر عندك، فإن كنت ممن يثق بهذا الرجل وهو صدوق عندك ما جربت عليه كذب تقول: الخبر صحيح؛ لأن الناقل ثقة، ولا يعني هذا أنه مطابق للواقع مائة بالمائة لاحتمال أن يكون أخطأ، رأى شخص فظنه زيد وهو ليس بزيد، ظاهر وإلا مو بظاهر؟ إذاً نزلت النسبة

ص: 17

عن مائة بالمائة، قال لك شخص: جاء عمرو وهذا الشخص يصدق غالباً وجربت عليه كثرة الخطأ يخطئ هل يورثك خبره غلبة ظن؟ أو تقول: شك؟ احتمال جاء؛ لأن هذا الرجل ما هو بكاذب -إن شاء الله-، واحتمال أنه ما جاء احتمال من ضمن أخطائه التي يخطئ يصير منها هذا، نعم، يمكن، فمثل هذا يورث الشك، جاء عمرو أو ما جاء الله أعلم؛ لأن هذا جربت عليه الخطأ بكثرة فيورث عندك الشك، فإذا كان خطأه عندك أكثر من صوابه خبره يكون وهماً بمعنى أنه احتمال مرجوح، ولا يعني أنه هذا كذب مائة بالمائة، لا؛ لأن هذا الشخص كثير الخطأ قد يضبط، وهذا الشخص وإن كان كذوباً قد يصدق، الاحتمال قائم، مثلما قلنا في الطرف الأول احتمال الخطأ وراد، وهنا احتمال الصدق ومطابقة الواقع وارد، فالأخبار لا شك أنها متفاوتة تبعاً لأحوال المخبرين، فمن المخبرين ما يفيد خبرهم غلبة الظن، ومنهم ما يورث الشك، ومنهم ما خبره أو ما يسمى بالوهم عند أهل العلم، وهو الاحتمال المرجوح.

نعود إلى خبر الواحد خبر الواحد سواء رواه واحد أو اثنين أو ثلاثة أو عدد محصور، نسب النووي إلى المحققين والأكثرين أنه لا يفيد إلا الظن، وحجة هؤلاء أن الراوي وإن كان ثقة حافظاً ضابطاً إلا أنه غير معصوم من الخطأ والسهو، وإذا وجد هذا الاحتمال فإن النفس لا تجزم بصحة الخبر، يعني يغلب على الظن أن الخبر صحيح، هناك قول ثاني في المسألة وهو قول حسين الكرابيسي وداود الظاهري، وحارث المحاسبي، قال هؤلاء: إن خبر الواحد إذا صح يوجب العلم، وهو مروي عن الإمام أحمد، يعني هل هذا القول يختلف عن سابقه؟ يختلف، أولئك يقولون: يفيد الظن، وهؤلاء يقولون: يفيد العلم، هؤلاء نظروا إلى الظن من زاوية وهي أن الظن لا يغني من الحق شيئاً، نعم الظن لا يفيد، وهذا من معانيه، وإذا كان الظن لا يفيد كيف نعمل بخبر يفيد الظن وهو لا يغني من الحق شيئاً؟ كيف نعمل بخبر لا يغني من الحق شيئاً؟

ص: 18

أولاً: أصحاب القول الأول والثاني والثالث كلهم يتفقون على أن العمل بخبر الواحد واجب، يجب العمل بخبر الواحد، أصحاب القول الأول يقولون: وإن كان لا يفيد إلا الظن إلا أنه يجب العمل به في جميع أبواب الدين، في العقائد، في العبادات، في المعاملات، في الأنكحة، في الجنايات، في جميع أبواب الدين، يجب العمل به خبر الواحد وإن كان لا يفيد إلا الظن، أصحاب القول الثاني يقولون: كيف نعمل بحديث: لا يغني من الحق شيئاً ونقول: إنه يفيد الظن؟ إذاً خبر الواحد إذا صح يفيد العلم، ويجب العمل به، أولئك يقولون: يفيد الظن ويجب العمل به، أقول: لعله مما يحتج به لهؤلاء وجوب العمل به والعمل ملازم للعلم.

القول الثالث: أنه يوجب العلم ويقطع به إذا احتفت به قرائن، هذا الذي أشار إليه الحافظ بقوله:"وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن"، يوجب العلم ويقطع به إذا احتفت به قرائن، كيف؟ هذا فرع من القول الأول، هو في أصله لا يفيد إلا الظن، وعرفنا أنه يفيد الظن لأن النسبة ما بلغت مائة بالمائة، وصلت تسعين خمسة وتسعين تسعة وتسعين بالمائة، ثم جاءت هذه القرينة التي احتفت بهذا الخبر فصارت في مقابل ما نزل من نسبة المائة بالمائة، أما إذا قلنا: خبر مالك نعم تسعة وتسعين أو ثمان وتسعين الاحتمال واحد بالمائة، هذه القرينة تقاوم هذا الواحد بالمائة، فخبر مالك الآن أفادنا مائة بالمائة؛ لأنه احتفت به قرينة، ومثله غيره من الثقات، إذا احتفت بأخبارهم قرائن أفادت العلم.

من القرائن: كون الحديث مشهور بحيث تكون له طرق متباينة، سالم من ضعف الرواة والعلل كون الحديث مسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، وذلك بأن يكون رجال إسناده الأئمة كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك مثل هذا إذا تتابع مثل هؤلاء الأئمة على روايته، هل يكون هناك مجال لاحتمال الخطأ؟ لا احتمال لمجال الخطأ، لماذا؟ لأنه لو أخطأ مالك ما وافقه الشافعي على روايته، ولو أخطأ الشافعي ما وافقه أحمد على روايته، إذاً هذه قرينة تجعلنا نجزم بثبوت الخبر، ولا يوجد احتمال النقيض عندنا.

ص: 19

من القرائن: أن يكون الحديث مما خرجه الشيخين في صحيحيهما لجلالتهما وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما ولتلقي الأمة بالقبول لكتابيهما، هذه قرينة كون الحديث مخرج في الصحيحين أو في أحدهما، الصحيحان كتابان هما أصح الكتب بعد القرآن، الأمة تلقت هذين الكتابين بالقبول، حتى قال بعضهم: لو حلف أحد بالطلاق أن جميع ما في الصحيحين صحيح ما حنث، نعم، إذا اتفق الشيخان على تخريج الحديث فلا مجال لأحد في الكلام فيه والطعن فيه، إذا أخرج البخاري حديث كذلك مسلم حديث لا مجال لأحد، وقد استثنى أهل العلم أحاديث يسيرة تكلم عليها بعض الحفاظ، حصل فيها بعض الكلام لأهل العلم سواءً كانت في متونها أو في أسانيدها، المقصود أن مثل هذه الأحاديث وعددها يسير لا مانع أن تخرج من كونها مفيدة للقطع مع أن الغالب أن الإصابة مع البخاري ومسلم في هذه الأحاديث، لكن الأحاديث التي لم يتكلم عليها أحد مقطوع بصحتها، وتخريج الشيخين قرينة على ثبوت الخبر.

طيب، الآن ما الراجح من هذه الأقوال؟ هل نستطيع أن نقول: إن خبر الواحد مطلقاً يفيد العلم؟ يعني كل من أخبرك بخبر وهو ثقة عندك تجزم بأن خبره صحيح، تبرأه من الخطأ؟ لا، إذاً لا بد أن تنزل هذه النسبة وهو الظن، فأرجح الأقوال ما اختاره ابن حجر من أن خبر الواحد إذا احتفت به قرينة أفاد العلم وإلا فلا، يعني خبر الواحد في أصله يفيد الظن لكن إذا احتفت به قرينة أفاد العلم، وهذا القول رجحه ابن القيم، وأطال في تقريره في الصواعق المرسلة وممن صرح بهذا القول الغزالي في المنخول، والرازي في المحصول، والآمدي وابن الحاجب، ونقله السفاريني في لوامع الأنوار عن الموفق وابن حمدان والطوفي، وقال المرداوي في شرح التحرير:"وهذا أظهر وأصح"، سبب ترجيح هذا القول: أن القرينة التي احتفت بالخبر تكون في مقابل الاحتمال الذي أبداه أصحاب القول الأول، نعم.

أقسام الغريب:

"ثم الغرابة: إما أن تكون في أصل السند، أو لا: فالأول: الفرد المطلق، والثاني: الفرد النسبي، ويقل إطلاق الفردية عليه.

ص: 20

يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: "ثم الغرابة" التي تقدم تعريفها وهي: انفراد الراوي برواية الخبر ولو في بعض طبقات السند، إما أن تكون في أصله، في أصل السند، الطرف الذي فيه الصحابي "أو لا" يعني في أثنائه، "فالأول: الفرد المطلق، والثاني: الفرد النسبي ويقل إطلاق الفردية عليه" حاصل كلام الحافظ رحمه الله أن الغريب ينقسم إلى قسمين الفرد المطلق وهو ما كانت الغرابة في أصل سنده، يعني طرفه الذي فيه الصحابي، ومثاله حديث: الأعمال بالنيات على ما تقدم، لم يروه عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا عمر،

الثاني: الفرد النسبي وهو ما كانت الغرابة في أثناء سنده، في أثناء سنده، يعني يرويه عن الصحابي أكثر من واحد ثم يتفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد، الآن تفرد الصحابي هل يضر أو لا يضر؟ لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم ثقات، كلهم ثقات عدول، لكن العبرة بتفرد من دونهم، هذا هو المؤثر؛ لأن من دونهم فيهم الثقات وغير الثقات، فالفرد المطلق هو الذي تفرده في أصل السند، وكلام أهل العلم أحياناً يجملون فيدخلون التفرد حتى في الصحابي، وأحياناً يستثنون طبقة الصحابة، وأن الواحد من الصحابة بالنسبة لمن دونهم في حكم الجمع، وهنا قال الحافظ -رحمه الله تعالى- في تقرير النسبية:"كأن يرويه عن الصحابي أكثر من واحد ثم يتفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد" فأخرج طبقة الصحابة، مثلوا لذلك بحديث أنس: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة وعلى رأسه المغفر، تفرد به مالك عن الزهري.

ويدخل في النسبي ما يقع فيه التفرد بالنسبة إلى جهة خاصة أياً كانت تلك الجهة كأن يتفرد به ثقة عن ثقة وإن رواه جمع لكنهم غير ثقات، أو يتفرد به أهل بلد أو قطر أو قبيلة بحيث لا يرويه غيرهم، هذا أيضاً من الفرد النسبي، وإن رواه مجموعة من أهل ذلك البلد أو أهل القطر أو تلك القبيلة، أو يتفرد به راوٍ عن غيره ثقة كان أو غير ثقة، يتفرد به عن شعبة فلان، يتفرد به غندر عن شعبة محمد بن جعفر، وإن رواه جمع عن غير شعبة هذا تفرد نسبي بأن لا يرويه عن هذا الشيخ غيره، وإن كان مروياً من وجوه أخرى عن غيره، نعم.

الصحيح:

ص: 21

أحسن الله إليك: "وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته".

يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: "وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته".

هذا هو الصحيح لذاته ما توافرت فيه هذه الشروط، لما انتهى المؤلف -رحمه الله تعالى- من تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد، ثم قسم خبر الآحاد إلى الثلاثة بالنسبة إلى تعدد طرقه شرع في تقسيم أخبار الآحاد من جهة أخرى، وهي من حيث الثبوت وعدمه، من حيث الثبوت وعدمه، من حيث القوة والضعف من حيث القبول والرد، فقسمه إلى ثلاثة أقسام على سبيل الإجمال، وهي خمسة على سبيل البسط:

أولها: الصحيح لذاته، والحسن لذاته، والضعيف هذا إجمالاً، ثم الصحيح والحسن والضعيف، ثم على سبيل التفصيل: الصحيح لذاته، الصحيح لغيره، الحسن لذاته، الحسن لغيره، الضعيف.

وأهل هذا الشأن قسموا السنن

ج إلى صحيح وضعيف وحسن

ج

الصحيح عرفه الحافظ: بخبر ما ينقله عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته.

فالأول المتصل الإسنادِ

عن مثله من غير ما شذوذِ

ج بنقل عدل ضابط الفؤادِ

وعلة قادحة فتوذي

المقبول والصحيح والحسن وإن شئت فقل الصحيح لذاته والصحيح لغيره والحسن لذاته والحسن لغيره، والمردود هو الضعيف بأقسامه، وهو أقسام كثيرة جداً، يأتي ذكر ما تيسر منها -إن شاء الله تعالى-.

الأول من هذه الأنواع هو الصحيح لذاته: وحاصله: أنه ما اشتمل على خمسة شروط: عدالة الرواة، تمام الضبط، اتصال السند، انتفاء العلة، انتفاء الشذوذ، إذا اجتمعت هذه الشروط الخمسة: عدالة الرواة، تمام الضبط، اتصال السند، انتفاء الشذوذ، انتفاء العلة القادحة.

إذا توافرت هذه الشروط الخمسة صار الخبر صحيحاً لذاته، فالعدالة مصدر عدل عدالة، والعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والملكة هي: الصفة الراسخة الثابتة، والتقوى: فعل المأمورات واجتناب المنهيات، والمروءة قال أهل العلم: إنها آداب نفسانية تحمل مراعاتها على التحلي بمحاسن الأخلاق وجميل العادات.

ص: 22

والضابط: الحافظ، اليقض، غير المغفل والشاك والساهي، وهذا مطلوب في حالتي التحمل والأداء، يعني إذا تحمل الحديث عن غيره المطلوب أن يكون ضابطاً، لكن العدالة إنما تطلب للأداء، ولا تتطلب للتحمل، بمعنى أن الصغير غير المكلف يصح تحمله، محمود بن الربيع عقل المجة ورواها للناس وسنه خمس سنوات، وروى عن النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث، هل يوصف الصغير بأنه عدل؟ لا، بل من شرط صحة الرواية عند الأداء أن يكون بالغاً مكلفاً، تحمل الكافر، تحمل الفاسق صحيح، لكن لا يؤخذ عنه هذا الخبر إلا إذا ارتفع عنه الوصف الكفر والفسق، جبير بن مطعم سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في الفجر بسورة الطور قبل أن يسلم فأدى هذه السنة، وقبلها أهل العلم وخرجت في الصحيح؛ لأنهم لا يشترطون في حال التحمل شرط، لكن إذا أراد أن يؤدي قيل: قف، هل هو ثقة أو ليس بثقة؟ فعدالة الرواة إنما تطلب في حال الأداء، الضبط يطلب في حال الأداء والتحمل لكن الذي لا يتحمل وهو ضابط لن يؤدي وهو ضابط، لكن قد يروي وهو غير ثقة ثم يؤدي وهو ثقة هذا متصور، لكن هل يتصور أن شخصاً يتحمل وهو غير ضابط ثم يؤدي وهو ضابط؟ نعم، لا، ولذا اشترطوا في الضبط أن يكون في حالتي التحمل والأداء.

والضبط نوعان: ضبط صدر وهو الذي يثبت فيه في صدره بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، وضبط كتاب وهو صون الكتاب عن تطرق الخلل إليه من حين سمع فيه إلى أن يؤدي منه، بحيث لا يخرجه من يده ولا يعيره إلى أحد إلا إذا كان ثقة، لا يعير الكتاب إلى شخص يزيد فيه وينقص ويحرف ويطمس، لا.

واتصال السند بأن يكون كل راوٍ من رواته قد تحمله ممن فوقه بطريق معتبر من طرق التحمل كالسماع والعرض والمناولة والمكاتبة وغيرها على ما سيأتي الإشارة إليه -إن شاء الله تعالى-.

والعلة: سبب خفي غامض يقدح في صحة الحديث الذي في ظاهره السلامة منها، ويأتي الكلام عن الحديث المعل -إن شاء الله تعالى-.

الشاذ:

والشاذ: هو ما خالف فيه الثقة من هو أثق منه، ويأتي الحديث عن الشاذ في موضعه -إن شاء الله تعالى-.

ص: 23

وقوله: الصحيح لذاته يخرج الصحيح لا لذاته بل لغيره، هناك الصحيح لكنه لا لذاته، وإنما هو صحيح لغيره، هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه، إذا وجد أكثر من حديث حسن لذاته بأن تعددت الطرق يرتقي إلى الصحيح لغيره.

والحسن المشهور بالعدالة

طرق أخرى نحوها من الطرق

ج والصدق راويه إذا أتى له

صححته كمتن (لولا أن أشق)

ج

المقصود أن الحسن إذا تعددت طرقه صار صحيحاً لا لذاته بل صحيح لغيره.

نعم.

أحسن الله إليك:

"وتتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف، ومن ثم قدم صحيح البخاري، ثم مسلم، ثم شرطهما".

ص: 24

يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "تتفاوت رتبه –رتب الصحيح- بتفاوت هذه الأوصاف" تتفاوت رتب الحديث الصحيح بتفاوت هذه الأوصاف، عندنا الأوصاف: العدالة، والضبط، اتصال السند، انتفاء الشذوذ، انتفاء العلة، إذا اكتملت هذه الشروط حكمنا على الحديث بأنه صحيح، وجدت هذه الشروط في خمسة أحاديث مثلاً عندنا حكمنا على الأحاديث الخمسة بالصحة هل يعني هذا أن كل حديث من هذه الأحاديث بمنزلة الآخر مائة بالمائة مطابقة تامة؟ هل نقول: إذا حكمنا على الأول بنسبة خمسة وتسعين بالمائة صحيح وعلى الثاني لا بد أن يكون خمسة وتسعين بالمائة لأنهم كلهم ثقات عدول مرضيون؟ لا، عندك زيد وعمرو كلاهما ثقات لكن هل معنى هذا أن الدرجة واحدة في الثقة؟ لا، ولذا قال:"تتفاوت رتبه بتفاوت هذه الأوصاف"، يعني أن درجات الحديث الصحيح تتفاوت بالقوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها، قال ابن الصلاح:"وتنقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العد الحاصر"، لماذا؟ لأن الرواة ما خرجوا من مصنع على هيئة واحدة، يعني السيارات تجيك يعني أول دفعة من الموديل ألف سيارة هل تقول: إن هذه أفضل من هذه إذا كان من كل وجه متطابقة من حيث اللون وغيره، وخرجت لمصنع واحد واحدة، نعم يصنع المصنع من هذه القارورة مليون مثلاً هل تقول: هذه أفضل من تلك؟ لكن كم بين مخلوقات الله من التفاوت! هل يمكن أن تجد شخصين متطابقين من كل وجه؟ لا يمكن، لا يمكن أن تجد اثنين متطابقين من جل وجه، لا يمكن، ولذا قد يضبط هذا الحديث واختل ضبطه أو ينزل ضبطه قليلاً في ذاك الحديث، والثاني العكس، فلذا تفاوتت رتب الصحيح تفاوتاً كبيراً، بحيث زادت أقسامه واستعصت على العاد الحاصر.

يقول ابن حجر في النزهة: "لما كانت هذه الأوصاف" يعني الشروط مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة "اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية، وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما ودنه".

ص: 25

يقول: فمن المرتبة العليا ما أطلق عليه الأئمة أنه أصح الأسانيد، كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، يعني ومالك عن نافع عن ابن عمر، والمعتمد عند أهل العلم ألا يطلق على سند بأنه أصح مطلقاً من غيره، يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:

. . . . . . . . .

إمساكنا عن حكمنا على سند

خاض به قوم فقيل مالك

وجزم ابن حنبل بالزهري

. . . . . . . . . والمعتمد

بأنه أصح مطلقاً وقد

عن نافع بما رواه الناسك

عن سالم أي عن أبيه البري

ج

اختار بعض أهل العلم أن هناك أسانيد هي أصح من غيرها مطلقاً، لكن المعتمد عند أهل العلم أنه لا يوصف سند بأنه أصح من غيره مطلقاً، يقول:"كالزهري عن سالم عن أبيه، ودونها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، ودونها سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط إلا أن للمرتبة الأولى من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم على التي تليها، وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة"، الزهري عن سالم عن أبيه هذا شرط الشيخين، وهو أصح الأسانيد عند الإمام أحمد، حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس شرط مسلم فيكون أقل من سابقه، سهيل بن أبي صالح عرف بشيء من سوء الحفظ وهو أقل من التي قبلها.

الثالثة: سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مقدمة على رواية من يعد ما ينفرد به حسناً كمحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

قال الحافظ: "ومن ثم قدم صحيح البخاري ثم مسلم ثم شرطهما"، قدم صحيح البخاري ثم صحيح مسلم ثم ما حوى شرط البخاري ومسلم، ثم ما حوى شرط البخاري فقط، ثم ما حوى شرط مسلم فقط، ثم ما صح عند غيرهما مما ليس على شرطيهما.

ص: 26

وأول من صنف في الصحيح المجرد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله تعالى-، ثم تلاه تلميذه وخريجه الإمام مسلم بن الحجاج، وأما قول الإمام الشافعي:"ما على ظهر الأرض كتاب في العلم بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك" فقد كان قبل وجود الصحيحين، قبل وجود الصحيحين لا يوجد أصح من الموطأ، ثم لما وجد الصحيحان -صحيح البخاري وصحيح مسلم- قدما على موطأ الإمام مالك وعلى غيره من الكتب، إذا عرفنا هذا فالصحيحان –أعني صحيح البخاري وصحيح مسلم- أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل إجماعاً، وجمهور أهل العلم على أن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم وأكثر فوائد لإمامة البخاري وتقدمه في الفن ومزيد استقصائه وتحريه، ومسلم تلميذه وخريجه حتى قال الدارقطني:"لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء" وهذا التفصيل من حيث الإجمال، من حيث الإجمال صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم لإمامة البخاري، هذا من حيث الإجمال؛ لأن الغالب أنه إذا كان المؤلف أعلم كان المؤلَف أجود إجمالاً، أما من حيث التفصيل فالإسناد الصحيح مداره على الاتصال وعدالة الرواة وصحيح البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً كما قرره أهل العلم، وبيان ذلك أن الرواة الذين انفرد الإمام البخاري بالإخراج لهم دون مسلم ممن تكلم فيه بالضعف ثمانون راوياً فقط، بينما المتكلم فيه بالضعف مما تفرد به الإمام مسلم مائة وستون راوياً على الضعف، ولا يعني هذا أنه إذا وجد راوي تكلم فيه ممن خرج له في الصحيح، سواءً كان صحيح البخاري أو صحيح مسلم أن الكلام مقبول، ما يلزم، لا يلزم أن يكون الكلام مقبولاً؛ لأن رواة الصحيحين قد جازوا القنطرة كما قرر أهل العلم، لكن الراوي الذي لم يجرح أصلاً لا شك أنه أولى من الراوي الذي تكلم فيه ولو بغير حق.

ص: 27

أيضاً: الذين انفرد البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من التخريج لهم بخلاف مسلم، والذي تكلم فيهم عند البخاري غالبهم من شيوخه الذين لقيهم وعرفهم وخبر أحاديثهم بخلاف من تكلم فيه من رواة مسلم فكثير منهم ممن تقدم عصره على عصر الإمام مسلم، ولا شك أن المرء أعرف بحديث شيوخه من حديث غيرهم، وأيضاً أكثر هؤلاء الذين تكلم فيهم عند البخاري إنما يخرج الإمام البخاري أحاديثهم في الشواهد لا في الأصول، وبعض من تكلم فيه في صحيح مسلم خرج له في الأصول، وإن كان الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- لا يستوعب أحاديث هؤلاء الذين وقع الكلام فيهم وإنما ينتق من أحاديثهم ما يجزم بأنهم ضبطوه وأتقنوه مما وفِقُوا عليه، هذا من حيث عدالة الرواة.

أما ما يتعلق باتصال الإسناد فإن الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- كان مذهبه بل نقل عليه الإجماع في مقدمة صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعِن ومن روى عنه بالعنعنة وأمكن اجتماعهما، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت الاجتماع ولو مرة، وهذا هو المعروف عند أهل العلم، وهذا الذي قرروه أن البخاري لا يحكم بالاتصال بمجرد المعاصرة حتى يثبت اللقاء، هذا الذي تتابع عليه أهل العلم، وبعض المعاصرين كتب في المسألة وذهب إلى أن مذهب البخاري هو مذهب مسلم ولا خلاف بينهما.

ص: 28

وعلى كل حال الإمام مسلم رد على من يرى اشتراط اللقاء، وشدد عليه ووصفه بالابتداع، ووصف القول بأنه مخترع، ويقول القائل: لا يمكن أن يصف مسلم الإمام البخاري بهذا القول، حتى لو قيل: إن المراد علي بن المديني وقلنا: إن البخاري يرى هذا القول ومسلم يعرف مذهب شيخه، لا يمكن أن يصف البخاري بهذا القول الشديد، والعلماء قاطبة تتابعوا على هذا، على أن رأي البخاري لا بد من ثبوت اللقاء، إذاً كيف يشنع مسلم ويشدد على من يرى ثبوت اللقاء، ويصف القول بأنه قول مخترع مبتدع، وأنه وجد أحاديث بالعنعنة لا تروى إلا معنعنة ولم يثبت لقاء الراوي لمن روى عنه، وضرب لذلك أمثلة بأحاديث، لكن هذه الأحاديث مخرجة عند مسلم بالتصريح بالتحديث، مسلم يقرر أنها لم ترو إلا معنعنة، ولم يثبت لقاء الراوي لمن روى عنه مع أن مسلم خرج هذه الأحاديث بالتصريح هذا من جهة.

الأمر الثاني: كون الإمام مسلم يشنع على المبتدع الذي يقول بهذا القول المبتدع المخترع لا يعني أنه يرد على البخاري، نعم نقول: هذا من شدة تحري البخاري واحتياطه، من شدة تحري الإمام البخاري واحتياطه، وكون بعض المبتدعة يستفيد من قول البخاري في تأييد بدعته لا يعني أننا نرد على الإمام البخاري الذي تحرى واحتاط للسنة.

ص: 29

عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رد على أبي موسى حديث الاستئذان حتى يشهد له غيره احتياطاً وشدة تحري لما ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يعتمد المعتزلة على هذا الخبر على شدة تحري عمر رضي الله عنه وشدة احتياطه، يعتمد المعتزلة في رد خبر الواحد، وإذا أردنا أن نرد على المعتزلة هل نرد على عمر؟ نعم، حينما يرد أهل السنة على المعتزلة الذين يردون خبر الواحد هل هم يردون على عمر رضي الله عنه؟ لا، أظن هذا ظاهر، ظاهر وإلا لا؟ عمر رضي الله عنه رد خبر الاستئذان على أبي موسى حتى يشهد له غيره، فالإنسان إذا أوجس خيفة وأراد أن يحتاط لنفسه ولدينه وهذا مسئول مسئول عن الدين، أمير المؤمنين، هذه وظيفة ولي الأمر الاحتياط للدين وأهله، الاحتياط للدين وأهله، فكونه يرد خبر الاستئذان على أبي موسى حتى يشهد له غيره لا يعني أن عمر رضي الله عنه يرد خبر الواحد، كونه يحتاط لأمر من الأمور ويستغل هذا الاحتياط لأمور أخرى لا يعني أنه يقول بهذا القول المخترع المبتدع، يعني الإمام البخاري حينما يحتاط للسنة ويطلب لصحيحه الشرط القوي هذا لا يعني أنه لا يصحح غير ما اشتمل عليه الشرط، صحح أحاديث فيما نقله الترمذي وغيره دون شرطه في الصحيح، شرطه في الصحيح في غاية القوة، خرج أحاديث في الأدب المفرد صححها أهل العلم وهي ليست على شرطه في الصحيح؛ لأن شرطه في الصحيح أقوى، فكون الإمام مسلم -رحمة الله عليه- يرد على من يقول بهذا القول المخترع نعم يرد على من يجير -يعني بلغة العصر- يجير قول الإمام البخاري تأييداً لمذهبه وبدعته، يعني حينما يحصل كلام فيه إجمال لإمام من أئمة المسلمين ويحتمل أكثر من معنى فيأتي شخص فيحمله على المعنى الذي يريده لغرض ما، فإذا رددنا على هذا الشخص الذي حمل قول الإمام على الغرض الذي يريده فإننا لا نرد على الإمام بل نحمله ونرده إلى نصوصه الواضحة المبينة المفسرة ونترك مثل هذا المجمل.

ص: 30

على كل حال المسألة تحتاج إلى بسط طويل، وألف في هذا من قبل المتقدمين كتب في الخلاف بين الإمامين البخاري ومسلم في السند المعنعن لابن رشيد الفهري، وهو من أئمة هذا الشأن كتاب اسمه:(السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن) هذا كتاب نفيس ينبغي أن يطلع عليه طالب العلم، وأهل العلم في كل من كتب في مصطلح الحديث ينسب هذا القول للإمام البخاري، ولا يعني هذا أن الإمام البخاري لا يصحح الحديث إلا باللقاء، نعم هو لا يدخله في صحيحه إلا بثبوت اللقاء، وشرطه في الصحيح شرط عظيم، يعني كونه لا يدخل حديث حتى يصلي ركعتين هل من شرط صحة الحديث أن يصلي ركعتين استخارة؟ هذا من شدة تحريه واحتياطه، ولا يعني هذا أنه .. إن صحح الأحاديث ولو بدون صلاة ركعتين، وصحح أحاديث فيما نقله أهل العلم خارج الصحيح وهي أقل من شرطه في صحيحه، جامع الترمذي وعلله مملوءة بهذا النوع، النقول عن الإمام البخاري.

حكى القاضي عياض -رحمه الله تعالى- في إكمال المعلم عن من لم يسمه من المغاربة وسماه الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح القاسم التجيبي، وهو موجود في فهرسته أنهم فضلوا صحيح مسلم على صحيح البخاري، بعض المغاربة فضلوا صحيح مسلم على صحيح البخاري، وهذا القول مفهوم من كلام أبي علي الحسين بن علي النيسابوري، وعلل ابن حزم تفضيل مسلم على البخاري بأنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد.

ص: 31

صحيح مسلم فيه مقدمة الكتاب، ثم بعد ذلكم الأحاديث المرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام سرداً ما في ولا تراجم ولا عناوين، فيه آثار موقوفة قليلة جداً، وفيه معلقات يسيرة عدتها أربعة عشر حديثاً كلها موصولة في الصحيح نفسه على ما سيأتي بيانه في بحث المعلق إلا حديث واحد موصول في البخاري، إذاً المعلقات في صحيح مسلم لا تبحث، الموقوفات أحياناً مسلم له لفتات كما في أحاديث مواقيت الصلاة وهو يسوق الأحاديث بأسانيدها -رحمة الله عليه- قال يحيى بن أبي كثير:"لا يستطاع العلم براحة الجسم" أدخل هذا الخبر الموقوف بل المقطوع على يحيى بن أبي كثير بين أحاديث المواقيت، وهذا نادر عنده، لكن إيش مناسبة هذا الكلام لأحاديث المواقيت؟ "لا يستطاع العلم براحة الجسم" هذا الكلام صحيح لا يستطاع العلم براحة الجسم، لو العلم ينال بالنوم والسواليف بالاستراحات كان كل الناس علماء، صحيح؛ لأن هذا العلم مما حفت به الجنة، ولا شك أنه مكروه ثقيل على النفس، الناس يسولفون وأنت حانٍ ظهرك تقرأ وتحفظ، هذا صعب، فلا يستطاع العلم براحة الجسم، إذاً ما علاقة هذا الكلام بأحاديث المواقيت؟ أحاديث المواقيت التي ساقها الإمام مسلم -رحمة الله عليه- وأعجبه حسن السياق في المتون والأسانيد يريد أن يبين لطالب العلم أن مثل هذا الإتقان وهذا الضبط لا يمكن أن ينال مع الراحة، لا بد له من تعب ومعاناة، فيلفت نظر القارئ إلى مثل هذه الدقائق، وإن أشكل على كثير من الشراح وجود هذا الكلام بين أحاديث المواقيت.

أقول: هذا لأبين أن في صحيح مسلم أشياء يسيرة من الموقوفات، أما صحيح البخاري فكثير جداً فيه الأخبار الموقوفة، وفيه المعلقات الكثيرة، فيه أكثر من ألف وثلاثمائة حديث معلق، لكن هذه الأحاديث جلها موصول، كلها موصولة في الصحيح نفسه عدا مائة وستين حديث هذه ليست موصولة تولى وصلها الحافظ ابن حجر وغيره ممن شرح الكتاب، وأفرد لها ابن حجر كتاباً أسماه (تغليق التعليق).

ص: 32

إذا كان سبب تفضيل مسلم عند المغاربة كما قال ابن حزم: إنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد، فإن هذا غير راجع إلى الأصحية، بل راجع إلى التجريد، فإذا استثنيي من صحيح البخاري المعلقات والموقوفات لم يتجه ما قاله ابن حزم.

وأما المنقول عن أبي علي النيسابوري ولفظه: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم" قالوا عن هذا: بأنه لا يقتضي ترجيح مسلم على البخاري، بل هذا ينفي أن يوجد كتاب أصح من صحيح مسلم وكونه ينفي وجود الأصح

ص: 33