المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل وَاعْلَم أَن أَصْحَابنَا فرق تفَرقُوا بتفرق الْبِلَاد فَمنهمْ أَصْحَابنَا بالعراق كبغداد - طبقات الشافعية الكبرى للسبكي - جـ ١

[تاج الدين ابن السبكي]

الفصل: ‌ ‌فصل وَاعْلَم أَن أَصْحَابنَا فرق تفَرقُوا بتفرق الْبِلَاد فَمنهمْ أَصْحَابنَا بالعراق كبغداد

‌فصل

وَاعْلَم أَن أَصْحَابنَا فرق تفَرقُوا بتفرق الْبِلَاد

فَمنهمْ أَصْحَابنَا بالعراق كبغداد وَمَا والاها

وَأُولَئِكَ بعيد أَن تعزب عَنَّا تراجمهم فَإِنَّهُم إِمَّا من بَغْدَاد نَفسهَا أَو من الْبِلَاد الَّتِي حواليها وَالْغَالِب عَلَى من يقرب مِنْهَا أَنه يدخلهَا وَكَيف لَا وَهِي محلّة الْعلمَاء إِذْ ذَاك ودارالدنيا وحاضرة الرّبع العامر ومركز الْخلَافَة

وبغداد لَهَا كتاب التَّارِيخ للْإِمَام أَبِي بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت الْخَطِيب رحمه الله وَهُوَ من أجل الْكتب وأعودها فَائِدَة

وَقد ذيل عَلَيْهِ الإِمَام أَبُو سعد تَاج الْإِسْلَام ابْن السَّمْعَانِيّ فَأحْسن مَا شَاءَ

وذيل عَلى ابْن السَّمْعَانِيّ الْحَافِظ أَبُو عَبْد اللَّه بْن الدبيثي

ثمَّ جَاءَ الْحَافِظ مُحَمَّد بْن مَحْمُود بْن النجار فذيل عَلَى الْخَطِيب نَفسه فَجمع فأوعى عَلَى أَنه أخل بِذكر جمَاعَة كثيرين ذكرهم ابْن السَّمْعَانِيّ وَمَا أَدْرِي لم فعل ذَلِك

وكل هَذِهِ التصانيف وقفت عَلَيْهَا وعَلى غَيرهَا مِمَّا يتَعَلَّق بالبغداديين فحصلنا عَلَى تراجمهم

وَمِنْهُم النيسابوريون

وَقد كَانَت نَيْسَابُورَ من أجل الْبِلَاد وَأَعْظَمهَا لم يكن بعد بَغْدَاد مثلهَا

وَقد عمل لَهَا الْحَافِظ أَبُو عَبْد اللَّه الْحَاكِم تَارِيخا تخضع لَهُ جهابذة الْحفاظ وَهُوَ عِنْدِي سيد التواريخ وتاريخ الْخَطِيب وَإِن كَانَ أَيْضًا من محَاسِن الْكتب الإسلامية إِلَّا أَن صَاحبه طَال عَلَيْهِ الْأَمر وَذَلِكَ لِأَن بَغْدَاد وَإِن كَانَت فِي الْوُجُود بعد نَيْسَابُورَ إِلَّا أَن علماءها أقدم لِأَنَّهَا كَانَت دَار علم وَبَيت رياسة قبل أَن ترْتَفع أَعْلَام نَيْسَابُورَ ثمَّ إِن الْحَاكِم قبل

ص: 324

الْخَطِيب بدهر والخطيب جَاءَ بعده فَلم يَأْتِ إِلَّا وَقد دخل بَغْدَاد من لَا يُحْصى عددا فَاحْتَاجَ إِلَى نوع من الِاخْتِصَار فِي تراجمهم وَأما الْحَاكِم فَأكْثر من يذكرهُ من شُيُوخه أَو شُيُوخ شُيُوخه أَو مِمَّن تقَارب من دهره دهره لتقدم الْحَاكِم وَتَأَخر عُلَمَاء نَيْسَابُورَ فَلَمَّا قل الْعدَد عِنْده كثر الْمقَال وَأطَال فِي التراجم واستوفاها وللخطيب وَاضح الْعذر الَّذِي أبديناه

وَقد ذيل الإِمَام البليغ عَبْد الغافر بْن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي عَلَى تَارِيخ الْحَاكِم وَلم أَقف عَلَى هَذَا الذيل إِلَى الْآن وَمَا أنقله عَنهُ فَهُوَ من كتاب التَّبْيِين لِلْحَافِظِ ابْن عَسَاكِر إِذْ الْحَافِظ ينْقل عِبَارَته أبدا بنصها أَو من منتخب الذيل لإِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الصريفيني فَإِنِّي وقفت عَلَى هَذَا الْمُنْتَخب بِخَط الْمَذْكُور

وَمِنْهُم الخراسانيون

والخراسانيون أَعم من النيسابوريين إِذْ كل نيسابوري خراساني وَلَا ينعكس وَلَيْسَ الخراسانيون مَعَ نَيْسَابُورَ كالعراقيين مَعَ بَغْدَاد فثم جمع يفوقون عدد الْحَصَا من خُرَاسَان لم يدخلُوا نَيْسَابُورَ بِخِلَاف الْعِرَاقِيّين لاتساع بِلَاد خُرَاسَان وَكَثْرَة المدن العامرة فِيهَا وَالْعُلَمَاء بنواحيها إِذْ من جُمْلَتهَا مرو وَهِي الْمَدِينَة الْكُبْرَى وَالدَّار الْعُظْمَى ومربع الْعلمَاء ومرتع الْمُلُوك والوزراء قد كَانَت دَار الْملك لجَماعَة من سلاطين السلجوقية ذَوي الأيد وَالْعَظَمَة دهرا طَويلا

وخراسان عمدتها مَدَائِن أَرْبَعَة كَأَنَّمَا هِيَ قَوَائِمهَا المبنية عَلَيْهَا وَهِي مرو ونَيْسَابُورَ وبلخ وهراة هَذِهِ مدنها الْعِظَام وَلَا ملام عَلَيْك لَو قلت بل هِيَ مدن الْإِسْلَام إِذْ هِيَ كَانَت ديار الْعلم عَلَى اخْتِلَاف فنونه وَالْملك والوزارة عَلَى عظمتها إِذْ ذَاك ومرو

ص: 325

وَاسِطَة العقد وخلاصة النَّقْد وَكَفاك قَول أَصْحَابنَا تَارَة قَالَ الخراسانيون وَتارَة قَالَ المراوزة وهما عبارتان عِنْدهم عَن معبر وَاحِد والخراسانيون نصف الْمَذْهَب فَكَأَن مرو فِي الْحَقِيقَة نصف الْمَذْهَب وَإِنَّمَا عبروا بالمراوزة عَن الخراسانيين جَمِيعًا لِأَن أَكْثَرهم من مرو وَمَا والاها وَكَفاك بِأبي زيد الْمروزِي وتلميذه الْقفال الصَّغِير وَمن نبغ من شعابهما وَخرج من بابهما

وَمِنْهُم أهل الشَّام ومصر

وَهَذَانِ الإقليمان وَمَا مَعَهُمَا من عيذاب وَهِي مُنْتَهى الصَّعِيد إِلَى الْعرَاق مَرْكَز ملك الشَّافِعِيَّة مُنْذُ ظهر مَذْهَب الشَّافِعِي الْيَد الْعَالِيَة لأَصْحَابه فِي هَذِهِ الْبِلَاد لَا يكون الْقَضَاء والخطابة فِي غَيرهم ومنذ انْتَشَر مذْهبه لم يول أحد قَضَاء الديار المصرية إِلَّا عَلَى مذْهبه إِلَّا مَا كَانَ من القَاضِي بكار وَلم يول فِي الشَّام قَاض إِلَّا عَلَى مذْهبه إِلَّا البلاساغوني وَجرى لَهُ مَا جرى فَإِنَّهُ ولي دمشق وأساء السِّيرَة ثمَّ أَرَادَ أَن يعْمل فِي جَامع بني أُميَّة إِمَامًا حنفيا وجامع بني أُميَّة مُنْذُ ظُهُور مَذْهَب الشَّافِعِي لم يؤم فِيهِ إِلَّا شَافِعِيّ وَلَا صعد منبره غير شَافِعِيّ فَأَرَادَ هَذَا القَاضِي إِحْدَاث إِمَام حَنَفِيّ قَالَ ابْن عَسَاكِر فأغلق أهل دمشق الْجَامِع وَلم يمكنوه ثمَّ عزل القَاضِي واستمرت دمشق عَلَى عَادَتهَا لَا يَليهَا إِلَّا شَافِعِيّ إِلَى زمن الظَّاهِر بيبرس التركي ضم إِلَى الشَّافِعِي الْقُضَاة من الْمذَاهب الثَّلَاثَة

قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَقبل ظُهُور مَذْهَب الشَّافِعِي فِي دمشق لم يكن يَلِي الْقَضَاء بهَا والخطابة والإمامة إِلَّا أوزاعي عَلَى رَأْي الإِمَام الْأَوْزَاعِيّ

ص: 326

قلت وَقبل ظُهُور مَذْهَب الشَّافِعِي بالديار المصرية لم يكن يَلِي الْقَضَاء والخطابة إِلَّا من هُوَ عَلَى مَذْهَب مَالك رضي الله عنه فَلم يكن للحنفية مدْخل فِي هَذِهِ الْبِلَاد فِي وَقت من الْأَوْقَات إِلَّا القَاضِي بكار فَإِنَّهُ ولي الديار المصرية مُدَّة

وَأما بِلَاد الْحجاز فَلم تَبْرَح أَيْضًا مُنْذُ ظُهُور مَذْهَب الشَّافِعِي وَإِلَى يَوْمنَا هَذَا فِي أَيدي الشَّافِعِيَّة الْقَضَاء والخطابة والإمامة بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَالنَّاس من خَمْسمِائَة وَثَلَاث وَسِتِّينَ سنة يخطبون فِي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيصلونَ عَلَى مَذْهَب ابْن عَمه مُحَمَّد بْن إِدْرِيس يقنتون فِي الْفجْر ويجهرون بِالتَّسْمِيَةِ ويفردون الْإِقَامَة إِلَى غير ذَلِك وَهُوَ صلى الله عليه وسلم حَاضر يبصر وَيسمع وَفِي ذَلِك أوضح دَلِيل عَلَى أَن هَذَا الْمَذْهَب صَوَاب عِنْد اللَّه تَعَالَى

وَمِنْهُم أهل الْيمن

وَالْغَالِب عَلَيْهِم الشَّافِعِيَّة لَا يُوجد غير شَافِعِيّ إِلَّا أَن يكون بعض زيدية وَفِي قَوْله صلى الله عليه وسلم الْإِيمَان يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية مَعَ اقْتِصَار أهل الْيمن عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِي دَلِيل وَاضح عَلَى أَن الْحق فِي هَذَا الْمَذْهَب المطلبي فَمَا ظَنك بقوله صلى الله عليه وسلم إِذا اجْتمعت جماعات فِي بَعْضهَا قُرَيْش فَالْحق مَعَ قُرَيْش وَهِي مَعَ الْحق أخرجه القراب فِي مَنَاقِب الشَّافِعِي

وَالشَّافِعِيَّة جمَاعَة فِي بَعْضهَا قُرَيْش وَهُوَ إمَامهمْ المطلبي الْمشَار إِلَيْهِ بقوله صلى الله عليه وسلم قدمُوا قُريْشًا وَلَا تقدموها وَقَوله صلى الله عليه وسلم الْأَئِمَّة من قُرَيْش وَقَوله صلى الله عليه وسلم علام قُرَيْش يمْلَأ الأَرْض علما وَدَلَائِل أخر يطول ذكرهَا ولسنا الْآن لَهَا

ص: 327

وَمِنْهُم أهل فَارس

قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور وَلم يبرحوا شافعية أَو ظاهرية عَلَى مَذْهَب دَاوُد وَالْغَالِب عَلَيْهِم الشَّافِعِيَّة وَهِي مَدَائِن كَثِيرَة قاعدتها شيراز

قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور وَنَحْو مائَة مِنْبَر يَعْنِي مائَة مَدِينَة فِي بِلَاد أذربيجان وَمَا وَرَاءَهَا يخْتَص بالشافعية لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يذكر فِيهَا غير مَذْهَب الشَّافِعِي

وَمِنْهُم خلائق من بِلَاد أخر من بِلَاد الشرق عَلَى اخْتِلَاف أقاليمه واتساع مدنه كسمرقند وبخارى وشيراز وجرجان والري وأصبهان وطوس وساوة وهمذان ودامغان وزنجان وبسطام وتبريز وبيهق وميهنة وأستراباذ وَغير ذَلِك من المدن الدَّاخِلَة فِي أقاليم مَا وَرَاء النَّهر وخراسان وأذربيجان ومازندران وخوارزم وغزنة وصحاب والغور وكرمان إِلَى بِلَاد الْهِنْد وَجَمِيع مَا وَرَاء النَّهر إِلَى أَطْرَاف الصين وعراق الْعَجم وعراق الْعَرَب وَغير ذَلِك

وكل هَذِهِ كَانَت تحتوي عَلَى مَدَائِن تقر الْعين وتسر الْقلب إِلَى حِين قدر اللَّه تَعَالَى وَله الْحَمد عَلَى مَا قَضَاهُ خُرُوج جنكزخان فَأهْلك الْعباد والبلاد وَوضع السَّيْف واستباح الدِّمَاء والفروج وَخرب العامر

ثمَّ تلاه بنوه وذووه وأكدوا فعله الْقَبِيح وأطدوه وَزَادُوا عَلَيْهِ إِلَى أَن وصل الْحَال إِلَى مَا لَا يقوم بشرحه الْمقَال واستبيح حمى الْخلَافَة وَأخذت بَغْدَاد عَلَى يَد هولاكو بْن تولى بْن جنكزخان وَقتل أَمِير الْمُؤمنِينَ وَبعده سَائِر الْمُسلمين وَرفع الصَّلِيب تَارَة عَلَى جدران بني الْعَبَّاس وَسمع الناقوس آونة من بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه وانتهكت الْمَحَارِم وَخَربَتْ الْجَوَامِع وعطلت الْمَسَاجِد وَخَربَتْ تِلْكَ الديار ومحيت تِلْكَ الرسوم والْآثَار

(ثمَّ انْقَضتْ تِلْكَ الْبِلَاد وَأَهْلهَا

فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُم أَحْلَام)

ص: 328

وَحَيْثُ استطرد الْقَلَم ذكر التتار وفعلهم الْقَبِيح فَلَا بَأْس يشْرَح حَالهم عَلَى الِاخْتِصَار ولنقتصر عَلَى الواقعتين العظيمتين وَاقعَة جنكزخان وحفيده هولاكو فَنَقُول

لما كَانَت سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة كَانَ فِيهَا ظُهُور جنكزخان وَجُنُوده وعبورهم نهر جيحون وَهِي الْوَاقِعَة الَّتِي مَا سطر مثلهَا المؤرخون والمصيبة الَّتِي مَا عاينها الْأَولونَ والداهية الَّتِي مَا خطرت ببال والكاينة الَّتِي تكَاد ترجف عِنْدهَا الْجبَال أجمع النَّاس عَلَى أَن الْعَالم مذ خلق اللَّه تَعَالَى آدم إِلَى زمانها لم يبتلوا بِمِثْلِهَا وَأَن مَا فعله بخت نصر ببني إِسْرَائِيل من الْقَتْل وتخريب بَيت المنقدس يقصر عَن فعلهَا

قَالَ الْحَافِظ عز الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن الثير وَمَا الْبَيْت الْمُقَدّس بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خرب هَؤُلَاءِ الملاعين من الْبِلَاد الَّتِي كل مَدِينَة مِنْهَا أَضْعَاف الْبَيْت الْمُقَدّس وَمَا بَنو إِسْرَائِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قتلوا فَإِن أهل مَدِينَة وَاحِدَة مِمَّن قتلوا أَضْعَاف بني إِسْرَائِيل وَلَعَلَّ الْخلق لَا يرَوْنَ مثل هَذِهِ الْحَادِثَة إِلَى أَن ينقرض الْعَالم وتنفى الدُّنْيَا إِلَّا يأجودج وَمَأْجُوج وَأما الدَّجَّال فَإِنَّهُ يبْقى عَلَى من ابتعه وَيهْلك من خَالفه وَهَؤُلَاء لم يبقوا عَلَى أحد بل قتلوا النِّسَاء وَالرِّجَال والأطفال وشقوا بطُون الْحَوَامِل وَقتلُوا الأجنة فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم

قلت وَحَيْثُ كُنَّا فِي أول فِي هَذَا الْكتاب ذكرنَا أَنه كتاب تَارِيخ وأدب وَفقه وَحَدِيث لَاق بِنَا أَن نشرح هَذَا الْأَمر الْعَظِيم عَلَى وَجه الِاخْتِصَار ونحكى هَذَا الْخطب الجسيم الَّذِي أظلم البصائر وأعمى الْأَبْصَار فَنَقُول

كَانَ القان الْأَعْظَم جنكزخان طاغية التتار وملكهم الأول الَّذِي خرب الْبِلَاد وأباد الْعباد يُسمى تموجين وَكَانُوا ببادية الصين وهم من أَصْبِر النَّاس عَلَى الْقِتَال وأشجعهم فملكوا جنكزخان عَلَيْهِم وأطاعوه طَاعَة الْعباد المخلصين لرب الْعَالمين

وَكَانَ مبدأ ملكه فِي سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بعد وقائع اتّفقت لَهُ هُنَالك تقضى الْمَرْء عِنْد سماعهَا الْعجب العجاب لَا نرى التَّطْوِيل بشرحها

وَلَا زَالَ أمره يعظم وَيكبر وَكَانَ من أَعقل النَّاس وَأخْبرهمْ بالحروب وَوضع لَهُ شرعا اخترعه ودينا ابتدعه لَعنه الله الياسا لَا يحكمون إِلَّا بِهِ وَكَانَ كَافِرًا يعبد الشَّمْس

وَكَانَ السُّلْطَان الْأَعْظَم للْمُسلمين هُوَ السُّلْطَان عَلَاء الدّين خوارز مَشاهُ مُحَمَّد بْن تكش وَكَانَ ملكا عَظِيما اتسعت ممالكه وعظمت هيبته وأذعنت لَهُ الْعباد وَدخلت تَحت هكمه وخلت تِلْكَ الديار من ملك سواهُ لِأَنَّهُ قهر النَّاس كلهم وَصَارَ النَّاس كلهم تَحت حكمه رجلا فَاضلا كَرِيمًا حَلِيمًا خيرا وَكَانَ لَهُ عشرَة آلَاف مَمْلُوك كل مِنْهُم يصلح للْملك وَكَانَت عساكره عدد الْحَصَا لَا يعرف أَولهَا من آخرهَا فتجبر وطغى وَأرْسل إِلَى خَليفَة الْوَقْت وَهُوَ النَّاصِر لدين اللَّه الَّذِي لَا يصطلي لمكره بِنَار وَلَا يُعَامل فِي أَحْوَاله بخداع يَقُول لَهُ كن معي كَمَا كَانَت الْخُلَفَاء قبلك مَعَ سلاطين السلجوقية كألب رسْلَان وملكشاه وأقربهم بِنَا عهدا السُّلْطَان سنجر فَيكون أَمر بَغْدَاد وَالْعراق لي وَلَا يكون لَك إِلَّا الْخطْبَة فَيُقَال وَالله أعلم إِن الْخَلِيفَة جهز رسله إِلَى جنكزخان يحركه عَلَيْهِ

وَأما جنكزخان فَإِنَّهُ لما علم عَظمَة خوارزمشاه شرع فِي عقد التوادد بَينه وَبَينه علما من جنكزخان بِأَنَّهُ لَا يقدر عَلَى معاداة خوارزمشاه وَأرْسل إِلَيْهِ الْهَدَايَا المفتخرة والتقادم السّنيَّة كل ذَلِك وخوارزمشاه لَا يرضى باصطناعه وَيدل بِعظم ملكه ليقضي اللَّه أمرا كَانَ مَفْعُولا

وَجَرت فِي أثْنَاء ذَلِك فُصُول يطول شرحها آخرهَا أَن خوارزمشاه منع التُّجَّار أَن تسير من بِلَاده إِلَى بِلَاد جنكرخان فَانْقَطَعت أَخْبَار بِلَاده عَن جنكزخان زَمنا

ص: 329

كَانَ القان الْأَعْظَم جنكزخان طاغية التتار وملكهم الأول الَّذِي خرب الْبِلَاد وأباد الْعباد يُسمى تموجين وَكَانُوا ببادية الصين وهم من أَصْبِر النَّاس عَلَى الْقِتَال وأشجعهم فملكوا جنكزخان عَلَيْهِم وأطاعوه طَاعَة الْعباد المخلصين لرب الْعَالمين

وَكَانَ مبدأ ملكه فِي سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بعد وقائع اتّفقت لَهُ هُنَالك تقضى الْمَرْء عِنْد سماعهَا الْعجب العجاب لَا نرى التَّطْوِيل بشرحها

وَلَا زَالَ أمره يعظم وَيكبر وَكَانَ من أَعقل النَّاس وَأخْبرهمْ بالحروب وَوضع لَهُ شرعا اخترعه ودينا ابتدعه لَعنه اللَّه سَمَّاهُ الياسا لَا يحكمون إِلَّا بِهِ وَكَانَ كَافِرًا يعبد الشَّمْس

وَكَانَ السُّلْطَان الْأَعْظَم للْمُسلمين هُوَ السُّلْطَان عَلَاء الدّين خوارز مَشاهُ مُحَمَّد بْن تكش وَكَانَ ملكا عَظِيما اتسعت ممالكه وعظمت هيبته وأذعنت لَهُ الْعباد وَدخلت تَحت حكمه وخلت تِلْكَ الديار من ملك سواهُ لِأَنَّهُ قهر النَّاس كلهم وَصَارَ النَّاس كلهم تَحت حكمه وَكَانَ رجلا فَاضلا كَرِيمًا حَلِيمًا خيرا وَكَانَ لَهُ عشرَة آلَاف مَمْلُوك كل مِنْهُم يصلح للْملك وَكَانَت عساكره عدد الْحَصَا لَا يعرف أَولهَا من آخرهَا فتجبر وطغى وَأرْسل إِلَى خَليفَة الْوَقْت وَهُوَ النَّاصِر لدين اللَّه الَّذِي لَا يصطلي لمكره بِنَار وَلَا يُعَامل فِي أَحْوَاله بخداع يَقُول لَهُ كن معي كَمَا كَانَت الْخُلَفَاء قبلك مَعَ سلاطين السلجوقية كألب رسْلَان وملكشاه وأقربهم بِنَا عهدا السُّلْطَان سنجر فَيكون أَمر بَغْدَاد وَالْعراق لي وَلَا يكون لَك إِلَّا الْخطْبَة فَيُقَال وَالله أعلم إِن الْخَلِيفَة جهز رسله إِلَى جنكزخان يحركه عَلَيْهِ

وَأما جنكزخان فَإِنَّهُ لما علم عَظمَة خوارزمشاه شرع فِي عقد التوادد بَينه وَبَينه علما من جنكزخان بِأَنَّهُ لَا يقدر عَلَى معاداة خوارزمشاه وَأرْسل إِلَيْهِ الْهَدَايَا المفتخرة والتقادم السّنيَّة كل ذَلِك وخوارزمشاه لَا يرضى باصطناعه وَيدل بِعظم ملكه ليقضي اللَّه أمرا كَانَ مَفْعُولا

وَجَرت فِي أثْنَاء ذَلِك فُصُول يطول شرحها آخرهَا أَن خوارزمشاه منع التُّجَّار أَن تسير من بِلَاده إِلَى بِلَاد جنكزخان فَانْقَطَعت أَخْبَار بِلَاده عَن جنكزخان زَمنا

ص: 330

وَكَانَ جنكزخان لَعنه اللَّه عَلَى مَا استفاض عَنهُ فِيهِ حسن خلق وَتمسك بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ عقله من الطَّرِيقَة الَّتِي ابتدعها وَمَشى عَلَى قانون وَاحِد وَله تؤدة عَظِيمَة

وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ سديد الْعقل وافر الْكَرم بِحَيْثُ إِنَّه قدم إِلَيْهِ مرّة فِي الصَّيْد بعض الفلاحين ثَلَاث بطيخات وَلم يتَّفق فِي ذَلِك الْوَقْت أَن يكون أحد من الخزندارية الَّتِي لَهُ عِنْده فَقَالَ لزوجته الخاتون أعْطِيه هذَيْن القرطين اللَّذين فِي أذنيك وَكَانَ فيهمَا جوهرتان عظيمتان جدا لَا قيمَة لَهما فشحت الْمَرْأَة بهما وَقَالَت أنظرهُ إِلَى غَد فَقَالَ إِنَّه يبيت اللَّيْلَة مبلبل الخاطر وَرُبمَا لَا يحصل لَهُ شَيْء بعد هَذَا وَإِن هذَيْن من اشتراهما لم يَسعهُ إِلَّا أَن يحضرهما إِلَيْنَا لِأَن مثلهمَا لَا يكون إِلَّا عندنَا فدفعتهما إِلَى الْفَلاح فطار عقله بهما وَذهب فباعهما لبَعض التُّجَّار بِأَلف دِينَار لِأَنَّهُ لم يعرف قيمتهمَا وَكَانَت قيمَة كل وَاحِدَة أَضْعَاف ذَلِك بِمَا لَا يُوصف فحملهما التَّاجِر إِلَيْهِ فردهما إِلَى زَوجته وحكاياته فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة

وَأمر مرّة بقتل ثَلَاثَة قد اقْتَضَت الياسا قَتلهمْ وَإِذا امْرَأَة تبْكي وتصيح فأحضرها فَقَالَت هَذَا ابْني وَهَذَا أخي وَهَذَا زَوجي فَقَالَ اخْتَارِي وَاحِدًا مِنْهُم أطلقهُ فَقَالَت الزَّوْج وَالِابْن يَجِيء مثلهمَا وَالْأَخ لَا عوض لَهُ فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهَا وَأطلق لَهَا الثَّلَاثَة

وَله أَشْيَاء كَثِيرَة من هَذَا كَانَ يَفْعَلهَا بسجيته وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ عقله

وَأما خوارزمشاه فَكَانَ سعده قد تَكَامل وَرَأى من العظمة مَا لم يعْهَد مثله لملك من زمن مديد وطالت مدَّته

وَلَقَد يحْكى من سعده أَنه كَانَ حسن الْغناء وَأَن شخصا فداويا جهز عَلَيْهِ ليَقْتُلهُ فَمَا صَادف لَيْلَة يُمكنهُ فِيهَا اغتياله إِلَّا لَيْلَة وَاحِدَة وخوارزمشاه فِي جمع قَلِيل من مماليكه وَهُوَ يُغني فَأَرَادَ الفداوي أَن يُبَادر إِلَيْهِ ليغتاله فَسَمعهُ يُغني فَوقف يتصنت فَإِذا هُوَ

ص: 331

يُغني بِالْفَارِسِيَّةِ مَا مَعْنَاهُ قد عرفت بك فَانْجُ بِنَفْسِك واهرب وَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا فَمَا شكّ الفداوي أَنه قد علم بِهِ فهرب

إِلَّا أَن خوارزمشاه بعد ذَلِك طغت نَفسه ليقضي اللَّه مَا قدره

ثمَّ إِن جمَاعَة من التُّجَّار أخذُوا مَعَهم شَيْئا من المستظرفات لما سمعُوا بمكارم جنكزخان وتحيلوا حَتَّى وصلوا إِلَى بِلَاده وَلم يعلم بهم نواب خوارزمشاه وَلَو علمُوا بهم لراحت أَرْوَاحهم ونهبت أَمْوَالهم فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ أكْرمهم غَايَة الْإِكْرَام وَقَالَ لأي شَيْء انقطعتم عَنَّا فَقَالُوا إِن السُّلْطَان خوارزمشاه منع التُّجَّار من المسافرة إِلَى بلادك وَلَو علم بِنَا لأهلكنا فَجمع أَوْلَاده فأشاروا عَلَيْهِ بِأَن يخرج لقتاله فَقَالَ لَا وَلَكنَّا نرسل إِلَيْهِ

فَأرْسل رسله إِلَى خوارزمشاه وَقَالَ إِن التُّجَّار هم عمَارَة الْبِلَاد وهم الَّذين يحملون التحف والنفائس إِلَى الْمُلُوك وَمَا يَنْبَغِي أَن تمنعهم وَلَا أَنا أَيْضًا نمْنَع تجارنا عَنْك بل يَنْبَغِي لنا أَن تكون كلمتنا وَاحِدَة لتعمر الأقاليم

وَأرْسل من جِهَته تجارًا مَعَهم أَمْوَال لَا تعد وَلَا تحصى فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى الأترار عمد نَائِب خوارزمشاه بهَا وَهُوَ وَالِد زَوجته كسلى خَان فَكتب إِلَى خوارزمشاه بِأَن هَؤُلَاءِ التُّجَّار جَاءُوا بأموال لَا تحصى والرأي قَتلهمْ وَأخذ أَمْوَالهم

فجَاء مرسوم خوارزمشاه بذلك فَعمد إِلَيْهِم فَقتل الْجَمِيع وَأخذ مَا كَانَ مَعَهم فَبلغ ذَلِك جنكزخان فَجمع أَوْلَاده ثَانِيًا وخواصه فَقَالُوا نخرج إِلَيْهِم فَقَالَ لَا وَأرْسل إِلَى خوارزمشاه هَذَا الَّذِي جرى أعلمني هَل هُوَ عَن رضى مِنْك إِن لم يكن برضاك فَنحْن نطلب بدمائهم من نَائِب الأترار ونحضره عَلَى أفحش وُجُوه الذل وَالصغَار وَإِن كَانَ برضاك فقد أَسَأْت التَّدْبِير فَإِنِّي أَنا لَا أدين بِملَّة وَلَا أستحسن فعل ذَلِكَ

ص: 332

وَأَنت تنتمي إِلَى دين الْإِسْلَام وَهَؤُلَاء التُّجَّار كَانُوا عَلَى دينك فَكيف يسعك هَذَا الْأَمر الَّذِي فعلته

فَلَمَّا جَاءَت الرسَالَة إِلَى خوارزمشاه لم يكن لَهُ جَوَاب سوى إِن هَذَا كَانَ بعلمي وأمري وَمَا بَيْننَا إِلَّا السَّيْف

فَقَامَ وَلَده السُّلْطَان جلال الدّين وَكَانَ عَاقِلا فاستنصح بعض الرُّسُل وسألهم عَن حَال جنكزخان وَكَيف طواعية عساكره لَهُ ثمَّ أَشَارَ عَلَى وَالِده بِأَن يتلطف فِي الْجَواب ويخلي بَين جنكزخان ونائب الأترار ويسلطه عَلَى دم وَاحِد يحمي بِهِ الْمُسلمين من نهر جيحون إِلَى قريب بِلَاد الشَّام ومساجد لَا يُحْصى عَددهَا ومدارس وأمم لَا يُحصونَ وَمَدَائِن وأقاليم هِيَ خُلَاصَة الرّبع العامر وَأحسنه وأعمره وأوسعه

فَأبى وَالِده إِلَّا السَّيْف وَأمر بقتل رسل جنكزخان

فيالها فعلة مَا كَانَ أقبحها أجرت كل قَطْرَة من دِمَائِهِمْ سيلا من دِمَاء الْمُسلمين

وَكَانَ رحمه الله قد اخْتَلَط قَلِيلا وَطعن فِي السن وغره ملك مَا رَآهُ حصل لغيره وجيش لم يجْتَمع لأحد وَقد كَانَ هَذَانِ الشيئان من أعظم الْأَسْبَاب فِي الْإِعَانَة عَلَيْهِ فَإِن الأَرْض لما لم يبْق فِيهَا ملك سواهُ وَكسر قويت قُلُوب أُولَئِكَ الْكفَّار وصاروا يتبعونه كلما هرب ويملكون الأَرْض شَيْئا فَشَيْئًا والجيش لكثرتهم كَانَ فيهم الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس عَلَى اخْتِلَاف بلدانهم فَلم تكن كلمتهم كلهَا متفقة مَعَه وَلَا عِنْدهم من الْخَوْف عَلَى دين الْإِسْلَام والذب عَنهُ مَا عِنْد الْمُسلمين

فَلَمَّا بلغ ذَلِك جنكزخان استشاط غَضبا وَجَاءَت النَّفس الْكَافِرَة فَقَامَ وَأمر أَوْلَاده يجمع العساكر واختلى بِنَفسِهِ فِي شَاهِق جبل مَكْشُوف الرَّأْس وَاقِفًا عَلَى رجلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام عَلَى مَا يُقَال فَزعم عَثَّرَهُ اللَّه أَن الْخطاب أَتَاهُ بأنك مظلوم واخرج تنتصر عَلَى عَدوك وتملك الأَرْض برا وبحرا وَكَانَ يَقُول الأَرْض ملكي وَالله ملكني إِيَّاهَا

ص: 333