الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد في إعراب الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة
الكتاب]
ربّ يسر وأتمم بخير فأنت كريم
…
الحمد لله الذي خصّ هذه الأمة بالإسناد والإعراب، وصلى الله على سيدنا محمد والآل والأصحاب.
وبعد:
فقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من التصنيف في إعراب القرآن، ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري، فإنه لما ألّف إعراب القرآن المشهور1 أردفه بتأليف لطيف في إعراب الحديث، أورد فيه أحاديث كثيرة من مسند أحمد وأعربها، إلاّ أنه لاختصاره، ونزرة ما أورده فيه من النزر القليل، لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل.
والثاني الإمام جمال الدين بن مالك، فإنه ألّف في ذلك تأليفاً خاصاً بصحيح البخاري، يسمى "التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح".
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع، وغيث على رياض كتب المسانيد والجوامع هامع2، شامل للفوائد البدائع شافٍ. كافلٍ بالنقول والنصوص كاف، أنظم فيه كُلّ فريدة، وأسفر فيه النقاب عن وجه كل خريدة3 وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمّه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتّبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كلَّ سحابة.
واعلم أن لي على كلّ كتاب من الكتب المشهورة في الحديث تعليقة، وهي الموطأ4،
1 مطبوع باسم "إملاء ما منّ به الرحمن". وقد حققه علي البجاوي وطبعه باسم "التبيان في إعراب القرآن".
2 هامع أي ماطر.
3 الخريدة: البكر التي لم تمسس. “القاموس) .
4 للسيوطي “تنوير الحوالك على موطأ الإمام مالك) مطبوع.
ومسند الشافعي1، ومسند أبي حنيفة2، والكتب الستة3 ولم يبق إلا مسند أحمد. ولم يمنعني من الكتابة عليه إلاّ كبر حجمه جداً، وعدم تداوله بين الطلبة كتداول الكتب المذكورة، وقدّرت التعليقة عليه تجيء في عدة مجلدّات، والتعاليق التي كتبتها لا تزيد التعليقة منها على مجلد.
فلما شرح الله صدري لتصنيف هذا الكتاب، عرّفته بمسند أحمد، عوضاً مما كنت أرومه عليه من التعليقة، ولكونه جامعاً لغالب الحديث المتكلّم على إعرابه. فإن شئت فسّمه "عقود الزبرجد على مسند أحمد" وإن شئت فقل "عقود الزبرجد في إعراب الحديث" ولا تتقيدّ.
والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً للفوز بجنات النعيم، إنه البرّ الرحيم
…
مقدمة
[في الاستشهاد بالحديث]
اعلم أن كثيراً من الأحاديث روتها الرواةُ بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا، وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح،
ومنها ما يخالف ذلك4.
وقد قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس5: "إذا ورد الحديث على وجهين ما يوافق الفصيح وما يخالفه، فالموافق للفصيح هو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن ينطق إلاّ بالفصيح".
1 للسيوطي "الشافي العيّ على مسند الشافعي".
2 للسيوطي "التعليقة المنيفة على مسند أبي حنيفة".
3 للسيوطي عليها: التوشيح على الجامع الصحيح، والديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، ومرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، وقوت المغتذي على جامع الترمذي، وزهر الربى على المجتبى، ومصباح الزجاجة على سنن ابن ماجة.
4 ذكر السيوطي رأيه هذا في كتابه الاقتراح، ثم نقل فيه كلام ابن الضائع وأبي حيان. انظر الاقتراح ص 16 _19. وراجع هذه المسألة بالتفصيل في كتابنا "النحاة والحديث النبوي ".
5 فتح الدين بن سيد الناس: الإمام العلامة فتح الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الأندلسي المصري الشافعي، ولد سنة 671 هـ لازم ابن دقيق العيد وتخرج عليه وأخذ العربية عن البهاء النحاس. صنف السيرة الكبرى والصغرى. مات فجأة سنة 734هـ.
انظر طبقات الشافعية للسبكي 9/268 ذيل تذكرة الحفاظ 16، ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي 350.
وقد نقل هذا الكلام عن المزني1.
قال أبو عاصم العبادي2- من متقدمي أصحابنا- في طبقاته: "قال المزني: لا يروى في الحديث خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، فلا يجوز أن يروي خطأ".
وقال أبو الحسن بن الضائع3- بالضاد المعجمة- في شرح الجمل4:
"تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب".
قال: "وابن خروف5 يستشهد بالحديث كثيراً فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي
فحسن، وان كان يرى أن من قبله أغفل شيئاً وجب عليه استدراكه فليس كما رأى".
وقال أبو حيان6 في شرح التسهيل7:
"قد أكثر ابن مالك من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأوّلين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن
1 أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي بن إسماعيل المزني المصري (75 1_ 264 هـ) كان إماماً ورعاً زاهدا، معظما بين أصحاب الشافعي، حدّث عن الشافعي ونعيم بن حماد وغيرهما. من مصنفاته: المبسط، الجامع الكبير، الجامع الصغير، المختصر. أنظر: طبقات الشافعية للسبكي2 /93، طبقات الشافعي للأسنوي1 /34.
2 محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد (375_8 45هـ) كان إماماً مفنناً مناظراً. من تصانيفه. المبسوط، طبقات الفقهاء. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 4/ 104، طبقات الشافعية للأسنوي2/ 190.
3 أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الضائع، بلغ الغاية في النحو ولازم الشلوبين، وفاق أصحابه بأسرهم. ومن مصنفاته: شرح جمل الزجاجي. توفى سنة 680هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 204.
4 أنظر شرح الجمل لابن الضائع/ مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 19 نحوجـ2 ورقة 72.
5 أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن خروف الأندلسي، أخذ النحو عن ابن طاهر المعروف بالِخدَبّ. أقرأ النحو بعدة بلاد. من مصنفاته: شرح كتاب سيبويه، شرح الجمل توفى سنة 609 هـ. انظر بغية الوعاة2 /203.
6 محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي، نحوي عصره ومفسره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأديبه من مصنفاته: البحر المحيط، التذييل والتكميل في شرح التسهيل، ارتشاف الضرب من لسان العرب، توفي سنة 745 هـ. انظر بغية الوعاة 1/ 280- هـ 28
7 أنظر التذييل والتكميل/ مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 62 نحوجـ5 ورقة: 68 ا-. 17.
العلاء1، وعيسى بن عمر2، الخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي3، والفراء4، وعلي بن المبارك الأحمر5، وهشام الضرير6 من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك. وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم، كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم
تقل بتلك الألفاظ جميعها. نحو ما روي من قوله "زوجتكها بما معك من القرآن""ملكتكها بما معك"، "خذها بما معك" وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصة، فنعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم أنه قال بعضها. إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه صلى الله عليه وسلم، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جداً، لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى.
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيراً فيما روي من الحديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وهم لا يعلمون ذلك. وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا غير شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلاّ بأفصح اللغات وأحسن
1 أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة المشهورين، كان إمام أهل البصرة في القراءات والنحو واللغة مات سنة 54 1هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 231.
2 عيسى بن عمر الثقفي مولى خالد بن الوليد إمام في النحو والعربية والقراءة، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق. وصنف في النحو الإكمال والجامع، توفى سنة 49 1 هـ. انظر بغية الوعاة2/ 237.
3 علي بن حمزة الكسائي، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة المشهورين توفى سنة 182هـ انظر بغية الوعاة2 /163.
4 يحي بن زياد أبو زكريا الفراء، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، أخذ عنه وعن يونس. من مصنفاته: معاني القرآن، المقصور والممدود، المذكر والمؤنث. مات سنة 207 هـ. بغية الوعاة 2/ 333.
5 علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، كان متقدماً في النحو، واسع الحفظ. مات سنة 194 هـ. بغية الوعاة2/ 158.
6 هشام بن معاوية الضرير النحوي الكوفي أحد أصحاب الكسائي. صنف مختصر النحو، الحدود، القياس. توفى 209 هـ. بغية الوعاة2/ 328.
التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز، وتعليم الله ذلك له من غير معلم.
وابن مالك قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر، متعقباً بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك.
"وابن المصنف رحمه الله كأنه موافق لأبيه في استدلاله بما روي في الحديث، فإنه يذكره على طريقة التسليم".
وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وكان ممن أخذ عن ابن مالك- قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول. فلم يجب بشيء.
قال أبو حيان: "وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتديء: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما. فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث". انتهى كلام أبي حيان.
وقال القاضي عياض1 في شرح مسلم: قال الشعبي2: "إذا وقع في الحديث اللحن البينّ يعرب". وقاله أحمد بن حنبل. قال: "لأنهم لم يكونوا يلحنون". وقال النسائي:3 "إن كان شيئاً تقوله العرب فلا يغيّر، وإن لم يكن من لغة قريش، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكلم الناس بألسنتهم، وإن كان لا يوجد في كلام العرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلحن".
1 القاضي عياض بن موسى اليحصبي عالم المغرب ولد بسبتة سنة 476 هـ. قال ابن خلكان: إمام الحديث في وقته وأعرف الناس بعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. ومن تصانيفه: "إكمال في شرح مسلم "، مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار من الموطأ والصحيحين توفى سنة 544 هـ. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي ص 304 ا-1307.
2 الشعبي علامة التابعين، عامر بن شراحيل الهمداني الكوفي، مولده في أثناء خلافة عمر، كان إماماً حافظاً فقيهاً متقناً
…
انظر تذكرة الحفاظ للذهبي1 /79.
3 الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بن شعيب الخرساني صاحب السنن، ولد سنة 215 هـ وتوفى سنة 303 هـ. برع في الحديث وتفرد بالإتقان وعلو الإسناد. سكن مصر، وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال
…
أنظر تذكرة الحفاظ للذهبي2 /698.
عُقُود الزّبَرجَدِ عَلىَ مُسنَد الإمام أَحمد في إعرَاب الحَدِيث
تأليف: جلال الدين السيوطي
تحقيق: الدكتور: حسن موسى الشاعرأستاذ مساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
(1)
تمهيد:
أوَّلا: جلال الدين السيوطي1:
لقد أعاننا السيوطي في معرفة سيرة حياته وشيوخه ومؤلفاته، إذ ترجم لنفسه في كتابه حُسن المحاضرة، عند الكلام على من كان بمصر من الأئمة المجتهدين. قال: "وإنما ذكرت ترجمتي في هذا الكتاب اقتداء بالمحدثين قبلي، فقلَّ أن ألفّ أحد منهم تاريخاً إلاّ ذكر ترجمته فيه
…
".
1 انظر ترجمة السيوطي ومؤلفاته: حسن المحاضرة للسيوطي1 /335-344.
ترجمة جلال الدين السيوطي لتلميذه الداودي/ مخطوطة بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
البدر الطالع للشوكاني1/ 328.
الضوء اللامع للسخاوي 4/ 65.
الكواكب السائرة للغزي 1/ 226.
شذرات الذهب لابن العماد 8/ 51.
السيوطي وجهوده في الدراسات اللغوية- رسالة ماجستير أعدها الأستاذ محمد يعقوب تركستاني بجامعة أم القرى.
فهرست مؤلفات السيوطي/ مخطوطة بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
مكتبة الجلال السيوطي- تأليف أحمد الشرقاوي جلال الدين السيوطي- بحوث ألقيت في الندوة التي أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 1978 م.
الأعلام للزركلي 4/ 71.
معجم المؤلفين- عمر كحالة5 /128.
تدريب الراوي للسيوطي/ المقدمة.
حياته وشيوخه:
هو أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد بن سابق الدين
…
الخضيري الأسيوطي الشافعي.
نسب إلى أسيوط، مدينة معروفة بمصر. وأما نسبة "الخضيري" فيرجح السيوطي أنها نسبة إلى محلة ببغداد، وقد قيل إن جدّه الأعلى كان أعجمياً أومن الشرق.
ولد السيوطي بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة 849هـ وتوفي والده سنة 855هـ وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وكان قد وصل في حفظ القرآن الكريم إلى سورة التحريم، فنشأ يتيماً، وأسندت وصايته إلى جماعة منهم كمال الدين بن الهمام.
حفظ القرآن الكريم وله دون ثماني سنين، ثم حفظ العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك.
وشرع يشتغل بالعلم من مستهلّ سنة 864 هـ فلازم كثيراً من شيوخ عصره، وأجيز بتدريس العربية في مستهل سنة 866هـ وبدأ بالتأليف في هذه السنة، فكان أول شيء ألفه شرح الاستعاذة والبسملة، وأوقف عليه شيخه علم الدين البلقيني فكتب عليه تقريظاً، ولازمه في الفقه إلى أن مات سنة 868هـ ولزم في الفقه أيضاً شيخ الإسلام شرف الدين المناوي آخر علماء الشافعية المتوفى سنة 871هـ وقرأ على الشمس السيرَامي صحيح مسلم إلاّ قليلاً منه، والشفا، وألفية ابن مالك، وقطعة من التسهيل وأجازه بالعربية وغيرها.
ولزم في الحديث والعربية شيخه تقي الدين الشمنيّ الحنفي المتوفى سنة 872هـ فواظبه أربع سنين وكتب له تقريظا على شرح ألفية ابن مالك "البهجة المرضية" وعلى تأليفه "جمع الجوامع في العربية".
ولزم شيخه العلامة محي الدين الكافيجي أربع عشرة سنة حتى مات وذلك من سنة 65 8ـ 879هـ وأخذ عنه التفسير والأصول والعربية والمعاني.
وقد سافر السيوطي إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب، ولما حجّ شرب من ماء زمزم لأمور: منها أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.
ولما بلغ السيوطي أربعين سنة ترك التدريس والإفتاء وتجردّ للعبادة، وشرع في تحرير مؤلفاته، ثم قطع صلته بالحياة العامة واعتكف بمنزله في جزيرة الروضة بالمنيل، ولم يتحول
عنها إلى أن مات في سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة 911هـ رحمه الله تعالى.
مصنفاته:
قضى السيوطي حياته في تحصيل العلم والدرس والتصنيف، وتنوعت ألوان ثقافته حتى صار إماماً في كثير من العلوم.
قال في كتاب حسن المحاضرة1: "ورزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع، على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلاً عمنّ دونهم. وأما الفقه فلا أقول ذلك فيه، بل شيخي أوسع نظراً وأطول باعاً. ودون هذه السبعة في المعرفة: أصول الفقه والجدل والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض، ودونها القراءات- ولم آخذها عن شيخ- ودونها الطب. وأما علم الحساب فهو أعسر شيء عليّ وأبعده عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلاً أحمله.
"وقد كملت عندي آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدّثاً بنعمة الله تعالى لا فخراً، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيله بالفخر، وقد أزف الرحيل، وبدأ المشيب، وذهب أطيب العمر. ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله، لا بحولي ولا بقوتي فلا حول ولا قوة إلاّ بالله، ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله.
"وقد كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئاً في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه فتركته لذلك، فعوّضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم".
وقد ترك السيوطي عدداً ضخماً من المصنفات في أكثر الفنون ما بين مجلدات ورسائل صغيرة وقد ذكر في كتابه حسن المحاضرة أن مؤلفاته إلى ذلك الوقت بلغت ثلاثمائة كتاب سوى ما غسله ورجع عنه2.
1 حسن المحاضرة 1/ 338.
2 حسن المحاضرة1 /338.
وللسيوطي رسالة خاصة فهرس فيها مؤلفاته ورتبها على الفنون1. وقد أحصيت مؤلفاته فيها فبلغت 552 مؤلَفاً.
وقد عمل الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال كتاباً ضخماً لمؤلفات السيوطي رتبه على حروف المعجم وسماه "مكتبة الجلال السيوطي" قال في مقدمته: "أحصيت في هذا الفهرست التآليف السيوطية، فكانت 725 عدداً، أخرجت منها الطباعة نيفاً ومائتين
…
"
ثانيا: الكتب المصنفة في إعراب الحديث:
النحاة والحديث:
الحديث النبوي أصل من أصول النحو، ومصدر من مصادره السماعية، ولكن الناظر في كتب النحو يتملكه العجب وهو يرى قلة احتجاج النحاة بالحديث وكثرة استشهادهم بالشعر. وقد غلب هذا الاتجاه على النحاة الأوائل، وقلّدهم من جاء بعدهم. ثم اختلف موقف النحاة بعد، فمنهم من قويت عنايته بالحديث والاحتجاج به كابن الطراوة (528هـ) والزمخشري (538 هـ) والسهيلي (581هـ) وابن خروف (0 61 هـ) وابن يعيش (643 هـ) ، وبلغ الاهتمام بالحديث أوجَّهُ عند ابن مالك الأندلسي (672هـ) الذي يعدّ إمام الاحتجاج بالحديث النبوي.
وقد لخصّ السيوطي مذهب ابن مالك في الاحتجاج فقال: "كان أمة في الاطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب"2.
وهكذا مهّد ابن مالك السبيل لمن جاء بعده، فسار على دربه ابن هشام (761هـ) والدماميني (827 هـ) والأشموني (929هـ) وغيرهم.
ومن النحاة من تزعّم منع الاحتجاج بالحديث، وأشهرهم اثنان: ابن الضائع (680 هـ) وأبو حيان الأندلسي (745هـ)، وذلك لأمرين: أحدهما أن الرواة جوّزوا نقل
1 فهرست مؤلفات السيوطي/ مخطوط بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
2 بغية الوعاة بتحقيق محمد أبو الفضل1 /134.
الحديث بالمعنى، والثاني أن كثيراً من رواة الحديث كانوا غير عرب بالطبع فوقع اللحن في نقلهم1.
وقد رجَّح معظم المتأخرين مذهب ابن مالك في الاحتجاج بالحديث، وذلك لشدّة عناية المحدثين برواية الحديث وورعهم في نقله، وتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها، بعد الجهد العظيم الذي بذله علماء الحديث.
ومن العجيب أن الإمام السيوطي، وهو صاحب المصنفات الكثيرة في الحديث، ذهب إلى عدم الاحتجاج بالحديث فيما خالف القواعد النحوية، وصحح مذهب ابن الضائع وأبي حيان. فقال في كتابه الاقتراح: وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المرويّ، وذلك نادر جدا، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا فإن غالب الأحاديث مرويّ بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدّت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ. ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويّاً على أوجه شتى بعبارات مختلفة، ومن ثَمّ أنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث"2.
وكرر السيوطي هذا الرأي في كتابه همع الهوامع فقال:
"
…
وقد بيّنت في كتاب أصول النحو من كلام ابن الضائع وأبي حيان أنه لا يستدل بالحديث على ما خالف القواعد النحوية، لأنه مروي بالمعنى لا بلفظ الرسول، والأحاديث رواها العجم والمولدون لا من يحسن العربية، فأدوها على قدر ألسنتهم"3.
كما ذكر السيوطي هذا الرأي أيضا في كتابه عقود الزبرجد حيث قال:
"اعلم أن كثيراً من الأحاديث روتها الرواة بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح، ومنها ما يخالف ذلك".
ثم ينقل السيوطي كلام ابن الضائع وأبي حيان في هذا المجال.
1 راجع موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث في الفصل الثاني من كتابنا النحاة والحديث النبوي.
2 الاقتراح ص 16.
3 همع الهوامع2 /42بتحقيق د. عبد العال سالم.
التصنيف في إعراب الحديث:
لقد كان لهذه المواقف المتضاربة من النحاة أن قلّ التصنيف في إعراب الحديث، فلا نجد كتباً متخصصة في إعراب الحديث غير ثلاثة كتب: الأول للعكبري، والثاني لابن مالك، والثالث للسيوطي.
قال السيوطي في مقدمة كتابه "عقود الزبرجد":
"
…
وبعد فقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من التصنيف في إعراب القرآن ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري
…
والثاني الإمام جمال الدين ابن مالك
…
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث مستوعب جامع
…
"
وفيما يلي وصف لهذه المصنفات:
(1)
إعراب الحديث النبوي- للإمام العكبري (538-616هـ) :
أبو البقاء محب الدين عبد الله بن الحسن العكبري الأصل، البغدادي المولد والدار، الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير1.
برع أبو البقاء في فنون كثيرة وله مصنفات عديدة منها: إعراب القرآن واللباب في علل البناء والإعراب، وشرح الإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، وشرح المفصل للزمخشري وغيرها.
وقد صنف أبو البقاء العكبري أول كتاب في إعراب الحديث2، وأعتمد في أخذ الأحاديث على كتاب جامع المسانيد لابن الجوزي (597هـ) الذي جمع فيه مصنفه غالب مسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم والترمذي.
قال أبو البقاء في مقدمته:
"أما بعد فإن جماعة من طلبة الحديث التمسوا مني أن أملي مختصراً في إعراب ما يشكل من الألفاظ الواقعة في الأحاديث، وأن بعض الرواة قد يخطئ فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم
1 أنظر ترجمته في: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 109، نكت الهميان للصمدي 178، الذيل على الروضتين لأبي شامة 199، أنباه الرواة للقفطي 2/ 116، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 100، بغية الوعاة 2/ 38، شذرات الذهب5/ 67 معجم الأدلاء6/ 46، البداية والنهاية 13/ 85، الأعلام 4/ 208.
2 حققت هذا الكتاب مع دراسة بعنوان " النحاة والحديث النبوي " وحصلت بهما على درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر لإشراف أستاذنا الدكتور أحمد كحيل. وقد طبعت الكتابين في عمان.
وأصحابه بريئون من اللحن، فأجبتهم إلى ذلك، واعتمدت على أتمّ المسانيد وأقربها إلى الاستعياب وهو جامع المسانيد للإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، رحمه الله، مرتّبة على حروف المعجم، والله الموفق للصواب".
ومجموع الأحاديث التي تعرّض العكبري لإعرابها نحو 430 حديثاً، كان يستشهد عليها بالقرآن والشعر، وقد يتعرض للخلافات النحوية، وقد يذكر العكبري للرواية أكثر من إعراب. وإذا خرجت الرواية عن المألوف في كلام العرب ولم يجد لها وجها في قواعد النحاة حكم العكبري عليها باللحن.
(2)
إعراب الحديث- للإمام ابن مالك الأندلسي (600-672 هـ) :
أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي اللغوي المقريء المحدث الفقيه الشافعي1. من أشهر مصنفاته: الكافية الشافية وشرحها، التسهيل وشرحه- لم يتم-، الخلاصة الألفية في النحو والصرف، شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ.
وقد صنف ابن مالك كتاباً في إعراب الحديث سماه: "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح"2. وهو يقوم على إعراب مشكلات وقعت في صحيح البخاري. ويتضح فيه منهج ابن مالك في الاحتجاج بالحديث النبوي، واستنباط القواعد النحوية منه، ويستدل للأحاديث بالقرآن والشعر، ويخطِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّيء النحوِيين في عدد من المسائل. وهو بذلك يتميز عن منهج العكبري الذي كان يلحّن الرواية أحيانا لمخالفتها قواعد النحاة.
(3)
إعراب الحديث- للإمام السيوطي (849 ـ ا 91هـ) :
صنف السيوطي كتاباً ضخماً في إعراب الحديث سماه: "عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد" اعتمد فيه غالباً على مسند الإمام أحمد، وضمّ إليه كثيرا من كتب الحديث.
قال في مقدمته:
"
…
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع
…
وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كل سحابة
…
"
1 انظر ترجمته في. بغية الوعاة 1/ 130، البداية والنهاية 13 /267، نفح الطيب بتحقيق محمد محي الدين 2/ 421، طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة 133، التسهيل/ التمهيد.
2 حققه محمد فؤاد عبد الباقي، وطبع في القاهرة 1376 هـ 1977م.
وهكذا رتّب السيوطي كتابه على الطريقة التي رتب فيها العكبري كتابه. والسيوطي مطّلع على إعراب الحديث للعكبري وإعراب الحديث لابن مالك فينقل أقوالهما في إعراب الحديث ويزيد عليها بما يعنّ له وما يراه من الأقوال الأخرى. فيقول:
"قد أوردت جميع كلام أبي البقاء معزوًّا إليه، ليعرف قدر ما زدته عليه، وتتبعت ما ذكره أئمة النحو في كتبهم المبسوطة من الأعاريب للأحاديث فأوردتها بنصهّا معزوّة إلى قائلها".
والسيوطي- كعادته- جمَّاعة للآراء لا يكاد يغفِل عن نقل رأي منها له قيمته في إعراب الحديث، ولا نكاد نجد له دوراً في الإعراب إلاّ نادراً.
وأهم المصادر التي اعتمد عليها السيوطي في إعراب الحديث:
1-
إعراب الحديث للعكبري، وقد صرّح بنقله جميع كلامه.
2-
إعراب الحديث لابن مالك.
3-
شرح الطيبي على مشكاة المصابيح للتبريزي.
4-
شروح صحيح البخاري للكرماني، والزركشي، والخطابي، وابن حجر.
5-
شروح صحيح مسلم للقاضي عياض، والقرطبي، والنووي.
6-
شرح الكافية الشافية لابن مالك.
7-
أقوال النحاة واللغويين في مصنفاتهم كالزمخشري في المفصل، والرضي في شرح الكافية، والأندلسي في شرح المفصل، وابن يعيش في شرح المفصل، والجوهري في الصحاح، والزمخشري في الفائق، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث.
وقد اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطية، الأولى في دار الكتب المصرِية، والثانية في أيا صوفيا، والنسخة الثالثة في الخزانة العامة بالرباط. وقد بذلت جهداً كبيرا في تقويم النصّ والتعليق عليه، وتوثيق الآراء والنقول، وتخريج الأحاديث.
وقد آثرت تقديم مادة الكتاب على طريقة النص المختار، واستبعدت الفروق بين النسخ، لعدم حاجة القاريء إليها، إلى أن يأذن الله بإتمام الكتاب، وإعادة طبعه كاملاً.
ومن الله العون وبالله التوفيق
…