الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المُقَدِّمَةُ:
كتابنا هذا في «علوم الحديث» كصنوه «علوم القرآن» - طائفة من المباحث العلمية تنفض غبار السنين عن تراثنا الخالد، وتعرض أنفس روائع الفكر بأسلوب واضح بسيط أقرب إلى ذوق العصر.
ويخيل إلى كثير من الناس أنَّ هذا اللون من الدراسة سهل ميسَّرٌ، وأنَّ طريقه آمن معبَّد، وأنَّ الأقدام فيه ثابتة لا تزِلُّ، لأنَّ علماءنا السالفين الأبرار مهَّدُوهُ كل ممهَّدٍ، وما تركوا لأمثالنا شيئاً نزيده، فما علينا إلَاّ أنْ نغترف من بحرهم قانعين بتلخيص تصانيفهم وأقوالهم.
نرى لزاماً علينا أن نبادر إلى تصحيح هذا الخطأ الشائع، جازمين بأنَّ هذا اللون من الدراسة أشدّ وعورةً وأحوج إلى طول الجهد والعناء من تحقيق النصوص ونشر المخطوطات، لأنه يجمع في آن واحد بين التأليف والتحقيق، ويحاول إحكام الربط بين النتاج القديم والمنهج الجديد.
[ط]
لا مفرَّ من تحقيق النصوص في تصنيف يتعلق بعلوم الحديث، فما كان لكتابنا أن يستوفي أهم المباحث التي ينشدها المختصون لولا عكوفنا على أمهات المخطوطات في هذه العلوم، ننقلها بأمانة، وَنُلَخِّصُهَا بدقة، ونجمع شتاتها في كتاب واحد يضمها بين دفتيه. ومن المعلوم أَنَّ المكتبة الظاهرية بدمشق من أغنى مكتبات العالم في الحديث وعلومه ومصطلحه، وقد أتيح لنا أن نَطَّلِعَ على الكثير من أمهاتها المخطوطة، وفي حواشي كتابنا ما يشير إلى شدة تعويلنا عليها، كما أَنَّ في «جريدة المراجع» سَرْدًا لأسمائها وَوَصْفًا وَاضِحًا لها.
غير أَنَّا لم نقف عند النقل الأمين. والتلخيص الدقيق، فقد درسنا آثار السلف في علوم الحديث دراسة تاريخية تحليلية، وَوَازَنَّا بين مؤلفيها وآرائهم من غير أن نشغل القارئ بالعقيم من جدلهم، وحاولنا أن نستخلص المقاييس النقدية التي نادوا بها من خلال المصطلحات الكثيرة المتفرقة في النفيس النادر من تصانيفهم.
ليس هذا الكتاب إذن تَلْخِيصًا أَوْ اخْتِصَارًا، بل هو عرض ودراسة، ولم يكن يضيرنا لو كان تَلْخِيصًا بَحْتًا أن نُصَرِّحَ بِهِ، فإنه ليشرفنا أن نكون في «علوم الحديث» عالة على نُقَّادِنَا العُظَمَاءِ، وسلفنا الطاهرين، الذين ملأوا الأرض عِلْمًا بِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّ طبيعة الموضوع أَيْضًا لتفرض علينا وعلى غيرنا من البَاحِثِينَ فيه التعويل على النقل والتلخيص، إذْ ما عسى أن يضيفه اليوم أحدنا إلى تلك الأصول المؤصلة والقواعد المُقَرَّرَةِ، والمناهج الواضحة التي وضعها قادة الدنيا وسادة
[ي]
العالمين؟ لكنا نظن أَنَّ العرض الجديد لا ينافي النقل الدقيق، وَأَنَّ الموازنة بين النصوص لا تعارض التحقيق: وبهذا الروح، مَعَ تَهَيُّبٍ شَدِيدٍ وَحَذَرٍ أَشَدَّ، خُضْنَا في كثير من البحوث الشائكة مُدْلِينَ غَالِبًا بالرأي الذي نختاره أو نُرَجِّحُهُ، فأوردنا ما يستحيل نقضه من البراهين على كتابة الحديث في حياة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، واستشهدنا بالكثير من الصحف وَالمُدوَّنَاتِ والوثائق التاريخية، وانتهينا إلى أََنَّ القوم لم يُعَوِّلُوا على الذاكرة وحدها في حفظ السُنَّةِ، بل كتبوها مثلما حفظوها في صدورهم في عهد مُبكِّرٍ، وانتقلنا إلى عرض تاريخي تَعَقَّبْنَا فيه الرحلة في طلب الحديث، والتحول منها إلى صور أخرى من تحمل العلم وأدائه، وناقشنا تلك الصور وَوَازَنَّا بينها، ثم خلصنا منها إلى كلمة عجلى في أهم التصانيف في علوم الحديث المختلفة، وَحَقَّقْنَا القول في شروط الراوي، ورأينا ما في هذه الشروط من المقاييس الإنسانية المُسَلَّمَةِ في القديم والحديث، ثم مضينا إلى أقسام الحديث نستقي مصطلحاتها الدقيقة من أوثق الكتب وَأَهَمِّهَا، فابتدأنا بـ " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " للرامهرمزي الذي كان أول من ألَّفَ في مصطلح الحديث كما هو الشائع، وانتهينا بـ " قواعد التحديث " لعلَاّمة الشام المرحوم السيد جمال الدين القاسمي.
وعندما أفضينا إلى الباب الذي عقدناه لمكانة الحديث في التشريع واللغة والأدب، أوضحنا كيف شملت السُنَّةُ كل آفاق التشريع، وكيف اسْتَقَلَّتْ أَحْيَانًا بتبيان الحلال والحرام ولو كان أصلها في الكتاب، وَفَصَّلْنَا القول في خبر الآحاد وشروط الاحتجاج به، ووصفنا تبكير القوم
[ك]
بالرواية المصحوبة بالاستناد، وعرضنا لدى تأثُّر علوم الحديث بأسانيد المُحَدِّثِينَ ، ورَدَدْنَا على المانعين من الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو، وأثبتنا أنَّ مقاييس المُحَدِّثِينَ أدق من معايير اللغويين لنقل الكلام الصحيح الفصيح.
ورأينا في الباب الأخير أنْ نشيع القول في طبقات الرُواة، فتحدَّثنا بوجه خاص عن ابن سعدد ومنهج التصنيف في هذه الطبقات، وأوضحنا التقسمات الاصطلاحية للصحابة أو التابعين وتابعيهم، وترجمنا للمشاهير منهم بما يغني عن الرجوع إلى المصادر والأمهات.
ولقد أطلنا في بحث «تدوين الحديث» لما نعانيه في طائفة من الشباب العربي المثقف من الانخداع بالمستشرقين الذين ينكرون هذا التدوين ويثيرون الشبهات حوله، كما أسهبنا القول في «الموضوع وأسباب الوضع» ، واستخلصنا القواعد المنهجية التي كان علماؤنا القدامى يستندون إليها في التمييز بين الصحيح والموضوع.
وفي تضاعيف مباحثنا هذه كلها حرصنا على أنْ نؤكد أنَّ مصطلح الحديث يقوم على فلسفة نقدية دقيقة روعي فيها الجوهر قبل العرض، والمعنى قبل المبنى، والمتن قبل السند، والعقل والحس قبل المحاكاة والتقليد. ولم يكن من السهل علينا دائماً أنْ نوضح هذه القصة الشائكة كل التوضيح في غضون المباحث والفصول، لأنَّ القارئ كان فيها لا يزال يتابعنا ليعرفها أولاً ويطلع على شواهدها وأمثلتها، فجاءت خاتمة الكتاب إذن تتميماً وتوضيحاً وتركيزاً لهذه الحقيقة، ففي الخاتمة استخلصنا مقاييس
[ل]
النقد عند المُحَدِّثِينَ من المادة نفسها التي احتوى عليها كتابنا، ولم نُبِحْ للقلم آنذاك أنْ يتلمس هذه المقاييس من كتب أخرى ينسخها ويسجلها وينقلها من مكان إلى مكان، فلقد اتضحت معالم الطريق أمام القارئ وبات يتوقع النتيجة الطبيعية التي لا مناص من الاعتراف بها: ألا وهي تَبَوُّؤُ مصطلح الحديث أسمى مكان في فلسفة المصطلحات على اختلاف العصور.
وإننا الآن على يقين أَنَّ القارئ العربي الذي لا يفرض على عقله أَنْ يعيش غَرِيبًا فِي أُمَّتِهِ، «مُسْتَعَارًا» في ثقافته وطريقة تفكيره. سوف يمضي من تلقاء نفسه - بعد اقتناعه بدقة المصطلح - إلى دراسة علم الحديث رواية، فَلَيَقْرَأَنَّ الكتب الصحاح، وَلَيُغَذِّيَنَّ بها ثقافته اللغوية والأدبية، وَلَيَجِدَنَّ فيها مرآة صادقة لعصر النبي عليه السلام، مرآة تُعَبِّرُ عن حياة هذا الرسول العظيم ومكارم أخلاقه، وإرشاده أصحابه إلى بناء مجتمع مثالي يقوم على الحق والخير والجمال.
وفي الحديث - بلا ريب - جوانب أخرى جديرة بالعرض والدراسة لَمْ نَتَصَدَّ قط لخروجها عن نطاق بحثنا الأساسي، وأوجزنا الكلام في بعضها الآخر لضيق المقام، وأومأنا في طائفة ثالثة منها إلى الخطوط الرئيسية وأمهات المصادر لتضع الباحث في أول الطريق.
ومن المباحث التي تركناها «البلاغة النَّبَوِيَّةِ» فإنها جديرة بأبحاث طوال لو عرضنا لها في هذا الكتاب لأدخلت عليها عُلُومُ الحَدِيثِ الضَّيْمَ،
[م]
ولجاءت قلقة في موضعها، غير منسجمة مع الغاية التي من أجلها ألَّقْنَا كتابنا.
ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلَاّ أنْ أقدِّم الشكر خالصاً جزيلاً لكل من آزرني في هذا الكتب، وأخصُّ بالذكر الصديق الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي الذي كان في نظري الرائد الأول في تحقيق تدوين الحديث منذ نشر " صحيفة همَّام بن منبه " التي أفدت منها الكثير، والصديق الدكتور يوسف العش الذي فتح أمامي - بتحقيقه العلمي الدقيق لـ " تقييد العلم " للخطيب، أوسع الآفاق في تدوين الحديث أَيْضًا، كما أنه أتاح لي الإطلاع على مختارات من الكتب النادرة والمخطوطات النفيسة، وترك بين يدَيَّ بعضها كـ " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب أَيْضًا، والصديق العالم الأديب الأستاذ أحمد عبيد الذي يَسَّرَ عَلَيَّ الرجوع إلى المصادر والأمهات، ولا سيما في تراجم الرجال.
واللهَ أسألُ أنْ يجعل هذا الكتاب خالصاً لوجهه الكريم، ويمنحني به حسن القبول، ويغفر لي ما وقع فيه من الخطأ والزلل، وهو ولي التوفيق.
[ن]