المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الافتتاحية قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا - عناية الإسلام بتربية الأبناء كما بينتها سورة لقمان

[عرفة بن طنطاوي]

فهرس الكتاب

‌الافتتاحية

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].

ويقول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»

(1)

.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبدٍ استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة»

(2)

.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ؛ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ»

(3)

.

(1)

رواه البخاري (7138)، ومسلم (1829).

(2)

البخاري: كتاب الأحكام (6731).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأحكام: باب من استرعى رعية فلم ينصح (برقم: 7150)، ومسلم في كتاب الإيمان: باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النارَ (برقم: 142).

ص: 1

‌المقدمة

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد

(1)

:

(1)

هذه هي خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه رضي الله عنهم، وهي في الابتداء عامة، في خطبة النكاح، وغيرها، وهي مروية عن: ابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم.

وقد أخرجها: أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم. -ولقد اخترت حديث ابن مسعود، وله عنه أربعة طرق:

اخترت منها الأول: عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه قال: علَّمنا = =رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة -في النكاح وغيره-: إن الحمد لله. . . الحديث.

أخرجه أبو داود (1: 331)، والنسائي (1/ 208)، والحاكم (2/ 182، 183)، والطيالسي رقم (338)، وأحمد رقم (3720 و 4115)، وأبو يعلى في مسنده.

وانظرها مخرجة، تخريجًا علميًّا متقنًا، في جزء حديثي، باسم:«خطبة الحاجة» لفضيلة محدّث الأمة: محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة: الرابعة (1400 هـ).

ص: 2

‌أهمية الموضوع وأسباب اختياره

إن تربية الأجيال المسلمة على منهج دين الإسلام الخالص، تربية صحيحة سديدة، مهمة عظيمة ومسؤولية جسيمة، تقع مسؤوليتها على القائمين على هذا الثغر العظيم من ثغور الإسلام -ثغر التربية والتعليم-، ويقع عاتق المسؤولية على الوالدين أولًا، ثم على عاتق المربين والمصلحين القائمين على هذا الثغر العظيم، كل بحسبه ثانيًا.

وإن هذه المهمة الجسيمة تتطلب من الأبوين القيام بهذا الواجب العيني على أتم الوجوه وأكملها، أداءً للأمانة، وإعذارًا إلى الله في أداء هذا الواجب العظيم، على نحو تبرأ به الذمم {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 89، 88].

ص: 3

‌حقيقة الأمانة ومفهومها

فالمعنى العام للأمانة: يتناول جميع الأوامر والنواهي الشرعية.

ومما يدلُّ على ذلك: قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].

- أورد الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- جمعًا من أقوال السلف في تفسير لفظ: «الأمانة» ، ثمّ قال:«وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها؛ بل هي متفقة وراجعة إلى أنها: التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق اللهُ، وبالله المستعان»

(1)

.

- قال ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- في معنى الأمانة: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين، وأمانات الناس، وذلك أن الله لم يَخُصّ بقوله: {عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] بعض معاني الأمانات لما وصفنا»

(2)

.

(1)

انتهى من تفسير ابن كثير (6/ 489).

(2)

انتهى من تفسير الطبري (19/ 204 - 205).

ص: 4

- وقال القرطبي -رحمه الله تعالى: «والأمانة تعمّ جميع وظائف الدّين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور»

(1)

.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 27 - 28]، فنهى الله عن خيانة الأمانات، ومن أجلِّ تلك الأمانات وأعظمها عند الله تعالى؛ تربية الأبناء.

- ومن علامات النفاق: خيانة الأمانة. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»

(2)

.

- وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه؛ أحفظ أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته»

(3)

.

وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8].

- قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي

(4)

-رحمه الله تعالى: في قول الله

(1)

انتهى من تفسير القرطبي (17/ 244).

(2)

رواه البخاري (34)، مسلم (58).

(3)

صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1966).

(4)

الشيخ المحقق الأصولي المفسر؛ محمد الأمين الشنقيطي (1325 - 1393 هـ) - (1905 - 1974 م)، هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي المدني، ولد بموريتانيا عام (1325 هـ -1905 م)، نشأ يتيمًا فكفله أخواله وأحسنوا تربيته ومعاملته، فدرس في دارهم علوم القرآن الكريم والسيرة النبوية= =المباركة والأدب والتاريخ، فكان ذلك البيت مدرسته الأولى. ثم اتصل بعدد من علماء بلده فأخذ عنهم، ونال منهم الإجازات العلمية، عُرف عنه الذكاء واللباقة والاجتهاد والهيبة، اجتهد في طلب العلم فأصبح من علماء موريتانيا، وتولى القضاء في بلده فكان موضع ثقة حكامها ومحكوميها .. وكان من أوائل المدرسين في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنة (1381 هـ)، ثم عين عضوًا في مجلس الجامعة، كما عين عضوًا في مجلس التأسيس لرابطة العالم الإسلامي، وعضوًا في هيئة كبار العلماء بالسعودية 8/ 7/ 1391 هـ. توفي بمكة بعد أدائه لفريضة الحج في السابع عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة. وصلي عليه بالمسجد الحرام، ودفن بمقبرة المعلاة بمكة. وللاستزادة ينظر: الموسوعة الحرة، وعلماء نجد. للبسام (6/ 174).

ص: 5

تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8]:

«والأمانة تشمل: كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يُرضي الله، وحفظ ما اؤتمنت عليه من حقوق الناس .. »

(1)

.

وإنما تكون رعاية الأمانة في الأبناء بتربيتهم وتعليمهم وتأديبهم منذ الصغر، وبإلزامهم أداء ما أوجب الله عليهم من طاعته سبحانه، وأطرهم على الحق أطرًا، وإبعادهم عن كل موجبات سخط الله وعذابه وأليم عقابه، ولا شك أن هذا الأمر-يُشعر بجسامة المسؤولية وعِظم الخطب وأن الوالدين يتحملان مسؤوليةً عظمية، وأمانة كبيرة وجسيمة، فإن قاما بواجبيهما تجاه الأبناء سعدا في الدنيا والآخرة وسعدت معهما ذريتهما، وإن قصرا وفرَّطا في واجبيهما خسرا خسرانًا مبينًا، فلم ينتفعا بذريتهما في الدنيا برًّا وإعانة وإحسانًا، وفي الآخرة كانت

(1)

انتهى من أضواء البيان (5/ 846).

ص: 6

الذرية عليهما وبالًا، وكان الحساب عليهما عسيرًا، قال تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات: 24]، إنها مسؤولية عظيمة فليعدا للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.

وفي «الصحيحين» عن عبد الله بن عمر

(1)

رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي، ويكنى بأبي عبد الرحمن، صحابي جليل وابن ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب وراوٍ للحديث وعالم من علماء الصحابة، لم يشهد بدرًا وأُحدًا لصغر سنِّه، وشارك في غزوة الخندق عندما سمح له النبي بذلك، وهو ابن خمسة عشر عامًا، وشارك في بيعة الرضوان، كان فقيهًا كريمًا حسن المعشر طيِّب القلب، لا يأكل إلا وعلى مائدته مسكين يشاركه الطعام. ولد قبل البعثة بعام. وكان أشبه ولد عمر بعمر. وأسلم عبد الله بن عمر بمكة مع أبيه، ولم يكن بلغ يومئذ، وكانت هجرته قبل هجرة أبيه. وقد أخرج البخاري وغيره عن نافع عن ابن عمر قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا، وروى عنه عدد كبير من التابعين. قال الذهبي: لابن عمر في مسند بقي بن مخلد ألفان وستمائة وثلاثون حديثًا بالمكرر، واتفقا له على مائة وثمانية وستين حديثًا، وانفرد له البخاري بأحد وثمانين حديثًا، ومسلم بأحد وثلاثين. سير أعلام النبلاء (3/ 238). وكان رضي الله عنه طويلًا جسيمًا. سير أعلام النبلاء (3/ 209). وصفه أبو نعيم بقوله:«الزاهد في الإمرة والمراتب، الراغب في القربة والمناقب، المتعبد المتهجد، المتتبع للأثر المتشدد، نزيل الحصباء والمساجد، طويل الرغباء في المشاهد، يعد نفسه في الدنيا غريبًا، ويرى كل ما هو آتٍ قريبًا، المستغفر التواب» . الحلية (1/ 292). عن سالم بن عبد الله: «مات أبي بمكة، ودفن بفخ سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وثمانين» سير أعلام النبلاء (3/ 231).

وللاستزادة، ينظر: سير أعلام النبلاء (1/ 292)، (3/ 209)، (3/ 231)، (3/ 238)، والطبقات الكبرى لابن سعد (جـ 3 - ص 265)، ومحض الصواب في فضائل أمير= =المؤمنين عمر بن الخطاب (جـ 1 - ص 131)، وسيرة ابن هشام، والطبقات الكبرى لابن سعد (جـ 4 - ص 133)، والبداية والنهاية لابن كثير (ت 774 هـ)، وأسد الغابة في معرفة الصحابة (جـ 3 - ص 336).

ص: 7

يقول: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»

(1)

.

وقد أحسن من قال:

لَيْسَ اليَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ

هَمِّ الحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلًا

إِنَّ اليَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ

أُمَّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولًا

(2)

.

(1)

البخاري (853)، ومسلم (1829).

(2)

بتصرُّفٍ من ديوان أحمد شوقي في قصيدته الموسومة بعنوان: «العلم والتعليم وواجب المعلم» .

أحمد شوقي (1285 - 1351 هـ = 1868 - 1932 م)، هو: أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي: أشهر شعراء العصر الأخير. يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة. كتب عن نفسه:«سمعت أبي يرد أصلنا إلى الأكراد فالعرب» نشأ في ظل البيت المالك بمصر، وتعلم في بعض المدارس الحكومية، المكتبة الشاملة- بتصرف

عقيدة أحمد شوقي: قال الشيخ يحيى الحجوري -حفظَهُ اللهُ تعالى-: «أحمد شوقي ضالٌ مُضِلٌّ، ولهُ في «شوقيَّاتهِ» أشعارٌ في غايةِ البُطلانِ تدلُّ على أنَّهُ صوفيٌّ تالف، وقد نبَّهَ على ضلالاته في هذا الكتاب الشيخ عبد الكريم الحميد في كتابه: الكافي في التَّحذير من مضلات القوافي -تعقبات على أحمد شوقي- فجزاهُ اللهُ خيرًا

» حشدُ الأدلَّة (29).

وقال الشيخ يحيى الحجوري أيضًا -حفظَهُ اللهُ تعالى-: معلقًا على بعض ألفاظه «في الأصل: «فهو كهف التائبينا» !!! ولا يصلُح أن يُقال: «كهف التائبينا» وهذا من عدم تقيُّد= =هذا الضليل بالأدلة في صفات الله عز وجل» حشدُ الأدلَّة (30).

تعليق عبد الكريم بن صالح الحميد في كتابه: الكافي من التحذير من مضلات القوافي، على بعض قصائد أحمد شوقي.

«قال أحمد شوقي في قصيدة:

وطني لديك وأنت سمح مفضل

تنسى الذنوب وتذكر الأعذار

تاب الزمان إليك من هفواته

بوزارة تمحى بها الأوزار

كأن شوقي لا يريد أن يدع لله شيئًا حيث اتخذ الوطن معبودًا وصَرَفَ له من أنواع العبادة ما صَرْفُهُ لغير الله شركٌ، وحتى التوبة إنما يتوب الزمان إلى الوطن!! والمصيبة العظمى أن أهل هذا الجيل يتغنون بقصائده ويعظمونها». اهـ. الكافي من التحذير من مضلات القوافي (ص 58 - 62).

ص: 8

للتربية الحسنة ثمار عظيمة في الدنيا والآخرة، من أهمها:

‌أولًا: في الدنيا:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74]، فصالح الأبناء تقرّ به العيون في حياتنا الدنيا، تقرّ به عينك في الدنيا، إذا نظرت إليه سرك، وإن أمرته أطاعك، وإن غبت عنه حفظك فيما استرعيته واستأمنته، وإن طلبته سارع وبادر إليك وبرّك، تراه عبدًا ناصحًا خيِّرًا صالحًا مصلحًا، وكان لك بعد الله نعم المعين على أمر الدنيا والدين، وكان لك نعم الناصح الأمين، فالذرية لن تكون قرة عين للوالدين في الدنيا إلا بالصلاح، والله تبارك وتعالى جعل الأبناء زينة الحياة الدنيا وبهجتها، وعونًا لوالديهم على أمر الدنيا والدين جميعًا، وعضدًا ونصيرًا على شدائد الزمان ولأواء الحياة الدنيا وكروبها وشدائدها، قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46]،

ص: 9

فالأبناء نعمة ومنَّة ربانية عظيمة، وهبة وعطية من الله تعالى جليلة، وهم زينة الحياة الدنيا وبهجتها، وهذه النعمة ذات أثر عظيم على بني آدم، فهي تلتقي مع فطرتهم وغريزتهم وجبلتهم، ولا يتم السرور والبهجة والسعادة بهذه النعمة أبدًا إلا إذا أحسن الوالدان التربية الصالحة والتنشئة الطيبة للأبناء ليصبحوا قرةَ أعين لوالديهم في الدنيا ويوم الدين.

وهم الأكباد التي تمشي على الأرض:

وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هَبَّتِ الريح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

(1)

.

‌ثانيًا: في الآخرة: الانتفاع بدعاء الولد الصالح:

- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أو ولد صالح يدعو له» ، (الولد الصالح) هو: البارُّ بهما.

والولد البارُّ الذي يدعو لوالديه هو من الأعمال الصالحة التي تجري للوالدين بعد مماتهما، وتقرّ به أعينهما في اللحود والظلمات، يوم يغشاهما منه صالح الدعوات وهما في القبور بيت الوحدة والوحشة والدود، يذكرهما بدعواتٍ صالحات، ينعّمهما بها الكريم المنانُ، وتقرّ به أعينهما في الموقف بين

(1)

البيت للشاعر: حِطّان بن المُعَلَّى الطائي، هو شاعر إسلامي، عاش في صدر الإسلام، ولا نعرف تاريخ ميلاده ولا تاريخ وفاته، لأنّ مؤرخي الأدب أغفلوا ذلك، ولكننا نعرف أنه افتقر بعد غنى، وذلَّ بعد عزّ، رابطة أدباء الشام، بتصرف.

(2)

مسلم، كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).

ص: 10

يدي الملك الديان، وإذا تأملنا كلَّ ذلك نجده ثمرة طيبة لتربية حسنة طيبة، كذلك {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، أما الولد غير الصالح إذا كان لم يهتم بإصلاح نفسه وتزكيتها وحملها على طاعة الله تعالى، فهل سيهتم بوالديه برًّا ودعاءً؟ وكذلك {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، وفيه إشارة إلى أنه من أراد أن ينتفع بدعاء ولده له بعد الممات، فليحسن تربيته في حياته قبل الحسرة والفوات.

يجمع الله بين الآباء والأبناء الصالحين في الجنة في الدار الآخرة.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21].

قال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يُرفع الناقصُ العملَ، بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك; ولهذا قال: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]»

(1)

.

‌عظم شأن الأمانة:

قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

(1)

تفسير ابن كثير (ص 433).

ص: 11

الأمانة: تعني حرص العبد على أداء كل واجب، وأن يبذل العبد كل سعيه وجهده في إتمامه على أحسن الوجوه وأكملها تعبدًا وتقربًا لله تعالى.

قال أبو العالية: «الأمانة: ما أمروا به ونهوا عنه»

(1)

.

وقال الشنقيطي رحمه الله: «ذكر -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها، أي: خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه، وهذا العرض والإباء والإشفاق كله حق، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكًا يعلمه هو -جل وعلا-، ونحن لا نعلمه، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها، وأبت وأشفقت، أي: خافت»

(2)

انتهى.

‌وتفسير الأمانة بالتكاليف الشرعية:

هو قول ابن عباس، والحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضَّحَّاك بن مزاحم، وابن زيد، وأكثر المفسرين

(3)

.

- وقال ابن سعدي

(4)

رحمه الله: «جميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد

(1)

تفسير البغوي (ص: 380).

(2)

أضواء البيان (36/ 139).

(3)

راجع: تفسير الطبري (20/ 336 - 340) -تفسير ابن كثير (6/ 488 - 489) - تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (14/ 252 - 253) -فتح القديرللشوكاني (4/ 437).

(4)

هو الشيخ العلامة أبوعبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، من بني تميم، ولد في عنيزة في القصيم في 12/ 1/ 1307 هـ، نشأ الشيخ يتيمًا، = = ولكنه نشأ نشأة صالحة وقد أثار الإعجاب فقد اشتهر منذ حداثته بفطنته، وذكائه، ورغبته الشديدة في طلب العلم وتحصيله، فحفظ القرآن وعمره إحدى عشرة سنة ثم اشتغل بالعلم على يد علماء بلده فاجتهد في طلب العلم وجَدّ حتى نال الحظ الأوفر من كل فن من فنون العلم ولما بلغ من العمر ثلاثًا وعشرين سنة جلس للتدريس فكان يَتَعلم ويُعلِّم، وبعد عمر دام تسعًا وستين سنة قضاها في التعلم والتعليم والتأليف وخدمة الأمة الإسلامية، وافاه الأجل المحتوم فتوفي سنة 1376 هـ، في مدينة عنيزة من بلاد القصيم، بالمملكة العربية السعودية.

وللاستزادة، ينظر مصادر هذه الترجمة في:

1 -

روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين للشيخ محمد بن عثمان القاضي (1/ 219).

2 -

علماء نجد خلال ثمانية قرون للشيخ عبد الله البسام (3/ 218).

3 -

مشاهير علماء نجد وغيرهم للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (ص 256).

4 -

مقدمة كتاب الرياض الناضرة لابن سعدي بقلم أحد تلاميذ الشيخ.

5 -

ابن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة، رسالة ماجستير إعداد د/ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد (من ص 13 إلى 61).

ص: 12

حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]» انتهى

(1)

.

- والخلاصة: أن الأمانة المذكورة في الآية الكريمة هي التكاليف الشرعية، سواء أكانت من حقوق الله تعالى، أم من حقوق المخلوقين، فمن أدى تلك الحقوق أثابه الله وجزاه الجزاء الأوفى، ومن فرط فيها استحق جزاء ما قدمت

(1)

تفسير السعدي (ص 547).

ص: 13

يداه كما قال أحكم الحاكمين: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)} [الحج: 10].

كانت هذه المقدمة المهمة جدًّا لبيان عظم شأن أمانة تربية الأبناء ولا سيما في الصغر، ولا سيما في زمن كثرت فيه الشبهات، وانتشرت واستعرت فيه الشهوات، ذلك لينتبه الآباء والمربون لعظم الأمر وجسامة المسؤولية، فإنَّ تخلي الوالدين عن تلك المسؤولية العظيمة يلحقهما إثمًا مبينًا، ووبالًا عظيمًا وخسارة جسيمة في الدنيا والآخرة، بسبب خيانة الأمانة التي وضعها الله في أيديهم، وتضييع الوديعة التي كلفهم الله تعالى بحفظها، فمسؤولية تربية الأبناء أمانة حِمْلُها جد ثقيل وشأنها جد عظيم يترتب على خيانتها والإخلال بها حساب جد عسير:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6].

لأنها تحَمُّل أمانة الفطرة الربانية بيضاء نقية: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]»

(1)

.

ولقد ذكر الله تعالى لنا في كتابه المجيد وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ

(1)

صحيح مسلم (جـ 4/ ص 2047)، وصحيح البخاري (جـ 1/ ص 465).

ص: 14

عَظِيمٌ (13)} إلى قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19].

وهذه الوصايا تعد منهجًا تربويًّا إيمانيًّا حكيمًا لتربية الأبناء تربية إسلامية شاملة للدين كله، أوصى لقمان فيها ولده بنبذ الشرك المتضمن تحقيق التوحيد أولًا وهو أساس الملة، ثم بالصلاة وهي عمود الدين ثانيًا، ثم بمكارم الأخلاق وهي جماع الخير كله ثالثًا، فجمع له أصل الإيمان وأم العبادات وأساس مكارم الأخلاق والمعاملات.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].

- يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: «يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم: 6] يقول: علموا بعضكم بعضًا ما تقون به من تعلمونه النار وتدفعونها عنه إذا عمل به من طاعة الله واعملوا بطاعة الله. وقوله: {وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم من النار»

(1)

.

وقال مقاتل: «ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه» .

وقال الكيا الهراسي: «فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب، وهو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، فبدأ بالأقربين لأنهم أولى الناس بخيره ورحمته وبره وإحسانه» .

(1)

تفسير الطبري (28/ 165).

ص: 15

‌الدراسات السابقة للموضوع

لم يقف الباحث على دراسات سابقة متكاملة ومعالجة للموضوع من كافة جوانبه في موضوع بحثي واحد، وأغلب ما وقف عليه الباحث من دراسات إما متكرر وإما يعزو بعضه إلى بعض فيكون بمثابة تحصيل حاصل، أو لم تتم معالجة البحث فيه انطلاقًا من أسسه وقواعده العلمية والتربوية معًا، وهذا لا يعني فيه الباحث ادعاء الكمال والتمام لنفسه وازدراء جهود غيره وهضمها، كلَّا وحاشا، ولكن هذا في حدود بحثه واطلاعه الضيق ونظره القاصر، ومن باب بيان السبب الداعي لخوض غمار بحث هذا الموضوع.

وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلّها

كَفى المَرءَ نُبلًا أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ

(1)

.

ومن هذا الهدف الأسمى والمطلب الأسنى فإن الباحث قد جمع هذه المادة وقد حاول أن يقرب موضوع عناية الإسلام بتربية الأبناء كما بينتها سورة لقمان- في ضوء القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة وكلام أئمة التفسير وعلماء الأمة ومربيها ومصلحيها - وذلك بأسلوب ميسر ومنهجية علمية مؤصلة، نسأل الله تعالى أن يتقبلها بقبول حسن وأن ينفع بها، كاتبها وقارئها والدال عليها.

وأول شيء يبتدئ الباحث به بيانًا:

(1)

من قصيدة الشورى والجد والمعاشرة. لبشار بن بشر المتوفى (167 هـ).

ص: 16

‌خطوات خطة البحث

وهي تحتوي على مقدمة وأربعة مباحث، ويندرج تحت كل مبحث عدة مطالب، وخاتمة للبحث، ثم بيان لأبرز النتائج، ثم بيان لأهم توصيات الباحث، ثم ثبت المراجع، ومجموع الفهارس.

وذلك على النحو التالي:

المبحث الأول: عناية الإسلام بتربية الأبناء.

وفيه ستة مطالب:

المطلب الأول: تعريف التربية في اللغة والاصطلاح.

المطلب الثاني: خصائص المنهج الإسلامي التربوي.

ويتضمن ما يلي:

1 -

الشمول.

2 -

التوازان.

3 -

الربانية.

4 -

الثبات والمرونة.

المطلب الثالث: روافد التربية الإسلامية وهي:

ص: 17

1 -

الأسرة.

2 -

المدرسة.

3 -

المسجد.

4 -

وسائل الإعلام.

5 -

ثم دور روافد التربية مجتمعة.

المطلب الرابع: أهمية تربية الأبناء.

ويتضح ذلك في ضوء جانبين عظيمين:

الأول: تحقيق العبودية لله تعالى.

الثاني: حفظ الأمن العام في المجتمع.

وذلك في ضوء حفظ الضرورات الخمس وهي:

1 -

حفظ الدين.

2 -

حفظ النفس.

3 -

حفظ العقل.

4 -

حفظ العرض.

5 -

حفظ المال

المطلب الخامس: من مظاهر عناية الإسلام بتربية الأبناء: أربعة مظاهر، وهي:

1 -

اختيار الزوجين.

2 -

المعاشرة بالمعروف.

ص: 18

3 -

التربية بالقدوة.

4 -

التبكير في عملية التربية.

المطلب السادس: من أساليب القرآن في التربية:

1 -

أسلوب الأمر والنهي.

2 -

أسلوب الترغيب والترهيب.

3 -

أسلوب ضرب المثل.

4 -

أسلوب القصص القرآني.

المبحث الثاني: التعريف بالسورة الكريمة

ويأتي بيانه على النحو التالي:

التعريف بالسورة الكريمة:

وفيه مطالب:

المطلب الأول: اسم السورة الكريمة وسر تسميتها:

* أولًا- اسم السورة الكريمة: (سورة لقمان).

* ثانيًا: سرُّ تسميتها.

المطلب الثاني: نزولها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها:

ويندرج تحت هذا المطلب ما يلي:

1 -

ترتيبها في المصحف الشريف.

2 -

عدد آياتها.

3 -

مواضع النسخ في السورة الكريمة.

ص: 19

4 -

ترتيبها بين السور المفتتحة بحروف الهجاء المقطعة.

5 -

أقوال العلماء في الحروف المقطعة في بداية السور.

6 -

عدد كلماتها.

7 -

عدد حروفها.

8 -

ترتيبها في النزول.

9 -

مكية السورة أو مدنيتها.

10 -

بيان ما ورد في أسباب نزولها.

11 -

بيان ما ورد في نزول آياتها.

المطلب الثالث: الجوانب البلاغية في السورة الكريمة.

المطلب الرابع: موضوع السورة الكريمة.

وفيه بيان ما يلي:

* أولًا: مقصود السورة الكريمة.

* ثانيًا: تقسيم آيات السورة الكريمة موضوعيًّا.

* ثالثًا: أبرز موضوعات السورة الكريمة ومجمل ما حوته من الموضوعات.

وختامًا:

فإن السورة تعالج موضوع العقيدة بالتركيز على أصولها الثلاثة:

(الوحدانية - والنبوة - والبعث والنشور).

المطلب الخامس: المناسبات في السورة الكريمة.

ص: 20

المبحث الثالث: التعريف بشخصية لقمان الحكيم عليه السلام.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول نسبه ونشأته

أولًا- اسمه ونسبه.

ثانيًا- نشأته.

ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات.

الأول: ما جاء موافقًا لشريعتنا.

الثاني: ما جاء مخالفًا لشريعتنا.

الثالث: ما جاء مسكوتًا عنه في شرعنا.

المطلب الثاني التحقيق في أمر نبوته إثباتًا ونفيًا

وهل كان لقمان نبيًّا أو عبدًا حكيمًا لم تثبت له نبوة؟ على قولين.

القول الأول: أن لقمان كان عبدًا حكيمًا ولم يكن نبيًّا.

القول الثاني: القول بنبوة لقمان.

القول الراجح.

المبحث الرابع: المنهج التربوي كما تصوره موعظة لقمان الحكيم عليه السلام

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول الجانب العقدي

أولًا: مفهوم العقيدة

ص: 21

ثانيًا: بيان العلة من تقديم لقمان النهي عن الشرك في موعظته لولده.

ثالثًا: بيان معنى الطاغوت.

رابعًا: بيان أن الدعوة إلى التوحيد هو نهج جميع النبيين والمرسلين.

خامسًا: أن تربية الناشئة على عقيدة التوحيد صمام أمان لهم:

سادسًا: بيان أهمية واجب المربين والمعلمين والقائمين على التعليم تجاه هذا الجانب العظيم.

سابعًا: بيان لأول مواعظ لقمان في الجانب العقدي.

المطلب الثاني الجانب التعبدي ويشتمل على الوصايا التالية

أولاً: الأمر ببرِّ الوالدين.

ثانيًا: الأمر بإقام الصلاة.

ثالثًا: الأمر بالإنابة ولزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين.

رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترغيب في الصبر على ذلك.

المطلب الثالث الجانب الأخلاقي

أولًا: بيان مفهوم الأخلاق:

ثانيًا: مكانة الأخلاق في الإسلام:

ثالثًا: الجانب الأخلاقي في وصايا لقمان.

رابعًا: التعرف على هدي وشمائل سيد المتواضعين صلى الله عليه وسلم، والسعي للتخلق بأخلاقه.

خامسًا: العلم بالله سبحانه وبأمره ونهيه وثوابه وعقابه، له أبلغ الأثر في صلاح

ص: 22

حال العبد واستقامته.

المطلب الرابع طبيعة العلاقة بين الجوانب الثلاثة (العقدي والتعبدي والأخلاقي).

تمهيد.

فقه الأولويات في منهج لقمان التربوي.

طبيعة العلاقة بين هذه الجوانب.

الارتباط الوثيق بين الجانب الأخلاقي والجانب التعبدي.

مقاصد الزكاة وعلاقتها بالأخلاق والعقيدة.

فريضة الحج وعلاقتها بالعقيدة والأخلاق.

العلاقة بين جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق في شعيرة الحج.

خاتمة البحث.

1 -

أبرز النتائج.

2 -

أهم التوصيات.

مجموعة الفهارس.

1 -

أهم المصادر والمراجع.

2 -

فهرس الآيات.

3 -

فهرس الأحاديث والآثار.

ص: 23

4 -

فهرس الأعلام.

5 -

فهرس البلدان.

6 -

فهرس الموضوعات.

ص: 24

وفيه ستة مطالب:

‌المبحث الأول عناية الإسلام بتربية الأبناء

المطلب الأول: تعريف التربية في اللغة والاصطلاح

المطلب الثاني: خصائص المنهج الإسلامي التربوي.

المطلب الثالث: روافد التربية الإسلامية وهي:

المطلب الرابع: أهمية تربية الأبناء.

المطلب الخامس: من مظاهر عناية الإسلام بتربية الأبناء.

المطلب السادس: من أساليب القرآن في التربية.

ص: 25

‌المطلب الأول: تعريف التربية في اللغة والاصطلاح

.

مفهوم تربية الأبناء:

‌أولاً: تعريف التربية لغة:

قال ابن فارس

(1)

في معجم مقاييس اللّغة: «(رب) الراء والباء يدلّ على أصول: فالأول: إصلاح الشيء، والقيام عليه

والأصل الثاني: لزوم الشيء، والإقامة عليه ..

والأصل الثالث: ضم الشيء للشيء».

وقال الفيروز آبادي

(2)

في القاموس المحيط: «وربّ: جمع، وزاد، ولزم، وأقام، كأربّ، وربَّ الأمر: أصلحه

وربّ الصبيّ: ربّاه حتى أدرك».

وقال الصاحب بن العباد: «وربّني يرُبُّني ربًّا: أي: تولى أمري وملكه .. ورجُلٌ رِبِّيٌّ: حسن القيام على اليتيم .. ورببتُ المُهر والصّبيّ .. ورببت في بني فلان أرُبُّ

(1)

أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (395 م) معجم مقاييس اللّغة، مركز النشر - مكتب الإعلام الإسلامي، 1404 هـ/ 1984 م، (جـ 2/ 381)، مادة:(رب).

(2)

الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب (729 هـ/ 817 م)، القاموس المحيط، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1417 هـ/ 1997 م، (جـ 1/ 165)، مادة (رب).

ص: 27

ربابة: أي: نشأتُ .. ورببت أمري أرُبُّه ربابة: أي: أصلحته»

(1)

.

وقال ابن منظور (2) في لسان العرب:

(2)

«وربّ ولده، والصّبيّ يرُّبُه ربًّا، وربّبّه تربيبًا وتربّة. عن اللحياني: بمعنى ربّاه، وفي الحديث: لك نعمة تُربُّها

(3)

، أي: وتُربّيها، تحفظُها، وتُرعيها، كما يربّي الرجل ولده

وتربّبه، وارتبّه، وربّاه

(1)

الصّاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد (385 هـ/ 326 م)، المحيط في اللّغة، حققه الشيخ محمد حسن آل ياسين، بيروت، 1414 هـ/ 1994 م، (جـ 8/ 211)، مادة (ربّ).

والتسمي بـ «كافي الكفاة» : أنكرها العلماء وهي في معنى: ملك الملوك وقاضي القضاة، وحاكم الحكام؛ فإنَّ حاكم الحكام في الحقيقة هو الله تعالى. وقد كان جماعةٌ من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة، وحاكم الحكام، قياسًا على ما يبغضه اللهُ ورسولهُ من التسمية بملك الأملاك وهذا محض القياس. يوضح ذلك: أن التلقيب بملك الملوك إنما كان من شعائر ملوك الفرس من الأعاجم المجوس ونحوهم. وكذلك كان المجوس يسمون قاضيهم «موبَذ مُبَذان» يَعنُون بذلك: قاضي القضاة. فالكلمتان من شعائرهم، ولا ينبغي التسمية بهما، والله أعلم.

معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله: (ص 60) الباحث.

(2)

ابن منظور (630 - 711 هـ): هو محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل الأنصاري، الرويفعي الإفريقي، الإمام اللغوي الحجة. خدم في ديوان الإنشاء بالقاهرة، ثم ولي القضاء في طرابلس، وعاد إلى مصر فتوفي بها، وقال الصفدي: لا أعرف في كتب الأدب شيئًا إلا وقد اختصره، من تصانيفه: لسان العرب، ومختار الأغاني، ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، ولطائف الذخيرة، ومختصر تاريخ بغداد. (شذرات الذهب (6/ 26)، وفوات الوفيات (4/ 496)، والأعلام (7/ 329).

(3)

وأصله في مسلم (2567) بلفظ: «هل لك عليه من نعمة تُربُّها» ، شرح النووي على مسلم، دار الخير (1416 هـ) عدد الأجزاء:(6 أجزاء).

ص: 28

تربية، على تحويل التّضعيف وتربّاه، على تحويل التضعيف أيضًا: أحسن القيام عليه، ووليه حتى يفارق الطُّفُوليّة، كان ابنه أو لم يكن».

والتربية مشتقة من أصول ثلاثة:

الأصل الأول: ربا يربو، بمعنى زاد ونمى

(1)

، ومنه قوله تعالى:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39].

الأصل الثاني: رَبّ يَرُبُّ بوزن مدّ يمُدّ، بمعنى أصلحه، وتولّى أمره، وساسه وقام عليه، يقال: ربّ الشيء إذا أصلحه، وربّيت القوم أي: سُستُهم

(2)

.

الأصل الثالث: رَبِي يَربىَ على وزن خَفِي يَخْفَى، بمعنى نشأ وترعرع

(3)

.

وعليه قول ابن الأعرابي:

فمن يك سائلًا عني فإني

بمكّة منزلي وبها رَبِيتُ

(4)

.

والأبناء لغة: جمع ابن، وأصله بنو، قال ابن فارس:«الباء والنون والواو كلمة واحدة، وهو الشيء يتولّد عن الشيء كابن الإنسان وغيره»

(5)

.

وتربية الأبناء: تنشئتهم وإعدادهم في جميع جوانبهم الشخصيّة

(6)

وفق

(1)

لسان العرب لابن منظور (5/ 126) مادة: ربا.

(2)

لسان العرب لابن منظور (5/ 95 - 96) مادة: ربب.

(3)

لسان العرب لابن منظور (5/ 128) مادة: ربا.

(4)

لسان العرب لابن منظور (5/ 128) مادة: ربا.

(5)

مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 303) مادة: بنو.

(6)

الجوانب الشخصية:

الجانب الإيماني، والعلمي، والفكري، والأخلاقي، والاجتماعي، والصحي، والمهني.

ينظر: الجوانب الأساسية. لمقداد يالجن (ص 6).

ص: 29

المنهج الإسلامي لتحقيق العبودية لله عز وجل

(1)

.

‌مفهوم التربية في الاصطلاح:

الرَّبُّ في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حدِّ التمام

(2)

.

فالتربية هي: تنشئة الإنسان شيئًا فشيئًا في جميع جوانبه، ابتغاء سعادة الدارين، وفق المنهج الإسلامي

(3)

، ولقد تناول الإسلام كل شؤون الفرد بالتوجيه والإرشاد والتهذيب والتعليم، فلم يدع في حياته شيئًا إلّا وقد أفاده فيه بما يصلحه، كذلك بالنسبة لحياة المجتمع لم يدع فيها أمرًا إلّا وجعل له نظامًا وهديًا؛ بحيث يضمن للناس السعادة دائمًا، والأمان في حاضر أيامهم ومستقبلها كما قال الله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]

(4)

.

إنها عملية تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها، روحيًّا، وعقليًّا، ووجدانيًّا، وخلقيًّا، واجتماعيًّا، وجسميًّا، والقادرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية، والطبيعية التي نعيش فيها

(5)

.

(1)

ينظر: الدراسات التربوية. لأحمد الغامدي (ص 21)، وأصول التربية الإسلامية. لخالد الحازمي (19).

(2)

الراغب الأصفهاني: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني-المفردات في غريب القرآن. تحقيق: صفوان عدنان الداودي، ط 1 (دار القلم، الدار الشامية -دمشق بيروت- 1412 هـ)، كتاب (الراء)(ص 336).

(3)

الحازمي: خالد بن حامد، أصول التربية الإسلامية. دار عالم الكتب للنشر التوزيع، ط 1 (1420 هـ، 2000 م)، (ص 19).

(4)

الإشارات التربوية في سورة لقمان. مريمه الحاج، ماجستير غير منشور، جامعة المدينة العالمية، كلية العلوم الإسلامية، قسم القرآن وعلومه (1436 هـ)(ص 15).

(5)

د. عبد الحميد الصّيد الزيتاني، أسس التربية الاسلامية في السنة النّبوية. الدار العربية للكتاب (24 - 25).

ص: 30

(1)

د/ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الرّشُودي، الفكر التربوي عند الشيخ عبد الرحمن السّعدي. -الرياض- دار ابن الجوزي (1420 هـ/ 2000 م)(ص 207).

ص: 31

‌المطلب الثاني خصائص المنهج الإسلامي التربوي

‌1 - الشمول للقضايا (الفكرية- والعقدية- والعقلية)

.

التربية الإسلامية شاملة ومتكاملة: والشمول يعني أن الدين الإسلامي شامل لكل نواحي الحياة وكل نواحي الطبيعة الإنسانية، وأنه صالح لكل زمان ومكان، بخلاف الأوضاع البشرية فغالبًا ما يكون لها وقت معين على ما فيها من خلل وغالبًا ما تكون محصورة في مكان معين وزمان معين.

* قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

* وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19].

وتشمل التربية الإسلامية جميع الطاقات الانفعالية والعاطفية وتوجهها باعتدال وتوازن، كما شملت جميع الميول والطاقات والدوافع الفطرية، ووجهتها.

فمن أعظم ميزات القرآن أنه يثير هذه الانفعالات ويربيها، «كما أن التربية الإسلامية لم تعنِ بالجوانب الوجدانية والعقلية منفصلة عن بعضها البعض، فمثلًا، في أداء الصلاة نجد فيها النشاط العقلي والروحي والبدني، فالتربية

ص: 32

الإسلامية» فاعلة تشمل الإنسان بكل جوانبه وتشمل المجتمع بكل نظمه، وأوضاعه، وهي متكاملة لأن كل معالجاتها لكل ناحية وكل جانب، وكل نظام متكامل مع بعضها البعض، وتترابط بحيث تتعاون هذه الجوانب، وهذه النظم مع بعضها.

* قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

* وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48].

«وحين يستعرض الإنسان وسائل الإسلام في التربية، يعجب للدقة العجيبة التي يتناول بها الكائن البشري، الدقة التي تتناول كل جزئية على حدة كأنها متفرغة لها، ليس في حسابها سواها، ثم الشمول على هذا المستوى من الدقة، الشمول الذي يتناول الجزئيات جميعًا، وفي وقت واحد، إنها دقة معجزة لا تصدر إلا عن الخالق المدبر العظيم» .

* قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].

‌2 - التوازان: فهي شاملة الإعداد للحياة الدنيا والآخرة:

(للجسد والروح- للدنيا والآخرة - وللمصالح العامة والخاصة).

التوازن والاعتدال: يتصف المنهج الإسلامي التربوي بالاعتدال والتوازن في بناء الشخصية الإسلامية، فيراعي متطلبات الروح والمادة في الإنسان،

ص: 33

والاعتدال والتوازن في إقامة المجتمع الإسلامي، فيحافظ على مصلحة الفرد والجماعة ولا يفرط في جانب لحساب الجانب الآخر، كما يتصف المنهج الإسلامي التربوي على صعيد الحياة كلها بالتوازن بين متطلبات الحياة الدنيا ومقومات السعادة في الدار الآخرة.

يقول الله عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]

(1)

، وإن هذا المنهج التي يستمد قواعده من مصادره الأصلية وهي القرآن والسنة، تربية متكاملة وشاملة، فكما أنه يشمل جميع طاقات الإنسان الداخلية (جسمية وعقلية وروحية)؛ فإنه ينظر أيضًا للحياة الدنيا وللآخرة معًا.

فإن التربية نظام متكامل يهدف إلى إسعاد البشرية روحيًّا وماديًّا.

وقد تحقق هذا المبدأ واضحًا في منهج التربية الإسلامية، فقد سبقتها تربية مادية أحيانًا، وتربية أخرى روحية أحيانًا.

تهدف التربية الإسلامية إلى أن يكون الإنسان مدركًا عظمة الله في ملكوته يعمل لدنياه وآخرته في آنٍ واحد، قال الحق سبحانه وتعالى موجهًا أهل الإيمان أن يدعوه سبحانه راغبين في خيري الدنيا والآخرة:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201].

وقد عبر جرير عن هذا المعنى وهو يمدح الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، حيث يقول:

(1)

أهداف وخصائص الثقافة الإسلامية. د/ مصطفى مسلم، شارك في التأليف د/ فتحي محمد الزغبي -شبكة الألوكة- 6/ 7/ 1435 هـ-5/ 5/ 2014 م.

ص: 34

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه

ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

(1)

.

‌3 - الربانية: التربية الإسلامية تربية ربانية

.

تعتبر التربية الإسلامية ربانية المصدر فهي تستمد قواعدها وأصولها من القرآن والسنة اللذين هما وحي الله؛ فالتربية الإسلامية ربانية من حيث البداية، فهي تبدأ بتعريف الناشئ على قدرة الرب جل جلاله، وصفات كماله ونعمه، عن طريق تأمل الكون وما أودعه الله من قوى وقدرات في جميع الكائنات من حوله، والتربية الإسلامية ربانية من حيث الهدف والغاية، فهي باعتمادها على فطرة الناشئ تبرهن له إذ تلفت نظره إلى ظاهرتي الموت والحياة، وأنه لم يكن يملك أن يوجد نفسه بالشكل الذي يريد ولا أن يرحل عنها برغبته، تبرهن له على أنه تابع في وجوده وفنائه وصحته لقوة أسمى وأقدر منه؛ إنها قوة الله وإرادته، وتبين لنا التربية الإسلامية عناية الله بالإنسان من خلال توجيهه للتأمل فيما سخر الله لحياته من الكائنات التي يتعامل معها من أمطار وأنهار وزروع وبحار، وهذه العناية لم تترك الإنسان في حيرة يتساءل عن حياته وموته وعلاقته بالكون وبأخيه الإنسان؛ بل أرسل الله الرسل بشريعته وهداه ووحيه الذي ينظم للإنسان كل حياته وأهدافه وعلاقاته، فالتربية الإسلامية منهجها متكامل الربانية، فقد جمعت بين طيتها ربانية الهدف، وربانية الأساليب، وربانية المصدر، وربانية الوسائل، وربانية الوسائط.

(1)

جرير بن عطية الكلبي اليربوعي التميمي (33 هـ - 110 هـ/ 653 - 728 م)، شاعر من بني كليب بن يربوع من قبيلة بني تميم وهي قبيلة في نجد، ولد في بادية نجد من أشهر شعراء العرب في فن الهجاء وكان بارعًا في المدح أيضًا. مدح بني أمية ولازم الحجاج زهاء عشرين سنة، الموسوعة الحرة، بتصرف.

ص: 35

والتربية الإسلامية تستمد منهجها من الوحي الإلهي (الكتاب والسنة)، ومما استنبطه العلماء المسلمون من هداياتهما، وهي تدعو إلى توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وإلى اتباع رسله الكرام عليهم السلام، وإلى مكارم الأخلاق، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، ورفع الظلم عن المظلومين، وصلة الأرحام، وإلى نشر البر والخير بين الناس، والدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإلى كل فضيلة وكمال، وتصبغ الأمة بالصبغة الربانية المتكاملة التي أوحاها الله إلى رسله الكرام عليهم السلام وأمرهم بتبليغها لعباده كاملة تامة دون زيادة أو نقصان، قال تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138].

لقد كان التزام المسلمين الأوائل بهذه الصبغة المتكاملة خير دعاية عملية لدينهم ومبادئهم، مما جعل شعوب الأرض يدخلون في دين الله أفواجًا، وفتح الله لدينهم ولثقافتهم وأخلاقهم قلوب العباد قبل فتح الأمصار والبلاد.

‌4 - الثبات والمرونة: الجمع بين الثبات والمرونة

.

من أَجَلِّ وأجلى مظاهر «الوسطية» ، التي تميزت بها رسالة الإسلام، وبالتالي يتميز بها المجتمع المسلم عن غيره: التوازن بين الثبات والتطور، أو (الثبات والمرونة).

فهو يجمع بينهما في تناسق مبدع، واضعًا كُلًّا منهما في موضعه الصحيح.

الثبات فيما يجب أن يخلد ويبقى، والمرونة فيما ينبغي أن يتغير ويتطور دون المساس بالثوابت الشرعية أو الأصول المرعية؛ بل تمشيًا مع القواعد الكلية للشريعة الإسلامية وعملًا بأصولها وتحقيقًا لصلاحها لكل زمان ومكان، وهذه

ص: 36

الخصيصة البارزة لرسالة الإسلام، لا توجد في شريعة سماوية ولا وضعية، ولكن الشريعة الإسلامية، التي ختم الله بها الشرائع الربانية والرسالات السماوية، أودع الله سبحانه فيها عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معًا، وهذا من بدائع الإعجاز في هذه الشريعة الربانية، وآية من آياته، عمومها وخلودها، وبقائها وصلاحها لكل زمان ومكان.

ونستطيع أن نحدد مجال الثبات، ومجال المرونة، في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول: إن الثبات يكون على الأهداف والغايات، والمرونة تكون في الوسائل والأساليب، الثبات يكون على الأصول والكليات، والمرونة تكون في الفروع والجزئيات.

الثبات يكون على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة تكون في الشؤون الدنيوية والعلمية.

دلائل الثبات والمرونة في مصادر الإسلام وأحكامه.

إن للثبات والمرونة مظاهر ودلائل شتى، نجدها في مصادر الإسلام، وشريعته وتاريخه، يتجلى هذا الثبات في «المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع» من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم هو المصدر والأصل الأول للشريعة الإسلامية، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن الكريم، وهي المصدر الثاني، وكلاهما مصدر إلهي محفوظ، لا يسع مسلمًا الإعراض عنه، قال سبحانه وتعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]، وقال جل شأنه:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] والآيات الكريمة في هذا الصدد كثيرة ومعلومة.

ص: 37

وتتجلى المرونة في «المصادر الاجتهادية» التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق ومقل ومكثر، مثل: الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد، وطرائق الاستنباط.

وفي أحكام الشريعة نجدها تنقسم إلى قسمين بارزين:

أ- قسم يمثل الثبات والخلود.

ب- وقسم يمثل المرونة والتطور.

نجد الثبات يتمثل في عقائد الإيمان الأساسية الخمس، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في غير موضع من كتابه المجيد، كقوله سبحانه:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وقوله جل في علاه:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136]، وفي أركان الإسلام العملية الخمسة من الشهادتين وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وهي التي صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بُني عليها.

وفي المحرمات اليقينية من السحر، وقتل النفس، والزنى، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف والغصب والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها مما يثبت بقطعي القرآن والسنة.

وفي أمهات الفضائل من الصدق، والأمانة، والعفة، والصبر، والوفاء بالعهد،

ص: 38

والحياء، وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرت في القرآن والسنة من شعب الإيمان.

وفي شرائع الإسلام القطعية في شؤون الزواج، والطلاق، والميراث والحدود، والقصاص، ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة فهذه الأمور ثابتة، تزول الجبال ولا تزول.

الثبات والمرونة في هدي القرآن: والذي يتدبر القرآن الكريم، يجد في آياته الكريمة دلائل جمة، على هذه الخصيصة البارزة، من خصائص الأمة المسلمة، وهي: الجمع بين الثبات والمرونة جمعًا متوازنًا عادلًا.

وإذا كان بالمثال يتضح المقال، فلا بأس أن نذكر هنا بعض الأمثلة التي توضح ما قيل: يتمثل الثبات في مثل قوله تعالى في وصف مجتمع المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وفي قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] فلا يجوز لحاكم، ولا لمجتمع، أن يلغي الشورى من حياته السياسية والاجتماعية، ولا يحل لسلطان أن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون، بالتسلط والجبروت.

وتتمثل المرونة، في عدم تحديد شكل معين للشورى، يلتزم به الناس في كل زمان وفي كل مكان فيتضرر المجتمع بهذا التقييد الأبدي، إذا تغيرت الظروف بتغير البيئات أو الأعصار أو الأحوال، فيستطيع المؤمنون في كل عصر أن ينفذوا ما أمر الله به من الشورى بالصورة التي تناسب حالهم وأوضاعهم، وتلائم موقعهم من التطور، دون أي قيد يلزمهم بشكل جامد.

ص: 39

ب- يتمثل الثبات في قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].

وقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].

فأوجب التقيد بالعدل والالتزام بكل ما أنزل الله، والحذر من اتباع الأهواء، وكل هذا مما لا مجال للتساهل فيه، فهو يمثل جانب الثبات قطعًا في مجال الحكم والقضاء.

وتتمثل المرونة في عدم الالتزام بشكل معين للقضاء والتقاضي، وهل يكون من درجة أو أكثر؟ وهل يسير على أسلوب القاضي المفرد أم على أسلوب المحكمة الجماعية؟ وهل يكون هناك محكمة جنايات وأخرى للمدنيات. إلخ، كل هذا متروك لاجتهاد أولي الأمر، وأهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور، وليس للشارع قصد فيه إلا إقامة العدل، ورفع الظلم، وتحقيق المصلحة، ودرء المفسدة.

لقد اهتم الشارع بالنص على المبدأ والهدف، ولكنه لم يعتن بالنص على الوسيلة والأسلوب، وذلك ليدع الفرصة، ويفسح الطريق للإنسان كي يختار لنفسه الأسلوب المناسب، والصورة الملائمة لزمنه وبيئته، ووضعه وحالته.

الثبات والمرونة في الهدي النبوي.

وإذا تأملنا في السنة المطهرة ـ قولًا وفعلًا وتقريرًا - وجدناها حافلة بشتى الأمثلة والدلائل التي يتمثل فيها الثبات والمرونة جنبًا إلى جنب.

ص: 40

(أ) يتمثل الثبات في رفضه صلى الله عليه وسلم التهاون أو التنازل في كل ما يتصل بتبليغ الوحي أو يتعلق بكليات الدين، وقيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية.

ومهما حاول المحاولون أن يثنوا عنانه عن شيء من ذلك بالمساومات، أو التهديدات، أو غير ذلك من أنواع التأثير على النفس البشرية، فموقفه هو الرفض الحاسم، الذي علمه إياه ربه وأمره به في مواقف شتى، فحين عرض عليه المشركون أن يلتقوا في منتصف الطريق، فيقبل شيئًا من عبادتهم ويقبلوا شيئًا من عبادته، لو يعبد آلهتهم مدة، ويعبدون إلهه مدة كان الجواب الحاسم يحمله الوحي الصادق في سورة قطعت كل المساومات وحسمت كل المفاوضات، وهي قوله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6].

ولما تلا عليهم آيات الله بينات، منكرة عليهم شركهم وعنادهم، ناعية ضلالهم وجحودهم، قالوا له صلى الله عليه وسلم:{ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]، فكان الرد القاطع تلقينًا من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس: 15، 16].

وهكذا تعلم صلى الله عليه وسلم من وحي الله: أن لا تنازل ولا تساهل في أمور العقيدة وما يتصل بها.

وفي مقابل ذلك، نجد مرونة واسعة في مواقف السياسة ومواجهة الأعداء، بما

ص: 41

يتطلبه الموقف المعين، من حركة ووعي وتقدير لكل الجوانب والملابسات، دون تزمت أو تشنج أو جمود، نجده صلى الله عليه وسلم في يوم الأحزاب مثلًا يأخذ برأي (سلمان) رضي الله عنه في حفر الخندق حول المدينة، ويشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان إعطاء بعض المهاجمين مع قريش جزءًا من ثمار المدينة، ليردهم ويفرقهم عن حلفائهم، كسبًا للوقت إلى أن يتغير الموقف، ويقول لنعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه وقد أسلم، وأراد الانضمام إلى صفوف المسلمين:«إنما أنت رجل واحد، فخذِّل عنا ما استطعت» ، فيقوم الرجل بدور له شأنه في التفريق بين قريش وغطفان ويهود بني قريظة

(1)

، وفي يوم الحديبية تتجلى المرونة النبوية بأروع صورها.

* تتجلى في قوله ذلك اليوم: «والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها»

(2)

.

* وفي قبوله صلى الله عليه وسلم أن يكتب في عقد الصلح: «باسمك اللهم» بدلًا من «بسم الله الرحمن الرحيم» وهي تسمية رفضتها قريش.

* وفي قبوله صلى الله عليه وسلم أن يمحو كلمة «رسول الله» بعد اسمه الكريم، على حين رفض (علي) رضي الله عنه أن يمحوها بعد كتابتها

(3)

.

* وفي قبوله من الشروط ما في ظاهره إجحاف بالمسلمين، وإن كان في عاقبته

(1)

الألباني، تخريج فقه السيرة (305) هذه القصة بدون إسناد، لكن قوله صلى الله عليه وسلم:«الحرب خدعة» صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2864).

(2)

البخاري (2731).

(3)

البخاري (2731).

ص: 42

الخير كل الخير، والسر في هذه المرونة هنا، والتشدد في المواقف السابقة: أن المواقف الأولى تتعلق بالتنازل عن العقيدة والمبدأ، فلم يقبل فيها أي مساومة أو تساهل، ولم يتنازل قيد أنملة عن دعوته.

أما المواقف الأخيرة فهي تتعلق ببيان المرونة في الفقه الإسلامي، ومن هذا وذاك يتبين أن الفقه الإسلامي يجمع بين خاصتي الثبات والتطور.

ولا عجب بعد ما ذكرنا من هدي القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومواقف الصحابة رضي الله عنهم، من الثبات والمرونة؛ أن نجد الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه ومذاهبه يسير في نفس هذا الاتجاه ثابتًا على الأصول والكليات، مرنًا متطورًا في الفروع والجزئيات. إنه لا يعطي المسلم حرية مطلقة في تنظيم حياته ولو على حساب عقائده وقيمه ومفاهيمه، كما أنه لا يقيده في كل شؤونه بتشريعات مفصلة دائمة، لا يستطيع الفكاك منها.

فالفقيه المسلم، مقيد حقًّا بالنصوص المحكمة الثابتة من القرآن والسنة، وهي المجزوم بثبوتها، القواطع في دلالتها، التي أراد الشارع الحكيم أن تلتقي عندها الأفهام، ويرتفع عندها الخلاف، وينعقد عليها الإجماع، فهي أساس الوحدة الفكرية والسلوكية، للمجتمع المسلم، وهي للأمة كالجبال للأرض تمسكها أن تميد، وتحميها أن تضطرب وتتزلزل، وهذا النوع من النصوص قليل جدًّا بالنسبة إلى سائر النصوص.

ومع هذا التقيد الملزم، يجد الفقيه المسلم نفسه في حرية واسعة أمام منطقتين فسيحتين، من مناطق الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر

(1)

.

(1)

مقال من شبكة التربية الإسلامية، الشاملة (2003/ 204، م) إشراف الأستاذ أحمد مدهار.

ص: 43

ولذا فقد تمثلت عظمة الإسلام ومبادئه الخالدة في عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معًا، مما جعله صالحًا لكل زمان ومكان.

فالثبات على الأهداف والغايات أضفى القدسية والاحترام على مبادئه، وأدخل الطمأنينة على نفس معتنقيه، والمرونة في الوسائل والأساليب أضفت الحيوية واستيعاب المستجدات في الشؤون الدنيوية، والعلوم التجريبية.

فمثلًا الشورى والحكم بالعدل من الثوابت، أما الوسيلة فمتروكة للاجتهاد كما تبين آنفًا.

والتطور والثبات ملائمان لسنن الله في الكون وفي الفطرة الإنسانية، فإن فيهما الثبات الدائم والمتغير المتحول.

وبهذه الخصيصة تستطيع الأمة الإسلامية أن تستمر وترتقي في مدارج التقدم مع المحافظة على قيمها وعقائدها وأخلاقها

(1)

.

(1)

وينظر هذه الخصائص وغيرها في: معالم الثقافة الإسلامية للدكتور عبدالكريم عثمان ص (87) وما بعدها (ط 3) الرياض، مؤسسة الأنوار (1399 هـ-1979 م)، ولمحات في الثقافة الإسلامية. لعمر عودة الخطيب (ص 63) وما بعدها، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الخامسة عشرة (1425 هـ-2004 م).

ص: 44

‌المطلب الثالث

روافد التربية الإسلامية

هي المؤسسات التي تتولى عملية التربية مع بيان أثرها في تربية الفرد والمجتمع ويأتي من أبرز وأهم هذه المؤسسات التربوية في المجتمع:

الأسرة والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام ونحوها من المؤسسات المختلفة التي تؤثر على تربية الناشئة سواءً كان ذلك التأثير بطريقةٍ مُباشرةٍ أو غير مباشرة.

ومعنى هذا أن تربية الناشئة لا يمكن أن تتم إلا من خلال بعض المؤسسات أو الوسائط الاجتماعية المختلفة

(1)

.

ويأتي من أبرز هذه المؤسسات التربوية والتعليمية ما يلي:

(1)

مقال بعنوان: بعض المؤسسات التربوية وأثرها في تربية الفرد والمجتمع، من كتاب: مقدمة في التربية الإسلامية. للكاتب صالح بن علي أبو عرَّاد (1424 هـ) الرياض: دار الصولتية للتربية الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد (د-ص).

ص: 45

‌أولا: الأسرة

دور الأسرة في رعاية الأولاد:

إن وجود الأسرة هو امتداد للحياة البشرية، وسر البقاء الإنساني، فكل إنسان يميل بفطرته إلى أن يَظْفَرَ ببيتٍ وزوجةٍ وذريةٍ.، ولما كانت الأسرة اللبنة الأولى في بناء المجتمع لكونها رابطة رفيعة المستوى محددة الغاية، فقد رعتها الشرائع السماوية عمومًا؛ والإسلام خصوصًا، وإن كان الإسلام تميز بالرعاية الكبرى، قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72].

جاء ضمن معاني الأمانة؛ أمانة الأهل والأولاد، فيلزم الولي أن يأمر أهله وأولاده بالصلاة، ويحفظهم من محارم الله، لأنه مؤتمن ومسؤول عما استرعاه الله

(1)

، وإِنَّ التأكيد على أهمية دور الأسرة في رعاية الأولاد، لمن أَجَلِّ الأمور، التي يجب أن تتضافر جهود الآباء والأمهات، وأهل العلم، والدعاة، والتربويين، والإعلاميين وكل من له صلة وعناية بالتربية. للمحافظة على بناء الأسرة الصالحة في المجتمع، فهي أمانة أمام الله-تعالى- نحن مسؤولون عنها، فالمرء يُجزى على تأدية الحقوق المتعلقة بأسرته، إِنْ خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ،

(1)

ينظر: البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (10/ 112)، ودرة الناصحين في الوعظ والإرشاد لعثمان الشاكر الخوبري (ص 169) بتصرف.

ص: 46

قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

وانطلاقًا من هذه الأهمية الكبرى نتناول الحديث عما يلي:

1 -

تعريف الأسرة.

2 -

مسؤولية الأسرة التربوية تجاه الأبناء.

3 -

أهمية المعاملة الحسنة (المعتدلة).

4 -

التحذير من أهم المخاطر التي تواجه الأسرة.

‌أولاً - تعريف الأسرة:

قال ابن منظور: «أُسرةُ الرجل: عشيرتُه ورهطُهُ الأدْنَوْنَ؛ لأنه يتقوى بهم، والأُسرةُ: عشيرةُ الرجل وأهلُ بيته»

(1)

.

وقد جاء في كتاب الله عز وجل ذِكْرُ الأزواج والبنين والحفدة، بمعنى الأسرة، قوله تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].

يذكر تعالى نعمه على عبيده، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجًا من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورًا وإناثًا، وجعل الإناث أزواجًا

(1)

لسان العرب. مادة: (أَسَرَ)(1/ 141)، وينظر: دور الأسرة في رعاية الأولاد. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين، مقال من موقع الإسلام اليوم (د. ت).

ص: 47

للذكور

(1)

.

يقول ابن سعدي رحمه الله: «يُخبر تعالى عن منَّتِه العظيمة على عباده، حيث جعل لهم أزواجًا، ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم، أولادًا تَقَرُّ بهم أعينُهم ويخدمُونهُم، ويقضُون حوائِجَهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، ورزقهم من الطيبات من المآكل، والمشارب، والنعم الظاهرة، التي لا يقدر العباد أن يحصوها»

(2)

.

وتُعد الأسرة أهم المؤسسات التربوية الاجتماعية التي لها الكثير من الوظائف، وعليها العديد من الواجبات الأساسية حيث تُعتبر بمثابة المحضن الأول الذي يعيش الناشئ فيها أطول فترةٍ من حياته، كما أنه يأخذ عن الأُسرة العقيدة، والأخلاق، والأفكار، والعادات، والتقاليد، وغير ذلك من السلوكيات الإيجابية أو السلبية.

وللأسرة وظائف كثيرة ومتنوعة لا سيما أنها تُعنى بتنمية ورعاية جميع الجوانب الشخصية للناشئ في مراحل عمره المختلفة.

ويجب أن يعلم الوالدان أن الله تعالى قد استرعاهم رعية، ووجب عليهم أداء الأمانة كما أمرهم الله تعالى بذلك في محكم التنزيل، وجاءت السنَّة النبوية مؤكدة لهذا الأمر في كثير من الأحاديث الصحيحة، كما جاءت نصوص الوحي بالوعيد لمن لم يحط رعيته بنصح، ولمن فرَّط في الأمانة التي ائتمنه الله عليها.

فعن مَعْقِلِ بْنِ يسار المُزنيِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ

(1)

ابن كثير (ص: 587).

(2)

تفسير ابن سعدى (ص: 892).

ص: 48

عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ»، وفي رواية:«فَلَمْ يَحُطْها بِنَصِيحَةٍ إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ»

(1)

، وعلى الرغم من اشتراك الأسرة المسلمة مع غيرها من الأسر في أداء بعض الوظائف التربوية؛ إلا أن للأُسرة المسلمة بعضًا من الوظائف التربوية المميزة، انطلاقًا من دينها ودافعًا من عقيدتها التي تؤمن بها.

‌ثانيًا-مسؤولية الأسرة التربوية تجاه الأبناء:

للأسرة المسلمة مسؤولية ووظائف تربوية مميزة من أبرزها ما يلي:

1) العمل على تزويد المجتمع المسلم بالذرية الصالحة التي رغب فيها ديننا الحنيف والتي تكون عاملًا قويًا في تحقق واستمرار الحياة الأُسرية، وضمان استقرارها.

2) تحقيق عوامل السكون النفسي والطمأنينة لجميع أفراد الأسرة حتى تتم عملية تربيتهم في جوٍّ مُفعمٍ بالسعادة والسرور بعيدًا عن القلق والتوتر والاضطراب والضياع.

ويأتي ذلك تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

3) حُسن تربية الأبناء والقيام بواجب التنشئة الاجتماعية السليمة والتربية الإيمانية الإيجابية السديدة، والعمل على صيانة فطرتهم عن الانحراف

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأحكام: باب من استرعى رعية فلم ينصح (برقم: 7150)، ومسلم في كتاب الإيمان: باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار برقم (142).

ص: 49

والضلال، تحقيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ مولودٍ يُولدُ على الفطرة فأبواهُ يُهوِّدانِهِ، أو يُنصِّرانِهِ، أو يُمجِّسانِهِ كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟»

(1)

.

يقول ابن حجر رحمه الله: «يريد أنها تُولد لا جدع فيها، وإنما يجدعها أهلُها»

(2)

.

يقول الغزالي

(3)

: «فالأولاد قلوبهم الطاهرة جواهر نفيسة خالية من كل نقش وصورة، وهم قابلون لكل ما ينقش عليها، فإن عُوِّدُوا الخير والمعروف نشأوا عليه، وسُعِدوا في الدنيا والآخرة، وشاركوا في ثواب والديهم، وإن عُوِّدُوا الشر والباطل، شقُوا وهلكُوا، وكان الوِزْرُ في رقبة والديهم، والوالي لهم»

(4)

.

(1)

البخاري (1385) و مسلم (2658)

(2)

فتح الباري (3/ 250).

(3)

الغزالي (450 - 505 هـ) هو: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي بتشديد الزاي. نسبته إلى الغزال (بالتشديد) على طريقة أهل خوارزم وجرجان: ينسبون إلى العطار عطاري، وإلى القصار قصاري، وكان أبوه غزالًا، أو هو بتخفيف الزاي نسبة إلى (غزالة) قرية من قرى طوس. فقيه شافعي أصولي، متكلم، متصوف. رحل إلى بغداد، فالحجاز، فالشام، فمصر، وعاد إلى طوس.

من مصنفاته: «البسيط» ، و «الوسيط» ، و «الوجيز» ، و «الخلاصة» ، وكلها في الفقه، و «تهافت الفلاسفة» ، و «إحياء علوم الدين» . طبقات الشافعية (4/ 101 - 180)، والأعلام للزركلي (7/ 247)، والوافي بالوفيات (1/ 277).

نهجه وعقيدته:

أ) قال الذهبي رحمه الله: «وأدخله سَيَلانُ ذهنهِ في مضايقِ الكلام، ومزالِّق الأقدام» . ا هــ. سير أعلام النبلاء (19/ 323).

ب) وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله: «شيخُنا أبو حامد: بَلَعَ الفلاسفةَ، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع» . ا هــ. السير (19/ 327). =

= ج) وقال الذهبي أيضًا: «وقد ألّف الرجل في ذمِّ الفلاسفةِ كتابَ «التهافت» ، وكَشَفَ عوارَهم، ووافقهم في مواضعَ ظنًّا منه أن ذلك حقٌّ أو موافقٌ للملَّةِ، ولم يكن له علمٌ بالآثار، ولا خبرةٌ بالسنَّةِ النبويَّةِ القاضيةِ على العقلِ، وحُبِّبَ إليه إدمانُ النظرِ في كتابِ «رسائل إخوان الصفا» ، وهو داءٌ عضالٌ، وجَربٌ مردٍ، وسمٌّ قتَّال، ولولا أنَّ أبا حامد مِن كبار الأذكياء، وخيار المخلصين لتلِف، فالحذار الحذار مِن هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شُبَه الأوائل وإلا وقعتم في الحيرة

». اهـ. السير (19/ 328)، وللاستزادة ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 323)، ومجموع الفتاوى (10/ 551 - 552)، والكشف عن حقيقة الصوفية (ص 850)، وإحياء علوم الدين في ميزان العلماء والمؤرخين. لعلي الحلبي.

قلت: ويقولون: إنَّه خُتم له بخيرٍ، فترك التصوفَ والفلسفةَ، ومات و «صحيح البخاري» على صدره! فكان ماذا؟ وهل كان هذا الإمامُ غافلًا عن «البخاري» ، وقد أودع منه أحاديث في كتابه «الإحياء» ، بل قد جاء في ترجمة «الحافظ أبي الفتيان عمر الروَّاسي» أنَّه «قدم «طوس» في آخر عمره، فصحَّح عليه «الغزَّالي» «الصحيحين» !». قاله الذهبي في سير أعلام النبلاء (19/ 318) لكنَّ فضلَ اللهِ على خلقه عظيمٌ، ورحمتُه وسعتْ كلَّ شيءٍ فنسأل الله له الرحمة، لكن هذا لا يلزم منه مدحه، والثناء عليه، وتلقيبه بـ «حجة الإسلام» !! ويجب ترك ما في كتبه مِن انحرافٍ وضلالٍ.

(4)

ينظر: إحياء علوم الدين للغزالي (2/ 200).

ص: 50

4) توفير مقومات التربية الإسلامية الصحيحة والعناية بمختلف الجوانب الشخصية للناشئة (عقديًّا، وروحيًّا، وعقليًّا، وجسميًّا).

والحرص على توازن وتكامل تلك المقومات لما لتكاملها وتوازنها من الأثر الكبير في تنشئة وتكوين الشخصية المسلمة السوية، والعمل على تفاعلها وتكيفها وتعاملها مع المجتمع بمختلف فئاته وطبقاته بصورةٍ إيجابيةٍ سليمة وسديدة، وبصفة دائمة مستديمة.

ص: 51

5) الحرص على توعية الناشئة بكل نافعٍ ومفيد، والعمل على تصحيح مفاهيمهم المغلوطة والتي أغلبها يلقى عليهم عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل والتقنية الحديثة المختلفة وغيرها، وحمايتهم من كل ما يُهدد سلامتهم وسلامة قلوبهم وعقولهم من الغزو العقائدي والفكري والخلقي، وتعليمهم الأخلاق الإسلامية الكريمة والصفات الطيبة الحميدة، والآداب الفاضلة، والعادات والشيم الحسنة، وتربيتهم عليها عمليًّا، حتى يشبوا عليها ويألفوها، ويتعودوا على مبدأ التحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق، والتخلي عن الرذائل وسفاسف الأمور.

6) العمل على إكساب الناشئة الخبرات الأساسية والمهارات الأولية اللازمة لتحقيق تكيفهم وتفاعلهم المطلوب مع الحياة ومتطلباتها ومستجداتها، وإكسابهم الثقة بالنفس، والقدرة على التعامل مع الآخرين، وتربيتهم وتدريبهم على تحمل المسؤولية منذ نعومة أظفارهم بحسب إمكاناتهم وبقدر ما يطيقون ويتحملون من الأعمال بلا إفراط ولا تفريط عملًا بقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: عدولًا خيارًا، وكذلك إزجاء وملء أوقاتهم بكل ما يعود نفعه عليهم وعلى مجتمعاتهم وأمتهم بكل خير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس، الصِّحة والفراغ»

(1)

، وكذلك الحرص على تعويدهم حضور حلق العلم ومجالس الذكر، والحرص على إلحاقهم بحلق تحفيظ القرآن الكريم، وإعانتهم على حفظ ما يتيسر لهم من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والاطلاع على سيرته العطرة المباركة ليتعلموا هديه في عبادته

(1)

رواه البخاري (6412).

ص: 52

ومعاملاته، وكذلك ليتعلموا شمائله الكريمة، وصفاته الطيبة، وأخلاقه الحميدة، وسمته الحسن صلى الله عليه وسلم، وكذلك سير أئمة الهدى ومصابيح الدجى من أصحابه الكرام وأنصاره على دينه رضي الله عنهم وكذلك سير أعلام وأئمة الإسلام وسير الصالحين وسير كل من له قدم صدق في نصرة دين الله وإعلاء كلمته في الأرض، وكذلك الاستماع إلى الدروس العلمية والمواعظ النافعة، والحرص كذلك على تعليمهم الأذكار الموظفة وإلى كل ما من شأنه النفع والإعانة على تربيتهم والأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم وثباتهم عليه حتى يلقوا ربهم، ليعذروا بعد ذلك في أداء تلك الأمانة العظيمة والتي سيسألون عنها بين يدي جبار السموات والأرض، يقول صلى الله عليه وسلم:«ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم»

(1)

، وكذلك من أوجب الواجبات على الوالدين عمومًا وعلى الأب خصوصًا عدم تمكين الأبناء من المحرمات بأنواعها أو التساهل بحجة أنه ما يزال صغيرًا أو غير ذلك من الحجج الواهية.

يقول ابن القيم رحمه الله: «والصبي وإن لم يكن مكلفًا: فوليُّه مكلَّف، لا يحل له تمكينه من المحرَّم، فإنه يعتاده، ويعسر فطامه عنه»

(2)

.

وذلك تحقيقًا واستجابة لأمر ربنا القائل في محكم التنزيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

(1)

متفق عليه، البخاري (893)، ومسلم (1829)

(2)

تحفة المودود بأحكام المولود (ص 162).

ص: 53

- قال أميرُ المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: «أدِّبوهم وعلِّموهمُ الخيرَ» .

- وقال قتادةُ

(1)

رحمه الله: «تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيتَ لله معصية؛ زجرتَهم عنها»

(2)

.

- قال ابن سعدي -رحمه الله تعالى: «ووقاية الأنفس بإلزامها أمر الله امتثالًا ونهيه اجتنابًا والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب، ووقاية الأهل، والأولاد بتأديبهم وتعليمهم وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه وفيمن تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم ممن هم تحت ولايته وتصرفه»

(3)

.

- وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الله عز وجل سائل كل ذي رعية فيما استرعاه، أقام أمر الله فيهم أم أضاعه؟ حتى إن الرجل ليسأل عن أهل بيته»

(4)

.

(1)

قتادة (61 - 118 هـ) هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي. من أهل البصرة، ولد ضريرًا، أحد المفسرين والحفاظ للحديث، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة. وكان مع عمله بالحديث رأسًا في العربية، ومفردات اللغة وأيام العرب، والنسب، كان يرى القدر، وقد يدلس في الحديث، مات بواسط في الطاعون. (الأعلام للزركلي (6/ 27)، وتذكرة الحفاظ (1/ 115).

(2)

تفسير ابن كثير (4/ 391).

(3)

تفسير ابن سعدي (ص: 1036)

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (20650)، والطبراني في المعجم الكبير (8764) وأعله الألباني بالانقطاع.

قال الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 180): رواه النسائي في عشرة النساء (2/ 89/ 2): أخبرني إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي، = =عن قتادة، عن أنس مرفوعًا. وبهذا الإسناد عن قتادة عن الحسن مثله. قلت: ورجال الإسنادين ثقات لكن الثاني مرسل، والأول مسند فهو صحيح إن كان قتادة سمعه من أنس فإنه مذكور بشيء من التدليس، و الله أعلم. و من الوجه الأول رواه الضياء في المختارة (185/ 2) ثم ذكر الرواية الأخرى المرسلة ثم قال:«قال الدارقطني: والصحيح عن هشام عن قتادة عن الحسن مرسلًا» . قلت: و أخرجه ابن حبان في صحيحه (1562) وابن عدي في «الكامل» (13/ 1) من طريق إسحاق بن إبراهيم و هو ابن راهويه ثم قال: «و هو حديث يتفرد به إسحاق بن راهويه» ، قلت: هو إمام ثقة حافظ فلا يضر تفرده. ويشهد للحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته

» الحديث، و هو مخرج في «غاية المرام في تخريج الحلال و الحرام» (268). و روى عبد الرزاق في «المصنف» (20650) و عنه الطبراني في «المعجم الكبير» (8855) عن قتادة: أن ابن مسعود قال: «إن الله عز وجل سائل كل ذي رعية فيما استرعاه، أقام أمر الله فيهم أم أضاعه؟ حتى إن الرجل ليسأل عن أهل بيته» ، وهو موقوف منقطع؛ لأن قتادة لم يسمع من ابن مسعود كما قال الهيثمي في المجمع (7/ 208).

ص: 54

وهذه الرعاية التي فرضها الله على الآباء وسيسألهم عنها يوم القيامة تتمثل في أداء الحقوق والواجبات.

- ويقول ابن القيم رحمه الله أيضًا: «فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعه، وَتَرَكَهَ سُدى، فقد أَساءَ إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولادِ إِنما جاء فسادُهُم من قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهِم لهم، وتركِ تعليمِهِم فرائضَ الدينِ وَسُنَنَه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كِبَارًا»

(1)

.

- وقال ابن حجر

(2)

-رحمه الله تعالى: «وهو مسؤول عنهم لأنه أُمر أن

(1)

تحفة المودود بأحكام المولود. تحقيق: بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان بدمشق، ومكتبة المؤيد بالطائف، الطبعة الثانية (1407 هـ)، صفحة (139).

(2)

ابن حجر العسقلاني (773 - 852 هـ) هو: أحمد بن علي بن محمد، شهاب الدين، = = أبو الفضل الكناني العسقلاني، المصري المولد والمنشأ والوفاة، الشهير بابن حجر - نسبة إلى (آل حجر) قوم يسكنون بلاد الجريد وأرضهم قابس في تونس، من كبار الشافعية، كان محدثًا فقيهًا مؤرخًا، انتهى إليه معرفة الرجال واستحضارهم، ومعرفة العالي والنازل، وعلل الأحاديث وغير ذلك. تفقه بالبلقيني والبرماوي والعز بن جماعة. ارتحل إلى بلاد الشام وغيرها، تصدى لنشر الحديث وقصر نفسه عليه مطالعة وإقراءً وتصنيفًا وإفتاء، وتفرد بذلك حتى صار إطلاق لفظ المُحدِّث عليه كلمة إجماع، درس في عدة أماكن وولي مشيخة البيبرسية ونظرها والإفتاء بدار العدل، والخطابة بجامع الأزهر، وتولى القضاء، زادت تصانيفه على مائة وخمسين مصنفًا، من تصانيفه:«فتح الباري شرح صحيح البخاري» خمسة عشر مجلدًا؛ و «الدراية في منتخب تخريج أحاديث الهداية» ، و «تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير». وينظر: الضوء اللامع (2/ 36)، والبدر الطالع (1/ 87)، وشذرات الذهب (7/ 270)، ومعجم المؤلفين (2/ 20).

ص: 55

يحرص على وقايتهم من النار، وامتثال أوامر الله واجتناب مناهيه»

(1)

.

(1)

يقول الباحث: وابن حجر مع جلالة قدره في علم الحديث إلا أنه كثيرًا ما يقرر عقيدة الأشاعرة ولا سيما في فتح الباري: وإليك أيها القارئ الكريم غيضًا من فيض من تأويلات ابن حجر لصفات الرب جل في علاه مقررًا عقيدة الأشاعرة متجنبًا لمنهج السلف في إثبات الأسماء والصفات على حقيقتها على وجه يليق بذاته سبحانه بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل.

1 -

نزَّه الله عن اليد التي هي جارحة. فقال: في الهدي (هدي الساري)(219): قوله: (أطولهن يدًا) أي: أسمحهن.

2 -

أول الاستحياء: قال: في الفتح (1/ 189): «قوله: (فاستحيا الله منه) أي: رحمه ولم يعاقبه.

3 -

أوَّلَ اليد بالقدرة: قال: في الفتح (1/ 419): «والمراد باليد هنا القدرة» .

4 -

تأويل العجب: قال: في الفتح (6/ 168): «وقد تقدم توجيه العجب في حق الله في أوائل الجهاد وأن معناه الرضا ونحو ذلك

».

=

5=- تأويله للغضب في موضع آخر: قال: في الفتح (7/ 179): «والمراد بغضب الله إرادة إيصال العقاب

».

6 -

نفي الجوارح والأعضاء نفيًا مطلقًا درءًا للتجسيم.

قال: (8/ 532): «لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء» .

7 -

تأويل الفرح قال: (11/ 109): «وقال ابن أبي جمرة: كنَّى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح؛ لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه

» اهـ.

8 -

تأويل النزول قال: (11/ 133): «وقال الكرماني:

: النزول محال على الله؛ لأن حقيقته الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه عن ذلك، فليُتأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه، أو يفوض مع اعتقاد التنزيه

». اهـ.

9 -

تأويل الضحك والأخذ بالمجاز، قال:(11/ 452): «قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا

» اهـ.

10 -

تأويل الساق: قال: (11/ 459): «ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول

». اهـ.

11 -

تأويل نظر الله، قال الحافظ (13/ 215): «ومعنى لا ينظر إليهم: يعرض عنهم. ومعنى نظره لعباده: رحمته لهم ولطفه بهم

» اهـ.

موقف علمائنا من الحافظين، ابن حجر، والنووي -رحمهما الله-:

أهل السنَّة والجماعة منصفون في الحكم على الآخرين، لا يرفعون الناس فوق ما يستحقون، ولا ينقصون قدرهم، ومن الإنصاف بيان خطأ المخطئ من أهل العلم والفضل، والتأول له، والترحم عليه، كما أن من الإنصاف التحذير من خطئه؛ لئلا يغتر أحد بمكانته فيقلده فيما أخطأ فيه، وأهل السنَّة لا يتوانون عن الحكم على المخالف المتعمد للسنَّة بأنه مبتدع ضال، وقد وُجد في زماننا هذا من نال من ابن حجر والنووي، فحكم عليهما بأنهما مبتدعان ضالان!، وبلغت السفاهة ببعضهم أن قال بوجوب= =إحراق كتابيهما «فتح الباري» و «شرح مسلم» !.

وليس معنى هذا أنهما لم يخطئا في مسائل من الشرع، وبخاصة في باب صفات الله تعالى، وقد علَّق عليها علماؤنا، وبينوها، وردوا عليهما، مع الترحم عليهما، والثناء بما يستحقانه، والدعاء لهما، والوصية بالاستفادة من كتبهما، وهذا هو الإنصاف الذي عُرف به أهل السنَّة والجماعة، بخلاف من بدَّعهما، وضلَّلهما، وقال بإحراق كتبهما، وبخلاف من استدل بكلامهما كأنه شرع منزَّل، وجعل ما يعتقدانه هو الحق الذي لا ريب فيه، وسنذكر ما يتيسر من كلام علمائنا ليقف المسلم على الإنصاف، والعلم، والحكم بالعدل على هذين الحافظين.

1 -

سُئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية: ما هو موقفنا من العلماء الذين أوَّلوا الصفات، مثل ابن حجر، والنووي، وابن الجوزي، وغيرهم، هل نعتبرهم من أئمة أهل السنَّة والجماعة، أم ماذا؟ وهل نقول: إنهم أخطأوا في تأويلاتهم، أم كانوا ضالين في ذلك؟

فأجابوا: «موقفنا من أبي بكر الباقلاني، والبيهقي، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي زكريا النووي، وابن حجر، وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى، أو فوَّضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله، سواء تأولوا الصفات الذاتية، وصفات الأفعال، أم بعض ذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم» انتهى.

الشيخ عبد العزيز بن باز. الشيخ عبد الرزاق عفيفي. الشيخ عبد الله بن قعود، «فتاوى اللجنة الدائمة» (3/ 241).

2 -

وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: بالنسبة للعلماء الذين وقعوا في بعض الأخطاء في العقيدة، كالأسماء والصفات، وغيرها، تمر علينا أسماؤهم في الجامعة حال الدراسة، فما حكم الترحُّم عليهم؟

=

= الشيخ: مثل مَن؟.

السائل: مثل: الزمخشري، والزركشي، وغيرهما.

الشيخ: الزركشي في ماذا؟.

السائل: في باب الأسماء والصفات.

فأجاب: «على كل حال، هناك أناس ينتسبون لطائفة معينة شعارها البدعة، كالمعتزلة مثلًا، ومنهم الزمخشري، فالزمخشري مُعتزلي، ويصف المثْبِتِين للصفات بأنهم: حَشَوِية، مُجَسِّمة، ويُضَلِّلهم فهو معتزلي، ولهذا يجب على مَن طالع كتابه «الكشاف» في تفسير القرآن أن يحترز من كلامه في باب الصفات، لكنه من حيث البلاغة، والدلالات البلاغية اللغوية جيد، يُنْتَفع بكتابه كثيرًا، إلا أنه خَطَرٌ على الإنسان الذي لا يعرف في باب الأسماء والصفات شيئًا، لكن هناك علماء مشهودٌ لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة مِن أهل البدع، لكن في كلامهم شيءٌ من كلام أهل البدع؛ مثل: ابن حجر العسقلاني، والنووي -رحمهما الله-، فإن بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًّا مطلقًا من كل وجه، حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول: يجب أن يُحْرَقَ «فتح الباري» ؛ لأن ابن حجر أشعري، وهذا غير صحيح، فهذان الرجلان بالذات ما أعلم اليوم أن أحدًا قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثل ما قدَّماه، ويدلك على أن الله سبحانه وتعالى بحوله وقوته -ولا أَتَأَلَّى على الله- قد قبلها: ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس، لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب «رياض الصالحين» يُقرأ في كل مجلس، ويُقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعًا عظيمًا، وأتمنى أن يجعل الله لي كتابًا مثل هذا الكتاب، كلٌّ ينتفع به في بيته، وفي مسجده، فكيف يقال عن هذين: إنهما مبتَدعانِ ضالان، لا يجوز الترحُّم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما! ويجب إحراق «فتح الباري» ، و «شرح صحيح مسلم» ؟! سبحان الله! فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال، وبلسان المقال: أَقِلُّوا عليهمْ لا أبا لأبيكمُ مِن اللومِ، أو سدوا المكان الذي سدوا، من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدَّم هذان الرجلان، إلا أن يشاء الله، فأنا أقول: غفر الله للنووي ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين، وأمِّنوا = =على ذلك» انتهى. «لقاءات الباب المفتوح» (43/ السؤال رقم 9).

3 -

وسئل معالى الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء -حفظه الله-:

لقد ظهر بين طلاب العلم اختلاف في تعريف المبتدع فقال بعضهم: هو من قال أو فعل البدعة، ولو لم تقع عليه الحجة، ومنهم من قال لا بد من إقامة الحجة عليه، ومنهم من فرَّق بين العالم المجتهد وغيره من الذين أصلوا أصولهم المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وظهر من بعض هذه الأقوال تبديع ابن حجر والنووي، وعدم الترحم عليهم؟

فأجاب: «أولًا: لا ينبغي للطلبة المبتدئين وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق؛ لأن ذلك أمر خطير وهم ليس عندهم علم ودراية في هذا الموضوع، وأيضًا هذا يُحدث العداوة والبغضاء بينهم، فالواجب عليهم الاشتغال بطلب العلم، وكف ألسنتهم عما لا فائدة فيه، بل فيه مضرة عليهم، وعلى غيرهم.

ثانيًا: البدعة: ما أحدث في الدين مما ليس منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» -رواه البخاري-، وإذا فعل الشيء المخالف جاهلًا؛ فإنه يعذر بجهله، ولا يحكم عليه بأنه مبتدع، لكن ما عمله يعتبر بدعة.

ثالثًا: من كان عنده أخطاء اجتهادية تأوَّل فيها غيره، كابن حجر، والنووي، وما قد يقع منهما من تأويل بعض الصفات: لا يُحكم عليه بأنه مبتدع، ولكن يُقال: هذا الذي حصل منهما خطأ، ويرجى لهما المغفرة بما قدماه من خدمة عظيمة لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما إمامان جليلان، موثوقان عند أهل العلم» انتهى. «المنتقى من فتاوى الفوزان» (2/ 211، 212).

4 -

وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر رحمه الله: «مثل النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما، من الظلم أن يقال عنهم: إنهم من أهل البدع، أنا أعرف أنهما من «الأشاعرة» ، لكنهما ما قصدا مخالفة الكتاب والسنَّة، وإنما وهِما، وظنَّا أنما ورثاه من العقيدة الأشعرية: ظنّا شيئين اثنين:

أولًا: أن الإمام الأشعري يقول ذلك، وهو لا يقول ذلك إلاَّ قديمًا؛ لأنه رجع عنه.

وثانيًا: توهما صوابًا، وليس بصواب. انتهى من (شريط رقم 666)«من هو الكافر ومن هو المبتدع» .

=

= فرحم الله: النووي وابن حجر، وغفر لهما ما أخطآ فيه، والله أعلم.

يقول الباحث: ذكرت ونقلت هذا ديانة وأمانة، وللاستزادة، ينظر: الإسلام سؤال وجواب. للمنجد، ولعل في هذا كفاية، والحمد لله رب العالمين.

فتح الباري شرح صحيح البخاري (كتاب النكاح)(9/ 113). (قول ابن حجر).

ص: 56

وقال: قال مجاهد: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم: 6] أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم

(1)

فلا أعز على الإنسان من نفسه ولا أقرب له من أهله، ولا سعادة تعدل سعادة نجاة الإنسان وأهله يوم القيامة، قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

وفي المقابل فإن خسارتهم يوم القيامة تعد خسارة عظيمة، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

لذا فمن أولى أولويات الآباء في تربية الأبناء، وأوجب الواجبات في رعايتهم، وأحق الحقوق هو حقهم في البناء الإيماني الذي يؤهلهم لما ينتظرهم في دنياهم وآخرتهم.

ولا شك أن من كان في إيمانه أعمق كان في كل جوانب حياته أنجح، فلا أقل من أن يعرف كيف يستعين بربه في جميع أموره، وهو الأكثر يقينًا حال استعانته، وإن كان يجهل طريق الوصول لما يريد فإنه يعلم كيف يسأل الله أن يعلمه ويهديه إلى سواء السبيل.

(1)

فتح الباري شرح صحيح البخاري (كتاب التفسير)(8/ 659)(أثر مجاهد).

ص: 61

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

ومن وفقه الله لأداء هذا الحق لأبنائه حبًّا لله وخوفًا منه فهو الذي قد أدى حق ربه وحق أبنائه على أكمل وجه، ومثله حري به أن يحسن على ذاك السؤال جوابًا: وأما من أساء وظلم فليعد للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.

7) الأمر باعتناق العقيدة الصحيحة وتعلمها:

تعريف الأبناء بأهمية التوحيد، وعرضه عليهم بأسلوب يسير (سهل). يناسب عقولهم ومداركهم ومراحلهم العمرية مع بثّ روح المراقبة لله والخوف منه سبحانه وتعالى، مع بيان أسمائه وصفاته التي تدل على اطلاعه على خلقه وسعة علمه سبحانه بعباده، كالعليم والسميع والبصير مع بيان مدلولاتها ومعانيها، وأثرها في سلوكهم، وبيان معيته لخلقه بعلمه وسمعه ورؤيته لعباده (مع علوه جل في علاه).، قال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه وكليمه موسى وأخاه هارون عليه السلام:{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].

- قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى: «{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] أَيْ: لَا تَخَافَا مِنْهُ فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَع كَلَامكُمَا وَكَلَامه وَأَرَى مَكَانكُمَا وَمَكَانه لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ أَمْركُمْ شَيْء وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَته بِيَدِي فَلَا يَتَكَلَّم وَلَا يَتَنَفَّس وَلَا يَبْطِش إِلَّا بِإِذْنِي وَبَعْد أَمْرِي وَأَنَا مَعَكُمَا بِحِفْظِي وَنَصْرِي وَتَأْيِيدِي»

(1)

.

(1)

تفسير ابن كثير (5/ 261)

ص: 62

8) وكذلك حثّ الأبناء على الطهارة وتعلم صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم عمليًّا، وكذلك صفة صلاته صلوات الله وسلامه عليه، كما رغبنا صلى الله عليه وسلم في ذلك في صحيح سنته: فـ (عَن حُمْرَانَ

(1)

-مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ -الوَضُوء بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به، وبضمها غسل أعضاء الوضوء-، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِن إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(2)

.

وكذلك تعليمهم إقامة الصلاة وتعويدهم على أدائها في جماعة على الوجه الصحيح والمطلوب شرعًا، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي»

(3)

.

واستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم، القائل:«علموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا، وفرقوا بينهم في المضاجع»

(4)

.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدور التربوي للأُسرة في عصرنا الحاضر قد

(1)

حمران بن أبان الفارسي الفقيه مولى أمير المؤمنين عثمان، كان من سبي عين التمر ابتاعه عثمان من المسيب بن نجبة، حدَّث عن عثمان، ومعاوية، وهو قليل الحديث، سير أعلام النبلاء (ص: 183).

(2)

متفق عليه رواه البخاري (48/ 1)، ومسلم (204/ 1)، وغيرهما.

(3)

البخاري (6008 - 7246) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

(4)

الألباني، صحيح الجامع (4026) صحيح.

ص: 63

تقلص بعض الشيء ولم يعد بنفس المنزلة التي كان عليها من قبل، والسبب في ذلك أن هناك مؤسساتٍ اجتماعيةً أُخرى تمكنت في العصر الحاضر من مُزاحمة الأسرة والسيطرة على معظم الوقت الذي يقضيه الناشئ تحت تأثيرها، ومن هذه المؤسسات وسائل الإعلام التي تُعد بحق في عصرنا أهم وأبرز المؤسسات التربوية الاجتماعية المؤثرة تأثيرًا فاعلًا في حياة الإنسان صغيرًا كان أم كبيًرا، جاهلًا أم مُتعلمًا، ذكرًا أم أُنثى، سلبًا وإيجابًا، بخيرها وشرها، بحلوها ومرها

(1)

.

9) العدل بين الأولاد وحسن معاملتهم: لقد حثّنا ديننا الحنيف وأمرنا بالعدل بين الأبناء في المعاملة وفي كل عطاء معنويًّا كان أم ماديًّا، وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى متوافرة في سنته المطهرة.

فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟» فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«فَارْجِعْهُ»

(2)

.

وفي لفظ آخر للشيخين أيضًا، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي؛ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟» قَالَ: لَا، قَالَ:«اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ» . فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ

(3)

. وفي لفظٍ لمسلم فقال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا بَشِيرُ، أَلَكَ

(1)

صالح بن علي أبو عرَّاد، مقدمة في التربية الإسلامية. الرياض: دار الصولتية للتربية (1424 هـ) بتصرف يسيرٍ

(2)

رواه البخاري (2586)، ومسلم (1623).

(3)

البخاري (2587)، ومسلم (1623).

ص: 64

وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ:«أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟» قَالَ: لَا، قَالَ:«فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»

(1)

.

- ووجه الدلالة على تحريم تفضيل بعض الأولاد على بعض من الحديث ظاهرة من وجوه:

الأول: أمره بالعدل والأمر يقتضي الوجوب.

الثاني: بيانه أن تفضيل أحدهم أو تخصيصه دون الباقين ظلم وجور، إضافة إلى امتناعه عن الشهادة عليه وأمره برده، وهذا كله يدل على تحريم التفضيل، والاستدلال أيضا بحجج عقلية؛ فمنها: ما ذكره ابن حجر حيث قال رحمه الله: «ومِن حجة مَن أوجب العدل: أن هذا مقدمة الواجب؛ لأن قطع الرحم والعقوق محرمان، فما يؤدي إليهما يكون محرمًا.

والتفضيل مما يؤدي إلى ذلك»

(2)

.

ويؤيد ذلك ما جاء في لفظٍ عند مسلم: «قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» ، ثُمَّ قَالَ:«أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ:«فَلَا إِذًا»

(3)

.

ومنها أن تفضيل بعضهم على بعض يورث العداوة والبغضاء فيما بينهم، وأيضا فيما بينهم وبين أبيهم فمنع منه، وهو في معنى السابق

(4)

.

(1)

مسلم (1623).

(2)

فتح الباري (5/ 214).

(3)

مسلم (1623).

(4)

المغني (5/ 664).

ص: 65

‌ثالثًا- أهمية المعاملة الحسنة (المعتدلة):

وتتباين معاملة الأسر لأولادهم في ثلاثة أنواع:

النوع الأول: المعاملة القاسية:

وتتسم بالشدة في التعامل كالزجر أو التهديد أو الضرب بدون ضوابط أو حدود مشروعة، أو الإهمال للأبناء بذريعة ظروف العمل، وكثرة الأسفار، أو غير ذلك من الحجج الواهية، فيحرم الأولاد من البرّ بهم والتعامل معهم.

النوع الثاني: المعاملة اللينة:

يُلَبَّى فيها كل ما يطلبه الأولاد، ويُطلق عليها «التربية المدللة» والإفراط في الدلال يؤدي إلى إيجاد شخصية فوضوية، أو كما قالوا قديمًا:«زيادة الدلال تؤدي إلى الانحلال» .

النوع الثالث: المعاملة المعتدلة (المعاملة الحسنة):

تعتمد على المزج بين العقل والعواطف، وتوجيه النصح والإرشاد، وبهذا تتكون شخصية سليمة وصحيحة، وإذا لم يستجب الأولاد بالإرشاد والتوجيه يلجأ الأبوان إلى توبيخهم ثم هجرهم ثم حرمانهم من بعض الأشياء والأمور المحببة إليهم أحيانًا، وأخيرًا إلى ضربهم -إذا لزم الأمر -ضرب تأديب ورحمة-لا ضرب تَشَفٍّ وانتقام- لإعادتهم إلى الطريق الصحيح، وهذا النوع من المعاملة هو المعاملة الصحيحة التي ينبغي أن تسير عليها الأسرة، «وإن حبّ الطفل لا يعني بالطبع عدم تأديبه وتعليمه آداب السلوك الاجتماعي منذ الصغر، مثل تعويده على التعامل الحسن مع أصدقائه وتعويده على احترام من هو أكبر سنًّا منه، وتعميق الرقابة الذاتية لديه، أي: قدرته على تحديد الضوابط

ص: 66

لسلوكه تجاه الآخرين؛ فإذًا لا بُدَّ من التوازن بين التأديب للطفل والتعاطف معه، فكما أنه لا يصلح الخضوع الدائم لطلبات الطفل، فإنه لا يصلح استمرار الضغط عليه وكَبْتِهِ، فالتدليل الزائد لا يُعَوِّدُهُ على مواجهة صعوبات الحياة، والضغط الزائد يجعله منطويًا على نفسه مكبوتًا يعاني من الحرمان»

(1)

.

‌رابعًا- التحذير من أهم المخاطر التي تواجه الأسرة:

مخاطر تواجه الأسرة:

هناك مخاطر عديدة تواجهها الأسرة، ولا يمكن الإسهاب في تناولها، فنتناول أبرزها بإيجاز:

أ-التناقض بين أقوال الوالدين وأفعالهما:

إن التناقض بين أقوال الوالدين وأفعالهما يترك أثرًا سلبيًّا في نفوس الأبناء ويجعلهم في حيرة من أمرهم لما يرون من تضارب بين الأقوال والأفعال الصادرة من الوالدين، فلا تحدث القناعة الداخلية بأوامر الوالدين لدى الأبناء ولو تظاهروا بالاستجابة لتلك الأوامر ظاهريًّا، كالأب الذي يدخن أمام أبنائه ثم يحدثهم عن ضرر التدخين وأثره على صحتهم وأنه من الخبائث ونحو ذلك، أو كالأم التي تحذر أبناءها من الكذب ثم يرونها تكذب على أبيهم مثلًا.

والله يقول في مثل هذا الصدد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2].

وسيأتي معنا مبحث التربية بالقدوة منفردًا لأهميته ومكانته وخطورته.

(1)

أكرم ضياء العمري، التربية الروحية والاجتماعية في الإسلام (ص 192).

ص: 67

ب- الانفصام بين روافد التربية وهي (الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام):

وسيأتي بيان أهمية وجوب التواصل بين روافد التربية مجتمعة في ختام هذا المبحث المهم بإذن الله تعالى.

ج-وجود الخادمات والمربيات في البيوت:

أصبح وجود الخادمات والمربيات ظاهرة اجتماعية بارزة في المجتمع الإسلامي العربي.

ولا شك أن وجود هؤلاء الخادمات والمربيات له آثاره السيئة والخطيرة في تنشئة الأبناء الدينية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية، ولا سيما إنْ كنّ كافرات ومن ذوات الأخلاقيات المنحرفة والسلوكيات الرديئة غير الحميدة، فلا بد أن تعي كل أسرة مسلمة خطورة وجود الخادمات والمربيات الأجنبيات وبالأخص الكافرات وأبعاد ذلك -على العقيدة والأخلاق وعلى الثقافة والمفاهيم؛ بل وحتى على إضعاف اللغة العربية (لغة القرآن) سواءً على سبيل المحادثة أو الكتابة، وعلى التكوين النفسي والشخصي للأبناء، فعلى الأسرة المسلمة أن تحذر من شرورهن وخطورة وجودهن في البيوت، وأول هذه المخاطر وأهمها المخاطر العقدية المتعلقة بالعقيدة، والانحرافات عن العقيدة الإيمانية الصحيحة، وتلقين مبادئ العقائد والديانات المنحرفة للأطفال بالطريق المباشر أو غير المباشر بأداء شعائر الكفر وطقوسه أمام الأطفال مما يؤدي إلى اختلال العقيدة في نفوس الأبناء، وانحرافهم وتأثرهم بعقائد الخادمات الكافرات واصطباغهم بصبغتها، وأيضًا الحذر الشديد من المخاطر الأخلاقية واستعمال السحر والشعوذة وغيرها من الشرور، وكذلك الاحتفال

ص: 68

بأعياد الميلاد والمناسبات التي تتعلق بديانات الكفار، والتعود على شعائر الكفر وأعياد الكفر لا شك أنه نوع من أنواع انتزاع الولاء والبراء، وتقويض لعقيدة الولاء والبراء في نفوس الأولاد، والتي هي أوثق عُرَى الإيمان، وقيام الحب والبغض على غير أسس العقيدة، وأقل ما يمكن أن تحدثه الخادمة الكافرة في الإخلال بالعقيدة في نفس الولد أن توقع في نفسه حب الكفار واحترامهم، وموافقتهم على دينهم، من خلال حبه لها، وهذا هدم لمبدأ الولاء والبراء الذي تقوم عليه عقيدة المسلمين.

ولله دَرُّ من قال:

ولَيْسَ النَّبْتُ يَنْبُتُ فِي جِنَانٍ

كَمِثْلِ النَّبْتِ يَنْبُتُ فِي الفَلَاةِ

فَكَيْفَ نَظُنُّ بِالأَبْنَاءِ خَيْرًا

إِذَا نَشَؤُوا بِحِضْنِ الجَاهِلَاتِ

وَهَلْ يُرْجَى لِأَطْفَالٍ كَمَالٌ

إِذَا ارْتَضَعُوا ثُدِيَّ النَّاقِصَاتِ

(1)

.

وفي عهد دولة بني أمية كان استقدام الجواري والغلمان سببًا في الترف الذي أسقط الدولة.

وأخيرًا: فإن كانت الحاجة إليهن ماسة وملحة وضرورية ولا بد منها، فلا بأس ولكن لا بد أنْ يَكنَّ مسلمات مؤمنات صالحات مستقيمات طاهرات عفيفات، ومع الضوابط الشرعية.

(1)

بتصرُّف من ديوان معروف الرصافي بعنوان: التربية والأمهات.

الرصافي (1292 - 1365 هـ/ 1875 - 1945 م)، أكاديمي وشاعر عراقي اسمه الكامل: معروف بن عبد الغني بن محمود الجباري، ولد ونشأ في بغداد، عمل في حقل التعليم وله عدة إصدارات شعرية، وللاستزادة، ينظر: الموسوعة الحرة.

ص: 69

د- وسائل الإعلام:

تؤكد نتائج الأبحاث والدراسات بما لا يدع مجالًا للشك أن الطفل العربي المسلم يتعرض لمؤثرات خطيرة، وأن شخصيته وهي في مراحل تكوينها تخضع لضغوط سلبية متنوعة.

يقول أحد رؤوس الكفر المعاصرين:

«لسنا نحن الذين سنغير العالم العربي، ولكنه ذلك الطبق الصغير الذي يرفعونه على أسطح منازلهم»

(1)

، وللأسف: فإن الحق ما شهدت به الأعداء: وأقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه في قصته مع الشيطان وقد جاء يحثو من صدقة الفطر: «صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان»

(2)

.

وأقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا لأُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه في خبره مع الشيطان وقد جاءه يسرق من تمره، قال له صلى الله عليه وسلم:«صدقك الخبيث»

(3)

.

فأقول: .. صدقنا وهو كذوب

صدقنا

والله

الخبيث

ذاك شيطان

(شيطان .. إنسي).

(1)

هو: شمعون بيريز -رئيس وزراء إسرائيل السابق- ينظر: الأطفال ومشاهدة العنف في التلفزيون لعبد الرحمن غالب (ص 88)؛ نقلًا عن: التربية الأسرية بين الضوابط الشرعية والمتطلبات العصرية. د/ محمد السيد علي، مجلة المنهل، شوال/ ذو القعدة (1420 هـ، يناير/ فبراير 2000 م)(ص 76).

(2)

البخاري (5010).

(3)

الألباني في كلّ من: صحيح الترغيب والترهيب (662)، والسلسلة الصحيحة (738/ 7).

ص: 70

وسيأتي الكلام عن الإعلام بتوسع أكثر في موضعه من هذا المبحث بإذن الله تعالى.

هـ- الفراغ وعدم الإفادة من الوقت:

الفراغ من أهم أسباب الوقوع في المعاصي والمنكرات، والانحرافات الخلقية والسلوكية، ويرجع سبب وجود هذا الفراغ إلى:

1 -

عدم معرفة الهدف الصحيح والغاية من الحياة التي بينها الله في آي التنزيل.

فقال في محكم كتابه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].

2 -

وعدم وجود التصور الواضح المتكامل لهذه الحياة، والجهل بمهام المسلم ومسؤولياته في هذا الكون، فالنفس إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وشغلها بالحق يكون بتزكيتها، وتهذيبها، وإلجامها عن الباطل؛ وإلا تعودت على السوء، واستمرت بالانحراف فخاب بذلك صاحبها، كما قال باريها:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9، 10].

وقال الحسن البصري:

«يا بن آدم، إنما أنت أيام إذا ذهب يومك ذهب بعضك» .

والوقت أعظم ما عنيت بحفظه

وأراه أسهل ما عليك يضيع

إن الفراغ في حياة الناشئة أمره خطير، وشره مستطير، لما خص به الناشئة من خصوصيات كثيرة تختلف عن بقية مراحل عمر الإنسان، لأنها مرحلة ينشأ فيها الناشئ على ما عُوِّدَ عليه.

ص: 71

قال المعري:

وينشأ ناشئ الفتيان منَّا

على ما كان عوده أبوه

وما دان الفتى بحجا

ولكن يعلمه التدين أقربوه

(1)

.

(1)

ديوان أبي العلاء المعري عنوان القصيدة: قد اختل الأنام بغير شك.

أبو العلاء المعري (363 هـ - 449 هـ)(973 - 1057 م) هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري، شاعر وفيلسوف وأديب عربي من العصر العباسي، ولد وتوفي في معرة النعمان في الشمال السوري وإليها يُنسب، لُقب:(رهين المحبسين) أي: محبس العمى، ومحبس البيت؛ وذلك لأنه قد اعتزل الناس بعد عودته من بغداد حتى وفاته.

عقيدته وآراؤه في الدين:

كان المعري من المشككين في معتقداته، وندد بالخرافات في الأديان، وبالتالي فقد وصف بأنه مفكر متشائم، وقد يكون أفضل وصف له هو كونه يؤمن بالربوبية، حيث كان يؤمن بأن الدين «خرافة ابتدعها القدماء» لا قيمة لها إلا لأولئك الذين يستغلون السذج من الجماهير. وقد رفض المعري ادعاءات الإسلام وغيره من الأديان الأخرى مصرحًا:

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما

دياناتكم مكرٌ من القدماء

فلا تحسب مقال الرسل حقًّا

ولكن قول زور سطّروه

وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ

فجاؤوا بالمحال فكدروه

دين وكفر وأنباء تقص وفر

قان يُنَصُّ وتوراة وإنجيل

وللاستزادة، ينظر: نرجس توحيدي فر: أبو العلاء دراسة في معتقداته الدينية. دار صادر بيروت (2011 م)(ص 66)، عائشة عبد الرحمن: مع أبي العلاء في رحلة حياته. دار المعارف (ص 264 - 265)، طه حسين: مع أبي العلاء في سجنه. دار المعارف. الطبعة الرابعة عشرة (ص 44 - 45)، سير أعلام النبلاء، الطبقة الرابعة والعشرون، أبو العلاء، وينظر: الموسوعة الحرة، سير أعلام النبلاء، الطبقة الرابعة والعشرون، أبو العلاء.

ص: 72

وقال أبو العتاهية:

إنَّ الشَّباب والفراغ والجدة

مفسدة للمرء أيّ مفسدة

(1)

.

إذًا فلا بد من أمور:

أولاً - استشعار أن الدنيا مزرعة الآخرة، فكما تزرع اليوم تحصد غدًا، فالزرع الطيب ينبت بإذن الله ثمرًا طيبًا، والذي لا يزرع في وقت البذار، تأوه نادمًا يوم الحصاد.

- عن عبد الله بن وليد قال: سمعت عبد الرحمن بن حجيرة يحدث عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول إذا قعد يُذَكِّر:«إِنكم في ممر من الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًّا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فإن أعطي خيرًا فالله أعطاه، ومن وقي شرًّا فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة»

(2)

.

(1)

أبو العتاهية هو: إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، أبو إسحاق، ولد في عين التمر سنة (130 هـ/ 747 م)، ثم انتقل إلى الكوفة، كان بائعًا للجرار، مال إلى العلم والأدب ونظم الشعر حتى نبغ فيه، ثم انتقل إلى بغداد، واتصل بالخلفاء، فمدح الخليفة المهدي والهادي وهارون الرشيد، توفي أبو العتاهية في بغداد، اختلف في سنة وفاته فقيل: سنة (213 هـ)، وقيل غير ذلك.

كتاب «الموجز في الشعر العربي- الشاعر العراقي المعروف فالح الحجية» ، وينظر: الموسوعة الحرة.

(2)

صفة الصفوة (1/ 154).

ص: 73

هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، الصحابي الجليل والعالم والعابد الزاهد، فما قول المفرطين أمثالنا؟!

ثانيًا - مصاحبة الجادين الحريصين على أوقاتهم، فإن القرين بالمقارن يقتدي.

ثالثًا - ملء أوقات الفراغ بالأعمال الصالحة كالصلوات الخمس في المساجد فهي مما ينظم وقت الإنسان، ويكسبه الأجر العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط»

(1)

، وقد جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:«ورجل قلبه معلق بالمساجد»

(2)

. والمعنى: أنه ما يخرج من المسجد إلَّا ويفكر في العودة إليه، فهو يقضي وقته بين الجلوس في المسجد وانتظار وقت الصلاة ليعود إلى المسجد.

ومنها: حفظ كتاب الله ومدارسته، فإنه الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد؛ ومنها: حضور المجالس المباركة وحلق العلم، والأنشطة الشبابية في المخيمات والمكتبات والمدارس، فكل ذلك معين بإذن الله على حفظ الأوقات.

(1)

مسلم (251).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (رقم: 629) 1/ وفي (234)، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين رقم (1357)(2/ 517)، وفي كتاب الزكاة: باب الصدقة باليمين (رقم: 1357)(2/ 517)، وفي كتاب الرقاق: باب البكاء من خشية الله (رقم: 6114)(5/ 2377)، وفي كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة: باب فضل من ترك الفواحش (رقم: 6421)(6/ 2496)، ومسلم في كتاب الزكاة: باب فضل إخفاء الصدقة (رقم: 1031)(2/ 715).

ص: 74

رابعًا - إشباع حاجات الناشئة البدنية والاجتماعية والمعرفية:

1 -

فيتعلم ما حبب إليه من أنواع الرياضة المباحة التي تقوي بدنه وتعينه على طاعة ربه، كالسباحة والرماية وركوب الخيل.

2 -

ويشارك أقرانه من أقاربه وزملائه الأعمال الاجتماعية النافعة، والمتاحة ليتعود على تحمل المسؤولية والبذل لأمته في الكبر.

3 -

وكذلك تعلم بعض المهارات كإتقان علوم الحاسب الآلي، وكيفية إعداد البرامج المفيدة، والعروض الشيقة.

فكم من مهارة يجهلها الإنسان لو حرص على تعلمها لفاق إخوانه وبز أقرانه! كل بما يناسب مرحلته العمرية.

4 -

وكذلك يتردد على المكتبات العامة ليطلع على النافع والمفيد من الكتب، ليتزود من المعرفة والثقافة وتتكون لديه ملكة القراءة والاطلاع، ويتم كل ذلك بتوجيه ومتابعة من والديه.

5 -

الدعاء: ولم نؤخر هذا العلاج النافع تقليلًا من شأنه، ولكن كل الجهود إذا لم يصاحبها العون والتوفيق من الله فهي خاسرة ضائعة، فمن صفات عباد الرحمن، الدعاء لذرياتهم، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].

إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأول ما يجني عليه اجتهاده

(1)

.

(1)

يقال: إن البيت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وينظر: الفرج بعد الشدة. للتنوخي، الباب الثاني ما جاء في الآثار من ذكر الفرج بعد اللأواء وما يتوصل به إلى كشف نازل الشدة والبلاء (ص 61).

ص: 75

يقول حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله:

العِلْمُ يا صَاحِ يَسْتَغْفِر لِصَاحِبِهِ

أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِينَ مِنْ لَمَمِ

كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الحِيتَانُ فِي لُجَجٍ

مِنَ البِحَارِ لَهُ فِي الضَّوْءِ وَالظُّلَمِ

وَخَارِجٌ فِي طِلَابِ العِلْمِ مُحْتَسِبًا

مُجاهِدٌ في سَبيلِ الله أيّ كَمِي

وَإنَّ أجْنِحَةَ الأَمْلَاكِ تَبْسُطُها

لِطَالِبِيهِ رِضًا مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمِ

وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ العِلْمِ يُسْلِكُهُمْ

إِلَى الجِنَانِ طَرِيقًا بَارِئُ النَّسَمِ

والسَّامِعُ العِلْمَ والوَاعِي لِيَحْفَظَهُ

مُؤَدِّيًا ناشِرًا إيَّاهُ فِي الأُمَمِ

فَيَا نَضَارَتَهُ إِذْ كَانَ مُتَّصِفًا

بِذَا بِدَعْوَةِ خَيْرِ الخَلْقِ كُلِّهِمِ

كَفَاكَ فِي فَضْلِ أَهْلِ العِلْمْ أَنْ رُفِعُوا

مِنْ أَجْلِهِ دَرَجَاتٍ فَوْقَ غَيْرِهِمِ

(1)

.

(1)

المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله وينظر: شرحها للشيخ، عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر - دار الفضيلة، المحمدية، الجزائر، الطبعة الثانية (1432 هـ- 2011 م)(ص 10) وما بعدها.

هو: الشيخ: حافظ بن أحمد الحكمي، أحد علماء أهل السنة والجماعة، وأحد أعلام شبه الجزيرة العربية، ينتسب إلى قبيلة حكم المعروفة والتي تتمركز في المخلاف السليماني، وتعود أصولهم إلى الحكم، أحد أبناء سعد العشيرة، وهو أحد أجداد العرب القحطانية، و «حافظ» هو اسمه، وليس المصطلح الحديثي المعروف (نسبة إلى الحديث النبوي)، توفي بعد أدائه مناسك الحج في مكة يوم (18) من ذي الحجة سنة (1377 هـ)، عن عمر يبلغ (35) عامًا، ودفن بمكة، وخلف أربعة أبناء-هم: أحمد، وعبد الله، ومحمد، وعبد الرحمن، وثلاث بنات.

للاستزادة، ينظر: الشيخ حافظ الحكمي؛ حياته وجهوده العلمية والعملية. لزيد بن محمد بن هادي المدخلي. والتاريخ الأدبي لمنطقة جازان. لمحمد بن أحمد العقيلي. والموسوعة الحرة.

ص: 76

وأخيرًا؛ أذكر مجموعة من التوجيهات التربوية الموجزة:

1 -

تخصيص وقت كافٍ للجلوس مع الأبناء، وتبادل الأحاديث الودية المتنوعة عن: السيرة النبوية والأخبار الاجتماعية والعائلية والدراسية والمسابقات الثقافية والعلمية وغيرها.

2 -

التركيز على التربية الأخلاقية والمُثُل الطيبة، وأن يكون الوالدان قدوة حسنة لأبنائهما.

3 -

احترام الأبناء عن طريق الحب والاحترام المتبادل، وتنمية الوعي، والصراحة، والوضوح.

4 -

فهم نفسية الأولاد، وإعطاؤهم الثقة في أنفسهم.

5 -

إشراك الأولاد في القيام بأدوار اجتماعية وأعمال نافعة تناسب أعمارهم وقدراتهم.

6 -

التشجيع الدائم للأولاد والاستحسان والمدح؛ بل وتقديم الهدايا والمكافآت التشجيعية كلما قَدَّموا أعمالًا نبيلة ونجاحًا في حياتهم.

7 -

عدم السخرية والتهديد بالعقاب الدائم للأبناء، متى ما أخفقوا في دراستهم أو وقعوا في أخطاء من غير قصد منهم؛ بل يتم تلمس المشكلة بهدوء، ومحاولة التغلب على الخطأ بالحكمة، والترغيب والترهيب.

8 -

عدم إظهار المخالفات والنزاعات التي تحدث بين الوالدين أمام سمع أبنائهم.

9 -

الصبر الجميل في تربية الأبناء، وتحمل ما يحدث منهم من عناد أو عصيان، والدعاء بصلاحهم وتوفيقهم.

ص: 77

ومن هنا أود التأكيد مرة أخرى، على أن دور الأسرة في رعاية الأولاد؛ هو أقوى دعائم المجتمعِ تأثيرًا في تكوينِ شخصيةِ الأبناء، وتوجيهِ سلوكِهمِ، وإعدادهم للمستقبل

(1)

.

(1)

دور الأسرة في رعاية الأولاد. د/ عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. المصدر: الإسلام اليوم.

ص: 78

‌ثانيًا: المسجد

يُعدُّ المسجد أبرز وأهم المؤسسات الاجتماعية التربوية التي ارتبطت بالتربية الإسلامية ارتباطًا وثيقًا منذ صدر الإسلام نظرًا لعددٍ من العوامل التي أدت في مجموعها إلى ذلك الارتباط والتلازم؛ لا سيما وأن المسجد لم يكن في المجتمع المسلم الأول مجرد مكان لأداء العبادات المختلفة فحسب؛ بل كان أشمل من ذلك، فالمسجد يتميز بأنه بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى، وقد أضاف الله عز وجل المساجد إليه سبحانه إضافة تشريف وتكريم، وفي ذلك إشارة إلى أهميتها ومكانتها، وأهمية دورها التربوي في ضوء منهج الله، وفي التعرف على الله عز وجل وفي الحثّ على السير إلى رضوانه سبحانه وتعالى وسلوك طريقه -جل وعلا- فالله سبحانه وتعالى يقول:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18].

وللمسجد دور كبير في جميع مجالات الحياة في العبادة، والعلم، والدعوة، والأخلاق، والمعاملات، والفتوى، والسلم، والحرب، واستقبال الوفود، وإعلان السياسة العامة للدولة.

فقد كانت رسالة المسجد مهمة وخالدة، وسامية، لأنها رسالة الإسلام، فقد اقترن بناء الدولة الإسلامية ببناء المسجد، لأنه يتمتع بمكانة رفيعة في نفوس المسلمين، لقد كان مسجد رسول الله في المدينة هو النواة الأولى والمركز الرئيس لإقامة الدولة الإسلامية، فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءه وتأسيسه إيذانًا

ص: 79

بإقامة دولة إسلامية انطلاقها من أشرف البقاع وأطهرها، فكان المسجد مدرسة وجامعة إسلامية، معلِّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلامذته أصحابه الكرام رضي الله عنهم، وكان المسلمون الأوائل إذا فتحوا مصرًا من الأمصار أسسوا فيه مسجدًا جامعًا تأسيًا برسولهم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وإيذانًا وإعلانًا للدنيا بأن هذا البلد أصبح جزءًا من الدولة الإسلامية، وإعلانًا لسيادة دين الله سبحانه وتعالى في الأرض.

وذلك بعكس المحتل الحديث والمعاصر الذين يرفع راية أو علمًا فوق عاصمة البلد الذي احتله دليلًا على نصره وسيادته، وسيادة الظالمين المتجبرين على المظلومين المستضعفين.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكانت مواضع الأئمة، ومجامع الأمة، هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم»

(1)

.

والمسجد أحب البقاع إلى الله سبحانه وتعالى، فهو قلعة الإيمان، وحصن الفضيلة، وهو المدرسة التي يتعلم ويتربى فيها الناشئة، فيتخرج منهم العلماء والخلفاء والأمراء والفقهاء والقادة والمصلحون والأعلام في كل ميدان.

(1)

ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (9/ 196)، وتذكرة الحفاظ، الإمام الذهبي، تحقيق العلامة المعلمي، نشر دائرة المعارف العثمانية (4/ 1496 - 1498)، وذيل العبر، الإمام الذهبي، نشر دار الكتب العلمية -بيروت- (1405 هـ)(ص 84)، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة: الثالثة (1990 م)(ص 22).

ص: 80

لقد كان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعًا لأداء العبادات ومقرًّا للدولة، وجامعةً للتعليم ومعهدًا لطلب العلم ونشر الدعوة في المجتمع ومركزًا للتربية ومركزًا للقضاء والفتوى، ودارًا للشورى وتبادل الآراء، ومنبرًا إعلاميًّا لإذاعة الأخبار وتبليغها، ومنزلًا للضيافة وإيواء الغرباء، ومكانًا لعقد الألوية وانطلاق الجيوش للجهاد في سبيل الله تعالى، ومنتدى للثقافة ونشر الوعي بين الناس، ومكانًا لاستقبال الوفود التي قصدت المدينة لمبايعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الله أفواجًا معلنة الإذعان والانقياد والاستسلام لله تبارك وتعالى.

إلى غير ذلك من الوظائف الاجتماعية المختلفة.

وللمسجد أثر عظيم في بناء المجتمع الإسلامي وتوجيهه إلى ما فيه خير وسعادة أفراده في أمور الدين والدنيا، فقد أدى المسجد في الإسلام دورًا عظيمًا في التوجيه والإرشاد والدعوة وإصلاح البشر وتربيتهم، وتقوية الشعور الديني والحفاظ على الوحدة الإسلامية حقيقة ومظهرًا، والأمة المسلمة مؤهلة اليوم وفي كل يوم إذا ما عرفت كيف تعيد إلى هذا المنطلق قوته وتأثيره في قيادة وريادة البشرية قاطبة.

إن الوظيفة الحقيقية للمسجد في الإسلام، هي إعداد المسلم المتكامل البناء في خلقه وسلوكه وعمله وعبادته، في علاقته بربه وبنفسه وبأخيه المسلم وبالناس جميعًا، ووظيفة المسجد في صورتها الاجتماعية الشاملة هي أن يكون مركز إشعاع وتوجيه وتربية للناشئة خاصة ولجماعة المسلمين عامة، فالمسجد يكمل بناء المجتمع ويدعمه ويقوي أركانه ويعمق في نفوس الناشئة الإحساس

ص: 81

بالفضائل التي غرستها الأسرة والمدرسة؛ بل يغذيها وينميها ويتعاون معهما في بناء المجتمع الراشد المتجه نحو الصلاح والفلاح بهداية من الله سبحانه وتعالى، وبالتردد على المساجد يتعلم النشء النظام والدقة والنظافة والاستواء، وينمو شعور التآلف بينهم وبين أقرانهم، فتتكون العلاقات الاجتماعية الطيبة ويشبون عليها فتتحقق لهم معاني الأخوة الإيمانية الممتزجة بالحب المفعم في ذات الله.

هكذا نظر المسلمون الأولون إلى المسجد على أنه مدرسة تحمل كل هذه المعاني، فأقاموا صلتهم به على أساسها، فكان له من الأثر في تكوينهم ما لم يعرف التاريخ له مثيلًا في أيّ عمل تربوي بنَّاءٍ، حتى أصبح المسجد بحق المدرسة التي يتعلم فيها المسلم من المهد إلى اللحد كل ما يعوزه من مبادئ الحياة، فمن واجب المسلمين أن يعيدوا إلى المسجد وظيفته ومهابته وحيويته حتى يصبح مصدر إشعاع يرشد فيعلِّم، ويهدي فيقوِّم؛ لأن المسجد مؤسسة ذات مركز عظيم، وله دور كبير وفعَّال في تربية وتوجيه وتعليم الناشئة، فالمسجد يُعدُّ أبرز وأهم المؤسسات الاجتماعية التربوية التي ارتبطت بالتربية الإسلامية ارتباطًا وثيقًا نظرًا لعددٍ من العوامل التي أدت في مجموعها إلى ذلك الارتباط والتلازم؛ لا سيما وأن المسجد لم يكن في المجتمع المسلم الأول مجرد مكان لأداء العبادات المختلفة فحسب؛ بل كان أشمل من ذلك، وبذلك يمكن القول بأن المسجد في الإسلام يُعد جامعًا وجامعةً، ومركزًا لنشر الوعي في المجتمع، ومكانًا لاجتماع المسلمين، ولم شملهم، وتوحيد صفهم، وهو بحق أفضل مكانٍ، وأطهر بقعةٍ، وأقدس محلٍّ يمكن أن تتم فيه تربية الإنسان المسلم وتنشئته، ليكون بإذن الله تعالى فردًا صالحًا في مجتمعٍ صالحٍ.

ص: 82

ولعل من أهم ما يُميز رسالة المسجد التربوية في المجتمع المسلم أنه يُعطي التربية الإسلامية هويةً مميزةً لها عن غيرها، وأنه مكانٌ للتعليم والتوعية الشاملة، التي يُفيد منها جميع أفراد المجتمع على اختلاف مستوياتهم، وأعمارهم، وثقافاتهم، وأجناسهم؛ إضافةً إلى فضل التعلم في المسجد، وما يترتب على ذلك من عظيم الأجر وجزيل الثواب.

* ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده»

(1)

.

وللمسجد أثر كبير على النشء وخاصة إذا تعودوا منذ صغرهم على ارتياد المساجد بصحبة آبائهم، فالمسجد محضن تربوي ذو أثر عظيم يحافظ على الفطرة وينمي الموهبة ويربط النشء بربه من أول ظهور الإدراك وعلامات التمييز، ويطبع فيه المثل والقيم والصلاح بتأثير من الصالحين والأخيار ورواد المساجد من خلال المشاهدة والقدوة.

كما يقوم المسجد بتدريب الناشئ على النظام ويعلمه كيف يتعامل مع الآخرين من خلال المشاركة الاجتماعية والاختلاط بفئات المجتمع، فينشأ على الأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية والشجاعة، لأنه يختلط بالكبار ولا يهابهم ويتعلم الاطمئنان النفسي ويتربى على النظام من خلال الصفوف المتراصة للصلاة، فيكون انطباعًا في نفسه على حبّ الترتيب والنظام، ويشهد

(1)

مسلم (2699)، وابن ماجه (225/ 1)، وينظر: مقدمة في التربية الإسلامية. أبو عرَّاد-مرجع سابق، بتصرف يسيرٍ.

ص: 83

طاعة المأموم لإمامه، ويرى احترام الصغير للكبير، فتكبر هذه المفاهيم وتشب معه، وكانت صلة الأطفال الصغار بالمسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. صلة قوية وثيقة نماها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونماها الخلفاء الراشدون من بعده وأصحابه من خلال أفعالهم وتوجيهاتهم رضي الله عنهم أجمعين. وعندما يأخذ المسجد مكانه الملائم الذي بُنِيَ من أجله وأراده الله له، يصبح من أعظم المؤثرات التربوية في تربية الأطفال والناشئين وتكوينهم، حيث يرون الراشدين مجتمعين على طاعة الله وعبادته، فينمو في نفوسهم الشعور بالمجتمع المسلم والاعتزاز بالجماعة المسلمة، وفيه يسمعون الخطب والدروس العلمية فيبدأون بوعي العقيدة الإسلامية، وفهم هدفهم من الحياة وما أعدهم الله له في الدنيا والآخرة، وفيه يتعلمون القرآن ويرتلونه فيجمعون بين النمو العقلي والفكري بتعلم القرآن الكريم والنمو الروحي والارتباط بخالقهم، وفيه يتعلمون الحديث والفقه وكل ما يحتاجونه من نظم الحياة الاجتماعية، كما أراد الله أن ينظمها للإنسان. فالمسجد يعلم الناشئين أن كل أمور الحياة تابعة للارتباط بالله وإخلاص العبودية له سبحانه وتعالى وينغرس هذا المعنى في نفوسهم عفوًا من غير قصد ولا تكلف، وفي الصلاة تتجسد كثير من مزايا الأخلاق التي تصوغ شخصية المسلم السوية، ومن ذلك قيمة العزة التي تجسد أسمى معاني الأخلاق، وكذلك صفة الرحمة، وهي الصفة التي اختارها الله لعباده دون سائر صفاته في فاتحة الكتاب (الرحمن الرحيم)، فيبتعد النشء عن الرياء والسمعة والكذب وتناقض الفعل والقول، وقد بقي تعلم القرآن الكريم في الكتاتيب والمساجد إلى عهد قريب هو الوسيلة لتعلم القراءة والكتابة في كثير من البلاد الإسلامية، فكان الناشئة قبل

ص: 84

انتشار المدارس الحديثة يتقنون قراءة القرآن الكريم، فيتعلمون القراءة من خلال تعرفهم إلى صور الكلمات المكتوبة مقترنة بألفاظها المنطوقة، وكانوا بعد هذه القراءة الأولى، يكتبون القسم الذي قرأوه على ألواح خشبية يحاكون رسمه في المصحف وكلما كتبوا جزءًا يناسب مقدرتهم عادوا فأتقنوا تلاوته وحفظه ثم ينتقلون إلى غيره وهكذا حتى يتموا حفظ جميع القرآن الكريم عن ظهر قلب، فالمسجد يؤدي وظيفتي العبادة والتربية دون تمييز واضح بينهما.

ومما يذكر أنه ضاقت المساجد بالصبيان، حتى اضطر الضحاك بن مزاحم معلمهم ومؤدبهم أن يطوف عليهم بدابته ليشرف عليهم وقد بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي وكان لا يأخذ أجرًا على عمله.

إن تردد الناشئ على المساجد منذ نعومة أظفاره يجعله ينمو نموًّا لا مشاكل فيه ولا تعقيد أمامه ولا اضطراب في نفسه ويثبت قلبه على الإيمان لأن مرحلة التربية في الصغر من أخطر المراحل في حياته، وعند بلوغه يكون قد حُصن فؤادُهُ وثبت يقينُهُ فلا قلق ولا اختلال ولا أوهام لأنه في المسجد يجد المناخ الطيب والجو الديني والمجتمع الطاهر، فتتأصل في نفسه أمور العبادة وآداب التعامل وشدة المراقبة لله فيكون عضوًا سليمًا في مجتمعه وتصدق فيه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» فذكر منهم: «شاب

ص: 85

نشأ في عبادة الله»

(1)

.

إن خير القلوب وأوعاها للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أبناء المؤمنين لكي يرسخ فيها، وقد حرص الإسلام على رعاية الناشئة رعاية منقطعة النظير، إيمانًا بأنهم رجال المستقبل وعدة الغد، فلا يجوز تركهم مشردين في الطرقات محرومين من نعمة المسجد الذي هو بيت الله، ومأوى المؤمن ومدرسته العملية، والناشئ إذا شبّ على شيء شاب عليه، ولقد كان الناشئة يأتون المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرعى شئونهم ويتلطف بهم، ولم يمنعهم من المساجد حتى إنه صلى الله عليه وسلم نزل من فوق المنبر في أثناء الخطبة لما رأى الحسن والحسين رضي الله عنهما وقبلهما، ثم عاد إلى خطبته، وحمل أمامة بنت ابنته زينب كذلك في المسجد.

وحديث أبي بكرة

(2)

المشهور رضي الله عنه الذي جاء فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد رقم (629)(1/ 234)، وفي كتاب الزكاة: باب الصدقة باليمين (رقم: 1357)(2/ 517)، وفي كتاب الزكاة: باب الصدقة باليمين (رقم: 1357)(2/ 517)، وفي كتاب الرقاق: باب البكاء من خشية الله (رقم: 6114)(5/ 2377)، وفي كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة: باب فضل من ترك الفواحش (رقم: 6421)(6/ 2496)، ومسلم في كتاب الزكاة: باب فضل إخفاء الصدقة (رقم: 1031)(2/ 715).

(2)

هو نُفَيْع بنُ الحارث، وقيل: نُفَيْعُ بن مَسرُوح، أبو بكرة الثقفي الطائفي، مولى النبي صلى الله عليه وسلم تدلى في حصار الطائف ببكرة، وفرَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يده، وأعلمه أنه عبد، فأعتقه، وقد كُنِّيَ بأبي بكرة؛ لأنه تدلى من الحصن ببكرة فمن يومئذ كني بأبي بكرة. = =وفاته: قال ابن سعد: مات أبو بكرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان بالبصرة، فقيل: مات سنة إحدى وخمسين، وقيل: مات سنة اثنتين وخمسين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي الصحابي.

السير (3/ 5). وأسد الغابة (5/ 38 و 151)، والبداية والنهاية (8/ 57)، وشذرات الذهب (1/ 58).

ص: 86

يصلي ويجيء الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو صغير فكلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وثب على ظهره، ويرفع النبي عليه الصلاة والسلام رأسه رفعًا رفيقًا حتى يضعه على الأرض

(1)

.

ومن هنا فالواجب أن نستعين بكل وسيلة متاحة ومباحة شرعًا من شأنها أن تشوق الناشئ إلى المسجد وتحببه إليه، ونحذر من كل أسلوب من أساليب التنفير من المسجد.

ومما يتأكد شرعًا في حق الجهات المعنية في بلاد الإسلام: أن تولي هذا الجانب العظيم العناية والأهمية الكبرى من إعداد الكفاءات العلمية والتربوية التي تقوم علي هذا الجانب العظيم والخطير في حياة المجتمع المسلم والأمة الإسلامية قاطبة، والتي تقوم بإعداد دراسات ودورات تربوية علمية وعملية لتقوم على ربط الناشئة ببيوت الله، وتضع خطط تنفيذية وتطبيقية لهذه الدراسات وتكون شاملة لجميع المراحل العمرية للناشئة من قِبَلِ المختصين، وتضع كذلك حلولًا عملية للصعوبات والتحديات والمشكلات والمعضلات

(1)

صحيح ابن حبان (6964)، من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، والألباني، النصيحة، (125) يرتقي إلى مرتبة الصحة بالشاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والألباني، السلسلة الصحيحة (3325) إسناده حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والوادعي، صحيح دلائل النبوة، (334) حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 87

والعراقيل التي تواجه هذه الرسالة النبيلة السامية والغاية الغالية النفيسة والمهمة الجليلة الجسيمة، وتوضع في خطة كل دولة مسلمة ميزانية مالية ضخمة تليق بهذه المهمة التربوية العظيمة، وتحفز القائمين على هذا العمل الجلل تحفيزًا يليق بمكانة المسجد في الإسلام ومهمته ولا سيما فيما يتعلق بشأن الناشئة، فهم رجال الغد وأمل الأمة المنشود، وكذلك تحفيز الناشئة أنفسهم بالتشجيع المستمر والعطاء الدائم ماديًّا ومعنويًّا.

فالدول مثلًا تحفز الطب والأطباء وكل ما من شأنه يتعلق بالطب، من إنشاء لكليات الطب بجمع فروعه وأقسامه، وتوفر له أمهر الأساتذة من الداخل والخارج بأعلى الرواتب والحوافز المادية والمعنوية وتوفر الأجهزة والمعامل والمختبرات وكل الإمكانات المادية والبشرية، ولا يلتحق بكليات الطب إلا أفضل الطلاب والحاصلين على أعلى الدرجات، وبمجرد تخرجه يحصل على مكانة اجتماعية مرموقة، من أعلى الرواتب والحوافز المادية والمعنوية، علاوة على ما يحصل عليه من لقب طبيب (دكتور)، وهذا كله لا نكارة فيه، وذلك لأن موضوع الطب هو جسم الإنسان وصحته، وهذا لا ينكره عاقل، مدى حاجة البشرية الضرورية لهذا الشأن العظيم، وشريعة الإسلام الغراء لم تغفل هذا الجانب؛ بل أولته عناية كبيرة لا تخفى على ذي لب، فهو يندرج تحت حفظ النفس التي أمرت الشريعة بحفظها، وتعلمه من فروض الكفايات، لكن هذا للأبدان الفانية، فماذا للقلوب والأرواح الغالية؟.

- من هنا يتبين لنا أهمية: ما يجب أن تُوليه الأمة المسلمة العناية الكبرى والأهمية العظمى من جانب العناية بالمساجد والعناية برأس مالها وأملها

ص: 88

المنشود وهم الناشئة، والعناية بتربيتهم وربطهم ببيوت الله فيما يتعلق بجميع الجوانب، من جانب الشعائر التعبدية والتعليمية والتربوية، ومن كل ما من شأنه تعبيد الناشئة لخالقهم جل في علاه والرقي بهم في مدارج التربية الإيمانية العلمية والعملية، الأخلاقية والسلوكية، وتفتح عيونهم وقلوبهم وقد نشأوا وترعرعوا في بيوت الله التي وصفها ربنا بقول سبحانه:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور: 36 - 38].

وتنطلق تربية الناشئة من بيوت الله كما انطلق المسلمون الأوائل من بيوت الله فسادوا الدنيا وفتحوا البلاد، فذلوا الأكاسرة وخضعت لهم رقاب القياصرة وحرروا الإنسان من رقِّ الدنيا وعبوديتها ونقلوه من عبودية البشر إلى عبودية رب البشر، ومن الذل والقهر لغير الله، إلى عدل الإسلام ورحمته ووسطيته، كما قال ربعي بن عامر

(1)

رضي الله عنه لرستم: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا

(1)

ربعي بن عامر بن خالد بن عمرو التميمي، كان من أشراف العرب، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، شهد الفتوحات الإسلامية وأمد به عمر بن الخطاب المثنّى بن حارثة، له ذكر في غزوة نهاوند، وولَّاه الأحنف في بعض الفتوحات، وكانوا لا يؤمرون إلا الصحابة، وللاستزادة ينظر: البداية والنهاية، وتاريخ الطبري، والإصابة في معرفة الصحابة، وتاريخ دمشق.

ص: 89

منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله»

(1)

.

(1)

نقل هذا الأثر مسندًا عن سيف بن عمر-الإمام ابن جرير الطبري-. فقال في تاريخ الأمم والملوك (2/ 401) -في كلامه عن السنة الرابعة عشرة من الهجرة: كتب إليَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد بإسنادهم مثله، قالوا: وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة، وبسر بن أبي رهم، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وربعي بن عامر، وقرفة بن زاهر التيمي ثم الواثلي، ومذعور بن عدي العجلي، والمضارب بن يزيد العجلي، ومعبد بن مرة العجلي وكان من دهاة العرب ........ إلى آخر القصة الطويلة مع رستم

وهنا نحتاج للتنبيه إلى أمرين

الأمر الأول

قول الطبري: كتب إليَّ السري، عن شعيب، عن سيف

فهذا السند هو سند الطبري لمصنفات سيف بن عمر بالمكاتبة ويكرره كثيرًا في كتابه هذا.

والسري صدوق وشعيب هو الراوي لكتب سيف بن عمر وفيه جهالة

لكن على كل حال هذا السند ما هو إلا زينة لرواية ابن جرير لمصنفات سيف بن عمر .. أي: أنه سند لكتاب فلا يضر

الأمر الثاني: سيف بن عمر - وفيه مطلبان:

المطلب الأول: إطلاق القول بعموم كذبه! ففيه مبالغة وتعنت، هو ضعيف الحديث فقط.

ولم يتهمه بالوضع إلا ابن حبان، وأخذه عنه السيوطي.

ورد عليه الحافظ ابن حجر فقال: أفحش ابن حبان القول فيه.

وابن حبان التعنت ثابت عنه، وقد قال الذهبي عنه: أما ابن حبان فإنه خساف قصاب، فأقصى ما يكون حاله هو أنه متروك كما قال أبو حاتم الرازي، والدار قطني

المطلب الثاني: أنه متروك الحديث وإمام في الأخبار

- فإذا روى حديثًا بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتج به.

- أما إذا روى أي شيء من باب الأخبار فهو عمدة في هذا الشأن.

=

=فقد قال الحافظ ابن حجر عنه في التقريب: «عمدة في التاريخ» . اهـ.

وهذه العبارة لا تصدر إلا في حق كل مَن له شان عظيم في هذا الباب، وقال الذهبي في الميزان:«كان أخباريًّا عارفًا» . اهـ.

فأقول: لا بأس بقبول أخباره إن لم يكن بها نكارة أما الأحاديث فلا، والله الموفق.

ذلك ليعود للأمة مجدها التليد وعزها المجيد، وتعود لها قيادتها للأمم وسيادتها للبشر.

ص: 90

وإن لم يقم بهذا الواجب العظيم الجهات المعنية لأيِّ سببٍ من الأسباب فلا يترك هذا الجانب العظيم بالكلية أبدًا؛ بل يقوم به أهل الحسبة من جماعة المسجد وأهل الحي بالتعاون مع إمام المسجد وخطيبه ومؤذنه، وذلك عملًا بقوله سبحانه وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وعملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:«وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»

(1)

، والعمل بالإمكانات المتاحة والمباحة.

- وحتى تتحقق مصلحة تربية الناشئة وتكوينهم من خلال المساجد، لا بد من اتخاذ بعض الإجراءات من القائمين على المساجد، ومنها:

1 -

أن يقوم إمام المسجد وخطيب الجامع ومؤذنه ومعهم جماعة المسجد وأهل الحي بالتعاون على هذا الأمر العظيم كما أسلفنا.

ويُقال ذلك سدًّا للذرائع وبيان من كل ما من شأنه أن يلامس الواقع، فلا تكون معالجة هذا الأمر العظيم بعيدة عن الواقع، فتكون معالجة شكلية نظرية غير عملية، وأقول ذلك تحدثًا بفضل الله عن تجارب عملية واقعية وملموسة وكثيرة (موفقة ومسددة) رأيناها وعايشناها في كثير من بلدان المسلمين، وعملًا بقاعدة:«ما لا يدرك كله لا يترك كله» ، والفقهاء يعبرون عنها بقولهم:«الميسور لا يسقط بالمعسور» ، وقد ذكرها بهذه الصيغة العز بن عبد السلام في قواعد

(1)

البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (7288).

ص: 91

الأحكام، وابن السبكي في الأشباه والنظائر، والسيوطي في الأشباه والنظائر، والزركشي في المنثور، وصاغها الزركشي بلفظ آخر وهو:«البعض المقدور عليه هل يجب؟» ، وصاغها القرافي بلفظ:«المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف» ، وصاغها الجويني في الغياثي بلفظ:«المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه» ، وصاغها ابن رجب بقوله:«من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا؟»

(1)

.

2 -

أن يشجعوا الآباء لاصطحاب أبنائهم إلى المساجد وتعليمهم الطهارة والنظافة والنظام وأن يراقبوهم ويوجهوهم لما فيه صلاحهم.

3 ـ أن يجد الناشئة والصغار من يرشدهم وينظم جلوسهم ويقيم لهم المناشط العلمية والدعوية والتربوية والتي تتفق وأعمارهم من تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة وحفظ المتون العلمية والمسابقات الثقافية، وتعلم الوضوء والصلاة وأحكامهما وغير ذلك مما هم في أَمَسِّ الحاجة إليه من مبادئ العقيدة والعبادات ومكارم الأخلاق.

4 ـ أن يتحبب الكبار إلى الصغار وأبناء المسلمين المصلين بالتبسم والبشاشة ورحابة الصدر وأن يجذبوهم للمساجد ولا ينفروهم منها.

وإن الهدف من تربية الناشئة التربية الإسلامية الصحيحة ليس تزويدهم بالمعلومات والآداب الإسلامية فحسب؛ بل إِطْلَاعِهِمْ على المعنى الأعمق للحياة والعالم من حولهم، والأخذ بأيديهم إلى الطريق الذي يؤدي إلى تنمية

(1)

وهذه القاعدة كتب فيها رسالة ماجستير كتبتها الباحثة إيمان عبد الله الهادي، وهي من منشورات دار الكيان (د-ت) لمن أراد الاستزادة.

ص: 92

متكاملة لكافة جوانب الشخصية الإسلامية علمًا، ومساعدتهم على التصدي لمشكلات الحياة الشخصية والاجتماعية ليتأهلوا لحمل رسالة الإسلام الخالدة وتحمل تكاليف إبلاغ الحق للخلق ليقولوا للدنيا مقالة النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»

(1)

.

(1)

أخرجه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه (1/ 520): هذا حديث صحيح، وصححه مقبل ابن هادي الوادعي- الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (6274)، الناشر: مكتبة دار القدس - صنعاء - الطبعة: الأولى - سنة الطبع: (1411 هـ)، ورواه الإمام أحمد في مسند المكيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه (برقم: 15593) بلفظ: «يا أيها الناس .... » ، وابن حبان 14/ 6562. أثر المسجد في تربية الأطفال وتكوينهم، الثلاثاء، (03 أغسطس 2010 م)، (01: 33) إذاعة القرآن الكريم بنابلس فلسطين- بتصرف.

ص: 93

‌ثالثًا: المدرسة

المدرسة من أهم المؤسسات التربوية والاجتماعية التي أنشأها المجتمع للعناية بالتنشئة الاجتماعية لأبنائه، وتربيتهم، وتهيئتهم، وإعدادهم للحياة، وهي مؤسسة منظمة لها قواعد ومنطلقات تربوية وتكمل تربية النشء إلى جانب التربية في المنزل، وهذه المدارس تختلف في قوتها وضعفها باختلاف أنظمتها والطاقم التربوي الذي يتولى إدارة دفة العمل، وتؤثر في المدرسة البيئة المحيطة بها. من الطلاب الذين يشكلون تلك البيئة.

والواجب على المربي داخل الأسرة أن يختار لأبنائه المدرسة الطيبة ذات السمعة الطيبة الحسنة والتي تُعنى بالتربية الرشيدة، وتعنى باختيار المعلم القوي الأمين الصالح في نفسه المصلح لغيره، وتختار الثقات من المربين والإداريين ومن يقومون على أداء هذه الرسالة السامية، فإن انتقاء المدرسة والمدرس والمتابعة للولد في المدارس هي أمور في غاية الأهمية لما يترتب عليها من مصالح عظيمة ومنافع جليلة تعود على الأبناء وعلى أسرهم ومجتمعاتهم وأمتهم نفعها وثمارها. والمسلمون الأوائل كانوا يوصون مؤدبي أبنائهم بالعناية بهم، ويبذلون في ذلك كل غالٍ ونفيس لأجل تأديب أبنائهم، وكانت سنَّة المؤدبين في المجتمع الإسلامي الماضي سنة قائمة، وخصوصًا عند ذوي اليسار، يتخذون المؤدبين لأبنائهم.

ص: 94

ولعل من أبرز وأهم وظائف المدرسة ما يلي:

* أنها تعمل على تبسيط ونقل التُراث المعرفي والثقافي ونحو ذلك من جيل الكبار إلى جيل الصغار، أو من المعلمين إلى الطلاب تبعًا لما يتناسب واستعداداتهم وقدراتهم المختلفة؛ فينتج عن ذلك جيلٌ متعلمٌ ومُثقف.

* أنها تعمل على استكمال ما كان قد بدئ فيه من تربيةٍ منزلية للفرد، ثم تتولى تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتعديل السلوك الخاطئ، إضافةً إلى قيامها بمهمة التنسيق والتنظيم بين مختلف المؤسسات الاجتماعية ذات الأثر التربوي في حياة الفرد فلا يحدث نوع من التضارب أو التصادم أو العشوائية.

* أنها تقوم بدورٍ كبيرٍ في عصرنا الحاضر حينما تكون في معظم الأحيان بديلًا للأُسرة، إذ يتشرب الصغار فيها عادات مجتمعهم الذي يعيشون فيه وقيمه وأخلاقه وسلوكياته.

* أنها بمثابة مركز الإشعاع المعرفي في البيئة التي توجد فيها؛ إذ إنها تُقدم للمجتمع كله خدماتٍ كثيرة ومنافع عديدة من خلال نشر الوعي الصحيح بمختلف القضايا، وكيفية التعامل السليم مع من حول الإنسان وما حوله.

* أنها تعمل على إشاعة الوعي الإيجابي عند أبناء المجتمع تجاه مختلف القضايا الفردية أو الجماعية سواءً كان ذلك بطريقٍ مُباشرٍ أم غير مُباشر.

وتعتبر المدرسة أداة مكملة للأسرة، لذلك لا بد من إقامة تعاون بين الأسرة والمدرسة، ومعرفة ما يمكن معرفته من الظروف التي يربى فيها الناشئة في منازلهم، وأساليب تربيتهم لتصحيح الخاطئ منها، وإكمال الصالح، والتعاون مع أولياء الأمور على إصلاح الناشئة وحسن تربيتهم ليكمل كل من المنزل والمدرسة ما

ص: 95

بدأ به الآخر، ومن أجل أن لا يحدث تعارض وتناقض بين أسلوب الأسرة التربوي، وأسلوب المدرسة، فيصبح الأطفال والناشئة ضحية هذا التعارض.

- فالمطلوب من المدرسة إذن: أن تكون أداة تأهيل وتكييف اجتماعي، لا أداة اضطراب وإخلال بالتوازن بين الفرد والجماعة، على أن تصاغ جميع العلوم على أسس إسلامية، ويصاغ منهج تربوي إسلامي متكامل لتربية الأجيال على أساسه.

وكذلك إعادة تصنيف وتأليف مناهج وكتب لسائر المعارف والعلوم من منطلق إسلامي، والقيام بدورات تربوية إسلامية تدرِّب المعلمين والمربين على تحقيق هذا المنطلق من جميع جوانب التربية والتعليم.

والمدرسة عندما تقدم العقيدة الصحيحة والعلم النافع إلى الناشئين، تَعمِد إلى تصفية الحقائق، وتنقيتها من كل الشوائب والأخطاء، والمبالغات والأكاذيب؛ لتبقى عقيدة الناشئة سليمةً، وعقولهم قويمة، ومعارفهم صحيحة

(1)

.

ولكي تصبح عملية التربية والتعليم في المدرسة عملية متكاملة مستمرة، تنصهر في برامج روافد التربية (الأسرة والمسجد والإعلام)، فتؤدي دورها التربوي والتعليمي بحيث تصبح وحدة مترابطة مع تلك الروافد مجتمعة، فلا بدَّ أن نعي أن المدرسة مجتمع مصغر يجب أن تتوفر فيه جميع عناصر الاتصال البشري والعلاقات الإنسانية، وهي صورة مصغرة للحياة الاجتماعية الراقية.

ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:

1 -

أنه ينبغي أن تكون المدرسة بحق مجتمعًا إسلاميًّا مشبعًا بالعواطف

(1)

أبو عراد -مرجع سابق- بتصرف (د-ص).

ص: 96

والتراحم والتعاون على البر والتقوى والتلاحم والتفاهم بين الرئيس والمرؤوسين، في ظل العلاقات الأخوية والاحترام المتبادل والتواصي بالحق والصبر، لأن المردود الإيجابي لهذا العمل مردوده يعود على الجميع ولا سيما الطلاب الذين هم أهم محور من محاور العملية التربوية والتعليمية.

2 -

وأن يجد الطالب في المدرسة المثل الأخلاقية الراقية، والمثل الإيمانية العليا، في كل ما يقع عليه سمعه وبصره وفي كل من يتلقى منهم ويتعامل معهم.

3 -

وأن تكون المدرسة مجتمعًا إسلاميًّا قويًّا متماسكًا متحد الهدف والفكر، أساسه الحق والعدل والتراحم.

4 -

وأن تضع المدرسة أهدافها بغية السعي في الوصول إليها، لإعداد جيل مسلم صالح في نفسه مصلح لغيره وقوي وفعال.

5 -

وأن تربي المدرسة الناشئة تربية إسلامية صحيحة، وعقلية ناضجة، وتنمية بدنية قوية، واجتماعية منسجمة مع روح المجتمع المسلم ومتطلباته وتطلعاته.

6 -

وأن تربي المدرسة تلاميذها تربية إسلامية استقلالية فيها روح الاعتماد على النفس، حتى لا يصبحوا عالة على مجتمعاتهم في كل ما يعوزهم من حاجات، ويعملوا لخير إخوانهم كما يعملون لخير أنفسهم، ويقبلوا من تلقاء أنفسهم على البذل والعطاء حتى تتأصل فيهم روح التكافل والعمل الاجتماعي بروح الجسد الواحد، عملًا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه»

(1)

.

(1)

البخاري (13)، ومسلم (45)، والترمذي (2515)، والطبراني في الأوسط (8/ 167)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 97

7 -

وأن تحدد المدرسة أهداف التربية والتعليم للمعلم قبل المتعلم، وتعليم الطلاب الحياة الاجتماعية السليمة، بحيث يخرجون إلى المجتمع وهم مزودون ومدعمون بكافة المؤهلات التي تجعل الطالب فردًا مسلمًا صالحًا قادرًا على مواجهة الصعاب بثقة كبيرة، وتصبح شخصيته شخصية مسلمة متكاملة الأركان، تامة البنيان، قوية الإيمان، متزنة الوجدان، بعيدة كل البعد عن الجنوح والخور والضعف، مصونة عن الانحراف بكل صوره وأشكاله وأنماطه.

التعاون بين الأسرة والمدرسة:

وهناك العديد من المسوغات (الحوافز) لضرورة التعاون بين الأسرة والمدرسة في مجال تربية الناشئة نذكر منها ما يلي:

أولًا- أن التعاون بينهما يحقق الفهم المتبادل لدور كل منهما في مجال تربية الناشئة، مما يؤدي إلى زيادة التنسيق وعدم التعارض بينهما، إذ كثيرًا ما يؤدي التعارض والتناقض في أدوارهما إلى تكوين صراع نفسي لدى التلميذ.

ثانيًا- أن التعاون بينهما يؤدي إلى التخلص من غالبية المشكلات التي قد يواجهها الطلاب الناشئة وإلى التكيف مع المجتمع والمدرسة.

ثالثًا- أن التعاون بينهما يؤدي إلى الراحة النفسية للناشئة وزيادة تحصيلهم الدراسي، وإقبالهم على العلم، وإلى زيادة حبهم للمدرسة وانتمائهم إليها.

رابعًا- أن التعاون بينهما يجعل خطة العمل التربوي مشتركة بينهما في ضوء اعتماد أهداف مشتركة توجه العملية التربوية فيهما.

ص: 98

‌رابعًا: الإعلام

وسائل الإعلام: وهي مؤسسات اجتماعية تربوية إعلامية تكون في العادة مرئيةً، أو مسموعةً، أو مقروءة، وتُعد هذه الوسائل على اختلاف أنواعها من أهم الوسائط التربوية وأبرزها في عصرنا الحاضر، وأكثرها تأثيرًا على تربية وثقافة ووعي الإنسان؛ حيث تُقدم برامج مختلفة وثقافات متنوعة من خلال وسائلها الجماهيرية المختلفة التي تُخاطب جميع الفئات، ومختلف الأعمار، وتدخل كل بيت، وتصل إلى كل مكان.

وتتميز وسائل الإعلام بقدرتها الفائقة على جذب اهتمام الناس من مختلف الأعمار؛ والثقافات؛ والبيئات، كما تتميز بأن لها تأثيرًا قويًّا على الرأي العام في مختلف الظروف، وأن تأثيرها يصل إلى قطاعاتٍ عريضةٍ من فئات المجتمع؛ وهذا يعني أنه من المهم جدًّا استثمارها، والإفادة منها، وتعبيدها لله تعالى، والعمل على تسخيرها بشتى الطرق والكيفيات لخدمة أهداف وأغراض التربية الإسلامية؛ عن طريق التنسيق المستمر بين هذه الوسائل وغيرها من المؤسسات التربوية الأُخرى في المجتمع، وعن طريق إسناد مهمة الإشراف عليها لمن تتوافر فيه الكفاءة الدينية والخُلقية والعلمية والمهارية

(1)

.

ولا ريب أن الإعلام يؤدي دورًا كبيرًا وبارزًا في تشكيل خلق الإنسان

(1)

أبو عرَّاد، مرجع سابق.

ص: 99

وتوجيهه عمومًا والناشئة خصوصًا، ويختلف تأثيره باختلاف وسائله وطرائقه، ولا سيما في الزمن الحاضر حيث ازداد تأثيره بصورة لم يسبق لها مثيل، وذلك لتعدد وسائله وسبله وطرائقه، وللإعلام دور فعال في تربية الأفراد بوجه عام والصغار بوجه خاص. والعلاقة بين الإعلام والتربية علاقة قوية متبادلة؛ لذا يجب حسن استغلال وسائل الإعلام في غرس العقيدة الصحيحة والسلوك القويم والأخلاق الحميدة في نفوس الناشئة، ويزداد تأثير وسائل الإعلام على النشء بصفة خاصة؛ لأنها حين تركز على أحد الجوانب ينطبع ويترسخ هذا الجانب في عقول الصغار بحيث يصعب انتزاعه من أذهانهم في المستقبل.

وللإعلام بمختلف مؤسساته ومصادره دور في تنمية المسؤولية الاجتماعية لدى أفراد المجتمع كافة من خلال هدفه العام المتلخص في: (توجيه الأفراد عن طريق تزويدهم بالمعلومات والحقائق والأخبار لمساعدتهم في تكوين رأي محدد في واقعة معينة أو مشكلة محددة).

وللإعلام دور كبير في تعزيز مكانة الناشئة في المجتمع.

فعلى وسائل الإعلام أن تعمل على:

أولًا-غرس القيم والمبادئ والمفاهيم الإسلامية والتربوية في نفوس النشء.

ثانيًا- نشر وتعميق الانتماء للدين بين أفراد المجتمع عمومًا والناشئة خصوصًا.

ثالثًا- غرس الثقة الكاملة بمقومات الأمة الإسلامية وأنها خير أمة أخرجت للناس والإيمان بوحدتها على اختلاف أجناسها وألوانها وتباين ديارها، لترد بذلك الهجمة الشرسة من أعداء الملة على ثوابت الدين ومقوماته العقدية والأخلاقية.

ص: 100

رابعًا- تجسيد قيم الدين ومبادئه وإيضاحها والعمل على تثبيتها والمحافظة عليها.

خامسًا- المساهمة في التوعية العامة التي تمهد لتحقيق الأهداف والسياسات العامة في الأمور التربوية والتعليمية والثقافية والاجتماعية والعمل على إيصالها بصورة تليق بمستوى الناشئة عقليًّا وفكريًّا.

سادسًا- محاولة ملء أوقات الفراغ ببرامج هادفة تعزز الانتماء للدين لدى الناشئة وتخاطب اهتماماتهم، وتهتم بإيقاظ هممهم للعمل الصالح.

سابعًا- توثيق العلاقة بين مؤسسات المجتمع فكريًّا وثقافيًّا حتى تصب روافد التربية كلها في مصب واحد، ولا يصبح بينها تنافر وتضاد.

ثامنًا- طرح القضايا والمشاكل التي تواجه الناشئة ومناقشتها وتقديم الحلول المناسبة، فهي بمثابة حلقة الوصل المكملة والمتممة لدور وأهداف روابط التربية مجتمعة.

تاسعًا- التغطية الإعلامية المتوازنة لجميع القضايا والأحداث التي تخص الناشئة والمجتمع وفق أسس إسلامية وتربوية.

عاشرًا- إبراز نماذج وقدوات صالحة للناشئة من خلال برامج إعلامية متنوعة تقص عليهم قصص الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وحياة الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم، وسير علماء وأبطال الإسلام.

ص: 101

خامسًا: دور روافد التربية مجتمعة

الترابط والتعاضد بين دور الأسرة في الرعاية والتوجيه والتربية والتنشئة الحسنة للأبناء، ودور المسجد في متابعة وإتمام ما تقوم به الأسرة من دور بناء وفعال تجاه رعاية وتربية الأبناء وإتمام ما تعجز عنه الأسرة، ودور المدرسة في التربية والتعليم على نحو ما تقوم به الأسرة والمسجد له آثار حميدة، وكذلك وسائل الإعلام التي يتابعها الأبناء في المنزل أو في محيط المدرسة يجب تعبيدها لله ووضع برامج هادفة ونافعة ومتابعة بدقة تامة من جميع الجهات المعنية، ولذا يجب مد جسور التعاون بين هذه الروافد مجتمعة، وإيجاد جَوٍّ من الثقة والتفاهم والتعاون وتبادل التناصح ووجهات النظر، وذلك كله في سبيل تحقيق غاية حميدة ألا وهي تعبيد الناشئة لله سبحانه وتعالى، واستقامتهم على دينه، كما بين الله سبحانه في محكم التنزيل فقال جل في علاه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].

والرقي بالأولاد قدمًا نحو مدارج العبودية للخالق العظيم جل في علاه، وبذلك يصبح الأبناء في ظل إطار منظومة تربوية متكاملة قادرين على البناء والعطاء لأمتهم الإسلامية ولمجتمعاتهم ولأسرهم.

وتحمل مؤسسات المجتمع على كاهلها مسئولية بناء الناشئة وتشكيلهم لأنَّ

ص: 102

التربية بمفهومها الشامل هي العملية التي يشترك في إحداثها وتفاعلاتها مؤسسات المجتمع ومنظماته المختلفة، والتي من بينها وأهمها (الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام).

قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات: 24].

فكل عمل أنت مكلف به شرعًا أو التزمت بالقيام به وكان فيه مصلحة لك أو لغيرك فهو مسؤولية ينبغي عليك القيام بها على أحسن حال؛ فالمسؤولية فردية؛ لأن التكليف فردي والحساب كذلك يوم القيامة، قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95].

وأخيرًا ليتم التوثيق والارتباط بين روافد التربية يجب مراعاة ما يلي:

أولًاـ وجوب اهتمام الأسرة بأبنائها ورعايتهم من جميع النواحي لأن البيت هو الأساس في عملية التربية، وأنه هو المصدر الأساسي لإمداد الطفل بالقيم وتزويده بالصفات الحميدة والأخلاق الصالحة الرشيدة، فعلى الوالدين الاهتمام بأبنائهم ومتابعتهم في البيت والمدرسة وربطهم بالمسجد منذ نعومة أظفارهم وتشجيعهم على أداء الصلاة فيه جماعة، وكذلك تحفيزهم على حفظ كتاب الله تعالى، وارتباطهم بالأنشطة المقامة فيه، كما أن المدرسة ذات دور مؤثر وفعال في التربية، حيث إن الناشئة يعايشون معلميهم وأقرانهم فترة طويلة، فيجب على الأسرة اختيار المدارس الطيبة والمحاضن الصالحة الآمنة لأبنائهم

ص: 103

مع متابعتهم بصفة مستديمة، وعلى القائمين على التعليم إصلاح المناهج الدراسية ومراجعتها بين الفينة والفينة، وإصلاح الأنشطة المدرسية وتوجيهها بالقدر الذي يحقق الهدف من التربية الإسلامية، وكذلك الاهتمام بتوجيه الوسائل الإعلامية المقدمة لهم وصبغها بالصبغة الشرعية لتصبح روافد التربية منظومة متكاملة تأخذ جميعها بيد الناشئة نحو الهدف المنشود، ألا وهو تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة التي تعود على المجتمع بالخير والصلاح.

ثانيًا ـ أن تكون المدرسة مؤسسة رائدة في تعميم التربية والمعرفة، وتؤدي رسالتها السامية في إيجاد المسلم الصالح، وذلك بأن يكون هناك تفاعل إيجابي بين المدرسة والمجتمع، وأن تستقي المدرسة مناهجها ومقرراتها ونشاطها من صميم عقيدة الأمة وتاريخها وأهدافها وآلامها وآمالها

ثالثًا - من واجب المسلمين أن يعيدوا إحياء رسالة المسجد ومهابته ورسالته كي يبقى مصدر نور وإرشاد وإشعاع علمي وتربوي وثقافي واجتماعي، لأن المسجد مؤسسة ذات شأن عظيم، وله دور كبير وهام وفعَّال في إصلاح الناشئة وتوجيههم.

رابعًا - ترشيد أجهزة الإعلام ووسائله، لتكون سبيلًا إلى غرس القيم الإسلامية السامية والفاضلة، ووضع برامج للتوعية الاجتماعية والنفسية والتعليمية والأخلاقية، في ضوء خطط علمية وتربوية وثقافية واجتماعية مدروسة من قِبَلِ لجان مختصة وموثوقة ومؤتمنة على هذا الأمر الجلل، وذلك وفق منهج الشريعة الإسلامية السمحة.

وكذلك الحذر والتحذير من الاستسلام لكل ما يقدمه الإعلام الغربي الكافر

ص: 104

الحاقد للناشئة من نشر العقائد الباطلة والسحر والشعوذة ونشر الرذيلة والفواحش والفساد والانحراف والجريمة بكل صورها وأشكالها في صور برامج تعليمية أو ترفيهية أو ألعاب أطفال أو برامج ثقافية أو غير ذلك من المسميات.

خامسًا ـ بناء الناشئة في المجتمع الإسلامي بناءً صالحًا من النواحي العلمية والاجتماعية والخلقية والروحية، والإكثار من الحديث عن ذلك في وسائل الإعلام المختلفة: ليصبح للإعلام دور قويٌّ وفعَّال في نشر الوعي بين طبقات المجتمع كافة على جميع مستويات ثقافاتهم وإدراكهم، مساهمًا بذلك في حل قضايا المجتمع بتقديم النصح والإرشادات والتوجيهات لكل طبقات المجتمع بما فيهم الناشئة.

وعلى الرغم من تعدد أنواع هذه المؤسسات الاجتماعية وتعدد وظائفها وواجباتها إلا أن علاقة الناشئ المسلم بالمؤسسات التربوية في المجتمع تنطلق من كون التربية الإسلامية عمليةً تمتاز بخاصية الشمول والاستمرارية والتجدد؛ إذ إنه لا حدَّ نهائيًّا لتربية الناشئ المسلم.

والخلاصة: أن للمؤسسات التربوية المختلفة في المجتمع المسلم أهميةً بالغةً؛ وأثرًا بارزًا في العملية التربوية بعامة والتعليمية بخاصة؛ الأمر الذي يفرض على المهتمين في الميدان التربوي والتعليمي مزيدًا من العناية والاهتمام بها، والحرص على أن تكون مُتميزة في المجتمع المسلم، ومُختلفًة عن مثيلاتها في المجتمعات الكافرة؛ نظرًا لكون المجتمع المسلم ينفرد عن غيره من المجتمعات الكافرة بمصادره، وأهدافه وغاياته، وخصائصه التي تفرض على

ص: 105

مؤسساته التربوية المُختلفة في المجتمع المُسلم أن تكون فريدةً هي الأُخرى، ومُتميزةً، وقادرةً على تحقيق ما هو مرجوٌّ منها؛ لأنها هي المسؤولة عن تربية الناشئ المسلم، وإعداده لممارسة أدواره ووظائفه الاجتماعية المختلفة في الحياة، لذا فإنه من الواجب الحتمي التنسيق والترابط والتكامل بين هذه المؤسسات لتؤدي دورها التربوي الرائد في إعداد جيل مؤهل للاستخلاف في الأرض وحمل مشعل النور والهداية للعالمين.

والحمد لله رب العالمين

(1)

.

(1)

أبو عراد -مرجع سابق- بتصرف.

ص: 106

‌المطلب الرابع

أهمية تربية الأبناء

‌أهمية التربية عمومًا:

إن التربية من أفضل الأعمال وأقرب القربات، فهي دعوةٌ، وتعليمٌ، ونصحٌ، وإرشادٌ، وعملٌ، وقدوةٌ، ونفعٌ للفرد والمجتمع والأمة بأسرها، وكيف لا تكون من أعظم الأعمال وأجلِّها وهي مهمة الأنبياء والرسل، وقد قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]

(1)

.

وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، فأمرنا ربنا عز وجل أن نقي أهلنا -أزواجًا وذرية- من نار الآخرة وأن نجعل بينهم وبينها حاجزًا واقيًا، وإنما تكون هذه الوقاية بالتربية على العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة.

قال مجاهد في تفسير الآية: «اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله» .

وقال قتادة: «تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر

(1)

مقال بعنوان تربية الأولاد كما وردت في القرآن. فضل الرحمن: جلال الدين-موقع الألوكة- بتاريخ 1/ 6/ 1433 هـ بتصرف.

ص: 107

الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها»

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: «فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم

فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَلِ الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا»

(2)

.

وإن المربي مستأمن على عقيدة ولده وعلى أخلاقه قبل أي شيء آخر، وقد نهانا الله تعالى عن تضييع الأمانة، فقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].

‌وتبرز أهمية تربية الأبناء خصوصًا من جانبين عظيمين:

‌الجانب الأول: تحقيق العبودية الصحيحة لله تعالى، وهي الغاية من وجود الخلق

.

وإن للتربية الإسلامية أهدافًا تسعى إلى تحقيقها، ولا شك أن الهدف الأسمى من تلك الأهداف هو تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، ولا بد أن يكون جانب تحقيق العبودية مقرونًا بالتنشئة العقدية الصحيحة لأبناء المجتمع المسلم؛ وذلك لإعداد جيل مسلم صالح يعبد الله عز وجل على نور وبصيرة، ليصبح جيلًا مسلمًا صالحًا راشدًا مهيَّأً للاستخلاف في الأرض، وذلك هو غاية التربية

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 392).

(2)

تحفة المودود، لابن القيم- المرجع السابق (229).

ص: 108

الإسلامية، تلك الغاية التي من أجلها خُلِقَ الإنسانُ، فليس لله غرض من الخلْق إلا تحقيق العبودية له وحده لا شريك له.

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].

وترسيخ العقيدة وتحقيق العبودية في كل أمر من أمور الحياة، يُعدُّ أهم أهداف التربية الإسلامية كما أسلفنا، وإذا تحققت العبودية تحققت أهداف التربية جميعًا تبعًا لها، ذلك لأن كل الأهداف تنبثق منها، إذ إن مفهوم العبادة في التربية الإسلامية شامل كامل، يشمل العبادات الظاهرة والباطنة، والمعاملات كلها، معاملة المخلوق لخالقه، وحسن معاملة الخلق للخلق، وقد جبل الله عز وجل النفوس على التوحيد الخالص من شوائب الشرك، ولكنها تحتاج أن تتعلم أصول الإيمان وجزئياته، ولا شك أن أصْلَح أوقات غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الأبناء هي السنواتُ الأولى من حياتهم؛ لأنهم يصغون إلى الآباء والمربين بكل جوارحهم وحواسهم، ويقبلون ما يتلقونه منهم دون أدنى تردد أو جدال، ولا شك أن عامل الفطرة معين للمربي على تقوية وتنمية هذا الجانب الفطري، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

وترسيخ العقيدة يكون عن طريق التدبر: بأن يلفت نظر الصغير إلى مظاهر الكون وارتباطها بالتوحيد، وهذا الربط يشعره بالتوازن النفسي، ويحس بأنه جزء من أجزاء الكون المتناسقة، ويبين له أن هذا الكون بكل ما فيه يسبِّح لله، ويرشده إلى التسبيح ليكون مع الركب المسبِّح، كما أن المربي يستطيع تعليم الصغير أسماء الله عز وجل وصفاته عن طريق التدبر في جمال الكون وعظمة المخلوقات ونظامها.

ص: 109

وينبغي أن يقدم المربي للصغير محفوظات في العقيدة في أول نشوئه ليحفظها حفظًا، ثم لا يزال ينكشف له معناها في كبره شيئًا فشيئًا، فابتداؤه الحفظ، ثم الفهم، ثم الاعتقاد والإيمان والتصديق به، وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»

(1)

.

قال الغزالي: «الصبيُّ أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ خاليةٌ عن كل نقشٍ وصورة، وهو قابلٌ لكل نقش، ومائلٌ إلى كل ما يُمالُ إليه، فإن عُوِّد الخيرَ نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة أبواه، وإن عُوِّد الشر وأُهْمِل إهمال البهائم، شَقِيَ وهَلَكَ، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه، وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملًا، وإنما يكمل ويقوى بالغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتربية، وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم»

(2)

.

والعبودية لله-تعالى- لا تقتصر على مجرد أداء شعائر ومناسك معينة: كالصلاة، والصيام، والحج -مثلًا- وإنما كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: هي «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة»

(3)

.

(1)

رواه البخاري (1270)، ومسلم (4803).

(2)

معالم التنزيل: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 510 هـ). تحقيق وتخريج: محمد عبد الله النمر -عثمان جمعة ضميرية- سليمان مسلم الحرش. الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الرابعة (1417 هـ).

(3)

العبودية. أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، المحقق: محمد زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي-بيروت- ط 7 (1426 هـ - 2005 م). (ص 44).

ص: 110

فالإنسان الذي يريد أن يتحقق فيه معنى العبودية، هو الذي يُخضع أموره كلها لما يحبه الله-تعالى- ويرضاه، سواء في ذلك ما ينتمي إلى مجال الاعتقادات، أو الأقوال، أو الأفعال؛ فهو يكيف حياته وسلوكه جميعًا لهداية الله وشرعه؛ فلا يفتقده الله حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، وإنما يلتزم أوامر الله فيأتي منها ما استطاع، وينزجر عن نواهيه سبحانه فلا يقربها؛ استجابة لأمره صلى الله عليه وسلم:«فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فَأْتوا منه ما استطعتم»

(1)

.

فالمسلم دائمًا إذا أمره الله -تعالى- أو نهاه، أو أحل له، أو حرم عليه - كان موقفه في ذلك كله: أن يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].

فهذا الذي ينبغي أن يَعْلَمَهُ الآباء والمربون أولًا، ثم يسعَوا لغرسه في نفوس أبنائهم ثانيًا، فيعلمونهم العقيدة الصحيحة ويغرسون في قلوبهم التعلق بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه، والاستسلام والانقياد والإذعان لأمره جل في علاه، وعبادته سبحانه وتعالى خوفًا وطمعًا ورغبًا ورهبًا ورجاءً ومحبةً، وذلك لأن توحيد الله تعالى سبيل الفوز برضوانه وجناته، والنجاة من سخطه ونيرانه، وتوحيد العبادة والقصد والطلب هو توحيد الألوهية أصل الدين ومرتكزه الأول الذي عليه وبه تقوم مبانيه العظام من عبادات ومعاملات وأخلاق.

وإن الولد جوهرة نفيسة عند والديه، فهو نواة الأسرة والمجتمع، وأمل الغد والمستقبل، وموئل الإسلام بعد الله تعالى، فتربيته على عقيدة التوحيد أساس تربوي وطيد؛ بل لا تصح التربية ولا تستقيم بغير عقيدة التوحيد الذي هو

(1)

رواه البخاري (7288) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 111

أساس الإسلام وأصله الأصيل

(1)

.

قال ابن القيم رحمه الله: «وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، وهو بذلك يزعم أنه يكرمه وقد أهانه، ويرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت على ولده حظه في الدنيا والآخرة» ، ثم قال رحمه الله:«وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قِبَلِ الآباء»

(2)

.

ويكفي عظمًا لشأن التوحيد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؛ إلا حرم الله عليه النار»

(3)

.

ومن لوازم تحقيق التوحيد التحذير من الشرك؛ فهذا أول ما بدأ به لقمان في وصيته لابنه كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]، فينبغي للأب أن يربي أولاده على التوحيد والتحذير من الشرك.

قال ابن عاشور

(4)

في تفسير هذه الآية:

(1)

نواب الدين -مرجع سابق- بتصرف (ص 4).

(2)

تحفة المودود بأحكام المولود (1/ 242).

(3)

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الرقاق (6422)، ومسلم في كتاب الإيمان (33) من حديث عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه.

(4)

محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الطَّاهر بن عاشور، ولد في مدينة تونس سنة (1296 هـ)، الموافق (1879 م)، وهو من أسرة علمية عريقة، أحد أهم العلماء الذين عرفتهم تونس في القرن العشرين. وفاته: وقد توفي الطاهر بن عاشور في (13 رجب 1393 هـ = 12 أغسطس 1973 م).

=

= أما عقيدته، فالطاهر ابن عاشور كان في مسائل الاعتقاد وعلم الكلام: على مذهب الأشاعرة من حيث الأصل، ويظهر اعتقاد العلامة ابن عاشور واضحًا في موقفه من نصوص الصفات، فهو إما أن يؤولها، وإما أن يفوضها، وهذان طريقان معروفان للأشاعرة، وكلاهما مخالف لمذهب السلف في باب الصفات: حيث يثبتونها على ما يعرف من معناها في لغة العرب، من غير تأويل لها، أو تشبيه لصفات الله تعالى بصفات خلقه، أو تمثيل لها، جل الله تعالى عن كل عيب ونقصان، وينظر في ذلك تفسيره للإتيان (2/ 284) والاستواء (16/ 187)، واليدين (23/ 302).

وللاستزادة والوقوف على تفاصيل حياته والتعرف على منهجه ومؤلفاته، ينظر:

* كتاب: شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور. تأليف: بلقاسم الغالي.

* كتاب: محمد الطاهر بن عاشور علامة الفقه وأصوله، والتفسير وعلومه. تأليف: خالد الطباع.

* مقدمة كتاب: مقاصد الشريعة لابن عاشور. تحقيق: محمد الطاهر الميساوي.

* كتاب: التقريب لتفسير التحرير والتنوير. تأليف: محمد بن إبراهيم الحمد.

* كتاب: تراجم لتسعة من الأعلام. تأليف: محمد بن إبراهيم الحمد.

ص: 112

«ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل. وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدهرية والإشراك، فكان قوله: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته»

(1)

.

‌الجانب الثاني: أهمية تربية الأبناء في ضوء حفظ الأمن العام في المجتمع:

لقد جاءت الشريعة الإسلامية من لدن عزيز حكيم، جاءت لإسعاد البشرية

(1)

التحرير والتنوير (21/ 101)، وينظر: تربية الأولاد كما يراها القرآن. فضل الرحمن جلال الدين، الألوكة (2/ 6/ 1433 هـ 22 - / 4/ 2012 م).

ص: 113

في الدنيا والآخرة تدلهم على طريق الخير والهدى وتحذرهم من طريق الغواية والضلال وخطوات الشياطين وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر وتحل لهم الطيبات وتحرم عليهم الخبائث، ومن مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الضرورات الخمس أو الكليات الخمس للإنسان وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال فمن اعتدى على إحدى هذه الخمس أقيمت عليه الحدود والعقوبات التي تردعه وتزجر غيره من أن يعتدي على حرمات الله عز وجل وحقوق البشر، ولذا فإن الشريعة الإسلامية جاءت بما يحفظ الأمن ويحقق السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة.

والأمن يشمل كل نشاطات الإنسان في حياته، كما يعتبر الأمن في الإسلام ركيزة من ركائز المجتمع المسلم المهمة التي يستمد منها المجتمع استقراره وتقدمه وهو المحور الأساسي في التنمية الشاملة والاستقرار وهو المناخ المناسب للنمو والتقدم.

والأمن نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى التي لا تعد ولا تحصى كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وقال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، ولقد امتن الله بهذه النعمة على عباده حيث قال سبحانه:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 1 - 4].

وقد بَيَّنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم أهمية الأمن بقوله: «من أصبح منكم آمنًا في سربه معافًى في بدنه عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»

(1)

.

(1)

الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (833) حسن لغيره.

ص: 114

ويبين الباحث أهمية حفظ الضروريات الخمس في الشريعة الإسلامية:

‌وذلك في ضوء التعريف بأمرين عظيمين:

‌الأمر الأول: المقاصد الشرعية:

التعريف بالمقاصد الشرعية.

- تعريف المقاصد في اللغة:

المقاصد في اللغة: جمع مقصد، وهو مشتق من الفعل (قصد يقصد قصدًا).

وللقصد في اللغة عدة معانٍ، أهمها ما يأتي:

1 -

استقامة الطريق، ومنه قوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، أي: تبيين الطريق الصحيح؛ يقول ابن جرير الطبري: «القصد من الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه»

(1)

.

2 -

الأَمُّ والتوجه، تقول العرب: قصد إلى فلان أي: أمَّه وتوجه إليه

(2)

. وهذا المعنى أقرب إلى المعنى الاصطلاحي للمقاصد، وهو المتداول في استعمال الفقهاء وعلماء أصول الفقه كقولهم:«المقاصد معتبرة في التصرفات» ، وقولهم:«المقاصد تغير أحكام التصرفات» ، ويعنون به: الإرادة الباطنة للمكلف

(3)

.

- تعريف المقاصد الشرعية اصطلاحًا.

رغم ورود مصطلح (المقاصد) في كلام أهل العلم المتقدمين إلا أنه لم

(1)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن (7/ 25).

(2)

يُنظر: لسان العرب (3/ 96)، ومختار الصحاح (2/ 524)، والمصباح المنير (ص 260)، والمعجم الوسيط (2/ 738) مادة:(قصد).

(3)

يُنظر: المدخل إلى علم مقاصد الشريعة (ص 14).

ص: 115

يوجد من صرح بتعريفه كمصطلح، ولعل ذلك بسبب وضوحه

(1)

.

فقد استعمله العلماء بالمعنى اللغوي أو قريبًا منه، وهو الغاية التي يُسار إليها كما في قاعدة:«الأمور بمقاصدها»

(2)

.

وممن كان له اهتمام بالمقاصد الغزالي الذي يستعمل مصطلح المقاصد بهذا المعنى فيقول: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة»

(3)

.

وبمعنى آخر مماثل: هي المعاني والحكم التي راعاها الشارع في التشريع عمومًا وخصوصًا من أجل تحقيق مصالح العباد

(4)

.

وهذا التعريف يشمل المقاصد العامة للتشريع والتي يجمعها حفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة، كما يشمل المقاصد الخاصة وهي الحكم والغايات المترتبة على كل حكم من أحكام الشريعة بذاته، وهذه المقاصد الخاصة راجعة

(1)

يُنظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (ص 5).

(2)

يُنظر: أهمية المقاصد في الشريعة الإسلامية (ص 28)، وقواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي (ص 5).

(3)

المستصفى (1/ 411)، وينظر: جهود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ الضرورات الخمس، عبد العزيز بن عبد الله، النملة، الطبعة: الأولى (1432 هـ)، سلسلة إصدارات مركز المحتسب (ص 7)، المملكة العربية السعودية، الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ندوة الحسبة وعناية المملكة بها، المنعقدة خلال الفترة من (11 - 12/ 4/ 1431 هـ)(ص 7).

(4)

كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 38).

ص: 116

إلى المقاصد العامة ومنتهية إليها؛ لذلك سيكون حديثنا مقصورًا على هذه المقاصد العامة.

‌الأمر الثاني: التعريف بالضرورات الخمس:

أقسام المقاصد الشرعية.

تنقسم المقاصد الشرعية من حيث ضرورتها وشدة الحاجة إليها إلى ثلاثة أقسام:

- يقول الشاطبي

(1)

رحمه الله: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون ضرورية.

والثاني: أن تكون حاجية.

والثالث: أن تكون تحسينية

(2)

.

(1)

الشاطبي (790 هـ)، هو إبراهيم بن موسى بن محمد، أبو إسحاق، اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي، من علماء المالكية، كان إمامًا محققًا أصوليًّا مفسرًا فقيهًا محدثًا نظارًا ثبتًا بارعًا في العلوم، أخذ عن أئمة؛ منهم: ابن الفخار، وأبو عبد البلنسي، وأبو القاسم الشريف السبتي، وأخذ عنه أبو بكر بن عاصم وآخرون، له استنباطات جليلة وفوائد لطيفة وأبحاث شريفة مع الصلاح والعفة والورع واتباع السنة واجتناب البدع، وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر. من تصانيفه: الموافقات في أصول الفقه. أربع مجلدات؛ و الاعتصام؛ و المجالس. شرح به كتاب البيوع في صحيح البخاري. وينظر: نيل الابتهاج بهامش الديباج (ص 46)؛ وشجرة النور الزكية (ص 231)؛ والأعلام للزركلي (1/ 71).

(2)

ينظر: الموافقات (2/ 8).

ص: 117

‌القسم الأول: المقاصد الضرورية

.

وهي المقاصد التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ وسميت بذلك لأن الخلق مضطرون إليها اضطرارًا شديدًا، ولا غنى لهم عنها، وتُعرف هذه المقاصد بالضرورات الخمس

(1)

.

‌القسم الثاني: المقاصد الحاجية

.

وهي التي يفتقر الناس إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة، وقد عرفها الآمدي بقوله:«هي تكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليها»

(2)

.

ومن ذلك أجاز الشارع الإجارة لسد الحاجة اللازمة للسكن، والانتفاع بملك الآخرين

(3)

.

‌القسم الثالث: المقاصد التحسينية

.

وهي المقاصد التي تكون على سبيل التكميل والتجميل، وسميت بذلك لأنها تحسن حال الإنسان، وهي مكملة للمقاصد الضرورية والحاجية، ومن ذلك شرع أخذ الزينة عند المساجد، والترغيب بالتحلي بالآداب الإسلامية، وتجنب التبذير والإسراف

(4)

.

(1)

يُنظر: التقرير والتحبير (3/ 143)، والمقاصد الشرعية وأثرها في الفقه الإسلامي (ص 163)، وأهمية المقاصد في الشريعة الإسلامية (ص 197).

(2)

الإحكام في أصول الأحكام (3/ 273).

(3)

يُنظر: البرهان في أصول الفقه (2/ 924).

(4)

النملة -مرجع سابق- (ص 13).

ص: 118

التعريف بالضرورات الخمس (المقاصد الضرورية).

(وهي المعنية بالبحث).

‌أولاً: حفظ الضروريات:

فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين .. ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل»

(1)

.

‌حفظ الشرائع للضروريات:

إنَّ حفظ هذه الضروريات الخمس هو مقصد جميع الشرائع الإلهية والمحور الذي تدور أحكامها حوله؛ لأن استقرار حياة النَّاس دينيًّا ودنيويًّا متوقف عليها، ومرهون بحفظها، فإذا ما فُقِدت اختلَّت الحياة في الدنيا، وانعدم النظام في المجتمع، ووجب العقاب بحقِّ كلِّ مفرِّط ومتهاون.

- قال الشاطبي: «قد اتفقت الأمة؛ بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري»

(2)

.

- وقال الغزالي: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه

(1)

الموافقات (2/ 17 - 18)، وينظر: محاسن الإسلام من خلال حفظه للضروريات الخمس- مقال من موقع المنبر.

(2)

الموافقات (1/ 83)، وينظر: بالتفصيل: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية. للدكتور: محمد سعد اليوبي (ص 183) وما بعدها.

ص: 119

الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ورفعها مصلحة. وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح»

(1)

.

ولم يثبت لدى الباحث شيء قاطع معين يحدد ترتيب الضرورات الخمس.

الأدلة على مراعاة الضروريات الخمس:

‌استقراء أدلة الشرع:

قال الشاطبي: «فقد اتفقت الأمة؛ بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه؛ بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد»

(2)

.

ولقد توافرت دلالات الكتاب والسنة على وجوب حفظ هذه الضروريات الخمس، فمن ذلك: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا

(1)

المستصفى (2/ 482). وينظر: محاسن الإسلام من خلال حفظه للضروريات الخمس. مقال من موقع المنبر.

(2)

الموافقات (1/ 31).

ص: 120

صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 151 - 153].

ففي هذه الآيات الكريمات السابقات تظهر العناية بحفظ هذه الضرورات ظهورًا جليًّا واضحًا.

* فقد جاء حفظ الدين في النهي عن الشرك في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151].

* وجاء حفظ النفس في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151].

* وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151].

* وجاء حفظ النسل في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151].

* وجاء حفظ المال في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام: 152].

* وأما حفظ العقل: فإنه يؤخذ من مجموع التكليف بحفظ الضرورات الأخرى؛ لأن الذي يفسد عقله لا يمكن أن يقوم بحفظ تلك الضرورات كما أمر الله، ولعل في ختام الآية الأولى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} [الأنعام: 151] ما يدل على ذلك

(1)

.

(1)

الإسلام وضرورات الحياة (ص 16 - 17)، وينظر: محاسن الإسلام من خلال حفظه للضروريات الخمس. مقال من موقع المنبر.

ص: 121

وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 23 - 36].

* وقد جاء ما يدل على حفظ الدين في مطلع هذه الآيات المباركات في قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23].

* وجاء حفظ المال في قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} [الإسراء: 26]، وفي قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]، وقوله تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35].

ص: 122

* وجاء حفظ النفس في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} [الإسراء: 31].

وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33].

* وجاء حفظ النسل في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].

والزنا من أعظم الفواحش و يكفي وصف الله له بأنه فاحشة.

* وأما حفظ العقل: فقد سبق بيانه إثر الدليل السابق، فهذه الآيات نصوص محكمة تدل على عناية الشريعة بهذه الضروريات، وأن حفظها هو مقصد الشارع الحكيم من شريعته.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على الرجال والنساء على حفظ هذه الضروريات، ومما يدل على ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)} [الممتحنة: 12]، فهذه الآيات تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ البيعة من النساء على المحافظة على تلك الضروريات، كما أخذها من الرجال أيضًا، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: «تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللهُ فَأَمْرُهُ إِلَى

ص: 123

اللهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ» قال: فبايعناه على ذلك

(1)

.

‌والضرورات التي في هذا الحديث هي:

* حفظ الدين في قوله: «أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا» .

* وحفظ النفس في قوله: «ولا تقتلوا أولادكم» .

* وحفظ النسل في قوله: «ولا تزنوا» ، وقوله:«ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم» .

* وحفظ المال في قوله: «ولا تسرقوا» .

* وأما حفظ العقل: فقد سبق بيانه.

- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال:«الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»

(2)

.

ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالمحافظة على تلك الضرورات بقوله:» اجتنبوا السبع الموبقات «ولم يعدها من الموبقات المهلكات إلا لأن غشيانها واقترافها فيه هتك لحرمات وضرورات ملحة أمر الشرع بحفظها ولا تستقيم حياة الناس

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري كتاب الإيمان: باب علامة الإيمان حب الأنصار (18، 3892، 6801، 7213، 7468)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الحدود: باب الحدود كفارات لأهلها (1709).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الوصايا: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} . [النساء: 10](2615)، ومسلم في الإيمان (89).

ص: 124

إلا بها، وصانها بسياج منيع من الحدود والعقوبات الرادعة لمن اقترفها وانتهك حرمتها، والزاجرة لغيره عن غشيانها، حفظًا وصيانة لها.

وقد حفظت الشريعة هذه الضروريات من جانب الوجود، وذلك بشرع التكاليف التي تقيم أركانها وتثبت قواعدها، كما حفظتها من جانب العدم؛ وذلك بشرع ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها

(1)

.

وفيما يلي تفصيل ذلك:

(1) حفظ الدين:

الشريعة هي الدين، وقد اعتنت تكاليفها بحفظه من جانب الوجود ومن جانب العدم؛ فمن جانب الوجود أوجب الله على كل مسلم العمل بأركان هذا الدين واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كي يبقى الدين حيّا في النفوس؛ لأنَّ دينًا لا شرائع فيه تضمحل حياته في النفوس مع تقادم العهد وطول الأمد؛ وقد بين الله تعالى أهمية الشرائع في إحياء الدين في النفوس بقوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

وكذلك جاءت التكاليف بحفظ الدين من جانب العدم؛ كالنهي عن كل ما يخل بجناب التوحيد ويوقع في الشرك، قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الآية [الأنعام 151].

وشَرْعِ العقوبات الزواجر لمن ترك ركنًا من أركان الإسلام؛ والحكم بقتل المرتد.

(1)

ينظر: الموافقات (2/ 8).

ص: 125

عن مَسْرُوقٍ، عن عبد اللَّهِ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنِّي رسول اللهِ إلا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»

(1)

.

والأمر بجهاد الكافرين وفق الضوابط التي استنبطها العلماء من الكتاب والسنة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} [التوبة: 73]، ومن الشرائع ما قصد به حفظ الدين من الجانبين؛ بل وحفظ باقي الضروريات؛ كإيجاب اجتماع المسلمين على أمير، كما جاء عن نافع قال: جاء عبد اللَّهِ بن عُمَرَ إلى عبد اللَّهِ بن مُطِيعٍ حين كان من أَمْرِ الْحَرَّةِ ما كان زَمَنَ يَزِيدَ بن مُعَاوِيَةَ، فقال: اطْرَحُوا لِأَبِي عبد الرحمن وِسَادَةً، فقال: إني لم آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سمعت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ، سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول:«من خَلَعَ يَدًا من طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يوم الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ له، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»

(2)

.

وأمر المسلمين بطاعة الأمراء في غير معصية الله سبحانه وتعالى كما في قول الباري جل شأنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري كتاب الديات: باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ

}. [المائدة: 45](6878)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات: باب ما يباح به دم المسلم (1676)، واللفظ له، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (1851) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 126

[النساء: 59]، وذلك لما في إقامة الأمراء وطاعتهم من حفظ الدين بإقامة شعائره وحفظه بتحقيق الأمن الذي لا يستقيم أداء الشعائر إلا به، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله من المنافع.

(2) حفظ النفس:

وكذلك النفس يكون حفظها من جانب الوجود ومن جانب العدم.

أما من جانب الوجود:

فمثل ما جاء في الشريعة من الأمر بالمحافظة على النفس بالأكل والشرب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]، وعدم الإلقاء بها في التهلكة كما قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وأمَّا من جانب العدم.

فكتحريم الاعتداء عليها، وسد الذرائع المؤدية إلى القتل، وشرع القصاص لما فيه من الزجر عن انتهاك الأنفس وإشاعة القتل؛ كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179].

ولعل ما جاء من استحباب العفو عن القاتل يسير في سياق حفظ الشريعة للنفوس أيضًا، وذلك لأن النفس وإن كانت جانية إلا أن في استحباب العفو عنها إشارة إلى أن الأصل في الشريعة حفظ النفوس واستبقاؤها؛ وعدم تشوف الشارع إلى إزهاقها، وقد بَيَّنَ المولى هذا المعنى بوصفه تخفيفًا ورحمةً، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى

ص: 127

بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178].

ومما ورد في حفظ النفس قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].

ووجه الاستدلال من ناحيتين:

الأولى: صريح النص في النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.

الثانية: ما يفهم من شرع قتل النفس التي حرم الله بالحق، فإن في قتل النفس بالحق حفظًا للنفس في باب القصاص، وحفظًا للدين في باب الردة، وحفظًا للنسل في باب الرجم، وهذا هو المقصود من حفظ النفس، ويشمل حفظ جميع الأنفس المعصومة بالإسلام أو الذمة أو الأمان

(1)

.

ومن النصوص الواردة في تحريم الاعتداء على النفس: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].

* وعن مَسْرُوقٍ، عن عبد اللَّهِ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنِّي رسول اللهِ إلا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»

(2)

.

(1)

روضة الطالبين (9/ 148).

(2)

متفق عليه: أخرجه البخاري كتاب الديات: باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ

}. [المائدة: 45](6878)، = =ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات: باب ما يباح به دم المسلم (1676)، واللفظ له، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 128

* وقوله صلى الله عليه وسلم في أكبر اجتماع للناس يوم عرفة في حجة الوداع: «فإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»

(1)

.

* وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»

(2)

.

* وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَن يَزَال المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»

(3)

.

* وقوله صلى الله عليه وسلم: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»

(4)

.

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري كتاب الفتن: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» (7078) واللفظ له، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات: باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن ماجه، كتاب الديات: باب التغليظ في قتل مسلم ظلمًا (2619)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال ابن الملقن في البدر المنير (8/ 347):«صحيح» ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه:«إسناده صحيح ورجاله موثقون» ، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب. صحيح لغيره (2438)، وصحيح الجامع، (5078)، وصحيح ابن ماجه (2134).

(3)

أخرجه البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} . [النساء: 93](6862)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه البخاري: كتاب الديات، باب من طلب دم امرئ بغير حق (6882)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما-

ص: 129

* وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا»

(1)

.

* وقال صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»

(2)

.

* وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها؛ سفك الدم الحرام بغير حله»

(3)

.

ومن ذلك تحريم قتل المعَاهَدِين:

فقد بلغ من محافظة الشريعة الإسلامية على النفوس والوفاء بالعهود أن حرمت قتل المعاهد، وهو الذي له عهد مع المسلمين بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم، إلا أن ينقض العهد فيكون حلال الدم، فيحل للسلطان قتله، قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»

(4)

.

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا} . [المائدة: 32](6874، 7070، 7071)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (98)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48، 6044، 7076)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم:«سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (64)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى:{يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} . [النساء: 93](6863) موقوفًا.

(4)

أخرجه البخاري: كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 130

(3) حفظ النسل:

ومما ورد في حفظ النسل: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} [الأنعام: 151]، ومن أعظم الفواحش الزنا الذي وصفه الله تعالى بأنه فاحشة كما قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].

ولو لم يرد في ذلك إلا هذه الآية لكان كافيًا.

كيف وقد قرنه الله بالشرك وقتل النفس المعصومة في كتابه كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].

وأوجب الله فيه الحد: من الجلد إن كان الزاني بكرًا، أو الرجم إن كان الزاني محصنًا، وغاية ذلك الموت، وما فدي بالضروري -وهو النفس- أولى أن يكون ضروريًّا، ولهذا حفظ الشارع النسل من جانبين:

من جانب الوجود:

لقد حفظ الشارع هذه الضرورة من جانب الوجود فأمر بالنكاح وحض عليه، قال تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} [النور: 32].

وقال صلى الله عليه وسلم: «يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، من اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فإنه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ،

ص: 131

وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فإنه له وِجَاءٌ»

(1)

.

ومن جانب العدم:

ولقد حفظ الشارع هذه الضرورة من جانب العدم بتحريم كل ما يؤدي إلى ضياع النسل وانتهاك الأعراض، وفرض العقوبات الصارمة عليها، فكانت عقوبة الزنا من أشد العقوبات في الإسلام قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور: 19].

وقال صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»

(2)

.

وكثيرًا ما يقرن في القرآن والسنة بين النهي عن قتل النفس والزنا والشرك بالله تعالى، كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68].

وكما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظم؟ قال:«أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قلت: ثم أي؟ قال: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج

» (5065، 5066)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب حد الزنا (1690)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ص: 132

خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قلت: ثم أي؟ قال: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»

(1)

.

عن مَسْرُوقٍ، عن عبد اللَّهِ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنِّي رسول اللهِ إلا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»

(2)

.

قال ابن القيم رحمه الله: «ولمَّا كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه، وبنته، وأخته، وأمه، وفي ذلك خراب العالم: كانت تلي مفسدة القتل في الكبَر، ولهذا قرنها الله سبحانه بها في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، قال الإمام أحمد رحمه الله: ولا أعلم بعد قتل النفس شيئًا أعظم من الزنا. وقد أكد سبحانه حرمته بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 70]، فقرنَ الزنا بالشرك وقتل النفس،

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22](4477، 4761، 6001، 6811، 7520،)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86).

(2)

متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ

}. [المائدة: 45](6878)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم (1676)، واللفظ له، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 133

وجعل جزاء ذلك: الخلود في النار في العذاب المضاعف المهين، ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة، والإيمان، والعمل الصالح، وقد قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، فأخبر عن فُحشه في نفسه وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول، حتى عند كثير من الحيوانات»

(1)

.

ومن أجل حفظ الأعراض والنسل حرم الإسلام كل الممارسات التي تنحرف بالفطرة السوية؛ لما في هذه الانحرافات من خطر على وجود النوع الإنساني.

(4) حفظ المال:

ومما ورد في حفظ المال: قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5]، وقوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقوله تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152].

ومن وسائل حفظ المال: الحث على التكسب؛ وهو حفظ له من جانب الوجود.

(1)

الجواب الكافي (ص: 501).

ص: 134

أما حفظه من جانب العدم فقد جاء فيه تحريم الاعتداء عليه؛ وتحريم إضاعة الأموال؛ وتحريم السرقة والحرابة؛ وتحريم الغصب وأخذ المال بالحيلة، وشرع الإسلام ما يزجر عن هذه الأفعال من حدود وتعزيرات، وأعطت الشريعة الإنسان الحق في الدفاع عن ماله.

ومن براهين اهتمام الشريعة بالأموال وعظيم عنايتها بحفظها ورعايتها ما يلي:

1 -

تحريم الاعتداء عليها، إذ لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، وبذلك جاءت النصوص من الكتاب والسنة، ومنها:

قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة: 188]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»

(1)

.

2 -

تحريم إضاعة المال وتبذيره، قال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} [الإسراء: 26].

3 -

إقامة الحدود: فقرر قطع اليد في السرقة، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (5144)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564)، واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 135

فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

ومن العقوبات الزاجرة التي بها تحفظ الأموال عقوبة المحاربين، وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو في غيرها فيغصبونهم المال مجاهرة، فمن قَتَل منهم وأخذ المال قُتِلَ وصُلِبَ حتى يشتهر- ولو عفا صاحب المال- ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قُتِلَ ولم يُصْلَبْ، ومن أخذ المال ولم يقتل قُطِعَتْ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد، قال تبارك وتعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

(5) حفظ العقل:

وحفظ العقل مقصود أيضًا؛ لأن الشريعة جاءت بحفظ العقول وصيانتها من جانب الوجود ومن جانب العدم:

أما المحافظة على ضرورة العقل من جانب الوجود:

فمنه ما ورد في نصوص الشريعة من الأمر بالتفكر والتدبر وإعمال العقول.

* قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24].

* وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].

ص: 136

* وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].

وأما المحافظة على ضرورة العقل من جانب العدم.

فمن وجوه حفظ ضرورة العقل من جانب العدم ما يأتي:

أولاً: بيان الحكمة من تحريم مفسدات العقل:

لقد أنعم الله تبارك وتعالى على الإنسان بنعم كثيرة، من أَجَلِّهَا وأعظمها نعمة العقل التي ميزه بها عن سائر المخلوقات، ولما كانت الخمر وسائر المسكرات من شأنها أنها:

* تُفْقِد الإنسان نعمة العقل.

* وتثير الشحناء وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين.

* وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

حرمها الشارع الحكيم، فالخمر خطرها عظيم، وشرها جسيم، فهي مطية الشيطان التي يركبها للإضرار بالعباد.

‌ثانيًا: تحريم الخمر ووجوب الحدِّ على شاربه

.

ولقد حرّم الشرع ما يضر بالعقل ويضيع ثمرته كالخمر وسائر المسكرات

* قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90، 91].

ص: 137

* وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»

(1)

.

ولم يقف الأمر على تحريم الخمر فحسب؛ بل حرّم الله الطريق الموصل إليه:

فحرّم تذوق القليل من الخمر لأنه سبيل إلى شرب الكثير منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أسكر كثيره فقليله حرام»

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ؛ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ»

(3)

.

وحرّم الجلوس على مائدة أو مجلس يُشرب فيه الخمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُشرب عليها الخمر»

(4)

.

وغلظ اللعن في كل متعامل مع الخمر: فلُعِنَ في الخمر عشَرَة، كما صحّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: يا محمد، إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومُعْتَصِرَها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومُبْتاعَها، وساقيها، وَمُسْقاها»

(5)

.

وأمر الشارع بجلد شارب الخمر، ومقداره: أربعون جلدة، ويجوز أن يبلغ ثمانين جلدة، وذلك راجع لاجتهاد الإمام، يفعل الزيادة عند الحاجة إلى ذلك، خاصة إذا أدمن الناس الخمر ولم يرتدعوا بالأربعين؛ لحديث علي بن أبي

(1)

مسلم (20030)

(2)

الألباني، صحيح ابن ماجه 2754)) حسن صحيح، وفي صحيح الجامع (5530).

(3)

أحمد في المسند (24432)، والألباني في صحيح الترمذي (1866)، وصحيح أبي داوود (3687)، وصحيح الجامع (4552).

(4)

الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (172).

(5)

الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (2360) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 138

طالب رضي الله عنه في قصة الوليد بن عقبة: «جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنَّةٌ، وهذا أَحَبُّ إليَّ»

(1)

.

وعن السائب بن يزيد

(2)

رضي الله عنه قال: «كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرًا من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان صدرًا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين، حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين»

(3)

، ولحديث أنس رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين»

(4)

.

والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى. هذا ولقد أجمعت الأمة على تحريم شرب الخمر، وعلى وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلًا أم كثيرًا وسواء أسكر أم لم يسكر.

وقد أوجب الشارع الحد على شارب الخمر حال كونه عالمًا عامدًا مختارًا غير مكره ولا مضطر، وهو الجلد، وذلك تأكيدًا لضرورة حفظ العقل و بيانًا لأهميته ومكانته.

(1)

مسلم (1707)، والألباني، صحيح أبي داوود (4481).

(2)

السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة، أبو عبد الله، وأبو يزيد الكندي المدني، ابن أخت نمر، وذلك شيء عرفوا به. وكان جده سعيد بن ثمامة حليف بني عبد شمس. قال السائب:«حج بي أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين» . قلت: له نصيب من صحبة ورواية.

وقال الواقدي، وأبو مسهر، وجماعة توفي سنة إحدى وتسعين. ينظر: سير أعلام النبلاء (جـ 3)(ص: 437، 439).

(3)

البخاري (6779).

(4)

الألباني، صحيح الجامع (4974)، وصحيح ابن ماجه (2099).

ص: 139

‌ثالثًا: تحريم المفسدات المعنوية للعقل

.

فإذا كان السكر يُزيل العقل، فإن عددًا من المحرمات كسماع الغناء والمعازف والنظر المحرم يؤدي بصاحبه إلى ترك الواجبات وفعل المحرمات، ولهما تأثير في ضعف العقل والطمس والتغطية عليه، وهذا مشاهد في واقع الناس ولا سيما من يتعاطون هذه الموبقات تراهم ذهبت عقولهم وقد أنساهم الشيطان ربهم وخالقهم، وأنساهم العمل لآخرتهم، ولقد حذر الله أهل الإيمان من التشبه بهؤلاء الفسقة الفجرة وسلوك مسالكهم، فقال لهم سبحانه:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]

(1)

.

ولعل في هذا كفاية.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

النملة -مرجع سابق- (ص 38 - 39) بتصرف.

ص: 140

‌المطلب الخامس مظاهر عناية الإسلام بتربية الأبناء

لقد اعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية عظيمة وجليلة وظهرت تلك العناية واضحة جلية في الكتاب والسنة.

ومن أهم تلك المظاهر ما يبينه الباحث في هذا المبحث إجمالًا ثم يفصله شرحًا وبيانًا وذلك في ضوء أربعة مظاهر.

المظهر الأول اختيار الزوجين

المظهر الثاني: المعاشرة بالمعروف.

المظهر الثالث: التربية بالقدوة.

المظهر الرابع: التبكير في عملية التربية.

ص: 141

‌المظهر الأول: اختيار الزوجين

.

إن الأسرة هي الرابطة بين الرجل والمرأة والأولاد وهي أساس بناء المجتمع المسلم.

ولتكوين هذه الأسرة لا بد من زواج مبني على أساس متين ودعائم إيمانية صحيحة لإنشاء جيلٍ واعٍ راشدٍ مستخلف في الأرض. ويبدأ هذا الزواج باختيار الزوجة الصالحة.

والزواج آية من آيات الله تعالى: يقول الله تعالى مبينًا أن حقيقة الرجل والمرأة إنما هي من نفس واحدة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وإذا كان كلاهما من نفس واحدة فلا بد أن يبحث الرجل عمن يكمله من النساء، وكذلك المرأة تفعل حتى ترتبط بمن يكملها من الرجال، إذ لا يكتمل أيهما إلا بوجود صاحبه، وهذا الارتباط الفطري بين الرجل والمرأة هو من آيات الله في الخلق الدالة على قدرته وعظمته، فبهذا الرباط تستمر الحياة ويجد الإنسان سكينته وطمأنينته في هذه الحياة، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21].

ص: 142

المظهر الأول: أسس اختيار الزوجين:

‌أ- أسس اختيار الزوجة

.

‌أولاً: أن تكون ذات دين:

يجب أن يقوم اختيار الزوجة على أساس الدين أولًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تَرِبَت يداك»

(1)

.

ففي هذا الحديث، يبيّن صلى الله عليه وسلم الخصال الرئيسة التي يقصدها عموم الناس في النكاح مع التأكيد على ضرورة اعتبار عنصر الدين في اختيار الزوجة، حيث يغفل عنه الناس عادة لانشغال النفس بمراعاة الدواعي الأخرى، فمن كان عنده نزعة لحب المال كانت نظرته مادية، فيبحث عن ذات المال طمعًا في مالها فحسب؛ ومن كان راغبًا في الجمال فحسب، أعمته رغبته عن ذات الدين، ومن كان ممن يبحث عن الحسب فحسب؛ وقلد الجهال الذين يقسمون المجتمع إلى طبقات ويبحثون عن الحسب والنسب ولا يولون جانب الدين أي عناية واهتمامٍ؛ بحث عن ذات حسب ونسب ولم يلتفت إلى ذات الدين، يقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].

ويقول صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة»

(2)

.

قال الله تعالى في وصف المرأة الصالحة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ

(1)

البخاري (4802)، ومسلم (1466).

(2)

مسلم (1467).

ص: 143

لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]، ففي الآية إشارة إلى عنصر الصلاح عند المرأة وما يؤديه ذلك من محافظتها على حق زوجها وماله وعرضه الذي هو عرضها.

ومن أسباب استقامة الفتاة وتدينها: استقامة أهلِها، فإذا كانت من بيئة طيبة كريمة وأسرة صالحة معروفة بالتدين والاستقامة والصلاح والبعد عن الانحراف، فغالبًا ما تكون الفتاة صالحة كذلك؛ لأن الأصل يتفرع عنه الفرع، وبما أنها ترعرعت ونشأت في كنف ورعاية أسرة صالحة كريمة تعظم الله وتعظم شرعه ودينه، فهي فرع منها والفرع يحن إلى الأصل دومًا.

قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، فالناس معادن كمعادن الذهب والفضة، يقول صلى الله عليه وسلم:«خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»

(1)

.

وإن كانت الأسرة غير صالحة نبتت الفتاة منبت سوء غالبًا والعياذ بالله.

فالمال والجمال والحسب خصال يرغب فيها الكثير من الناس، إلا أنه لا يصلح أن تكون هذه الخصال هي الأساس لهذه العلاقة المتينة فحسب؛ إذ لا بد من شيء أقوى من شهوة حب المال والجمال والحسب، يقودها ويوجهها ويهيمن عليها، ألا وهو (الدين)، وإلا انهارت هذه الصلة وأصبحت تلك الخصال بلا دين وبالًا ونكدًا وغمًّا وهمًّا على أربابها.

أما المال:

فامرأة ذات مال وبلا دين، قد يطغيها مالها ويحملها على التعالي على زوجها وأهله فتنغص حياته وتهدم كيانه، وإذا تزوجها لمالها فحسب قد يورثه الله

(1)

مسلم (2638).

ص: 144

فقرها، فالمال عرض متداول بين الناس لا يدوم لأحد ولو دام لغيرنا ما وصل إلينا.

وأما الجمال:

إذا تعارض الجمال بأن كانت المرأة ذات جمال ولكن ليست ذات خلق ودين فلا اعتداد بهذا الجمال لأن المرأة إذا كانت ذات جمال لا يصحبه خلق ودين، فإنها تغدو امرأة مغرورة قد يحملها جمال لا يوجهه دين على الغرور والطغيان والتردي.

وأما الحسب:

فذات الجاه والحسب من غير دينٍ؛ امرأة قد يحملها حسبها على ازدراء زوجها واحتقاره فيتهدم بنيان الأسرة المرصوص.

وأما الدين:

أما ذات الدين فقد هذبها دينها، وإن كان معها شيء من تلك الخصال فهي تعلم أن المتفضل عليها بتلك الخصال هو ربها وخالقها، فيحملها دينها على الحمد والشكر، لا على التعالي والتمرد والغرور.

فالدين قاعدة متينة وأساس راسخ يُبْنَى عليه غيرُه، لا تنازل عنه في اختيار الزوجة الصالحة، فالمال والجمال والحسب خصال تحمد إن كانت تحت مظلة الدين، يهذبها ويوجهها ويكون هو الحاكم والمهيمن عليها.

‌ثانيًا: تفضيل الزوجة الودود:

فأساس السعادة في الأسرة هي: المرأة؛ حيث أنها تجعل من بيتها جنة على الأرض، وذلك إذا كانت متصفة بالود والوفاء والحنان والرحمة والتحبب إلى

ص: 145

زوجها، أما إذا اتصفت بالمزاج النكد والنفسية المعقدة المتعكرة المتبرمة من أدنى شيء، والوجه العبوس الذي لا يعرف التبسم، والشخصية المنطوية التي لا تألف ولا تؤلف، فإن ذلك كله من شأنه أن تعيش الأسرة في حياة ملؤها الهم والغم والنكد والشحناء والبغضاء؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم لجابر

(1)

رضي الله عنه: «هلَّا جارية؛ تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك»

(2)

، فجعل الملاعبة والمضاحكة بين الزوجين جميعًا.

وقد جعل صلى الله عليه وسلم جزاء المرأة الودود: الجنة، حيث قال صلى الله عليه وسلم:« .. ونساؤكم من أهل الجنة: الودود .. الولود» «الودود» أي: المتحببة إلى زوجها. «الولود» أي: كثيرة الولادة

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من السعادة و ثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة تراها فتعجبك .. و من الشقاء: المرأة تراها فتسوؤُك .. »

(4)

.

(1)

هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، صحابي جليل من الأنصار، يكنى أبا عبد اللهِ، وقيل: أَبُو عبد الرحمن، والأول أصح، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صبي، وقد كان أصغر من شهد العقبة الثانية، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، وكان من المكثرين في الحديث، وقد روى علمًا كثيرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مفتي المدينة في زمانه، توفي في سنة (78 هـ) وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان قد ذهب بصره، وصلى عليه أبان بن عثمان وهو والي المدينة يومئذ، وهو آخر من مات بالمدينة ممن شهد العقبة.

وللاستزادة، ينظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة، وسير أعلام النبلاء، والموسوعة الحرة.

(2)

البخاري (5052)، ومسلم (715).

(3)

سلسة الأحاديث الصحيحة (287).

(4)

حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3056).

ص: 146

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئِلَ رسولُ صلى الله عليه وسلم أي النساء خير؟ قال: «التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره»

(1)

.

وفي رواية أخرى: عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك»

(2)

، والإعجاب والسرور في تلك الأحاديث يشمل كل ما يسر النفس المؤمنة من الأخلاق الحسنة الكريمة والطباعة الطيبة السليمة.

‌ثالثًا: تفضيل الزوجة الولود:

عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأةً ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال:«لا» ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:«تزوجوا الودود الولود فإِنِّي مكاثرٌ بكم الأمم»

(3)

.

ومعنى «الولود» : كثيرة الولادة، ويعرف ذلك: بسلامة بدنها وبالنظر إلى نسل أمها وأخواتها وخالاتها وقريباتها

وفي ذلك تكثير لسواد الأمة المسلمة، وسبب في عزتها ومضاعفة قوتها ومنعتها. وليس كما يتصور بعض الجهلة أن كثرة الأمة سبب لفقرها وجوعها ونقص وضعف وقلة مواردها، ومؤدٍ إلى ما يسمونه بـ «التفجير السكاني»! والله سبحانه يقول:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، ويقول سبحانه:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22].

(1)

رواه النسائي (3231) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3298)، وهو في سلسة الأحاديث الصحيحة (1838).

(2)

صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3299).

(3)

أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم، قال عنه الألباني في صحيح سنن أبي داود: حسن صحيح (2050).

ص: 147

‌رابعًا: تقديم ذوات الأبكار:

ويقدم اختيار البكر على الثيب؛ استجابة لتوجيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أولًا، ولما لها من خصال ليست للثيب ثانيًا، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأرضى باليسير»

(1)

.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتزوجت؟» قلت: نعم، قال:«بكرًا أم ثيبًا؟» فقلت: ثيبًا، قال:«أفلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟»

(2)

.

‌ب-أسس اختيار الزوج:

‌الخلق والدين أولًا:

وإذا كان اختيار الزوجة الصالحة من أهم عناصر بناء الأسرة المسلمة، فإن اختيار الرجل الصالح أكثر أهمية؛ لما يترتب على سوء اختيار الرجل من معاناةٍ للمرأة الضعيفة وهضمٍ لحقوقها، وضياعٍ للأولاد الذين يصبغون بصبغة آبائهم غالبًا، ويفهم هذا من قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221]، ففي هذه الآية الكريمة بيانُ أن التفاضل يكون في الإسلام أولًا، وفي الآية التالية في سورة الحجرات بيانُ أنّ التفاضل بين المسلمين يكون بالقرب من الله والتقوى، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه (1861)، وحسنه الألباني في الصحيحة (623).

(2)

رواه البخاري (5052)، ومسلم (715).

ص: 148

وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم المرأة المسلمة ووليها إذا خطبها الرجل الصالح أن يزوجوه، استجابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض»

(1)

، وإنَّ رفض الرجل مع كونه صالحًا يدلُّ على تغير الموازين والقيم التي أراد الإسلام إرساءها في المجتمع المسلم، وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» . إن صلاح الرجل هو سياج للمرأة في كل حالها، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها، وهو في كلا الحالتين لا تجنح نفسه إلى حرام فيبقيها كالمعلقة، استجابة لقوله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].

(1)

الألباني، في كل من: صحيح الجامع (270) حسن، صحيح ابن ماجه (1614) حسن، السلسلة الصحيحة (1022)، حسن لغيره (6242).

ص: 149

‌المظهر الثاني

المعاشرة بالمعروف

بيان معناها ومدلولاتها:

قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

إن الأسرة المسلمة تتكون أصولها من الأبوين المسلمين الصالحين ثم تأتي الذرية الصالحة لتصبح نواة لمجتمع مسلم، وهذا لا يتم إلا إذا تحققت المعاشرة بالمعروف بين الزوجين؛ وذلك بأن يؤدي كل واحد منهما واجبه تجاه صاحبه.

فللزوج على زوجته طاعته بالمعروف وتمكينه مما أباح الله له من الاستمتاع والقرار في البيت وعدم الخروج منه إلا بإذنه، والقيام على شؤون بيتها وتربية أبنائها، ولها عليها من الحقوق مثل الذي له عليه، إلا ما خصَّ الله به الأزواج دون الزوجات.

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، فلها على زوجها السكنى والنفقة والكسوة بالمعروف، ولها عليه معاشرتها بالمعروف، ويشمل ذلك البيتوتة عندها وإعفافها وتوجيهها لكل خير وإعانتها عليه.

ص: 150

هذا الإجمال وسيأتي التفصيل بإذن الله تعالى.

{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

فالمعاشرة بالمعروف قاعدة قرآنية محكمة جاءت ضمن سياق توجيه رباني عظيم، يقول الله تعالى فيه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19].

ومما يعين على فهم هذه القاعدة، أن نُذَكِّرَ بسبب نزول هذه الآية الكريمة، فقد روى البخاري في «صحيحه» ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاؤوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك

(1)

. إن من تأمل وتدبر دلالات هذه القاعدة العظيمة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] أدرك أن الله تعالى ردّ أمر المعاشرة إلى العرف، لم يحدده بشيء معين؛ لاختلاف الأعراف والعادات بين البلدان كما هو معروف وظاهر، ولاختلاف مكانة الأزواج من الناحية المالية والاجتماعية، إلى غير ذلك من صور التفاوت التي هي من سنن الله في خلقه، ولعظيم موقع هذه المعاني التي دلت عليها هذه القاعدة القرآنية:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. أكّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحقوق في أعظم مجمع عرفته الدنيا في ذلك الوقت. حين خطب الناس في يوم عرفة في حجة الوداع، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:

(1)

البخاري (4303).

ص: 151

«فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه؛ فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»

(1)

.

والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًّا، والمقصود التنبيه على عظيم موقع هذه القاعدة الشرعية، والتي يتألم المؤمن من كثرة ما يرى من هتك لحرمتها، وعدم مراعاة لحدودها! فترى بعض الرجال لا يحسن إلا حفظ وترديد الآيات والحقوق التي تخصه، ولا يتحدث عن النصوص التي تؤكد حقوق زوجته، فـ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} [المطففين: 1]

(2)

.

ومن هنا يتأكد: وجوب بيان حقي الزوجين أحدهما على الآخر، وذلك إعذارًا إلى الله في وجوب البيان من جهة، ومن جهة أخرى ليصبح كل من الزوجين على بينة من أمره.

‌حقوق الزوجين وواجباتهما:

‌أولًا: حقوق الزوج على زوجته:

وحقوق الزوج على زوجته من أَجَلِّ الحقوق وأعظمها؛ بل إن حقه عليها أعظم من حقها عليه، لذا فبه نبدأ.

يقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].

(1)

رواه مسلم (1218).

(2)

قواعد قرآنية، القاعدة (32)، المقبل -عمر بن عبد الله، الطبعة: الثانية، صدر عن مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية بالتعاون مع دار الحضارة للطباعة والنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية -الرياض- ط (1432 هـ) بتصرف.

ص: 152

ومن أخص تلك الحقوق:

‌أولاً - وجوب الطاعة:

لأن الله جعل الرجال قوَّامين على النساء، وقيامهم على شؤونهن ورعايتهن يكون بالتعليم والتوجيه للخير والإعانة عليه، كما يقوم الوالي على رعيته، وبما خص الله به الرجل من خصائص عقلية وبدنية، وبما أوجب عليه لها من النفقات، قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] قال ابن كثير رحمه الله: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] يعني: أمراء عليهن، أي: تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك

(1)

.

‌ثانيًا- تسليم نفسها لزوجها وتمكينه من حق الاستمتاع بها:

ويتم ذلك بمجرد العقد والدخول بها وعدم الامتناع عنه إلا لعذر شرعي، لأن امتناعها عنه دون عذر شرعي كبيرة توجب سخط الله وعقابه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح»

(2)

، والملائكة لاتلعن إلا على كبيرة.

‌ثالثًا- ألا تُدخل أحدًا بيته إلا بإذنه:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل للمرأة أن تصوم

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 492).

(2)

البخاري (3065)، ومسلم (1436).

ص: 153

وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه .. »

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه»

(2)

، وقد سبق الحديث معنا بطوله وتمامه.

‌رابعًا- عدم الخروج من بيتها إلا بإذنه:

من حق الزوج على زوجته ألا تخرج من بيتها إلا بإذنه؛ لأنه سيدها ووليها وقيمها.

‌خامسًا- تعليمها أمر دينها، وتأديبها إذا دعت الحاجة:

من واجبات الزوج تجاه زوجته المحافظ على أمر دينها، ويعلمها ما جهلت من شرع ربها سواء بنفسه إذا كان ذا علم، أو ييسر لها سبل التعلم، وبهذا تستطيع أن تعبد الله على بصيرة، كما أن تعليمها هو أساس تعليم أفراد الأسرة، لأنها إذا تعلمت، علمت أبناءها بالقول والقدوة الحسنة، وبذلك يقي الزوج أهله شقاء الدنيا والآخرة.

يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].

فليس من الأمانة تجاهل الدين والحلال والحرام، فإن في ذلك شقاء الدارين.

وكذلك يجب عليه تأديبها بالمعروف، إذا تعالت وتمردت عليه؛ لأن الله تعالى أمر بتأديب النساء وذلك عند النشوز والعصيان والتمرد وعدم الطاعة.

(1)

البخاري (4899)، ومسلم (1026).

(2)

مسلم (1218).

ص: 154

قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34].

وإنما يكون التأديب بالتدرج بالوعظ، وتكراره بالأسلوب الحسن والكلمة الطيبة أولًا، فإن لم يُجْدِ معها، فبالهجر في الفراش ثانيًا، فإن لم يؤثر، فالضرب تأديبًا -لا تشفيًا- ثالثًا، مع مراعاة الضوابط الشرعية، بأن لا يكون الضرب وقت الغضب الشديد، وأن يكون مقصده منه تأديبها وردعها وزجرها وأطرها على الحق أطرًا، وألا يكون ضربًا شديدًا مبرحًا بأن يكسر عظمًا، أو أن يترك أثرًا، وأن يتجنب الوجه والرأس والحواس، وألا يلجأ إليه إلا بعد بذل كل سبيل مشروع في إصلاحها وردها إلى رشدها، فإن لم تستجب فقد أعذر إلى الله، ويستخدم التأديب بالضرب في أضيق الحدود مع ضوابطه الشرعية كما أسلفنا.

‌سادسًا- خدمة زوجها بالمعروف:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وتجب خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة»

(1)

.

‌سابعًا- معاشرتها لزوجها بالمعروف:

تحقيقًا لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

- قال القرطبي: «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أي: لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن. وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل

(1)

الفتاوى الكبرى (4/ 561).

ص: 155

فيكم، والمعنى متقارب والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية»

(1)

.

‌والبشرى للزوجة الصالحة:

فإن على الزوجة أن تتقي الله عز وجل في زوجها، وأن تقوم بحقوقه قدر الطاقة، وأن لا يحملها تقصير زوجها في حقها على مقابلة ذلك بالتقصير في حقه، وعليها أن تصبر وتحتسب، فالأجر عند الله عظيم فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفظتْ فَرجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيْلَ لَهَا: ادخُلِي منْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ»

(2)

.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أَلَا أُخبِرُكُم بِرِجَالِكُم فِي الجَنَّةِ؟» قُلنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال: «النَّبِيُّ فِي الجَنَّةِ، وَالصِّدِّيقُ فِي الجَنَّةِ، وَالرَّجُلُ يَزُورُ أَخَاهُ فِي نَاحِيَةِ المِصرِ لَا يَزُورُهُ إِلاَّ لِلَّهِ فِي الجَنَّةِ، أَلَا أُخبِرُكُم بِنِسَائِكُم فِي الجَنَّةِ؟» قُلنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَدُودٌ وَلُودٌ إِذَا غَضِبَت أَو أُسِيءَ إِلَيهَا أَو غَضِبَ زَوجُهَا قَالَت: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ، لَا أَكتَحِلُ بِغُمضٍ حَتَّى تَرضَى»

(3)

.

‌ثانيًا: حقوق الزوجة على زوجها:

للزوجة على زوجها حقوق عظيمة وجليلة، منها حقوق مادية، وهي: المهر،

(1)

تفسير القرطبي (3/ 123، 124).

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 191) وقال محققو المسند: حسن لغيره، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1932).

(3)

رواه الطبراني في المعجم الأوسط (2/ 206) وقد جاء عن جماعة من الصحابة آخرين، لذلك حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3380) وفي صحيح الترغيب (1942).

ص: 156

والسكنى، والنفقة، وحقوق حسية ومعنوية، من أَجَلِّهَا: المعاشرة بالمعروف والعدل في القسم بين الزوجات وعدم الإضرار بالزوجة.

‌1 - الحقوق الماليَّة:

‌أ -الصداق:

هو المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها، وهو حق واجب للمرأة على الرجل، قال تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، أي: عطية واجبة والأمر بإيتاء المرأة صداقها، فيه إكرام لها، وبيان لمكانتها في الإسلام، وفيه إظهار لعظم شأن هذا العقد ومكانته في شريعتنا الغراء.

والمهر ليس شرطًا في عقد النكاح ولا ركنًا عند جمهور الفقهاء، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، فإذا تم العقد عليها ولم يسمِّ لها مهرًا صح العقد باتفاق الجمهور، ووجب عليه مهر مثلها، لقوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، فإباحة الطلاق قبل المسيس وقبل فرض صداق يدل على جواز عدم تسمية المهر في العقد باتفاق.

‌ب- النفقة:

وقد أجمع علماء الإسلام على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن بشرط تمكين المرأة نفسها لزوجها، فإن امتنعت منه أو نشزت لم تستحق النفقة لأن الناشز لا نفقة لها.

والحكمة في وجوب النفقة لها: أن المرأة محبوسة على الزوج بمقتضى عقد الزواج، ممنوعة من الخروج من بيت الزوجية إلا بإذن منه للاكتساب، فكان

ص: 157

عليه أن ينفق عليها، وعليه كفايتها، وكذا هي مقابل الاستمتاع وتمكينه من نفسها. وفي السُّنَّةِ: عن عائشة قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك»

(1)

.

ولقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»

(2)

، وقد سبق الحديث معنا بطوله وتمامه.

‌ج- السكنى:

وهو من حقوق الزوجة، وهو أن يهيئ لها زوجُها مسكنًا على قدر سعته وقدرته، قال الله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6].

‌2 - الحقوق الحسية والمعنوية:

‌أ-العدل بين الزوجات:

إن من حق الزوجة على زوجها العدل بالتسوية بينها وبين غيرها من زوجاته، إن كان له زوجات، في المبيت والنفقة والكسوة.

‌ب- حسن العشرة:

ويجب على الزوج معاشرة زوجته بالمعروف بأن يحسن إليها بكل وجوه الإحسان ولا يؤذيها ولا يوقع بها الضرر؛ بل يصبر عليها ويتحمل منها الأذى،

(1)

البخاري (5049)، ومسلم (1714).

(2)

مسلم (1218).

ص: 158

بل يلاطفها لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقوله سبحانه:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

- قال ابنُ كثير -رحمه الله تعالى: «{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] أي: طَيِّبُوا أقوالكم لهنَّ، وحَسِّنُوا أفعالكم وهَيْئَاتِكُم بحسب قُدرتكم، كما تحبُّ ذلك منها، فافعل أنت مثله»

(1)

.

* وفي السُّنَّة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء»

(2)

، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم»

(3)

.

ففي هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن كَمُل إيمانه هو من حَسُن خُلُقُه مع جميع الناس، ثم بيَّن أن خير الناس من كان خيرُه لزوجته خاصَّة، وذلك بأن يُعَامِلَها بالحسنى، ويصبر على أخلاقها، ويكُفَّ الأذى عنها، قال الحسنُ البصري رحمه الله:«حقيقة حُسن الخلق: بذْلُ المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه» ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيرَ الناس؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس معاشرةً لأزواجه، فإنه قد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم

(1)

تفسير ابن كثير (2/ 242).

(2)

البخاري (3153)، ومسلم (1468)، وينظر: موقع الإسلام سؤال وجواب- للشيخ محمد صالح المنجد (د-ت) بتصرف.

(3)

صحيح: أخرَجه الترمذيُّ في سننه: كتاب: الرضاع، باب حق المرأة على زوْجها، (رقم: 1162)، وقال:«حسن صحيح» ، وصحَّحه الألبانيُّ في السلسلة الصحيحة (برقم: 284).

ص: 159

لأهلي»

(1)

.

‌البشارة للزوج الصالح:

أما البشارة التي جاءت للزوج الذي يحسن صحبة زوجته، فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بكمال الإيمان الموجب لدخول الجنة، وبالأفضلية على سائر الناس.

فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرُك مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر- أو قال: غيره»

(2)

.

ومعنى «يَفْرُك» : يبغض. ومعنى ذلك أن يتغاضى عمّا لا يمس الدين أو الخلق مما لا يوافق رغبته نظير الكثير من الأخلاق المرضية فيها. إذ إنه لا تتم السعادة الزوجية إلا بأن يؤدي كل من الزوجين ما يجب عليه نحو الآخر، لكن بعض الأزواج قد يتعسف في استعماله حقه على زوجته فلا يراعي كرامتها وإنسانيتها، فضلًا عن حقها في الإسلام فتجده يهينها ويظلمها ويماطل في أداء حقوقها.

وحتى لو كره الرجل من زوجته بعض الطباع التي لا تنتقص من دينها ولا تخدش من عرضها فعليه أن يصبر عليها ويتحمّلها لما في ذلك من العواقب الحميدة.

قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا

(1)

صحيح: أخرجه الترمذيُّ في سننه: كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (رقم: 3895)، وابن حبان في صحيحه بترتيب ابن بلبان: كتاب النكاح، باب معاشرة الزَّوجين، (رقم: 4177): كلاهما من طُرق عن: محمد بن يوسف: حدَّثَنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها به، وقال الترمذي:«حسن غريب صحيح» ، وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (برقم: 285).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء (رقم: 1469).

ص: 160

كَثِيرًا (19)} [النساء: 19]، وفي المقابل فإن بعض النساء قد تترفَّع وتتعالى على زوجها وتتمنَّع من أداء حقه عليها ولا تخضع لقوامته عليها فينشأ الخلاف ويتصدع بنيان الأسرة المرصوص، وهذا خلق لا يرتضيه الإسلام ولا تتحقق معه المصالح الزوجية ولا تنشأ عنه في الغالب أسر صالحة مستقرة، فالواجب التوبة والأوبة والتزام العشرة بالمعروف بين الزوجين، حتى ينعما جميعًا بحياة هنيئة طيبة مطمئنة ترفرف فيها السعادة بجناحيها في جنبتي البيت.

يقول العلامة ابن العربي المالكي (1) رحمه الله:

(1)

«وحقيقة «عشر» في اللغة العربية الكمال والتمام، ومنه: العشيرة، فإنه بذلك كمل أمرهم، وصح استبدادهم عن غيرهم، وعشرةٌ تمام العقد في العدد، فأمر الله سبحانه الأزواج إذا عقدوا على النساء أن يكون أَدَمَةُ ما بينهم وصحبتهم على التمام والكمال، فإنه أهدأ للنفس، وأقر للعين، وأهنأ للعيش، وهذا واجب على الزوج، ومن سقوط العشرة تنشأ المخالعة، وبها يقع الشقاق، فيصير الزوج في شق، وهو سبب الخلع»

(2)

.

(1)

ابن العربي (468 - 543 هـ) هو: محمد بن عبد الله بن محمد، أبو بكر، المعروف بابن العربي. حافظ متبحر، وفقيه، من أئمة المالكية، بلغ رتبة الاجتهاد. رحل إلى الشرق، وأخذ عنه الطرطوشي وأبو حامد الغزالي، ثم عاد إلى مراكش، وأخذ عنه القاضي عياض وغيره. أكثر من التأليف. وكتبه تدل على غزارة علم وبصر بالسنة. توفي بفاس (543 هـ)، وهو غير محيي الدين بن عربي الملحد.

من تصانيفه: عارضة الأحوذي شرح الترمذي، وأحكام القرآن، والمحصول في علم الأصول، ومشكل الكتاب والسنة، وشجرة النور الزكية (ص 136)، والأعلام للزركلي (7/ 106)، والديباج (ص 281).

(2)

أحكام القرآن، لابن العربي المالكي (2/ 363) بتصرف يسير.

ص: 161

ويقول العلامة الجصاص

(1)

الحنفي: معلقًا على هذه القاعدة {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] «هو أمر للأزواج بعشرة نسائهم، ومن المعروف:

أن يوفيها حقها من المهر، والنفقة، والقَسْمِ، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراضِ عنها والميل إلى غيرها، وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب»

(2)

.

- وقال الغزالي في الإحياء: «والمعاشرة بالمعروف تكون بِحُسْن الخُلُق معها، وكف الأذى عنها؛ بل احتمال الأذى منها، والحِلْم عن طيشها وغضبها؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانتْ أزواجه تراجعْنَه الكلام؛ بل أن يَزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة، والمزاح والملاعبة، فهي التي تُطَيِّب قلوبَ النساء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهنَّ»

(3)

.

وليتدبر كلٍّ من الزوجين ما قصّه الله تعالى في سورة الطلاق من أحكام وتوجيهات عظيمة، فإن الله تعالى -لما ذكر أحكامًا متنوعة في تلك السورة-

(1)

أبو بكر الجصاص (305 - 370 هـ، 917 - 980 م): الجصاص الحنفي هو: أبو بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص، ولد في مدينة الري سنة (305 هـ)، ونشأ فيها، ثم رحل إلى بغداد سنة (325 هـ)، كان إمام الحنفية في وقته، واستقر التدريس له ببغداد، وانتهت الرحلة إليه، واشتهر بالورع والزهد، وله تصانيف كثيرة، وتوفي في السابع من ذي الحجة سنة (370 هـ).

ينظر: ترجمته في: مقدمة كتابه: أحكام القرآن (ص 4، 5)، والفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي (ص 27، 28).

(2)

أحكام القرآن، للجصاص (3/ 47).

(3)

إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي (2/ 43)

ص: 162

عقّبَ على كل حكم بذكر فوائد التقوى التي هي سبب كل خير، فقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2 - 3].

وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].

وقال تقدس اسمه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} [الطلاق: 5]؛ ولعل السر في تتابع هذه التعقيبات: أن أحوال الطلاق عقب الفراق ـ مع وجود الحمل والإرضاع أو بقاء العدة ـ قد تحمل أحد الطرفين على التقصير والبغي، ونحو ذلك من التجاوزات، فجاءت هذه التعقيبات الإلهية لتبشر المتقين، ولتحذير المجانبين للتقوى، بأن أضداد هذه الوعود الإلهية ستحصل إن أنتم فرطتم في تطبيق شرع الله، ويوضح هذا المعنى ختم السورة بهذه الآية المخوفة، قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)} [الطلاق: 8 - 10].

ولقد كان سلف هذه الأمة يفقهون حقًّا معاني هذه النصوص العظيمة، ومن ذلك هذه القاعدة القرآنية المحكمة:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، يقول: كما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» : «إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وما أحب أن أستنطف -أي:(أستوفي) - جميع حقي عليها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلِلرِّجَالِ

ص: 163

عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]»

(1)

.

وبعد فهذه هي نظرة الإسلام العميقة للعلاقة الزوجية، اختصرتها هذه القاعدة القرآنية المحكمة:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وكذلك:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] فهي علاقة قائمة على المعاشرة بالمعروف، وعلى الصبر على ما قد يبدر من الطرفين من تقصير، فإن كانت العلاقة غير قابلة للاستمرار فيأتي الأمر بالتسريح بالمعروف والإحسان ـ أيضًاـ الذي يحفظ حق الكرامة لكلا الطرفين؛ كلُّ هذا يجعل المؤمن يفخر ويحمد الله على هدايته وانتمائه لهذه الشريعة العظيمة الكاملة من كل وجه، وينظر بعين المقت لتلك الأقلام الهابطة، والدعوات السيئة التي تجرئ المرأة إذا رأت من زوجها ما تكره ـ أو توحي للرجل إذا رأى من زوجته ما يكره ـ أن ينحرف قلبه قليلًا عن مساره الشرعي

(2)

.

‌وفي نهاية هذا المبحث المهم يجدر بيان أهم آثار المعاشرة بين الزوجين على الأبناء:

- إن الانسجام والتآلف والتطاوع والتلاحم بين الأبوين له أثار عظيمة بعد مشيئة الله لدوام العشرة بينهما وحسن رعايتهما لأولادهما، ومن ثَمَّ تربية الأبناء

(1)

مصنف ابن أبي شيبة (10/ 210) رقم (19608).

(2)

وللاستزادة ينظر: القواعد القرآنية لعمر المقبل، فقد أفدت منه في هذه القاعدة بتصرف - القاعدة (32).

المقبل: عمر بن عبد الله، الطبعة: الثانية، صدر عن مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية بالتعاون مع دار الحضارة للطباعة والنشر والتوزيع: المملكة العربية السعودية - الرياض- ط (1432 هـ).

ص: 164

تربية سوية، وأن الخلاف بينهما، يمزّق كيان الأسرة ويشتتها، كما أنه إذا ظهر الخلاف أمام الأولاد فإنه يدفعهم إلى التمرد والعصيان وعدم القناعة بتوجيهات الوالدين، وأن عدم المعاشرة بين الزوجين بالمعروف قد يصيب الأولاد ببعض العقد والأزمات النفسية، ولذلك جعل الشرع الهجر لتأديب الزوجة في المضجع فقط، حتى لا يطلع عليه الأبناء، فقال عز وجل:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]، فسبحانه من مشرع حكيم عليم.

وفي «السنن» و «المسند» عن معاوية بن حيدة القشيري

(1)

أنه قال: يا رسول الله، ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال:«أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت»

(2)

.

وختامًا:

فإذا تحققت المعاشرة بالمعروف بين الزوجين أضحت الأسرة بيئة خصبة

(1)

معاوية بن حيدة بن معاوية بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري، جد بهز بن حكيم.

قال البغوي: نزل البصرة. وقال ابن الكلبي: أخبرني أبي أنه أدرك بخراسان ومات بها. وقال ابن سعد: له وفادة وصحبة. وقال البخاري: سمع النبي صلى الله عليه وسلم.

الإصابة في معرفة الصحابة (3/ 102)، والاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 444)، وأسد الغابة (3/ 26).

(2)

صححه الألباني في كل من: صحيح الترغيب والترهيب (1929)، وغاية المرام (244)، وصحيح أبي داوود (2142)، وآداب الزفاف (208).

ص: 165

وأرضًا طيبًة مؤهلة لتربية جيل صالح مؤهل للاستخلاف في الأرض، وإذا نشأ الأبناء في مثل هذه البيئة الطيبة وتفتحت أعينهم على أبوين كريمين متحابين متآلفين متفاهمين متعاونين على البرّ والتقوى، وفي أسرة يسود فيها الحب والود والعطف والحنان، والرحمة، ورأى الأبناء بأم أعينهم السعادة ترفرف بجناحيها في هذا البيت، وأحسوا بالسكينة تتنزل بين جنبتي البيت، ترعرعوا وتربوا تربية سوية ونشأوا نشأة صالحة وتأثروا نفسيًّا ووجدانيًّا بهذه البيئة الطيبة الصالحة وبهذا المحضن التربوي الآمن، وخرجوا للمجتمع متكاملي الأخلاق حسني الطباع وقد تهيأوا لأن يكونوا عبادًا صالحين مهيئين للإصلاح وللقيادة والريادة.

اللهم كما هديتنا لهذه الشريعة الغراء دون أن نسألك فارزقنا العمل بها، والثبات عليها حتى نلقاك ونحن نسألك، والحمد لله رب العالمين.

ص: 166

‌المظهر الثالث

التربية بالقدوة

‌مفهوم القدوة في اللغة والاصطلاح:

مفهوم القدوة لغة: القدوة: هي الأسوة، وتأتي في اللغة بالكسر والضم ويراد بها الاقتداء بالغير ومتابعته والتأسي به

(1)

.

(1)

التوفيق على مهمات التعريف، تأليف زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ) - تحقيق محمد رضوان الداية -ط 1 - دار المفكر المعاصر بيروت- دار الفكر دمشق- (1410 هـ-1 - 577) باب القاف- فصل الدال-مادة: القدوة.

ص: 167

- قال ابن منظور: «يقال: قدوة وقدوة لما يقتدى به، والقدوة الأسوة»

(1)

.

- وقال الجوهري: «القدوة: الأسوة يقال: فلان قدوة يقتدى به، وقد تضم فيقال: قدوة وقدوة»

(2)

.

‌مفهوم القدوة في الاصطلاح:

- قال المناويّ: «القدوة: هي الاقتداء بالغير ومتابعته والتّأسّي به»

(3)

.

والقدوة إن كانت حسنة كان الاقتداء حسنًا، وإن كانت فاسدة كان الاقتداء فاسدًا.

‌إذًا فالقدوة على ضربين: حسنة، وسيئة:

‌أولاً القدوة الحسنة:

والقدوة الحسنة هي المثال العملي للأخلاق والفضائل المثلى، وهذا المثال العملي قد يكون مثالًا حيًّا مشاهدًا ملموسًا يعيش بين الخلق فيُتأسى به، وقد يكون مثالًا ماثلًا في النفس البشرية، بسيرته الحميدة وأفعاله السديدة وما أشيع ونقل عنه من محامد وشيم كريمة وسيرة حسنة وصفات صالحة وأخلاق فاضلة، وما نقل عنه من الأنباء والأقوال والأعمال المرضية.

‌ثانيًا القدوة السيئة:

والقدوة السّيّئة هي: الاقتداء بأهل الباطل ومتابعتهم والتّأسّي بهم في فعل السّيّئات وترك الحسنات

(4)

.

قال تعالى عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23].

الحاجة إلى القدوة الحسنة في التربية:

أولًا- القدوة الحسنة تشجع على بلوغ الفضائل وتجعل ذلك ممكنًا، فهي تعتبر من أكثر أساليب التربية تأثيرًا في سلوك ونفوس الناشئة، فهي المثال الحي للسلوك التربوي السَّويّ، وهي تولد في نفوس الناشئة القناعة بأن ما يتصف به القدوة من أخلاق وشيم حسنة وصفات طيبة كريمة، أمر ليس بمعجز؛ بل هو

(1)

ابن منطور -لسان العرب- مصدر سابق (15 - 171) - باب فصل القاف-مادة: (قدا).

(2)

الجوهري: الصحاح - مصدر سابق (6/ 2459) -باب الباء فصل القاف- مادة: (قدا).

(3)

ينظر: التوقيف، للمناوي (269).

(4)

ينظر: شجرة المعارف والأحوال، للعز بن عبد السلام (ص 344).

ص: 168

أمر واقع ماثل أمام أعينهم، يمكنهم التأسي به ومحاكاته.

- قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «إذا وقع القول بيانًا فالفعل شاهد له ومصدق، وبيانه وتفصيله أن العالم إذا أخبر عن إيجاب عبادة من العبادات أو لزوم فعل من الأفعال ثم فعله هو لم يخل به في مقتضى ما قاله فيه، عند ذلك يقوى اعتقاد إيجابه وينتهض العمل به عند كل من سمعه وأخبر عنه ورآه يفعله»

(1)

.

ثانيًا- مهما وضع القائمون على مناهج التربية من برامج ومناهج تربوية متكاملة، محكمة، ومهما وضعوا من أسس تربوية مؤصلة لتربية الناشئة، ومهما يكن من ذلك كله، فإنه لا يغني أبدًا عن وجود أخلاق عملية وصفات حية تتمثل في (القدوة) ليغرس في نفوس الناشئة بصفاته وأخلاقه العملية-وبفعله قبل قوله -كل ما يرمون إليه من مبادئ ومفاهيم وأهداف تربوية سامية.

‌ثالثًا- القدوة الحسنة تثير في نفوس العقلاء والنبلاء الاستحسان والتقدير والإجلال

. ومن هنا تحرك في نفوسهم محاولة التقليد،، والبشر قد فُطِرُوا على افتقاد القدوة الحسنة لتكون لهم مشعل هداية، ومثالًا حيًّا يهديهم سبيل الرشاد، لذا كان من حكمته جل في علاه إرسال الرسل ليكون واسطة بين الخالق والمخلوق في إبلاغ الحق للخلق، بلسان المقال بالبلاغ، وبلسان الحال بالاقتداء والتأسي بهم.

قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 43 - 44].

(1)

الموافقات (317) للإمام الشاطبي- بتصرف.

ص: 169

‌رابعًا: إن مستوى الإدراك والاستيعاب يتفاوت بين الناس

، ولكن أمام رؤية العين المجردة المثال العملي الحي وهو (القدوة) يتساوى فيه كل البشر، لذا كانت الحاجة ضرورية وملحة لوجود القدوة الحسنة لتستوعب عموم طبقات البشر، فَيُوَلِّد لديهم الحوافز القوية والفعالة لأن يتمثلوا أخلاقه وأفعاله.

قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

- قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله; ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين; ولهذا قال تعالى للذين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]» .

ففي هذا الآية إرشاد عظيم من الله تبارك وتعالى لعموم المؤمنين أن يتخذوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة لهم، يقتدون به، في أعماله، وأقواله، وأخلاقه، وكلِّ أمره فهو خير أسوة وقدوة يقتدي بها.

يقول ابن حزم

(1)

:

(1)

أبو محمد علي بن حزم الأندلسي (30 رمضان 384 هـ/ 7 نوفمبر 994 م) قرطبة - (28 شعبان 456 هـ/ 15 اغسطس 1064 م) هو: الإمامُ الأوحدُ، البحرُ، ذو الفنون = = والمعارف، الفقيهُ الحافظُ، المتكلِّمُ الأديبُ، الوزيرُ الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيف؛ أبو محمَّدٍ عليُّ بنُ أحمدَ بنِ سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد، الفارسيُّ الأصل، ثمَّ الأندلسيُّ القرطبيُّ اليزيديُّ؛ مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي رضي الله عنه المعروف بيزيد الخير، نائب أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه على دمشقَ. فكان جده يزيد؛ مولىً للأمير يزيد أخي معاوية، وكان جدُّه خلف بن معدان هو أول من دخل الأندلس في صحابة ملك الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالدَّاخل، وفاته: قال صاعد: ونقلتُ من خطِّ ابنه أبي رافعٍ؛ أنَّ أباه توفي ـ رحمه الله ـ عَشية يوم الأحد، لليلتين بقيتا من شعبان، سنة ستٍّ وخمسين وأربع مئة. فكان عُمُره إحدى وسبعين سنةً وأشهرًا، رحمه الله تعالى. زيادة من: «تذكرة الحفَّاظ).

وللاستزادة ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 184 - 212): (99)، وتاريخ الإسلام، (الطبقة: 46/ الترجمة: 168)؛ كلاهما للإمام شمس الدين الذَّهبيِّ (748 هـ)، وسياق الكلام فيها له رحمه الله مِنَ: السِّيَر، غير أنِّي عمدت إلى النص؛ فاختصرته، وهذَّبته، ورتبته.

عقيدة ابن حزم ومنهجه:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَإِنْ كَانَ «أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ» فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ أَقْوَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ مَنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ قَدْ خَالَطَ مِنْ أَقْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مَا صَرَفَهُ عَنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعَانِي مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَوَافَقَ هَؤُلَاءِ فِي اللَّفْظِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْمَعْنَى. وَبِمِثْلِ هَذَا صَارَ يَذُمُّهُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِاتِّبَاعِهِ لِظَاهِرٍ لَا بَاطِنَ لَهُ. كَمَا نَفَى الْمَعَانِيَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَكَمَا نَفَى خَرْقَ الْعَادَاتِ وَنَحْوَهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ. مَضْمُومًا إلَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي الْأَكَابِرِ وَالْإِسْرَافِ فِي نَفْيِ الْمَعَانِي، وَدَعْوَى مُتَابَعَةِ الظَّوَاهِرِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْعُلُومِ الْوَاسِعَةِ الْكَثِيرَةِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُكَابِرٌ وَيُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْ كَثْرَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَقْوَالِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْوَالِ، وَالتَّعْظِيمِ لِدَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَلِجَانِبِ الرِّسَالَةِ: مَا لَا يَجْتَمِعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَدِيثٌ، يَكُونُ جَانِبُهُ فِيهَا ظَاهِرَ التَّرْجِيحِ. وَلَهُ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ = =وَالضَّعِيفِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ مَا لَا يَكَادُ يَقَعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ» انتهى.

مجموع الفتاوى (4/ 19 - 20).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضًا: «وكذلك أبو محمد بن حزم مع معرفته بالحديث وانتصاره لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم، مع أنه لا يثبت علمًا هو صفة ويزعم أن أسماء الله كالعليم والقدير ونحوهما لا تدل على العلم والقدرة، وينتسب إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة، ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث، ويذم الأشعري وأصحابه ذمًّا عظيمًا، ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات، ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك» انتهى.

درء تعارض العقل والنقل (3/ 24).

وقال شيخ الإسلام أيضًا: «وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني، وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالاشتراك اللفظي، وأصل غلط هؤلاء شيئان: إما نفي الصفات والغلو في نفي التشبيه، وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج، فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفي الصفات، قالوا: إذا قلنا: عليم يدل على علم، وقدير يدل على قدرة؛ لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات. وهذا مأخذ ابن حزم؛ فإنه من نفاة الصفات مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد، ودعواه أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وغيره، وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه، ولم يتفق له من يبين له خطأهم، وَنَقَل المنطق بالإسناد عن متَّى الترجمان» انتهى.

منهاج السنة النبوية (2/ 353).

وقال ابن كثير رحمه الله: «كان كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه، فأورثه ذلك حقدًا في قلوب أهل زمانه، وما زالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده، حتى كانت وفاته في قرية له في شعبان من هذه السنة، وقد جاوز السبعين، والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريًّا حائرًا في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره، وهذا= =الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ كبيرًا في نظره وتصرفه، وكان مع هذا من أشد الناس تأويلًا في باب الأصول، وآيات الصفات وأحاديث الصفات؛ لأنه كان أولًا قد تضلع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، ذكره ابن ما كولا وابن خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات» انتهى.

البداية والنهاية (12/ 113). وينظر: طبقات علماء الحديث. لابن عبد الهادي (3/ 349).

وقال أعضاء اللجنة الدائمة: «من العلماء المبرزين في الأصول، والفروع، وفي علم الكتاب والسنة، إلا أنه خالف جمهور أهل العلم في مسائل كثيرة أخطأ فيها الصواب؛ لجموده على الظاهر، وعدم قوله بالقياس الجلي المستوفي للشروط المعتبرة، وخطؤه في العقيدة بتأويل نصوص الأسماء والصفات أشد وأعظم» انتهى.

فتاوى اللجنة الدائمة (12/ 223).

ص: 170

«فمن أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيرته ما أمكنه»

(1)

.

والله سبحانه يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم ومعه أمته إلى الاقتداء بالمرسلين الذين اختارهم لنبوته ورسالته وأنزل عليهم كلامه؛ فقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 89 - 90].

- يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: «يقول تعالى ذكره: (أولئك) هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحق،

(1)

ابن حزم، الأخلاق والسير (ص 24).

ص: 173

وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما نهى فيه من نهيه، فوفقهم جل ثناؤه لذلك {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم اقتده يا محمد، أي: فاعمل وخذ به واسلكه فإنه عمل لله فيه رضًا ومنهاج من سلكه اهتدى»

(1)

.

- يقول ابن سعدي رحمه الله: «أيها الرسول، اتبع ملة هؤلاء الأنبياء الأخيار، وقد امتثل فاهتدى بهدي الرسل من قبله وجمع كل كمال فيهم فاجتمعت لديه فضائل وخصائص فاق بها جميع العالمين»

(2)

.

ولقد اقتدى صلى الله عليه وسلم بالقرآن فكان خلقه القرآن، كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد صحبة طويلة لمّا سُئِلَت عن خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم قالت:«كان خُلُقُهُ القُرآنَ»

(3)

.

واقتدى الصحابة رضي الله عنهم برسولهم صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته، وحلمه، وتواضعه، وزهده، وجوده، وكرمه، ورحمته، وشجاعته، وقوته، وحسن سياسته، وتدبيره، وثباته على المبدأ، والتابعون اقتدوا وتأسوا بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه للتابعين:«اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كُفِيتُمْ»

(4)

.

(1)

الطبري: محمد بن جرير: جامع البيان في تفسير القرآن. دار الهجرة، ط 1، الجزء:(ص 391).

(2)

تفسير السعدي (2/ 49).

(3)

الألباني في كل من: صحيح الجامع (4811) صحيح، وصحيح الأدب المفرد (234)، صحيح لغيره.

(4)

الاعتصام للشاطبي (1/ 79).

ص: 174

ولئن انتقل الرسول صلوات الله عليه إلى الرفيق الأعلى، فإنَّ سيرته التي تحتوي على جزئيات سلوكه ماثلة لنا، وفيما بلغنا من تراجم أصحابه رضوان الله عليهم ما يكفي لتجسيد القدوة الحسنة للمجتمع المسلم.

ثم إنَّ كلَّ عصر من العصور من بعدهم لا يخلو من وجود طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تصلح لأن تكون قدوة حسنة، قَلَّت هذه الطائفة، أو كَثُرت

فعن الْمُغِيرَةِ بن شعبة رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»

(1)

.

وقد قيل قديمًا: «لا يخلو زمان ليس فيه قائم لله بحجة» .

وفي محض وصف عباد الرحمن، يقول الحق جل في علاه:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان].

يقول ابن سعدي رحمه الله: «أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم، يقتدى بأفعالهم، ويطمأن لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم، فيهدون ويهتدون؛ ولهذا لما كانت هِممهم ومطالبهم عالية، كان الجزاء من جنس العمل»

(2)

.

‌أهم سمات ومقومات المربي القدوة:

إن المربي القدوة يجب أن يتحلى بأَجَلِّ الصفات وأعظمها قدرًا عند الله،

(1)

البخاري (3640)، ومسلم (1921).

(2)

السعدي: عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ط 1 (1420)، (ص 688 - 689).

ص: 175

حتى يصبح أهلًا لهذه المكانة السامية، وليصبح محل تأثير أبلغ في نفوس المتأسين والمقتدين به وينال الرفعة والمكانة العالية.

ومن أهم تلك الصفات ما يلي:

‌أولاً- الصلاح والتقوى:

- تعريف التقوى: قال الحافظ ابن رجب الحنبلي

(1)

رحمه الله: «أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه»

(2)

.

قال ابن القيم رحمه الله في التقوى: «حقيقتها العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر الله به إيمانًا بالآمر وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالناهي وخوفًا من وعيده»

(3)

.

والتقوى من أَجَلِّ وأعظم الصفات التي أمر الله تعالى بها أهل الإيمان على أن يتحلوا ويتصفوا بها، لما لها من عظيم الأثر في تطهير قلوبهم واستقامة نفوسهم

(1)

ابن رجب (736 - 895 هـ) هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، أبو الفرج، زين الدين، وجمال الدين أيضًا، ولد ببغداد، وتوفي بدمشق من علماء الحنابلة؛ كان محدثًا حافظًا فقيهًا أصوليًّا ومؤرخًا، أتقن فن الحديث وصار أعرف أهل عصره بالعلل، وتتبع الطرق، تخرج به غالب أصحابه الحنابلة. من تصانيفه: تقرير القواعد وتحرير الفوائد. المشهور بقواعد ابن رجب في الفقه، وجامع العلوم والحكم. وهو شرح الأربعين النووية، وشرح سنن الترمذي، ومعه شرح العلل آخر أبوابه، وذيل طبقات الحنابلة.

الدرر الكامنة (2/ 221)، وشذرات الذهب (3/ 339)، ومعجم المؤلفين (5/ 118).

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 158).

(3)

زاد المهاجر (1/ 10).

ص: 176

وصلاح أحوالهم، وهي من أهم وأسمى وأعظم وأَجَلِّ مقاصد الشريعة الإسلامية، وعليها يدور مدار جميع التكاليف الشرعية في دين رب البرية.

والتقوى رتبة من مراتب الإيمان العالية والغالية، ولأهلها عند الله درجة رفيعة ومكانة سامية، لا ينالها المؤمن إلا بالصبر والمصابرة ومجاهدة النفس على طاعة الله ومراقبته وخشيته، وأطرها على لزوم الأمر واجتناب النهي والتقرب إلى الله بما يحب ويرضى من جميع أنواع العبادات الظاهرة والباطنة.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71].

- قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه وأن يقولوا (قَوْلًا سَدِيدًا). أي: مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71] وذلك أنه يجار من نار الجحيم ويصير إلى النعيم المقيم»

(1)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

وبَيَّنَ ربنا تبارك وتعالى أن خير الزاد الذي ينفع العبد في الآخرة هو التقوى

(1)

تفسير ابن كثير (جـ 3)(ص 629).

ص: 177

فقال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197].

والتقوى في القرآن الكريم هي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، قال -جل وعلا-:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

- قال الإمام الطبري رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} ، يقول:«ولقد أمرنا أهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل «وإياكم» ، يقول: وأمرناكم وقلنا لكم ولهم: «اتقوا الله» ، يقول: احذروا الله أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه»

(1)

.

وبَيَّنَ ربنا تبارك وتعالى أن خير الزاد الذي ينفع العبد في الآخرة هو التقوى فقال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197].

ولقد أمر الله تعالى عباده بالتقوى في مواضع شتى من كتابه المجيد، فقال -جل وعلا-:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].

- قال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} : «أن يطاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَرَ فلا يُكْفَر» .

- وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال: «لم

(1)

تفسير الطبري (جـ 9)(ص 295).

ص: 178

تنسخ، ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم».

وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «لا يتقي اللهَ العبدُ حق تقاته حتى يخزن لسانه»

(1)

.

وقال الإمام الطبري رحمه الله: «يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر من صدّق الله ورسوله {اتَّقُوا اللَّهَ}، خافوا الله ورَاقبوه بطاعته واجتناب معاصيه {حَقَّ تُقَاتِهِ}، حقّ خوفه، وهو أن يُطاع فلا يُعْصَى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر، ويُذْكَرَ فلا يُنْسَى {وَلَا تَمُوتُنَّ}، أيها المؤمنون بالله ورسوله {إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لربكم، مذعنون له بالطاعة. مخلصون له الألوهيةَ والعبادة»

(2)

.

والتقوى وصية الله تعالى لأتقى الخلق صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1].

ولعظم شأن التقوى: كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ويتزلف إليه بأن يرزقه التقوى فيقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»

(3)

.

فالله أمره بالتقوى فسألها، ولزمها، ودعا أمته لزومها، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها،

(1)

تفسير ابن كثير (جـ 1)(ص 476).

(2)

تفسير الطبري (جـ 7)(ص 64).

(3)

صحيح مسلم (2721).

ص: 179

وخالق الناس بخلق حسن»

(1)

، ويقول صلى الله عليه وسلم:«اتق المحارم تكن أعبد الناس»

(2)

.

وختامًا فإن التقوى من أَجَلِّ وصايا الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم:

* فهذا نوح عليه السلام ينادي قومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (106)} [الشعراء: 106].

* وهذا هود عليه السلام يأمر قومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (124)} [الشعراء: 124].

* وهذا صالح عليه السلام يوصي قومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (142)} [الشعراء: 142].

* وهذا لوط عليه السلام يخوف قومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (161)} [الشعراء: 161].

* وهذا شعيب عليه السلام يحذر قومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (177)} [الشعراء: 177].

* وهكذا كان شأن جميع الرسل في دعوتهم لأممهم، وعلى هذا سار الأمراء والمصلحون في كل زمان مع أتباعهم، جعلنا الله وإياكم من عباده المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والتقوى قاعدة من أهم قواعد هذا الدين وأساسه المتين الذي تقوم عليه شرائعه العظام وتوجيهاته وأخلاقه وآدابه الكبار، فيجب أن يكون المربي القدوة صالحًا في نفسه تقيًّا لربه، فالتقوى تؤهله للقيادة والريادة، وأن يصبح قدوة حسنة يصلح أن يتأسى به العباد، ويكون قدوة صالحة يأتم به الحاضر والباد.

كما هو شأن عباد الرحمن في دعائهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74].

- قال قتادة: «أي: قادة في الخير، ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير»

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (97).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة حديث (رقم: 93).

(3)

فتح الباري (13/ 251).

ص: 180

ولذا يقول الحق جل في علاه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

‌ثمار التقوى:

وللتقوى ثمار عظيمة، من أهمها وأَجَلِّهَا:

1 -

حصول الهدى، قال تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 2].

2 -

معية الله ونصرته للمتقين، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128].

3 -

تحقيق الولاية للمتقين، قال تعالى:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية: 19].

4 -

نيل المغفرة والمراتب العالية، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

5 -

المخرج من كل ضيق، وسعة الرزق، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

6 -

تيسير الأمور، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].

7 -

عظم الأجور، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} [الطلاق: 5].

8 -

قبول جميع الأعمال، قال تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27].

9 -

نيل الفلاح، قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200].

ص: 181

10 -

نيل البشرى، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى} [يونس: 63 - 64].

11 -

الفوز بجنات النعيم، قال تعالى:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)} [القلم: 34].

12 -

النجاة من النار، قال تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72].

13 -

نيل العلم، قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

14 -

نيل الكرامة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وفي هذا كفاية لمن أراد الانطلاق والبداية.

‌ثانيًا- الإخلاص لله في القول والعمل:

تعريف الإخلاص:

- قال ابن القيم رحمه الله: «فإن الْإِخْلاصَ هو تَجْرِيدُ الْقَصْدِ طَاعَةً لِلْمَعْبُودِ»

(1)

.

- قال الشنقيطي: «إفراد المعبود بالقصد في كل ما أمر بالتقرب به إليه»

(2)

.

يا مبتغي الحمد والثواب

في عملٍ تبتغي محالا

قد خيب الله ذا رياء

وأبطل السعي والكلالا

(1)

إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم (2/ 182)، دار النشر: دار الجيل، بيروت (1973 هـ)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد.

(2)

أضواء البيان (6/ 352).

ص: 182

من كان يرجو لقاء ربه

أخلص من أجله الفعالا

الخلد والنار في يديه

فرائه يعطك النوالا

(1)

.

يقول أبو محمد سهل بن عبد الله التستري

(2)

: «نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركاته وسكناته في سره وعلانيته لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء لا هوى ولا نفس، ولا دنيا»

(3)

.

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: «مخلصين له الدين، أي: مخلصين له العبادة، ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} [الزمر: 11]، وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره»

(4)

.

(1)

فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي (4/ 483)، المكتبة التجارية الكبرى، مصر.

(2)

سهل التُّسْتَرِي (200 - 283 هـ، 815 - 896 م) هو: أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن رفيع التُستري، ولد في تُسْتُر قرب شيراز في بلاد خوزستان. كان أحد أئمة الصوفية في عصره. له أقوال في تفسير بعض الآيات جمعها أبو بكر محمد البلدي في كتاب ونسبها إليه وعرف هذا الكتاب بتفسير التستري. توفي في البصرة. الموسوعة العربية العالمية.

(3)

المجموع شرح المهذب (1/ 17).

(4)

تفسيرالقرطبي (20/ 144).

ص: 183

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

- قال الفضيل بن عياض: «هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة

(1)

، ثم قرأ قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]».

يقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك لن تُخلف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلَّا ازددت به درجة ورفعة»

(2)

.

يقول ابن القيِّم رحمه الله: «لو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم الله المنافقين»

(3)

.

ويقول ابن الجوزي: «فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في إصلاح السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر»

(4)

.

ومن أَجَلِّ علامات الإخلاص:

1 -

أن يستوي المدح والذم عند العبد.

2 -

وأن يقصد بعمله وجه الله والدار الآخرة.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح، والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت،

(1)

مدارج السالكين (2/ 93).

(2)

رواه مسلم (2/ 1250 ح 1628).

(3)

ابن القيم، الفوائد (ص 65).

(4)

صيد الخاطر (ص 287).

ص: 184

فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولًا فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص»

(1)

.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإن المخلص ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره؛ إذ ليس عند القلب أحلى ولا أنعم من حلاوة الإيمان بالله رب العالمين»

(2)

.

ويقول ابن رجب رحمه الله: «ما ينظر المرائي إلى الخلق في عمله إلا لجهله بعظمة الخالق»

(3)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله: «أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبعٌ ومكملة، وإن النية بمنزلة الرُّوح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح»

(4)

.

وكلما كان العمل لوجه خالصًا لله، بعيدًا عن حظوظ النفس ومشتهياتها، كان صاحبه للتوفيق أقرب وللقبول أحرى، فعلى قدر إخلاص المربي (القدوة) في أداء رسالته ومهمته التربوية، يكون التأثر والتأسي به أدعى في نفوس الناشئة وأقوى والاستجابة له أبلغ وأسرع.

ويقول ابن القيِّم رحمه الله: «وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته يكون

(1)

موارد الظمآن (1/ 112).

(2)

ابن تيمية الفتاوى (10/ 215).

(3)

ابن رجب كلمة الإخلاص (ص 31).

(4)

بدائع الفوائد (3/ 224).

ص: 185

توفيق الله له وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم»

(1)

.

وقال الرَّبيع بن خُثَيم

(2)

: «كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل»

(3)

.

‌ثالثًا: الاستقامة على دين الله:

تعريف الاستقامة:

الاستقامة هي: «سلوك الطريق المستقيم، وهو الدّين القويم من غير تعويج عنه يَمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطَّاعات كلّها الظَّاهرة والباطنة، وترْك المنهيَّات كلّها كذلك»

(4)

.

«وسئل صدّيق الأمّة أبو بكر

(5)

رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال: «ألّا تشرك بالله

(1)

الفوائد (ص 181).

(2)

الربيع بن خثيم بن عائذ الإمام القدوة العابد أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد الأعلام، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل عنه، وروى عن عبد الله بن مسعود، وأبي أيوب الأنصاري، وعمرو بن ميمون، وهو قليل الرواية إلا أنه كبير الشأن حدّث عنه الشعبي، وإبراهيم النخعي، وهلال بن يساف، ومنذر الثوري، وهبيرة بن خزيمة، وآخرون، وكان يعد من عقلاء الرجال، روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان الربيع بن خثيم إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه فقال له ابن مسعود: يا أبا يزيد، لو رآك رسول الله لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين، فهذه منقبة عظيمة للربيع -توفي سنة (65 هـ) - الموسوعة الحرة، وينظر: وفيات الأعيان، والبداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء.

(3)

سير أعلام النبلاء (4/ 259).

(4)

جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 193).

(5)

أبو بكر الصديق (51 صلى الله عليه وسلم هـ - 13 هـ) هو: عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر. من تيم قريش. أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. من أعاظم الرجال، وخير هذه الأمة بعد نبيها. ولد بمكة، ونشأ في قريش سيدًا، موسرًا، عالمًا بأنساب= =القبائل حرم على نفسه الخمر في الجاهلية، أسلم بدعوته كثير من السابقين. صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته، وكان له معه المواقف المشهورة. ولي الخلافة بمبايعة الصحابة له. فحارب المرتدين، ورسخ قواعد الإسلام. وجه الجيوش إلى الشام والعراق ففُتِحَ قِسْمٌ منها في أيامه.

الإصابة، ومنهاج السنة (3/ 118)، و «أبو بكر الصديق» للشيخ علي الطنطاوي.

ص: 186

شيئًا. يريد الاستقامة على محض التّوحيد»

(1)

.

قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: «ألّا تشرك باللّه شيئًا، ولا تروغ روغان الثّعالب»

(2)

.

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]: «استقاموا على أداء الفرائض» ، وقال أيضًا:«أخلصوا له الدّين والعمل» ، وقال أيضًا:«استقاموا على طاعة الله»

(3)

.

أمر الله تعالى عباده بالاستقامة، وبين لهم عواقبها الحميدة، فقال جل في علاه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ

(1)

مدارج السالكين (2/ 10)، وبصائر ذوي التمييز (4/ 312).

(2)

مدارج السالكين (2/ 109).

(3)

جامع العلوم والحكم (192).

ص: 187

اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]: أي: أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم»

(1)

.

وقال الإمام الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30] وحده لا شريك له، {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى

(2)

، ولعظم شأنها يأمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]».

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، ونهى عن الطغيان وهو البغي، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء»

(3)

.

- وعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال:«قل آمنت بالله، ثم استقم»

(4)

.

ويقول ابن القيِّم رحمه الله:

«فالاستقامة كلمة جامعة، آخِذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدَي الله

(1)

تفسير ابن كثير (120/ 4)(ص 120).

(2)

تفسير الطبري (جـ 21)(ص 463).

(3)

تفسير ابن كثير (جـ 2)(ص 561).

(4)

صحيح مسلم (1/ 22)، ومسند أحمد (3/ 413).

ص: 188

على حقيقة الصِّدْق والوفاء»

(1)

.

ويقول رحمه الله أيضًا: «سمعتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية -قدس الله روحه- يقول: أعظمُ الكرامة لزوم الاستِقامة»

(2)

.

ويقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «أصل الاستِقامة استقامة القلْب على التَّوحيد .. فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبَّته وإرادته، ورجائه ودعائه والتوكُّل عليه والإعراض عمَّا سواه - استقامت الجوارح كلّها على طاعته، فإنَّ القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده؛ فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح: اللِّسان؛ فإنَّه ترجمان القلب والمعبِّر عنه»

(3)

.

وإن مجاهدة المربي القدوة نفسَهُ في إصلاحها وسياستها وتقويمها وحملها على الاستقامة والسير بها على الصراط المستقيم، وأطرها على الحق أطرًا، وإلزامها أمر الله، له أبلغ الأثر وداعي التأسي به واتخاذه قدوة صالحة.

‌رابعًا: حسن الخلق:

تعريف حسن الخلق:

عرّفه مسكويه

(4)

بأنه: «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويّة» ، قال: «وهذه الحال منها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، ومنها ما يكون

(1)

ينظر: تهذيب مدارج السَّالكين (ص 529).

(2)

ينظر: مدارج السَّالكين (2/ 103)، وينظر: تهذيبه (ص 529).

(3)

ينظر: جامع العلوم والحكم (193) بتصرّف يسير.

(4)

هو: أحمد بن محمد بن يعقوب اشتغل بالفلسفة والمنطق، أصله من الري توفي سنة (421 هـ). الأعلام (جـ 1)(ص 211).

ص: 189

مستفادًا بالعادة والتدريب»

(1)

.

وعرفه الغزالي فقال: «الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلًا وشرعًا سميت تلك الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا»

(2)

.

وعرفه ابن منظور فقال: «والخُلُق: بضم اللام وسكونها، وهو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصَّة بها، بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلَّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثرَ مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة؛ ولهذا تكرَّرت الأحاديث في مَدْح حُسْن الخُلُق في غير موضِعٍ»

(3)

.

فإن مكارم الأخلاق صفة من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، بها تُنال الدرجاتُ، وتُرفع المقاماتُ، وقد خص اللّه -جل وعلا- نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بآية جمعت له محامد الأخلاق ومحاسن الآداب، فقال -جل وعلا-:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].

(1)

تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تأليف: ابن مسكويه أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب، دراسة وتحقيق: عماد الهلالي، الناشر: طليعة النور، الطبعة: الأولى (1426 هـ)(ص 41).

(2)

الغزالي إحياء علوم الدين (3/ 53) دار المعرفة، بيروت (1402 هـ).

(3)

لسان العرب. ابن منظور (10: 86، 87)، دار صادر - بيروت.

ص: 190

قال الإمام الطبري: «يقول - تعالى ذِكْره - لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد، لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه به، وهو الإسلام وشرائعه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل» ، ثم نقَل عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد والضحاك قولهم في تفسير:{خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]؛ أي: دين عظيم، وهو الإسلام»

(1)

.

- وقال الماوردي

(2)

: «أي: إنك على طَبْع كريم»

(3)

.

وحُسْن الخُلُق هو التخلق بالأخلاق العظام، والتأدب بآداب الإسلام التي أدَّب الله بها عبادَه الكرام، كما جاء وصفهم في كتاب ربنا العلام، و في سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم سيد الأنام.

(1)

تفسير الطبري (29: 24، 25)، وينظر: تفسير القرطبي (18: 277).

(2)

الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، الماوردي، الشافعي، صاحب التصانيف، حدّث عن الحسن بن علي الجبلي صاحب أبي خليفة الجمحي، وعن محمد بن عدي المنقري، ومحمد بن معلى، وجعفر بن محمد بن الفضل. وحدث عنه أبو بكر الخطيب ووثقه، وقال: مات في ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة وقد بلغ ستًا وثمانين سنة، وولي القضاء ببلدان شتى، ثم سكن بغداد. سير أعلام النبلاء (ص: 65/ 18).

عقيدته:

جاء في كتاب: القول المختصر المبين في مناهج المفسرين للنجدي: مؤول أشعري، شحن كتابه بالتأويل، ويختار في بعض المواضع من كتابه قول المعتزلة، وما بنوه على أصولهم الفاسدة، ويوافقهم في القدر؛ ولذا قال عنه الذهبي في «الميزان»:«صدوق في نفسه، لكنه معتزلي» انتهى. (ص 12).

(3)

تفسير القرطبي (18: 227).

ص: 191

قال صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس»

(1)

.

«قال العلماء: البرّ يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق»

(2)

.

قال ابن دقيق العيد: «قوله صلى الله عليه وسلم: «البِرُّ حسن الخلق» ، يعني: أن حسن الخلق أعظم خصال البر كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»

(3)

انتهى.

فكما أن الوقوف بعرفة أعظم أركان الحج، فكذلك حسن الخلق أعظم خصال البر.

أما البر:

فهو الذي يبرّ فاعله ويلحقه بالأبرار، وهم المطيعون لله عز وجل، والمراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة والرفق في المحاولة والعدل في الأحكام والبذل في الإحسان»

(4)

، قال ابن رسلان

(5)

: «الخُلُق: عبارة عن أوصاف الإنسان التي

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1980)(برقم: 2553).

(2)

شرح النووي على مسلم (16/ 111)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية (1392 هـ).

(3)

أخرجه الترمذي (3/ 237)(برقم: 889)، وسنن ابن ماجه (2/ 1003) (برقم: 3015)، قال الألباني: صحيح. ينظر: حديث (رقم: 3172) في صحيح الجامع.

(4)

شرح الأربعين النووية، ابن دقيق العيد (1/ 71).

(5)

ابن رسلان، أو ابن أرسلان (775 هـ - 844 هـ) أحمد بن حسين بن حسن بن علي بن أرسلان المقدسي، الشافعيّ، أبو العباس شهاب الدين الرملي، ولد برَمْلَة فلسطين سنة (775 هـ)، وانتقل في كبره إلى القدس، فتوفي بها سنة (844 هـ). وكان زاهدًا متهجدًا، = =من تصانيفه: شرح سنن أبي داود، والبخاري، وعلّق على الشفا، وشرح مختصر ابن الحاجب. يظهر أنه كان أشعري العقيدة، صوفي المنهج والسلوك، (الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها).

وينظر ترجمته في: شذرات الذهب (9/ 362)، طبعة دار ابن كثير، والبدر الطالع (1/ 49) طبعة دار المعرفة، والأعلام للزركلي (1/ 117).

ص: 192

يُعامِل بها غيره»

(1)

.

وقال أبو عثمان الجاحظ (2): «إنَّ الخُلُقَ: هو حال النفس، بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعًا، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعلُّم، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل وغير ذلك من الأخلاق المحمودة»

(2)

.

وهذه المعاني في حقيقتها لا تُخالِف الوضعَ اللُّغوي لكلمة الخُلُق، وإن صُبِغت بمعنى شرعي حين يعبِّر حُسْن الخُلُق عن الالتزام بالآداب الشرعية الصادرة عن الأحكام القرآنية والتعاليم النبوية خاصة.

يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

هذه آية عامة في الحض على مكارم الأخلاق والحثّ عليها مع عموم البشر، فينبغي للمربي القدوة أن يكون قوله للناس جميًعا حسنًا لينًا، وأن يكون منبسط الوجه منطلق المحيّا، فحين يتمثل أخلاق الإسلام في تعامله، فإنه أدعى لمحبته والسعي في تحقيق التأسي والاقتداء به مع من يأمل فيهم التأسي والاقتداء به،

(1)

عون المعبود. العظيم آبادي (12: 343) دار الفكر - بيروت.

(2)

تهذيب الأخلاق (ص 12).

ص: 193

وهذه السمة الحسنة يجب أن تتجلى بوضوح في علاقة المربي القدوة في تعامله مع الناس جميعًا.

‌خامسًا- وجوب موافقة القول العمل، وذم من خالف قوله فعله:

لقد تظاهرَتْ دلائل التنزيل (الكِتَاب والسُّنة). على ذمِّ من خالف قولُهُ فعلَه؛ لأنَّ ذلك فيه دلالة على ضعف إيمان صاحبه، وقد يؤدي به إلى النِّفاق، عياذًا بالله تعالى من ذلك، وقد جبلت نفوس أهل الإيمان على محبة وقبول من وافق قولُهُ فعلَه والنفور ممن خالف قولُهُ فعلَه، ولذا فيجب وجوبًا حتميًّا على كل مصلح وداعٍ ومُرَبٍّ حريص على أن يكون قدوة حسنة يُتأسى ويُقتدى به، أن يحرص كل الحرص على موافقة القولِ العملَ، حتى يكون داعيًا بحاله قبل مقاله.

وهذا يلزمه أن تأتي أعمالُهُ موافقة لأقواله؛ لأن هذه السمة الحسنة تكسب المربي والمصلح والداعي والقدوة ثقة وقناعة وإجلالًا وتقديرًا في نفوس المدعوين، فيتأسون بما يقول ويقتدون بما يعمل، كما يندرج تحت هذه السمة العظيمة أن تكون الأقوال الموافقة للأعمال مستمدة من شرع الله، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3].

قال الإمام الطبري: «إنَّ الله -تعالى- قد ذَمَّ بني إسرائيل على عدم إتْباع العِلمِ العملَ؛ فقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، فإنَّهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبِتَقواه وهم يَعصُونه، فعَيَّرهم الله تعالى»

(1)

.

(1)

جاء ذلك عن السُّدِّي وقتادة -رحمهما الله تعالى- كما في «تفسير الطبري» (1/ 258).

ص: 194

وفي آيةٍ أخرى أخْبَر الله عنهم بقَوْله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].

قال مالك بن مغول

(1)

-رحمه الله تعالى: «تركوا العمل به»

(2)

.

وفي قول الله تعالى: {نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 53]، وقوله سبحانه:{نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]، وقوله عز وجل:{نَسُوا الذِّكْرَ} [الفرقان: 18].

- قال المفسِّرون: «ترَكُوا العمل به، فصاروا كالنَّاسين»

(3)

.

وإنَّ المتأمل في سير الأنبياء الكرام عليهم السلام وهم رُؤوس المُصْلِحين وقدوات الأنام، يرى أفعالَهم تُوافقها أقوالُهُم، حتَّى إنَّ المكذِّبين بهم من أقوامهم لم يَرْموهم بمخالفة أفعالِهِم أقوالَهم مع حاجتهم لمثل هذه التُّهمة في صَرْف النَّاس عن دَعوتهم وتصديقهم والإيمان بهم، لكنهم لم يَفْعلوا ذلك؛ لِعِلمهم أن الناس لا يصدِّقونهم؛ لأنّه من الكذب الظَّاهر، ومن الأنبياء مَن صرَّح بذلك كما فعَل شُعَيب عليه السلام حين وعَظ قومه، فبيَّن لهم أنَّه أوَّل مَن يمتثِلُ ما يدعوهم إليه، حين ذكر الله -تعالى- من خبره مع قومه أنه قال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا

(1)

مالك بن مغول بن عاصم بن غزية بن خرشة، الإمام، الثقة، المحدث أبو عبد الله البجلي، الكوفي، قال أحمد: ثقة، ثبت في الحديث، وقال ابن معين وأبو حاتم وجماعة: ثقة، وقال العجلي: رجل صالح مبرز في الفضل، وقال أحمد: سمعت ابن عيينة يقول: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله. فوضع خده بالأرض، توفي سنة (159 هـ)، قلت: كان من سادة العلماء، سير أعلام النبلاء (ص: 174، 175/ 7).

(2)

فتح المغيث (2/ 359).

(3)

تفسير القرطبي (7/ 217)، و (13/ 11)، و (15/ 189)، وتفسير ابن كثير (2/ 221).

ص: 195

أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].

فموافقة القَول العمل فيها تأسٍّ بالأنبياء عليهم السلام.

وأنشد بعضهم:

يا واعظ النّاس قد أصبحت متّهمًا

إذْ عبت منهم أمورًا أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدًا

فالموبقات لعمري أنت جانيها

تعيب دنيا وناسًا راغبين لها

وأنت أكثر منهم رغبة فيها

(1)

.

يقول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى: «ما كتبتُ حديثًا إلَّا وقد عملتُ به»

(2)

.

ويقول سفيان الثوري -رحمه الله تعالى: «العلم يَهْتف بالعمل، فإنْ أجاب وإلَّا ارتحَل»

(3)

.

يقول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، «اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّوْبِيخَ فِي الْآيَةِ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ، لَا بِسَبَبِ

(1)

إحياء علوم الدين (1/ 63)، والأبيات لأبي العتاهية.

(2)

رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (184).

(3)

رواه ابن عبد البرِّ في جامع بيان العلم (813) وجاء مثله عن ابن المنكدر في اقتضاء العلم العمل (41).

ص: 196

الْأَمْرِ بِالْبِرِّ»

(1)

.

الوعيد الشديد لمن خالف قولُه فعلَه:

1 -

فصاحبه متوعَّدٌ بمقْت الله تعالى وغضبه وسخطه كما في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3].

2 -

ومُتوعَّدٌ بالعذاب في النَّار، كما في قول الله تعالى:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 49 - 51].

قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى: «فيَجب على المذكِّر -بالكسر- والمذكَّر -بالفتح- أن يَعْملا بمُقتضى التَّذكرة، وأن يتحَفَّظا عن عدم المبالاة بها؛ لئلَّا يكونا حِمَارين من حمُر جهنم»

(2)

.

3 -

وعذابه في النَّار يكون بطريقةٍ بَشِعة منفِّرة، جاء تصويرُها في حديث أسامة ابن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يُجاء بالرَّجل يوْم الْقيامة، فيُلْقى في النار، فتنْدلق أقْتابُه في النار، فيَدُور كما يدور الحمار بِرَحَاه، فيجْتمع أهْل النار عليْه فيقولون: أيْ فلان، ما شأْنُك؟ أليْس كنْتَ تأمُرنا بالمعْروف وتنْهانا عن المنْكر؟ قال: كنْتُ آمركمْ بالمعْروف ولا آتيه، وأنْهاكمْ عن المُنْكَر وآتيه»

(3)

.

4 -

ومتوعَّدٌ بقرض شفتيه بمقاريضَ منْ نارٍ لما ثبت من حديث أنس بْن مالكٍ

(1)

انتهى من تفسير القرطبي (1/ 366).

(2)

أضواء البيان (1/ 463).

(3)

رواه البخاري (3094)، ومسلم (2989).

ص: 197

-رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرض شفاههمْ بمقاريضَ من نارٍ، قلْتُ: مَنْ هؤلاء يا جبْريل؟ قال: هؤلاء خطباء منْ أمَّتك، يأْمرون الناس بالبر، وينْسوْن أنْفسهمْ وهمْ يتْلون الْكتاب، أفلا يعْقلون»

(1)

.

وهذا العذاب لا يخص الخطباء فحسب؛ بل يعم كل آمرٍ وناهٍ يخالف قولُهُ فِعْلَهُ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو معلوم في علم الأصول.

وما أحسن قول أبي الأسود الدؤلي:

يا أَيُّها الر جُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ

هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ

تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي

الضَّنَى كيما يَصحّ بِهِ وَأنتَ سَقيمُ

وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا

أَبَدًا وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ

فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها

فَإِذا انْتَهَتْ عَنهُ فأنتَ حَكيمُ

فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيُهتَدى

بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ

عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ

(2)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة (8/ 446)، وأحمد (3/ 120)، وعبد بن حميد (1222) وحسَّنَه البغوي في شرح السُّنة (4159)، والألباني في صحيح الجامع (129)، مقال مقتبس من شبكة الألوكة، موافقة قول الخطيب عمله، الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل، تاريخ الإضافة:(18/ 10/ 1431 هـ - 27/ 9/ 2010 م) بتصرف.

(2)

أبو الأسود الدؤلي: هو: ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني (16 ق. هـ. -69 هـ)، من سادات التابعين وأعيانهم وفقهائهم وشعرائهم ومحدثيهم، ومن الدهاة حاضرِي الجواب، وهو كذلك نحويّ عالِم وضع علم النحو في اللغة العربية، وشكّل أحرف المصحف، وضع النقاط على الأحرف العربية، وُلِدَ قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآمن به لكنه لم يره فهو معدود في طبقات التابعين، وصَحِب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي ولَّاه إمارة البصرة في خلافته، وشهد معه وقعة صفين والجمل ومحاربة الخوارج. ويُلقب بِلقب: ملك النحو، لوضعه علم النحو. أصيب آخر حياته= =بمرض الفالج الذي سبب له العرج، وتوفي في طاعون الجارف في البصرة سنة (69 هـ/ 688 م) في خلافة عبد الملك بن مروان وله من العمر (85) سنة.

اللباب (1/ 430)، والإصابة (2/ 233)، وأنباء الرواة (1/ 50)، وتاريخ دمشق لابن عساكر - حرف الظاء، وسير أعلام النبلاء (ص 83، 84، 85)، وروضات الجنات (4/ 2)، وبهجة الآمال (5/ 1)، وغاية النهاية في طبقات القراء (1/ 346)، وتهذيب التهذيب (12/ 13)، وتاريخ الإسلام للذهبي (ج 5/ 6)، وفهرست ابن النديم (46)، والعقد الفريد (4/ 34)، ومرآة الجنان (1/ 206)، ووفيات الأعيان (1/ 535)، ورسالة الغفران (400).

ص: 198

‌سادسًا- القدوة شخصيته مستقلة:

إن المربي (القدوة) بحكم اعتصامه بالله وتدينه، له شخصية مستقلة لا تقبل التبعية لكل ناعق، فهي شخصية مستقلة لها مصدر تلقٍّ قوي ومتين؛ ألا وهو دين رب العالمين، وإن هذا الدين هو مصدر قوتها وعزتها وثقتها وثباتها، لذا فهي تؤثر ولا تتأثر وتقود ولا تنقاد، وكذلك لا تميل لأهل الأهواء ولا تتبع أحدًا من السفهاء، ولا تقبل أن تكون إمعة أبدًا فتقلد غيرها تقليدًا أعمى لا يرضاه رب الأرض والسماء.

قال شيخنا العلامة ابن عثيمين

(1)

رحمه الله: «الواجب على المسلم أن يعتز بدينه

(1)

العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين التميمي: مولده (27 رمضان 1347 هـ)(29 مارس 1929 م)، وفاته (15 شوال عام 1421 هـ) (11 يناير 2001 م) هو: أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن العثيمين الوهيبي: مولده: ولد في ليلة (27 رمضان عام 1347 هـ)، في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم بالمملكة العربية السعودية. جده عثمان اشتهر بعثيمين فصارت الأسرة تنسب لهذا الجد، وهو الجد الرابع. آل عثيمين هم من آل مقبل، من آل زاخر، - البطن الثاني من الوهبة من قبيلة بني تميم - نسبة إلى (محمد بن علوي بن وهيب)، ومحمد هذا هو= =الجد الجامع لبطون الوهبة جميعًا: قال عنه شيخ الإسلام الألباني: «أنا الحقيقة معجب بسمت الشيخ ولطفه وأدبه إلى خروجه عن التقليد الذي ران على جماهير العلماء في كل البلاد ما استطاع إلى ذلك سبيلًا» ، وقال أيضًا:«خلت الأرض من عالم، وأصبحت لا أعرف منهم إلا أفرادًا قليلين، أخص بالذكر منهم: العلامة عبد العزيز بن باز، والعلامة محمد بن صالح بن عثيمين» .

تأثر بابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وابن سعدي، وابن باز، وتأثر به خلق كثير، منهم: سالم الطويل، وعثمان الخميس، وعبد الله السلمي، ومحمد صالح المنجد. وممن تأثر به: الباحث، كاتب هذا البحث وجامعه، فقد لازم دروسه في الحرم المكي وفي الرياض عقدين من الزمن.

وفاته قبيل مغرب يوم الأربعاء (15 شوال سنة 1421 هـ) بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، وصُلِّي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة العصر يوم الخميس السادس عشر من شهر شوال (سنة 1421 هـ)، ودفن بمكة المكرمة.

وينظر: كتاب شرح ثلاثة الأصول، لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، إعداد فهد بن ناصر بن ابراهيم السليمان.

ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين -المجلد الثاني- باب الكفر والتكفير - والموسوعة الحرة.

ص: 199

ويفتخر به، وأن يقتصر على ما حده الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، فلا يزيد فيه ولا ينقص منه، والذي ينبغي للمسلم أيضًا ألا يكون إمَّعَةً يتبع كلَّ ناعق؛ بل ينبغي أن يُكَوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله

ص: 200

تعالى حتى يكون متبوعًا لا تابعًا، وحتى يكون أسوة لا متأسيًّا، لأن شريعة الله -والحمد لله- كاملة من جميع الوجوه كما قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]»

(1)

.

‌سابعًا- المعرفة بوسائل التأثير في المجتمع:

لا بدّ للقدوة أن يكون صاحب بصيرة نافذة ونظر ثاقب لمواضع التأثير في المجتمع، فيكون واسع الثقافة، لديه قدرة وبصر على مواضع التأثير في الناس وهذا يتطلب منه معرفة عادات الناس مع اختلاف عقولهم وفهومهم وثقافاتهم وحالاتهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية مع اختلاف بلدانهم وقبائلهم وأعمارهم وأحوالهم، فيتعامل مع كل أفراد هذه الفئات كل بما يناسبه، وله -في ذلك كله- في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

‌ثامنًا- الاعتدال والتوسط في شؤونه كلها:

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] نقل البغوي في تفسيره عن الكلبي أنه قال: {وَسَطًا} [البقرة: 143]: «يعني: أهل دين وسط، بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في الدين»

(2)

، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية:«والوسط ها هنا الخيار والأجود»

(3)

.

فكذلك (القدوة) مقتصد في كل شؤون معاشه ومعاده، مهتديًا بهُدَى الإسلام،

(1)

مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/ 301).

(2)

تفسير البغوي (1/ 122).

(3)

تفسير ابن كثير (1/ 181) بتصرف. مسلم المحمادي (ديسمبر 2013)، التربية بالقدوة الحسنة- بتصرف.

ص: 201

متبعًا ومقتفيًا لأثر سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، متبعًا لهديه في العبادات والمعاملات، ومتأسيًّا به في كل الحالات، ويظهر ذلك في علاقاته الاجتماعية وآدابه الشرعية، في مظهره ومخبره، في مطعمه ومشربه وملبسه، وفي جميع سمته وهديه ودله، فهو معتدل لا يأتي بالغرائب ولا بالمتناقضات، فهو معتدل في شؤونه كلها، فتراه عدلًا خيارًا في العبادات والعادات والمعاملات، فلا تؤخذ عليه الهنات ولا الزلات.

ولا شك أن هذا الاعتدال مصدر تأثير يجعل القدوة محل تقدير وإجلال وإكبار ويأخذ بالقلوب إليه، وتتأسى به الأنام.

ويُستَخلص من هذا المبحث المهم أن التربية بالقدوة من أعظم وأَجَلِّ أساليب التربية.

وأن من أَجَلِّ آثارها وأظهرها ما يلي:

* انشراح الصدر وطمأنينة النفس: فالاقتداء بالصالحين سبب من أهم أسباب يقظة القلب وانتباهه من غفلته، ويتأتى ذلك من خلال التأثر بما يراه من سلوك حميد وصفات وعبادات ومعاملات وأحوال، وهذا ولا شك يدفع المتأسي على الإقبال على العمل الصالح بانشراح صدر وطمأنينة نفس.

* القناعة الذاتية لما يدعو إليه القدوة: إن محبة القدوة الحسنة في قلوب الناس وارتياحهم له وثقتهم فيه له أبلغ الأثر في غرس القناعة الذاتية في نفوسهم وقبول ما يدعو إليه، وتلك القناعة إنما هي ناشئة عن أمرين جليلين: هما الثقة والمحبة.

* ترغب المدعوين في الإقبال على الطاعة: إن حرص المدعوين على التأسي

ص: 202

بالقدوة الحسنة له أبلغ الدوافع في إقبالهم على الباقيات الصالحات والحرص على طاعة رب البريات والنفور من سائر المعاصي والموبقات.

* تربي في المدعوين مكارم الأخلاق: إن ما يتمثله القدوة الحسنة من مكارم الأخلاق، له أبلغ الأثر في التربية على محاسن تلك الأخلاق والتأسي بها بدافع التقليد والتأثر اللا إرادي.

* تحقق القدوة أعظم مطلوب وأفضل مرغوب:

قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156، 157]

(1)

.

وفي هاتين الآيتين الكريمتين بيان لفضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وعظم شأنه واتباع سنته.

‌التحذير من القدوة السيئة:

القدوة السيئة خطر التأثير وسبل المواجهة:

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ

(1)

الزيلعي، أحمد بن علي بن عمر، المضامين التربوية المستنبطة من سورة الفاتحة وتطبيقاتها التربوية، رسالة ماجستير-غير منشورة، جامعة أم القرى- كلية التربية، قسم التربية الإسلامية والمقارنة (1425)(ص 127)، بحث غير منشور، المكتبة المركزية -مكة المكرمة- بتصرف.

ص: 203

أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3].

- يقول ابن سعدي في تفسير هذه الآية: «لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به»

(1)

، وهذا يدل على التحذير من مخالفة القول الفعل خاصة في حق المربين والدعاة لأن ذلك يؤدي إلى سلب الثقة منهم وتصبح أقوالهم غير مؤثرة في السامعين.

‌أولاً: دور القدوة السيئة في توجيه الناشئة إلى المفاسد:

الإنسان مخلوق اجتماعي، منفعل ببيئته، متأثر بها ومؤثر فيها، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنّه يمكنه العيش في مجتمع فاسد أو بين أناس فاسدين دون أن يتأثَّر بهم بنحو من التأثّر، فقد ورد في القرآن الكريم، على سبيل المثال، قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان: 27 - 29].

وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنَّ الانحراف الذي أصاب سلوك هذا الظالم تأتَّى من مرافقته لخليل استطاع أن يضلَّه بالرغم من معرفته بكلام الله (الذكر). وبدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد أكَّدت الدِّراسات التربويَّة الحديثة على خطورة النمذجة كعنصر مؤثِّر وفعَّال في تشكيل سلوك الأولاد والناشئة.

(1)

السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مرجع سابق (جـ 1)(ص 51).

ص: 204

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»

(1)

.

فالقرين يمكنه التأثير في قرينه، خاصة إذا كان بمثابة القدوة، ويكون ذلك عن طريق:

1 -

الإغواء الفكريُّ: يتأثَّر الإنسان عمومًا بأفكار من يرافقه، كما مرّ في الحديث السابق، وللقرين، المقارب في العمر تأثير مضاعف، يقول تعالى:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} [الصافات: 51 - 55].

2 -

الإغواء النفسي والعاطفي: ثمَّة طريق آخر للإغواء وهو الإغواء عبر التأثير في العواطف، يقول تعالى:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25]، ويتمُّ ذلك عبر التزيين، والإغواء النفسي والعاطفي، بإظهار الأمور على غير حقيقتها، بطريقة تميل إليها النفس وتهواها.

3 -

الإغواء السلوكيُّ: يتأثر الإنسان، من حيث يدري أو لا يدري، بسلوك مَن يعاشر، ويتعاظم الإغواء السلوكيِّ عندما يندمج الإنسان في جماعة، تمارس سلوكًا سيئًا.

ومن أظهر الأدلة على ذلك التماهي في الضحك لمجرد رؤية مجموعة

(1)

شعب الإيمان 12/ 44) (8990) صحيح.

ص: 205

تضحك، وحتى من غير معرفة السبب؛ وكذلك البكاء أو الصراخ أو الهتاف .. لذا شدَّدت وصايا الصلحاء على عدم مصاحبة المنحرفين عن جادَّة الصواب.

‌ثانيًا: عناصر الجذب في القدوة السيئة:

قد يتساءل بعضنا عن كيفيَّة انجذاب بعض الشباب إلى رفاق السوء بالرغم من معرفتهم بانحرافهم؛ والجواب يكمن في عناصر الجذب.

فقد أثبتت الدِّراسات أنَّ هناك عناصر جذب تضع بعض الأشخاص في موقع جذب للآخرين، فينقادون إلى تقليدهم طوعًا أو كرهًا بحسب الموقف.

وأهم عناصر الجذب هذه ثلاثة:

1 -

الشهرة أو ما يُسمَّى بـ (النجوميَّة):

فالناس عامَّة، والصغار خاصَّة، ينجذبون بشكل غير إرادي إلى مَن تُسَلَّط عليهم الأضواء ويحاولون تقليدهم في كلِّ شيء حتى في طريقة اللبس ونوع الطعام وما شابه ذلك.

ويُستعمل حاليًا هذا النوع من الجذب في الإعلانات عن السلع لترويجها عبر إظهار بعض المشاهير يرتدونها أو يستقلونها أو يستعملونها

(بحسب السلعة).

2 -

الاقتدار والسلطة:

ينجذب الناس عمومًا، والصغار منهم خصوصًا، إلى من هم في موقع السلطة أو الاقتدار المالي، وذلك لنيل رضاهم، إمَّا رغبة أو رهبة.

يقول تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} [الأحزاب:

ص: 206

67].

3 -

الإيحاء بالمظلوميَّة:

ثمَّة عنصر جذب آخر يجعل بعض الأبناء، والشباب منهم خاصة، يتأثَّرون ببعض رفاق السوء، وهو الإحساس بمظلوميَّتهم، ويقوى تأثير هؤلاء إذا كانوا من الذين لديهم ميول اجتماعية ويقدِّمون الخدمات للرفاق.

‌ثالثًا: أسباب وقوع الخطأ في تحديد القدوة:

بالرغم من قدرة النفس البشريَّة على التمييز بين الخير والشر بحسب الخلقة، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7 - 8].

إلَّا أنَّ الكثير من الناس معرّضون للوقوع في الخطأ في مجال تحديد القدوة.

ويعود ذلك لأسباب؛ من أهمها وأبرزها أربعة أسباب:

1 -

فساد أحد الوالدين أو كليهما:

يتماهى الأولاد، خاصَّة في مرحلة الطفولة، في سلوك والديهم، حيث يعتبر كلُّ طفل أبويه هما نموذجه الأعلى.

2 -

الفراغ العاطفيّ والروحيّ:

قد يكون الوالدان جيدين ولكنَّهما منشغلان وغير ملمّين بأصول التربية ومستلزماتها فينهمكان في تأمين حاجات أولادهما الماديَّة (مأكل -مشرب - ملبس -طبابة .. ).

متناسيَين حاجاتهم الروحيّة والنفسيّة ما يجعل الأولاد يفتِّشون عن مصدر آخر للتفهم والتعاطف والتواصل؛ ولكنَّهم غالبًا ما يخطئون الاختيار.

3 -

اختلال منظومة القيم:

إنَّ انفتاح المجتمعات التي تحمل ثقافات مختلفة بعضها مع بعض، من

ص: 207

خلال الفضائيَّات وتكنولوجيا الاتِّصالات، وغياب المنظومة الفكريَّة المتينة التي تربط الأحكام الفقهية بأُسسها العقائديَّة والأخلاقيَّة لدى المؤمنين، أدّيا إلى اختلال كبير في منظومة القيم في المجتمعات الدينيَّة وغير الدينيَّة على حدٍّ سواء. الأمر الذي جعل الكثير من الشباب يخطئون في تحديد النموذج القدوة ويتعلَّقون بنماذج غير صالحة، خاصة عندما تتوفَّر في هؤلاء عناصر الجذب، ولا تتوفَّر في غيرهم ممن يفترض فيهم أن يكونوا في موقع القدوة الحسنة كالآباء والمعلِّمين، مثل تلك العناصر.

4 -

انخفاض القدرات العقليَّة:

ثمَّة سبب إضافي لا بدَّ من الانتباه إليه وهو مستوى الذكاء العقلي.

فقد دلَّت الدِّراسات على أنَّ ضعاف العقول ومنخفضي الذكاء معرَّضون أكثر من غيرهم للوقوع في شراك رفاق السوء الذين بدورهم يحسنون استغلالهم.

ومن هنا تتأتَّى مسؤوليَّة الأهل بضرورة إحاطة هذا النوع من الأولاد بعناية خاصة وبضرورة تزويدهم بالمهارات الحياتية اللازمة

(1)

.

(1)

النهي عن القدوة السيئة وبيان أضرارها. علي بن نايف الشحود- المكتبة الشاملة، الطبعة: الأولى (1433 هـ - 2012)(ص 31 - 36) بتصرف.

ص: 208

‌المظهر الرابع

التبكير في عملية التربية: (التربية مبكرًا)

ومن واجب الوالدين تربية الأبناء منذ نعومة أظفارهم على حبّ الله وحبّ كتابه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب سنته وهديه، وحب أصحابه وأزواجه وآل بيته رضي الله عنهم أجمعين، ومحبة دين الإسلام عمومًا وتعاليمه السمحة، ويجب وجوبًا حتميًّا على الوالدين إبعاد ذريتهما عن كل ما يفسد عليهم دينهم وأخلاقهم من مراتع الفساد والشر والفحش، ومن مجالس السوء وأصحاب السوء، - وكذلك عدم تمكينهم من مشاهدة القنوات الهابطة، وتطهير البيوت من الموبقات والمهلكات والمفسدات من الأجهزة التي تبث الرذيلة وتنشر الشر، وكذلك يجب إخراج كل وسيلة تستخدم استخدام سوء في إفساد العقائد وهدم القيم والأخلاق ونشر الرذائل والخبث من البيوت، وكذلك عدم تمكين الأبناء من استخدام وسائل التقنية وغيرها، وتقديمها لهم بلا رقابة ولا توجيه، فإن كان الحاجة إليها ضرورية وملحة فمع الضوابط الشرعية، والرقابة الأبوية، والتوجيه والمتابعة الأسرية، وغرس الرقابة الذاتية في نفوس الأبناء بمراقبة ربّ البرية.

فهل يليق بمسلم عاقل وناصح لنفسه وذريته، أن يدخل أجهزة الفساد إلى بيته بمال الله الذي آتاه، ويترك لأبنائه الحبل على الغارب، ويدعهم هملًا بلا رعاية ولا رقابة ولا تربية ولا توجيه ولا نصح ولا إرشاد، ثم بعد ذلك يطالبهم

ص: 209

بالصلاح والتقى، فإن الذي يزرع الشوك لا يحصد العنب، أو كما قال الأول:

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له

إياك إياك أن تبتل بالماء

(1)

.

ويكون ذلك في الصغر ليسهل عليهم في الكبر وتتعوده أنفسهم ويسهل عليه

(1)

هذا البيت للحلاج، والحلاج هو الحسين بن منصور الحلاج، ويكنى أبا مغيث. وقيل: أبا عبد الله، نشأ بواسط. وقيل بتستر، وخالط جماعة من الصوفية منهم سهل التستري والجنيد وأبو الحسن النوري وغيرهم. رحل إلى بلاد كثيرة، منها مكة وخراسان، والهند وتعلم السحر بها، وأقام أخيرًا ببغداد، وبها قتل (عام 309 هـ) بسبب ما ثبت عنه بإقراره وبغير إقراره من الكفر والزندقة .. ادَّعى النبوة، ثم تَرَقَّى به الحال أن ادعى أنه هو الله، وكان يقول بالحلول والاتحاد، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنْ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ. وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنَ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ» اهـ. مجموع الفتاوى (2/ 480).

وقال أيضًا: «وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلاجَ بِخَيْرِ لا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا مِنْ الْمَشَايِخِ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ» . اهـ. مجموع الفتاوى (2/ 483).

للاستزادة يراجع: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (8/ 112 - 141)، والمنتظم لابن الجوزي (13/ 201 - 206)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 313 - 354)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/ 132 - 144) قول بالحلول والاتحاد. أي: أن الله تعالى قد حَلَّ فيه، وصار هو والله شيئًا واحدًا. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ص: 210

أمرهم ونهيهم ويسهل عليهم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم طاعة والديهم في المعروف.

فمما يجب على الوالدين حماية الأبناء من تلك المنكرات، لتبقى لهم فطرهم التي فطرهم الله عليها.

ويعوضهم بخير عوض عن ذلك، فيعلمهم تلاوة القرآن وحفظه وترتيله وتجويده، وكذلك حفظ ما تيسر لهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاطلاع على سيرته العطرة وسيرة أصحابه الكرام وسيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، وقصص الأنبياء والصالحين من علماء الإسلام وأبطاله الفاتحين، ويرويهم السنن الإسلامية والآثار السلفية والحكم والأشعار النافعة، والتاريخ والأخبار الصادقة، ويجلب لهم ما يعينهم على ذلك من الكتب والقصص النافعة والهادفة المقروءة والمسموعة، ويجلب لهم كل ما يدلهم ويحثهم ويرغبهم في كل خير نافع ومفيد.

ومن السبل المعينة والتي تعين الوالدين والمربين في تربية الأولاد استخدام جهاز المسجل أو ما يقوم مقامه من الأجهزة الحديثة لسماع القرآن الكريم مرتلًا ومجودًا لمشاهير القراء، والسيرة النبوية العطرة والقصص النافع والمفيد وكذلك مواعظ وخطب ودروس العلماء والوعاظ وطلاب العلم والمربين المعروفين بسلامة المنهج وصحة المعتقد وهم كُثُر ولله الحمد والمنة، وهي وسيلة مجربة ومفيدة للغاية وهي متوافرة بتنوع وكثرة ولله الحمد.

وكذلك يُرَوِّضُ أجسامهم بالنافع من الرياضة النافعة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، وكذلك الزيارة العائلية والطلعات البرية والخلوية، وصلة

ص: 211

الأرحام والأعمال الاجتماعية النافعة، ويجدر بالوالد والقيم على الأسرة أن يوجد البدائل المناسبة -المباحة والمتاحة- سواء كانت من الألعاب، أو غيرها من البرامج الحاسوبية المفيدة علميًّا وثقافيًّا، والمناسبة لعقولهم وأعمارهم والمروحة عن نفوسهم التي تجمع بين المتعة والفائدة، حتى يجدوا عوضًا نافعًا يشغلون به أوقات فراغهم.

ففي ذلك العوض الصالح، ولا أقول البديل عن الفساد؛ بل الأصل الذي ينبغي أن نشغل به الذرية ونربيهم عليه، وكذلك اصطحابهم للجمع والجماعات ومجالس الذكر وحلق العلم، فلهذا خلقنا جميعًا، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].

‌أولاً-التنشئة على العقيدة:

ومما يجب على المربي العناية به في عملية التربية مبكرًا تنشئة الأولاد على مستلزمات العقيدة (منذ الصغر)، فالعقيدة الإسلامية من ثوابت الدين، وهي أسس التربية الإسلامية، ولعل من أهم وأبرز لوازم التربية على الإيمان منذ الصغر ما يُجمل في الفقرات التالية:

‌أ- الإيمان بالله تعالى:

يرتكز إعداد الولد تربويًّا منذ الصغر على أُسُسٍ يأتي في طليعتها تربيته إيمانيًّا، وتدريبه على معرفة خالقه، والإيمان به، فإنَّ هذا الإيمان هو الدافع له للخير والصارف له عن الشرِّ، فهو الموجِّهُ للسلوك والضابطُ له، وارتباطه وثيق الصلة بالأعمال؛ ذلك لأنَّ الله تعالى جعل العمل مِعْيَارًا حقيقيًّا لصِدق الإيمان، وذمَّ الذين يُجرِّدون العمل عن الإيمان، فقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي

ص: 212

قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، وقال عز وجل:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3]، فالإيمان الحقُّ هو الذي يصدر عنه السلوك الحميد، وينبع منه العمل الصالح، ويخرج منه الخُلُق الكريم ويُظهره، فأولى الأولويات في إعداد الولد -إذن- تعليمه معاني الإيمان الصحيحة، ومقاصدها السامية، وإفهامه لحقائقها، وما تحمله من السعادة الأبدية له، إفهام علمٍ وإدراكٍ منذ الصغر

(1)

.

‌ب- العمل الصالح:

فمن أصول أهل السنة والجماعة أن العمل الصالح يدخل في مسمى الإيمان فلا بد مع الإيمان من العمل الصالح، وعليه فالإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وعلى هذا المفهوم ينبغي أن تكون تربية الأبناء وتنشئتهم، توخيًا لمنهج السلف في الاعتقاد، ووقاية من الانحراف العقدي.

وتأمل قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]، وقوله سبحانه وتعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19].

ومن أسس التربية الإيمانية التي ينبغي أن تقوم عليها تنشئة الأولاد منذ الصغر، تعميق الوعي بمفاهيم الإيمان وشموليته، ومن ذلك:

* أن الإيمان كما يشمل العمل الصالح على نحو ما سبق تقريره، فإن العمل الصالح يشمل العبادات كما يشمل المعاملات، أما العبادات فكما في قوله تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]، وأما المعاملات فكما

(1)

مقال بعنوان: تربية الأولاد وأسس تأهيلهم- للشيخ محمد علي فركوس- من موقعه الرسمي- بتاريخ- (3/ 4/ 1427 هـ).

ص: 213

في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال:«إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار»

(1)

.

وإن تربية الناشئة على هذا يجعلهم أعضاء صالحين في المجتمع يكثر خيرهم ويقل شرهم ويعم النفع بهم.

‌ج- حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم

-:

يجب أن يُربى الولد منذ نعومة أظفاره على حب الله سبحانه وتعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، كي يكون قوي الإيمان صلب الإرادة لا يتزعزع في الفتن ولا يضطرب إبان المحن، وحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم الحب الحقيقي يقتضي الاستمساك بالدين، بالإخلاص لله تعالى والاتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم وهما شرطا قبول العمل والعاصم بإذن الله من الزلل، قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

والاتباع هو اقتفاء هدي القرآن والاقتداء بسيد الأنام صلى الله عليه وسلم والحذر من الابتداع في الدين، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من

(1)

رواه مسلم في كتاب البر والصلة (2581)، واللفظ له، والترمذي في كتاب صفة القيامة (2342)، وأحمد في مسند المكثرين (7686).

ص: 214

أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»

(1)

.

قال ابن حجر: «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه»

(2)

.

‌د- حب السلف الصالح:

وهو من مقتضيات الإيمان، ومحبة السلف من محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا سيما الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين شرفهم الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولقد زكاهم الله تعالى حيث قال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ

(1)

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الصلح (2697)، ومسلم في كتاب الأقضية (1718).

(2)

الفتح (5/ 302).

ص: 215

تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].

وقال سبحانه في صفاتهم الحميدة وخصالهم الفريدة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29].

وكما مدح الله تبارك وتعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فقد مدح الخلف الذين اتبعوهم بإحسان فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].

وإن تربية الولد على حب السلف رضوان الله عليهم جميعًا، لمن واجبات الآباء نحو الأبناء.

‌هـ - التوسط والاعتدال:

وهو من مستلزمات العقيدة، إذ الإسلام دين الوسطية كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143](وسطًا): أي: عدولًا خيارًا.

ولئن كان الشرع قد نهى عن التشدد في الدين والغلو فيه كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون قَالَهَا ثَلَاثًا»

(1)

، والمسلم المقصر في أمور دينه لا يخرج عن مسمى الإيمان ما لم يأت بما يناقض أصل الإسلام، فلا يكفر بكبيرة، ولا يفسق أو يبدع إلا ببينة وتثبت، وبالطرق المشروعة، فالتدين المشوب بالغلو لا ينتج إلا التطرف والخروج عن منهج الإسلام بتأويلات فاسدة، ومبالغات ممجوجة، وكذلك التهاون والتخاذل لا ينهض مَنْ بُلِيَ به بعزائم الأمور.

‌و- الولاء والبراء:

المؤمن يوالي ويعادي لله تعالى وفي الله، وعلى هذا المبدأ ينبغي أن تكون تربية الولد.

والدين الحنيف يجعل رابطة الدين مقدمة على رابطة الدم والنسب

(1)

رواه مسلم في كتاب العلم الحديث (2670)، وأبو داود في كتاب السنة حديث (4608)، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة حديث (رقم: 3473).

ص: 216

والمصالح، وحتى العلاقات بين الآباء والأبناء ليست ترتقي إلى مستوى الرابطة الدينية.

ولنتأمل ذلك في النصوص التالية:

* في قصة نبي الله نوح عليه السلام لما دعا ابنه وقد أشرف على الغرق ناداه كما قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)} [هود: 42]، فلما لم يستمع إلى الأب الشفيق وآثر الكفر على الإيمان وكان من المغرقين نادى نوح ربه:{فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} [هود: 45 - 46]، فولاية الإيمان فوق كل ولاية.

ذكر الإمام الطبري بسنده عن سعيد بن جبير أنه جاء إليه رجل فسأله فقال: أرأيت ابن نوح ابنه؟! فسبح طويلًا ثم قال: لا إله إلا الله، يحدث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم:{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] وتقول ليس منه؟! ولكن خالفه في العمل فليس منه من لم يؤمن.

* قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1].

ففي هذه الآية أن ولاية الكفار لا تجوز، لأن المودة إذا حصلت تبعتها النصرة والموالاة فخرج العبد من الإيمان وصار من جملة أهل الكفران.

ص: 217

كما يقول ابن سعدي:

(1)

فليست العقيدة إيمانًا يقر في القلب فحسب؛ بل وعملًا يصدق ما وقر في القلب، ويكون أمارة عليه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ، وفي رواية «والحياء شعبة من الإيمان»

(2)

.

معالم تربية الأولاد على عقيدة التوحيد:

وتواصل الدراسة التأكيد على أهمية التربية والتنشئة للأولاد منذ الصغر على عقيدة التوحيد، فتُورد فيما يلي أهم معالم «تربية الأولاد على عقيدة التوحيد» مع ضرب الأمثلة من الكتاب والسنة على ذلك، فيقول الباحث مستعينًا بالله تعالى فمنه التوفيق ومنه التسديد:

أ- الاجتهاد في الدعاء بطلب الذرية وبصلاحها: وهذا منهج النبيين عليهم السلام، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعو ربه {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات: 100].

وفي وصف دعاءٍ له يقول الله تعالى عنه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم: 35].

(1)

تفسير الطبري (12/ 52) آل نواب- عبد الرب نواب الدين.

(2)

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الإيمان حديث (رقم: 9)، ومسلم في كتاب الإيمان حديث (رقم: 35). آل نواب- عبد الرب نواب الدين- مسؤولية الآباء تجاه الأبناء - ط -وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد- المملكة العربية السعودية (1423 هـ)(ص 113) وما بعدها.

ص: 218

ومن دعائه عليه السلام أيضًا: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

ومن دعائه وولده إسماعيل عليه السلام أيضًا: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].

وهذا زكريا عليه السلام يبتهل إلى الله تعالى ويقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].

وقبل ذلك كله عن الأبوين عليه السلام أنهما قالا: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)} [الأعراف: 189].

وهو مطلب عباد الرحمن عمومًا يصف ربنا دعاءهم فيقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74].

ودعاء الوالدين من جملة الأسباب التي يؤمر بها المسلم لطلب صلاح الأولاد.

ب- تلقين الولد مبادئ التوحيد إذا بلغ سن التمييز، ويكون ذلك بتدريبه على نطق الشهادتين، وإفهامه معناهما بحسب مداركه العقلية وقدراته الفكرية، ويبصر بالأصول الثلاثة وهي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب الملائم إلى عقله ونفسه، وتكرار ذلك بغير إملال، كي ينطبع ذلك في فؤاده وينغرس في قلبه الغض فيشب سليم الفطرة قويم العقيدة.

ج- العمل التربوي الدائب في تعليم الولد وتلقينه وتبصيره بتوحيد الله تعالى، بمختلف الوسائل والأساليب المشروعة.

ص: 219

ففي أول وصايا لقمان عليه السلام لابنه وهو يعظه يقول تعالى: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فكان أول ما وعظه به، أن نهاه عن الشرك المنافي للتوحيد وحذره منه، لأنه محبط للعمل، وموجب للخلود في النار والعياذ بالله.

وهكذا فإن تربية الأولاد على الإيمان بالله تعالى وعلى إفراده جل وعز بالعبادة دأب المرسلين، وإلى ذلك دعوا أممهم وأقوامهم وعليه ربوا أولادهم وأهليهم ومن أجل نشره بين الناس جاهدوا وصبروا وصابروا حتى الرمق الأخير، ونهج الأنبياء عليهم السلام هو النهج القويم والصراط المستقيم.

* ومن السنة النبوية المطهرة، ما دأب عليه النبي صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء الذين سبقوه، من الدعوة إلى عبادة الله وحده وترك كافة صور وأشكال الشرك وأسبابه، وكان صلوات الله وسلامه عليه يدعو قومه إلى التوحيد، رجالهم ونساءهم وصغارهم وكبارهم.

ومن الأمثلة على تربية الأولاد على مبدأ التوحيد حديث معاذ رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاذ» قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثًا:«هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟» قلت: لا. قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» . ثم سار ساعة فقال: «يا معاذ» قلت: لبيك وسعديك، قال:«هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟: أن لا يعذبهم»

(1)

.

(1)

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الاستئذان (6261) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان (30).

ص: 220

ومثال آخر يتبين من خلاله كيف كان صلوات الله وسلامه عليه يغرس التوحيد ولوازمه في عقول وقلوب الناشئة، ويربيهم عليه، ويتعهدهم به.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلَّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلَّا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»

(1)

.

هذا، ومن لوازم توحيد الألوهية وهو (توحيد العبادة) مما ينبغي للآباء والمربين غرسه في قلوب الناشئة:

* تجنب كل ما ينافيه من الأعمال الشركية كالحلف بغير الله، والاستعانة والاستغاثة بغير الله، والذبح والنذر والتوكل وطلب المدد واعتقاد أن غير الله يتصرف في الكون كائنًا من كان ملكًا مقربًا أو نبيًّا مرسلًا أو وليًّا صالحًا، وكل ما هو من خصائص الألوهية مما يدخل في مسمى العبادة لا يُصرف إلا لله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا ربّ سواه، ولا معبود بحق إلا هو، بيده ملكوت كل شيء وهو الواحد القهار.

‌ثانيًا- تربيتهم على الأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية:

إن من أهم الجوانب التي يجب أن يُولِيها الأبوان الرعاية والعناية والاهتمام، جانب تربية الأبناء منذ الصغر على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات عمليًّا.

(1)

رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة حديث (2516)، وأحمد في مسند بني هاشم حديث (رقم: 2537).

ص: 221

ذلك لأن الأخلاق الكريمة من لُبِّ الإسلام وجوهره؛ ومن كمال دعوة الإسلام أنه يدعو لصالح الأخلاق، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثت لأُتَمِّم صالح الأخلاق»

(1)

.

وتأسيس الأصول الخُلُقية والعقدية والاجتماعية في نفوسهم، كخشية الله ومرقبته وتقواه، وقد ذكر الله وصية لقمان لابنه وهو يرسخ مراقبة الله في سويداء قلبه في أول تنشئته، قال تعالى:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16].

- قال ابن كثير: «{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي: لطيف العلم، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت، خبير بدبيب النمل في الليل البهيم

(2)

.

وكذلك يربيهم على الشجاعة والرجولة وصدق الحديث وأداء الأمانة، وإجلال ذي الشيبة المسلم واحترام وتوقير الكبير عمومًا، وحب العلم وتوقير أهله وتبجيل المعلمين وإجلال حملة القرآن والدعاة إلى الله ودينه، وطاعة الولاة في المعروف لأن طاعتهم في المعروف من طاعة الله ورسوله، وهو من دأب السلف الصالح ونهجهم، ويربيهم عمليًّا على الإيثار والمروءة وبذل المعروف والإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين، ورحمة الضعفاء، وإغاثة الملهوفين، وإعانة المحتاجين، ورحمة الصغار وإكرام الضيفان والإحسان إلى

(1)

رواه الإمام أحمد في مسند المكثرين، حديث (رقم: 8595)، والألباني في صحيح الجامع (2349)، وصحيح الأدب المفرد (207)، والسلسلة الصحيحة (45).

(2)

تفسير ابن كثير (ص 339)، وينظر: نواب الدين -مرجع سابق- (ص 167) بتصرف، (169) بتصرف-أيضًا.

ص: 222

الأقارب وذوي الأرحام والجيران، ومعاشرة عموم الخلق بالمعروف والإحسان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والصبر على المكاره، كما وصى لقمان ولده بذلك، قال تعالى:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17]، كما ينبغي أن يحرص الأبوان على تعليم الأبناء هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه كله ولا سيما هديه صلى الله عليه وسلم في الأدعية المأثورة والأذكار الموظفة، كأذكار طرفي النهار (أذكار الصباح والمساء) في وقتها، والأذكار الواردة في السنة، كل ذكر في وقته، وفي هذا حفظ لهم وتعويذ من الشيطان وحزبه، ويحبذ الاستعانة بأحد الكتب المعتمدة والمحققة والتي تعتمد الثابت والوارد في السنة من الأدعية والأذكار، وهي متوافرة بكثرة ولله الحمد.

وبالمقابل ينبغي تحذيره منذ الصغر من الصفات السيئة كالكذب والسِّباب، والشتائم والسرقة، والتشبه بالكفار، والتشبه بالنساء، والميوعة والانحلال، والاختلاط الآثم، والتدخين والمسكرات والمخدرات، والأضرار الناجمة عنها جميعًا، وكذلك تحذيره من كل أنواع الفساد المتفشِّية في المجتمعات، وتخويفه من عواقب اقتراف المحارم وركوبها.

واختيار الرفقة الصالحة له ليكتسب منها الخُلُق الحسن، والأدب الرفيع، والعادات الفاضلة، مع مراقبته -خاصة في سِنِّ التمييز والبلوغ- من الخلطة الفاسدة ورفاق السوء، ومصاحبة الأشرار لئلَّا يكتسب منهم أقبح الأخلاق وأحطَّ العادات وأسوأ الصفات.

ومن واجبات تربية الولد منذ الصغر أيضًا: الرِّفق به، وملاطفته، ومعاملته باللِّين والرحمة والرأفة من غير شِدَّة، لا سِيَّما من الوالدين أو من يقوم مقامهما

ص: 223

كالجَدِّ والعمِّ؛ لأنَّ الشِّدة في التربية لا تولِّد إلَّا شِدَّةً في السلوك، وقد صَحَّ عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنَّه قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالحَسَنُ عَلَى عَاتِقِهِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ»

(1)

.

- قال النووي

(2)

:

(1)

أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (3749)، ومسلم في فضائل الصحابة (2422)، والترمذي في المناقب (4152)، وأحمد (19084)، والبيهقي (21602)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

(2)

النووي: (631 - 676 هـ): هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن، النووي (أو النواوي) أبو زكريا، محيي الدين. من أهل نوى من قرى حوران جنوبي دمشق. علامة في الفقه الشافعي والحديث واللغة، تعلم في دمشق وأقام بها زمنًا. من تصانيفه المجموع شرح المهذب. لم يكمله، واشتغل في شرحه الشيخ/ تقي الدين السبكي ثم توفاه الله تعالى فأكمله الشيخ نجيب المطيعي، و روضة الطالبين، و المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج.

طبقات الشافعية للسبكي (5/ 165)، والأعلام للزركلي (9/ 185)، والنجوم الزاهرة (7/ 278).

عقيدته ومنهجه:

النووي «له أغلاط في الصفات سلك فيها مسلك المؤولين وأخطأ في ذلك فلا

يقتدى به فيما أخطأ فيه؛ بل الواجب التمسك بقول أهل السنة وهو إثبات الأسماء

والصفات الواردة في الكتاب العزيز .... ».

اللجنة الدائمة فتوى برقم (4264)(3/ 221) عن النووي رحمه الله.

النووي ليس أشعريًّا صرفًا على أصولهم كلها؛ بل قد خالفهم في أصول كثيرة؛ منها:

1) دفاعه عن عقيدة السلف في أفعال العباد.

2) إثبات رؤية الله يوم القيامة.

3) دفاعه عن عقيدة السلف في حقيقة الإيمان وزيادته ونقصانه.

=

=4) كلامه عن حكم مرتكب الكبيرة.

5) وكلامه في النبوات.

6) أول واجب على المكلف رد فيه على الأشاعرة. المجموع (1/ 24 - 25)

وللاستفاضة والاستفادة، ينظر: ترجمة الحافظ ابن حجر (ص 42) وما بعدها.

ص: 224

«وفيه ملاطفة الصبيان ورحمتهم، ومماستهم»

(1)

.

والولد يحتاج من والديه أمرًا محسوسًا حتى يشعر بما يجول في قلبيهما من محبَّةٍ وعَطْفٍ ورحمةٍ، وقد يتجسَّد ذلك الإحساس في تقبيله، وحمله، ومداعبته، أو المسح على رأسه، أو وجهه، أو ضمه إلى أحضانهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ -وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ ابْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ

(2)

جَالِسًا- فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ:«مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»

(3)

.

وقد صَحَّ -أيضًا- أَنَّه جاء أعرابي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم:«أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»

(4)

.

(1)

شرح صحيح مسلم للنووي (15/ 194).

(2)

الأقرع بن حابس التميمي المجاشعي، أحد المؤلفة قلوبهم وأحد الأشراف، أقطعه أبو بكرٍ له ولعيينة بن حصن، فعطل عليهما عمر ومحا الكتاب الذي كتب لهما أبو بكر، وكانا من كبار قومهما، وشهد الأقرع مع خالد حرب أهل العراق وكان على المقدمة.

سير أعلام النبلاء (ص: 137/ 28).

(3)

أخرجه البخاري في الأدب (5997)، ومسلم في الفضائل (6170)، وأبو داود في الأدب (5220)، والترمذي في البر والصلة (2035)، وأحمد (7491)، والحميدي في مسنده (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري في الأدب (5998) من حديث عائشة رضي الله عنها.

=

= ومعنى العبارة: «أي: لا أملك» ، أي: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه. فتح الباري لابن حجر (10/ 430).

ص: 225

وتقريرًا لهذا المعنى فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا»

(1)

.

ومن مظاهر الإحساس للولد بما في قلبي والديه من عناية وشفقةٍ ومحبَّةٍ: مدحه والثناء عليه إذا أحسن وقام بالمطلوب وحقق المرغوب، وبالمقابل تنبيهه إذا أساء أو أخطأ في أداء المطلوب ولم يحقق المرغوب، ثمَّ يعلمه العادة الصالحة والصفة الحسنة التي يفتقدها، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب التربوي في حديث عُمَرَ بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كُنْتُ غُلَامًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»

(2)

.

- قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: «ومما يحتاج إليه الطفل غايةَ الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلقه؛ فإنه ينشَأ على ما عوَّده المربي في صغره من حَرَدٍ

(3)

وغضَبٍ ولَجاجٍ،

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6003)، وأحمد (22491)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري في الأطعمة (5376)، ومسلم في الأشربة (5388)، وأبو داود في الأطعمة (3779)، والترمذي في الأطعمة (1976)، وابن ماجه في الأطعمة (3391)، وأحمد (16769)، من حديث عُمَرَ بن أبي سلمة رضي الله عنه. تربية الأولاد وأسس تأهيلهم- الشيخ محمد علي فركوس-موقعه الرسمي-بتصرف.

(3)

الحرَد: سرعة الغيظ، قال في المعجم الوسيط (1/ 165): حَرِد: اغتاظَ، فتحرَّش بالذي غاظَه وهَمَّ به.

ص: 226

وعجَلة وخِفةٍ مع هواه، وطيشٍ وحِدَّة وجَشعٍ، فيصعُب عليه في كِبَره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفاتٍ وهيئاتٍ راسخةً له، فلو تحرَّز منها غاية التحرُّز، فضَحته ولا بدَّ يومًا ما؛ ولهذا تجد الكثير من الناس مُنحرفة أخلاقُهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشأوا عليها، وكذلك يجب أن يتجنَّب الصبي -إذا عقَل- مجالسَ اللهو والباطل، والغناء وسماع الفُحش والبدع، ومنطق السوء، فإذا علِق بسمعه، عَسِر عليه مفارقته في الكِبَر، وعزَّ على وليِّه استنقاذُه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور، يحتاج صاحبها إلى استجداد طبيعة ثانية، والخروج على حُكم الطبيعة المعتادة عَسِرٌ جدًّا.

وينبغي لوليِّه أن يُجنِّبه الأخذ من غيره غاية التجنُّب، فإنه متى اعتاد الأخذ، صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطي، ويُعوِّده البذل والإعطاء، وإذا أراد الوليُّ أن يعطي أحدًا شيئًا، أعطاه إيَّاه على يده ليَذوق حلاوة الإعطاء!

ويُجنِّبه الكذب والخيانة أعظم مما يُجنِّبه السُّمَّ الناقع؛ فإنه متى سهَّلَ له سبيلَ الكذب والخيانة، أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة، وحرَمه كلَّ خيرٍ.

ويُجنِّبه الكسل والبطالة، والدَّعة والراحة؛ بل يأخذه بأضدادها، ولا يُريحه إلا مما يُجِمُّ نفسه وبدنه للشغل؛ فإن للكسل والبطالة عواقبَ سوءٍ ومَغبَّة ندمٍ، وللجد والتعب عواقب حميدة؛ إما في الدنيا، وإما في العُقبى، وإما فيهما، فأروحُ الناس أتعبُ الناس، وأتعبُ الناس أروح الناس؛ فالسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى، لا يُوصَل إليهما إلا على جِسرٍ من التعب، ويُعوِّده الانتباه آخر الليل؛ فإنه وقت قَسْم الغنائم وتفريق الجوائز، فمستقلٌّ، ومستكثر، ومحروم، فمتى اعتاد ذلك صغيرًا، سهُل عليه كبيرًا»

(1)

.

(1)

تحفة المودود (ص 146).

ص: 227

وقال: «ويُجنِّبه فضول الطعام والكلام، والمنام ومخالطة الأنام، فإن الخسارة في هذه الفضلات تُفوِّتُ على العبد خير دنياه وآخرته، ويُجنبه مضارَّ الشهوات المتعلقة بالبطن والفرْج غاية التجنُّب، فإن تمكينه من أسبابها والفَسْح له فيها، يُفسده فسادًا يَعِزُّ عليه بعده صلاحُه، وكم ممن أشقى ولدَه وفِلذة كبده في الدنيا والآخرة، بإهماله وترْك تأديبه، وإعانته له على شهواته، ويزعُم أنه يُكرمه وقد أهانَه، وأنه يَرحَمه وقد ظلَمه! ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفسادَ في الأولاد، رأيت عامَّته من قِبَل الآباء» .

‌ثالثًا- إلزام الأولاد أداء العبادات المفروضة والمسنونة بدءًا بأركان الإسلام:

وتؤكد الدراسة على أهمية عناية الإسلام بالتبكير في العملية التربوية وتبين أهمية العناية بالجانب التعبدي ومكانته في الإسلام، وما ينبغي وما يجب على المربي تجاه الأبناء في شأن هذا الجانب العظيم مبكرًا، فالإسلام دين الله الخالد الذي لا يَقبل دينًا غيره، وهو في مفهومه الأشمل يتضمَّن الإيمان والعمل، العقيدة والشريعة، الأخلاق والمعاملات، وأحكامه كما بيَّنها العلماء متنوعةٌ بين الوجوب والاستحباب في جانب الطاعات، وبين التحريم والكراهة في جانب المَنهيات.

والأبوان من حيث ولايتُهما على الأولاد دون سن البلوغ -لا سيما الأب باعتبار قوامته على مَن في البيت- من واجباتهما الشرعية: إلزامُ الأولاد بالعبادات؛ تعويدًا وتعليمًا، ترغيبًا وترهيبًا، وتربيةً وتقويمًا، تعاونًا وتعاضُدًا، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، أداءً للأمانة وقيامًا بالواجب.

وهنا تفرد الدراسة الحديث عن واجب الآباء في هذا المضمار من حيث

ص: 228

(الإلزام)، وتبين ما أعطاه الإسلام للآباء من مُقومات الإلزام من منطلق الولاية والرعاية التي يتحمَّلونها تُجاه الأولاد؛ فالأولاد أمانة في أعناق الوالدين، والأمانة حقُّها الأداء لا الإضاعة!

ومن الأداء للأمانة: إلزامُ الولد بأداء فرائض الدين، وأداء الحقوق لأهلها؛ تربية وتقويمًا، وتعليمًا وتهذيبًا، يتبيَّن ذلك من خلال النصوص الآتية:

* قول الباري جل ذكره: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

* وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)} [مريم: 54، 55].

* وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

وليتأمل الآباء عظم شأن هذا الحديث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع»

(1)

.

يؤخَذ من هذه النصوص وأمثالها في مضمار إلزامِ الأولاد أداءَ العبادات:

أ- أن المسلم يَحرص على ألا يَفوتَه الخيرُ والفضيلة، مما يُعَدُّ من الفروض التي لا يَصِح التفريط فيها، ولا التكاسُل عنها؛ فهو يحافظ على شعائر الدين

(1)

رواه أبو داود (495)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5868)، وقد سبق تخريجه مفصلًا.

ص: 229

في نفسه وولده، ومَن تحت رعايته وولايته، وأن المسلم يُلزِم أولادَه ذكورًا وإناثًا

-كل بحسبه- بالعبادات، لا سيما أصولها، وهي: الصلاة والصيام، كما يعلمهم القرآن.

ب- أن الغلام والجارية يُؤدَّبان على الصلاة والطهارة إذا تمَّت لهما عشر سنوات.

قال ابن قدامة:

يجب على وَليِّ الصبي أن يُعلِّمَه الطهارة إذا بلغ سبع سنين، ويأمُره بها ويؤدِّبه عليها إذا بلغ عشر سنين، والأصل في ذلك حديث سَبْرة الجُهَني عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«علِّموا الصَّبِيَّ الصلاة ابن سبع سنين، واضْرِبوه عليها ابن عشرٍ»

(1)

.

وسِنُّ الإلزام هو سن العاشرة؛ إذ يَبتَدِئ بتعليمه الصلاةَ وغيرها من العبادات في سن السابعة، ويؤدِّبه عليها في سن العاشرة؛ قال ابن القيِّم رحمه الله: فإذا صار ابن عشرٍ، ازداد قوة وعقلًا واحتمالًا للعبادات، فيُضرَب على ترْك الصلاة؛ كما أمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهذا ضربُ تأديبٍ وتمرينٍ، وعند بلوغ العاشرة يتجدَّد له حال أخرى، يقوى فيها تمييزُه ومعرفتُه؛ ولذلك ذهب كثيرٌ من الفقهاء إلى وجوب الإيمان عليه في هذه الحال، وأنه يعاقَب على ترْكه، وهذا اختيار أبي الخطاب وغيره، وهو قول قوي جدًّا، وإن رُفِع عنه قلمُ التكليف بالفروع، فإنه قد أُعطي

(1)

رواه أبو داود في كتاب الصلاة (494)، والترمذي في كتاب الصلاة (407) واللفظ له، وقال: حسنٌ صحيح، وأحمد في مسند المكثرين، حديث (6467)، والدارمي في كتاب الصلاة، حديث (رقم: 1395)، واللفظ للترمذي والدارمي.

ص: 230

آلةَ معرفة الصانع والإقرار بتوحيده، وصِدق رُسله، وتمكَّن من نظر مثله واستدلاله، كما هو متمكِّن من فَهم العلوم والصنائع، ومصالح دنياه، فلا عُذر له في الكفر بالله ورسوله، مع أن أدلة الإيمان بالله ورسوله أظهرُ من كلِّ علمٍ وصناعة يتعلَّمها

(1)

.

وإذا بلغ الفتى أو الفتاة سنَّ الخامسة عشْرة، أو قريبًا منها، أو ظهرت عليهما أمَارات البلوغ - فقد بلَغا مبلغ المكلفين من الرجال والنساء، وصار إلزامهما بالفرائض آكَد، وجَرت عليهما أحكام البالغين الراشدين.

وقد بُسِطَ البيانُ في هذا البحث لأهميته ومكانته ولعظم شأنه وخطورة ما يترتب على إهماله أو التقصير في جانبه

(2)

.

وينبغي على المؤدب أن يكون رحيمًا حليمًا سهلًا قريبًا هينًا لينًا غير فاحش ولا متفحش، يجادل بالتي هي أحسن بعيدًا كل البعد عن القبح والشتائم والتوبيخ والضرب، إلا أن يكون الولد ممن نشز عن الطاعة واستعلى على أمر أبيه وترك المأمور وقارف المحظور، فعندئذٍ يفضَّل أن يستعمل معه الشدة من غير غلظة ولا ضرر:

قال المناوي

(3)

: «لأن يؤدب الرجل ولده عندما يبلغ من السن والعقل مبلغًا

(1)

تحفة المودود (ص 187) آل نواب-مرجع سابق- (ص 169 - 172).

(2)

وينظر: نواب الدين- مرجع سابق- (169) ومابعدها، بتصرف.

(3)

المناوي: هو عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن نورالدين علي بن زين العابدين الحدادي المناوي القاهري الشافعي (زين الدين) ولد سنة: (952 هـ) وتوفي سنة: (1031 هـ). من كبار العلماء بالدين والفنون، له أكثر من مائة مصنف، منها الكبير والصغير والتام والناقص. من كتبه: فيض القدير، كنوز الحقائق، شرح الشمائل= =للترمذي، شرح التحرير في الفقه، إعلام الحاضر والبادي، مخطوط في مكتبة الشيخ عارف حكمت بالمدينة النبوية، برقم (3758). وهذه الترجمة منقولة من خلاصة الأثر (2/ 193)، البدر الطالع (1/ 357).

ص: 231

يحتمل ذلك بأن ينشئه على أخلاق صلحاء المؤمنين، ويصونه عن مخالطة المفسدين، ويعلمه القرآن والأدب ولسان العرب، ويسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام الدين ما لا غنى عنه، ويهدده ثم يضربه على نحو الصلاة وغير ذلك: خير له من أن يتصدق بصاع؛ لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها، وهذا يدوم بدوام الولد، والأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة، كما أمرنا سبحانه وتعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. فوقايتك نفسك وولدك منها أن تعظها وتزجرها بورودها النار وتقيم أودهم بأنواع التأديب، فمن الأدب الموعظة والوعيد والتهديد والضرب والحبس والعطية والنوال والبر، فتأديب النفس الزكية الكريمة غير تأديب النفس الكريهة اللئيمة»

(1)

.

‌ومن هذا المنطلق تبين الدراسة صفة التعامل مع الأبناء حال التمرد والعصيان:

‌أولًا-الابن الصغير:

أما الصغير: فيأخذه بالحزم والشِّدة إذا لم يُجْدِ معه اللين والرِّفق والتلطف والنصح والتوجيه والمعاملة بالتي هي أحسن، ويكون ذلك باللوم والعتاب والتوبيخ وبإظهار عدم الرضا عن سيئ فعاله، بتقطيب الوجه أمامه أحيانًا، ومخاطبته بلهجة ونبرة صوت مختلفة عن حال الرضا، والإعراض عنه أحيانًا،

(1)

فيض القدير (5/ 257).

ص: 232

تلك هي مظاهر الشدة مع الصغير، وقد تصل إلى ضربه أحيانًا ضربًا غير مُبَرِّحٍ إذا بلغ سنًّا كمل فيها تمييزه وتحمله وهي سن عشر سنين.

‌ثانيًا- الابن الكبير:

أمَّا طريقة التعامل في استصلاح الكبير فتختلف تمامًا عن طريقة الصغير في إصلاحه وتأديبه، فالكبير إن كان أسلوب الإقناع والمجادلة بالحسنى والوعظ والتوجيه والإرشاد والمصاحبة لا يثمر ولا يجدي معه، ولا يؤثر فيه ولا يغيره، لجأ الوالد معه إلى الهجران، إنْ ظل الولد مُصِرًّا على ما هو عليه من التعنت وسلوك سبيل الأشرار، سبيل أهل الغي والضلالة سبيل الفجار، مجتنبًا سبيل أهل الخير والاستقامة والهدى، سبيل عباد الله الأبرار، قال النووي رحمه الله:«الهجر: الترك والإعراض»

(1)

. اهـ.

‌مشروعية التأديب بالهجر:

دل على مشروعية هذا النوع من التأديب، الكتاب، والسنة، وعمل الصحابة رضي الله عنهم، والمعنى الصحيح:

‌أولًا: دليل الكتاب على مشروعية التأديب بالهجر:

قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34].

وجه الاستدلال من الآية: أن الله عز وجل ذكر الهجر ضمن العقوبات التأديبية التي تعاقب بها الزوجة الناشز، حيث أباح عز وجل للزوج أن يعاقب زوجته بالهجر إذا لم يُفِدْ معها الوعظ، متى أقدمت على مخالفته وعدم طاعته.

(1)

تحرير ألفاظ التنبيه للنووي (ص 259).

ص: 233

وإذا كان الأمر كذلك، كان في الآية دلالة على مشروعية التأديب بالهجر المفيد للاستصلاح والتهذيب.

‌ثانيًا: دليل السنة على مشروعية التأديب بالهجر:

1 -

ما ورد في قصة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك

(1)

، حيث هجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.

يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وهو راوي القصة-: « .. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة من بين مَن تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكَّرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدهم، فكنت أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد .. »

(2)

.

(1)

منطقة تبوك: هي واحدة من مناطق السعودية وتقع المنطقة في شمال غرب المملكة العربية السعودية، وتحدها الأردن من الشمال، ومن الشرق منطقة جوف ومنطقة حائل، ومن الجنوب منطقة المدينة المنورة، ومن الغرب خليج العقبة والبحر الأحمر (ينظر: مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات)، وتقع مدينة تبوك تحديدًا على بعد مائة كيلو متر شمال المدينة المنورة وعن محافظة خيبر خمس مائة كيلو متر. ومدينة تبوك مقر إمارة منطقة تبوك، وكبري مدن شمال السعودية، وحولها بعض من أهم الآثار في الجزيرة العربية وتعد منطقة تبوك البوابة الشمالية للجزيرة العربية، وطريًقا حيويًّا للتجارة والحجاج والمعتمرين من خارج الجزيرة العربية وهي من المناطق الزراعية الحيوية في المملكة، وينظر: الموسوعة الحرة.

(2)

هذا لفظ البخاري. في كتاب المغازي. باب حديث كعب بن مالك (برقم: 4418).

ص: 234

وجه الاستدلال من هذه القصة على مشروعية التأديب بالهجر:

أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم هجروا هؤلاء النفر الثلاثة، وقاطعوهم مدة خمسين ليلة حتى نزلت توبتهم من السماء؛ لأجل أنهم خافوا منهم النفاق

(1)

.

فدل ذلك على جواز هذا النوع من التأديب.

قال ابن عبد البر رحمه الله: «وفي حديث كعب هذا، دليل على أنه جائز أن يهجر المرء أخاه، إذا بدت منه بدعة أو فاحشة، يرجو أن يكون هجرانه تأديبًا له، وزجرًا عنها»

(2)

. اهـ.

والعلة نفسها تتحقق في محل ولاية التأديب الخاصة، فيجوز للأب والزوج والمعلم والسيد، أن يهجروا من يؤدبونهم زجرًا لهم وإصلاحًا كالتعزير في الولاية العامة.

2 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطَّلَعَ على أحدٍ من أهل بيته كذب كذبةً، لم يزل مُعْرِضًا عنه حتى يُحدث لله توبة»

(3)

.

(1)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 269).

(2)

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (6/ 118) ت: سعيد أحمد أعراب وآخرين (ط بدون)، وجوَّد هذا المعنى الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة للشافعي ص (446)، (دار الفكر، ط بدون)، وينظر: تنوير الحوالك للسيوطي (2/ 213)، (مصر: مصطفى البابي الحلبي، ط بدون، 1370 هـ).

(3)

رواه الإمام أحمد في مسنده (6/ 152)، وأبو جعفر محمد العقيلي في كتابه الضعفاء الكبير (1/ 9)، ت: د/ عبدالمعطي أمين قلعجي، (بيروت: دار الكتب العلمية - ط 1، 1404 هـ - 1984 م)، واللفظ له، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: كتاب العلم، باب في ذم الكذب (1/ 147)، وقال:«رواه البزار وأحمد بنحوه» . اهـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (برقم: 4675)، وينظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (برقم: 2052).

ص: 235

‌ثالثًا - دليل التأديب بالهجر من عمل الصحابة رضي الله عنهم

-:

1 -

ومن ذلك: «أن أبا سعيد الخدري

(1)

رضي الله عنه لقي رجلًا، فأخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فذكر الرجل خبرًا يخالفه، فقال أبو سعيد: والله لا آواني وإياك سقف بيت أبدًا»

(2)

.

ففي هذا الفعل من أبي سعيد رضي الله عنه دليل على «مجانبة من ابتدع وهجرته، وقطع الكلام معه»

(3)

.

2 -

وعن سعيد بن جبير رحمه الله أن قريبًا لعبد الله بن مغَفَّل رضي الله عنه خَذَفَ

(4)

، قال فنهاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخَذْف، وقال:«إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكأُ عدوًا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» ، قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذِف، لا أكلمك أبدًا

(5)

.

(1)

أبو سعيد الخدري (74 هـ)، هو: سعيد بن مالك بن سنان، أنصاري، مدني، من صغار الصحابة وخيارهم. كان من المكثرين للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيهًا مجتهدًا مفتيًا، ممن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تأخذهم في الله لومة لائم. شهد معه الخندق وما بعدها. الإصابة للحافظ ابن حجر (2/ 34)، وسير أعلام النبلاء (3/ 114 ـ 117)، والبداية والنهاية (9/ 4).

(2)

الرسالة للشافعي، ف (1230)، ت: أحمد شاكر؛ حيث ذكر الشافعي هذا الأثر دون سند، فقال: «وأُخْبرْنا

».

(3)

التمهيد لابن عبد البر (4/ 87).

(4)

هو: رميك حصاة أو نواةً تأخذها بين سبابتيك وترمي بها، أو تتخذ مِخذفة من خشب ثم ترمي بها الحصاة بين إبهامك والسبابة. النهاية في غريب الحديث، مادة:«خذف» (2/ 16).

(5)

رواه مسلم في صحيحه: كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو وكراهة الخذف (برقم: 1954).

ص: 236

‌هجر الولد والتلميذ:

إذا رأى الولي أو المعلم عدم جدوى نفع تأديب الولد بوسيلتي الوعظ والتوبيخ، فإنه يحق له -حينئذٍ- هجر الصبي بالإعراض عنه، وعدم الكلام معه، إذا ظن أن الهجر يصلحه.

فمن الصبيان من يتأثر بإعراض الولي أو المعلم عنه تأثرًا بالغًا

(1)

أكثر من تأثره بالتوبيخ والتعنيف، وذلك حينما يرى والده أو معلمه يبش في وجه إخوته ويعبس في وجهه، ويخاطب زملاءه ويعرض عنه، فيكون ذلك رادعًا له عن الاستمرار في الخطأ.

- قال ابن جماعة

(2)

رحمه الله في شأن تأديب الصبي المتعلم: «فإن لم ينته

(1)

ينظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (2/ 604).

(2)

هو: الشيخ الإمام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني نسبًا، الحموي مولدًا، الشافعي مذهبًا. مولده: ولد بحماة سنة (639 هـ) شيوخه: كثيرون وقد بلغ عددهم في مشيخته التي خرّجها البرزالي أربعًا وسبعين شيخًا منهم امرأة واحدة.

عقيدته: قال الإمام الذهبي في ترجمته لبدر الدين بن جماعة: «وهو أشعري فاضل» . قلت: قد ألف بدر الدين بن جماعة بعض الكتب على مذهب الأشاعرة ومنها كتابه «إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل» ذكر فيه ثلاثين آية من الآيات الواردة في الصفات وأوّلها على مذهب الأشاعرة. كما ذكر أيضًا ثلاثين حديثًا صحيحًا من الأحاديث الواردة في الصفات وأوّلها على مذهب الأشاعرة خلافًا لما عليه أهل الحق (السلف الصالح أهل السنة والجماعة). ومن الصفات التي أوّلها: الاستواء، والعلو، والنزول، والوجه، واليد، والعين، والساق، والغضب، والرضا، والفرح، والمحبة، والضحك، والتعجب، وغير ذلك. وفاته: توفي رحمه الله سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وله أربع وتسعون سنة وشهرًا.

=

= ينظر: البداية والنهاية (14/ 163)، وذيل تذكرة الحفاظ (107)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبه (2/ 280).

وينظر: بدر الدين بن جماعة بتخريج علم الدين البرزالي (1/ 40)، ومعجم الشيوخ للذهبي (2/ 130)، وينظر: الشذرات لابن العماد (6/ 105)، وإيضاح الدليل (ص 103، 117، 124، 127) وغيرهما.

ص: 237

-أي: بعد وعظه وتوبيخه- فلا بأس حينئذٍ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، ولا سيما إذا خاف على بعض رفقائه وأصحابه من الطلبة موافقته»

(1)

. اهـ.

- وقال ابن القيم رحمه الله: «ويكون هجران الوالد والمعلم للولد؛ دواء له، بحيث لا يضعُف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه»

(2)

. اهـ.

‌شروط الهجر:

اشترط الفقهاء لجواز التأديب بالهجر عدة شروط، ومن أهمها:

1 -

أنه لا يصار إلى مرحلة التأديب بالهجر إلا بعد العلم بعدم جدوى نفع المرحلتين السابقتين -أعني: الوعظ والتوبيخ- طردًا للأصل المتقدم في التدرج في استعمال سبل التأديب

(3)

.

2 -

لا يستعمل المؤدِّب التأديب بالهجر إلا في حالة علمه بصلاحه لزجر

(1)

تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم (ص 61).

(2)

زاد المعاد (3/ 578).

(3)

ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 252)، ومغني المحتاج (4/ 192)، وأسنى المطالب (4/ 162).

ص: 238

وردع المؤدَّب عما أقدم عليه من العصيان وأقوى في نفسية الفاعل

(1)

.

3 -

أن يكون قصد التأديب بالهجر علاج المؤدَّب وإصلاحه، فإن خرج عن هذا المقصد إلى التشهير أو إذلال المؤدَّب أو إهانة كرامته، ونحو ذلك، فإنه يمنع لمضادة ذلك للمقصود من تشريع التأديب بالهجر

(2)

.

4 -

أن يكون إيقاع الهجر في المدة المحددة من الشارع -ثلاثة أيام-، فيما إذا تعلق الأمر بسبب حظ النفس.

وأما إذا كان الهجر لحق الله تعالى، فهو غير موقت بوقت، وإنما هو معلَّق على وجود سببه، فمتى زال السبب زال الهجر

(3)

.

وأما الضرب فهو وسيلة لاستقامة الولد، لا أنه مرادٌ لذاته؛ بل يصار إليه حال عنت الولد وتمرده وعصيانه، وفي مثل هذا جاءت الوصية عن الرسول صلى الله عليه وسلم معلمًا الأب ردع الولد: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم»

(4)

.

(1)

ينظر: الذخيرة (12/ 120)، وتحرير المقال (ص 81)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/ 206 - 207).

(2)

ينظر: الفروع (6/ 56)، والإنصاف (10/ 156).

(3)

ينظر: معالم السنن للخطابي (7/ 5)، وشرح النووي على صحيح مسلم (13/ 106)، وحاشية القليوبي على المنهاج (4/ 319)، التأديب بالهجر. د/ إبراهيم بن صالح بن إبراهيم التنم -شبكة الألوكة- (29/ 3/ 1434 هـ-10/ 2/ 2013 م).

(4)

رواه الطبراني (10/ 248).

والحديث: حسّن إسنادَه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 106).

وقال الألباني في صحيح الجامع (4022): «حسن» ، وفي السلسلة الصحيحة (1446) قال:«إسناده حسن» .

ص: 239

وتبين الدراسة أهم القواعد التربوية عند استخدام عقوبة الضرب:

1 -

أن يكون الضرب بعد استخدام الأساليب التربوية المتبعة:

من الكلمة الطيبة، والأسلوب الحسن، من النصح المصحوب بالبشاشة، والتعليم المصحوب بالتوجيه، وتكراره بأساليب تربوية متنوعة ومختلفة.

2 -

وألا يكون ضرب الولد إلا بعد بلوغه سنًّا يكمل فيه تمييزه وتحمله وهو سن العاشرة كما أسلفنا.

3 -

وألا يكون وقت الغضب الشديد فيقع تشفيًا لا تأديبًا وتربيًة.

4 -

وألا يوقع الضرر بالابن نفسيًّا أو بدنيًّا: بأن يكون أمام أقرانه وزملائه أو أقاربه أو جيرانه، أو يكون الضرب على مكان يتوقع منه الضرر كالوجه والرأس أو الحواس مثلًا أو بأن يترك أثرًا أو يكسر عظمًا أو يسيل دمًا.

5 -

وألا يزيد الضرب على عشرة أسواط، لحديث أبي بردة الأنصاري

(1)

رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله»

(2)

.

(1)

أبو بردة بن نيار بن عمرو بن عبيد بن عمرو بن كلاب بن دهمان البلوي القضاعي الأنصاري، من حلفاء الأوس واسمه هانئ: وهو خال البراء بن عازب، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد النبوية، وبقي إلى دولة معاوية، وحديثه في الكتب الستة، حدَّث عنه ابن أخته البراء، وجابر بن عبد الله، وبشير بن يسار، وغيرهم، وكان أحد الرماة الموصوفين، وقيل: توفي سنة اثنتين وأربعين.

سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، وينظر: الموسوعة الحرة.

(2)

رواه البخاري (6456)، ومسلم (3222).

ص: 240

وفي رواية للبخاري: «لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حدٍّ من حدود الله»

(1)

.

- قال ابن القيم رحمه الله: «فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله» يريد به الجناية التي هي حق لله.

فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذ كان المراد بالحد الجناية؟.

قيل: في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره، للتأديب ونحوه، فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط; فهذا أحسن ما خُرِّج عليه الحديث»

(2)

. اهـ.

6 -

وأن يشعر الأبُ ابنَه أنه يحبه ويريد له الخير والفلاح والصلاح، وما لجأ لضربه إلا من أجل أن يصلحه ويقومه ويأخذ بناصيته للبر والتقوى.

7 -

وألا يلجأ الأب إلى الضرب إلا كما يلجأ لآخر الدواء وهو الكي.

فتربية الأولاد تكون ما بين الترغيب والترهيب، وأهم ذلك كله إصلاح البيئة التي يعيش فيها الأولاد بتوفير أسباب الهداية والصلاح لهم وذلك بالتزام المؤدبين المسؤولين وهما الأبوان أولًا، ثم من يقوم بواجب التربية والتعليم من المعلمين والمربين ثانيًا، وذلك باختيار المدارس الطيبة ذات السمعة الحسنة والتي تعتني باختيار المعلمين والمربين الصالحين عقيدة وسلوكًا ومنهاجًا، وكذلك اختيار حلق تحفيظ القرآن الكريم التي يقوم عليها الأخيار الفضلاء المشهود لهم بالعلم والفضل والديانة مع صحة العقيدة وسلامة المنهج، وهكذا في كل المحاضن التربوية والتعليمية والاجتماعية التي هي مصادر تَلَقِّي

(1)

البخاري (6457).

(2)

إعلام الموقعين (2/ 23).

ص: 241

وتعليم وتربية، والتي يتلقى منها الناشئة العلم والسلوك والتهذيب والأخلاق وقد سبق بيان ذلك مفصلًا في مبحث روافد التربية فليرجع إليه.

وبهذا ينتهي الكلام عن التبكير بالتربية.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 242

‌المطلب السادس أساليب القرآن الكريم في التربية

ويشتمل على أربعة أساليب:

1 -

الأمر والنهي.

2 -

الترغيب والترهيب.

3 -

ضرب المثل.

4 -

القصص القرآني.

بعد أن بينت الدراسة مظاهر عناية الإسلام بتربية الأبناء وفصلت تلك المظاهر من اختيار الزوجين ثم المعاشرة بينهما بالمعروف، ثم بينت أهمية التربية بالقدوة وبينت مكانتها في العملية التربوية، ثم ختمت بمبحث التبكير في عملية التربية وفصلت فيه وبينت أهمية العناية به، وحتى تكتمل تلك المظاهر فمن الأهمية بمكان بيان أهمية إبراز أهم الأساليب القرآنية في التربية.

ولا يخفى على أيّ مربٍّ حكيمٍ أهمية الأسلوب في العملية التربوية؛ فأيّ عملٍ تربوي لا يمكن أن يترجم عن ذاته ويحقق أهدافه دون أسلوبٍ يعرضه أو وسيلة تمكنه من التجسد في سلوك الأفراد، إذا تقرر ذلك فما هي أهم أساليب القرآن في العملية التربوية؟ هذا ما ستتعرض له الدراسة من خلال هذا المبحث.

ص: 243

وقبل الخوض والبحث في تلك الأساليب لا بد لنا من وقفةٍ يسيرة على مفهوم الأساليب التربوية للتعرف على معناها في اللغة والاصطلاح.

‌تعريف الأساليب التربوية في اللغة والاصطلاح:

‌أولاً: المعنى اللغوي:

تعريف الأساليب لغة:

الأساليب: جمع أُسْلُوب، وهو مشتق من: سَلَبَ، يَسْلبُ، سَلْبًا، وسَلُوبًا

(1)

.

و (سلب): السين واللام والباء أصلٌ واحدٌ، وهو أَخْذُ الشَّيء بخفّةٍ واختطاف

(2)

.

ومن معاني الأسلوب لغة:

- الطريق الممتدّ

(3)

.

- الوجهُ، والمَذْهَبُ؛ يقال: أَنتم في أُسْلُوبِ سُوءٍ.

- الفَنُّ؛ يقال: أَخَذ فلانٌ في أَسالِيبَ من القول أَي: أَفانِينَ منه

(4)

.

- والأساليب: الفنون المختلفة، وأصل الكلمة يرجع للثلاثي «سلب» وهو نزع الشيء من الغير على سبيل القهر

(5)

، والقهر الغلبة

(6)

.

(1)

الصحاح (1/ 167) مادة: «سلب» .

(2)

معجم مقاييس اللغة (3/ 92) مادة: «سلب» .

(3)

التوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي (ص 98).

(4)

لسان العرب (1/ 471) مادة: «سلب» .

(5)

الراغب الأصفهاني، المرجع نفسه:(244).

(6)

محمد الفيروز آبادي، المرجع نفسه:(601)، محمد الرازي، المرجع نفسه:(554).

ص: 244

‌ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

يعرف أبو العينين الأسلوب التربوي بقوله: «الأسلوب التربوي هو الإجراء المحدد لنقل المعلومات والمعارف أو المهارات أو الاتجاهات والقيم بهدف تحقيق هدف تربوي مرغوب فيه»

(1)

.

وقيل: «الأساليب: هي القوالب والتراكيب التي تصاغ فيها المعاني»

(2)

.

وطريقة الإنشاء واختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني، قصد الإيضاح والتأثير

(3)

.

و‌

‌ أساليب التربية الإسلامية:

هي مجموعة الطرق المعينة على تحقيق مقاصد هذه الرسالة في المجالات المختلفة

(4)

.

(1)

أبو العينين، علي خليل مصطفى، القيم الإسلامية والتربية، مكتبة إبراهيم الحلبى، المدينة المنورة (1408 هـ)(ص 130).

أ. د. علي خليل مصطفى أبو العينين

أستاذ ورئيس قسم أصول التربية الإسلامية بجامعة الزقازيق، وفرع جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وينظر: مقدمة موسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الناشر، دار الوسيلة للنشر والتوزيع، (1418 هـ-1998 م)، عددالمجلدات (12) مجلدًا، الطبعة: الأولى.

(2)

مقدمة ابن خلدون (2/ 1279).

(3)

الأسلوب، لأحمد الشايب (ص 44).

(4)

مقداد يا لجن، مناهج البحث وتطبيقاتها في التربية الإسلامية، ط 1 دار عالم الكتب، الرياض، (1419 هـ)(ص 133).

ص: 245

‌أولاً: أسلوب التربية بالأمر والنهي

‌معنى الأمر في اللغة:

- قال ابن فارس: «الهمزة والميم والراء أصول خمسة: الأمر من الأمور، والأمر: ضد النهي، والأمر: النماء والبركة بفتح الميم، والمعْلم، والعجب»

(1)

.

أما الواحد من الأمور: فمنه قولك: أمرٌ رضيتُه، أمرُ فلانٍ مستقيمٌ.

وأما الأمر ضد النهي: فمنه قولك: افعل كذا، وقولهم: لي عليك إمرةٌ مطاعةٌ، أي: لي عليك أن آمُرَكَ مرةً واحدةً فتُطِيعَنِي.

والأمرُ: النماءُ والبركةُ، ومنه أَمِرَ بنو فلان، أي: كَثروا، وامرأة أمِرَةٌ، أي: مباركةٌ على زوجها، ومهرةٌ مأمورةٌ، أي: نَتُوجٌ ولودٌ.

والأمر بمعنى المَعْلم: ومنه أمارةٌ بيني وبينك، أي: علامةٌ.

والأمر بمعنى العَجَب، فيقال: أمْر وإمَر، أي: عجب منكر

(2)

.

‌ويطلق لفظ الأمر على شيئين:

الأول: على طلب الفعل، كقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132].

(1)

مقاييس اللغة (1/ 137).

(2)

مقايس اللغة (1/ 137 - 139)، ولسان العرب (1/ 102)، والمصباح المنير (ص 22).

ص: 246

الثاني: يطلق على الفعل والحال والشأن، كقوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وهذا يجمع على أوامر

(1)

.

‌معنى الأمر في الاصطلاح:

جاء في تعريف الأمر كما ذكره ابن زيدان: وهو اللفظ الموضح لطلب الفعل على سبيل الاستعلاء، ويتحقق الفعل بصيغة الأمر المعروفة (افعل)، أو بصيغة المضارع المقترن بلام الأمر، أو بالجملة التي يقصد بها الأمر والطلب لا الإخبار، وبأساليب ومعايير أخرى

(2)

.

‌معنى النهي في اللغة:

النهي لغة المنع: وهو مصدر نهى يَنهَى ضد الأمرِ وقِيلَ خِلافَه.

يقال: نهاه عن كذا، أي: منعه عنه، وفيه سمي العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب، ويمنعه عنه

(3)

.

‌معنى النهي في الاصطلاح:

يعرفه زيدان بأنه: «طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء بالصيغة الدالة عليه»

(4)

.

‌أهمية التربية بأسلوب الأمر والنهي:

إن المتأمل في القرآن الكريم يتبين له استخدام أسلوب الأمر والنهي في الآيات القرآنية بكثرة، وصيغة الأمر ترد لمعان كثيرة، منها: الوجوب، والندب،

(1)

المفردات في غريب القرآن (ص 24).

(2)

زيدان، عبد الكريم: الوجيز في أصول الفقه، مؤسسة الرسالة -بيروت- (ص 292).

(3)

القاموس المحيط (4/ 400)، ولسان العرب (4/ 734).

(4)

زيدان عبد الكريم: مرجع سابق (ص 301).

ص: 247

والإباحة، والتهديد، والتأديب، والتعجيز، والدعاء، وغير ذلك من المعان

(1)

.

وإن للأمر أشكالًا عديدة وصيغًا، فكذلك للنهي صيغ عديدة تستخدم في بيان معنى النهي، منها: التحريم، والكراهة، والدعاء، والتأسيس، والإرشاد، وغيرها

(2)

.

‌وجوب تعظيم الأمر والنهي وعلاقته بالإيمان بالله تعالى:

«إنّ الإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال له عز وجل»

(3)

، وهو الدافع الذاتي والفعال في امتثال أوامره سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، وإن العبد المؤمن صادق الإيمان يتلقى أوامر الله ونواهيه بالرضا والقبول والتسليم والانقياد والسمع والطاعة، إجلالًا لله وتوقيرًا، وتعظيمًا له سبحانه وتبجيلًا، لأن تعظيم الأمر والنهي إنما هو تعظيم وإجلال لمن أمر ونهى، وإن تعظيمه سبحانه وتعالى لا يتم إلا بلزوم أمره فعلًا، ونهيه تركًا، فمن هنا كان لزومًا حتميًّا على كل مؤمن الاستجابة لله تعالى بفعل المأمور وترك المحظور، وأطر نفسه على لزوم ذلك الأمر أطرًا.

‌تمهيد حول تعظيم الأمر والنهي:

وفي محض الكلام عن تعظيم أوامر الله تعالى يقول ابن القيم:

وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي:

هو ألَّا يُعَارَضَا بترخّصٍ جافٍ، ولا يُعَرَّضَا لتشديدٍ غالٍ، ولا يُحْمَلا على علةٍ توهنُ الانقيادَ.

(1)

زيدان، عبد الكريم: مرجع سابق (ص 292).

(2)

زيدان، عبد الكريم: مرجع سابق (ص 301).

(3)

ينظر: تفسير السعدي: (3/ 259).

ص: 248

«يريد: ألَّا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور، وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل، لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا»

(1)

.

ومعنى كلامه:

أن أَوْلُ مَراتِبِ تَعْظيمِ الحَقِّ عز وجل: تَعْظيمُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ المؤمِنَ يَعْرِفُ رَبَّهُ عز وجل بِرِسالَتِهِ التَّي أَرْسَلَ بِهَا رَسُولَه صلى الله عليه وسلم إِلَى كَافَّةِ النَّاس. وَمُقْتَضاهَا: الانْقِيادُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَإنْمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِتَعْظيمِ أَمْرِ اللهِ عز وجل واتِّباعِهِ، وَتَعْظيمِ نَهْيِهِ واجْتِنابِهِ؛ فَيَكُونُ تَعْظيمُ المؤْمِنِ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَنَهْيهِ: دَالًّا عَلَى تَعْظيمِهِ لِصَاحِبِ الأَمْرِ وَالنَّهي، وَيْكُونُ بِحَسَبِ هَذا التَّعْظيمِ مِنْ الأَبْرارِ المَشْهودِ لَهُم بِالإيمانِ وَالتَّصْديقِ وَصِحّةِ العَقيدَةِ وَالْبراءَةِ مِنْ النِّفَاقِ الأَكْبَرِ.

والأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب، تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه، قال الله تعالى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة! انْتَهى المُرادُ مِنْ كَلامِهِ -رحمه الله تَعَالَى-

(2)

.

(1)

ما بين علامتي التنصيص من مدارج السالكين (2/ 497).

(2)

الوابل الصيب (ص 9).

ص: 249

فإنَّ إجلال الرَّبِّ تبارك تَعَالَى وتَعْظيمَه وتوقيره وتبجيله وَتَمْجيدَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْظيمِ أمره ونهيه ولزوم أَحْكَامِهِ الشرعية وَمُراعَاةِ حُدودِهِ، والمسارعة في الاستجابة لأمره بفعل المأمور، وفي نهيه بترك المحظور.

‌الأمر والنهي بين: (الدلائل، واللوازم، والآثار، والثواب والعقاب):

‌أولاً: علامات ودلائل تعظيم الأوامر والمناهي:

‌أ- من علامات ودلائل تعظيم الأوامر:

يقول ابن القيم: «أن يراعي العبد أوقاتها وحدودها، ويأتي بأركانها وواجباتها وسننها، ويحرص على كمالها ويسارع إليها عند وجوبها فرحًا بها، ويحزن عند فواتها كمن فاتته صلاة الجماعة ونحوها، وأن يغضب للهِ إذا انتهكت محارمه، ويحزن عند معصيته، ويفرح بطاعته، ولا يسترسل مع الرخص، ولا يكون دأبه البحث عن علل الأحكام، فإن ظهرت له الحكمة حمله ذلك على مزيد الانقياد والعمل» .

‌ب- من علامات ودلائل تعظيم المناهي:

«وأما علامات تعظيم المناهي فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهد بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها، فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته، ومن علامات تعظيم النهي أن يغضب

ص: 250

لله عز وجل إذا انتهكت محارمه وأن يجد في قلبه حزنًا وكسرةً إذا عُصِيَ اللهُ تعالى في أرضه ولم يضطلع

(1)

بإقامة حدوده وأوامره ولم يستطع هو أن يغير ذلك»

(2)

.

‌ثانيًا: من لوازم تعظيم أمر الله ونهيه:

إن تعظيم الأمر والنهي له لوازم لا تفارقه كالظل لصاحبه، فإن فارقته لا يصبح صاحبها معظمًا للأمر والنهي، وبقدر ضعف تلك اللوازم يضعف تعظيم الأمر والنهي في نفس العبد.

ومن أهم تلك اللوازم:

‌1 - الانقياد التام والإذعان لأمر الله ونهيه، دون أي اختيار أو تردد:

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].

يقول الطبري: «يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: لَمْ يَكُنْ لِمُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي أَنْفُسِهِمْ قَضَاءً أَنْ يَتَخَيَّرُوا مِنْ أَمْرِهِمْ غَيْرَ الَّذِي قَضَى فِيهِمْ، وَيُخَالِفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ وَقَضَاءَهُمَا فَيَعْصُوهُمَا، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا أَوْ نَهَيَا {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} يَقُولُ: فَقَدْ جَارَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَسَلَكَ غَيْرَ سَبِيلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ»

(3)

.

ويقول الشوكاني: «ومعنى الآية: أنه لا يحل لمن يؤمن بالله إذا قضى الله أمرًا أن يختار من أمر نفسه ما شاء؛ بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه

(1)

(أي: لم يقو).

(2)

الوابل الصيب (ص 25).

(3)

الطبري (20/ 271).

ص: 251

تحت ما قضاه الله واختاره له»

(1)

.

ويقول ابن سعدي: «أي: لا ينبغي ولا يليق بمن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا من الأمور وحتما به وألزما به أن يكون لهم الخيرة من أمرهم أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر الله ورسوله.

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} أي: بينًا، لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة الله، إلى غيرها من الطرق الموصلة للعذاب الأليم، فذكر أولًا السبب الموجب لعدم معارضة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، وهو التخويف بالضلال، الدال على العقوبة والنكال»

(2)

.

ويؤكد هذه المعاني مختصرًا ما رواه الإمام البخاري معلَّقًا عن الإمام الزهري حيث يقول: «من الله الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم»

(3)

.

ذلك لأن اختيار الله لعبده أصلح وأجدى وأنفع من اختياره لنفسه، وإن هذا من الدوافع التي تورث العبد إحسان الظن بالله رب العالمين، وتفويضه لأمره سبحانه في شأنه كله، وذلك عين العبودية الدافعة للانقياد والتسليم لأمر الله تعالى ونهيه.

(1)

فتح القدير (1/ 1171).

(2)

ابن سعدي (6/ 1378).

(3)

خلق أفعال العباد (ص 88)، وينظر: تفسير ابن كثير (3/ 151).

ص: 252

ومما يجدر الإشارة إليه ما ثبت في ذلك عن الرعيل الأول من جيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم بهذا الصدد.

حديث رافع بن خديج رضي الله عنه حيث يقول: «جاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا

» الحديث

(1)

.

‌2 - عدم وجود أدنى ضيق أو حرج في النفْس مع التسليم للأمر والنهي

.

يقول تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

يقول ابن سعدي: «يُخْبِرُ تَعَالَى خَبَرًا فِي ضِمْنِهِ الْأَمْرُ وَالْحَثُّ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا مُطَاعِينَ يَنْقَادُ لَهُمُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرُوا بِهِ وَنَهَوْا عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونُوا مُعَظَّمِينَ تَعْظِيمَ الْمُطِيعِ لِلْمُطَاعِ»

(2)

.

وإن من جليل أمر الإذعان والتسليم والانقياد لأمر الله ونهيه، أن الله تعالى بيَّن في محكم آي التنزيل في كتابه المجيد وجوب الانقياد لأوامره واجتناب نواهيه والاستسلام لحكمه وشرعه في نيف وعشرين موضعًا.

لذا يجب على المكلف اعتقاد أن أمر الله ونهيه إنما هو لِحِكَمٍ عظيمة وجليلة، ومن مقتضى الإيمان به سبحانه اعتقاد أنه لا يشرع لعباده إلا ما فيه

(1)

أخرجه مسلم، وأبو داود (3395)، والنسائي (2/ 150)، والطحاوي (2/ 256 و 258)، والبيهقي (131)، وأحمد (365/ 3).

(2)

ابن سعدي (2/ 319).

ص: 253

الخير والصلاح لشأنهم كله في معاشهم ومعادهم، ظهرت تلك الحكم للمكلف أم لم تظهر، ولا يتوقف انقياد المسلم لأمر لله تعالى على معرفة الحكمة التشريعية من وراء الأمر والنهي؛ بل يكفيه العلم بأمر الله ونهيه، فيسارع إلى الاستجابة والانقياد والتسليم والقبول.

وفي صدد ذلك يقول ابن القيم رحمه الله في «الوابل» : «ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمرَ على عِلّةٍ تُضعِف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يُسَلِّمُ لأمرِ الله تعالى وحُكمه، ممتثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه: حمله ذلك على مزيد الانقياد بالبذل والتسليم لأمر الله»

(1)

.

ويقول ابن القيم في «المدارج» : «فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له، وأيضًا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلًا وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده، وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله، فكم عطلت لله من أمر، وأباحت من نهي، وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها .. »

(2)

.

(1)

الوابل الصيب (ص 35).

(2)

مدارج السالكين (2/ 498).

ص: 254

يوضح الباحث ويقول: لا حرج من البحث عن الحكمة في مظانها، فيما يمكن أن تظهر فيه الحكمة، ومما بينه أهل الاستنباط، دون تكلف مذموم يؤدي إلى استمراء ذلك في كل أمر ونهي والوقوف عنده حتى تظهر له علته، وقد يفتح الشيطان على صاحبه بسبب ذلك بابًا لا يُسَدّ، من اعتراض دائمٍ ليس له حدّ.

‌ثالثًا: ومن أَجَلِّ آثار تعظيم الأمر والنهي

أنه يورث المؤمن دوام الاستسلام والانقياد لأمر الله ونهيه، ولا شك أن هذا من أهم عوامل الهداية والثبات على الدين والأمن من عذاب رب العالمين، كما قال سبحانه:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].

يقول الطبري: «فقد تمسك بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه من تمسك به، وهذا مثل، وإنما يعني بذلك: أنه قد تمسك من رضا الله بإسلامه وجهه إليه وهو محسن، ما لا يخاف معه عذاب الله يوم القيامة. أي: فقد أخذ موثقًا من الله متينًا أنه لا يعذبه»

(1)

.

يقول ابن سعدي: «أي: بالعروة التي من تمسك بها توثق ونجا، وسلم من الهلاك، وفاز بكل خير»

(2)

.

‌رابعًا وختامًا: الأمر والنهي بين الثواب والعقاب:

إن العاقبة الحميدة للاستجابة للأمر والنهي؛ هي الجنة.

وإن العاقبة الوخيمة لمن لم يستجب للأمر والنهي؛ هي النار.

(1)

الطبري (20/ 150).

(2)

ابن سعدي (6/ 1355).

ص: 255

قال الحق تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد: 18].

قال البغوي: «قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} : (أجابوا لِرَبِّهِمْ فأطاعوه)، {الْحُسْنَى}:(الجنة)، {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} أي: لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار، {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} .

قال إبراهيم النخعي: {سُوءُ الْحِسَابِ} : أن يحاسبَ الرجلُ بذنبه كلّه لا يغفر له من شيء، {وَمَأْوَاهُمْ} (في الآخرة){وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (الفِراش)، أي:(بئس ما مُهِد لهم) إلى ضلالٍ يسير والعياذ بالله، فنسأل الله السلامة»

(1)

.

والمتأمل في القرآن الكريم يجده مليئًا بالأوامر والنواهي التي تحث العباد وتأمرهم بأعظم الأوامر-ألا وهو توحيد الله وإفراده بالعبادة- وترغبهم إلى كل خير فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وتنهاهم عن أعظم المناهي-ألا وهو الشرك في عبادة الله- وتنفرهم منه، ومن كل شر وسوء وضر يوقعهم في طرق الضلال ويسلك بهم مسالك أهل الغواية، لذا فإن أسلوب الأمر والنهي يعد من أنجع الأساليب القرآنية في التربية، التي ينبغي على المربين العناية والأخذ بها واعتمادها في مقدمة الأساليب التربوية المستخدمة في العملية التربوية المتكاملة.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

البغوي (4/ 309).

ص: 256

‌ثانيًا: التربية بأسلوب الترغيب والترهيب

الترغيب والترهيب أحد الأساليب التربوية الوارد استخدامها بكثرة في كتاب الله تعالى، مما يدل على أهميتها وضرورتها في العملية التربوية التي مبناها على الوسطية والاعتدال، والتي تحمل بين جنباتها مبدأ الثواب والعقاب، والذي هو من ثمار ونتاج أسلوب الترغيب والترهيب الذي يجب على المربي استصحابه في الأمر والنهي والأخذ به أسلوبًا فعالًا ومؤثرًا في نجاح العملية التربوية.

وانطلاقًا مما سبق يقوم الباحث بالتعريف بهذين الأسلوبين مبينًا ما يلي:

‌أولاً: مفهوم الترغيب والترهيب:

أ). مفهوم الترغيب في اللغة والاصطلاح:

‌1 - تعريف الترغيب لغة:

الترغيب مصدر قولهم: رغبه في الشيء؛ أي: أوجد فيه الرغبة إليه

(1)

.

والرغبة تطلق ويراد بها السؤال، والطمع، والحرص على الشيء، والرغبة فيه، والإرادة له.

(1)

ابن حميد صالح بن عبد الله وآخرون: موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم

إعداد مجموعة من المتخصصين، صالح بن عبد الله بن حميد، وعبد الرحمن بن محمد بن ملوح، دار الوسيلة، جدة (1418 هـ)(2127).

ص: 257

قال ابن منظور في مادة رغب: «رَغِبَ يَرغَبُ رَغبةً: إذا حرص على الشيء ورغب فيه: إذا حرص على الشيء ورغب فيه. والرغبة: والرغبة السؤال والطمع. ورغبه أعطاه ما رغب»

(1)

.

وقال ابن زكريا في «معجم مقاييس اللغة» : «الراء والغين والباء أصلان: أحدهما طلب الشيء، والآخر سعة في الشيء، فالأول الرغبة في الشيء: الإرادة له: رَغِبتُ في الشيء. فإذا لم ترده قلت: رغبتُ عنه»

(2)

.

والرغبة هنا ترجع إلى المعنى الأول وهو الإرادة للشيء.

‌2 - تعريف الترغيب في الاصطلاح:

عرفه النحلاوي أنه: «وعد يصحبه تحبيب وإغراء، بمصلحة أو لذة أو متعة آجلة مؤكدة خيرة، خالصة من الشوائب، مقابل القيام بعمل صالح، أو الامتناع عن لذة ضارة، أو عمل سيئ ابتغاء مرضاة الله، وذلك رحمة من الله لعباده»

(3)

.

ويعرفه الحدري بقوله: «وعد من الله بالجزاء العاجل أو الآجل أوكليهما على فعل مأمور أوترك محظور»

(4)

.

(1)

ابن منظور: لسان العرب -مصدر سابق- (1/ 422 - 432) باب الباء فصل الراء، مادة:(رغب).

(2)

ابن زكريا، أبو الحسين أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، (ط 1)، دار الجليل، بيروت (1411 هـ)، (2/ 415 - 416)، مادة:(رغب).

(3)

النحلاوي: أصول التربية الإسلامية، مرجع سابق (ص: 287).

(4)

الحدري، خليل بن عبد الله بن عبدالرحمن:«التربية الوقائية في الإسلام ومدى استفادة المدرسة الثانوية منها» ، رسالة ماجستير منشورة، جامعة أم القرى، كلية التربية، مكة المكرمة (1418 هـ)، (ص 265).

ص: 258

(ب) مفهوم الترهيب:

‌1 - تعريف الترهيب في اللغة:

الترهيب مصدر قولهم: رهبه من الشيء بمعنى أخافه منه خوفًا شديدًا، والرهبة مصدر كلمة (رهب) التي تدل على الخوف.

- قال ابن منظور: «رهب بالكسر، يرهب رهبة ورهبًا بالضم، ورهبًا بالتحريك: أي: خاف، ورهب الشيء رهْبًا ورهَبًا ورهبةً: أي خافه»

(1)

.

‌2 - تعريف الترهيب في الاصطلاح:

عرف النحلاوي الترهيب بأنه: «وعيد وتهديد بعقوبة تترتب على اقتراف إثم أو ذنب مما نهى الله عنه، أو التهاون في أداء الفريضة مما أمر الله به، أو هو تهديد من الله يقصد به تخويف عباده، وإظهار صفة من صفات الجبروت والعظمة الإلهية، ليكونوا دائمًا على حذرٍ من ارتكاب الهفوات والمعاصي»

(2)

.

‌ثانيًا: أهمية التربية بأسلوب الترغيب والترهيب:

التربية الإسلامية تربية متكاملة تنظر إلى الإنسان نظرة شاملة متكاملة من جميع الجوانب لأنها هي التربية «الوحيدة التي تنطلق في أصولها وغاياتها وأهدافها ووسائلها من خلال نظرة صحيحة تجاه الكون والإنسان والحياة. ومن هنا جاءت أساليبها التربوية محققة للأهداف والغايات التي خلق الكون والإنسان والحياة من أجلها»

(3)

.

(1)

ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم: «لسان العرب» ، دار صادر، بيروت، (1414 هـ)، (1/ 436)، مادة:(رهب).

(2)

النحلاوي-عبد الرحمن-: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع: دار الفكر- ط (25، 1428 - هـ -2007 م)(ص 287).

(3)

الحدري-التربية الوقائية في الإسلام -مرجع سابق- (ص 278).

ص: 259

ومن جملة الأساليب التي لاقت اهتمامًا كبيرًا في القرآن الكريم أسلوب الترغيب والترهيب؛ وذلك بغية إيجاد الإنسان المسلم الصالح المصلح.

- يقول الجمالي: «وأسلوب الترغيب والترهيب من الأساليب التربوية التي لا يستغني عنها المربي في كل زمان ومكان، ومهما عمل في حقل التربية، فلن يستطيع السير طويلًا ما لم يعرف الطفل والإنسان أن هناك نتائج سارة أو مؤلمة وراء عمله وسلوكه، فإن عمل خيرًا نال السرور والحلاوة، وإن عمل شرًّا نال الألم والمرارة»

(1)

، ولذا فعلى مربي النشء الذي يريد أن يغرس فيهم الأخلاق الفاضلة ويؤسس فيهم السلوك الحميد أن يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب، فمن الناس من يستجيب بالترغيب ومنهم من يستجيب بالترهيب.

ومن هنا شرع الإسلام عبر مصادره أسلوب الترغيب والترهيب، وقدره ليكون أسلوبًا تربويًّا إسلاميًّا. وذلك من خلال كثير من النصوص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمتتبع لآيات الكتاب الحكيم يجد أن الترغيب والترهيب قرينان لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر، من ذلك ما في قوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14].

وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 37 - 41].

«ولعل السر في ذلك، أن في الفصل بينهما خطورة عظيمة في تربية الشخصية

(1)

الجمالي، محمد فاضل: نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي، الدار التونسية، تونس، (1972 م)(ص 166).

ص: 260

الإسلامية، فإن المربين حين يطرقون جانب الترغيب في كل توجيه أو تعليم متناسين تمامًا جانب الترهيب، فإنما يفتحون للرجاء بابًا لا يسد، فيظل المؤمن يرجو ما عند الله، معتمدًا على حسن الظن بالله، فيتقاعس عن أداء الواجبات، أو يتجرأ على انتهاك المحرمات، أو يحمل على أثر ذلك عقيدة ضالة. وحين يظل المربي يطرق جانب الترهيب الذي يورث الخوف فحسب متناسيًا جانب الرجاء، فإنه ربما أورث في من يتربى تحت يديه قنوطًا من رحمة الله، ويأسًا من جوده وإحسانه. لكن منهج القرآن والسنة في الترغيب والترهيب ألا يفصل بينهما ليكون المؤمن على جناحين يطير بهما، جناح الخوف، وجناح الرجاء، أو جناح الترغيب وجناح الترهيب، فيسير نحو ربه سيرة متوازنة»

(1)

.

وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: «القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر»

(2)

.

وبناء على ما سبق فإنه يتحتم على المربي الاهتمام بهذا الأسلوب وانتهاجه في العملية التربوية، وعدم الاكتفاء بأسلوب دون آخر، بل عليه أن يوازن بينهما لأن كلًّا منهما مكمل للآخر، وأن يعرف متى ينتهج هذا الأسلوب أو ذلك حسب الشخص الذي أمامه وحسب المواقف التي يمر بها ودواعيها.

(1)

الحدري: التربية الوقائية في الإسلام، مرجع سابق (ص: 285 - 273).

(2)

ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين، مرجع سابق (1/ 513).

ص: 261

‌أقسام الترغيب والترهيب:

يمكن تقسيم الترغيب والترهيب على أساسين:

الأساس الأول: على أساس نوع الترغيب والترهيب.

الأساس الثاني: على أساس تعجيل أو تأجيل الثواب أو العقاب.

‌أما الأساس الأول: نوع الترغيب والترهيب:

فينقسم الترغيب والترهيب من حيث نوعه إلى قسمين:

‌القسم الأول: الترغيب والترهيب المادي الحسي:

وهو ما يطلق عليه التشجيع أو الحوافز في حالة الترغيب، والعقاب البدني في حالة الترهيب ويدخل فيه الضرب.

‌القسم الثاني: الترغيب والترهيب المعنوي:

ويطلق على الترغيب في هذه الحالة بالتشجيع المعنوي أو الحوافز المعنوية، ومن أمثلتها الشكر والمدح والاستحسان، وما إلى ذلك من صور الإشادة التي تعطي الناشئ ثقة في نفسه وتشجعه على فعل المزيد من الأعمال الجيدة الأخرى.

أما الترهيب المعنوي:

فله عدة صور تمثل درجات العقاب المعنوي، نرتبها في النقاط التالية ابتداءً بأخفها:

* التأنيب والتوبيخ: كما حدث من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه حينما عيَّر رجلًا بأمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية»

(1)

.

(1)

صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (صحيح البخاري) ضبطه ورقمه= =مصطفى ديب البغا - ط 3 - دار ابن كثير -دمشق- بيروت (1407 هـ)، (1/ 20)، كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، حديث رقم:(30).

ص: 262

* المقاطعة والهجر: وهذا الأسلوب من العقوبة استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم مع الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم وقد سبق بيانه في طيات البحث مفصلًا.

* التهديد والوعيد: وهو يسبق تنفيذ العقوبة، وقد يكون مصاحبًا للترهيب والتخويف بجميع درجاته حتى إيقاع العقوبة

(1)

.

‌وأما الأساس الثاني: على أساس تعجيل أو تأجيل الثواب أو العقاب:

فيقسم الترغيب والترهيب بناء على الأساس السابق إلى ثلاثة أقسام كما يلي:

‌القسم الأول: ما كان ثوابه أو عقابه عاجلًا في الدنيا:

فإن العبد حين يحسن مع ربه سبحانه أو مع نفسه أو مع الآخرين، فإنه موعود بأن يعجل له الثواب والأجر، سواء كان هذا الثواب ماديًّا أم معنويًّا، وفي المقابل فإن صاحب الإساءة قد تعجل له العقوبة في الدنيا، كآكل الربا تعجل عقوبته بمحق بركة ما جمع من الأموال وزوالها.

‌القسم الثاني: ما كان ثوابه أو عقابه مؤجلًا للعبد في الآخرة

؛ وكثيرٌ من الأعمال الصالحة وأغلب الذنوب والمعاصي من هذا القسم.

‌القسم الثالث: ما يجمع الله فيه بين الثواب أو العقاب العاجل والآجل:

ومن ذلك صلة الرحم أو قطعها، فالواصل لرحمه يتحقق له خَيْرَا الدنيا والآخرة.

(1)

جوهري، محمد ربيع: أخلاقنا -طـ 2 - توزيع دار الاعتصام (1418)(ص 71، 73).

ص: 263

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه»

(1)

.

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويبعدني عن النار، فقال:«تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»

(2)

، أما القاطع لرحمه فهو متوعد بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة: من البغي وقطيعة الرحم»

(3)

.

الدلالات التربوية لأسلوب الترغيب والترهيب:

لا شك أن التربية الإسلامية تأخذ في الاعتبار ما للثواب والعقاب من أهمية في تشكيل سلوك الفرد، وتستخدم أسلوب الترغيب والترهيب في تنشئة المسلم

(1)

رواه البخاري (5986)، ومسلم (2557)

(2)

البخاري -المصدر السابق- باب الزكاة، باب: وجوب الزكاة (2/ 505 - 506)، حديث (رقم: 1332)، والنيسابوري: صحيح مسلم -المصدر السابق- (1/ 42) كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، حديث (رقم: 13).

(3)

الترمذي: سنن الترمذي -مصدر سابق- (4/ 664)، كتاب صفة القيامة، حديث (رقم: 2511)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 307 - 308) حديث (رقم: 2039).

وينظر: الزيلعي، أحمد بن علي بن عمر، المضامين التربوية المستنبطة من سورة الفاتحة وتطبيقاتها التربوية، رسالة ماجستير كلية التربية -قسم التربية الإسلامية والمقارنة، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة أم القرى مكة المكرمة، المكتبة المركزية، مكة المكرمة (ص 128/ 133) -1426 - 1425) هـ) - بتصرف.

ص: 264

تنشئة صالحة، وذلك لكونه من الأساليب المؤثرة تأثيرًا فعالًا على الفرد المسلم، بإثارة وجدانه ونوازع الخير فيه، واستغلال ميوله الفطرية، فيما يفيدها ويحقق سعادتها وسرورها واجتنابها لما يؤذيها، ويكون مصدر شقائها وآلامها، فلا عجب أن يستفيد المنهج التربوي في الإسلام من هاتين النزعتين لدفع الإنسان إلى فعل الخيرات والطاعات واجتناب الشرور والآثام.

وهناك ميزات لأسلوب الترغيب والترهيب جعلت منه أسلوبًا ذا دلالات تربوية واضحة ذكرها النحلاوي

(1)

.

ويمكن إجمال هذه الدلالات التربوية فيما يلي: يعتمد أسلوب الترغيب والترهيب على الإقناع والبرهان، فليس من آية أو حديث نبوي فيه ترغيب أو ترهيب بأمر من أمور الآخرة، إلا ولها علاقة أوفيها إشارة من قريب أو بعيد إلى الإيمان بالله واليوم الآخر على الغالب، أوفيها توجيه خطاب إلى المؤمنين.

وهذا معناه تربويًّا أن نبدأ بغرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوس الناشئة ليتسنى لنا ترغيبهم في الجنة وترهيبهم من عذاب النار وليكون لهذا الترغيب والترهيب ثمرة عملية سلوكية.

يكون أسلوب الترغيب والترهيب مصحوبًا بتصور شائق للجنة ونعيمها أو بأسلوب فيه تخويف وترهيب من النار وعذابها، كل ذلك بأسلوب واضح يفهمه الناس جميعًا، لذلك يجب على المربي أن يستخدم هذا الأسلوب ويقربه إلى أذهان الناشئة بما يناسب عقولهم وأذهانهم.

(1)

النحلاوي (1979)(258 - 259) أصول التربية الإسلامية وأساليبها -ط 1 - دار الفكر- دمشق.

ص: 265

يعتمد أسلوب الترغيب والترهيب على إثارة الانفعالات وتربية العواطف الربانية، وهذه التربية الوجدانية مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية:

كعاطفة الخوف من الله التي أمر بها في قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].

ومدح عباده الذين يخافونه ووعدهم بالثواب العظيم قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46].

بل أمر أن ندعوه خوفًا من عذابه وطمعًا في ثوابه قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56].

وعلى تربية هذه العاطفة الربانية بنيت كثير من العبادات والمعاملات، كالنفع في البيع والشراء ورعاية اليتيم، وحسن معاملة الزوجة، والعدل بين الأولاد فكل من خاف ربه كان إنسانًا فاضلًا عادلًا في سلوكه و معاملاته، ومن لم يستحِ من ربه يفعل ما يشاء بلا ضابط ولا وازع.

وكصفة الخشوع: ومعنى الخشوع: التذلل والخضوع والشعور بالانقياد والعبودية لله تعالى، وهو ثمرة الخوف من الله والتي ينبغي أن يستشعرها المربي فتنتقل إلى طلابه، أو أبنائه بالاكتساب والانفعالية، والاقتداء به والمحبة له، وكما أن في النفس عواطف سلبية ترافق التربية بالترهيب كالخوف والخشوع، كذلك في النفس عواطف إيجابية ترافق التربية بالترغيب، ومن أهمها:

أ- المحبة: وقد فطر الإنسان منذ طفولته على الميل إلى أن يحب وأن يكون

ص: 266

محبوبًا، وقد ورد الحب في القرآن في عدد من الآيات، والحب في الأصل كما هو معروف بين الناس تعلق المحب بالمحبوب وتتبع آثاره ودوام تذكره وحضور القلب معه وعمل ما يرضيه ويحقق سروره، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165].

وإذا تتبعنا حياة النبي صلى الله عليه وسلم، نرى أن محبة الله من أهم الدوافع التي تجعل الإنسان حريصًا على تحقيق شريعة الله في سلوكه وحياته دون أن يكون عليه رقيب من البشر، وأن من أهم العوامل التي تؤدي إلى محبة الله الشعور بفضله، والتعرف إلى نعمه وإلى ما أعد من الثواب والأجر العظيم للمتقين في جنات النعيم.

ب- الرجاء: هو الطمع في رحمة الله، والأمل في ثوابه وجزيل الأجر عنده، وقد كان هذا الرجاء دافعًا إلى الجهاد وطلب الموت في سبيل الله فكان الصحابي المجاهد يقول: «بخ .. بخ

(1)

هل بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل فأقتل في سبيل الله؟» ويهجم على الأعداء حتى يستشهد.

وغرس هذا الرجاء في نفوس الناشئة يبنى على الإيمان بالله واليوم الآخر

(1)

وذلك عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض» قال: عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض قال:«نعم» قال: بخ بخ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قولك بخ بخ» قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال:«فإنك من أهلها» ، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل. صحيح مسلم:(جـ 3)(ص 1510).

ص: 267

وعلى الإكثار من وصف الجنة ونعيمها وربطها بضرورة التقيد بأوامر الله وترك نواهيه.

تعتمد التربية بأسلوب الترغيب والترهيب على ضبط الانفعالات والعواطف والموازنة بينهما.

فلا يجوز أن يطغى على قلب الإنسان الرهب والخوف حتى ييأس من روح الله، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ولا يغلب عليه الرجاء والطمع حتى يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

واستشعار غضب الله يجب أن لا ينسينا رحمته وإرادته المطلقة ينبغي ألَّا تنسينا حكمته، قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].

ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد»

(1)

.

هكذا يجب أن نربي العواطف الربانية عند الناشئة باعتدال واتزان فلا يتمادون في المعاصي، مغترين برحمة الله ومغفرته ولا ييأسون من رحمة الله، فيتركوا العمل بدعوى أن الكثير من الناس منغمس في المعاصي والشهوات.

(1)

مسلم (2755)، والترمذي (1988)، كتاب الدعوات عن رسول الله، باب خلق الله مائة رحمة، حديث (رقم: 3542) (ص 804)، صحيح ابن حبان (345))، وصحيح الجامع -الألباني- (5338).

ص: 268

‌قوة أسلوب الترغيب والترهيب في الإقناع:

إن التربية بأسلوب الترغيب والترهيب من أقوى أساليب التربية الإسلامية في الإقناع وذلك من عدة نواح؛ منها:

1 -

أنه أسلوب يتوافق مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها من الرغبة في جلب المنافع ودفع المضار.

2 -

أنه أسلوب قوي في إثارة الدوافع لدى الإنسان في الحصول على هدف معين.

3 -

أنه طريق مؤثر وفعال جدًّا ومنتج لحافز ذاتي داخل النفس الإنسانية يحقق

(1)

التوازن بين الترغيب والترهيب.

فمن المهم أن يتوازن الخطان الترغيب والترهيب في قلب المسلم فلا يطغى أحدهما على الآخر.

يقول الغزالي: «فإن غلب عليك الرجاء حتى فقدت الخوف البتة؛ وقعت في طريق الأمن

قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، وإن غلب عليك الخوف حتى فقدت الرجاء البتة؛ وقعت في طريق اليأس قال تعالى:{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فإن كنت ركبت بين الخوف والرجاء واعتصمت بهما جميعًا؛ فهو الطريق العدل المستقيم التي

(1)

جبار -سالم بن سعيد- الإقناع في التربية الإسلامية -ط 2 - دار الأندلس الخضراء - السعودية (1996 م)(ص 125).

ص: 269

هي سبيل أولياء الله وأصفيائه الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]

(1)

.

ويقول الأغا

(2)

: «

‌إنه ليس بالإمكان استخدام أحد الأسلوبين دون الآخر وذلك للأسباب التالية:

* السبب الأول: تفاوت طباع الناس والاختلاف في امتثالهم للمبادئ وانقيادهم للسلوك واحترامهم للقيم واتباعهم للتعاليم وحرصهم على الالتزام.

* السبب الثاني: هو أن النفس الواحدة تقوى وتضعف كنتيجة لتعرضها لظروف متنوعة وقد يكون سلوك الفرد مقبولًا أو مرفوضًا.

* السبب الثالث: أن النفس قد تضل ضلالًا يختلف من حيث الدرجة فتكون على استعداد للعودة إلى الحق بسرعة أو لا تكون، وهي قد تكون في بداية طريق الضلال والانحراف وقد تكون متوغلة فيه.

* السبب الرابع: هو أن النفس تتوازن بالخوف والرجاء والأمل، وتزداد سرعة توجهها نحو الحق، فالخوف بلا رجاء يؤدي إلى اليأس والقنوط، والرجاء بلا خوف يؤدي إلى التباطؤ والكسل والتراخي في سعادة الفرد إلى ما يرجوه.

(1)

القرضاوي يوسف بن عبد الله -المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري- دار الوفاء للطباعة والنشر- المنصورة (ص 43) - (1993 م).

(2)

الأغا -إحسان الخليل- أساليب التعليم والتعلم - ط 1 - الجامعة الإسلامية -غزة- (ص 255)(1986 م).

ص: 270

* السبب الخامس: هو أن التعليم إعداد للحياة، والحياة فيها ثواب وعقاب، ويترتب على الثواب رغبة، كما أنه يترتب على العقاب رهبة.

* السبب السادس: هو أن الرغبة في تحقيق الأهداف وإشباع الحاجات والرهبة من مواطن الخطر والألم والخسارة هما من المشاعر الفطرية عند الإنسان والحيوان، والفارق بين الإنسان والحيوان في استشعار الألم واللذة حيث إنها في الحيوان تقوم على الارتباط المباشر أو الشرطي، أما عند الإنسان فتعتمد على الإدراك والتمييز، وأما عند الإنسان المتعبد وعند أولي الألباب تقوم على التدبر والتأمل والتفكير والتذكر»

(1)

.

‌الآثار التربوية لأسلوب الترغيب والترهيب:

لا شك أن انتهاج هذا الأسلوب التربوي الإسلامي يثمر ثمرات وآثارًا تربوية بالغة تؤثر في شخصية الناشئة وتصوغها صياغة متزنة، ولعل من أبرز الآثار التربوية لهذا الأسلوب ما يلي:

1 -

غرس العقيدة الصحيحة في قلوب الناشئة، والتي تثمر استقامة حسنة وسلوكًا قويمًا في كل جانب من جوانب الحياة.

2 -

صياغة شخصية الناشئة وصبغها بصبغة إسلامية تقوم على الموازنة بين جناحي الخوف والرجاء، اللذين هما ركنا السير إلى الله تعالى عبر هذه الرحلة الطويلة التي يقطعها الإنسان إلى الدار الآخرة.

(1)

اصليح/ محمد عطية إسماعيل - مضامين تربوية مستنبطة من كتاب مختصر الترغيب والترهيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، الجامعة الإسلامية- المدينة النبوية/ كلية التربية، قسم أصول التربية - الإسلامية/ رسالة ماجستير/ غير منشورة/ بتصرف يسير (ص/ 27 - 30 - ، 1430 هـ -2009 - م).

ص: 271

3 -

تربية العواطف الربانية التي خلقها الله في هذه النفس كعاطفة الحب والخوف والرجاء والخشوع.

4 -

إثارة الحوافز الذاتية التي تكون سدًّا منيعًا يحول بين العبد وبين مقارفة ما حرم الله عليه، سواء كان ذلك في الجلاء أو الخفاء

(1)

.

5 -

أسلوب الترغيب والترهيب يعالج الطبيعة البشرية التي عبر عنها حنظلة رضي الله عنه بقوله: «نافق حنظلة»

(2)

، وهو فتور أثر المواعظ بعد زمن، وهذا من ضعف بني آدم، فجاء أسلوب الترغيب والترهيب يعالج هذا الضعف، يقول ابن الجوزي:«المواعظ كالسياط، لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها .. وهذه حالة تعم الخلق، إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر، فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع، لضجوا، كما قال حنظلة رضي الله عنه عن نفسه: نافق حنظلة»

(3)

.

6 -

في الترغيب والترهيب تدريب للنفس على المجاهدة وتعويد لها على المصابرة، فإن الإنسان إذا فتر عن القيام بالعمل الصالح تذكر الفضل الذي سيحصله منه، فرغب نفسه للقيام به، وجاهد نفسه على ذلك، وإذا هم بعمل السيئة تذكر العاقبة المترتبة، ورهب نفسه من فعله وجاهدها على تركه.

7 -

وفي الترغيب والترهيب تمهيد طريق الإنابة إلى القلوب.

(1)

الحدري التربية الوقائية في الإسلام -مرجع سابق- (ص: 282)، وينظر: -الزيلعي- المضامين التربوية المستنبطة من سورة الفاتحة -مرجع سابق- (ص 135) بتصرف يسير.

(2)

مسلم (1334 هـ)، (جـ 8)(ص 94).

(3)

ابن الجوزي -صيد الخاطر- دمشق- دار القلم- (ص 24)(1425 هـ).

ص: 272

قال ابن القيم رحمه الله: «إنما يشتد افتقار العبد إلى العظة وهي الترغيب والترهيب إذا ضعفت إنابته وتذكره، وإلا فمتى قويت إنابته وتفكره، لم تشتد حاجته إلى التذكير والترغيب والترهيب، ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر والنهي.

والعظة يراد بها أمران: الأمر والنهي المقرونان بالرغبة والرهبة، ونفس الرغبة والرهبة، فالمنيب المتذكر شديد الحاجة إلى الأمر والنهي والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب»

(1)

.

8 -

في الترغيب والترهيب إدراك لمنافع الاستجابة ومضار المخالفة، وهذا أدعى للقبول وأعظم وقعًا في النفوس وأرسخ في التعلم وأدعى إلى الاستقامة من مجرد المعرفة، فحاجة الإنسان ومصلحته من سلوك معين تدعوه لتلبية الأمر وترك النهي.

9 -

في أسلوب الترغيب والترهيب ثراء تربوي، فهو يتيح للمربي التنويع في الأساليب التربوية، ويغنيه عن الأساليب التي قد تنفر الناشئ أو تتيح للمربي حصرها في حدود ضيقة جدًّا، فإن المسارعة إلى أساليب العقوبة البدنية مضرة بالابن والناشئ الصغير.

- يقول ابن خلدون في بيان أثر أساليب القهر والردع على الفرد؛ بل وعلى المجتمع في تحليل فريد سابق لزمانه: «الشدة على المتعلمين مضرة بهم وذلك بأن إرهاف الحد بالتأليم مضر بالتعليم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء

(1)

ابن القيم محمد بن أبي بكر، الفوائد -بيروت- دار الكتب العلمية (1393 هـ)(ص 445).

ص: 273

الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين، سطا به القهر وضَيَّقَ عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت هذه عادة وخلقًا وفسدت معاني الإنسانية لديه»

(1)

.

10 -

هذا الأسلوب يرسخ السلوك الإيجابي ويحفز المتواني عنه لفعله، ويتأنى بالمخطئ عن السلوك، وفي القرآن الكريم ما يبين الله ذلك ويؤكده، قال تعالى:

{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]، ولولا ذلك لعمّ الظلم وانتشر، لأن الأمن من العقوبة يؤدي إلى السلوك الخاطئ وقديمًا قالوا:(من أمن العقوبة أساء الأدب)، وإذا غاب الثواب قد يتكاسل المحسن، إذن فالترغيب والترهيب يؤديان إلى صحة مسيرة المجتمع والعملية التربوية.

11 -

في استخدام أسلوب الترغيب والترهيب سلامة للناشئ من الآفات النفسية الناشئة عن استخدام الأساليب العقابية غير التربوية، وإن كثرة استخدام العقاب وترك الأساليب غير الجاذبة كأسلوب الترغيب والترهيب، يكسب المعاقب جرأة على الخطأ واستهلاله له، وتزول هيبة ارتكابه وينكسر حاجز الخوف من اقترافه، فكثرة العقاب والاستمرار فيه تجعل المتربي يتنبأ بنوع العقوبة التي ستحل به دون وعي ذاتي بخطأ سلوكه والرغبة في تصحيحه

(1)

ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. -بيروت- دار الفكر (1408 هـ) طـ 2 (ص 743).

ص: 274

وتعديله؛ بل إن هذا التكرار يفقد العقاب قيمته في نظر الناشئ

(1)

.

‌ثالثًا: التربية بأسلوب ضرب الأمثال:

ضرب الأمثال أسلوب عظيم من أساليب التربية ورد استعماله في القرآن الكريم كثيرًا لتوجيه الإنسان وتعليمه وإيصال المعلومات إليه عبر عرضها بصورة ماثلة أمامه يستشعرها ويحس بها ويعايشها فتنقلب الصورة المجردة إلى أشياء محسوسة يدركها ويتفاعل معها، ولا شك أن تشبيه المعاني الذهنية المجردة بالأشياء الحسية والملموسة يؤدي إلى وضوحها، وضرب الأمثال يؤدي إلى تقريب الأفكار من العقل وجعلها مفهومة، كما يؤدي التشبيه والتمثيل إلى إدراك المعنى وتكوين صورة له في المخيلة، ويجعل التأثر بتلك الصورة أشد من الأفكار المجردة، بالإضافة إلى ما في التصوير والتشخيص الحي من الإثارة والمتعة، مما يطرد السأم عن المتعلم ويجعله متقد الذهن حاضر البديهة، ولذلك كثر الاعتماد على هذا الأسلوب في القرآن الكريم.

ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وترتيب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح

(1)

عمار، محمود إسماعيل-الرياض- دار عالم الكتب (1420 هـ) (ص 303) وينظر: - السلمي-سلطان رجاء الله سلطان- المضامين التربوية المستنبطة من سورة التحريم وتطبيقاتها في واقع الأسرة المعاصرة. رسالة ماجستير غير منشورة (1432 - 1433 هـ) -جامعة أم القرى- مكة المكرمة -كلية التربية- قسم التربية الإسلامية والمقارنة (138 - 140) بتصرف.

ص: 275

والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر.

قال تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} [إبراهيم: 45] فامتن سبحانه وتعالى علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد، وقال تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58]، وقال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]

(1)

.

تسمع قائلًا يقول: الكلمة الطيبة خفيفة الوقع على الأذن، والكلمة الخبيثة شديدة الوقع على الأذن فلا تدرك إلا حقيقة محدودة لا تقف طويلًا عندها، ولا تلتفت كثيرًا لما تحدثه من الأثر. وتسمع قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)} [إبراهيم: 24 - 26].

فترتسم في مخيلتك صورة واضحة كل الوضوح، حولت المعنى المجرد إلى صورة قريبة منك تراها كل يوم هي صورة شجرة من الأشجار المظلة المثمرة تتملاها العين لما يشيع فيها من الحياة ولما تتميز به من جذور ضاربة تقوي صمودها، وأغصان وأوراق تفرش ظلالًا يتفيؤها الناس، وتخرج ثمارًا يطعمونها، إنها عظيمة الفائدة، باقية الأثر، أو صورة لشجرة تشغل حيزًا، وتعطل مساحة وتتغلغل جذورها هنا وهناك، تشارك النبات غذاءه وماءه فيضعف

(1)

الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، دار الباز للنشر والتوزيع مكة المكرمة (د. ت)(1/ 486).

ص: 276

عوده، ويقل إنتاجه، وإنها لعقيمة لا تثمر أو تزهر، فلا قيمة لها ولا نفع من وجودها فأولى أن تزول»

(1)

.

إنه تمثيل حي وربط مباشر لحال المؤمن والكافر بشيء محسوس مشاهد تشاهده العيون كل يوم وتعانقه الأبصار كل لحظة فيوقظ في القلب إحساسه ويحرك مشاعره ليندفع في الطريق الصحيح طريق المؤمنين العاملين لأنه الطريق المحمود الممدوح، النافع المفيد، في الدنيا والآخرة، ويحاول بكل ما أوتي من قوة أن يبتعد عن طريق الزائغين الهالكين الذي يشبه شجرة لا نفع فيها ولا فائدة؛ بل كل ما فيها ضرر فالناس تنظر إليها نظرة ازدراء واحتقار وهي في النهاية مقطوعة لعدم نفعها وفائدتها، وبهذا يتربى المسلم من خلال هذا المثل على الخير وحبه وحب أهله والمسارعة إليه والمسابقة فيه ليدخل تحت هذا الثناء الذي ذكره الله للمؤمنين.

ولقد كثرت الأمثال في القرآن الكريم وجاءت على صور مختلفة وذلك لأجل تقريب البعيد، والترهيب من عمل من خلال تشبيهه وتمثيله بصورة تتقزز منها النفوس، ولتسلية النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك -الأمثال في القرآن- قوله -جل وعلا- {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .. } [البقرة: 17].

وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].

(1)

صبيح، محمد أحمد جاد، التربية الإسلامية دراسة مقارنة، دار الجبيل بيروت (د. ت). (1/ 125 - 126).

ص: 277

وقوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41].

وقوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].

وقوله سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29].

وقوله سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35].

من كل ذلك ندرك أهمية ضرب المثل في التربية، وأن هذا الأسلوب ذو تأثير تربوي مستدام، لأنه يعتمد على عنصر الإمتاع بفضل ما يحمله من تذليل لصعوبات الفهم والإدراك، وتسهيله لعملية الربط بين الواقع والإحساس ولقد كثر الاهتمام في القرآن -كما مرَّ معنا- بهذا الأسلوب العظيم فجاءت آياته تحفل بجملة من الأمثال كان لها ولا يزال إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله الأثر الواضح في التربية وتقويم السلوك للأفراد والجماعات ولا غرابة في ذلك فالقرآن كلام اللطيف الخبير العليم بشؤون عباده وأحوالهم وهو أعلم بما يصلحهم ويصلح لهم، بهذا صفت نفوس المؤمنين واستقامت على منهج الحق وطريق الفلاح

ص: 278

والله الهادي إلى سواء السبيل

(1)

.

ومن خلال الخطوات التالية يتناول الباحث أسلوب ضرب الأمثال من خلال بيان مفهومه وأهميته في تربية الناشئة ثم يختم ببيان آثاره التربوية.

‌مفهوم الأمثال في اللغة والاصطلاح:

‌أ- المثل لغة:

«المثل والمثَلُ بالتحريك: له معان؛ منها النظير والمثيل والشبيه، والمثال الذي يتداوله الناس بضرب إشارة لمعنى مشابه للموقف المشار إليه، والتمثيل بالشيء التنكيل»

(2)

.

‌ب-المثل اصطلاحًا:

عرف الأصفهاني

(3)

المثل بقوله:

«والمثل عبارة عن قول شيء في شيء يشبه قولًا في شيء آخر بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره. نحو قولهم: «الصيف ضيعت اللبن» فإن هذا القول يشبه قولك: أهملت وقت الإمكان أمرك. وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال، فقال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا

(1)

جابر: محمد بن سالم بن علي «منهج القرآن في تربية الانسان» موقع الألوكة -بحث غير منشور، مرجع سابق (ص 58 - 60) تاريخ (14 - 5 - 1428 هـ)، (30 - 5 - 2007 م) بتصرف يسير.

(2)

ابن فارس: أبو الحسين أحمد علي (1399 هـ)، معجم مقاييس اللغة -بيروت- دار الفكر (ص 296).

(3)

الأصفهاني: الحسين بن محمد (1412 هـ) المفردات في غريب القرآن -بيروت- دار القلم (ص 759).

ص: 279

مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وفي آية أخرى يقول سبحانه:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

‌والمثال في الاصطلاح القرآني يطلق على معان عدة:

‌1 - منها: الكلمة الشائعة على الألسن:

وهو المسمى بالمثل السائر أي: المتداول بين الناس، عند حصول موقف مشابه للموقف الذي أطلق فيه المثال، وهذا المعنى المتبادر للأمثال عند الإطلاق، ومنه الأمثال السائرة كقولهم:«الصيف ضيعت اللبن» ، وقد جاء من هذا المثل السائر في القرآن لآلئ منثورة.

ومن نماذجه ما ذكره السيوطي في الإتقان:

قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)} [الحج: 10].

وقوله تعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)} [فاطر: 43]

(1)

، وهذا النوع تبرز فيه الناحية البلاغية أكثر من الناحية التصويرية المؤثرة.

(1)

السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر (1394) الإتقان في علوم القرآن. القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب (مج 4)(ص 50).

ص: 280

‌2 - ومنها: ما يكون فيه تشبيه معقول بمحسوس أكثر وضوحًا:

وهو المعروف بالمثل القياسي وهو سرد وصفي أو قصصي أو صورة بيانية لتوضيح فكرة ما عن طريق التشبيه والتمثيل، ويسميه البلاغيون: بـ (التمثيل والتركيب) فإنه تشبيه شيء بشيء لتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين إلى الآخر، أو قياس أحدهما بالآخر لغرض التأديب والتهذيب أو التوضيح والتصوير، أو الإقناع العقلي وإقامة الحجة، وهذا النوع فيه إطناب إذا قورن بسابقه، ويجمع بين عمق الفكرة وجمال التصوير، والمقارنة بين المثل ومثله.

ومن أمثلة هذا النوع في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)} [النور: 59]، وهي كثيرة في القرآن، وآثار هذا النوع التربوية أظهر وأعم من سابقه، فهي أعمق تأثيرًا وأجلى تصويرًا، ويمكن تقسيم هذا النوع إلى قسمين:

أ- التشبيه التمثيلي: الذي فيه المثل والممثل و الممثل به، وأمثلته ما سبق ذكره من التنزيل الحكيم.

ب- التشبيه الضمني: وهو ما يلمح فيه التشبيه التمثيلي من السياق دون التصريح بذكر المثل والممثل و الممثل به، ومن أمثلته المذكورة في القرآن الكريم قوله تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

ص: 281

‌3 - ومنها: الأمثال التاريخية:

وهي تمثيل حالة قائمة بصورة تاريخية معروفة لبيان سنة الله في عباده للترغيب والترهيب والوعظ والتذكير، ولتحقيق أهداف تربوية متعددة، ومثال هذا النوع قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)} [يس: 13] فالمعنى المقصود: أن مثلهم كمثل آل فرعون

(1)

.

أهمية أسلوب ضرب المثل:

الأمثال من جميل القول، وحسن الألفاظ، تدل حسن تصرف قائلها في كلامه، وجودة تقريبه للمعاني، وتقرب البعيد، وتجذب نافر القلوب وشارد الذهن.

وقد ذكر السيوطي بعض فوائدها بقوله: «الأمثال حكمة العرب في الإسلام وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكتابة غير تصريح فيجتمع لها بذلك خلال: منها إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بها هو ومن بعده من السلف»

(2)

.

وكان السلف رحمهم الله يقرأون القرآن كرسائل توجيهية وتنبيهات، وعظات واعتبار، قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الأمثال بل يكثر منها لجدواها الإيمانية

(1)

السلمي: سلطان رجاء الله سلطان، المضامين التربوية المستنبطة من سورة التحريم وتطبيقها في واقع الأسر المعاصرة. -مرجع سابق- (ص 141 - 143).

(2)

السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر (1998 م) المزهر في علوم اللغة -بيروت- دار الكتب العلمية (مج 1)(ص 374).

ص: 282

والتربوية، فقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:«عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل»

(1)

.

قال ابن كثير: «وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]»

(2)

، بل كان العلماء الربانيون يستشعرون الخذلان عندما يفوتهم الهدف الرسالي من المثل القرآني.

ولذا قال بعض السلف

(3)

: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

‌ومن الممكن إيجاز أهمية أسلوب ضرب المثل في الجوانب التالية:

1 -

الجانب اللغوي: وبه تظهر بلاغة المتكلم بإيجاز اللفظ وحسن التشبيه، ووضوح النطق.

2 -

الجانب المعنوي: وتبرز فيه قدرة المتكلم على تقريب المراد وإيضاح الفكرة، وإيصالها إلى ذهن السامع.

3 -

الجانب التربوي: أي: ما يتركه المثل من أثر نفسي أو تربوي عميق،

(1)

ابن حنبل: أحمد بن محمد (1421 هـ) المسند -بيروت- مؤسسة الرسالة، (مج 29)(ص 341).

(2)

ابن كثير: إسماعيل بن عمر (1420 هـ)، (مج 6)(ص 279).

(3)

ابن كثير (1420 هـ)(مج 1)(ص 208).

ص: 283

فيتنبه الغافل، وينزجر المكابر، ويتعظ المعرض

(1)

.

‌الآثار التربوية لأسلوب ضرب المثل:

ولما يتسم به ضرب المثل من جودة الحديث ونقاء المعنى وإيصال الأفكار بيسر وسهولة، فإن لهذا الأسلوب آثارًا تربوية مهمة تظهر على المربي والناشئة والعملية التربوية كافة، ومن ذلك:

1 -

أسلوب ضرب المثل يقرب الفكرة فهو يمهد السبيل للمتعلم، ويقرب إليه المعنى الذي قد يند عن فهمه.

2 -

أسلوب ضرب المثل من أقرب طرق تبكيت المعاندين والمتعنتين والمجادلين.

3 -

في هذا الأسلوب التربوي إبراز للنماذج الصالحة والقدوات النافعة ومآلهم، وبيان أحوالهم للاقتداء بهم والاهتداء بسبيلهم.

4 -

وفي هذا الأسلوب إبراز النماذج السلبية ومآلهم للتحذير من اقتفاء سبيلهم واتباع خطواتهم.

5 -

ضرب المثل سبيل للإقناع والتأثير، بتصوير الحق بصورته الناصعة والترغيب فيه، وذكر الباطل بصورته القبيحة والتنفير منه وتعريته وكشف حقيقته، والإقناع بالمثل نال نصيبًا كبيرًا من الأمثال القرآنية.

ومما ورد في بيان حقيقة كلمة التوحيد وثباتها في قلب المؤمن قوله تعالى:

(1)

البيانوني: عبد المجيد (1411 هـ) ضرب الأمثال في القرآن -دمشق- (ص 37 - 38).

السلمي: سلطان رجاء الله سلطان - المضامين التربوية المستنبطة من سورة التحريم وتطبيقها في واقع الأسر المعاصرة. - مرجع سابق- (143 - 144).

ص: 284

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25].

ومما ورد لتصوير حال الكافر والمشرك والمنافق من حيرته وقلق نفسه وتخبطه في الظلمات وسرعة استجابته للفتن والمهلكات؛ قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} [الزمر: 29].

6 -

بهذا الأسلوب يستغني المربي بالإشارة في تفاصيل المثال ومواجهة المخاطب بما ينفره، قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5].

فهذا تقبيح لحال من آمن بكتب الله ثم أعرض عنها لا يتعلمها ولا يعمل بها مع إمكان التعلم وتوفر أسبابه.

7 -

ضرب المثل يرسخ المعنى المراد إيصاله للمخاطب، ويدافع نزعات التوجهات الخاطئة والانحراف الفكري والسلوكي، قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} [الأعراف: 175 - 177].

ص: 285

قال ابن القيم: «أخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست لمجرد العلم وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن كان هذا من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لا ينفع»

(1)

.

8 -

يفيد هذ الأسلوب أيضًا في تقويم المسالك، وإصلاح النفوس، وصقل الضمائر، وتهذيب الأخلاق، وتنمية الفضائل السامية.

9 -

وفي ضرب الأمثال مجالٌ رحب أيضًا للمكلف فهو يتيح له الغوص في غور الأمثال واستلهام العبر وتنزيلها على ما يعايشه، والاستفادة منها لحاله التي لا يعايشها ويعرف حقائقها أحدٌ مثله من البشر.

10 -

قد يكون الحديث المباشر في بعض الشؤون أحيانًا يسبب حرجًا أو شيئًا من الحساسية للمتحدث، فإذا اتجه لهذا الأسلوب استطاع الوصول إلى هدفه، وإفادة المُخَاطَبِينَ عن طريق المربين- بضرب الأمثال.

11 -

واستفادة المربي من هذا الأسلوب، يربطه بأحسن الأمثال المضروبة وهي أمثال القرآن والسنة، مما يربط المربي بالقرآن والسنة ويعايشهما «مع فهمها وتدبرها والإدراك الشامل لأهداف القرآن الكريم وأسلوبه في التأثير والتغير»

(2)

.

‌رابعًا- أسلوب التربية بالقصص القرآني:

تمثل القصة القرآنية أسلوبًا فعالًا من أساليب التربية الإسلامية بما لها من

(1)

ابن القيم: محمد بن أبي بكر (1406 هـ) الأمثال في القرآن -طنطا- مكتبة الصحابة (ص 30).

(2)

البيانوني -مرجع سابق- (1411 هـ)(ص 149). (ص 141/ 144)، وينظر: السلمي -مرجع سابق- (145 - 147) بتصرف.

ص: 286

التأثير العجيب على النفوس، فهي تشد الانتباه، وتوقظ الوجدان، وتحرك العواطف، ولذا يلاحظ كثرة ورودها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة.

ومن خلال الخطوات التالية يتناول الباحث أسلوب القصة من خلال بيان مفهومها وأهميتها في تربية الناشئة ثم يختم ببيان آثارها التربوية:

‌أولاً: مفهوم القصة في اللغة والاصطلاح:

‌أ-تعريف القصة في اللغة:

القصة مأخوذة من مادة: (قصص) التي تعني تتبع الأثر

(1)

.

قال ابن منظور: «والقصة الخبر، وهو القصص، وهي الأمر والحديث.

والقصص: الخبر المقصوص، والقاص الذي يأتي بالقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها»

(2)

.

والقصص: الأثر. قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)} [الكهف: 64]. والقصص: الأخبار المتتبعة. قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]

(3)

.

وقال الفيومي: «القصة: الشأن والأمر، يقال: ما قصتك؟ أي: ما شأنك؟»

(4)

.

(1)

الرازي: محمد بن أبي بكر، مختار الصحاح، دراسة وتقديم: البركاوي، دار المنار (ص: 249) وهي تعني: الخبر المقصوص والأثر والشأن.

(2)

ابن منظور، لسان العرب -مصدر سابق- (7/ 74)، باب الصاد فصل القاف، مادة:(قصص)

(3)

الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن -مرجع سابق- (ص 671) مادة: (قصص).

(4)

الفيومي: المصباح المنير -مصدر سابق- (ص 193).

ص: 287

‌ب- تعريف القصة في الاصطلاح:

القصة: «حادثة وقعت، لها بداية ونهاية، مرتبطة بأسباب ونتائج، تتخللها دروس وعبر، يهفو إليها السامع، وينجذب إليها الذهن، ويتحرك لها الفؤاد، ويتأثر منها الوجدان»

(1)

(2)

.

‌أهمية التربية بأسلوب القصص:

تعتبر القصة من الأساليب التربوية في القرآن الكريم والتي اهتمت بها التربية الإسلامية في تربية وتوجيه الناشئة، وخصوصًا المربي إذا تمكن من صياغتها في قالب عاطفي مؤثر، كما يقول الجمالي: «القصة تؤثر في النفس إذا وضعت في قالب عاطفي مؤثر، وهي تجعل القارئ أو السامع يتأثر بما يقرأ أو يسمع، فيميل إلى الخير وينفذه، ويمتعض من الشر فيبتعد عنه

(3)

، والقصص القرآني ليس له وجهة مقارنة مع القصص الأدبية، فالأول وحي من عند الله سبحانه وتعالى. وأما الثاني فمن صنع البشر».

- يذكر الجعيد: «أن القصة قد احتلت مساحة كبيرة من آيات القرآن الكريم، يمثل ذلك ما ورد حول قصص الأنبياء مع أقوامهم، وقصة آدم عليه السلام، وقصة

(1)

الحدري: التربية الوقائية في الاسلام -مرجع سابق- (ص 248).

(2)

الزيلعي: أحمد بن علي بن عمر- المضامين التربوية المستنبطة من سورة الفاتحة وتطبيقاها التربوية -مرجع سابق- (ص 135 - 136).

(3)

الجمالي، محمد فاضل: تربية الإنسان الجديد، الشركة التونسية للتوزيع، تونس (1967 م) (ص: 135).

ص: 288

يوسف عليه السلام، وقصة أصحاب الكهف»

(1)

(2)

.

وانطلاقًا مما سبق فإن المربين في حاجة إلى الإفادة من أسلوب القصة لتحقيق الأهداف التربوية، وغرس القيم الأخلاقية في الأفراد، والتي قد لا تتحقق في كثير من الأساليب التربوية الأخرى، وما ذلك إلَّا «لأنَّ القصة يهفو إليها الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والذكي المفرط في الذكاء، والمتوسط في ذكائه وقدراته العقلية، إنهم جميعًا بلا استثناء تستهويهم القصة، وتستثيرهم أحداثها، وتؤثر في نفوسهم مواقفها»

(3)

.

وتتنوع أغراض القصة في القرآن، فبالإضافة إلى أهدافها التربوية، فهي تهتم بالدعوة الإسلامية.

يقول الخطيب: بأنها «أقوى أجهزة التأثير في قيادة الجماعات البشرية، فلا عجب أن تكون القصة في القرآن الكريم ركيزة قوية من ركائز الدعوة الإسلامية، القائمة على الاقتناع العقلي، والاطمئنان القلبي لما تدعو إليه، من الإيمان بالله،

(1)

الجعيد، مشعل بن سيف: أساليب التربية النبوية للجند، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة أم القرى- مكة المكرمة (1418 هـ)(ص 86).

(2)

الفعر خالد بن عوض بن علي: التربية الوقائية وأساليبها في سورة الحجرات وتطبيقاتها التربوية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، كلية التربية، قسم التربية الاسلامية والمقارنة، رسالة ماجستير غير منشورة (1421 هـ) (ص: 101 - 102).

(3)

الحدري: التربية الوقائية في الإسلام -مرجع سابق- (ص 260) الزيلعي: أحمد بن علي ابن عمر -المضامين التربوية المستنبطة من سورة الفاتحة وتطبيقاها التربوية- مرجع سابق (ص 137).

ص: 289

وكتبه، ورسله، واليوم الآخر»

(1)

.

إن القصة في القرآن الكريم واضحة من خلال سرد أحداث القصة في الآيات القرآنية، ولكن ليس في جميع الآيات، لأن بعضها تحتاج للرجوع إلى سبب نزول الآية، حتى تتم معرفة القصة.

وفي هذا المعنى يقول السيوطي: «قال الواحدي

(2)

: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها».

وقال ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن» .

وقال ابن تيمية: «معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب»

(3)

.

‌إن من مميزات القصة في القرآن الكريم:

أن لها وقعها في النفس، وجذبًا في تتبع الأحداث، وتجعل السامع حريصًا في متابعة عرضها، واستحواذ فكره تجاهها حتى النهاية.

وفي هذا يقول القطان: «الحادثة المرتبطة بالأسباب والنتائج، يهفو إليها السمع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضي، كان حب الاستطلاع

(1)

الخطيب: عبد الكريم، القصص القرآني في منظومه ومفهومه. مكتبة السنة المحمدية، القاهرة -ط 1 - (1964 م)(ص 6).

(2)

الواحدي علي بن أحمد بن محمد بن علي، النيسابوري، الشافعي .. توفي بنيسابور في جمادى الاخرة سنة (468 هـ).

(3)

السيوطي: جلال الدين عبدالرحمن أبي بكر: الإتقان في علوم القرآن. دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان -ط 3 - (1415 هـ)، (جـ 1)(ص 61 - 62).

ص: 290

لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس»

(1)

.

إن أهمية القصص في القرآن الكريم، وباعتباره أسلوبًا من أساليب التربية، تكمن في العديد من الأمور التي يجب إبرازها وأخذ العبرة منها حتى يتم تطبيقها في الجوانب التربوية.

وفي هذا المعنى يقول علوان: «وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام، بأن قص عليه أحسن القصص، ونزل عليه أحسن الحديث، ليكون للناس آية وعبرة، وللرسول صلى الله عليه وسلم عزمًا وتثبيتًا»

(2)

.

ومن الأهمية التي لها دور كبير في التربية عند الأخذ بأسلوب القصص، ما يذكره الهاشمي في عدة نقاط:

1 -

إثارة الشوق لمتابعة أحداث القصة وما يجري، أو كيف كان ذلك، وما النهاية؟

2 -

إشباع الخيال: فالقصة تنقل السامع إلى الماضي إن كانت كذلك، أو إلى مكان في شرق الأرض أو غربها إن كانت في الوقت الحاضر.

3 -

زيادة المعلومات بطريق حي، فالقصة التربوية لا تهدف إلى سرد الوقائع فحسب، بل قد يكتنفها معلومات وحكم، من عقيدة سليمة. كما تتضمن عدة وسائل تربوية ونفسية

(3)

.

(1)

القطان: مناع خليل، مباحث في علوم القرآن -مرجع سابق- (ص 305).

(2)

علوان: عبد الله ناصح، تربية الأولاد في الاسلام، دار السلام، بيروت -ط 3 - (1401 هـ)، (جـ 2)(ص 692).

(3)

الهاشمي: عبد الحميد محمد، الرسول العربي المربي. دار الهدى، الرياض، المملكة العربية السعودية -ط 2 - (1405 هـ)(ص 260 - 261).

ص: 291

وتتضح أهمية أسلوب القصص ليست في جوانب محددة فقط، إنما تشمل المجتمع بأكمله، وتعكس الفوائد عليه.

وفي هذا المعنى يقول الخالدي: «ومسلمو هذا الزمان أحوج ما يكونون لتحقيق هذا الهدف القرآني من قصصه، نحن أحوج ما نكون إلى أنْ نُثَبِّتَ بقصص القرآن أفئدتنا، ونحقق الطمأنينة لقلوبنا، ونرسخ على طريق الحق مواقعنا، وتثبت عليها أقدامنا، نحن أحوج الناس إلى هذا، لكثرة المثبطات والمعوقات والمغريات، التي تميز بها هذا العصر، واشتداد المعركة بين الحق والباطل .. »

(1)

.

إن أسلوب القصص من الأساليب القرآنية التي تميزت بأنها الصلة ما بين الفرد المسلم وما بين القيم والمبادئ الإسلامية.

وهذا ما أشار إليه ابن حميد حينما قال: «وجملة القول: أن القرآن الكريم يشتمل على كثير من القصص التربوية، التي تسهم إسهامًا فعالًا في تحقيق أهداف التربية الإسلامية، وذلك لأنها تضع المثل أمام المتعلمين، مما يساعد على غرس كثير من القيم التربوية السامية في نفوسهم، وتتميز القصة في القرآن أنها تمد القراء والجماعات بالقيم الإسلامية الصادقة النابعة منه»

(2)

.

مما تقدم تتضح أهمية أسلوب القصة، والتي وردت في القرآن الكريم في الكثير من السور والآيات، والتي تسرد قصص الأمم السابقة، وتحكي أحوال

(1)

الخالدي: صلاح عبد الفتاح، مع قصص السابقين في القرآن. دار القلم، دمشق -ط 1 - (1409 هـ)(ص 27).

(2)

ابن حميد: صالح، وآخرون -مرجع سابق- (جـ 1)(ص 156).

ص: 292

الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام. ومما تتميز به القصة في أسلوبها، هو تتبع الأحداث، وتشد ذهن السامع للخلوص إلى النتائج والنهايات. هذا ما يجعل أسلوب القصص في العملية التربوية ذا فائدة عظيمة حينما يربط المربي ما بين الأحداث والنتائج في ذهن الناشئة، وبذلك تتحقق الأهداف والغايات في العملية التربوية

(1)

.

‌الآثار التربوية لأسلوب القصة:

للقصة آثار تربوية عظيمة لعل من أهمها ما يلي:

1 -

القصة الهادفة تربي العواطف: وذلك عن طريق إثارة الانفعالات المختلفة كالخوف والترقب والرضا والارتياح والحب وغيرها، كل ذلك يثار في طيات القصة بما فيها من وصف رائع ووقائع مصطفاة، ثم توجيه هذه الانفعالات حتى تلتقي عند نتيجة واحدة هي النتيجة التي تنتهي إليها القصة، وعن طريق المشاركة الوجدانية حين يندمج القارئ أو السامع مع جو القصة العاطفي حتى يعيش معها بانفعالاته مع شخصياتها

(2)

.

2 -

توسيع مدارك الفرد: حيث إن القصة تزيد معلومات الفرد بطريقة حية، وتمده بمعارف عديدة، بما يكتنفها من معلومات وحكم وأفكار، توسع مدارك الفرد وتزيد ثقافته.

(1)

الفعر: خالد بن عوض بن علي -التربية الوقائية وأساليبها في سورة الحجرات وتطبيقاتها التربوية -مرجع سابق- (ص 103 - 105).

(2)

السريحي: محمد بن عيد، بعض المبادئ التربوية المستنبطة من قصة موسى والخضر عليه السلام، رسالة ماجستير، غير منشورة، كلية التربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، قسم التربية الإسلامية والمقارنة (1419 هـ) (ص: 85).

ص: 293

يقول عوض الله: «والقصة القرآنية تقوم بدور كبير في إمداد قارئها وسامعها بمعارف عديدة، حول الإنسان من ناحية اتجاهه وغرائزه، وخصائصه مع نفسه ومع الجماعة التي يعيشها، بالإضافة إلى العديد من المعارف وهي بذلك توسع مدارك الفرد، وتعينه على التكيف الاجتماعي بإمداده بألوان كثيرة من التجارب البشرية الدقيقة، وتنقل التجربة بظروفها وملابساتها صادقة بلا زيادة ولا نقص»

(1)

.

3 -

تثبيت الفؤاد وتحقيق الطمأنينة للقلب: وذلك حين تعرض القصة القرآنية أخبار الأنبياء والرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام وما شاهدوه من الشدائد والمحن، وكيف قابلوها بثبات وصبر حتى أظهرهم الله.

وفي ذلك يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، وهذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفترة المكية وهي فترة حرجة، فاحتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم إلى مواساة وأُنْس وتثبيت، فجاءه هذا القصص ليثبتهم في غمرة هجوم أهل الباطل الشرس ضد جنود الحق، وهو مما يسلي المُبْتَلَى ويريه بعين البصيرة إخوانه الذين ابْتُلوا فصبروا وظفروا، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجلُ فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه

(1)

عوض الله: الأمين، أساليب التربية والتعليم في الإسلام. دار القراءة للجميع، (1410 هـ)(ص 85).

ص: 294

وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء

(1)

إلى حضرموت

(2)

لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»

(3)

.

4 -

وفي القصص القرآني غرس وتنمية العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة: وذلك من خلال ما تعرضه القصة القرآنية من قصص الأمم الماضية وأخبارها وعرض عقائدها المنحرفة وكيف تصدي لها الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وبيان بطلانها.

وكيف كان حالهم من الصبر والثبات وتحمل الأذى في سبيل إبلاغ رسالة الله

(1)

صنعاء: هي: عاصمة الجمهورية اليمنية، وهي محافظة في وسط الجزء الغربي من جمهورية اليمن، وهي واحدة من المدن اليمنية القديمة التي يعود تاريخها إلى سلالة سبأ من القرن السادس قبل الميلاد وكان اسمها أولًا (أزال) فلمّا نزل بها الأحباش ونظروا إلى مبانيها المشيدة بالحجارة قالوا: هذه صنعة، ومعناها بلسانهم: حصينة، فسميت لذلك باسم (صنعاء) كما تعرف اليوم، وينظر: الموسوعة الحرة.

(2)

محافظة حضرموت: هي محافظة تقع شرق الجمهورية اليمنية وتحتل 36% من مساحتها، وتتكون حضرموت من ثلاثين مديرية، وعاصمتها هي مدينة المكلا وأكبر مدنها، وتأتي مدينة المكلا في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية في اليمن بعد صنعاء وعدن، وتحدها السعودية من الشمال، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الشمال الغربي محافظتي مأرب والجوف، ومن الشرق محافظة المهرة، ومن الغرب محافظة شبوة، وتبعد عن العاصمة صنعاء بحدود (794) كيلو مترًا.

وينظر: المركز الوطني للمعلومات، نبذه تعريفية عن محافظة حضرموت، تاريخ الولوج 23 آذار 2011 ميلادي، وينظر: الموسوعة الحرة.

(3)

البخاري (1407 هـ): محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري -بيروت- دار ابن كثير (جـ 6)(ص 2546)(22 مكرر).

ص: 295

للناس، وما تحلوا به من الأخلاق والفضائل الحميدة الأمر الذي يجعل الفرد يأخذ العبرة والعظة من ذلك فتتأثر نفسه ويستقيم على أثرها سلوكه وأخلاقه

(1)

.

5 -

في الأسلوب القصصي تشويق للمتلقي، ومنأى له عن الملل، فالقصة تسري إلى النفس بأريحية وانبساط، «وتسترسل مع سياقها المشاعر لا تمل ولا تكل، ويرتاد العقل عناصرها فيجني من حقولها الأزهار والثمار.

والدروس التلقينية والإلقائية تورث الملل، ولا تستطيع الناشئة أن تتابعها وتستوعب عناصرها إلا بصعوبة وشدة. وإلى أمد قصير. ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعًا وأكثر فائدة، والمعهود -حتى في حياة الطفولة- أن يميل الطفل إلى سماع الحكاية، ويصغي إلى رواية القصة، وتعي ذاكرته ما يُروى له، فيحاكيه ويقصه»

(2)

.

6 -

في القصة تفعيل لقوى الإنسان الفكرية وقدراته الذهنية «حيث تشترك كل الاستعدادات والمدارك في متابعتها بيقظة تامة وحرص كبير على ألا يتفلت منها شيء فتتشرب المعلومات بطريق مباشر أو غير مباشر، وتنسل الأفكار إلى النفس بسرعة وتتمكن من الأعماق»

(3)

.

(1)

الزيلعي: أحمد بن علي بن عمر - المضامين التربوية المستنبطة من سورة الفاتحة وتطبيقاتها التربوية -مرجع سابق- (ص 139 - 142) بتصرف يسير.

(2)

القطان: مناع خليل (1421 هـ) مباحث في علوم القرآن. الرياض: مكتبة المعارف، (ص 147).

(3)

ملك، بدر محمد؛ أبو طالب، خليل محمد (1409 هـ)، السبق التربوي في فكر الشافعي. الكويت: مكتبة المنار (ص 371).

ص: 296

7 -

القصة بعيدة الأثر، قليلة النسيان، تتمكن من المشاعر، وتأسر الأحاسيس، فيبقى أثرها وتهذيبها أكثر من بعض الأساليب التربوية الأخرى فإن الكلمات قد تنسى، ولكن الوقائع قلما تُنسى.

8 -

التربية بالقصة قابلة لشتى مجالات التربية في نفس الإنسان كما ورد استخدامها في القرآن لجميع أنواع التربية والتوجيه التي يشملها منهجه التربوي: تربية الروح، وتربية العقل، وتربية الجسم، والتوقيع على الخطوط المتقابلة في النفس، والتربية بالقدوة والتربية بالموعظة، فهي سجل حافل لجميع التوريدات

(1)

.

9 -

في تدبر قصص القرآن استكشاف السنن الربانية، وهي من أهم ما تعلمه الإنسان وفيها خلاصة تجارب الأمم، ومجموع نتائج الأحداث، ومن تأمل هذه السنن الربانية أبصر ما لا يبصره غير المتأملين، وفيها ما يسر المؤمنين من التمكين والنصر لهم، والهلاك والعذاب للمكذبين، وفي القصص دعوة مباشرة وغير مباشرة.

10 -

هذا الأسلوب شديد التأثير في المتلقي، يأخذ بتلابيب قلبه إلى هدف القصة، ويُسكن في القلب وحيَها، ومن هنا يتاح للمربي مجال لتثبيت أهدافه ومُثُلهِ.

يشير مدكور إلى أثر القصة فيقول: «والتربية بالقصة لون من التربية باستخدام الحدث، ولكنه حدث خارجي يقع لأشخاص غير قارئي القصة أو مستمعيها

(1)

قطب، محمد (1402 هـ). منهج التربية الإسلامية. -بيروت- دار الشروق (مج 1)(ص 194).

ص: 297

ومع ذلك فهو مؤثر في النفس كما لو كان يقع للقارئ أو المستمع ذاته، وهذا التأثير للقصة يقع عن طريقين اثنين في وقتٍ واحد:

أحدهما: هو المشاركة الوجدانية، فالمستمع أو المشاهد أو القارئ يتابع حركة الأشخاص في القصة ويتفاعل معهم فيفرح لفرحهم أو يحزن عليهم، أو يتشفى فيهم كما لو كانوا أحياء يتحركون أمامه.

أما الطريق الآخر: فربما كان يتم عن غير وعي كامل من الإنسان، ذلك أن قارئ القصة أو سامعها يضع نفسه أمام أشخاص القصة، ويظل طيلة القصة يعقد مقارنة خفية بينهم وبينه، فإنْ كانوا في موقف الرفعة والتميز تمنى لو كان في موقفهم، وإنْ كان في موقف يثير الازدراء والكراهية حمد لنفسه أنه ليس كذلك، وبهذا التأثير تثير القصة الانفعالات وتؤثر تأثيرًا توجيهيًّا بقدر ما تكون طريقة الأداء بليغة ومؤثرة والمواقف إنسانية»

(1)

.

11 -

في القصص عبرة وعظة ورحمة، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} [يوسف: 111].

12 -

في قصص السابقين ربط لمشاعر الأخوة الإيمانية وإن لم نعاصرهم، بل تخترق القرون حتى تلتقي المشاعر الأخوية.

قال عز وجل عن مؤمني الأخدود الذين عذبهم وفتنهم ملكهم في القرون السابقة: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ

(1)

مدكور: أحمد علي (2002 م) منهج التربية في التصور الإسلامي. القاهرة: دار الفكر العربي (ص 333).

ص: 298

شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} [البروج: 4 - 9].

13 -

أسلوب القصة يرسخ القيم الإيمانية في النفوس، فـ «القصةُ تعد أقدر الآثار الأدبية على تمثيل الأخلاق وتصوير العادات ورسم خلجات النفوس كما أنها إذا شرف غرضها ونبل قصدها وحسنت موضوعاتها تهذب الطباع وترقق القلوب وتدفع الناس إلى التمسك بالمثل العليا والقيم الكريمة والمعاني السامية»

(1)

.

14 -

بالتربية بالقصة يسهل ربط الناشئة بالقدوات، من الأنبياء عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم والصالحين والصالحات.

قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

15 -

التربية بالقصص القرآني تتضمن المعاني الإيجابية والأهداف التربوية وتخلو مما تتضمنه بعض القصص والروايات الخرافية من التخويف والتفزيع بقصص الرعب المخيف، وقصص السخرية من الآخرين، والتجسس، وإظهار الشخصية البطولية ذات القوة الخارقة التي لا تتورع عن أي تصرف لقهر الخصم، وتنشئ الطفل على العسف والظلم والقوة كوسيلة وحيدة لحل جميع المشاكل، وتغنيه أيضًا عن القصص المبنية على تدبير المقالب المضحكة والمواقف الغريبة التي تحتوي على مقاطع تنافي الآداب والأخلاق الكريمة،

(1)

عبدالعال: محمد قطب (د. ت) نظرات في قصص القرآن. مكة المكرمة: مطابع رابطة العالم الإسلامي (ص 21).

ص: 299

بقصص الرعب المخيف، وقصص السخرية من الآخرين، والتجسس، وإظهار الشخصية البطولية ذات القوة الخارقة التي لا تتورع عن أي تصرف لقهر الخصم، وتنشئ الطفل على العسف والظلم والقوة كوسيلة وحيدة لحل جميع المشاكل، وتغنيه أيضا عن القصص المبنية على تدبير المقالب المضحكة والمواقف الغريبة التي تحتوي على مقاطع تنافي الآداب والأخلاق الكريمة، مما تؤثر سلبا على المتلقي ولا تؤسس لطفل ذي قيم ومبادئ سامية وأخلاق کريمة، بل طفل يبحث عن المتعة والتسلية فقط بعيدا عن الجدية والعمل الصالح والمثابرة والبذل والتضحية.

16 -

تُسهم القصة القرآنية بما تحتويه من أساليب إيمانية ومبادئ تربوية - في غرس المبادئ الإيمانية والأسس التربوية والأهداف السامية في نفس الفرد عامة والطفل خاصة، والوصول إلى المعلومات العلمية الجادة، وتدربه على الربط والتحليل والاستنتاج والمقارنة، كما أنها تنمي لدى الطفل المفردات اللغوية إذ إن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين.

وبهذا ينتهي المبحث الأول.

والحمد لله رب العالمين.

أبو عبد الرحمن

عرفة بن طنطاوي

arafatantawy@hotmil.com

ص: 300

عناية الإسلام بتربية الأبناء

كما بينتها سورة لقمان

اسم الكتاب: عناية الإسلام بتربية الأبناء

المؤلف: أبو عبد الرحمن عرفة بن طنطاوي

سنة الطبع: 1441 هـ - 2020 م

عدد الطبعات: الأولى

عدد الصفحات: 408

عدد الملازم: 25. 5

الناشر:

دار المأثور

للنشر والتوزيع

Darallathour.com

الجوال: 966508238040 +

دار الأمل

صناعة فكر ومنارة وعي

Daralamal 2014@gmail.com

الجوال: 01000282166/ 2 +

رقم الإيداع:/ 2018

الترقيم الدولي: 978 - 977 - 6546 - 455

حقوق الطبع محفوظة 1440 هـ، لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من المؤلف.

دار المأثور

دار الأمل

دراسة تحليلية موضوعية

(رسالة ماجستير)

عناية الإسلام بتربية الأبناء

كما بينتها سورة لقمان

الموسوعة البحثية التأصلية في الدراسات القرآنية

بحث مدعم ببيان روافد التربية

[البيت- المدرسة- المسجد- الإعلام]

الجزء الثاني

تأليف الدكتور/ عرفة بن طنطاوي

أستاذ التفسير وعلوم القرآن للدراسات العليا

بالجامعة الإسلامية والمعهد العالي للأئمة والخطباء بمنيسوتا

بحوث ورسائل علمية جامعية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 304

‌المبحث الثاني التعريف بالسورة الكريمة

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: اسم السورة وسرّ تسميتها.

المطلب الثاني: نزولها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها.

المطلب الثالث: الجوانب البلاغية في السورة الكريمة.

المطلب الرابع: موضوع السورة الكريمة.

المطلب الخامس: المناسبات في السورة الكريمة.

ص: 305

‌المطلب الأول اسم السورة الكريمة وسر تسميتها

‌أولاً: اسم السورة الكريمة: (سورة لقمان)

.

قالَ: إنها سورة لقمان كلٌّ من:

عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت 211 هـ)

(1)

، وأبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت 220 هـ)

(2)

، وأَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت 303 هـ)

(3)

، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت 352 هـ)

(4)

، ولا يُعلم أيّ خلاف في تسميتها بسورة لقمان.

‌ثانيًا: سر تسميتها

.

يقول ابن عاشور: «سمّيت هذه السّورة الكريمة -سورة لقمان-، بإضافتها إلى لقمان عليه السلام؛ لأنّ فيها ذكر لقمان وحكمته وجملًا من حكمته التي أدّب بها ابنه وليس لها اسمٌ غير هذا الاسم، وبهذا الاسم عرفت بين القرّاء والمفسّرين،

(1)

تفسير عبد الرزاق (2/ 105).

(2)

تفسير الثوري (238).

(3)

السنن الكبرى للنسائي (10/ 212).

(4)

تفسير مجاهد (503).

ص: 307

ولم أقف على تصريحٍ به فيما يُروى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسندٍ مقبولٍ»

(1)

.

ويقول الصابوني: «سميت هذه السورة (سورة لقمان) بهذا الاسم لاشتمالها على موعظة لقمان عليه السلام التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله وصفاته وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمنته من الوصايا الثمينة»

(2)

.

ويقول شحاتة: «سميت بسورة لقمان لورود موعظة لقمان عليه السلام فيها، وكان من الحكماء الأقدمين»

(3)

.

ويقول الباحث: إن تسمية السورة الكريمة بسورة لقمان جاء تمشيًا مع القاعدة المتبعة عند أئمة التفسير بتسمية السورة بأبرز ما ورد فيها، ذلك مع مراعاة اعتبار الخلاف المشهور عند أئمة التفسير في كون أسماء السور توقيفية أو اجتهادية كلها أو بعضها، أو كون بعضها اجتهاديًّا من الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم أجمعين.

(1)

مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت 1393 هـ) التحرير والتنوير (21/ 137)، الدار التونسية للنشر والتوزيع (1984 م).

(2)

الصابوني: محمد علي، صفوة التفاسير. دار الصابوني، الطبعة: التاسعة (جـ 3)(ص 486).

(3)

شحاته: عبد الله محمود، أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2 (1981 م).

ص: 308

‌المطلب الثاني

نزولها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها

ويندرج تحت هذا المطلب ما يلي:

‌1 - ترتيبها في المصحف الشريف:

سورة لقمان هي السورة الحادية والثلاثون [31] من بين سور المصحف الشريف توسطت بين سورتي الروم والسجدة على الترتيب.

‌2 - عدد آياتها:

أربع وثلاثون آية [34] في عد أهل الشام

(1)

، والبصرة

(2)

،

(1)

بلاد الشام: هي المنطقة الممتدة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وتمتد شرقًا إلى منطقة جزيرة سورية شرق نهر الفرات، وتمتد شمالًا من بلاد الروم (تركيا) حاليًا إلى حدود مصر وجزيرة العرب جنوبًا، وتشتمل في الوقت الحاضر على: سورية وفلسطين ولبنان والأردن وأجزاء من تركيا (ديار بكر، واسكندرون، وأضنة)، ويسمى سكان هذه المنطقة الشوام، وينظر: الموسوعة الحرة- بتصرف

(2)

البصرة: هي ثالث أكبر مدينة في جمهورية العراق ومركز محافظة البصرة، وتقع في أقصى جنوب العراق على الضفة الغربية لشط العرب، وهو المعبر المائي الذي يتكون من التقاء نهري دجلة والفرات في القرنة على بعد مائة وعشرة (110 كم) شمال مدينة الفاو، والبصرة من المدن العربية الكبرى حيث تحتل المركز الثالث عشر حسب الإحصائيات عام 2007 م من حيث عدد السكان، وينظر: الموسوعة الحرة.

ص: 309

والكوفة

(1)

(2)

(3)

، [33] وهي ثلاث وثلاثون في المكي والمدني

(4)

.

‌الخلاف في عدد آيات سورة لقمان:

- قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ).: «وهي ثلاثون وثلاث آيات في عدد المدنيين

(5)

(1)

الكوفة: هي مدينة عراقية تقع في محافظة النجف على جانب الفرات الأوسط غربًا، وتبعد (170) كم جنوب بغداد و (10) كم شمال شرق النجف، ويقدر عدد سكانها حسب إحصاءات عام 2003 م بـ (110، 000) نسمة.

أسسها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه معسكرًا عام 638 م، بعد معركة القادسية زمن خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه بالقرب من مدينة الحيرة، حاضرة المناذرة، وقد ازدهرت الكوفة في أيام الحكم الأموي، وقد دمجت المدينتان عام 691 م على أيام عبد الملك بن مروان وكانت تُسمَّى قديمًا بـ (كوفان)، وينظر: الموسوعة الحرة.

(2)

(وهم من أصحاب القراءات المتواترة، فالمكي ابن كثير، والمدنيان نافع وأبو جعفر، والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي، والشامي ابن عامر، والبصري أبو عمرو ويعقوب، والبغدادي خلف).

(3)

محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير و التنوير، الدار التونسية للنشر والتوزيع، تونس، (جـ 21، 1984، ص 138).

(4)

(أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط (7/ 183)، الألوسي: روح المعاني (3/ 64).

(5)

المدينة: هي أحد مدن الحجاز، وتقع في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية، شمالًا من مكة المكرمة، وهي أول عاصمة للدولة الإسلامية، عرفت قبل الإسلام باسم يثرب، بها المسجد النبوي الشريف ثاني الحرمين الشريفين وأهم المقدسات لدى المسلمين بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة، تعرف المدينة بطيبة، وطابة، وهي المدينة التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبها مسجد قباء والذي يعد من أهم معالمها بعد المسجد النبوي الشريف، وبها بقيع الغرقد الذي قُبِرَ فيه جمع غفير من الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، وبها قبور شهداء أحد، وهي تحتل مكانة= =جليلة بين مدن العالم الإسلامي ولها قدسيتها وخصوصيتها في قلوب المسلمين؛ فهي دار الهجرة، ومهبط الوحي، ومثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي دار المجتمع الإسلامي الأول، ومنطلق الجيوش الإسلامية الفاتحة، وهي سيدة البلدان، وعاصمة الإسلام الأولى وتجتمع فيها معالم تاريخية ومعان إيمانية جمة، وتملأ أمجادها وفضائلها الأسماع والأبصار، وقد ورد في فضلها أحاديث نبوية كثيرة تبين جوانب هذه الفضائل، اهتم بجمعها مدونو الحديث الشريف، وجعلها بعضهم في باب مستقل من مصنفاته، وينظر: الموسوعة الحرة- بتصرف.

ص: 310

والمكي، وأربع في عدد الباقين»

(1)

.

- قالَ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «وآياتها 34 وقيل: 33»

(2)

.

- قال أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت: ق 11 هـ)

(3)

نحو (1100 هـ): «وآيها ثلاث أو أربع وثلاثون آية»

(4)

.

- قالَ أبو الفَرَجِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَلِيِّ بنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «سورة لقمان: ثلاث وثلاثون آية في عد المكي والمدنيين، وأربع في عد الشامي والبصري وعطاء، .. »

(5)

.

- قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): «وهي ثلاثون وأربع آيات في الكوفي والبصري والشامي، وثلاث آيات في المدنيين

(1)

البيان (206).

(2)

الكشاف (5/ 5).

(3)

نعني بالرمز (ت: ق 11 هـ): أنه توفي في القرن الحادي عشر من الهجرة. الباحث.

(4)

منار الهدى (302).

(5)

فنون الأفنان (278 - 327).

ص: 311

والمكي»

(1)

.

- قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ البَيْضَاوِيُّ (ت: 691 هـ): «وهي أربع وثلاثون آية وقيل ثلاث وثلاثون»

(2)

.

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «وعدد آياتها ثلاثون وثلاث مدني ومكي وأربع للباقين»

(3)

.

- قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393 هـ): «وعدّت آياتها ثلاثًا وثلاثين في عدّ أهل المدينة ومكّة، وأربعًا وثلاثين في عدّ أهّل الشّام والبصرة والكوفة»

(4)

.

‌القول الأول: ثلاث وثلاثون آية:

- قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338 هـ): «آياتها 33 آية»

(5)

.

- قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «وهي ثلاثون وثلاث آيات في عدد المدنيين والمكي»

(6)

.

- قالَ أبو الفَرَجِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَلِيِّ بنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «سورة

(1)

جمال القراء (1/ 211 - 212).

(2)

أنوار التنزيل (4/ 212).

(3)

القول الوجيز (260).

(4)

التحرير والتنوير (21/ 138).

(5)

معاني القرآن (5/ 275).

(6)

البيان (206).

ص: 312

لقمان: ثلاث وثلاثون آية في عد المكي والمدنيين .. »

(1)

.

- قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): « .. وهي ثلاثون وأربع آيات في الكوفي والبصري والشامي، وثلاث آيات في المدنيين والمكي»

(2)

.

- قال أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت: ق 11 هـ) نحو (1100 هـ): «وآيها ثلاث أو أربع وثلاثون آية»

(3)

.

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «وعدد آياتها ثلاثون وثلاث مدني ومكي»

(4)

.

- قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393 هـ): «وعدّت آياتها ثلاثًا وثلاثين في عدّ أهل المدينة ومكّة

(5)

.. »

(6)

.

(1)

فنون الأفنان (278 - 327).

(2)

جمال القراء (1/ 211 - 212).

(3)

منار الهدى (302).

(4)

القول الوجيز (260).

(5)

مكة المكرمة: المدينة المقدسة، يتوسطها بيت الله العتيق، أول مسجد وضع في الأرض، وبها ولد وبعث خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وهي مهبط الوحي، ومهد الرسالة، وهي قبلة المسلمين، ومهوى أفئدة المؤمنين، وأحب البقاع إلى الله عز وجل وهي أعظم وأقدس بقعة على وجه الأرض، وتقع مكة المكرمة غرب المملكة العربية السعودية، وتبعد عن المدينة المنورة حوالي أربعمائة كم في الاتجاه الجنوبي الغربي، وعن مدينة الطائف حوالي (120) كم في الاتجاه الشرقي، وعن العاصمة الاقتصادية جدة (72) كم، وينظر: موسوعة الجزيرة- بتصرف.

(6)

التحرير والتنوير (21/ 138).

ص: 313

‌القول الثاني: أربع وثلاثون آية:

- قالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبيُّ (ت: 427 هـ): «أربع وثلاثون آية»

(1)

.

- قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «وهي ثلاثون وثلاث آيات في عدد المدنيين والمكي، وأربع في عدد الباقين»

(2)

.

- قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «وآياتها أربع وثلاثون»

(3)

.

- قال أبو عبدِ الله محمدُ بنُ طَيْفُورَ الغزنويُّ السَّجَاوَنْدِيُّ (ت: 560 هـ): «أربع وثلاثون آية»

(4)

.

- قالَ أبو الفَرَجِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَلِيِّ بنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «سورة لقمان: ثلاث وثلاثون آية في عد المكي والمدنيين، وأربع في عد الشامي والبصري وعطاء .. »

(5)

.

- قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): «وهي ثلاثون وأربع آيات في الكوفي والبصري والشامي، وثلاث آيات في المدنيين والمكي»

(6)

.

- قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بْنِ جُزَيءٍ الكَلْبِيُّ (ت: 741 هـ): «وآياتها أربع

(1)

الكشف والبيان (7/ 309).

(2)

البيان (206).

(3)

الوسيط (3/ 440).

(4)

علل الوقوف (2/ 804).

(5)

فنون الأفنان (278 - 327).

(6)

جمال القراء (1/ 211 - 212).

ص: 314

وثلاثون آية»

(1)

.

- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وهي أربع وثلاثون آية»

(2)

.

- قالَ جَلَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ): «وآياتها أربع وثلاثون»

(3)

.

- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923 هـ): «وآيها أربع وثلاثون»

(4)

.

- قال أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت: ق 11 هـ) نحو (1100 هـ): «وآيها ثلاث أو أربع وثلاثون آية»

(5)

.

- قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ (ت: 1250 هـ): «آياتها أربع وثلاثون آية»

(6)

.

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «وعدد آياتها ثلاثون وثلاث مدني ومكي، وأربع للباقين»

(7)

.

(1)

التسهيل (2/ 137).

(2)

عمدة القاري (19/ 159).

(3)

لباب النقول (184).

(4)

إرشاد الساري (7/ 288).

(5)

منار الهدى (302).

(6)

فتح القدير (4/ 307).

(7)

القول الوجيز (260).

ص: 315

- قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393 هـ): «أربعًا وثلاثين في عدّ أهّل الشّام والبصرة والكوفة»

(1)

.

- قال عبيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ سُلَيمانَ الجابريُّ (م)

(2)

: «وعدد آياتها أربع وثلاثون آية»

(3)

.

‌مواضع اختلاف العدد في السورة الكريمة:

- قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «اختلافها آيتان: {الم} عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} عدها البصري والشامي ولم يعدها الباقون»

(4)

.

- قالَ أبو الفَرَجِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَلِيِّ بنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «اختلافها آيتان. عد الكوفي {الم} آية، وعد الشامي والبصري {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} آية»

(5)

.

- قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): «سورة لقمان عليه السلام: اختلافها موضعان، .. » «{الم} للكوفي، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الآية: 32] للبصري والشامي»

(6)

.

(1)

التحرير والتنوير (21/ 138).

(2)

نعني بالرمز إلى حرف الـ (م): أنه معاصر. الباحث.

(3)

إمداد القاري (3/ 207).

(4)

البيان (206).

(5)

فنون الأفنان (278 - 327).

(6)

جمال القراء (1/ 211 - 212).

ص: 316

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «اختلافهم في موضعين:

الأول: {الم} عده الكوفي ولم يعده الباقون.

الثاني: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} عده البصري والشامي ولم يعده الباقون»

(1)

.

القول الراجح في عد آي السورة الكريمة:

ومن خلال ما مضى بيانه يتبين أن القول الراجح هو: القول الثاني، أي: أن عدد آياتها: أربع وثلاثون آية شامي وبصري وكوفي وعليه الأكثرون، والله تعالى أعلى وأعلم

(2)

.

‌رؤوس الآي في السورة الكريمة:

- قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «ورؤوس الآي هي:

1 -

{الم} [لقمان: 1].

2 -

{الْحَكِيمِ (2)} [لقمان: 2].

3 -

{لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان: 3].

4 -

{يُوقِنُونَ (4)} [لقمان: 4].

5 -

{الْمُفْلِحُونَ (5)} [لقمان: 5].

6 -

{مُهِينٌ (6)} [لقمان: 6].

ص: 317

7 -

{أَلِيمٍ (7)} [لقمان: 7].

8 -

{النَّعِيمِ (8)} [لقمان: 8].

9 -

{الْحَكِيمُ (9)} [لقمان: 9]

10 -

{كَرِيمٍ (10)} [لقمان: 10]

11 -

{مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]

12 -

{حَمِيدٌ (12)} [لقمان: 12]

13 -

{عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]

14 -

{الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14]

15 -

{تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15]

16 -

{خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16]

17 -

{الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17]

18 -

{فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]

19 -

{الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]

20 -

{مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]

21 -

{السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 21]

22 -

{الْأُمُورِ (22)} [لقمان: 22]

23 -

{الصُّدُورِ (23)} [لقمان: 23]

ص: 318

24 -

{غَلِيظٍ (24)} [لقمان: 24]

25 -

{لَا يَعْلَمُونَ (25)} [لقمان: 25]

26 -

{الْحَمِيدُ (26)} [لقمان: 26]

27 -

{حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]

28 -

{بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28]

29 -

{خَبِيرٌ (29)} [لقمان: 29]

30 -

{الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32]

31 -

{شَكُورٍ (31)} [لقمان: 31]

32 -

{كَفُورٍ (32)} [لقمان: 32]

33 -

{الْغَرُورُ (33)} [لقمان: 33]

34 -

{خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]

(1)

.

قاعدة رؤوس الآي (الفواصل) في السورة الكريمة:

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «وقاعدة فواصلها: نظم در»

(2)

.

نحو: «يوقنون، وغليظ، وكريم، والحميد، ومنير»

(3)

.

(1)

البيان (206).

(2)

يعني: أن آخر حرف الفاصلة لا يخرج عن حروف هذه الجملة: «نظم در» (في هذه السورة). الباحث.

(3)

القول الوجيز (260).

ص: 319

‌نظائر سورة لقمان في العدد:

- قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «ونظيرتها في البصري والشامي الأحقاف ولا نظير لها في غيرهما»

(1)

.

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «نظيرتها في البصري والشامي سورة الأحقاف ولا نظير لها في غيرهما»

(2)

.

‌3 - مواضع النسخ في السورة الكريمة

.

‌الموضع الأول:

قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].

- قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437): «سورة لقمان (مكية). ذكر بعض العلماء أن قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] منسوخٌ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا: ما شاء الله وشئت، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شئت»

(3)

، يريد نسخ الجمع بين الشّكرين بالواو، فيستوي الشكران، ولكن يكون بـ «ثم» فيتقدّم الشّكر لله كالمشيئة»

(4)

.

- قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): «سورة لقمان: ليس فيها نسخ، وزعم قوم أن قوله عز وجل: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل: ما شاء الله وشئت، ولكن قل: ما شاء الله ثم شئت» أي: نسخ الجمع بين الشكرين بالواو فيستوي الشكران، ولكن يكون بـ «ثم»

(1)

البيان (206).

(2)

القول الوجيز (260).

(3)

الألباني، السلسلة الصحيحة (266/ 1) إسناده حسن.

(4)

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (379).

ص: 320

فتقدم الشكر لله كالمشيئة، فعلى هذا لا يجوز أن تتلى هذه الآية، وهذا خلف من القول.

وقالوا في قوله عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] الآية.

نسخ معناها بالسيف

(1)

، وليس كما قالوا، وقد تقدم الجواب»

(2)

الآية. [لقمان: 23].

‌الموضع الثاني:

قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23].

- قَالَ أَبو مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 456 هـ): «سورة لقمان، وجميعها محكم غير آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]»

(3)

.

- قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): «سورة لقمان نزلت بمكّة وفيها من المنسوخ آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]، نسخ معناها لا لفظها بآية السّيف والباقي محكم»

(4)

.

(1)

أي: بآية السيف، وما يطلق عليه آية السيف هي الآية الخامسة من سورة التوبة وهي قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].

قال ابن كثير رحمه الله: «وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ السَّيْفِ» انتهى. من تفسير ابن كثير (4/ 99).

(2)

جمال القراء (1/ 348).

(3)

الناسخ والمنسوخ لابن حزم (50).

(4)

الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (143).

ص: 321

- قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «باب: ذكر ما ادّعي عليه النّسخ في سورة لقمان قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذا منسوخٌ بآية السّيف، وقال بعضهم: نسخ معناها لا لفظها بآية السّيف، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنّها إنّما تضمّنت التّسلية له عن الحزن، وذلك لا ينافي القتال»

(1)

.

‌4 - ترتيبها بين السور المفتتحة بحروف الهجاء المقطعة:

والسور المفتتحة بحروف الهجاء المقطعة في القرآن الكريم على النحو التالي: جاءت الحروف المقطعة في فاتحة تسع وعشرين سورة وتسمى فواتح السور، وهي:

1 -

{الم (1)} : البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.

2 -

{المص (1)} : الأعراف.

3 -

{الر} : يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر.

4 -

{المر} : الرعد.

5 -

{كهيعص (1)} : مريم.

6 -

{طه (1)} : طه.

7 -

{طسم (1)} : الشعراء، القصص.

8 -

{طس} : النمل.

(1)

نواسخ القرآن (426).

ص: 322

9 -

{يس (1)} : يس.

10 -

{ص} : ص.

11 -

{حم (1)} : غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.

12 -

{حم (1) عسق (2)} : الشورى.

13 -

{ق} : ق.

14 -

{ن} : القلم.

وجاءت على النحو التالي:

1 -

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1 - 2].

2 -

{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} [آل عمران: 1 - 3].

3 -

{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 1 - 2].

4 -

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} [يونس: 1].

5 -

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1].

6 -

{الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 1 - 2].

7 -

{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)} [الرعد: 1].

ص: 323

8 -

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1].

9 -

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)} [الحجر: 1].

10 -

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)} [مريم: 1 - 2].

11 -

{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} [طه: 1 - 2].

12 -

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الشعراء: 1 - 2].

13 -

{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)} [النمل: 1].

14 -

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [القصص: 1 - 2].

15 -

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 1 - 2].

16 -

{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} [الروم: 1 - 2].

17 -

{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} [لقمان: 1 - 2].

18 -

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [السجدة: 1 - 2].

19 -

{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس: 1 - 2].

20 -

{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1].

21 -

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} [غافر: 1 - 2].

22 -

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} [فصلت: 1 - 2].

ص: 324

23 -

{حم (1) عسق (2)} [الشورى: 1 - 2].

24 -

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الزخرف: 1 - 2].

25 -

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الدخان: 1 - 2].

26 -

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} [الجاثية: 1 - 2].

27 -

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} [الأحقاف: 1 - 2].

28 -

{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق: 1].

29 -

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: 1].

وتأتي هذه الأحرف آية، وجزءًا من آية، وآيتين: على مثال النحو التالي:

1 -

مثال الأحرف في آية:

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1 - 2].

2 -

مثال الأحرف في جزء من آية:

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} [يونس: 1].

3 -

مثال الأحرف في آيتين:

{حم (1) عسق (2)} [الشورى: 1 - 2].

وتصنف الحروف المقطعة على أساس المباني إلى:

* ثلاث سور افتتحت بحرف واحد: ص، صلى الله عليه وسلم، ن.

* وعشر سور افتتحت بحرفين: طه، طس، يس، حم.

* واثنتا عشرة سورة افتتحت بثلاثة: أحرف: الم، الر، طسم.

ص: 325

* وسورتان اثنتان افتتحتا بأربعة أحرف: المص، المر.

* وسورتان اثنتان افتتحتا بخمسة أحرف: كهيعص، (حم عسق).

ومن الأحرف المقطعة ما تكرر في فواتح السور فجاء على النحو التالي:

1 -

ما افتتحت به سورة واحدة: المص، المر، كهيعص، طه، طس، يس، ص، (حم عسق)، ق، ن.

2 -

ما افتتحت به سورتان: طسم.

3 -

ما افتتحت به خمس سور: الر.

4 -

ما افتتحت به ست سور: الم، حم

(1)

.

وسورة لقمان هي السابعة عشر (17) من بين السور التسع والعشرين (29) التي افتتحت بحروف الهجاء المقطعة في كتاب الله، افتتحت بقوله سبحانه:{الم (1)} [لقمان: 1].

سبقتها ست عشرة سورة (16)، وتلتها اثنتا عشرة سورة (12)، وهي من

(1)

ومنهم من جمع الحروف المقطعة في قوله:

1 -

صراط علي حق نمسكه.

2 -

صح طريقك مع السنة.

3 -

طرقَ سَمْعَكَ النصيحةُ.

4 -

سر حصين قطع كلامه.

5 -

صن سرًّا يقطعك حمله.

6 -

نص حكيم قاطع له سر.

وهذه هي أشهر الكلمات المعروفة والتي ألفت من تلك الحروف.

ص: 326

المفتتح بثلاثة أحرف، وهي السور الأكثر عددًا بين السور التي افتتحت بهذه الحروف.

‌طريقة قراءة الحروف المقطعة:

لا تُقرأ هذه الحروف كالأسماء مثل باقي الكلمات، بل تُقرأ واحدة واحدة بصورة متقطعة، ومن أجل ذلك سميت بالحروف المقطعة.

فننطق (الم) بهذه الكيفية: (ألفْ لامْ ميمْ)، وننطق (طسم) بهذه الكيفية:

(طا سينْ ميمْ)، وهكذا بالنسبة للبقية، مع ملاحظة تسكين الأواخر باستمرار، وفي هذا سر من أسرار وجوب أخذ القرآن بالتلقي والمشافهة.

‌5 - أقوال العلماء في الحروف المقطعة في بداية السور

.

‌ويتبين للدراسة:

أنه من المناسبة بمكان، الكلام عن الحروف المقطعة المفتتح بها أوائل بعض السور بإيجاز، لأن موضوع البحث متعلق بسورة لقمان وهي من السور المفتتحة ببعض تلك الحروف.

وقبل ذكر أقوال العلماء في الأحرف المقطعة لا بد من ذكر بعض الأمور:

أولًا: أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث صحيح مرفوع في معنى هذه الأحرف

(1)

، ومن ثَمَّ فإن القول في تفسيرها لا سند له من الكتاب أو السنة الصحيحة بالنص.

ثانيًا: أن افتتاح الكلام بالأحرف الهجائية المقطعة أسلوب لم يكن معروفًا

(1)

(في حدود علم الباحث).

ص: 327

عند العرب ولم يألفوه من قبل، وإنما كان أسلوبًا جديدًا؛ ولذا فلن نجد لها شاهدًا من كلام العرب فيما أعلم.

ثالثًا: أنه إذا لم يكن تفسير هذه الأحرف قد ورد في الكتاب ولا في السنة، وليس له شاهد في لغة العرب؛ فإن الأقوال فيها مَحْضُ تخرصاتٍ، لا يصح أبدًا أن يجزم أحد بمعناها، كما قال الشوكاني -رحمه الله تعالى:«اعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازمًا بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعًا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدودًا عنده من الرطانة .. »

(1)

.

ومع هذا فإن من أقوال المفسرين لها ما هو معقول وقريب ولا عيب فيه إلا عدم الدليل، ومنها ما يفقد الدليل مع البعد والغرابة، والشطط والتكلف

(2)

.

وهذه الأمور من الأهمية بمكان، فكان لا بد من التنبيه عليها قبل ذكر أقوال العلماء فيها مقتضبة.

‌أقوال أهل العلم في الحروف المقطعة:

ولقد اختلف العلماء اختلافًا كبيرًا في الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل بعض السور، حيث يرى بعضهم أن علمها عند الله، ويرى بعضهم أن فيها وجهًا

(1)

الشوكاني، فتح القدير (1/ 30).

(2)

د/ فهد بن عبد الرحمن الرومي- وجوه التحدي والإعجاز في الحروف المقطعة في أوائل السور مجلة البحوث الإسلامية-العدد الخمسون (من ذي الحجة إلى صفر)، (إصدارها كل ثلاثة أشهر)(1417 - 1418 هـ) - (ص 147 - 148) بتصرف يسير.

ص: 328

من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وذكر بعضهم أنها قَسَمٌ، كما جاء عن الأخفش الأوسط الذي علل كونها قسمًا بقوله: إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها، لأنها مباني كتبه المنزلة، ومبادئ أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام العرب، بها يتعارفون ويذكرون الله تعالى ويوحدونه

(1)

.

ورغم تعدد أقوال المفسرين في تفسير هذه الحروف المفتتح بها أوائل السور؛ إلا أن هناك محلًّا متفقًا عليه بين أهل العلم في هذه الحروف، وهو أن أهل الإسلام أجمعوا على أن لهذه الحروف معنى، وأنها ذُكِرت لحكمة.

‌يقرر هذا ويوضحه ثلاثة أمور:

‌الأمر الأول:

أن الله أمرنا بتدبر كتابه وتفهمه دون استثناء، فدخلت الحروف المقطعة في هذا الأمر، قال الله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]، وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68].

‌الأمر الثاني:

أن الله -تعالى- قد تحدى عباده من الإنس والجن بأن يأتوا

(1)

(1/ 36) السيوطي: الإتقان (2/ 11).

- وللاستزادة، ينظر: البغوي: معالم التنزيل (1/ 44)، ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن (231)، الراز ي: مفاتيح الغيب أو (التفسير الكبير)(2/ 7)، البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 13)، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (11/ 166)، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم.

ص: 329

بسورة من مثل هذا القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات، وقراء الكوفة يعدون الحروف المقطعة آية في كل سورة، و {حم (1) عسق (2)} [الشورى: 1 - 2] آيتان.

فلو أتوا بآيتين مكونتين من حروف مقطعة، ثم أتوا بآية من موضع آخر لأدوا ما تحداهم الله به، فلو لم يكن لها معنى لقالوا: كيف يتحدانا بكلام لا نفهمه؟

(1)

.

‌الأمر الثالث:

أن الله - تعالى - حكيم، وهذا كلامه، فهو كلام حكيم، نزل من لدن حكيم حميد، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 41 - 42]، فإذا كان هذا القرآن تنزيلًا من حكيم حميد، كيف يوجد في كلامه ما لا معنى له، ولم يُذْكَر لحكمة؟، قال الله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1].

قال العلامة السعدي: «وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فالأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي، مع الجزم بأن الله ـ تعالى ـ لم ينزلها عبثًا، بل لحكمة لا نعلمها

(2)

». اهـ.

(1)

ينظر: مفاتيح الغيب (2/ 251).

(2)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص 40)، ط مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ (1421 هـ 2000 م). وينظر: د/ محمد حسن أبو النجا- تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور وسبب اختصاص كل سورة بالحروف التي افتتحت بها (ص 11) -وما بعدها بحث غير منشور- موقع الألوكة بتصرف يسير- (29/ 7/ 1433 هـ -/ 6/ 2012 - م).

ص: 330

والحروف المقطعة ليست هي موضوع البحث هنا فلا يناسبها الاستطراد والإطالة في البحث كما تبين لنا آنفًا.

وممن أجمل أقوال العلماء في المسألة (الزركشي)، فقال: اختلف الناس في الحروف المقطعة في أوائل السور، وأنها على قولين:

أحدهما: أن هذا علم مستور، وسر محجوب استأثر الله به.

القول الثاني: أن المراد منها معلوم، وذكروا فيه ما يزيد على عشرين وجهًا؛ منها البعيد ومنها القريب

(1)

.

وقد تعددت أقوال المفسرين في تفسير هذه الحروف حتى وصل بها الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى ثلاثين قولًا

(2)

.

ولهذا رُوِي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور»

(3)

.

ورُوِي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «إن لكل كتاب صفوة، وصفوة

(1)

ينظر: تفصيل هذا والعشرين وجهًا في البرهان (1/ 173 - 177).

(2)

ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (8/ 554)، ط دار المعرفة -بيروت-، بتحقيق: محب الدين الخطيب.

(3)

- لم أجد هذا الأثر عن أبي بكر رضي الله عنه مسندًا، ولكن ذكره أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير (1/ 20)، ط المكتب الإسلامي -بيروت- الثانية (1404 هـ)، والرازي في مفاتيح الغيب (2/ 249)، وأبو حيان في البحر المحيط (1/ 157)، وأبو السعود محمد بن محمد العمادي في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الحكيم (1/ 21)، ط دار إحياء التراث- بيروت.

ص: 331

هذا الكتاب حروف التهجي»

(1)

.

- وقال الشعبي: «إنها من المتشابه، نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عز وجل» .

- وقال الفخر الرازي: «وقد أنكر المتكلمون هذا القول وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يفهمه الخلق، لأن الله تعالى أمر بتدبره والاستنباط منه، وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه»

(2)

.

ومن خلال المدارسة والبحث تبين أن أشهر وأظهر ما ورد في الحروف المقطعة قولان:

الأول: أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه.

والثاني: أنها للإعجاز والتحدي، والله أعلم.

‌6 - عدد كلماتها:

عدد كلمات سورة لقمان:

ذِكْرُ مَن قال: إنها خمسمائة وثمان وأربعون كلمة (548):

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبيُّ، (ت: 427 هـ)

(3)

، عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ)

(4)

، عليُّ بنُ محمدٍ الخازنُ (ت: 725 هـ)

(5)

، نظامُ الدينِ الحسنُ

(1)

ينظر: مفاتيح الغيب (2/ 249)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 154)، وإرشاد العقل السليم (1/ 21).

(2)

د. صبحى الصالح: مباحث في علوم القرآن (ص 236).

(3)

الكشف والبيان (7/ 309).

(4)

البيان (206).

(5)

لباب التأويل (3/ 396).

ص: 332

ابنُ محمدٍ النيسابوريُّ (ت: 728 هـ)

(1)

، محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ)

(2)

، عمرُ بنُ عليِّ بنِ عادلٍ الدمشقيُّ الحنبليُّ (ت: 880 هـ)

(3)

، الخطيب محمد بن أحمد الشربيني (ت: 977 هـ)

(4)

، أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت: ق 11 هـ) نحو (1100 هـ)

(5)

، رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ)

(6)

، محمدُ بنُ عمرَ الجاويُّ (ت: 1316 هـ)

(7)

.

‌7 - عدد حروفها:

عدد حروف سورة لقمان:

ألفان ومائة وعشرة أحرف (2110)، ولا خلاف بين العادين أن حروفها (2110) حرفًا، قاله كلٌّ من:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبيُّ (ت: 427 هـ)

(8)

، عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ)

(9)

، عليُّ بنُ محمدٍ الخازنُ (ت: 725 هـ)

(10)

، نظامُ الدينِ الحسنُ

(1)

غرائب القرآن (5/ 421).

(2)

عمدة القاري (19/ 159).

(3)

اللباب (15/ 435).

(4)

تفسير الخطيب الشربيني (3/ 179).

(5)

منار الهدى (302).

(6)

القول الوجيز (260).

(7)

مراح لبيد (2/ 235).

(8)

الكشف والبيان (7/ 309).

(9)

البيان (206).

(10)

لباب التأويل (3/ 396).

ص: 333

ابنُ محمدٍ النيسابوريُّ (ت: 728 هـ)

(1)

، محمدُ بنُ يعقوبَ الفيروزَ آباديُّ (ت: 817 هـ)

(2)

، محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ)

(3)

، عمرُ بنُ عليِّ بنِ عادلٍ الدمشقيُّ الحنبليُّ (ت: 880 هـ)

(4)

، الخطيب محمد بن أحمد الشربيني (ت: 977 هـ)

(5)

، أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت: ق 11 هـ) نحو (1100 هـ)

(6)

، رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ)

(7)

، محمدُ بنُ عمرَ الجاويُّ (ت: 1316 هـ)

(8)

.

‌8 - ترتيبها في النزول:

هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب النزول (57)، نزلت بعد سورة الصافات، وقبل سورة سبأ، وهي من المثاني

(9)

.

(1)

غرائب القرآن (5/ 421).

(2)

تنوير المقباس (1/ 344).

(3)

عمدة القاري (19/ 159).

(4)

اللباب (15/ 435).

(5)

تفسير الخطيب الشربيني (3/ 179).

(6)

منار الهدى (302).

(7)

القول الوجيز (260).

(8)

القول الوجيز (260).

(9)

معنى الطوال والمثاني والمفصَّل والمِئِين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أعطيتُ مكان التوراة السبعَ، وأعطيتُ مكان الزبور المِئِين، وأعطيتُ مكان الإنجيل المثاني، وفضِّلت بالمفصَّل» . حديث حسن: رواه الطبراني في الكبير (8003)(8/ 258)، (186)(22/ 75)، (187)(22/ 76)، وفي مسند الشاميين (2734)(4/ 62، 63)، وأحمد (17023)(4/ 107)، والطيالسي في مسنده (1012)(1/ 136)، وصححه الألباني= =في كل من: صحيح الجامع (1059)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (1457)، وفي السلسلة الصحيحة (148)، من حديث واثلة بن الأسقع الليثي أبي فسيلة، رضي الله عنه. فهذا الحديث يبيِّن أن هذه الأقسام ليست مستحدثة وأن هذا التقسيم مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ينظر: أسرار ترتيب القرآن للسيوطي (1/ 72).

فأما السبع، فهي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة؛ لأنهم كانوا يعدون الأنفال وبراءة سورة واحدة.

وأما المِئُون: فهي السور التي يقترب عدد آياتها من المائة أو تزيد.

وأما المثاني: فهي ما ولي المِئِين، وقد تسمَّى سور القرآن كلها مثاني؛ ومنه قوله تعالى:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87].

وإنما سمي القرآن كله مثاني؛ لأن الأنباء والقصص تثنى فيه، ويقال: إن المثاني في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]؛ هي آيات سورة الحمد، سماها مثاني؛ لأنها تثنى في كل ركعة.

وقال الفراء: «المثاني هي السور التي آيُها أقل من مائة آية؛ لأنها تثنى؛ أي: تكرر أكثر مما تثنى الطوال والمؤون» .

وأما المفصل، فهو لفظ يطلق على السور بَدْءًا من «سورة ق» إلى آخر المصحف.

وقيل: إن أوله سورة الحجرات، وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل: لقلة المنسوخ منه؛ ولهذا يسمى المحكم أيضًا، كما روى البخاري عن سعيد بن جبير رحمه الله قال:«إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم» صحيح البخاري (4748)(4/ 1922).

والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأوساط، وقصار.

فطواله: من أول الحجرات إلى سورة البروج.

وأوساطه: من سورة الطارق إلى سورة البينة

وقصاره: من سورة إذا زلزلت إلى آخر القرآن.

ينظر: البرهان للزركشي (1/ 244)، ومناهل العرفان للزرقاني (1/ 243، 244).

وهناك ما يسمى بسور (آل حاميم)، وهي السور التي تبدأ بـ {حم} ، والله أعلم.

ص: 334

بيان لبعض ما ورد في ترتيب نزولها:

- قالَ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «نزلت بعد الصافات»

(1)

.

- قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بْنِ جُزَيءٍ الكَلْبِيُّ (ت: 741 هـ): «نزلت بعد الصافات»

(2)

.

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «ونزلت بعد سورة (والصافات)، ونزلت بعدها سورة سبأ»

(3)

.

- قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393 هـ): «وهذه السّورة هي السّابعة والخمسون في تعداد نزول السّور، نزلت بعد سورة الصّافّات وقبل سورة سبأٍ»

(4)

.

‌9 - مكية السورة أو مدنيتها:

وهي سورة مكية:

بيان من نص على أنها مكية:

- قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200 هـ): «وهي مكّيّةٌ كلّها»

(5)

.

(1)

الكشاف (5/ 5).

(2)

التسهيل (2/ 137).

(3)

القول الوجيز (260).

(4)

التحرير والتنوير (21/ 138).

(5)

تفسير القرآن العظيم (2/ 669).

ص: 336

- قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338 هـ): «مكية»

(1)

.

- قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): «نزلت بمكّة»

(2)

.

- قالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبيُّ (ت: 427 هـ): «مكيّة»

(3)

.

- قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437 هـ): «مكية»

(4)

.

- قَالَ أبو عمرو عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «مكية»

(5)

.

- قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «مكية»

(6)

.

- قالَ الحُسَيْنُ بنُ مَسْعُودٍ البَغَوِيُّ (ت: 516 هـ): «مكّيّة»

(7)

.

- قال أبوعبدِ الله محمدُ بنُ طَيْفُورَ الغزنويُّ السَّجَاوَنْدِيُّ (ت: 560 هـ): «وهي مكية»

(8)

.

- قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «وهي مكية في قول الأكثرين وروي عن عطاء أنه قال: هي مكية سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] والتي

(1)

معاني القرآن (5/ 275).

(2)

الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (143).

(3)

الكشف والبيان (7/ 309).

(4)

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (379).

(5)

البيان (206).

(6)

الوسيط (3/ 440).

(7)

معالم التنزيل (6/ 259).

(8)

علل الوقوف (2/ 804).

ص: 337

بعدها، (لقمان: 27، 28)، وروي عن الحسن أنه قال: إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان: 4]؛ لأن الصلاة والزكاة مدنيتان»

(1)

.

- قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): «وهي مكّيّةٌ»

(2)

.

- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وهي مكّيّة وفيها اختلاف في آيتين قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27]، فذكر السّديّ أنّها نزلت بالمدينة، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، نزلت في رجل من محارب بالمدينة، وقال ابن النّقيب: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: «هي مكّيّة إلّا ثلاث آيات نزلن بالمدينة» ، وعن الحسن: إلَّا آية واحدة، وهي قوله عز وجل:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النّمل: 3، لقمان: 4]؛ لأن الصّلاة والزّكاة مدنيتان»

(3)

.

- قالَ جَلالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ): «مكية»

(4)

.

«أَخْرَج ابن الضريس، وَابن مردويه والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزلت سورة لقمان بمكة»

(5)

.

(1)

زاد المسير (6/ 314).

(2)

تفسير القرآن العظيم (6/ 330).

(3)

عمدة القاري (19/ 159).

(4)

الدر المنثور (11/ 614).

(5)

الدر المنثور (11/ 614).

ص: 338

- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلَّانيُّ (ت: 923 هـ): «مكية، قيل: إلا آية {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان: 4]؛ لأن وجوبهما بالمدينة لا ينافي شرعيتهما بمكة»

(1)

.

- قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ (ت: 1250 هـ): «وهي مكّيّةٌ إلّا ثلاث آياتٍ، وهي قوله:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية، إلى الآيات الثّلاث، قاله ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فيما أخرجه النّحّاس عنه.

وأخرج ابن الضّريس، وابن مردويه، والبيهقيّ في «الدّلائل» عنه أنّها مكّيّةٌ ولم يستثن، وحكى القرطبيّ عن قتادة أنّها مكّيّةٌ إلّا آيتين»

(2)

.

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «مكية»

(3)

.

- قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393 هـ): «وروى البيهقيّ في «دلائل النّبوّة» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أنزلت سورة لقمان بمكّة. وهي مكّيّةٌ كلّها عند ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في أشهر قوليه، وعليه إطلاق جمهور المفسّرين».

‌10 - بيان ما ورد في أسباب نزولها:

- قال أبو حيّان: «سبب نزول هذه السّورة أنّ قريشًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موعظة لقمان مع ابنه، أي: سألوه سؤال تعنّتٍ واختبارٍ. وهذا الّذي ذكره أبو حيّان يؤيّده تصدير السّورة بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}

(1)

إرشاد الساري (7/ 288).

(2)

فتح القدير (4/ 307).

(3)

القول الوجيز (260).

ص: 339

[لقمان: 6]»

(1)

.

- قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): «وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أتاه اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85] أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «عنيت الجميع» ، فقالوا: يا محمد، أما تعلم أن الله عز وجل أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وخلفها موسى فينا، وفي التوراة أنباء كل شيء؟! فقال صلى الله عليه وسلم:«التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله تعالى» . فأنزل الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] إلى آخر الآيات الثلاث، وباقيها مكي»

(2)

.

- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، نزلت في رجل من محارب بالمدينة»

(3)

.

- ويرى الباحث: أنه ليس ثَمَّ مانع من تعدد أسباب النزول و النازل واحد.

«فتعدد الأسباب والنازل واحد: قد يحدث في عصر الوحي ما يكون سببًا لنزول آية أو كثر، وهذا السبب نفسه قد يتكرر في أكثر من مكان أو زمان أو من أكثر من شخص أو ظرف، ويستدعي ذلك نزول الوحي بجواب له، وتسمى هذه الحالة تعدد الأسباب والنازل واحد، ومثاله سورة الإخلاص نزلت مرتين:

(1)

التحرير والتنوير (21/ 137 - 138).

(2)

جمال القراء (1/ 15)، ولم يقف الباحث على سند ثابت يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره السخاوي في سبب نزول الآية إلا ما تكرر ذكره من المفسرين في سبب نزولها على نحو ما ذكر السخاوي، ولذا ذكرها الباحث بصيغة التمريض.

(3)

عمدة القاري (19/ 159).

ص: 340

إحداهما بمكة جوابًا للمشركين من أهلها، والأخرى بالمدينة جوابًا لأهل الكتاب من أهلها»

(1)

.

- ويقول الزركشي: «ونزول الشيء أكثر من مرة قد يكون تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا به عند حدوث سببه خوف نسيانه»

(2)

.

‌11 - بيان ما ورد في نزول آياتها:

ما ورد في نزول قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)} [لقمان: 6].

- قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية.

قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، وذلك أنه كان يخرج تاجرًا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشًا ويقول لهم: إن محمدًا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في شراء القيان والمغنيات.

أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقرئ قال: أخبرنا محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق أخبرنا ابن خزيمة قال: حدثنا جدي قال: حدثنا عليّ بن حجر قال: حدثنا مشمعل بن ملحان الطائي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا

(1)

وينظر: داود العطار، موجز علوم القرآن (ص 134).

(2)

بدر الدين الزركشي، البرهان (جـ 1)(ص 29).

ص: 341

يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام»، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] إلى آخر الآية. وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله تعالى عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت.

وقال ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنيه ليلًا ونهارًا»

(1)

.

- قالَ جَلَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ): «قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية.

وأخرج جويبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في النضر بن الحارث؛ اشترى قينة وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه، فنزلت»

(2)

.

- ما ورد في نزول قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ

(1)

أسباب النزول (362 - 363).

(2)

لباب النقول (202).

ص: 342

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]

قَالَ مُقْبِلُ بنُ هَادِي الوَادِعِيُّ (ت: 1423 هـ): «قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] الآية حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة ح، قال: وحدثني بشر، قال: حدثنا محمد، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]»

(1)

.

‌تنبيه:

- قال الحافظ في الفتح

(2)

: «اقتضت رواية شعبة هذه أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب ففي رواية جرير عنه- فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: «ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان» ، وفي رواية وكيع عنه فقال:«ليس كما تظنون» وفي رواية عيسى بن يونس «إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان؟» وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة ولذلك نبههم عليها. ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان»

(3)

. اهـ.

(1)

البخاري (951) وأخرجه البخاري أيضًا في كتاب التفسير (9/ 363)، وأخرجه الطيالسي (2/ 1).

(2)

فتح الباري (1/ 95).

(3)

أسباب النزول (363).

ص: 343

- ما ورد في نزول قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15].

- قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] الآية. نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على ما ذكرناه في سورة العنكبوت»

(1)

.

- قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] الآية. نزلت في أبي بكر رضي الله عنه قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم: يريد أبا بكر وذلك أنه حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين فقالوا لأبي بكر رضي الله عنه: آمنت وصدقت محمدًا؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: نعم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا وصدقوا فأنزل الله تعالى يقول لسعد: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] يعني: أبا بكر رضي الله عنه»

(2)

.

- ما ورد في نزول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)} [لقمان: 27 - 29].

(1)

أسباب النزول (363).

(2)

أسباب النزول (363).

ص: 344

- قَالَ أبو عمرو عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «مكية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة. وقال عطاء: إلا آيتين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أتته أحبار اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85] تعنينا أم قومك؟ قال: «كُلًّا قد عنيت» . قالوا: وإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء، فقال:«هنّ في عِلم الله قليل» ؛ فأنزل الله جل وعز: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] إلى آخر الآيتين»

(1)

.

- قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الآية.

- قال المفسرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله بمكة:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا عنك أنك تقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أفتعنينا أم قومك؟ فقال: «كُلًّا قد عنيت» ، قالوا: لست تتلو فيما جاءك أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله سبحانه قليل وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم به» ، فقالوا: يا محمد، كيف تزعم هذا وأنت تقول:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فكيف يجتمع هذا؛ علم قليل وخير كثير؟؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27]

(1)

البيان (206).

ص: 345

الآية»

(1)

.

- قالَ جَلَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ): «قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فقالوا: تزعم أنَّا لم نؤت من العلم إلا قليلًا، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا؟ فنزلت:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية.

وأخرج ابن إسحاق عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85] فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، إيانا تريد أم قومك؟ فقال:«كُلًّا عنيت» ، قالوا: فإنك تتلو أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله قليل» ، فأنزل الله:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27]. وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ؛ فنزل: {وَلَوْ

(1)

أسباب النزول (363 - 364).

ص: 346

أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 27] الآية»

(1)

.

- قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «مكية، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: غير ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة؛ وذلك أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتته أحبار اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا آية {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85] أفينا أو [عَنَيْتَ] قومَك؟ فقال: «عنيت الجميع» ، فقالوا: يا محمد، أما تعلم أن الله عز وجل أنزل التوراة على موسى فينا ومعنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود:«التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله عز وجل» ؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 27] .. إلى تمام الآيات الثلاث»

(2)

.

- ما ورد في نزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].

- قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الآية.

نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن حفصة، من أهل البادية، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها، وقال: إن أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فماذا تلد؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(1)

لباب النقول (202 - 203).

(2)

القول الوجيز (260).

ص: 347

- أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد المؤذن قال: أخبرنا محمد بن حمدون ابن الفضل، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن الحافظ، قال: أخبرنا حمدان السلمي، قال: حدثنا النضر بن محمد، قال: حدثنا عكرمة، قال: حدثنا إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بفرس له يقودها عقوق ومعها مهرة له يتبعها فقال له: من أنت؟ قال: «أنا نبي الله» ، قال: ومن نبي الله؟ قال: «رسول الله» ، قال: متى تقوم الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيب ولا يعلم الغيب إلا الله» ، قال: متى تمطر السماء؟ قال: «غيب ولا يعلم الغيب إلا الله» ، قال: ما في بطن فرسي هذه؟ قال: «غيب ولا يعلم الغيب إلا الله» ، فقال: أرني سيفك فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه فهزه الرجل ثم رده إليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لم تكن لتستطيع الذي أردت» ، قال: وقد كان الرجل قد قال: اذهب إليه فأسأله عن هذه الخصال ثم اضرب عنقه.

أخبرنا أبو عبد الله بن أبي إسحاق قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، قال: أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي سويد، قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله»

(1)

،

(2)

.

(1)

رواه البخاري (7379) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

وينظر: أسباب النزول (364 - 365).

ص: 348

‌المطلب الثالث

الجوانب البلاغية في السورة الكريمة

مما يجب تأكيده لدى الباحثين أهمية اللغة في فهم مراد كلام الله -تعالى-إعرابًا وتصريفًا وبلاغًة -بيانًا وبديعًا ومعانيَ- وأنها تُعد مفتاح فهم الأصلين العظيمين؛ الكتاب والسنة، فهي من أهم وأَجَلِّ الوسائل إلى الموصلة أسرارهما، وفهم دقائقهما.

وفي هذا المبحث محاولة -بإيجاز- بيان أهمية اللغة وبيان مكانتها في هذا الجانب العظيم، ثم التعريج على أهم وأبرز الدلالات البلاغية التي يفهم منها أهم الأوجه الإعجازية التي تدل عليها آيات السورة الكريمة، وإن مما يدلُّ على أهميةِ اللغة في فهمِ كتاب الله تعالى: حرصُ أولي العلم في العصورِ الأولى المتقدمة على التأليفِ والتصنيف في هذا الجانب العظيم، ألا وهو إعراب القرآن ومعانيه، بل إنَّ بعض هذه المصنفات منها ما يُسمى بـ «معاني القرآن» ؛ ككتاب الفراء، والزجاج، والأخفش، مما يبين ويوضح جليًّا أهميةَ إعراب القرآن في فهم معانيه والدلالة على مقاصده ومراميه، والدليل على ذلك ما نص عليه الكثير من المشتغلين بعلم التفسير حين عَدُّوا إعراب القرآن علمًا من فروعِ علمِ

ص: 350

التفسير.

قال الشاطبي رحمه الله: «وعلى النَّاظرِ في الشريعةِ والمتكلم فيها أصولًا وفروعًا أمران؛ أحدهما: ألا يتكلَّمَ في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا أو كالعربي؛ في كونِه عارفًا باللِّسان العربي، بالغًا فيه مبلغ العرب» .

قال الشَّافعي رحمه الله: «فمن جهل هذا من لسانها -وبلسانها نزل الكتاب، وجاءت السنة- فتكلَّفَ القول في علمِها، تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبتْ معرفتُه، كانت موافقته للصواب -إن وافقه- غيرَ محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غيرَ معذور؛ إذ نطق فيما لا يحيطُ علمه بالفرقِ بين الخطأ والصواب فيها»

(1)

.

‌وأبان عن هذه الأهميةِ أهلُ اللغة أنفسهم:

يقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلومِ الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع، ويَرَوْن الكلامَ في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيًّا على علمِ الإعراب»

(2)

.

وما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي صحيحٌ؛ وذلك لتوقُّفِ معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتابِ والسنة، وأقوالِ أهلِ العقد والحل من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة: من جهة الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والحذف والإضمار، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة، والتنبيه والإيماء، وغير ذلك مما لا يعرفُ في غيرِ علم العربية

(3)

.

(1)

الاعتصام (جـ 1)(ص 503).

(2)

المفصل؛ للزمخشري (ص 3).

(3)

الإحكام في أصول الأحكام (1 ممم 827).

ص: 351

وقال الحسن البصري رحمه الله: «أهلكتهم العُجْمَةُ؛ يتأولونه على غيرِ تأويله»

(1)

.

وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «لا بُدَّ في تفسيرِ القرآن والحديث من أن يُعرَف ما يدلُّ على مرادِ الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يُفهَم كلامُه؟ فمعرفةُ العربيةِ التي خُوطبنا بها ممَّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظِ على المعاني؛ فإنَّ عامَّة ضلالِ أهل البدع كان بهذا السبب، فإنَّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدَّعون أنَّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمر كذلك»

(2)

.

وقال أبو حيان في معرضِ ثنائه على سيبويه رحمه الله: «فجدير لمن تاقت نفسُه إلى علمِ التفسير، وترقَّتْ إلى التحريرِ والتحبير، أن يعتكفَ على كتابِ سيبويه؛ فهو في هذا الفنِّ المعوَّل عليه، والمستند في حلِّ المشكلات إليه»

(3)

.

وقال الزركشي: «واعلم أنَّه ليس لغيرِ العالم بحقائقِ اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كلامِ الله، ولا يكفي في حقِّه تعلم اليسير منها؛ فقد يكونُ اللَّفظُ مشتركًا وهو يعلم أحدَ المعنيين والمراد المعنى الآخر»

(4)

.

ولهذا السبب يقول مالك رحمه الله: «لا أُوتَى برجلٍ غير عالم بلغةِ العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالًا»

(5)

.

«ولهذا أيضًا نجد التفاسيرَ مشحونةً بالرِّواياتِ عن سيبويه والأخفش

(1)

خلق أفعال العباد للبخاري (جـ 1)(ص 130 - 125)، وربيع الأبرار (جـ 1)(ص 321).

(2)

الإيمان (ص 111).

(3)

البحر المحيط (13).

(4)

البرهان في علوم القرآن (1/ 295).

(5)

الإتقان في علوم القرآن (4/ 209).

ص: 352

والكسائي والفراء وغيرهم، فالاستظهارُ لبعضِ معاني القرآن الكريم وأسرارِه نابعٌ من الاستعانةِ بأقاويلهم، والتشبث بأهدابِ فسْرهم وتأويلهم؛ كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي في المفصَّل»

(1)

.

وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائلِ القرآن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لأن أعرب آيةً أحب إليَّ من أن أحفظَ آية

(2)

.

وذلك لأنَّ فهمَ الإعراب يعينُ على فهمِ المعنى، والقرآن نزل للتدبرِ والعمل. فمن هذا يتبين أهمية الحاجة لبيان أهم الجوانب اللغوية في السورة الكريمة.

وقد عرض الباحث لإعراب السورة كاملة، ولكن حذرًا من خشية التطويل الممل اكتفى ببيان أهم الأوجه البلاغية في السورة الكريمة ولعل ما في الإشارة ما يغني عن العبارة.

‌وقفات مع أهم الأوجه البلاغية في السورة الكريمة:

تضمنت السورة الكريمة وجوهًا من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:

1 -

وضع المصدر للمبالغة: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان: 3].

2 -

الإِشارة بالبعيد: {تِلْكَ آيَاتُ} [لقمان: 2] عن القريب: (هذه). لبيان علو الرتبة ورفعة القدر والشأن.

3 -

الإِطناب بتكرار الضمير واسم الإِشارة: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ

(1)

المفصل (ص 3).

(2)

الإشراف في منازل الأشراف (جـ 1)(ص 470 - 469).

ص: 353

عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [لقمان: 4، 5] لزيادة الثناء عليهم والتكريم لهم، كما أن الجملة تفيد الحصر أي: هم المفلحون لا غيرهم.

4 -

الاستعارة التصريحية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] شبّه حالهم بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها، واستعار لفظ يشتري لمعنى يستبدل بطريق الاستعارة التصريحية.

5 -

التشبيه المرسل المجمل: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] ذكرت أداة التشبيه وحذف الشبه فهو تشبيه «مرسل مجمل» .

6 -

أسلوب التهكم: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان: 7] لأن البشارة إنما تكون في الخير، واستعمالها في الشر سخرية وتهكم.

7 -

الالتفات من الغيبة إِلى التكلم: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} [لقمان: 10] بعد قوله: (خلق، وألقى، وَبَثَّ). وكلها بضمير الغائب، ثم التفت فقال:{وَأَنْزَلْنَا} [لقمان: 10] لشأن الرحمن، وتوفيةً لمقام الامتنان، وهذا من المحسنات البديعية.

8 -

إِطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أي: مخلوقة.

9 -

الاستفهام للتوبيخ والتبكيت: {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]؟

10 -

وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ، وللتسجيل عليهم بغاية الظلم والجهل:{بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11] وكان الأصل أن يقال: بل هم في ضلالٍ مبين.

11 -

مراعاة الفواصل في الحرف الأخير مثل: {عَذَابٌ مُهِينٌ (6)} [لقمان: 6]

ص: 354

ويسمى هذا النوع في علم البديع «سجعًا» وأفضله ما تساوت فقره، وكان سليمًا من التكلف، خاليًا من التكرار، وهو كثير في القرآن الكريم في نهاية الآيات الكريمة.

12 -

الطباق بين: {يَشْكُرْ} [لقمان: 12]، و {كَفَرَ} [لقمان: 12].

13 -

صيغة المبالغة: {غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} [لقمان: 12] وكذلك: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16] و: {فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18] لأن فعيلًا وفعولًا من صيغ المبالغة ومعناه كثير الحمد وكثير الفخر.

14 -

ذكر الخاص بعد العام: {بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} [لقمان: 14] وذلك لزيادة العناية والاهتمام بالخاص.

15 -

تقديم ما حقه التأخير لإِفادة الحصر مثل: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14]: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [لقمان: 15] أي: لا إِلى غيري.

16 -

التمثيل: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] مثَّل ذلك لسعة علم الله وإِحاطته بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها فإِنه تعالى يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة.

17 -

التتميم: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] تَمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها وهذا من البديع.

18 -

المقابلة: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان: 17]، ثم قال:{وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] فقابل بين اللفظين.

19 -

الاستعارة التمثيلية: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] شبَّه

ص: 355

الرافعين أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهيق، ولم يذكر أداة التشبيه بل أخرجه مخرج الاستعارة للمبالغة في الذم، والتنفير عن رفع الصوت.

20 -

الطباق بين قوله: {ظَاهِرَةً} ، {وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] وكذلك بين لفظ: (الحق، والباطل).

21 -

الإِنكار والتوبيخ مع الحذف: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} [لقمان: 21] أي: أيتبعونهم ولو كان الشيطان الخ.

22 -

المجاز المرسل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ} [لقمان: 22] أطلق الجزء وأراد الكل ففيه مجاز مرسل.

23 -

التشبيه التمثيلي: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] شبه من تمسك بالإِسلام بمن أراد أن يرقى إِلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عروة، وحذف أداة التشبيه للمبالغة.

24 -

المقابلة بين: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان: 22] وبين: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] الآية.

25 -

الاستعارة: {عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)} [لقمان: 24] استعار الغلظ للشدة لأنه إِنما يكون للإجرام فاستعير للمعنى.

26 -

تقديم ما حقه التأخير لإِفادة الحصر: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان: 22] أي: إليه لا إلى غيره.

27 -

صيغ المبالغة في التالي: {صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} [لقمان: 31]، و:{خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} [لقمان: 32]، و:{عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]، و:{سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}

ص: 356

[لقمان: 28] كما أنَّ فيها توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية ويسمى بالسجع

(1)

.

(1)

صفوة التفاسير. محمد علي الصابوني، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة: الأولى (1417 هـ- 1997 م)، (ص 449) وما بعدها.

ص: 357

‌المطلب الرابع

موضوع السورة الكريمة

وفيه بيان ما يلي:

‌أولاً - مقصود السورة الكريمة:

«إن مقصود السورة هو إثبات الحكمة للكتاب، اللازم منه حكمة منزله سبحانه في أقواله وأفعاله، وموعظة لقمان ـ المسمى به السورة ـ دليل واضح على ذلك»

(1)

.

فالمتأمل في سورة لقمان يجد أن مقصودها وموضوعها الرئيس الذي تدور حوله هو الحكمة ولذا فقد تكرر لفظ الحكمة فيها على النحو التالي:

أ- وصف الله كتابه بأنه حكيم في صدر السورة، قال تعالى:{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} [لقمان: 1 - 2].

وجاء التعبير عن الآيات باسم الإشارة -تلك- للدلالة على ارتفاع مكانتها في بلاغتها ومعناها.

ب- وصف الله عز وجل نفسه بالحكمة وأنه الحكيم تبارك وتعالى.

(1)

ينظر: البقاعي- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (15/ 140).

ص: 358

فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} [لقمان: 8 - 9].

فهو الحكيم في أقواله وأفعاله وأقداره التي يجريها على العباد وله الحكمة البالغة سبحانه وبحمده.

ج- وصف الله عبدًا من عباده وهبه وآتاه الحكمة فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12].

ثم جاء بعد ذلك ذكر وصايا لقمان لابنه، ومن تدبر وتفهم هذه الوصايا تبين له حكمته ورجاحة عقله. وحق للمرء أن يغبط الحكيم على عقله، قال صلى الله عليه وسلم:«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق و رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»

(1)

.

«والحكمة لا شك أنها من أَجَلِّ الفوائد التربوية المستنبطة من مقصود السورة الكريمة»

(2)

.

«ووصفُ الكتاب بالحكمة في هذه السورة الكريمة: (الكتاب الحكيم) مناسبٌ لموضوع السورة الكريمة؛ لأن موضوع الحكمة قد تكرر فيها: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب

(1)

حديث (رقم: 7488) في صحيح الجامع -الألباني- وأصل الحديث رواه البخاري (1409).

(2)

بتصرف - بحث غير منشور، نجلاء السبيل، الوقفات التربوية من سورة لقمان (3 - 2 - 2011 م).

ص: 359

المجيد، على طريقة القرآن في التنسيق بين الألفاظ والمواضيع»

(1)

.

‌ثانيًا: تقسيم آيات السورة الكريمة موضوعيًّا

(2)

:

تتكون آيات السورة الكريمة من: ثلاث مجموعات.

‌المجموعة الأولى:

عبارة عن إحدى عشرة آية (11):

الآيات من الآية الأولى (1): وحتى نهاية آية الآية الحادية عشرة (11)، وفيها: وصف القرآن الكريم: بأنه حكيم، وأنه هدى ورحمة.

وحديث عن المهتدين المحسنين، وموقفهم من هذا القرآن، وما أعد الله تعالى لهم، وحديث عن الضالين المضلين الكافرين، وموقفهم من هذا القرآن، وما أعد الله عز وجل لهم.

وحديث عن مظاهر من حكمة الله تعالى، الذي أنزل هذا القرآن، وقدرته وإنعامه، يدلل على أنه الله تعالى وحده. واجب العبادة، وأما غيره. فلا يستحقها.

وفي ذلك: تأكيد لضرورة اتباع كتابه، والتحقق بشروط هذا الاتباع، من: إحسان، وصلاة، وزكاة، ويقين باليوم الآخر.

‌المجموعة الثانية:

عبارة عن ثمانِ آيات (8):

(1)

صفوة التفاسير. محمد علي الصابوني -مرجع سابق- (ص 49) بتصرف.

(2)

النعيمي-سعيد حوى، الأساس في تفسير القرآن، تفسير سورة لقمان (4345/ 8)، (د ت) بتصرف يسير.

ص: 360

الآيات: من الآية (12) الآية الثانية عشرة وحتى نهاية الآية (19) الآية التاسعة عشرة.

وفيها: موعظة لقمان عليه السلام، وذكر وصاياه لابنه، وهي نموذج.

ويلاحظ على هذه القصة:

أ - أنها جاءت في سياق الكلام عن القرآن، ووصفه بالحكمة، وبأنه هدى ورحمة للمحسنين.

ب - أنها إشارة على أنه ليس بدعًا أن ينزل الله هذا القرآن، حيث إن من سنته تعالى: أن يختار من يشاء من عباده فيؤتيه الحكمة.

جـ- وإشارة إلى أن من أخذ القرآن الحكيم: فإنه يؤتى الحكمة، كما أوتي لقمان عليه السلام.

د - أن إيتاء الحكمة: يقتضي شكرًا، ولذلك: فعلينا أن نقابل إنعام الله علينا بإنزال القرآن. بالشكر له سبحانه وتعالى.

هـ- أنها برهان على حكمة القرآن، وحكمة مُنَزِّلِهِ سبحانه وتعالى حيث يختار لنا الحكمة، كما أن أوامره ونواهيه، وأخباره كلها، هي التي يوصي بها الحكماء.

وإذا تأملنا وصايا لقمان التي جاءت بها هذه المجموعة من الآيات:

فإننا نلاحظ عليها ـ أيضًا ـ ما يلي:

أ - أنها نموذج على الحكمة وأسلوبها.

ومن أَجَلِّ صورة الحكمة في وصايا لقمان - النهي عن الشرك-، الذي من لوازم نبذه وتركه وجحده، تحقيق العبودية لله بتحقيق كمال التوحيد الذي هو

ص: 361

حق الله على جميع العبيد. اهـ.

ب - أنها أوامر ونواهٍ: تعلم الإحسان.

حيث إن: إدخال الوصية بالوالدين، والأمر باتباع سبيل المؤمنين. بين هذه الأوامر والنواهي: يؤكد هذا المعنى.

كما أنه: للعبادة، والعشرة مع الوالدين بالمعروف والإحسان إليهما، والتعامل مع أهل الإيمان، والمراقبة، والأمر بإقام الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحث على الصبر، والتواضع، وترك تصعير الخد، وترك المشي المرح، والقصد في المشي، وغض الصوت في الكلام. لكل ذلك، وكلها آداب: متضمنة للإحسان وهي مظهر من مظاهره، هذا مع ما احتوته وتضمنته من هدايات ودلالات إيمانية وعقدية وأخلاقية واجتماعية.

‌المجموعة الثالثة:

عبارة عن (15) خمس عشرة آية:

الآيات من الآية (20) الآية العشرين، وحتى نهاية الآية (34) الآية الرابعة والثلاثين.

وهي خاتمة آيات السورة الكريمة وفيها:

بيان لضرورة الاهتداء بكتاب الله تعالى .. من خلال لفت نظر العباد إلى نعم الله تعالى، التي تقتضي منهم الشكر له سبحانه وتعالى وأن مظهر هذا الشكر يقتضي الإيمان بكتاب الله تعالى، واتباعه.

وتختم المجموعة ـوكذلك السورة الكريمةـ بالدعوة إلى تقوى الله تعالى

ص: 362

وخشيته، وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها، والشيطان وفتنته، وتقرير أن الله وحده سبحانه، هو الذي يعلم مفاتح الغيب.

وهذا يقتضي الإيمان بالله، واللجوء إليه، وإسلام الوجه له، والعمل بشرعه، واتباع هدى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

‌ثالثًا: أبرز موضوعات السورة الكريمة ومجمل ما حوته من الموضوعات:

هو ما يلي

(1)

:

1 -

القرآن الكريم هداية ورحمة للمؤمنين.

2 -

قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم، واتخذ آيات الله هزوًا.

3 -

وصف العالم العلوي، والعالم السفلي، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وقدرته.

4 -

قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة، وشكره لربه على ذلك، ثم نصائحه لابنه.

5 -

بيان عظم شأن التوحيد وخطورة الشرك.

6 -

الأمر بالإحسان للوالدين وطاعتهما في المعروف.

7 -

النعي على المشركين في ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر في الكون وعبادة الخلق له سبحانه وتعالى.

8 -

لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات لله سبحانه وتعالى وعمل الصالحات.

9 -

تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمان المشركين.

10 -

تعجيب رسوله صلى الله عليه وسلم من المشركين بأنهم يقرون بأن الله هو الخالق لكل

(1)

تفسير المراغي، تفسير سورة لقمان (21/ 1001) بتصرف.

ص: 363

شيء، ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم.

11 -

نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها.

12 -

الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الخالق لها سبحانه وتعالى.

13 -

توبيخ وتبكيت وتقريع المشركين بأنهم في الشدائد يدعون الله وحده، وفي الرخاء يشركون معه سواه.

14 -

الأمر بالخوف من عقاب الله يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود عن والده شيئًا.

15 -

مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها.

16 -

إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها

(1)

.

‌وختامًا:

فإن سورة لقمان كما تبين معنا تعالج موضوع العقيدة بالتركيز على أصولها الثلاثة:

(الوحدانية، والنبوة، والبعث والنشور).

1 -

فقد ابتدأت الآيات بذكر القرآن الكريم الذي جعله الله تعالى هدى وشفاء ورحمة للمحسنين، وذكرت حال السعداء الذين اهتدوا بالقرآن الكريم وحال الأشقياء الذين أعرضوا عنه، كما بينت قدرة الله العظيمة على

(1)

وينظر: د/ عبد الحي الفرماوي- المفاتيح الدعوية لسور القرآن الكريم -مفاتيح سورة لقمان- بحث غير منشور (ص 11 - 13) بتصرف يسير (موقع هدى الإسلام).

ص: 364

خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، من قوله تعالى:{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان: 1 - 3] إلى قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11].

2 -

واشتملت على مواعظ لقمان الحكيم ووصاياه لابنه، وقد ذكره تعالى بأحسن الذكر وهو يوصي ولده ويمنحه أفضل ما يعرف من الحكمة والدعوة للرشاد والتحذير من الشرك، من قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] إلى قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

3 -

وختمت السورة ببيان نعم الله تعالى ودلائل قدرته في الكون محذرة المشركين من ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، مخبرة عن جلال الله وعظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وعلمه بمفاتيح الغيب، من قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20] إلى قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]

(1)

.

(1)

موقع المصحف الإلكتروني- بتصرف يسير.

ص: 365

‌المطلب الخامس

المناسبات في السورة الكريمة

‌مناسبة السورة بما قبلها (الروم)

(1)

:

1 -

لمّا أكمل الله تعالى ما أراد من نفي الشك عن القرآن، وإثبات أنه هدى للمتقين، وذلك من أول سورة، بعد الفاتحة، وهي سورة البقرة، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور، حتى آخر «براءة» التي هي سورة غزو الروم .. !!

ولمّا أكمل سبحانه وتعالى ـ كذلك ـ ما أراد من إثبات حكمته عز وجل، وذلك من أول سورة «يونس» واستدل على ذلك فيما تبعها من السور إلى أن ختم سورة «الروم» .!!

فقد ابتدأ - من هناـ دورًا جديدًا على وجه أضخم من الأول.

إذ وصفه من أول هذه التالية للروم، وهي لقمان، بما وصفه به في التالية لغزو الروم، وهي يونس.

وذلك الوصف: هو الحكمة.

وزاد أنه: هدى، وهداية للمحسنين.

فهؤلاء أصحاب النهايات.

(1)

البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور -مرجع سابق- (15/ 141).

ص: 366

والمتقون: أصحاب البدايات.

2 -

أنه قال تعالى فيما قبل: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58].

وقد أشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة.

3 -

أنه تعالى قال في آخر ما قبلها: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم: 58].

وقال هنا: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} [لقمان: 7].

4 -

المؤاخاة بينهما في الافتتاح بـ {الم (1)} [لقمان: 1].

5 -

لما قال تعالى في الروم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ .. } [الروم: 56].

قال هنا: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [لقمان: 3 - 4]، وهذا: هو عين يقينهم بالآخرة!

كما أنهم المحسنون، الموصوفون بما ذكر.

6 -

وأيضًا ففي كلتا السورتين: جملة من الآيات، وابتداء الخلق.

7 -

وذكر في الروم: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 15]، وقد فسر ذلك بالسماع في الجنة، وذكر هنا {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي، وشتان بين هذا وذاك!!

(1)

.

(1)

ينظر: القرطبي -الجامع لأحكام القرآن- «تفسير سورة لقمان» .

ص: 367

8 -

في الروم. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

وهنا: يقول تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28].

وكلاهما: يفيد سهولة البعث.

9 -

في الروم. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)} [الروم: 33].

وقال هنا: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان: 32].

فقد ذكر سبحانه في كلٍّ من الآيتين قسمًا لم يذكره في الآية الأخرى.

10 -

في الروم. ذكر مغلوبية الروم وغلبتهم، المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا. تحاربا عليها، وخرج كل منهما بذلك عن مقتضى الحكمة، حيث أن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية، لا تعدل عند الله جناح بعوضة.

وذكر في هذه السورة ـ بالمقابل ـ قصة عبد مملوك ـ مقدمة على كثير من الأقوال ـ حكيم زاهد في الدنيا، غير مكترث بها، ولا ملتفت إليها، أوصى ابنه بما يأبى المحاربة، ويقتضي الصبر والمسالمة، وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى

(1)

.

(1)

الفرماوي -مرجع سابق- (ص 5، 8).

ص: 368

‌مناسبتها بما بعدها (السجدة)

.

قال السيوطي

(1)

: «أقول: وجه اتصالها بما قبلها أنها شرحت مفاتح الغيب

(1)

السيوطي هو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين: إمام حافظ مؤرخ أديب. (849 - 911 هـ) له نحو (600) مصنف، من أشهرها: الإتقان في علوم القرآن، لباب النقول في أسباب النزول، تفسير الجلالين وغيرهم، ينظر: الزركلي، الأعلام (3/ 302).

والسيوطي أشعري متأصل في أشعريته وكتبه مشحونة بتأويل صفات الرب جل في علاه، كالإتقان وتفسير الجلالين وغيرها، هذا مع ماله من شطحات في التصوف والغلو في الأولياء وغير ذلك من المخالفات.

والموقف الصواب من السيوطي وغيره من العلماء، هو التنبيه والتحذير-إن أخطأ-مع التزام أدب الرد والتحذير، وما من أحد من الناس إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم وإجلال أولي العلم لا يعني الأخذ بكل ما يصدر عنهم دون تمحيص وتبين، فالحق يُقبل والباطل يرد على صاحبه كائنًا من كان مع لزوم الأدب وبهذا يُعطى ويُؤتى كل ذي فضل فضله بلا إفراط ولا تفريط.

ومما يجدر الإشارة إليه والتنبيه عليه أنه لا ينبغي أن يُخلط بين إجلال أولي العلم وتوقيرهم وبين قبول كل ما يصدر عنهم حقًّا كان أم باطلًا.

فاستفادة طالب العلم المتبصر الحاذق في العقيدة من مصنفات السيوطي لا بأس بها، لما حوته وضمته من علوم شتى نافعة، فهو عالم متبحر في علوم شتى وله مصنفات كثيرة لا يستغني عنها طالب علم، أما في جانب العقيدة فيجب الحذر كل الحذر من أشعريته، فهو مع أشعريته عنده من العلم ما يُنتفع به، ولو هُجرت كتبه وكتب مَن هم مثله لهجر وترك علم جمّ ولهجر ميراث علمي كبير، الأمة في حاجة إليه، والقول الوسط في ذلك أنه يُنتفع بعلمه وعلم أمثاله مع التحذير من الجانب العقدي الذي كانوا عليه.

والذي ينبغي التوجيه إليه هو أن يستفاد من كتب هؤلاء العلماء في جانب الفقه والأصول والتفسير وما شابه ذلك، أما في الجانب العقدي فيرجع إلى أئمة أهل السنة والجماعة الذين عُرِفوا باتباع السلف عقيدة ومنهاجًا.

=

= ومنهج أهل السنة منهج وسطي لا إفراط فيه ولا تفريط ولا غلو ولا تنطع، وإليك أيها القارئ الكريم كلام بعض أهل العلم وفتاواهم في هذا الجانب.

سؤال وجه إلى الإمام العلامة شيخنا ابن باز بشأن تفسير الجلالين فقال:

«تفسير مفيد وفيه بعض الأخطاء في الصفات

لكنه مفيد وقلّ كتاب إلَّا وقد يكون فيه بعض الأخطاء». اهـ. (نور على الدرب شريط: 800)

وسئل العلامة صالح الفوزان-حفظه الله-:

ما رأيكم في «تفسير الجلالين» ؟

فأجاب: «تفسير الجلالين» تفسير مختصر ألفه الحافظان: الحافظ المحلي والحافظ السيوطي، وكل منهما يلقب بجلال الدين، لذلك سمي بالجلالين، أي: تفسير جلال الدين المحلي، وتفسير جلال الدين السيوطي؛ لأن جلال الدين المحلي توفي قبل إكماله فأكمله السيوطي. وهو تفسير مختصر جدًّا يسهل على طالب العلم أو المبتدئ قراءته أو حفظه، لكن من المعلوم أن كلا المُفسّرين على عقيدة الأشاعرة وهما يؤولان آيات الصفات كما هو مذهب الأشاعرة، ومن هذه الناحية يجب الحذر في الاعتماد على تفسيرهما في آيات الصفات «. اهـ. «المنتقى من الفتاوى» .

وقال العلَّامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله:

«تفسير الجلالين لطالب العلم جيد؛ لأنه في الحقيقة زبدة، وكما تعلم أنه يتمشى في مسألة الصفات على مذهب الأشاعرة، فلا يوثق به بل يرد قوله في ذلك، لكن في غير ذلك جيد جدًّا من حيث سبكه للقرآن، وتنبيهه في كلمات وجيزة على أمور تخفى على من يطالعه من أهل العلم!، فإذا اجتمع الفتوحات الإلهية وهو ما يعرف بحاشية الجمل مع الجلالين كان طيبًا اهـ (4) - «لقاء الباب المفتوح» شريط رقم: (32)».

وقال العلَّامة المحدث «مقبل الوادعي» رحمه الله:

«تفسير الجلالين مؤلفه مضطرب مرة يفسر «استوى» بمعنى: استولى ومرة بما جاء عن السلف وفيه من الاعتزال».

نبذة يسيرة من حياة أحد أعلام الجزيرة. لأبي همام البيضاني.

وختامًا إجابة اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية عن سؤال بهذا لصدد:

=

= السؤال:

ما موقع تتبع عورات العلماء من الشرع، بدعوى التحذير من زلاتهم، ولفت نظر الناس إليها؟ مع العلم أن هذا العمل يقوم به طلبة العلم، ويحذرون العوام من الناس، وممن يحذرونهم من علماء أجلاء أحيانًا، كالسيوطي (بدعوى أنه أشعري) وغيره كثير.

الجواب:

«العلماء ليسوا معصومين من الخطأ كما في الحديث: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» ، ولا ينقص ذلك من قدرهم ما دام قصدهم التوصل إلى الحق، ولا تجوز الوقيعة في أعراضهم من أجل ذلك، وبيان الحق والتنبيه على الخطأ واجب، مع احترام العلماء ومعرفة قدرهم. إلا ما كان مبتدعًا أو مخالفًا في العقيدة، فإنه يحذر منه إن كان حيًّا، ومن كتبه التي فيها أخطاء؛ لئلا يتأثر بذلك الجهال، لا سيما إذا كان داعية ضلال؛ لأن هذا من بيان الحق والنصيحة للخلق، وليس الهدف منه النيل من الأشخاص، والعلماء الكبار-مثل السيوطي وغيره- ينبه على أخطائهم، ويستفاد من علمهم، ولهم فضائل تغطي على ما عندهم من أخطاء، لكن الخطأ لا يقبل منهم ولا من غيرهم».

وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو

عضو

عضو

عضو

بكر أبو زيد

عبد العزيز آل الشيخ

صالح الفوزان

عبد الله بن غديان

الرئيس

عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

فتاوى اللجنة الدائمة: (12/ 98).

وقد تطرقت بعض الدراسات المعاصرة إلى عقيدته منها رسالة الدكتور سعيد إبراهيم مرعي خليفة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدعوة وأصول الدين، قسم العقيدة، وهي أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه، وهي بعنوان «جلال الدين السيوطي وآراؤه الاعتقادية عرض نقد على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة» ، وقد أشرف عليها الدكتور محمود محمد مزروعة، سنة (1420 هـ).

=

= وكذلك رسالة للباحث طلعت جبر المجدلاوي، الجامعة الإسلامية بغزة، كلية أصول الدين، قسم العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة، وهي أطروحة مقدمة لنيل شهادة الماجستير، وهي بعنوان:«مواقف الإمام السيوطي من الإلهيات والنبوات دراسة ونقدًا» ، وأشرف عليها الدكتور جابر زايد السميري (1423 هـ).

ولعل في هذا كفاية، والحمد لله رب العالمين. الباحث.

ص: 369

الخمسة التي ذكرت في خاتمة لقمان فقوله هنا: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة: 5]، شرح لقوله هناك:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، ولذلك عقب هنا بقوله:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6]، وقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، شرح لقوله:{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34]، قوله:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7]، شرح لقوله:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]، وقوله:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5]، و {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] شرح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، وقوله:{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10] إلى قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11]، شرح لقوله:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]»

(1)

.

وبهذا ينتهي المبحث الثاني.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين (ت: 911 هـ) أسرار ترتيب القرآن -دار الفضيلة للنشر والتوزيع- (ص 123).

ص: 372

‌المبحث الثالث التعريف بشخصية لقمان الحكيم عليه السلام

-

وفيه مطلبان:

المطلب الأول نسبه ونشأته

المطلب الثاني: التحقيق في أمر نبوته إثباتًا ونفيًا ..

ص: 373

‌المطلب الأول: نسبه ونشأته

.

ويشمل ما يلي:

‌أولاً - اسمه ونسبه:

‌أ- اسمه: (لقمان)

.

- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلانِيُّ (ت: 923 هـ): «ولقمان اسم أعجمي»

(1)

.

- قال الألوسي (ت: 1270 هـ): «ولقمان اسم أعجمي لا عربي مشتق من اللقم»

(2)

.

- قال الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): «ولقمان اسم مادته عربية مشتقة من اللقم، والأظهر أن العرب عربوه بلفظ قريب من لغتهم، ولقمان ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة»

(3)

.

- قال أبو حيان (ت: 745 هـ): «وعليه: فإن كان لقمان اسم علم، كان

(1)

إرشاد الساري في شرح أحاديث البخاري (7/ 288).

(2)

روح المعاني (7/ 182).

(3)

التحرير والتنوير (21/ 97).

ص: 375

أعجميًّا ومنع من الصرف للعجمة والعلمية، وإن كان عربيًّا منع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ويكون مشتقًا من اللقم»

(1)

.

- قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «اخْتُلِفَ فِي لُقْمَانَ هَلْ هُوَ عَجَمِيٌّ أَمْ عَرَبِيٌّ؟ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّقَمِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَجَمِيٌّ؛ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ؛ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ وَلِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ»

(2)

.

- قال صافي

(3)

(ت: 1376 هـ): «(لقمان) قيل: هو اسم علم أعجميّ، وقيل: هو عربيّ منع من التنوين للعلميّة وزيادة ألف ونون، والأول أظهر»

(4)

.

يقول الباحث: والذي يظهر أن لقمان: اسم أعجمي لا عربي، فهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وربما كان من مشترك الأسماء في اللغات السامية الأصل، واستخدمه العرب بعد ذلك، واستخدام العرب للاسم، أو رده للمصدر لا يقلبه ولا ينقله من عجمته إلى العربية، بل يبقى على عجمته، والله أعلى وأعلم بالصواب.

(1)

البحر المحيط (7/ 182).

(2)

فتح القدير (1/ 1142).

(3)

محمود بن عبد الرحيم صافي (ت: 1376 هـ).

من أعلام مدينة حمص السورية، وهو مؤلف أول كتاب كامل مفصّل في إعراب القرآن وصرفه وبيانه؛ ويعرف باسم:«الجدول في إعراب القرآن، وصرفه، وبيانه» بعد أن أنفق فيه خلاصة عمره، ويُذكر أنه سلّم الكتاب للناشر، ثم توفي بعدها بساعة واحدة، وطُبع الكتاب بعد وفاته. وينظر: الشاملة.

(4)

الجدول في إعراب القرآن الكريم، محمود بن عبد الرحيم صافي، إعراب سورة لقمان (22/ 77).

ص: 376

‌ب- نسبه:

لقد اختُلف في نسب لقمان خاصة لأبيه وجده على أقوال عديدة، توضحها الدراسة وتبينها مع عزو كل قول لقائله فيما يلي: على النحو التالي:

‌أولاً: اسم أبيه: ورد على ثمانية أقوال

.

‌القول الأول: (بَاعُورَاء)

.

1 -

قال القرطبي (ت: 671 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَاء بن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم، كذا نسبه محمد بن إسحاق، وقال وهب: كان ابن أخت أيوب، وقال مقاتل: ذُكِرَ أنه كان ابن خالة أيوب، وقيل: كان من أولاد آزر»

(1)

.

2 -

قال البيضاوي (ت: 685 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَاء من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته»

(2)

.

3 -

قال الخازن (ت: 741 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَاء بن ناحور بن تارخ، وهو آزر، وقيل: كان ابن أخت أيوب، وقيل: كان ابن خالته»

(3)

.

4 -

قال أبو السعود (ت: 982 هـ): «وهو لقمان بن بَاعُورَاء من أولاد آزر ابن أخت أيوب عليه السلام، أو خالته»

(4)

.

5 -

قال الألوسي (1270 هـ): «وهو على ما قيل: ابن بَاعُورَاء قال وهب:

(1)

تفسير القرطبي (14/ 259).

(2)

البيضاوي (4/ 214).

(3)

تفسير الخازن (4/ 213).

(4)

أبو السعود (7/ 71).

ص: 377

وكان ابن أخت أيوب عليه السلام، وقال مقاتل: كان ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر»

(1)

.

‌القول الثاني: (بَاعُورَا):

1 -

قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَا ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر»

(2)

.

2 -

قال النسفي (ت: 710 هـ): «وهو لقمان بن بَاعُورَا، ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام»

(3)

.

3 -

قال أبو حيان (ت: 745 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَا. قال وهب: ابن أخت أيوب عليه السلام. وقال مقاتل: ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام»

(4)

.

4 -

قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «وَهُوَ لُقْمَانُ بْنُ بَاعُورَا بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَارِخْ، وَهُوَ آزَرُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ»

(5)

.

‌القول الثالث: (عاعورا):

- قال إسماعيل حقي

(6)

(ت: 1127 هـ): «قال ابن اسحاق صاحب

(1)

الألوسي (21/ 83).

(2)

تفسير الزمخشري (3/ 231).

(3)

النسفي (2/ 714).

(4)

أبو حيان (7/ 186).

(5)

فتح القدير (4/ 237).

(6)

إسماعيل حقي بن مصطفى البروسوي الإسطنبولي الحنفي الخلوتي، المولى أبو= =الفداء، متصوف مفسر، تركي مستعرب ولد في آيدوس وسكن القسطنطينية وانتقل إلى بروسة، وكان من أتباع (الطريقة الخلوتية) فنُفِيَ إلى تكفور طاغ، وأوذي، وعاد إلى بروسة فمات فيها، له كتب عربية وتركية منها: روح البيان في تفسير القرآن، الرسالة الخليلية في التصوف، الفروقات، وهو معجم في موضوعات مختلفة، توفي عام (1127 هـ) الموافق لعام (1715 م).

ص: 378

المغازي: هو لقمان بن عاعورا بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم الخليل»

(1)

.

‌القول الرابع: (باعور):

- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «هو لقمان بن باعور ابن ناخر بن تارخ وهو آزر أبو إبراهيم عليه الصلاة والسلام»

(2)

.

‌القول الخامس: (ناعور)

.:

- قال البغوي (ت: 516 هـ): «قال محمد بن إسحاق: هو لقمان بن ناعور ابن تارخ وهو آزر، وقال وهب: كان ابن أخت أيوب، وقال مقاتل: كان ابن خالة أيوب»

(3)

.

‌القول السادس: (عنقاء):

1 -

قال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقيل: هو لقمان بن عنقاء بن سرون، وكان نوبيًّا من أهل أيلة

(4)

(1)

إسماعيل حقي البروسوي، روح البيان في تفسير القرآن (3/ 48).

(2)

عمدة القاري (19/ 111 - 112).

(3)

تفسير البغوي (6/ 278).

(4)

أيلة: مدينة تقع على خليج العقبة (جنوب الأردن)، (والتي عرفت بعد ذلك باسم «أم الرشراش» تحت ولاية الحكم المصري ثم احتلها اليهود الصهاينة في حرب (1956 م)، = =وبدلوا اسمها إلى إيلات، وبها الآن ميناء إيلات المشهور والمعروف بهذا الاسم) ..... وينظر: الموسوعة الحرة- بتصرف.

ص: 379

ذكره السهيلي»

(1)

.

2 -

قال ابن كثير (ت: 774 هـ): «هو لقمان بن عنقاء بن سدون»

(2)

.

‌القول السابع: (عَنْقَا):

- قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «وَقِيلَ: هُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَا بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ»

(3)

.

‌القول الثامن: (ثاران):

- قال ابن كثير (ت: 774 هـ): «وحكى ابن جرير والقتيبي أنه: لقمان بن ثاران»

(4)

.

ويتلخص من الأقوال سالفة الذكر ما يلي:

1 -

اتفقت المصادر قاطبة على اسم لقمان بناءً على ورود اسمه في القرآن الكريم، وذلك بورود سورة تحمل اسمه، وذكر فيها مرتين في آيتين متتاليتين (12 - 13) من السورة الكريمة.

2 -

اختلفت المصادر في اسم أبيه على ثمانية أقوال:

الأول- باعوراء .. وعليه أكثر المصادر.

(1)

تفسير القرطبي (14/ 259).

(2)

تفسير ابن كثير (3/ 444)، والبداية والنهاية (2/ 29).

(3)

فتح القدير (4/ 237).

(4)

تفسير ابن كثير (2/ 23).

ص: 380

الثاني- باعورا .. ويلي القول الأول كثرة.

الثالث- عاعورا.

الرابع- باعور.

الخامس- ناعور.

السادس- عنقاء.

السابع- عنقا.

الثامن- ثاران.

3 -

كما اختلفت المصادر في اسم جده على ستة أقوال:

الأول- ناحور .. وعليه أكثر المصادر.

الثاني- ناخر.

الثالث- تارخ.

الرابع- مروان.

الخامس- سرون.

السادس- سدون.

4 -

كما اتفقت أغلب المصادر على أن لقمان من ذرية آزر، وآزر هو: أبو إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل: ابن أخت أيوب، وقيل: ابن خالته.

ومما لا مجال للشك فيه، أن في اسمه أبيه تصحيفًا

(1)

بينًا وواضحًا، وذلك

(1)

التصحيف: «هو تحويل الكلمة عن الهيئة المتعارفة إلى غيرها» انتهى. فتح المغيث (3/ 7). وهذا من أحسن التعاريف وأشملها لجميع الصور التي يذكرها العلماء في التصحيف.

ص: 381

للتقارب والتشابه الوارد فيه مع اختلاف وتنوع مصادره، وتباعد العهد بينها زمنيًّا، بل بالتأمل في المصدر الواحد تجد تصحيفًا وتحريفًا جليًّا، وبالرجوع لعدة طبعات للمصدر الواحد يتبين التصحيف جليًّا دون أدنى شك، وبالنظر والتأمل في المصادر الخمسة الأولى المتتالية نجد التشابه والتقارب واضحًا وجليًّا، وبالنظر كذلك في المصدرين السادس والسابع يتضح ما ذكرت وما بينت جليًّا دون أدنى ريب أوشك، لذا فقد جمعت أصحاب كل قول ورتبت أقوالهم ترتيبًا زمنيًّا بحسب تاريخ الوفاة لصاحب كل مصدر منها، ذلك ليتأمل المتبصر حقيقة ما ذهبت إليه من وجود تصحيفٍ في اسم أبيه، وكذلك ما يبدو في اسم جده من تصحيف، والمتأمل في المصدرين الأول والثاني، وكذلك في المصدر الرابع وما بعده من اسم جده يتضح له ذلك تمامًا.

وعمومًا- فإن المعنِيَّ بالبحث هو لقمان نفسه وما آتاه الله تعالى من الحكمة، وما يجنيه أهل الإيمان عمومًا والمربون خصوصًا من مواعظه وما حوته من عبر ودروس تربوية وإيمانية في تصحيح وتوجيه وترسيخ الأسس والمفاهيم العقدية والتعبدية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية، على وجه من الكمال والتمام، لم لا، وهذا الكتاب كما وصفه ربنا العظيم:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].

‌ثانيًا- نشأته: وتشمل:

* عمره والزمن الذي عاش فيه:

* موطنه.

* مهنه التي امتهنها.

* أوصافه (صفاته الخِلقية والخُلقية).

ص: 382

‌عمره والزمن الذي عاش فيه

- قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «إن لقمان عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعثه، فلما بُعث قطع الفتوى فقيل له عن ذلك فقال: ألا أكتفي إذا كفيت»

(1)

.

- وقال الألوسي (1270 هـ): «وقيل كان قاضيًا في بني إسرائيل، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال: وكان زمانه بين زمان عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقال عكرمة والشعبي: والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام»

(2)

.

- قال البيضاوي (685 هـ): «وعاش حتى أدرك داود عليه الصلاة والسلام وأخذ منه

(3)

العلم وكان يفتي قبل مبعثه»

(4)

.

ومما سلف ذكره يتضح ويتبين ويتأكد أن زمن لقمان كان قبل مبعث داود عليه السلام، ثم عاصره زمن نبوته، ويُستدلُ على ذلك بتوقفه عن الفتوى لما بُعِثَ داودُ عليه السلام بقوله:«ألا أكتفي إذا كفيت» ، وهذا القول عليه الأكثرون كما حكاه عن عكرمة والشعبي، وفيه شبه اتفاق بين المصادر التي طالعتها خلال بحثي، وأن

(1)

الكشاف (3/ 211)، وكذلك تفسير القرطبي (14/ 59)، وكذلك فتح القدير (1/ 1142)، وكذلك أبو السعود (7/ 71)، وكذلك النسفي (2/ 714).

(2)

تفسير الألوسي 21) / 82 - 83)، وكذلك فتح القدير (1/ 1142)، وكذلك أبو حيان (7/ 186).

(3)

والصواب أن يقال: أخذ عنه العلم، بدلًا من-أخذ منه-ولعله وقع تحريفًا وخطأ. (الباحث).

(4)

البيضاوي (4/ 214).

ص: 383

القول بأن زمانه بين زمان عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قول مرجوح، تفرد به قلة ولا يعول عليه، والله أعلى وأعلم وأَجَلُّ.

‌موطنه:

- قال الطبري (ت: 310 هـ): «قال مجاهد: كان لقمان (عبدًا حبشيًّا)

(1)

غليظ الشفتين، مصفح القدمين»

(2)

.

- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «وكذلك نقل قتادة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: قلت لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ما انتهى إليكم في شأن لقمان؟ قال: كان قصيرًا أفطس الأنف من (النوبة)»

(3)

.

- قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «رُوي عن سعيد بن المسيب قال: ولقمان الحكيم كان أسود (نوبيًّا) ذا مشافر»

(4)

.

- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ) -أيضًا: «ورُوي كذلك عن سعيد بن المسيب

(1)

حبشيًّا: نسبة إلى الحبشة وهي اليوم (إثيوبيا) رسميًّا: جمهورية إثيوبيا الفدرالية الديموقراطية، دولة غير ساحلية تقع في القرن الإفريقي وعاصمتها أديس أبابا (الزهرة الجديدة) وهي ثاني أكبر دول إفريقيا من حيث عدد السكان والعاشرة من حيث المساحة، يحدها من جهة الشرق كل من: جيبوتي والصومال، ومن الشمال دولة إيريتريا، ومن الشمال الغربي السودان، ومن ناحية الغرب جنوب السودان، ومن الجنوب الغربي كينيا، وينظر: الموسوعة الحرة.

(2)

تفسير الطبري (18/ (67.

(3)

تفسير ابن كثير (3/ 443).

(4)

الزمخشري الكشاف (3/ 211).

ص: 384

قال: كان لقمان من (سودان مصر)»

(1)

.

- وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «قال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان

(2)

: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان الحكيم كان أسود (نوبيًّا) ذا مشافر»

(3)

.

- وقال الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): «قيل: هو من بلاد النوبة، وقيل: من (الحبشة)»

(4)

.

- وقال أبو حيان (ت: 745 هـ): «قال الفراء وغيره: كان (حبشيًّا)»

(5)

.

- وقال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): «فَأَمَّا صِفَتُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ (عَبْدًا حَبَشِيًّا)» .

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 443).

(2)

السودان رسميًّا هي: جمهورية السودان، دولة في شمال شرق إفريقيا تحدها من الشرق إثيوبيا وإيريتريا، ومن الشمال مصر وليبيا، ومن الغرب تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى، ومن الجنوب دولة جنوب السودان، يقسم نهر النيل أراضي السودان إلى شطرين شرقي وغربي، وتقع العاصمة الخرطوم عند ملتقي النيلين الأزرق والأبيض رافدي النيل الرئيسين، ويتوسط السودان حوض وادي النيل، وينظر: الموسوعة الحرة.

(3)

الزمخشري الكشاف (3/ 211)، والقرطبي الجامع لأحكام القرآن (14/ 60)، وابن كثير البداية والنهاية (2/ 124).

(4)

الطاهر بن عاشور (22/ 149).

(5)

البحر المحيط (7/ 186).

ص: 385

- قال السيوطي (ت: 911 هـ): «وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن أبي الدنيا في كتاب «المملوكين» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان لقمان (عبدًا حبشيًّا) نجارًا»

(1)

.

- وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقال خالد الربعي: كان لقمان (عبدًا حبشيًّا) نجارًا»

(2)

.

- وقال القرطبي (ت: 671 هـ) أيضًا: «وكان (نوبيًّا) من أهل أيلة; ذكره السهيلي»

(3)

.

ولعل ابن المسيب يعني بسودان مصر: (النوبة)

(4)

بدليل رواية الزَّمَخْشَرِيُّ

(1)

السيوطي (11/ 625).

(2)

القرطبي: الجامع أحكام القرآن (14/ 16 - 60)، وينظر: أحمد بن حنبل: كتاب الزهد (ص 49).

(3)

القرطبي (56/ 14).

(4)

النوبة: تطلق على الجزء الجنوبي من بلاد مصر، وهي جيل من السودان واحدها نوبيّ، وبلاد النوبة من ذلك الجيل (المعجم الوسيط ص 961).

النوبيون: أهل النوبة، قبائل تسكن منطقة تمتد على ضفتي نهر النيل أقصى شمال السودان وأقصى جنوب مصر.

وينظر: الموسوعة الحرة، نقلًا عن تاريخ بلاد النوبة.

واللغة النوبية: هي لغة نيلية صحراوية تنتمي إلى عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية واللغات البربرية التي يتحدثها أهل المغرب وسيوة في مصر ويتحدثها سكان جنوب مصر ومناطق شمال وغرب (شمال دارفور جبال الميدوب) السودان القريبة من مصر، وكان معظم الناطقين بها يسكنون في حوض وادي النيل والممتد من جنوب مصر إلى شمال السودان. وعدد الناطقين بها حوالي (11) مليون نسمة. موزعين بين السودان = =ومصر، بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر الميلادي، كان النوبوبيون وكذا الأقباط يكتبون لغتهم بالأبجدية اليونانية القديمة وقام النوبيون بإضافة حروف نوبية خالصة لما استعصى رسمه من حروف منطوقة بالنوبية ولم يجدوا المقابل لها في اليونانية.

وينظر: - اللغة النوبية كيف نكتبها؟، محمد مختار خليل كبارة، مركز الدراسات النوبية والتوثيق، القاهرة، 1997 م.

اقرأ باللغة النوبية (Nobîn nog gery)، محمد متولي بدر. معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم.

ص: 386

المعتزلي التي هي من رواية الأوزاعي: عن عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب فإنها مفسرة ومبينة لرواية ابن كثير عن ابن المسيب أن لقمان كان من (سودان مصر)، وقوله: ثلاثة من (السودان): بلال، ومهجع مولى عمر، ثم أعقبها ولقمان الحكيم كان أسود (نوبيًّا).

وبذلك يمكن الجمع بين قولي ابن المسيب -رحمه الله تعالى: بأنه يعني بسودان مصر (النوبة)، والله أعلى وأعلم وأَجَلُّ.

بما سبق بيانه من أقوال في موطنه يجتمع لدينا عدة روايات تنسبه لأربعة مواطن، وهي:

1 -

الحبشة.

2 -

النوبة.

3 -

سودان مصر.

4 -

السودان

(1)

.

(1)

ويُقال: أن بلاد السودان في كلام القدماء يراد به بلاد جنوب الصحراء الكبرى لا دولة= = السودان التي اختصت بهذا الاسم دون غيرها، وإنما خصها بهذا الاسم الإنجليز منذ أقل من (120) سنة فقط، والله أعلم.

ص: 387

ولقد تعددت الروايات الواردة في ذكر موطنه، وأنه من النوبة، وأنه من (سودان مصر)، وأنه كان (حبشيًّا) وعليه الأكثرون، وأنه من (السودان)، فتعدد هذه الروايات لا إشكال فيه أيضًا، فإن المتأمل في صفات لقمان الخِلقية يجد أنها متناسقة ومتطابقة مع الصفات الخِلقية لسكان هذه البقاع المتجاورة والمتلاصقة من الشمال الشرقي للقارة الإفريقية، والتي تجمع أقصى شمال السودان، وهي منطقة (وادي حلفا) وما جاورها، وأقصى جنوب مصر وهي منطقة (النوبة)، ولعله كان له تنقل بين هذه البقاع، والتي تجمعها طبيعة جغرافية وسكانية واحدة، من جهة اللغة والعادات الاجتماعية والأعراف والنشاط السكاني، والروايات التي تذكر أنه من أيلة مع قلتها وندرتها لا تقاس بنسبته إليها مع نسبته إلى القارة الإفريقية، ولعل عمره الطويل كان له تأثير في انتقاله من مكان إلى مكان ومن مهنة إلى مهنة، والله أعلى وأعلم.

‌مهنته:

- قال الألوسي (1270 هـ): «اختلف فيما كان يعانيه من الأشغال، فقال خالد بن الربيع: كان (نجارًا) بالراء، وفي معاني الزجاج: كان (نجادًا) بالدال، وهي على وزن كتان، كذا هو بخط جماعة من الأئمّة، وهو: من يعالج الفرش والوسائد ويخيطها، وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وابن المنذر، عن ابن المسيب أنه كان (خياطًا)، وهو أعلم من النجاد»

(1)

.

(1)

تفسير الألوسي (21/ 83).

ص: 388

- وقال البغوي (ت: 516 هـ): «وقال سعيد بن المسيب: كان (خياطًا)، وقيل: كان راعي غنم، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة، ألست فلانًا الراعي؟ فبم بلغت ما بلغت؟ قال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني»

(1)

.

- وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «كان (يحتطب) لمولاه حزمة حطب، وقال لرجل ينظر إليه إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض»

(2)

.

- وقال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): «وَفِي صِنَاعَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ (خَيَّاطًا)، قَالَهُ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.

وَالثَّانِي: (رَاعِيًا)، قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ.

وَالثَّالِثُ: (نَجَّارًا)، قَالَهُ: خَالِدٌ الرَّبْعِيُّ»

(3)

.

- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «أنه كان (قاضيًا). في زمن داود عليه السلام»

(4)

.

- وقال الطبري (ت: 310 هـ): «وقال مجاهد: إنه كان (قاضيًا) على بني إسرائيل»

(5)

.

(1)

تفسير البغوي (2/ 215).

(2)

تفسير القرطبي (14/ 215).

(3)

ابن الجوزي (6/ 318).

(4)

ابن كثير البداية والنهاية (2/ 123).

(5)

تفسير الطبري (18/ 67)، وكذلك فتح القدير (1/ 1142)، وينظر: مسند أحمد (3/ 270).

ص: 389

ومما سبق من الروايات يتبين أنه: عَمِلَ وامتهن مهنًا كثيرة ومتعددة، ومختلفة وهي:

1) نجارًا.

2) نجادًا.

3) خياطًا.

4) راعيًا للغنم.

5) حطابًا لمولاه قبل أن يُعتَق من الرق.

6) قاضيًا على بني إسرائيل.

ولا تعارض في أنه امتهن كل هذه الأشغال والمهن، فبعضها متقارب ويمكن الجمع بينها كالنجاد والخياط، وكذلك يمكن الجمع بين مهنتي الرعي وجمع الحطب، وقد يكون تنقل بين هذه الحرف وتلك المهن، من حرفة إلى حرفة ومن مهنة إلى مهنة، لم لا وقد عُمِّر ألف سنة، فما الذي يمنع من تنقله بين هذه الأشغال وتلك المهن والحرف في هذا العمر الطويل والأمد المديد البعيد، والذي يندر مع طوله وتنقله من مكان إلى آخر- الثبات على مهنة أو صنعة أو حرفة واحدة، ولربما خُتم له بالاشتغال بالقضاء بعد أن امتن الله عليه وآتاه الحكمة وظهرت عليه آثارها، والله أعلى وأعلم بالصواب.

أبين أوصافه (صفاته الخِلقية والخُلقية):

‌صفاته الخِلقية:

أما عن صفاته الخِلقية فقد وردت أقوال متعددة متقاربة، وروايات متشابهة، وردت في جمع من المصادر، ومن أهمها ما يلي:

ص: 390

- قال الطبري (ت: 310 هـ): «حدثني نصر بن عبد الرحمن وابن حميد قالا: حدثنا حكام عن سعيد الزبيدي عن مجاهد قال: كان لقمان عبدًا حبشيًّا غليظ الشفتين، مصفح القدمين قاضيًا على بني إسرائيل»

(1)

.

- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «قال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد ابن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، ذا مشافر»

(2)

.

- وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «قال الأوزاعي: حدثني

عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيًّا ذا مشافر»

(3)

.

- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان قصيرًا أفطس من النوبة»

(4)

.

- وقال أبو حيان (ت: 745 هـ): «قال ابن عباس، وابن المسيب، ومجاهد: كان نوبيًّا مشقق الرجلين ذا مشافر، وقال الفراء وغيره: كان حبشيًّا مجدوع

(1)

تفسير الطبري (18/ 67).

(2)

تفسير ابن كثير (3/ 443).

(3)

الزمخشري الكشاف (3/ (211 وينظر: القرطبي الجامع لأحكام القرآن (14/ 60)، وابن كثير: البداية والنهاية (2/ 124).

(4)

تفسير ابن كثير (3/ 443).

ص: 391

الأنف ذا مشفر»

(1)

.

- وقالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310 هـ): «وقال مجاهد: كان عبدًا أسود عظيم الشفتين ومشقق القدمين»

(2)

.

- وقال ابن الجوزي: «فَأَمَّا صِفَتُهُ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا.

- وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّب: كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ مَنْ سُودَانِ مِصْر.

- وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ مشَقَّقَ الْقَدَمَيْنِ، وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ»

(3)

.

- وقال السيوطي (ت: 911 هـ): «وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن أبي الدنيا في كتاب «المملوكين» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدًا حبشيًّا نجارًا»

(4)

.

- وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقال خالد الربعي: كان لقمان عبدًا حبشيًّا نجارًا» .

ومما سبق ذكره من الروايات السابقة يتضح ويتبين لنا أنَّ من أهم وأبين وأظهر ما وُصِفَ به لقمان الحكيم عليه السلام من الصفات الخِلقية، أنه:

1 -

عبد حبشي أسود.

(1)

البحر المحيط (7/ 186).

(2)

جامع البيان (18/ 545 - 549)، وكذلك البغوي (6/ 287).

(3)

ابن الجوزي 6/ 318).

(4)

السيوطي (11/ 625).

ص: 392

2 -

قصير القامة.

3 -

أفطس ومجدوع الأنف.

4 -

غليظ وعظيم الشفتين.

5 -

وقد وصف بأنه ذو مشافر وأنه ذو مشفر.

6 -

وأنه مصفح ومشقق القدمين.

ولا يُشَكُ في صحة نسب تلك الصفات الخِلقية إلى لقمان مجتمعة، ومما يؤكد ذلك، أنها متناسقة ومتقاربة ومتجانسة، بل أغلبها وأعمها متطابق تمامًا كما هو الحال بين رواية الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي مع إحدى روايتي ابن كثير، وليس ثَمَّ مانع من اجتماعها في إنسان يمكن وصفه بتلك الصفات الخِلقية مجتمعة.

ومما يزيد الأمر تأكيدًا، الاتفاق على تلك الصفات الخِلقية، مع اختلاف مصادرها وتنوعها وتباعدها زمانيًّا، والله ولي التوفيق، وهو سبحانه أعلم بالصواب.

ولا شك أن المعني هو الصفات (الخُلُقية) التي بها علو شأن المؤمن وسموه ورقيه لأعالي درجات الكمال البشري، وبها عزه وكرامته عند خالقه ومولاه، كما قال سبحانه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، والتي حبا الله لقمان أحسنها وأكملها وأشملها وأطيبها وأنماها وأزكاها وأعلاها. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»

(1)

.

(1)

رواه مسلم (2564).

ص: 393

‌صفاته الخُلقية:

وأما عن أهم صفاته الخُلُقية فإنه: كان عبدًا صالحًا، ومربيًّا حكيمًا، جليل القدر، عظيم النفع، ومن أظهر ما يدل على ذلك ما وهبه الله وحباه من محاسن الصفات، وما أجراه على لسانه وما أنطقه به من الحكمة، وما تكلم به من المواعظ الجليلة في تربية ابنه على منهج متكامل الأركان تام البنيان، شامل لخيري المعاش والمعاد، شامل لبناء المسلم بناءً صحيحًا، عقديًّا وإيمانيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وتربويًّا.

ولعظم قدر تلك الوصايا التربوية والأبوية الجليلة، خلدها المولى جل في علاه وأصبحت مُسطرة في كتابه المجيد، وأكرم قائلها بإعلاء ذكره في العالمين وشرفه بالذكر في كتابه العزيز بورود سورة في خاتم كتبه على خاتم رسله، ضمن شريعته الغراء الخاتمة، يذكر فيها وتحمل اسمه، لتُصبِح مواعظه الحكيمة والجليلة والبليغة نبراسًا يضيء الطريق للأجيال المؤمنة، ويؤصل لهم معالم الهدى وسبل الرشاد، ويوضح لهم الطريق المستقيم، والسبيل القويم الموصل لرضوان الله في الدنيا، وجنته يوم التناد، إنها سورة كريمة تحمل اسمه، وتتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتلوها أهل الإيمان زرافات، ووحدانًا، يتلونها في صلواتهم وهم في محاريبهم وقوفًا بين يدي ربهم، يتلونها في خلواتهم وجلواتهم، نعم، لقد خلد الله تعالى فيها فصوص حكمه البليغة، ومنهجه الأبوي التربوي الأصيل، والذي يُعدُّ منهاجًا تربويًّا متكاملًا شاملًا لكل جوانب العملية التربوية، التي تبين واجب المربي، وتوضح بجلاء تام الأهداف التربوية التي يسعى الأب الشفيق لغرسها في نفس فلذة كبده وثمرة فؤاده، والأسلوب التربوي

ص: 394

التعليمي بالحكمة والموعظة الحسنة، مع روعة البيان، وتناسق العبارات والألفاظ، مراعيًا التدرج فيها ببيان وتقديم الأهم فالمهم، كل ذلك بالخطاب الحسن، والتحبب إليه بالأسلوب الجميل (يا بني) وتكراره بين الموعظة والأخرى، لكسر الحواجز النفسية وتهيئتها لتلقي الموعظة وقبولها، ولتجديد عقد وشيجة المحبة، ولبيان أن الدافع لتلك المواعظ هو واجب الأبوة، المصحوب والمقرون بالشفقة، التي تزينها أَجَلُّ معاني الحب والحنو والعطف، وما يحمله الوالد لولده من حب الخير له، والحرص على إيصال معاني الكمال إليه بمنهجه التربوي الكامل والشامل المؤدي لأسباب الرقي في مدارج تحقيق أعلى مراتب العبودية، الموصل إلى رضوان رب العالمين وإلى سعادة الدارين.

ولقد اكتفى الباحث بالثابت من صفات لقمان وهي ما آتاه الله من (الحكمة)، وتعرض لأسلوبه التربوي في موعظته لابنه، الدال على حكمته ورجاحة عقله وسعة علمه ومكنون فهمه وعلو همته وأمانته وصدقه وشفقته في نصحه وغير ذلك مما يدخل ضمنًا ويستنبط إدراكًا وفهمًا من صفاته وكريم أخلاقه المستوحاة من فحوى خطابه ونصحه ووعظه لولده، مكتفيًا بذلك عن كثير مما لم يثبت من الصفات المنسوبة إليه، وكذلك ما سبق ذكره من نسبه وموطنه ومهنته وصفاته الخِلقية، وكونه حرًّا أو عبدًا، كل ذلك لم يثبت ثبوتًا قطعيًّا بل أكثره وأغلبه من أخبار بني إسرائيل، وإن كانت الدراسة تعرضت له بشيء من البيان، ولا طائلة كبيرة من وراء ذكره، إذ لو كان ثَمَّ نفع أو فائدة من ذكره، لبينه الله أوضح بيان كما بين موعظته وجلاها للناظرين وجعلها باقية نافعة للمربين والدعاة وسائر الهداة المصلحين.

ص: 395

وفي نحو ذلك يقول أبو حيان: «وَهَذَا الِاضْطِرَابُ فِي كَوْنِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَفِي جِنْسِهِ، وَفِيمَا كَانَ يُعَانِيهِ، يُوجِبُ أَنْ لَا يُكْتَبَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَلَ، لَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ مُولَعُونَ بِنَقْلِ الْمُضْطَرِبَاتِ حَشْوًا وَتَكْثِيرًا، وَالصَّوَابُ تَرْكُه»

(1)

.

وموقف أهل السنة من رواية الإسرائيليات معروف ومشتهر على ألسنة العلماء ومبسوط في كتبهم وأكتفي بقول الشنقيطي:

«ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات في واحدة منها يجب تصديقه وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه، وفي واحدة يجب تكذيبه وهي إذا ما دل القرآن والسنة على كذبه، وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق

وهي ما إذا لم يثبت في كتابٍ ولا سنَّة صدقه ولا كذبه»

(2)

.

وهو ما يعبر عنه العلماء بتقسيم الإسرائيليات إلى ثلاثة أقسام:

الأول: موافق لشريعتنا.

الثاني: مخالف لشريعتنا.

الثالث: مسكوت عنه.

الأول: ما جاء موافقًا لشريعتنا:

فأما «ما جاء موافقا لما في شرعنا، فهذا تجوز روايته، وعليه تُحمل الآيات الدالة على إباحة الرجوع إلى أهل الكتاب، وعليه أيضا يُحمل قوله عليه الصلاة

(1)

أبو حيان (7/ 186).

(2)

أضواء البيان (4/ 203، 204).

ص: 396

والسلام: «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»

(1)

إذ المعنى: حدِّثوا عنهم بما تعلمون صدقه»

(2)

.

وفي معنى حديث عبد الله بن عمرو سالف الذكر يقول العظيم آبادي:

قال الخطابي: «ليس معناه إباحة الكذب في أخبار بني إسرائيل ورفع الحرج عمن نقل عنهم الكذب، لكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على معنى البلاغ؛ وإن لم يتحقق صحة ذلك بنقل الإسناد؛ وذلك لأنه أمر قد تعذر في أخبارهم؛ لبعد المسافة وطول المدة ووقوع الفترة بين زماني النبوة. وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بنقل الإسناد والتثبت فيه»

(3)

. اهـ.

الثاني: ما جاء مخالفًا لشريعتنا:

وأما «ما جاء مخالِفًا لما في شرعنا، أو كان لا يُصدِّقه العقل، فلا تجوز روايته؛ لأن إباحة الله للرجوع إلى أهل الكتاب، وإباحة الرسول صلى الله عليه وسلم للحديث عنهم، لا تتناول ما كان كذبًا، إذ لا يعقل أن يبيح الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم رواية المكذوب أبدًا»

(4)

.

- قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود

(1)

صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب أحاديث الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل (6/ 572)، برقم (3461) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(2)

الإسرائيليات والموضوعات في التفسير والحديث - د. محمد حسين الذهبي، (ص 49).

(3)

العظيم آبادي، عون المعبود (6/ 488) طبعة دار الحديث/ القاهرة.

(4)

الإسرائيليات والموضوعات في التفسير والحديث - د/ محمد حسين الذهبي، (ص 49).

ص: 397

لا يجوز حكايته، إلا على سبيل الإنكار والإبطال»

(1)

.

الثالث: ما جاء مسكوتًا عنه في شرعنا:

وأما «ما سكت عنه شرعنا، ولم يكن فيه ما يشهد لصدقه ولا لكذبه، وكان محتملًا، فحكمه أن نتوقف في قبوله فلا نصدقه ولا نكذبه» ، وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم»

(2)

، أما روايته فجائزة على أنها مجرد حكاية لما عندهم، لأنها تدخل في عموم الإباحة المفهومة من قوله عليه الصلاة والسلام:«حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»

(3)

،

(4)

.

قال الحافظ ابن كثير: هذا «محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يُصدِّقها ولا ما يُكذِّبها، فيجوز روايتها للاعتبار»

(5)

،

(6)

.

يقول الحافظ ابن حجر: «لا حرج؛ أي: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان قد تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد

(1)

ابن كثير (1/ 7) البداية والنهاية.

(2)

البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا (4/ 4215) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب أحاديث الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل (6/ 572) برقم: 3461) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(4)

الإسرائيليات الذهبي، (ص 49).

(5)

البداية والنهاية لابن كثير (1/ 6 - 7).

(6)

وينظر: رمضان الغنام، مقال بعنوان:(الإسرائيليات والمسألة العقدية) موقع طريق الإسلام، بتارخ 323/ 1/ 1436 هـ.

ص: 398

الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار ....

(1)

.

(1)

فتح الباري (575/ 6) طبعة دار الريان، الطبعة: الأولى. ورقم الحديث (3461) بترقيم الفتح.

ص: 399

‌المطلب الثاني التحقيق في أمر نبوته إثباتًا ونفيًا وهل كان لقمان نبيًّا أو عبدًا حكيمًا لم تثبت له نبوّة؟ على قولين:

‌القول الأول: أن لقمان كان عبدًا حكيمًا ولم يكن نبيًّا

- قال ابن كثير (ت: 774 هـ): «اختلف السلف في لقمان عليه السلام: هل كان نبيًّا، أو عبدًا صالحًا من غير نبوة؟ على قولين، الأكثرون على الثاني» .

ثم قال: «ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيًّا»

(1)

.

- وقال البيضاوي (ت: 685 هـ): «والجمهورُ على أنَّه حكيمٌ ولم يكن نبيًّا»

(2)

.

- وقال البغوي (ت: 516 هـ): «قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] يعني: العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور» .

- واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يكن نبيًّا، إلا عكرمة فإنه قال: كان

(1)

تفسير ابن كثير (6/ 334).

(2)

البيضاوي (4/ 214)، وكذلك النسفي (2/ 714)، وكذلك القسطلاني (إرشاد الساري في شرح أحاديث البخاري)(7/ 288)، وكذلك أبوالسعود (7/ 71).

ص: 400

لقمان نبيًّا. وتفرد بهذا القول

(1)

.

- وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «وأكثر الأقاويل أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًّا، ونُقِلَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: لقمان لم يكن نبيًّا ولا ملكًا ولكن كان راعيًا أسود، فرزقه الله العتق، ورضي قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته»

(2)

.

- وقالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310 هـ): «القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا لقمان الفقه في الدّين، والعقل، والإصابة في القول.

وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.

بيان ممن قال بذلك:

حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] قال: الفقه والعقل والإصابة في القول من غير نبوّةٍ»

(3)

.

- حدّثنا بشر، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]: أي: الفقه في الإسلام. قال قتادة: ولم يكن نبيًّا، ولم يوح إليه.

(1)

تفسير البغوي (6/ 287).

(2)

الزمخشري (5/ 11).

(3)

وبمثله قال الهمذاني بسنده عن مجاهد: وينظر: أيضًا تفسير مجاهد (504).

ص: 401

- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا يونس، عن مجاهدٍ، في قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] قال: الحكمة: الصّواب.

- حدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهدٍ، أنّه قال: كان لقمان رجلًا صالحًا، ولم يكن نبيًّا.

- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، في قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] قال: القرآن

(1)

.

- قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الحكمة: الأمانة

(2)

.

- وقال البقاعي: «قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] ولقد آتينا بما لنا من العظمة والحكمة -لقمان- وهو عبد من عبيدنا -الحكمة- وهو العلم المؤيد بالعمل، والعمل المحكم بالعلم»

(3)

.

- وقال الفخر الرازي (ت: 606 هـ): «وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]:

الحكمة: عِبَارَةٌ عَنْ تَوْفِيقِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ تَوْفِيقَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ»

(4)

.

(1)

وتعريف مجاهد للحكمة بأنها القرآن لا يعني ذلك أن لقمان قد أُتيَ القرآن، ولكن نقل ابن جرير تعريف مجاهد للحكمة، يعني به تعريف مجاهد لها. الباحث.

(2)

جامع البيان (18/ 545 - 549).

(3)

نظم الدرر (15/ 156).

(4)

التفسير الكبير (الفخر الرازي)(ص 128).

ص: 402

- وقال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وقال سعيد بن المسيب: كان من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النّبوّة»

(1)

.

- وقال ابن قتيبة

(2)

(ت: 276 هـ): «لم يكن نبيًّا في قول أكثر النّاس وكان رجلًا صالحًا»

(3)

.

- وقال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هُوَ نَبِيٌّ أَمْ رَجُلٌ صَالِحٌ؟

فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ»

(4)

.

- وقال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): «قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] فِيهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْفَهْمُ وَالْعَقْلُ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ.

وَالثَّانِي: النُّبُوَّةُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.

(1)

عمدة القاري (19/ 111).

(2)

ابن قتيبة: (ت: 276 هـ) - العلامة الكبير، ذو الفنون أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، أديب فقيه محدث مؤرخ عربي. صاحب التصانيف، له العديد من المصنفات أشهرها عيون الأخبار، وأدب الكاتب وغيرها. نزل بغداد، وصنف وجمع، وبعد صيته، قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة ديِّنًا فاضلًا.

سير أعلام النبلاء. بتصرف (3/ 297 - 298).

(3)

عمدة القاري (19/ 111).

(4)

فتح القدير (1/ 1142).

ص: 403

وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ. هَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ، وَلَا يُعْرَفُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عِكْرِمَةُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ»

(1)

.

- وقال ابن سعدي (ت: 1376 هـ): «وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، هَلْ كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا صَالِحًا؟ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ»

(2)

.

- وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقال سعيد بن المسيب: أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة; وعلى هذا جمهور أهل التأويل أنه كان وليًّا ولم يكن نبيًّا. وقال بنبوته عكرمة والشعبي; وعلى هذا تكون الحكمة النبوة.

والصواب أنه كان رجلًا حكيمًا بحكمة الله -تعالى- وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل»

(3)

.

- وقال القاسمي (ت: 1332 هـ): «على قول الجمهور: أنه حكيم» ، و «على قول: عكرمة أنه نبي»

(4)

.

- وقال أبو حيان (ت: 745 هـ): «والأكثرون على أنه لم يكن نبيًّا»

(5)

.

- وقال الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): «وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ لُقْمَانَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ حَكِيمًا أَوْ (نَبِيئًا)

(6)

. فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: كَانَ حَكِيمًا

(1)

ابن الجوزي (6/ 318).

(2)

ابن سعدي (6/ 1350).

(3)

القرطبي (14/ 56).

(4)

القاسمي (13/ 4796).

(5)

أبو حيان (7/ 186).

(6)

نَبِيئًا، بقراءة نافع المدني، وبها يقرأ أهل المغرب العربي.

ص: 404

صَالِحًا. وَيَظْهَرُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْتَنَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ وَلَا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ يُومِئُ إِلَى أَنَّهُ أُلْهِمَ الْحِكْمَةَ وَنَطَقَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ تَعْلِيمُهُ لِابْنِهِ قَالَ تَعَالَى وَهُوَ يَعِظُهُ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَا تَبْلِيغَ تَشْرِيعٍ»

(1)

.

وابن عاشور وضع الأمور في نصابها، فبعد أن بَيَّنَ اختلاف السلف في نبوته وذكر رأى الجمهور مرجحًا له، أتى بما يثبت ويؤيد ترجيحه لرأي الجمهور بعدم نبوة لقمان، فقال: لِأَنَّهُ لَمْ يُمْتَنَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ وَلَا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وقال: قال تعالى: {وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان: 13] وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَا تَبْلِيغَ تَشْرِيعٍ، فيكون بذلك قد أتى بحجة دامغة تدلل على ما ذهب إليه، والحمد لله رب العالمين.

وبعد بيان القول الأول القاضي (بنفي النبوة عن لقمان)، يجتمع لدينا روايات كثيرة وأقوال عديدة من أقوال أئمة التفسير، وقد نقلوا أقوال المفسرين من التابعين وغيرهم، ومفادها ومختصرها كالتالي:

- قال ابن كثير: «عبدًا صالحًا من غير نبوة» ، وقال أيضًا:«لم يكن نبيًّا» (جمهور السلف).

- وقال البيضاوي: «ولم يكن نبيًّا» (الجمهور)، ووافقه كل من النسفي، والقسطلاني، وأبو السعود.

- وقال البغوي: (الحكمة): يعني: العقل .. الخ، ولم يكن نبيًّا:(واتفق العلماء) إلا عكرمة تفرد بهذا القول.

(1)

الطاهر بن عاشور (22/ 149).

ص: 405

- وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «عن ابن عباس رضي الله عنهما (لم يكن نبيًّا)، ولا ملكًا» ، (أكثر الأقاويل).

- وقالَ الطَّبَرِيُّ: (الحكمة): الفقه في الدّين .. الخ، ورد عن مجاهدٍ قال: رجلًا صالحًا، ولم يكن نبيًّا

و (الحكمة)، ورد عنه فيها عدة أقوال:

* الفقه في الدين الخ .. من غير نبوّةٍ.

* الصواب.

* القرآن.

* الأمانة

(1)

.

- وعن قتادة: (الحكمة): الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيًّا، ولم يوح إليه.

- وقال البقاعي: (الحكمة): العلم المؤيد بالعمل .. الخ.

- وقال الفخر الرازي: (الْحِكْمَةَ): توْفِيقُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ .. الخ.

- وقال العَيْنِيُّ: عن ابن المسيب قال: أعطاه الله الحكمة ومنعه النّبوّة.

- وقال ابن قتيبة: لم يكن نبيًّا.

- وقال الشوكاني: ذَهَبَ (أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ) إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ.

- وقال ابن الجوزي: (الحكمة): الْفَهْمُ وَالْعَقْلُ، قَالَهُ:(الْأَكْثَرُونَ).

وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وقال ابن سعدي: وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وقال القرطبي (الحكمة)، الصواب في المعتقدات .. الخ، وقال عن ابن المسيب:

(1)

وينظر: تفسير مجاهد (504)، وكذلك جامع البيان (18/ 545 - 549).

ص: 406

منعه النبوة، وعلى هذا (جمهور أهل التأويل) أنه كان وليًّا ولم يكن نبيًّا.

- وقال القاسمي: «على قول الجمهور: أنه حكيم» .

- وقال أبو حيان: لم يكن نبيًّا (الأكثرون).

- وقال الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): كَانَ حَكِيمًا صَالِحًا (الْجُمْهُورُ).

وقبل بيان القول الثاني وما ورد فيه من روايات، يجدر التنبيه إلى أن البيان السابق من أئمة التفسير بأن لقمان أوتي الحكمة ومنع النبوة، فيه: إجماع من (الجمهور) نقله أهل التفسير، ونُقِلَ (اتفاقُ أهلِ العلمِ) على ذلك، ويكفي أنه اختيار الحبر (ابن عباس) رضي الله عنهما.

ولقد وردت ألفاظ متقاربة جدًّا ومتشابهة وشبه متطابقة ومتوافقة، نبينها مقتضبة ومختصرة جدًّا، ليتضح الإجماع ويتبين للمتأمل بصورة جلية وواضحة أكثر لا تدع للتردد أو للشك مجالًا، على النحو التالي:

* (رأي الجمهور) قال به: ابن كثير، والبيضاوي، والقرطبي، وابن عاشور، والقاسمي.

* (أكثر الأقاويل) قاله: الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي.

* (الأكثرون) قاله: أبو حيان، وابن كثير، وابن الجوزي.

* (اتفق العلماء) قاله: البغوي.

* (قال أهل التأويل) قاله: الطبري.

* (قول أكثر الناس) قاله: ابن قتيبة.

* (أكثر أهل العلم) قاله: الشوكاني.

ص: 407

‌القول الثاني: القول بنبوة لقمان:

- قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310 هـ) -بعد أن رجح نبوة لقمان-: «وقال آخرون: كان نبيًّا» .

ثم قال: «حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثني أبي، عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن عكرمة، قال: كان لقمان نبيًّا»

(1)

.

- وقال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وعند الحوتي عن عكرمة: كان نبيًّا، وهو قد تفرد بهذا القول»

(2)

.

- وقال الألوسي (1270 هـ): «وقال عكرمة والشعبي: كان نبيًّا والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام ولم يكن نبيًّا»

(3)

.

- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ) -بعد أن ساق جملة من الآثار التي تنفي نبوة لقمان- قال مؤكدًا: «فهذه الآثار منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبيًّا، ومنها ما هو مشعر بذلك; لأن كونه عبدًا قد مسَّه الرق ينافي كونه نبيًّا; لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها; ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيًّا، وإنما يُنقلُ كونه نبيًّا عن عكرمة -إن صح السند إليه- فإنه رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة فقال: كان لقمان نبيًّا، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي، وهو ضعيف، والله أعلم»

(4)

.

(1)

جامع البيان (18/ 548).

(2)

عمدة القاري (19/ 112).

(3)

تفسير الألوسي (21/ 82 - 83).

(4)

تفسير ابن كثير (6/ 335).

ص: 408

- قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِنُبُوَّتِهِ إِلَّا عِكْرِمَةُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ عَنْهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا»

(1)

.

- وقال البغوي (ت: 516 هـ): «واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يكن نبيًّا، إلا عكرمة فإنه قال: كان لقمان نبيًّا، وتفرد بهذا القول»

(2)

.

- قال الثعلبي (ت: 427 هـ): «واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًّا إلا عكرمة فإنه قال: كان لقمان نبيًّا، وتفرد بهذا القول»

(3)

.

يوضح الباحث أن القول بنبوة لقمان مداره على قول عكرمة من رواية جابر ابن يزيد الجعفي، كما سبق بيانه، ثم يتضح أكثر ببيان الأقوال سالفة الذكر -مختصرة-، وهي خمسة أقوال، وهي شبه متوافقة ومتطابقة، على النحو التالي:

1 -

ابن جرير يقول: عن جابر، عن عكرمة، قال:(كان لقمان نبيًّا).

2 -

وابن كثير يقول: إنما يُنقلُ (كونه نبيًّا) عن عكرمة -إن صح السند إليه-، عن جابر، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي، وهو ضعيف.

3 -

والعيني يقول: (عن عكرمة) كان نبيًّا، وهو قد (تفرد بهذا القول).

4 -

الألوسي يقول: وقال عكرمة والشعبي: كان نبيًّا.

5 -

الشوكاني يقول بعد أن نفى قول السدي والشعبي: وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِنُبُوَّتِهِ

(1)

فتح القدير (1/ 1142).

(2)

البغوي (6/ 287).

(3)

الثعلبي (11/ 37).

ص: 409

إِلَّا عِكْرِمَةُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ عَنْهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.

ليتضح لنا بذلك وبصورة واضحة جلية أمران جليلان:

الأمر الأول: أن القول بنبوة لقمان مداره على قول عكرمة من رواية جابر الجعفي.

الأمر الثاني: بيان حال جابر الجعفي وهو: (ضَعِيفٌ جِدًّا).

من هنا لزم الأمر بيان أقوال علماء الجرح والتعديل في جابر الجعفي، ليتبين لنا صحة قول أهل التفسير فيما ما سبق بيانه من ضعفه.

- أقوال علماء الجرح والتعديل في جابر بن يزيد الجعفي

(1)

:

- قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ): «جابر بن يزيد الجعفي

(ضعفه الجمهور)، ووصفه الثوري والعجلي وابن سعد (بالتدليس)». اهـ.

- وقال الحافظ أيضًا: «وقال ابن سعد: وكان (يدلس)، وكان (ضعيفًا) في روايته»

(2)

.

(1)

هو: جابر بن يزيد بن الحارث أبو عبد الله الجعفي الكوفي من الخامسة، مات سنة سبع وعشرين ومائة.

ينظر: ترجمته في: الطبقات الكبرى (6/ 345)، والتاريخ الكبير (2/ 210)، والضعفاء والمتروكين (ص 28)، وضعفاء العقيلي (1/ 191)، والجرح والتعديل (2/ 497)، والمجروحين (1/ 208)، والكامل (2/ 113 ـ 120)، وتهذيب الكمال (1/ 430)، وميزان الاعتدال (1/ 379)، والكاشف (1/ 288)، وتهذيب التهذيب (2/ 46)، وتقريب التهذيب (137).

(2)

ابن حجر، تهذيب التهذيب (6/ 37 - 49).

ص: 410

- وقال الحافظ (في التقريب) أيضًا: «ضعيف رافضي»

(1)

.

- وقال ابن حبان (ت: 354 هـ): «كان (سبئيًّا) من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن عليًّا رضي الله عنه يرجع إلى الدنيا» .

- وقال جرير بن عبد الحميد (ت 188 هـ): «لا أستحل أن أحدث عن جابر الجعفي، وقال: هو (كذاب) يؤمن بالرجعة» .

- وقال زائدة: «رافضي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

- وقال محمد بن عثمان الذهبي (ت: 748 هـ) في نظم (أسماء المدلسين):

خذ المدلسين يا ذا الفكر

جابر الجعفي ثم الزهري

(3)

.

- وقال محمود المقدسي في نظم (أسماء المدلسين):

والقارئ الأعمش والزهري

وابن جريج جابر الجعفي

(4)

.

- وذكره الشيخ حماد الأنصاري (ت: 1418 هـ)، في (التدليس

(1)

من الخامسة (ت: 127 هـ) وقيل: (ت: 132 هـ) وينظر: الحافظ ابن حجر العسقلاني، طبقات المدلسين، (ص 53) تحقيق الدكتور/ عاصم بن عبد الله القريوتي، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، الطبعة: الأولى (1405 هـ).

(2)

الضعفاء الكبير للعقيلي (1/ 196)، والمجروحين لابن حبان (1208)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 379).

(3)

ينظر: أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي- طبقات الشافعية الكبرى (5/ 218).

وينظر: القريوتي -مرجع سابق- (ص 69).

(4)

وينظر: القريوتي -مرجع سابق- (ص 70).

ص: 411

والمدلسون)

(1)

.

- قال الشيخ مقبل بن هادى الوادعي (ت: 1423 هـ): جوابًا عن سؤال وُجِّهَ إليه: السؤال- قالوا: إن الرافضة لا يكتب عنهم ولا كرامة، فكيف بجابر الجعفي، وكان يؤمن بالرجعة؟

الجواب: جابر بن يزيد الجعفي وثقه بعضهم، وهو يعتبر رافضيًّا، وقد كذبه أبو حنيفة فقال: ما رأيت أكذب منه، وكذبه غير أبي حنيفة، فجابر بن يزيد الجعفي ومن جرى مجراه لا يحتاج إليه، وقد ذكر الحافظ الذهبي-رحمه الله تعالى- في «الميزان» في ترجمة أبان بن تغلب ذكر: أن الشيعي إذا كان صدوق اللسان فإنه يؤخذ عنه، وأما الرافضة -الذين يسبون أبا بكر وعمر- قال: فلا يحتاج إليهم، قال: على أنني لا أعرف من هذا النوع أحدًا يحتاج إليه، بل الكذب شعارهم والتقية دثارهم، أو بهذا المعنى.

فالرافضة ليس هناك أحد منهم يُحتَاجُ إليه، حتى قال الأعمش: ما كنا نسميهم إلا الكذابين.

وذكر نحو هذا شريك بن عبد الله النخعي، فلعل من روى لجابر يقصد أنه يعتبر بحديثه، فعلى كلٍّ فروايته لا تصلح في الشواهد والمتابعات

(2)

.

(1)

مجلة الجامعة الإسلامية- العدد الرابع سنة (1389 هـ)(ص 49).

(2)

الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح، دار الآثار للنشر والتوزيع، صنعاء (طبعة 3، 1425 هـ -2004 م)، إجابة عن أسئلة فضيلة الشيخ أبي الحسن المأربي مصطفى بن إسماعيل السليماني -حفظه الله تعالى- السؤال رقم (48)(ص 53).

ص: 412

وبعد هذا البيان الشافي الكافي، فقد تأكد وتبين جليًّا بحمد الله وتوفيقه صحة قول ابن كثير والشوكاني في تضعيف جابر بن يزيد الجعفي، فلله الحمد أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا.

‌القول الراجح:

ومما يظهر جليًّا بعد النظر والتأمل في قولي الفريقين (القائلين بنبوته، والمانعين لها):

أن موطن الخلاف في نبوة لقمان إثباتًا ونفيًا، هو أن القائلين بنبوته وهم قلة، قد أولوا الحكمة بالنبوة، والقائلين بأنه: عبدٌ حكيمٌ أُوتي الحكمة ومُنِعَ النبوة وهم الأكثرون، تأولوا الحكمة بمعناها ومفهومها ومدلولها اللغوي والشرعي:

فمفهومها ومدلولها اللغوي هو: وضع الشيء في موضعه.

- قال أبو إسماعيل الهروي (ت: 481 هـ): «الحِكْمَة: اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه»

(1)

.

- وقال ابن القيِّم (ت: 751 هـ): «الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي»

(2)

.

ومفهومها ومدلولها الشرعي: ما تأولوه وبينوه من أقوال: بأن الحكمة هي: الفقه في الدين، والعقل، والأمانة، والقرآن، والعلم المقرون بالعمل الصالح، وغير ذلك.

(1)

منازل السائرين (ص 78).

(2)

مدارج السالكين (2/ 449).

ص: 413

من هنا كان إلقاء الضوء على كلام أهل التفسير في مفهوم ومدلول الحكمة في ضوء الآية الكريمة، مع التوسع في إلقاء الضوء على رأي القائلين بنفي ومنع النبوة عن لقمان عليه السلام، من الأهمية بمكان، لأن عليه الأكثرين.

ومن المعلوم أن النبوة موهوبة وليست مكتسبة، ولذا لا تثبت النبوة لأحد بأدلة ظنية الدلالة، بل لا بد من ثبوتها بأدلة قطعية الدلالة، وذلك لعظم شأنها وجليل قدرها، وهذا في حدود البحث الضيق والاطلاع القاصر من تلك الدراسة لم يثبته أحد.

والذي يطمئن إليه القلب، وتميل إليه النفس بعد هذا البحث وذاك البيان، هو القول: بأن لقمان أوتي الحكمة، ومنع النبوة، هو القول الراجح والصحيح، وهو ما عليه جمهور السلف وأكثر أئمة التفسير، وأن القول بنبوة لقمان قول مرجوح، لم يقم عليه دليل قاطع، ولا برهان ساطع.

هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد وهو أعلى وأعلم بالصواب.

وبهذا ينتهي المبحث الثالث

والحمد لله رب العالمين.

ص: 414

‌المبحث الرابع المنهج التربوي كما تُصوره موعظة لقمان الحكيم عليه السلام

-

وفيه مطالب:

المطلب الأول: الجانب العقدي

المطلب الثاني: الجانب التعبدي.

المطلب الثالث: الجانب الأخلاقي.

المطلب الرابع: طبيعة العلاقة بين هذه الجوانب.

ص: 415

‌المطلب الأول: الجانب العقدي

.

ويندرج تحته مباحث عدة على نحو ما يلي:

‌أولاً: مفهوم العقيدة:

‌أ- مفهوم العقيدة لغة:

العقيدة في اللغة: من العقد؛ وهو الربط، والإبرام، والإحكام، والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والمراصة، والإثبات؛ ومنه اليقين والجزم. والعقد نقيض الحل، ويقال: عقده يعقده عقدًا، ومنه عقدة اليمين والنكاح.

قال الله تبارك وتعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].

والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.

والعقيدة في الدين: ما يقصد به الاعتقاد دون العمل؛ كعقيدة وجود الله وبعث الرسل. والجمع: عقائد وخلاصة ما عقد الإنسان عليه قلبه جازمًا به؛ فهو عقيدة، سواء كان حقًّا، أم باطلًا

(1)

.

(1)

الوجيز في عقيدة السلف الصالح. لعبد الحميد الأثري (ص 29).

ص: 417

‌ب- مفهوم العقيدة اصطلاحًا:

و (العقيدة) في الاصطلاح: هي الأمور التي يجب أن يصدق بها القلب، وتطمئن إليها النفس؛ حتى تكون يقينًا ثابتًا لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك.

أي: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده، ويجب أن يكون مطابقًا للواقع، لا يقبل شكًّا ولا ظنًّا؛ فإن لم يصل العلم إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة.

وسمي عقيدة: لأن الإنسان يعقد عليه قلبه

(1)

.

‌ج- تعريف العقيدة الإسلامية:

العقيدة الإسلامية: هي الإيمان الجازم بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، وأصول الدين، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم التام لله تعالى في الأمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

والعقيدة الإسلامية:

إذا أطلقت فهي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الإسلام الذي ارتضاه الله دينًا لعباده، وهي عقيدة القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان

(2)

.

ولا شك أن الشرك هو أشد الظلم وأعظمه، وأكبر الكبائر، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات على الإطلاق كما وصفه الله تعالى في وصية لقمان بقوله:

(1)

الوجيز في عقيدة السلف -مرجع سابق- (ص 30).

(2)

الوجيز في عقيدة السلف -مرجع سابق- (ص 30).

ص: 418

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13].

‌ثانيًا: بيان العلة من تقديم لقمان النهي عن الشرك في موعظته لولده:

وفي بدء لقمان موعظته لولده بالنهي عن الشرك قبل الأمر بالتوحيد، علل جليلة من أهمها وأعظمها وأبينها ما يلي:

‌العلة الأول:

أراد لقمان أن يبين لولده أولًا ثم للمربين وسائر المصلحين ثانيًا: أن التوحيد لا يسمى توحيدًا ولا يتحقق إلا باجتناب الشرك أولًا، فنبذ الشرك والتخلي عنه والبراءة منه ومن أهله شرط صحة في قبول جميع الأعمال ومنها وأولها التوحيد الذي هو حق الله على جميع العبيد، كما قال سبحانه:

{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].

ص: 419

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال -التي ظنوا أنها منجاة لهم- شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصًا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معًا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ ولهذا قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]»

(1)

.

‌العلة الثانية:

أراد لقمان بيان وجوب تقديم التصفية على التربية والتخلية على التحلية، وهذه قاعدة عظيمة من قواعد التربية، فإذا أردنا أن نربي أبناءنا على التوحيد الخالص فلا بد أولًا من تصفية العقائد الشركية والكفرية وأمرهم بنبذها والبراءة منها ومن أهلها، ومن ثَمَّ نأمرهم بتحقيق التوحيد وإخلاص الوجه لله سبحانه، ومن أراد أن يزينهم بزينة الإيمان لا بد أولًا أن يخليهم من نواقضه ويجنبهم إياها ويبغضهم فيها ويداوم على تحذيرهم منها ويزجرهم عنها، ومن أراد أن يحليهم ويجملهم بالفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وجميل الفعال فلا بد أولًا أن ينهاهم عن الرذائل ويجنبهم سيئ الفعال ورديء الأخلاق، وهذا ما فعله هذا العبد الحكيم لقمان عليه السلام مع ولده.

ولقمان هنا يوجه المربين والدعاة والمصلحين من بعده إلى خطر الشرك وعظم شأن التوحيد، وأن تصحيح المعتقد مقدم على كل أمر ذي بال في العملية التربوية، سواء كان في الجانب التعبدي، أو الجانب الأخلاقي، أو الجانب الدعوي، أو الجانب الاجتماعي، أو في غير ذلك من الجوانب التربوية والإصلاحية، وأن صلاح هذه الجوانب وإرساء قواعدها التربوية في نفوس الناشئة متوقف على سلامة وصحة المعتقد المتمثل في نبذ الشرك وتحقيق التوحيد كما تبين معنا ذلك آنفًا.

ولذا كان من حكمة لقمان عليه السلام أن بدأ موعظته لابنه بالنهي عن الشرك والتحذير منه قبل الأمر ببقية الفضائل من بر الوالدين وطاعتهما في المعروف ومراقبة الله وخشيته وبقية الفضائل الواردة في موعظته، وهذه هي قاعدة التخلية

(1)

تفسير ابن كثير (6/ 106).

ص: 420

قبل التحلية، أو التصفية قبل التربية كما مر معنا وإنما تكرر ذلك الأمر لأهميته ومكانته.

قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].

فالاستمساك بالعروة الوثقى لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت أولًا، وهو نبذ كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى والبراءة منه ومن أهله.

‌ثالثًا- بيان معنى الطاغوت:

قال ابن منظور: «الطاغوتُ: ما عُبِدَ من دون الله عز وجل، وكلُّ رأْسٍ في الضلالِ طاغوتٌ .. »

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم: «والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع»

(2)

.

وقال العلامة الفقيه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «وأجمع ما قيل في تعريف الطاغوت: هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع»

(3)

.

ويقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «والطاغوت: عام في كل ما عبد من دون الله، فكل ما عُبد من دون الله، ورضي بالعبادة، من معبود، أو متبوع، أو

(1)

لسان العرب (8/ 444).

(2)

إعلام الموقعين (1/ 50).

(3)

القول المفيد (1/ 10).

ص: 421

مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت»

(1)

.

وقال ابن الجوزي: «فأما الطاغوت: فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد»

(2)

.

وقال الألوسي: «والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود وغيره»

(3)

.

وقال الإمام المحقق سليمان بن عبد الله

(4)

-رحمهما الله- في شرحه على «كتاب التوحيد» : «الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد»

(5)

. اهـ.

قال الإمام عبد الله بن عبدالرحمن أبو بطين رحمه الله: اسم «الطاغوت يشمل: كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلالة يدعو إلى الباطل ويحسنه، ويشمل أيضًا: كل ما نصبه الناس بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله، ويشمل أيضًا: الكاهن والساحر وسدنة الأوثان»

(6)

. اهـ.

(1)

الدرر السنية (1/ 161).

(2)

زاد المسير (2/ 125).

(3)

روح المعاني (5/ 55).

(4)

سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1200 هـ-1233 هـ/ 1818 م).

من آل الشيخ، فقيه سلفي من أهل نجد من حفدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

ولد بالدرعية عام 1200 هـ. كان بارعًا في التفسير والحديث والفقه، وشى به بعض المنافقين إلى إبراهيم باشا بن محمد علي بعد دخوله الدرعية واستيلائه عليها فأحضره إبراهيم، وأظهر بين يديه آلات اللهو والمنكر إغاظة له، ثم أخرجه إلى المقبرة وأمر العساكر أن يطلقوا عليه الرصاص جميعًا فمزقوا جسمه -رحمه الله تعالى- وكان ذلك عام (1233 هـ/ 1818 م). وينظر: - الشاملة.

(5)

تيسير العزيز الحميد (34).

(6)

مجموعة التوحيد (500).

ص: 422

وقال العلامة الفقيه شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله تعالى: «الطاغوت هو: كل ما خالف حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن ما خالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم، وإليه يرجع الأمر كله وهو الله. قال الله تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]

(1)

. اهـ.

ومن خلاصة ما سلف يتبين أن الشرك بالله هو أعظم الظلم وأن الكافرين كما وسمهم الله بقوله سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254].

ومن هنا يتضح لدينا ويتبين لنا أن الكفر هو الظلم والكافر هو الظالم، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والكافر وَضَعَ العبوديةَ في غير موضعها وصَرَفَها للأنداد، فالكفار يؤمنون بالجبت والطاغوت ويكفرون بالله تعالى، والكافر عَبَدَ المخلوق وهجر عبادة الخالق سبحانه وتعالى.

وفي ضوء ما مضى يتأكد لنا أن من أهم الواجبات المتحتمات، ومن أعظم وأَجَلِّ المهمات؛ أن يعرف العبد معنى الشرك وخطره وأقسامه حتى يتم توحيده، ويسلم له إسلامه، ويصح إيمانه.

فإذا كان الشرك كما وُصِفَ، فإنه من الواجبات المتحتمات ومن أهم المهمات التي يتعين على المسلمين عمومًا والمربين والمصلحين والدعاة خصوصًا التعرف عليه وعلى أقسامه وأضراره ومفاسده وما يترتب على الوقوع والولوج فيه والتلبس به من أحكام ومفاسد ومخاطر وسوء عاقبة في الدارين، ومن ثم توجيه الناشئة وتعليمهم مخاطره ومساوئه وما يترتب على الوقوع فيه من سوء العاقبة وسوء المصير في دار السعير، ثم تنفيرهم منه وتبغيضهم فيه،

(1)

مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (1/ 39).

ص: 423

وأمرهم وحثهم على نبذه وهجرانه وأهله والبراءة منه ومن أهله، فهذه هي التخلية والتصفية، ثم تليها التحلية والتربية على التوحيد الخالص وتوجيه الناشئة وتعليمهم العقيدة الإسلامية الصافية الخالصة الصحيحة الخالية من شوائب الشرك والبدع والمحدثات، وأمرهم بوجوب لزوم تحقيق التوحيد قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، وصرف العبادة كلها لله تعالى، ولأن العبادة لا تسمى عبادة ولا تصح إلا مع التوحيد، وذلك حتى يتم توحيدهم، ويسلم لهم إسلامهم، ويصح إيمانهم وانقيادهم وعبوديتهم لله الواحد القهار.

وإن العناية بتعليم عقيدة التوحيد الخالص لعموم الخلق ودعوتهم إليها ولا سيما الناشئة منهم، هو نهج النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين، ومن بَعدهم وعلى نهجهم في كل زمان سار الأئمة الأعلام من العلماء ورثة الأنبياء والسادة المصلحين الحنفاء والمربين النجباء، فكانوا يبتدرون الناس بالدعوة إلى توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبودية وترك عبادة ما سواه وإصلاح العقائد، ثم بعد ذلك يعلمونهم ويأمرونهم ببقية شرائع دين الله تعالى.

‌رابعًا- بيان أن الدعوة إلى التوحيد هو نهج جميع النبيين والمرسلين:

ولقد بَيَّنَ الله في كتابه أن رسالة النبيين والمرسلين جميعًا هي دعوة الخلق إلى توحيده وعبادته وإخلاص العمل له وحده سبحانه ونبذ عبادة ما سواه.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

ص: 424

فجميع النبيين المرسلين عليهم السلام بُعِثوا بهذه المهمة العظيمة والرسالة الجليلة، من لدن نوح عليه السلام وهو أول الرسل وحتى خاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم عليهم السلام أجمعين- ومن محاسن دعوة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام في هذا المضمار، عنايتهم بعقائد أبنائهم تربيًة وتعليمًا وتوجيهًا ودعوةً:

- فهذا نوح عليه السلام أول رسل الله لأهل الأرض يهتف في فلذة كبده وثمرة فؤاده محذرًا له من الكفر وعاقبته ومن الكافرين ومغبة صحبتهم ومعيتهم:

{يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)} [هود: 42].

- وهذا خليل الرحمن يوصي بنيه، وكذلك من بعده ولده يعقوب عليه السلام:

قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132] والخليل عليه السلام تتابعه ذريته من بعده على نهج التوحيد ونبذ الشرك، فهذه وصية يعقوب عليه السلام لبنيه وهو في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة، قال تعالى:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 133].

- وهذا يوسف الصديق عليه السلام يعلنها مدويةً بين جنبتي السجن، مخاطبًا رفقاء السجن داعيًا إياهم إلى نبذ الشرك وتحقيق التوحيد، معلنًا لهم بذلك نهجه الذي تربى عليه ونهج آبائه النبيين من قبله، قال تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ

ص: 425

وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 38 - 40].

- وهذا خاتم النبيين والمرسلين عليه الصلاة والسلام يبين عظم شأن التوحيد معلنًا بذلك للبشرية قاطبة إلى قيام الساعة أنه لا مساومة في أصل الدين وأساس الملة، وأن سيوف أهل الإسلام وعسكر الإيمان ما سُلت في وجوه جحافل الشرك وعسكر الشيطان فأهريقت دماء، وقطعت أجسام وصارت أشلاءَ، وأزهقت أرواحٌ ويُتِّمَ أطفالٌ، ورُمِّلَتْ نساءٌ، إلا حماية لجناب التوحيد وتحقيقًا لعبودية الواحد الأحد، وإعلاءً ورفعة لكلمة التوحيد التي هي أساس الملة وأس الدين، فيقول صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»

(1)

.

ويوجه الأمة لحمل هذه الراية -راية التوحيد-، فيؤهل أصحابه الكرام رضي الله عنهم لحمل هذه الرسالة الخالدة -رسالة التوحيد- وتبليغها للخلق، لتقوم الأمة بهذه المهمة الجسيمة والعظيمة تأسيًا به صلى الله عليه وسلم وبصحبه الكرام من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

* عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ب، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ،

(1)

البخاري (25)، ومسلم (22)، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني (1/ 766).

ص: 426

قَالَ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَاب، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»

(1)

.

ولقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بترسيخ العقيدة في نفوس الناشئة خاصة، فها هو صلوات الله عليه وسلامه يوصي ابن عباس رضي الله عنهما فيقول له:«يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»

(2)

.

ولا شك أن في ذلك تعليمًا للأمة بأسرها ودعوة للاقتداء به والتأسي بتربيته وتعليمه صلى الله عليه وسلم، والمعني بذلك أولًا هم العلماء والمربون من الدعاة وسائر الهداة المصلحين.

وفي عظيم فضل ومكانة نبذ الشرك وتحقيق التوحيد ما ورد في الحديث

(1)

البخاري (7372)، ومسلم (19/ 29).

(2)

أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2802 - الرسالة)، وأبو يعلى (2556)، والطبراني (12820)(12989)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (419)، والبيهقي في شعب الإيمان (1074)، والضياء في المختارة (3383) و (3386): من طريق قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: فذكره وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .

ص: 427

القدسي قال الله تبارك وتعالى: «يابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة»

(1)

.

وفيما سبق من نصوص التنزيل دلالة واضحة على عظم شأن عقيدة التوحيد والعمل بها والدعوة إليها وتعليمها للناشئة وتربيتهم وتنشئتهم عليها وأنها نهج جميع النبيين المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

ومما لاريب فيه أن البدء بتعليم العقيدة التي هي أساس الملة وأسّ الدين، وغرسها في نفوس الناشئة منذ نعومة أظفارهم من أوجب الواجبات وأهم المهمات المتحتمات كما أسلفنا، وإن تعليم باقي الواجبات يأتي تبعًا لأساس الملة وأصل الدين، كما أنه يجب تقديمها على كل الواجبات كما بدأ لقمان في موعظته وتعليمه ولده.

‌خامسًا- أن تربية الناشئة على عقيدة التوحيد صمام أمان لهم:

فالاهتمام بتعليم الناشئة عقيدة التوحيد الخالص وتربيتهم على هذا المعتقد وتنشئتهم عليه هو من أعظم وأَجَلِّ أسباب حفظهم من الأفكار المنحرفة والعقائد الدخيلة، وأقرب لقبولها لموافقتها لفطرة الله التي فطرهم وجبلهم وصبغهم عليها، وإذا تربى الناشئة على عقيدة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، كان ذلك من أَجَلِّ وأعظم أسباب حفظهم من أمراض الشهوات وعلل ومزالق الشبهات ومن سبل الانحراف

(1)

صحيح الترمذي للألباني (ح 3540)، وفي (السلسلة الصحيحة (127.

ص: 428

والانجراف بكل صوره، وسلموا من الآفات الشركية والبدعية والفكرية والسلوكية والأخلاقية، لأن أهل السنة والجماعة وسطٌ بين الفرق الغالية والجافية، فكما أن أهل الإسلام فيهم الوسطية بين أهل الملل والشرائع، فكذلك أهل السنة والجماعة بين الفرق والطوائف المنسوبة للإسلام كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: عدولًا خيارًا، ولا شك أن الواقع يشهد لذلك.

‌سادسًا - بيان أهمية واجب المربين والمعلمين والقائمين على التعليم تجاه هذا الجانب العظيم:

فعلى المربين والدعاة والمصلحين والقائمين على مناهج التعليم في بلاد الإسلام فهم هذا الجانب العظيم فهمًا صحيحًا، وأن يولوه ما يستحق من العناية وما يجب عليهم تجاه الناشئة وتعليمهم عقيدة التوحيد الخالص، ووضع مناهج عقدية متلائمة مع مراحلهم العمرية تدريجيًّا منذ مراحل عمرهم الأولى، وذلك في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي متوافرة وبكثرة ولله الحمد، وذلك قبل أن تصل إلى فطرتهم يد الردى فتغير وتبدل ما جبلوا وما فطروا عليه من معالم التوحيد الخالص.

- يقول ابن القيم رحمه الله: «فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا»

(1)

.

(1)

تحفة المودود (ص 231).

ص: 429

أول وصايا لقمان لابنه:

بعد هذا البيان يتبين لنا أن لقمان عليه السلام لما ابتدر ابنه بتصحيح المعتقد وتأسيس الملة بهدم الشرك وبيان معالم التوحيد، لم يأت ببدع من القول؛ بل وافق بحكمته التي آتاه الله نهج النبيين والمرسلين عليه الصلاة والسلام وسائر عباد الله المصلحين.

فكان في طليعة موعظته ووصاياه لابنه بأن حذره من الشرك ونهاه عنه، فالنهي عن الشرك متضمن لتحقيق التوحيد، كما أسلفنا وبينا، قال ربنا تبارك وتعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].

والتوحيد هو أول واجب على المكلفين، وبالتالي يكون أول واجب على المربين والدعاة والمصلحين، هو غرس عقيدة التوحيد في نفوس الناشئة وهو أول ما ابتدأ به لقمان مع ولده.

‌سابعًا: بيان لأول مواعظ لقمان في الجانب العقدي:

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13].

‌وفي ضوء بيان وصية لقمان السابقة نعرج على جوانب مهمة إيضاحًا لتلك الوصية العظيمة:

‌أولاً- بيان معنى الشرك لغة وشرعًا:

‌أ- معنى الشرك لغة:

قال ابن فارس: «الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما يدلّ على مقارنة

ص: 430

وخلافِ انفرادٍ، والآخر يدلّ على امتداد واستقامة.

فالأول: الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، يقال: شاركت فلانًا في الشيء إذا صرت شريكَه، وأشركت فلانًا إذا جعلته شريكًا لك»

(1)

.

‌ب- معنى الشرك شرعًا:

قال ابن سعدي: «حقيقة الشرك أن يُعْبَدَ المخلوقُ كما يُعْبَدُ اللهُ، أو يعظَّم كما يعظَّم الله، أو يُصْرَفَ له نوع من خصائص الربوبية والإلهية»

(2)

.

‌ثانيًا- إيضاح مفهوم الشرك الأكبر وبيان حقيقته في كلام علماء الأمة:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئًا من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به»

(3)

. اهـ.

قال ابن القيم رحمه الله: « .. فالشرك تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء، والتوكل عليه وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق .. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة من جميع الوجوه كلها

(1)

مقاييس اللغة (3/ 265).

(2)

تيسير الكريم الرحمن (2/ 499).

(3)

الاستقامة (1/ 344).

ص: 431

له وحده، التعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب .. فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره تعالى فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره»

(1)

. اهـ.

فمن سوَّى بين الخالق والمخلوق فيما هو من خصائص الرب فهو مشرك.

قال ابن سعدي رحمه الله: «فإنَّ حدَّ الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده (أن يصرِفَ العبد نوعًا أو فردًا من أفراد العبادة لغير الله) فكلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عمل ثبت أنَّه مأمورٌ به من الشَّارع فصرفُه لله وحده توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصرفُه لغيره شركٌ وكفرٌ. فعليك بهذا الضَّابط للشِّرك الأكبر الَّذي لا يشذُّ عنه شيءٌ»

(2)

. اهـ.

قال الإمام الصنعاني رحمه الله: «فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده واللجوء إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات، ومن فعل ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غيره، فهذا شرك في العبادة»

(3)

. اهـ.

وقال العلامة الإمام عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «فمن صرف لغير الله شيئًا من أنواع العبادة، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهًا، وأشركه مع الله في

(1)

الجواب الكافي (ص 152 - 153).

(2)

القول السَّديد في مقاصد التَّوحيد (ص 54).

(3)

تطهير الاعتقاد (ص 8).

ص: 432

خالص حقه، وإن فرَّ من تسمية فعله ذلك تألهًا وعبادة وشركًا، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها.

فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنًا مسبة للرب، وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته توسلًا، وتشفعًا، وتعظيمًا للصالحين، وتوقيرًا لهم ونحو ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى»

(1)

. اهـ.

‌ثالثًا: بيان لأول وصايا لقمان في ضوء كلام أهل التفسير:

يقول ابن عاشور: «ابْتَدَأَ لُقْمَانُ مَوْعِظَةَ ابْنِهِ بِطَلَبِ إِقْلَاعِهِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ لِأَنَّ النَّفْسَ الْمُعَرَّضَةَ لِلتَّزْكِيَةِ وَالْكَمَالِ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ تَخْلِيَتُهَا عَنْ مَبَادِئِ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّ إِصْلَاحَ الِاعْتِقَادِ أَصْلٌ لِإِصْلَاحِ الْعَمَلِ»

(2)

. اهـ.

وكأن ابن عاشور يريد أن يؤكد قاعدة التخلية قبل التحلية والتصفية قبل التربية وقد مرَّ بنا ذلك منذ قليل.

ويقول ابن عاشور: «وفَائِدَةُ ذِكْرِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا كَانَ لِتَلَبُّسِ ابْنِهِ بِالْإِشْرَاكِ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ مُشْرِكًا فَلَمْ يَزَلْ لُقْمَانُ يَعِظُهُ حَتَّى آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْوَعْظَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ، قَالَ تَعَالَى:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} [النساء: 63] وَيُعْرَفُ الْمَزْجُورُ عَنْهُ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْمَوْعِظَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ

(1)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 298 - 299).

(2)

التحرير والتنوير (22/ 155).

ص: 433

الزَّجْرَ هُنَا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ يَدِينُ بِدِينِ قَوْمِهِ مِنَ السُّودَانِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى لُقْمَانَ بِالْحِكْمَةِ وَالتَّوْحِيدِ أَبَى ابْنُهُ مُتَابَعَتَهُ فَأَخَذَ يَعِظُهُ حَتَّى دَانَ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَصْلُ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ عِنْدَ مُقَارَبَةِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَنْهِيِّ»

(1)

. اهـ.

قال ابن سعدي: «{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان: 13]: أَوْ قَالَ لَهُ قَوْلًا بِهِ يَعِظُهُ وَالْوَعْظُ: الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَأَمَرَهُ بِالْإِخْلَاصِ، وَنَهَاهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَبَيَّنَ لَهُ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] وَوَجْهُ كَوْنِهِ عَظِيمًا، أَنَّهُ لَا أَفْظَعَ وَأَبْشَعَ مِمَّنْ سَوَّى الْمَخْلُوقَ مِنْ تُرَابٍ، بِمَالِكِ الرِّقَابِ، وَسَوَّى الَّذِي لَا يَمْلِكُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا، بِمَالكِ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَسَوَّى النَّاقِصَ الْفَقِيرَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بِالرَّبِّ الْكَامِلِ الْغَنِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَسَوَّى مَنْ لَمْ يَنْعَمْ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ النِّعَمِ بِالَّذِي مَا بِالْخَلْقِ مِنْ نِعْمَةٍ فِي دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ وَأخْرَاهُمْ، وَقُلُوبِهِمْ، وَأَبْدَانِهِمْ، إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا هُوَ، فَهَلْ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الظُّلْمِ شَيْءٌ؟! وَهَلْ أَعْظَمُ ظُلْمًا مِمَّنْ خَلَقَهُ اللَّهُ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَذَهَبَ بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، فَجَعَلَهَا فِي أَخَسِّ الْمَرَاتِبِ جَعَلَهَا عَابِدَةً لِمَنْ لَا يُسَوِّي شَيْئًا، فَظَلَمَ نَفْسَهُ ظُلْمًا كَبِيرًا»

(2)

. اهـ.

يقول عبد الكريم الخطيب

(3)

: «وقد حذر لقمان ابنه من الشرك، لأنه ليس

(1)

التحرير والتنوير (22/ 155).

(2)

ابن سعدي (6/ 1351).

(3)

عبد الكريم محمود يونس الخطيب. باحث معروف، ومفسر، ولد في السابع عشر من مارس (مايو)(1328 هـ)(1910 م)، في قرية «الصوامعة غرب» التابعة لمركز طهطا = = بمديرية جرجا، محافظة سوهاج من صعيد مصر.

تعلّم في كتّاب القرية، فحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالمدرسة الأولية بالقرية، ثم بمدرسة المعلمين بسوهاج في عام (1925 م)، وتخرّج فيها سنة (1928 م)، ليعمل مدرسًا بالمدارس الأولية في منطقته. توفي في صفر سنة (1406 هـ، عام 1985 م).

أهم المراجع:

1 -

إتمام الأعلام، د/ نزار أباظة ومحمد رياض المالح، دار صادر -ط 2 - بيروت، (2003 م).

2 -

تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم (م 1/ 317).

3 -

المستدرك على تتمة الأعلام للزركلي (197: 3).

ص: 434

هناك ذنب أعظم وأقبح منه، وليس هناك بعده ظلم أشد منه، فالشرك أعظم خطر يتهدد الإنسان ويجعله في مهب الريح عند غضب الله تعالى، والشرك ظلم عظيم، أمّا أنه ظلم فلأن فيه وضع الشيء في غير موضعه، وأما أنه «عظيم» فلما فيه من التسوية بين المنعم الحقيقي الله سبحانه وتعالى، وبين من لا نعمة له ولا عبادة وهي الأصنام والأوثان»

(1)

. اهـ.

ويتابع ابن عاشور فيقول: «وَجُمْلَةُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَتَهْوِيلٌ لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِحُقُوقِ الْخَالِقِ

(2)

، وَظُلْمُ الْمَرْءِ

(1)

التفسير القرآني (15/ 565) بتصرف.

(2)

يقول الباحث:

الصواب: أن يُقال ظلم فيما بين العبد وبين الله تعالى: لأن الظلم إنما يقع من القوي على الضعيف، وهذا النقص والضعف محال في حق من له الكمال المطلق سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى في حق بني إسرائيل:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} [البقرة: 57].

=

= يقول الألوسي: «ظلم الإنسان للّه تعالى لا يمكن وقوعه البتة» انتهى. روح المعاني (1/ 265)

ويقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة: 57] قال: «نحن أعز من أن نُظلم» انتهى. تفسير ابن أبي حاتم (1/ 116)

ويقول ابن القيم: «فَمَا ظَلَمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَلَكِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَا ظَلَمَهُ رَبُّهُ، وَلَكِنْ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ» انتهى. الجواب الكافي (ص 71).

وفي الحديث: «الدَّوَاوِينُ ثَلَاثَةٌ: فَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا.

فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، فَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ عز وجل، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا قَطُّ، فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.

وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَظَالِمُ الْعِبَادِ بَيْنَهُمُ، الْقِصَاصُ لَا مَحَالَةَ». رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/ 619)، وفي سنده ضعف، وله شاهد من حديث أنس عند أبي داود الطيالسي (3/ 579)، وقد حسنه به الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1927).

ص: 435

لِنَفْسِهِ إِذْ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي حَضِيضِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَخَسِّ الْجَمَادَاتِ، وَظُلْمٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ إِذْ يَبْعَثُ عَلَى اضْطِهَادِهِمْ وَأَذَاهُمْ، وَظُلْمٌ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِقَلْبِهَا وَإِفْسَادِ تَعَلُّقِهَا.

وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ لُقْمَانَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ

ص: 436

لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»

(1)

. اهـ.

‌قال الشوكاني:

» وَمَعْنَى وَهُوَ يَعِظُهُ يُخَاطِبُهُ بِالْمَوَاعِظِ الَّتِي تُرَغِّبُهُ فِي التَّوْحِيدِ وَتَصُدُّهُ عَنِ الشِّرْكِ {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِسْكَانِهَا. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِهَا، وَنَهْيُهُ عَنِ الشِّرْكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَجُمْلَةُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَبَدَأَ فِي وَعْظِهِ بِنَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ غَيْرِهِ»

(2)

. اهـ.

قال أبو حيان: «ولأن لقمان كان رجلًا حكيمًا ابتدأ بابنه، وخصه بذلك أولًا لأنه أقرب الناس إليه، وأحبهم إلى قلبه، وآثرهم عنده، قيل: إن ابنه وامرأته كانا كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما»

(3)

. اهـ

قال الألوسي: «{لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] قِيلَ: كَانَ ابْنُهُ كَافِرًا وَلِذَا نَهَاهُ عَنِ الشِّرْكِ، فَلَمْ يَزَلْ يَعِظهُ حَتَّى أَسْلَمَ، وَكَذَا قِيلَ فِي امْرَأَتِهِ وَقِيلَ: كَانَ مُسْلِمًا، وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ تَحْذِيرٌ لَهُ عَنْ صُدُورِهِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] وَالظَّاهِر أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، وَيَقْتَضِيهِ كَلَامُ مسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَالْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَوِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، وَقِيلَ: هُوَ خَبرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى شَأْنُهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ كَلَامِ لُقْمَانَ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي

(1)

التحرير والتنوير (22/ 155).

(2)

فتح القدير (1/ 1142).

(3)

البحر المحيط (7/ 183).

ص: 437

تَأْكِيدِ الْمَعْنَى، وَكَوْنُ الشِّرْكِ ظُلْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَكَوْنُهُ عَظِيمًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَنْ لَا نِعْمَةَ إِلَّا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَمَنْ لَا نِعْمَةَ لَهُ»

(1)

. اهـ.

قال الماوردي: «{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] يَعْنِي: عِنْدَ اللَّهِ، وَسَمَّاهُ ظُلْمًا لِأَنَّهُ قَدْ ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِابْنِهِ وَكَانَ مُشْرِكًا»

(2)

. اهـ.

قال البيضاوي: «{لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] قِيلَ: كَانَ كَافِرًا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَسْلَمَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]؛ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ مَنْ لَا نِعْمَةَ إِلَّا مِنْهُ وَمَنْ لَا نِعْمَةَ مِنْهُ»

(3)

. اهـ.

قال ابن عطية الأندلسي: «وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُنْقَطِعًا مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، مُتَّصِلًا بِهِ فِي تَأْكِيدِ الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أَشْفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: «أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]، فَسَكَنَ إِشْفَاقُهُمْ»

(4)

. اهـ.

يقول الإمام ابن القيم: «فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله؛ حيث جعل له من

(1)

تفسير الألوسي (21/ 85).

(2)

تفسير الماوردي (4/ 334).

(3)

تفسير البيضاوي: (4/ 214).

(4)

ابن عطية (7/ 46).

ص: 438

خلقه ندًا، وذلك غاية الظلم منه، وإن كان المشرك في الواقع لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه»

(1)

. اهـ.

- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك»

(2)

.

والقول بأن ابن لقمان كان كافرًا قال به أكثر أهل التفسير ونقل ابن عاشور أنه قول الجمهور -يعني: جمهور المفسرين- ثم علل ترجيحه بقوله: «وَأَصْلُ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ عِنْدَ مُقَارَبَةِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَنْهِيّ» . اهـ.

وكذلك قيل: في امرأة لقمان بأنها كانت كافرة، فما زال بهما لقمان حتى أسلما، وهذا القول: -أي: في امرأة لقمان- قال به جمع من أهل التفسير منهم على سبيل المثال لا الحصر، القرطبي والزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي والألوسي وغيرهم، وهذا القول ليس فيه أي إشارة في موعظة لقمان لا من قريب ولا من بعيد، مما يدل على غرابته أيضًا.

يقول القرطبي: «وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما»

(3)

.

ويقول الألوسي: «قيل: كان ابنه كافرًا ولذا نهاه عن الشرك، فلم يزل يعظه

(1)

ابن قيم الجوزية، الجواب الكافي، مكتبة الرياض الحديثة (1/ 83)(ط 1401 هـ).

(2)

البخاري (6001).

(3)

القرطبي (14/ 59).

ص: 439

حتى أسلم، وكذا قيل في امرأته»

(1)

.

ومن القواعد المقررة عند أهل السنة أنه: «من دخل الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين» نص عليها غير واحد من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: «وليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطا وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين: لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة»

(2)

.

والاستدلال بكلام شيخ الإسلام على مانحن بصدده لا يتطابق من كل وجه، ولكن من جهة قاعدة:«ومن ثبت إسلامه بيقين: لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك» .

والحقيقة أنه يصعب الجزم بذلك، أي: بـ «القول بأن ابن لقمان كان كافرًا» ، لأن دلالة القول به ظنية مأخوذة من فحوى موعظة لقمان لولده فحسب، وليس ثَمَّ دلالة قطعية تثبت دعوى كفر ابن لقمان حين وعظه تلك الموعظة، والكفر شأنه عظيم، وخطره وخَطبهُ أليم، وسوء عاقبته وخيمة، فلا يثبت إلا بدلالة قطعية الثبوت.

فالتوقف في ذلك أسلم، والقول بأنه لم يكن كافرًا قال به غير واحد من أئمة التفسير وهو أسلم وأحوط وأقرب للصواب، والله أعلم.

وإنما كان تحذير لقمان ولده من الشرك من باب الحرص على بقاء فطرته على التوحيد الخالص الذي جُبِلت وفُطِرت وخُلِقت عليه الخليقةُ، وليس من

(1)

الألوسي (21/ 85).

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية (12/ 466).

ص: 440

باب أنه متلبس بالشرك كما قال سبحانه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].

وحتى لا تلوث فطرته النقية السوية بلوثة الشرك ودرن الكفر، فالوصية من باب درهم وقاية خير من قنطار علاج، لا من باب كونه كان كافرًا، ولقمان قرن تحذير ولده من الشرك بعلته المقترنة به وحكمته اللازمة له كما بَيَّنَ ربنا ذلك بقوله سبحانه:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]، وكذلك فعل في كل وصاياه الواردة في السورة الكريمة، وفي هذا دلالة بينة على حكمة لقمان في وعظه وتعليمه وتربيته لولده.

ولا شك أن ذلك أدعى إلى قبول الولد نصح أبيه ووعظه وتعليمه والاستجابة الذاتية له.

ولا يخفى على كل مُرَبٍّ حكيم، أن التحذير من الشر قبل وقوعه من أنفع وأنجع الأساليب التربوية، إذ التربية بالتحذير من الشرك والأمر باجتنابه والبعد عنه قبل وقوعه أيسر من النهي عنه بعد التلبس به والوقوع والولوج فيه، إذ إنه قد لا يسلم من تلبس بالشرك أن تقتلع جذوره بالكلية، فقد تبقى بعض آثاره ورواسبه عالقة في النفس، وقد يشق عودتها للفطرة الأولى بيضاء نقية كما خلقها الله أول مرة، ولا شك أن الواقع يشهد لذلك.

وما حديث ذات أنواط عنا ببعيد فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى حُنَيْنٍ

(1)

-وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ- ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ

(1)

غزوة حنين، وتسمى: غزوة أوطاس، موضعان بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانها، زاد المعاد: ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي، = = مؤسسة الرسالة:(1418 هـ/ 1998 م)، عدد الأجزاء: خمسة أجزاء.

وحنين: هو واد إلى جانب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا من جهة عرفات، هذا ما اعتمده الحافظ في الفتح وغيره، رشيد رضا/ تفسير المنار (10/ 217).

يقول الباحث: وحنين اليوم لا تعرف بهذا الاسم بل تعرف بالشرائع العليا، وهي منطقة قبيل مكة بقليل وأصبحت عامرة بالسكان والمنشآت.

ص: 441

يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:«اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»

(1)

.

قال الشوكاني رحمه الله ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهةٍ غير الله تعالى

(2)

.

والذي يبدو جليًّا لنا أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إنَّما كان طلبهم بأن يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ذاتَ أنواط كما أن للمشركين ذاتَ أنواط، وهذا يشبه سؤالَ بني إسرائيل لموسى عليه السلام بقولهم:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، لا

(1)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم:(2180)، وقال:«حسن صحيح» ، وأحمد في مسنده (21390)، وصححه الألباني في جلباب المرأة المسلمة (202).

وصححه في رياض الجنة برقم (76).

(2)

الدر النضيد للشوكاني (9).

ص: 442

أنه هو الشرك بذاته؛ ذلك لأنَّ التشابه في وجهٍ أو فردٍ لا يلزم التشابه بينهما من كلِّ وجهٍ وفردٍ، وقد عذرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر. ا هـ.

والمنتقل من الباطل الذي اعتاده، لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لأن الصحابة الذين طلبوا ذلك لم يكن مضى على إسلامهم إلا أيام معدودة لأنهم أسلموا يوم فتح مكة ثم خرج بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حنين فوقعت تلك الوقعة وهم في طريقهم إلى حنين

(1)

.

‌مخاطبة لقمان ولده بالحكمة (يا بني):

- قال ابن كثير: «وهو يوصي ولده الذي هو أَشْفَقُ الناسِ عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف; ولهذا أوصاه أولًا بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا، ثم قال محذرًا له: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]»

(2)

.

قال الألوسي: «{يَابَنِي} تصغير إشفاق ومحبة لا تصغير تحقير»

(3)

.

قال البقاعي: «{يَابَنِي} خَاطَبَهُ بأحب ما يُخَاطَب به، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح»

(4)

.

‌في معنى مخاطبة لقمان ولده بلفظ البنوة [يا بني]:

لقد افتتح لقمان وصاياه التربوية والإيمانية بكلمة عظيمة تَرِقُّ الأفئدةُ

(1)

ينظر: فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد (147).

(2)

ابن كثير (6336).

(3)

الألوسي (21/ 85).

(4)

البقاعي (6/ 162).

ص: 443

بسماعها، وتَرتاح النُّفوس السوية بندائها، وهي كلمة استِعطافية تتلطِّف بها الأجواء الحوارية بين الأب وفلذة كبده وثمرة فؤاده، فتَلتقِطها أُذُنه صاغيةً لها وتَشق طريقها مسرعة إلى سويداء قَلبِه، فيُحسُّها في خلجات نفسه دفئًا وحنانًا وحبًّا، وراحة وسعادةً وطمأنينةً، فتنعقد بها أواصِر من الأُلفة وروابط من المحبة، وتتصل بها حِبال من المودِّة بين الابن وأبيه، إنها كلمة (يَا بُنَيّ)، والتي تفتح للبر والسمع والانقياد والطاعة والقبول لما يلقى على مسامعه أمرًا حتمي القبول، لازم الانصياع، ومِن التذمر والتسخط والتبرم أمرًا مستبعد الوقوع.

وهذا الأسلوب الأبوي غاية في التلطف والتودد، مع ما فيه من بيان لما يحمله قلب الأب من معاني الحنان والمحبة والرحمة والمودة والشفقة لأحب الخلق إلى قلبه، وإنما خاطبه بألطف العبارات، بالاستِعطاف والرحمة والرأفة، وبأرق الألفاظ لتصبح الموعظة والنصيحة والوصية أدعى للقبول، وأجدى للنفع وأوقع في النفس.

وفي ذلك جذب لفؤاد ولده وفلذة كبده وترغيب وحث وتحفيز له على الاستجابة، واستمالة لفتح مسامع قلبه لتلقف ما يلقيه والده من مواعظ ونصائح بنفس راضية مطمئنة، وهي نصيحة صادقة خالصة من حظوظ النفس خالية من كل تهمة مبرأة من كل عيب ومن كل شائبة، لأنها صادرة من أب شفيق رحيم ودود حريص على صلاح ولده، فهي نصيحة خالصة صافية لا غش فيها إذ يعود نفعها أولًا على نور عينيه وفلذة كبده وثمرة فؤاده، ولا شك في تأثير تلك الموعظة في نفس الابن، وأنها وقعت بأسلوب مؤثر وفعال، وأثمرت في نفس ابنه دافعًا ذاتيًا يحمل الابن على الإذعان والانقياد لموعظة أبيه والامتثال لأمره،

ص: 444

ولا شك أن ذلك كله راجع بعد توفيق الله لما حباه الله لهذا المربي الحكيم من الحكمة التي زكاه به ومدحه بها في كتابه الكريم، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12].

يقول ابن رجب الحنبلي: «المواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثير في حال وجوده؛ لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته وضعفه - فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر»

(1)

.

قال البقاعي: «وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ تَوْفِيَةِ حَقِّ الْحَقِّ تَصْحِيحَ الِاعْتِقَادِ وَإِصْلَاحَ الْعَمَلِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ أَهَمَّ، قَدَّمَهُ فَقَالَ:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ} [لقمان: 13] أَيْ: [لَا] تُوقِعِ الشِّرْكَ لَا جَلْيًّا وَلَا خَفِيًّا، زَادَ ذَلِكَ بِإِبْرَازِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ الْمُوجِبِ لِاسْتِحْضَارِ جَمِيعِ صفاتِ الْجَلَالِ، تَحْقِيقًا لِمَزِيدِ الْإِشْفَاقِ. فَقَال: بِاللَّهِ، أَيِ: الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لَا كُفُؤَ لَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ:{إِنَّ الشِّرْكَ} [لقمان: 13] أَيْ: بِنَوْعَيْهِ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، أَيْ: فَهُوَ ضِدُّ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَظُلْمهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَاتٍ عَدِيدَةٍ جِدًّا، أَظْهَرُهَا أَنَّهُ تَسْوِيَةُ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ نِعْمَةً مِنْهُ أَصْلًا بِالْمَالِكِ الَّذِي لَهُ وُجُوبُ الْوُجُودِ، فَلَا خَيْرَ وَلَا نِعْمَةَ إِلَّا مِنْهُ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِقُرَيْشٍ وَكُلِّ سَامِعٍ عَلَى أَنَّ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَا يُعْدَلُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا مِنْ أَبٍ حَكِيمٍ لِابْنٍ مَحْنُوٍّ عَلَيْهِ مَحْبُوبٍ، وَأَنَّ آبَاءَهُمْ لَوْ كَانُوا حُكَمَاءَ مَا فَعَلُوا إِلَّا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا عَلَيْهِ مَدَارُ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ،

(1)

لطائف المعارف (17).

ص: 445

الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَهوَ الْأَمْنُ وَالْهِدَايَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ تِلْكَ الْآيَةُ كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]»

(1)

.

وقوله سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الظاهر أنه من كلام لقمان، لأنه حكيم أتى بالموعظة وعللها، شأنها كشأن مواعظه كلها، وأن سياق موعظة لقمان سياق متصل لم ينقطع كما بين ابن عاشور وغيره، والله أعلم.

‌رابعًا- بيان أنواع الشرك:

والشرك ثلاثة أنواع:

‌الأول: الشرك الأكبر

.

وهو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائصه سبحانه وتعالى. وهو ثلاثة أنواع، يتعلق كل نوع بأنواع التوحيد الثلاثة:

1 -

الشرك في الربوبية.

2 -

الشرك في توحيد الأسماء والصفات.

3 -

الشرك في توحيد الألوهية.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: «فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون

(1)

نظم الدرر للبقاعي (6/ 162) بتصرف يسير.

ص: 446

أكبر وأصغر مطلقًا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه»

(1)

.

‌الثاني: الشرك الأصغر

.

تعريفه:

- قال ابن سعدي: «هو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسّل بها إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة، كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك»

(2)

.

- وقال الشيخ عبد العزيز السلمان: «هو كلّ وسيلة وذريعة يتطرّق بها إلى الشرك الأكبر»

(3)

.

‌الثالث: الشرك الخفي

.

تعريفه:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال عندي؟» قال: قلنا: بلى، قال:«الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل»

(4)

.

وإن المعني في بحثنا هو الشرك الأكبر لخطره وما يترتب عليه من أحكام وأمور عظام، وهو المقصود من موعظة لقمان لولده؛ لأنه مخرج من الملة، وإنْ

(1)

تيسير العزيز الحميد (ص 43).

(2)

القول السديد (15).

(3)

الكواشف الجلية (321).

(4)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 30)، وابن ماجه في الزهد، باب: الرياء بالسمعة (4204)، والبيهقي في الشعب (5/ 334)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/ 329)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (30).

ص: 447

كان النهي عامًّا يشمل الشرك بنوعيه الأصغر والأكبر.

وإذا أردنا أن نتأمل حقيقة الخطب الجلل المترتب على الشرك الأكبر، فلنتدبر دعاء خليل الرحمن عليه السلام وتضرعه وإلحاحه على ربه أن يباعده ويجافيه عن الشرك هو وبنيه، ولقد بوب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد ما يدل على ذلك فقال في الباب الرابع: باب الخوف من الشرك، وذكر هذه الآية، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)} [إبراهيم: 35 - 36].

وإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن ومن هو في مكانته ودرجته ورتبته، إنه كان أمة، وكان قدوة لهذه الأمة، اختصه الله سبحانه من دون الأنبياء أنه قدوة، قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)} [النحل: 120].

وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].

‌خامسًا: بيان عواقب الشرك الأكبر وما يترتب عليه من أحكام:

لما كان الشرك الأكبر أظلم الظلم ويترتب على المتلبس به أحكام شرعية عظيمة الخطب، وذلك حفظًا لضرورة الدين، وصيانة لجناب التوحيد، وتحذيرًا للعباد من عواقبه الوخيمة، ولا سيما الناشئة، وما يترتب عليه من شر محض في الدنيا، وخلود أبدي سرمدي في النار يوم التناد، كان بيان أهم تلك الأحكام واجب البيان، ومن أهمها وأبينها وأَجَلِّهَا ما يلي:

ص: 448

‌1 - الشرك محبط لجميع الأعمال بالكلية

قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر: 65].

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام: 88].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].

وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17].

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} [الكهف: 103 - 105].

والآيات في هذا الشأن أكثر من أن تحصى ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

‌2 - والكافر متى لَقِيَ ربه مشركًا كافرًا فليس له مطمع ولا أمل في أن تناله المغفرة أبدًا، وهذا مما يدل على خطورة الشرك وخطورة الوقوع فيه والتلبس به:

ص: 449

فمن مات على الشرك فلا يدخل تحت الوعد بالمغفرة المترتب على مشيئة أرحم الراحمين والتي يدخل تحتها أصحاب سائر الكبائر والموبقات والذين ماتوا دون توبة، كما قال جل في علاه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].

وكما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

وبمفهوم المخالفة إن لم ينتهوا عن الكفر فلن يغفر لهم ما قد سلف.

وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169].

‌3 - أن صاحبه محرم عليه الجنة وهو مخلد في النار:

فالشرك الأكبر يوجب لصاحبه الخلود في النار، خلودًا أبديًّا أي: على وجه التأبيد، ويحرم عليه الجنة ابتداءً وانتهاءً والعياذ بالله، ودلائل التنزيل في الكتاب العزيز والسنة المطهرة على ذلك كثيرة معلومة ومتوافرة، بل هي من الأحكام القطعية الدلالة المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، ومن ذلك:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6].

وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

ص: 450

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»

(1)

.

‌4 - والشرك يبيح دم المشرك وماله:

وهذا حكم من أحكام الشريعة الثابتة بدلالة الكتاب والسنة مع مراعاة ضوابطه ولوازمه الشرعية، في ضوء أحكام الشريعة الغراء.

يُقال ذلك حتى لا يغتر أحد من السفهاء حدثاء الأسنان سفهاء العقول والأحلام ويتجرأ على إراقة الدماء وسفكها واستحلالها بنفسه بسوء فهمٍ للنصوص أو محاولة لَيِّ عنقها تبعًا للهوى واتباعًا للشيطان وحزبه، فإن مما عُلِمَ من دين الله بالضرورة أن إقامة الحدود أمر منوط بالسلطان.

قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5].

وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»

(2)

.

(1)

صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار (1/ 94) (برقم: 93).

(2)

متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، (1/ 14)(برقم 25)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، (1/ 53)(برقم 20).

ص: 451

ولقد اتفق أهل العلم على أن إقامة الحد أمر مختص بالسلطان أو نائبه.

- وما عليه أهل السنة: أن إقامة الحدود حق للإمام لا غير، ولا يجوز لأحد كائنًا من كان أن ينازعه فيه.

قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى: «وقسْمة الفيء، وإقامة الحدود؛ إلى الأئمة ماضٍ، ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم»

(1)

. اهـ.

يقول القرطبي: «لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر الذين فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعًا أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود»

(2)

.

ويقول ابن رشد: «وأما من يقيم هذا الحد -أي: جلد شارب الخمر- فاتفقوا على أن الإمام يقيمه وكذلك الأمر في سائر الحدود»

(3)

.

ومن حجج هؤلاء عدم وجود محاكم شرعية تقيم الحدود.

وفي ذلك يقول سماحة الإمام شيخنا عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى- جوابًا عن سؤال فيمن يُجافي المستأمنين، فذكر أنهم يحالون للمحكمة الشرعية، فسئل عما لو لم تكن هناك محاكم شرعية؟

(1)

من «أصول السنة» لأحمد بن حنبل رواية عبدوس بن مالك العطار (ص 66)(برقم: 30) وينظره: عند اللالكائي في (2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 160).

(2)

القرطبي (2/ 245، 264).

(3)

بداية المجتهد (2/ 233).

ص: 452

فقال - رحمه الله تعالى: «إذا لم توجد محاكم شرعية؛ فالنصيحة فقط، النصيحة لولاة الأمور، وتوجيههم للخير، والتعاون معهم، حتى يُحَكِّموا شرع الله، أما أن الآمر والناهي يمد يده، أو يقتل أو يضرب؛ فلا يجوز، لكن يتعاون مع ولاة الأمور بالتي هي أحسن، حتى يحكموا شرع الله في عباد الله، وإلا فواجبه النصح، وواجبه التوجيه إلى الخير، وواجبه إنكار المنكر بالتي هي أحسن، هذا هو واجبه، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولأن إنكاره باليد بالقتل أو الضرب؛ يترتب عليه شر أكثر، وفساد أعظم بلا شك ولا ريب، لكل من سَبَرَ هذه الأمور وعرفها»

(1)

. اهـ.

والواقع الأليم الذي تعيشه الأمة الآن خير شاهد على ذلك، فإن فئة من الشباب، حدثاء أسنانُهم سفهاء عقُولُهم، نصبوا أنفسهم ولاة أمر على العباد، ومنحوا أنفسهم صلاحية ومهام السلطان أو صلاحية الإمامة العظمى في المسلمين، فكل جماعة لها قوة وشكيمة في بقعة من الأرض تعطي لنفسها تلك الصلاحيات، وتقيم الحدود على أن لها الولاية الشرعية والإمامة العظمى، وأنها مخولة بإقامة الحدود والتعزيرات، فحصل من جراء ذلك مفاسد عظيمة مشهودة للعيان.

‌5 - والمشرك تحرم مناكحته:

يقول تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] الآية.

ويقول تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].

ص: 453

قال ابن كثير: «تحريم من الله عز وجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات، والاستمرار معهن»

(1)

. اهـ.

‌6 - والمشرك يحرم أكل ذبيحته:

يقول تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الآية. ويستثنى من ذلك أهل الكتاب، فحرائر نسائهم إن كن عفيفات طاهرات غير محاربات، وذبائحهم، حلال لأهل ملتنا، يقول سبحانه:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] الآية.

‌7 - من مات مشركًا فإنه لا يرث ولا يورث بل إن ماله يفيء إلى بيت مال المسلمين:

لحديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»

(2)

.

‌8 - من مات مشركًا فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يستغفر له ولا يترحم عليه، ولا يقبر في مقابر المسلمين:

قال سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة: 113 - 114].

وقال سبحانه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّ

(1)

ابن كثير (8/ 94).

(2)

متفق عليه: رواه البخاري في الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم (برقم: 6764)، ومسلم في الفرائض، باب أول الكتاب (برقم: 1614).

ص: 454

هُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84].

‌9 - المشرك يُحرم نعمتي الأمن والاهتداء:

ويقرر هذه الحقيقة قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82].

والظلم هنا هو الشرك كما مرّ معنا في آية لقمان، وبمفهوم المخالفة فالذين خالطوا إيمانهم بشرك ليس لهم الأمن وليسوا بمهتدين.

وقوله سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [آل عمران: 151].

قال ابن القيم: «والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له وأشدها مقتًا لديه، ورتّب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حَرَمِه، وحرّم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداءً له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم وأن يتخذوهم عبيدًا، وهذا لأن الشرك هضم لحقّ الربوبية، وتنقيص لعظمة الألوهية»

(1)

.

(1)

إغاثة اللهفان (1/ 99).

ص: 455

‌10 - والمشرك المتلبّس بالشرك ظن بربّه ظن السوء:

قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6].

- قال ابن القيم: «فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنّوا به ظنّ السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظنّ لوحّدوه حقّ توحيده»

(1)

.

وقال أيضًا: «فالشرك ملزوم لتنقّص الربّ سبحانه، والتنقّص لازم له ضرورة، شاء المشرِك أم أبى، ولهذا اقتضى حمدُه سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلّدَ صاحبَه في العذاب الأليم ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركًا إلا وهو متنقّص لله سبحانه»

(2)

.

‌11 - والشرك يفسد العقول، فالمشركون من أفسد الناس عقولاً:

وقد قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10].

تأَمّل في نبات الأَرض وانظر

إِلى آثار ما صَنع المليكُ

عيونٌ من لُجَينٍ فاتراتٌ

على أَحداقها ذهبٌ سَبِيك

على قُضُب الزَّبَرْجَدِ شاهدات

بأَنَّ الله ليس له شريكُ»

(3)

. اهـ.

(1)

إغاثة اللهفان (1/ 99).

(2)

إغاثة اللهفان (1/ 101).

(3)

الأبيات لأبي نواس، وينظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/ 943).

ص: 456

‌الوصية الثانية من وصايا لقمان لابنه في الجانب العقدي -مراقبة الله تعالى:

قال تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

ويندرج تحتها مباحث؛ منها:

‌أولًا: مفهوم مراقبة الله تعالى لغة وشرعًا:

‌أ- مفهوم المراقبة لغة:

مصدر مأخوذ من راقب يراقب مراقبة، وتدل على الانتصاب لمراعاة الشيء. والرقيب: الحافظ. وراقب الله في أمره: أي: خافه

(1)

.

‌ب- مفهوم المراقبة شرعًا:

قال ابن القيم: «المراقبة دوام علم العبد، وتيقّنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه»

(2)

.

وقال القاسمي: «المراقبة هي ملاحظة الرقيب، وانصراف الهم إليه»

(3)

.

- وقال المحاسبي: «المراقبة دوام علم القلب بعلم الله عز وجل في السكون والحركة علمًا لازمًا مقترنًا بصفاء اليقين»

(4)

.

وسئل الحارث المحاسِبي أيضًا عن المراقبة فقال: «علم القلب بقرب الله

(1)

ينظر: مقاييس اللغة (مادة: رقب 2/ 47)، ولسان العرب (مادة: رقب 5/ 279 - 280).

(2)

مدارج السالكين (2/ 67).

(3)

موعظة المؤمنين (451).

(4)

الوصايا (313).

ص: 457

تعالى»

(1)

.

‌ثانيًا- بيان لأهم معاني المراقبة الواردة في الآية الكريمة في ضوء كلام أهل التفسير:

قال ابن كثير: «هَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ قَدْ حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى

(2)

عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيم،

(1)

إحياء علوم الدين للغزالي (4/ 297).

(2)

عبارة: (حكى الله) هذه العبارات التي يعبر بها بعض المفسرين أو الفقهاء أو غيرهم كثيرة، وهي في كلام المتحدثين في دروسهم أكثر منها في مؤلفات المفسرين، لقدرة المؤلف على التصرف واختيار العبارات، بخلاف المتحدث فإنه يضطر في مواقف كثيرة إلى التعبير بعبارة موهمة أو يسبق لسانه أو يعتاد على عبارة قد تكون متضمنةً لأمر غير مشروع أو مشكوك في صحته أو نحو ذلك، وقَلَّ مَن يَسلَمُ مِن ذلك إلا من رحم الله.

رأي ابن عطية الأندلسي:

ولذلك اعتذر ابن عطية في مقدمة تفسيره، وذكر أنه قد يرد في تفسيره بعض العبارات التي اعتاد المفسرون على تكرارها مثل قولهم: حكى الله عن فلان كذا، ونحو هذه العبارة مما هو قريب منها. وخَرَّجها على أن جوازها يرتبط بالقصد منها، وليس المقصود منها نسبة هذه الصفات لله، وإنما نسبتها للآيات القرآنية. وقد ذكرها بقوله:«بابٌ في الألفاظ التي يقتضي الإيجازُ استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى» فذكر أن الباعث على استخدامها طلب الإيجاز والاختصار من المؤلف. ثم قال تحت هذا العنوان: «اعلم أَنَّ القصد إلى إِيْجازِ العبارةِ قد يسوقُ المتكلِّمَ في التفسير إلى أَنْ يقولَ: خاطبَ اللهُ بهذه الآيةِ المؤمنين، وشَرَّفَ اللهُ بالذكرِ الرجلَ المؤمنَ من آل فرعونِ، وحكى اللهُ تعالى عن أُمِّ موسى أَنَّها قالت قُصِّيهِ، ووَقَّفَ اللهُ ذريةَ آدم على ربوبيتهِ بقولهِ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]، ونحو هذا من إِسنادِ أفعالٍ إلى الله تعالى لم يأتِ إسنادُها بتوقيفٍ من الشَّرعِ.

وقد استعملَ هذه الطريقةَ المفسرونَ والمُحدِّثونَ والفقهاءُ واستعملها أبو المعالي في الإرشادِ، وذكر بعضُ الأصوليينَ أَنَّهُ لا يَجوزُ أَن يُقالَ: حكى اللهُ، ولا مَا جَرى مَجراهُ». = = ثم قال رحمه الله:«وأَنا أَتَحفَّظُ منهُ في هذا التعليقِ جَهْدِي، لكنيِّ قَدَّمْتُ هذا البابَ لِمَا عَسى أَنْ أَقَعَ فيه نادرًا واعتذارًا عمَّا وَقَعَ فيه المُفسِّرونَ من ذلك» . ينظر: المحرر الوجيز (طبعة قطر)(1/ 63 - 67).

وقال ابن عباد في رسائله الكبرى: «وقد رأيت في مواضع من كتبكم شيئًا أردت أن أنبهكم عليه، وهو أنكم تقولون فيها: حكى الله عن فلان، وحكى عن فلان كذا، وقد يقع مثل هذا في كلام الأئمة، وهذا عندي ليس بصواب من القول؛ لأن كلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفاته تعالى قديمة، فإذا سمعنا الله تعالى يقول كلامًا عن موسى عليه السلام مثلًا وعن فرعون، أو أمة من الأمم، فلا يقال: حكى عنهم كذا؛ لأن الحكاية تؤذن بتأخرها عن المَحكي، وإنما يقال في مثل هذا: أخبر الله تعالى، أو أنبأ، أو كلام معناه هذا مما لا يفهم من مقتضاه تقدم ولا تأخر» . ينظر: حاشية محقق المحرر الوجيز (طبعة قطر)(1/ 63)

وينظر: ملتقى أهل التفسير

بتاريخ. 11/ 4/ 1426 هـ.

* يقول الباحث:

والأسلم الذي لا شك فيه- استخدام الألفاظ الصحيحة- كالألفاظ الواردة في القرآن نحو قال الله، وكذلك الألفاظ الواردة بمعنى الإخبار والقصص فيقال: أخبر الله، وأنبأ الله، وقص الله، وذكر الله، ونحو ذلك، أو الألفاظ المستقاة من صفات الرب جل في علاه، وكذلك استخدام ما درج عليه السلف من ألفاظ (أعني: القرون الثلاثة) المزكاة على لسان من أنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام.

* ويقول الباحث معتذرًا للإمام ابن كثير رحمه الله:

ولعل ابن كثير وجد لنفسه مندوحة وسعة وحجة في استخدام عبارة (حكى الله) ومثلها من الألفاظ، لاستخدام واستعمال مَن سبقه لها، أو على أن باب الإخبار عن الله تعالى أوسع من باب الصفات، وقد أشار إلى هذا المعنى غير واحد من أئمة أهل العلم المعتبرين كشيخ الإسلام ابن تيمية: في مجموع الفتاوى (60/ 142)، وتلميذه الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد (1/ 161).

* وما ذكره الباحث:

عملًا بالأكمل والأحسن والأتم، وسدًّا لذريعة التوسع في هذا الباب، ولا سيما في زمن= = فشا فيه الجهل، وعمّت فيه البلوى، وانتشرت فيه البدع والمحدثات، وعمّ فيه البعد عن مصادر التلقي المستقاة من مشكاة الوحي، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو أعلى وأعلم بالصواب.

ص: 458

لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] أَيْ: إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الْخَطِيئَةَ لَوْ كَانَتْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ [مِنْ] خَرْدَلٍ.

وَقَوْلُهُ: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] أَيْ: أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8].

وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي دَاخِلِ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، أَوْغَائِبَةٍ ذَاهِبَةٍ فِي أَرْجَاءِ السَّمَاوَاتِ أَوِ الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا; لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ; وَلِهَذَا قَال:{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16] أَيْ: لِطَيْفُ الْعِلْمِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ (خَبِيرٌ) بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ»

(1)

.

وقال الطبري: «وَعَنَى بِقَوْلِهِ: (مِثْقَالَ حَبَّةٍ): زِنَةَ حَبَّةٍ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: إِنَّ الْأَمْرَ إِنْ تَكُ زِنَةُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ عَمِلْتَهُ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي

(1)

ابن كثير (6/ 338).

ص: 460

السَّمَوَاتِ، أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُوَفِّيَكَ جَزَاءَهُ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.

قَوْلِهِ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] أَيْ: جَبَلٍ.

{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] قَالَ: يَعْلَمُهَا اللَّهُ.

{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16] أَيْ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِهَا، خَبِيرٌ بِمُسْتَقَرِّهَا»

(1)

.

- وقال أبو حيان: «{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] يوم القيامة، فيحاسب عليها.

{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [لقمان: 16](يتوصل علمه إلى كل خفي){خَبِيرٌ} [لقمان: 16]: (عالم بكنهه)»

(2)

.

وقال الرازي: «{يَابُنَيَّ إِنَّهَا} [لقمان: 16]: أي: الحسنة والسيئة إن كانت في الصغر مثل حبة خردل، وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله.

فَقَوْلُهُ: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الصِّغَرِ، وَقَوْلُهُ:{فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ، وَقَوْلُهُ:{أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} [لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ فَإِنَّهَا أَبْعَدُ الْأَبْعَادِ، وَقَوْلُهُ:{أَوْ فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلُمَاتِ فَإِنَّ جَوْفَ الْأَرْضِ أَظْلَمُ الْأَمَاكِنِ. وَقَوْلهُ: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ}

(1)

الطبري (20/ 142).

(2)

أبو حيان (7/ 188).

ص: 461

[لقمان: 16] أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: يَعْلَمُهَا اللَّهُ; لِأَنَّ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْعِلْمِ دُونَ حَالِ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءَ، وَيُظْهِرُهُ لِغَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ:{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] أَيْ: يُظْهِرُهَا اللَّهُ لِلإِشْهَادِ. وَقَوْلهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [لقمان: 16](أَيْ: نَافِذُ الْقُدْرَةِ)، {خَبِيرٌ} [لقمان: 16] أَيْ: عَالِمٌ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ»

(1)

.

وقال ابن عطية: «وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ لُقْمَانَ إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ إِعْلَامَ ابْنِهِ بِقَدْرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى»

(2)

.

وقال ابن سعدي: «{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ الْأَشْيَاءِ وَأَحْقَرُهَا، {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] أَيْ: فِي وَسَطِهَا {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 16] فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِمَا {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] لِسِعَةِ عِلْمِهِ، وَتَمَامِ خِبْرَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16] أَيْ: لَطِيفٌ فِي عِلْمِهِ وَخِبْرَتِهِ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى الْبَوَاطِنِ وَالْأَسْرَارِ، وَخَفَايَا الْقِفَارِ وَالْبِحَارِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَثُّ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ، مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ عَمَلِ الْقَبِيحِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ»

(3)

.

وقال ابن الجوزي: «وَفِي قَوْلِهِ: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.

(1)

الفخر الرازي (21/ 130).

(2)

ابن عطية (7/ 21).

(3)

ابن سعدي (6/ 1352).

ص: 462

أَحَدُهَا: يَعْلَمُهَا اللَّهُ، قَالَهُ أَبُو مَالِكٍ.

وَالثَّانِي: يُظْهِرُهَا، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.

وَالثَّالِثُ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِلْجَزَاءِ عَلَيْهَا. (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ) قَالَ الزَّجَّاجُ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِهَا (خَبِيرٌ) بِمَكَانِهَا.

وَهَذَا مَثَلٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْتِي بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]»

(1)

.

وقال القاسمي: «{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] أَيْ: إِنَّ الْخَصْلَةَ مِنَ الْإِسَاءَةِ أَوِ الْإِحْسَانِ، إِنْ تَكُ مَثَلًا فِي الصِّغَرِ كَحَبَّةِ الْخَرْدَلِ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 16] أَيْ: فَتَكُنْ مَعَ كَوْنِهَا فِي أَقْصَى غَايَاتِ الصِّغَرِ، فِي أَخْفَى مَكَانٍ وَأَحْرَزِهِ، كَجَوْفِ الصَّخْرَةِ، أَوْ حَيْثُ كَانَتْ فِي الْعِلْمِ الْعُلْوِيِّ أَوِ السُّفْلِيِّ: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] أَيْ: يُحْضِرُهَا وَيُحَاسِبُ عَلَيْهَا: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [لقمان: 16] أَيْ: يَنْفُذُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ: {خَبِيرٌ} [لقمان: 16] أَيْ: يَعْلَمُ كُنْهَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ. وَالْآيَةُ هَذِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]»

(2)

.

(1)

ابن الجوزي (6/ 322).

(2)

القاسمي (13/ 4801).

ص: 463

وقال الشوكاني: «وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي {إِنَّهَا} رَاجِعٌ إِلَى الْخَصْلَةِ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ أَيْ: إِنَّ الْخَصْلَةَ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} إِلَخْ، ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ خَفَاءِ الْحَبَّةِ مَعَ خِفَّتِهَا فَقَالَ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} فَإِنَّ كَوْنَهَا فِي الصَّخْرَةِ قَدْ صَارَتْ فِي أَخْفَى مَكَانٍ وَأَحْرَزِهِ {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: أَوْ حَيْثُ كَانَتْ مِنْ بِقَاعِ السَّمَاوَاتِ أَوْ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أَيْ: يُحْضِرُهَا وَيُحَاسِبُ فَاعِلَهَا عَلَيْهَا {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، بَلْ يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ خَفِيٍّ {بِوَالِدَيْهِ} بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ»

(1)

.

وقال الرازي: «وَلَمَّا نَهَى لُقْمَانُ ابْنَهُ عَنِ الشِّرْكِ، نَبَّهَهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ مَقْدُورِهِ شَيْءٌ; فَقَالَ: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} الآية»

(2)

.

‌ثالثًا: بيان لأهم الجوانب التربوية المستفادة من الآية الكريمة:

قال تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16].

بعد إلقاء الضوء على بيان أهم ما ورد في الآية السابقة من معان في كلام أهل التفسير نلقي الضوء على أهم الجوانب التربوية المستفادة من الآية الكريمة:

1 -

فإن من جليل وصية لقمان لابنه ووعظه له، أن حثه على مراقبة الله تعالى في سره وجهره، وأعلمه بسعة علمه تعالى واطلاعه على خلقه، وأنه سبحانه قد

(1)

الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).

(2)

الرازي (7/ 187).

ص: 464

أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأن المظلمة والخطيئة مهما بالغ العبد في إخفائها فإن الله عز وجل يَعْلَمُهَا، ويُظْهِرُهَا، ويَأْتِي بِهَا يوم القيامة للحساب فيُوَفِّيَه جَزَاءَها.

2 -

وفي الآية الكريمة توجيه للمربين لسلوك مسلك لقمان في تربية الناشئة على مراقبة الله واستحضار سعة علمه واطلاعه على أحوال وأعمال عباده وإن دقت وخفيت على عموم خلقه، يقول الله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].

ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} [آل عمران: 5]، ولأن الله تعالى ما ذكر مواعظ لقمان لابنه في كتابه إلا لتكون نبراسًا يُحتذى، ومثالًا تربويًّا يُتأسى به، ومنهاجًا للتربية الإيمانية الصالحة التي تُحقق الطمأنينة، وتُنال بها سعادةُ الدارين، وهذه الوصايا وتلك القواعد التربوية ليست لولد لقمان فحسب، بل هي مثال وأنموذج تربوي متكامل الأركان تام البنيان موجه لجميع الأجيال المسلمة المتعاقبة على مرّ الأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

3 -

وفيها دعوة إلى غرس تعظيم الله وإجلاله سبحانه وخشيته في قلوب الخلق جميًعا ولا سيما في قلوب الناشئة، وبث روح المراقبة له سبحانه سرًّا وجهرًا في تلك النفوس، وهو ما قصده لقمان في موعظته لولده، فبمراقبته سبحانه وتعالى يكون صلاح أمر الدنيا والدين، وبمراقبته تصلح حياة الخلق معه سبحانه ومع عباده، وتصلح ذواتهم، وبمراقبته تكبح النفس جماحها وجماح شهواتها وهواها، وبمراقبته تسارع الأنفس لأداء الأمانات لأهلها والواجبات لمستحقيها.

ص: 465

وبمراقبته يُبرُ الآباءُ، وتُوصلُ الأرحامُ، وتُصانُ الأعراضُ، وتُحقنُ الدماءُ ويستتب الأمن ويتحقق كمال عبودية رب الأرض والسماء

وإذا فُقِدت المراقبةُ ضل الإنسان عن الطريق، و ضل عن سواء الصراط وضيع الأمانة، وإذا فُقِدت المراقبةُ، انتُهكت الحرماتُ، وسُفكت الدماءُ ونُهِبت الأموالُ، وضُيعت فرائضُ اللهِ تعالى وضاعت كذلك سائر حقوق عباده ..

قال ابن القيم: «فمن راقب الله تعالى في سره حفظه الله في سره وعلانيته»

(1)

.

وقال مسروق بن الأجدع: «من راقب الله في خطرات قلبه؛ عصمه الله في حركات جوارحه»

(2)

.

وما تغيرت كثير من الأنفس وظهرت الخيانات وعم كثير من الفساد والبليات وحل البلاء في كثير من المجتمعات، إلا يوم أن عُدِمت مراقبةُ الله في نفوس الكثير من الخليقة والبريات.

فالمراقبة إذن من أعظم أسباب الإعانة على هجران المعاصي والمنكرات.

قال ابن الجوزي: «فقلوب الجهال تستشعر البُعْد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط»

(3)

.

4 -

والتربية على مراقبة الله تعالى واستشعار عظمته والخوف منه سبحانه تعد من أهم مقومات التربية الإيمانية العملية للناشئة، وأسس ودعائم تعبيدهم

(1)

مدارج السالكين (2/ 96).

(2)

ينظر: صفة الصفوة (4/ 129).

(3)

صيد الخاطر (236).

ص: 466

لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، ومن أهم أسباب زيادة إيمانهم وتحقيق الطمأنينة في نفوسهم، ومن أهم السبل المعينة على استقامتهم وسلوكهم الصراط المستقيم وثباتهم عليه.

قال ابن القيم: «فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه من المعاصي، فإن من عَبَدَ اللهَ كأنه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذِكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مواقعتها»

(1)

.

ولذا كان من حكمة لقمان أن سعى لغرس روح المراقبة في نفس ولده، وبث مكانة عظمة قدرة الله تعالى وسعة علمه واطلاعه سبحانه على أفعال عباده في مكنون نفس فلذة كبده وثمرة فؤاده، وذلك لأن المراقبة من أفضل الطاعات وأعلاها وأشملها وأزكاها.

قال ابن عطاء: «أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات»

(2)

.

‌رابعًا- بيان لأهم ثمار المراقبة:

ولمراقبة الله ثمار يانعة وقطوف دانية فمن أبرزها وأجلها:

1 -

المراقبة تُحقِّقُ للعبد معية الله وتأييده:

2 -

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128].

(1)

الجواب الكافي (70).

(2)

ينظر: إحياء علوم الدين (4/ 397).

ص: 467

3 -

قال ابن كثير: «أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة»

(1)

.

2 -

والمراقبة تُرَقي العبدَ لدرجة الإحسان.

والإحسان كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

(2)

.

قال ابن منظور رحمه الله: «من راقب الله أحسن عمله»

(3)

.

وقال القصري: «إذا عرف العبد مقام الإحسان، سارع إلى طاعته قدر وُسعِهِ، فهذا حال المحب الذي يعبد الله كأنه يراه»

(4)

.

- وقال ابن المبارك لرجل: «راقب الله تعالى» ؛ فسأله عن تفسيرها، فقال:«كن أبدًا كأنك ترى الله عز وجل»

(5)

.

3 -

والمراقبة تثمر أفضل الأعمال لأن مقامها مقام جليل.

قال ابن القيم رحمه الله: «والمراقبة تثمر عمارة الوقت، وحفظ الأيام، والحياء، والخشية، والإنابة»

(6)

.

4 -

والمراقبة من أسباب حفظ الله لعبده.

(1)

تفسير ابن كثير (753).

(2)

البخاري (50)، ومسلم (10).

(3)

لسان العرب (13/ 115).

(4)

ينظر: شعب الإيمان (2/ 371 - 372) بتصرّف.

(5)

ينظر: إحياء علوم الدين (4/ 297).

(6)

مدارج السالكين (2/ 28).

ص: 468

قال ابن القيم رحمه الله أيضًا: «وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته»

(1)

.

وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهَلَكة؟ فقال: إذا علم أنَّ عليه رقيبًا

(2)

.

5 -

وبالمراقبة يتحقق للعبد رضوان الله قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 8].

- قال أهل العلم: «ذلك لمن راقب ربه عز وجل، وحاسب نفسه وتزود لمعاده»

(3)

.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

مدارج السالكين (2/ 66).

(2)

إحياء علوم الدين للغزالي (4/ 396).

(3)

ينظر: إحياء علوم الدين (4/ 398).

ص: 469

‌المطلب الثاني الجانب التعبدي ويشتمل على الوصايا التالية

‌أولًا- الأمر ببر الوالدين

.

ثانيًا- الأمر بإقام الصلاة.

ثالثًا- الأمر بلزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين.

رابعًا-الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك.

أولاً-الأمر ببر الوالدين:

بيان معنى بر الوالدين لغة واصطلاحًا:

‌البر لغة:

البرُّ: الخير والفضل، يقال: بَرَّ الرجلُ، يَبَرُّ بِرًّا، وِزان: عَلِمَ يعلم علمًا، فهو بَرٌّ، وبَارٌّ: أي: صادقٌ أو تقيٌّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع البر: أبرار، وجمع البار: بررة، مثل: كافرٌ، وكفرةٌ. وبَرِرْتُ والدي، أبَرُّهُ، بِرًّا: أحسنت الطاعة إليه، ورفقت به، وتحرَّيتُ محابّه، وتوقَّيتُ مكارهه

(1)

.

والبِرُّ: ضد العقوق

(2)

.

(1)

المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي (1/ 43).

(2)

مختار الصحاح للرازي (ص 19).

ص: 470

قال ابن الأثير رحمه الله: «البِرُّ بالكسر الإحسان، ومنه الحديث في بر الوالدين، وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق: وهو الإساءة إليهم والتضييع لحقهم»

(1)

.

والبر: اسم جامع للخير وأصله الطاعة

(2)

.

‌وبر الوالدين اصطلاحًا هو:

الإحسان إليهما (بالقلب، والقول، والفعل تقربًا لله تعالى)

(3)

.

قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 14 - 15].

في ضوء تلك الوصية العظيمة نبين ما يلي:

‌مفهوم البر:

والبر: كلمة جامعة لخيري الدارين، وأما برُّ الوالدين فيُعنى به الإحسان إليهما والتعطف عليهما والتودد لهما والرفق بهما والرعاية لأحوالهما خاصة عن الكبر، وأداء حقوقهما، وطاعتهما في كل معروف وبرٍّ بنفس راضية مطمئنة.

(1)

النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 116).

(2)

النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 116).

(3)

سعيد بن وهف القحطاني «بر الوالدين مفهوم وفضائل وآداب وأحكام في ضوء الكتاب والسنة» ، مطبعة سفير الرياض، الناشر: مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان، أكتوبر 2012 م.

ص: 471

والبر: ضده العقوق وهو الإساءة إليهما والتفريط في حقوقهما الواجبة لهما. ويكون بر الوالدين: بحسن معاشرتهما بالمعروف وإنزالهما منزلتهما اللائقة بهما وبإكرامهما وبإظهار البشر والبشاشة لهما، وخفض الجناح والتذلل لهما تواضعًا ورحمة بهما واعترافًا بفضلهما وتوفية لحقهما وعدم إظهار أدنى التأفف منهما، وبصلتهما وصلة أهل ودهما، والإنفاق عليهما بكرم وسخاء نفس، من غير طمع مرغوب ولا عوض مطلوب.

وبعد وصية لقمان لولده بتأسيس المعتقد بالنهي عن الشرك المتضمن تحقيق التوحيد تأتي آيتا الوصية ببر الوالدين من الله تعالى تعترض ما بقي من وصاياه لولده لتؤكدا الوصية الأولى بالنهي عن الإشراك به سبحانه من جهة، ومن جهة أخرى لتبيِّنا أن الوصية بالوالدين من الله تعالى ابتداءً، فيها دلالة على شرف تلك الوصية وعلو شأنها وجلالة قدرها وعظم مكانتها عند ربنا جل في علاه.

يقول ابن عطية: «هَاتَانِ الْآيَتَانِ اعْتِرَاضٌ أَثْنَاءَ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، وَوَجَّهَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّهَا مِنْ مَعْنَى كَلَامِ لُقْمَانَ، وَمِمَّا قَصَدَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ; لِأَنَّ كَوْنَ الآيَتَيْنِ

(1)

فِي شَأْنِ سَعْدِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدُ- يُضْعِفُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا صلى الله عليه وسلم الَهُ لُقْمَانُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُشْبَهُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ أَثْنَاءَ المَوْعِظَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُفْسِدٍ لِلْأَوَّلِ مِنْهَا وَلَا لِلْآخَرِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَادَ إِلَى الْمَوْعِظَةِ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ:«وَقَالَ أَيْضًا لُقْمَانُ» ، ثُمَّ اخْتَصَرَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ

(1)

يعني: آية لقمان هذه {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15]، وآية العنكبوت {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8].

ص: 472

الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ»

(1)

.

ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «هُوَ كَلَامٌ اعْتُرِضَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ؛ تَأْكِيدًا لِمَا في وَصِيَّةِ لُقْمَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ»

(2)

.

ويؤكد نفس الأمر أبو السعود فيقول: «{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14]: كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدًا لما فيها من النهي عن الشرك»

(3)

.

وكذلك يقول الشوكاني: «{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] هَذِهِ الْوَصِيَّةُ بِالْوَالِدَيْنِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15] اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامِ لُقْمَانَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ»

(4)

.

ويقول الألوسي أيضًا: «{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] إلخ، كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدًا لما فيه من النهي عن الإشراك، فهو من كلام الله عز وجل لم يقله سبحانه للقمان»

(5)

.

وهذه الآية مما كثر الإشكال فيه حتى وقع فيها خلاف واسع عند جمع من أئمة التفسير رحمهم الله جميعًا- وهل هي من كلام الله تعالى، أم هي من وصايا لقمان لولده؟

(1)

ابن عطية (7/ 47).

(2)

الزمخشري (5/ 12).

(3)

أبو السعود (7/ 72).

(4)

الشوكاني فتح القدير (1/ 1142).

(5)

الألوسي (21/ 86).

ص: 473

وبعد التطواف والتأمل والنظر في قرابة عشرين مؤلفًا في التفسير تبين للباحث أن الأقرب أنها من كلام الله تبارك وتعالى، معترضة بين وصايا لقمان لابنه، وعليه الأكثرون، ومما رجح ذلك لدى الباحث أيضًا آية العنكبوت {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8].

فهي وآيتا لقمان نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد سبق معنا في طيات البحث تعدد النازل والسبب واحد، وقد سبق معنا آنفًا قول كل من: ابن عطية الأندلسي، والزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي، وأبي السعود، والشوكاني، والألوسي.

والختام بقول القرطبي رحمه الله حيث يقول: «وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي شَأْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه كَمَا تَقَدَّمَ فِي (الْعَنْكَبُوتِ)، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ»

(1)

. اهـ. والله أعلم.

وفي بيان المعنى العام لتك الوصية يقول ابن سعدي: «وَلَمَّا أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، بِتَرْكِ الشِّرْكِ الَّذِي مِنْ لَوَازِمِهِ الْقِيَامُ بِالتَّوْحِيدِ، أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} [العنكبون: 8] أَيْ: عَهِدْنَا إِلَيْهِ، وَجَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً عِنْدَهُ، سَنَسْأَلُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا، وَهَلْ حَفِظَهَا أَمْ لَا؟ فَوَصَّيْنَاهُ بِوَالِدَيْهِ وَقُلْنَا لَهُ:{اشْكُرْ لِي} [لقمان: 14] بِالْقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِي، وَأَدَاءِ حُقُوقِي، وَأَنْ لَا تَسْتَعِينَ بِنِعَمِي عَلَى مَعْصِيَتِي. {وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالْكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَالْفِعْلِ الْجَمِيلِ، وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا، وَإِكْرَامِهِمَا وَإِجْلَالِهِمَا، وَالْقِيَامِ بِمَؤُونَتِهِمَا وَاجْتِنَابِ

(1)

القرطبي (14/ 60).

ص: 474

الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَوَصَّيْنَاهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنْ {إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14] أَيْ: سَتَرْجِعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِلَى مَنْ وَصَّاكَ، وَكَلَّفَكَ بِهَذِهِ الْحُقُوقِ، فَيَسْأَلُكَ هَلْ قُمْتَ بِهَا؟ فَيُثِيبُكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، أَمْ ضَيَّعْتَهَا؟ فَيُعَاقِبُكَ الْعِقَابَ الْوَبِيلَ»

(1)

.

فالله تبارك وتعالى يوصي الإنسان بوالديه عمومًا، ترغيبًا له في برّهما والإحسان إليهما، كما قال الماوردي:» {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] يعني: برًّا وتحننًا عليهما»

(2)

.

ويبين له حال أمِّه خصوصًا وقت حملها له، وأنها حملته وهي تعاني من الشدة والضعف والجهد وآلام الحمل وقت تكوينه من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم تكوينه تام الخلقة كامل البنيان.

ويوضح الرازي معنى الوهن فيقول: «يَعْنِي: ضَعْفَ الْحَمْلِ، وَضَعْفَ الطَّلْقِ، وَضَعْفَ النِّفَاسِ، وَقِيلَ: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]: نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، إِلَى آخِرِ النَّشْأَةِ»

(3)

.

وهذا ما يؤكده القرطبي فيقول: «{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أَيْ: حَمَلَتْهُ فِي بَطْنِهَا وَهِيَ تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَقِيلَ: الْمَرْأَةُ ضَعِيفَةُ الْخِلْقَةِ ثُمَّ يُضْعِفُهَا الْحَمْلُ»

(4)

.

(1)

ابن سعدي (6/ 1350).

(2)

الماوردي (4/ 334).

(3)

الرازي (7/ 187).

(4)

القرطبي (14/ 60).

ص: 475

ويوضح الإمام الطبري معنى الوهن هنا فيقول: ضَعْفَا عَلَى ضَعْفٍ، وَشِدَّةً عَلَى شِدَّةٍ.

ويقول ابْنِ عَبَّاسٍ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَخَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ.

ويقول الضَّحَّاكُ: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]: يَقُولُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ.

وَكذلك قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ

(1)

.

ويقول قَتَادَةُ: «{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أَيْ: جَهْدًا عَلَى جَهْدٍ» .

ويقول مُجَاهِدٌ: «{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] قَالَ: وَهْنُ الْوَلَدِ عَلَى وَهْنِ الْوَالِدَةِ وَضَعْفِهَا»

(2)

.

كل ذلك وهو يتغذى من دمها وتذهب بذلك قوتها مع ما تعانيه من الحمل والوحم وآلام الطلق والوضع والنفاس وغير ذلك، ليكون هذا البيان دافعًا لبرها والإحسان إليها من كل الوجوه جزاء ما عانت وتحملت في حملها ووضعها وإرضاعها وفطامها وسهرها وتعبها وخدمتها آناء الليل وأطراف النهار.

يقول ابن سعدي: «ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فِي الْأُمِّ، فَقَالَ: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أَيْ: مَشَقَّةً عَلَى مَشَقَّةٍ، فَلَا تَزَالُ تُلَاقِي الْمَشَاقَّ، مِنْ حِينِ يَكُونُ نُطْفَةً، مِنَ الْوَحَمِ، وَالْمَرَضِ، وَالضَّعْفِ، وَالثِّقَلِ، وَتَغَيُّرِ الْحَالِ، ثُمَّ وَجَعِ الْوِلَادَةِ، ذَلِكَ الْوَجَعِ الشَّدِيدِ، ثُمَّ «فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ» وَهُوَ مُلَازِمٌ لِحَضَانَةِ أُمِّهِ وَكَفَالَتِهَا وَرِضَاعِهَا، أَفَمَا يَحْسُنُ بِمَنْ تَحَمَّلَ عَلَى وَلَدِهِ هَذِهِ

(1)

ينظر: ابن كثير (6/ 337).

(2)

الطبري (20/ 137 - 138).

ص: 476

الشَّدَائِدَ، مَعَ شِدَّةِ الْحُبِّ، أَنْ يُؤَكِّدَ عَلَى وَلَدِهِ، وَيُوصِيَ إِلَيْهِ بِتَمَامِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ؟!»

(1)

.

يقول ابن كثير: «وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تَرْبِيَةَ الْوَالِدَةِ وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِيُذَكِّرَ الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 24] ; وَلِهَذَا قَالَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14] أَيْ: فَإِنِّي سَأَجْزِيكَ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ»

(2)

.

ولا شك أن ضعفها ومعاناتها الحمل وآلامه تتتابع وتتزايد كما وضح ذلك الألوسي بقوله: «فَالْمُرَادُ تَضْعُفُ ضَعْفًا مُتَزَايِدًا بِازْدِيَادِ ثِقَلِ الْحَمْلِ إِلَى مُدَّةِ الطَّلْقِ، وَقِيلَ: ضَعْفًا مُتَتَابِعًا وَهُوَ ضَعْفُ الْحَمْلِ، وَضَعْفُ الطَّلْقِ، وَضَعْفُ النِّفَاسِ»

(3)

.

ويؤكد نفس المعنى ابن عاشور فيقول: «والوهن وهو الضعف وقلة الطاقة على تحمل شيء، فإن حمل المرأة يقارنه التعب من ثقل الجنين في البطن، والضعف من انعكاس دمها إلى تغذية الجنين، ولا يزال ذلك الضعف يتزايد بامتداد زمن الحمل فلا جرم أنه وهن على وهن، وجملة {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] في موضع التعليل للوصاية بالوالدين قصدًا لتأكيد تلك الوصاية لأن تعليل الحكم يفيده تأكيدًا، ولأن في مضمون هذه الجملة ما يثير

(1)

ابن سعدي (6/ 1350).

(2)

ابن كثير (6/ 336).

(3)

الألوسي (21/ 86).

ص: 477

الباعث في نفس الولد على أن يبر بأمه ويستتبع البر بأبيه»

(1)

.

ويوضح الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي فيقول: «والْمَعْنَى: أَنَّهَا تَضْعُفُ ضَعْفًا فَوْقَ ضَعْفٍ، أَيْ: يَتَزَايَدُ ضَعْفُهَا وَيَتَضَاعَفُ»

(2)

.

ويقول ابن عطية: «وَ {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] مَعْنَاهُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَشَقَّةِ الْحَمْلِ وَمَشَقَّةِ الْوِلَادَةِ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى ضَعْفِ الْوَلَدِ وَضَعْفِ الْأُمِّ مَعَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ أَشَارَ إِلَى تَدَرُّجِ حَالِهَا فِي زِيَادَةِ الضَّعْفِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ ضَعْفَيْنِ، بَلْ كَأَنَّهُ قَالَ: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَالضَّعْفُ يَتَزَيَّدُ بَعْدَ الضَّعْفِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ أَمَدُهُ»

(3)

.

ويقول ابن الجوزي: «وَالْمَعْنَى: لَزِمَهَا بِحَمْلِهَا إِيَّاهُ أَنْ تَضْعُفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ»

(4)

.

وقوله سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].

لا شك أن الأم عانت عامين كاملين معاناة شديدة لتتم له الرضاع إحسانًا إليه حال ضعفه يتغذى من لبنها لتتم له القوة ويشتد بذلك عوده ويقوى صلبه، وهي تعاني بذلك الضعف والوهن والجهد أشده، وفي ذلك تذكير للإنسان بعظيم حقها وجليل قدرها.

يقول ابن كثير: «وَقَوْلُهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] أَيْ: تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ

(1)

ابن عاشور (22/ 157 - 158) بتصرف يسير.

(2)

الزمخشري (5/ 12).

(3)

ابن عطية (7/ 47).

(4)

ابن الجوزي (6/ 319).

ص: 478

بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وَمِنْ هَا هُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] «

(1)

.

من هنا يتبين لنا لماذا أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم للسَّائل حق الأم ثلاثًا، و أنها أحقّ النَّاس وأولاهم بحسن الصُّحبة

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ النَّاس بحسن صحابتي؟ قال:«أمك» ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أمك» ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أمك» ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «ثُمَّ أبوك»

(2)

.

ذلك لِمَا ذاقت هذه الأم الشَّفيقة البرّة الرَّفيقة الرحيمة من أنواع الآلام مدة الحمل، وقاست ما قاست من الشَّدائد وقت المخاض والوضع، ثُمَّ أضعفت قوتها بالرَّضاع حولين كاملين، وحملت تارة في البطن، وأخرى على الصَّدر، وثالثة على اليدين، وباتت عند مرض الطِّفل ساهرة، جائعة، حزينة، باكية، متألمة، لا تزال تفتأ تسأل لابنها الشِّفاء والتَّمتُّع بطول العُمُر في هناء وصفاء، الشَّيء الذي جعل الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يُقدِّم عليها أحدًا في البرّ والخير والإحسان، وأكَّد أنَّها أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة على النَّاس جميعًا بما فيهم الأب.

(1)

ابن كثير (6/ 337).

(2)

أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب مَنْ أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة (من الفتح). (5524)، كتاب الأدب: باب من أحق الناس بحسن صحابتي.

ص: 479

كما أوضح صلى الله عليه وسلم أنَّه ليس هناك أحد أحقّ بالعطف، والحنان، والرَّحمة، والإحسان، من الأب العطوف الرَّحيم، الذي ينفق من نفائس أمواله في تربية ابنه، وإرشاده لِمَا ينفعه في دينه ودنياه، فكان أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة على النَّاس جميعًا بعد الأُم.

وأكَّد تعالى الوصية بهما في حال الكِبر، حين حاجتهما إلى الإكرام والإحسان، وبذل النَّفس والمال في سبيل مصلحتهما، والسَّعي الجاد في كسب رضاهما، ولذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«رغم أنف مَنْ أدرك والديه عند الكِبر أحدهما أو كليهما فلم يدخلاه الجنَّة»

(1)

.

ومعنى الحديث أنَّه ذلّ، وقيل: كره وخزي، والرّغام أصله لصق الأنف بالرّغام، وهو تراب مختلط برمل، والرّغم هو كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه.

ويستفاد من هذا الحديث الحثّ على برّ الوالدين وعظيم ثوابه، وأنَّ برّهما عند ضعفهما وكبرهما (خاصة) بالخدمة أو بالنَّفقة أو غيره سبب لدخول الجنَّة، فمَنْ قصَّر في ذلك؛ فاته دخول الجنَّة، (يعني ابتداءً) وأرغم الله أنفه، ويؤيِّد هذا الحديث، قوله تعالى:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23]

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة، باب رغم أنف مَنْ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنَّة (برقم: 2551) (4/ 1978).

(2)

بر الوالدين في ضوء السنة النبوية الشريفة (ص 75) د/ سعاد سليمان إدريس الخندقاويّ -عن مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية- الصادرة عن جامعة أم درمان الإسلامية -العدد الخامس عشر (1428 هـ) - بتصرف.

ص: 480

قال الإمام القرطبي رحمه الله: «وهذا دعاء مؤكد على من قصَّر في بر أبويه، ويحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما.

وثانيهما: أن يكون معناه: أذله الله؛ لأن من ألصق أنفه -الذي هو أشرف أعضاء الوجه- بالتراب -الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء- فقد انتهى من الذُّل إلى الغاية القصوى، وهذا يصلح أن يدعى به على من فرَّط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر -وإن كان برهما واجبًا على كل حال- إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه؛ ولضعفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، فيبادر الولد اغتنام فرصة برهما؛ لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك»

(1)

.

وقوله سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].

يأمر الله تعالى بعد ذلك بشكره سبحانه ويقرنه بشكر الوالدين، وفي ذلك توكيد بعد توكيد لبيان مكانة وقدر الوالدين واعترافًا وإقرارًا بحقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلَاثِ آيَاتٍ لَا يُقْبَلُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا:

أَوَّلُهَا: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ.

(1)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 518).

ص: 481

وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرْ وَالِدَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.

وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعْ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ»

(1)

.

وفي بيان معنى الشكر يقول القاسمي: «الشُّكْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ:

الأول: خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ.

الثاني: حُبُّهُ لَهُ.

الثالث: اعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ.

الرابع: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا.

الخامس: أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ.

هَذِهِ الْخَمْسَةُ هِيَ أَسَاسُ الشُّكْرِ، وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ عُدِمَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، اخْتَلَّتْ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشُّكْرِ، وَكُل مَنْ تَكَلَّمَ فِي الشُّكْرِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ إِلَيْهَا يَرْجِعُ وَعَلَيْهَا يَدُورُ. انْتَهَى.

ثُمَّ فَسَّرَ الْوَصِيَّةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ أَيْ: بِأَنْ تَعْرِفَ نِعْمَةَ الْإِحْسَانِ، وَتُقَدِّرَهُ قَدْرَهُ»

(2)

.

ويجلي إمام المفسرين الطبري المعنى فيقول: «وَقَوْلُهُ: {أَنِ اشْكُرْ لِي

(1)

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب -للسفاريني- مؤسسة قرطبة -ط 2 - (1414 هـ/ 1993 م)(ص 392).

(2)

القاسمي (13/ 4798).

ص: 482

وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] يَقُولُ: وَعَهِدْنَا إِلَيْهِ أَنِ اشْكُرْ لِي عَلَى نِعَمِي عَلَيْكَ، وَلِوَالِدَيْكَ تَرْبِيَتَهُمَا إِيَّاكَ، وَعِلَاجَهُمَا فِيكَ مَا عَالَجَا مِنَ الْمَشَقَّةِ حَتَّى اسْتَحْكَمَت قُوَاكَ. وَقَوْلُهُ:{إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14] يَقُولُ: إِلَى اللَّهِ مَصِيرُك -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- وَهُوَ سَائِلُكَ عَمَّا كَانَ مَنْ شُكْرِكَ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْكَ، وَعَمَّا كَانَ مِنْ شُكْرِكَ لِوَالِدَيْكَ، وَبِرِّكَ بِهِمَا عَلَى مَا لَقِيَا مِنْكَ مِنَ الْعَنَاءِ وَالْمَشَقَّةِ فِي حَالِ طُفُولِيَّتِكَ وَصِبَاكَ، وَمَا اصْطَنَعَا إِلَيْكَ فِي بِرِّهِمَا بِكَ، وَتَحْنُّنِهِمَا عَلَيْكَ»

(1)

.

ويوضح الماوردي كيفية الشكر هنا فيقول: «وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة»

(2)

.

ويقول سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: «مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَهُمَا»

(3)

.

ويبين القرطبي على ما يكون الشكر فيقول: «وَالْمَعْنَى: قُلْنَا لَهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ. قِيلَ: الشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَلِلْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ»

(4)

.

ويقول ابن الجوزي: «الْمَعْنَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ، أَيْ: وَصَّيْنَاهُ بِشُكْرِنَا وَشُكْرِ وَالِدَيْهِ»

(5)

.

(1)

الطبري (20/ 138).

(2)

الماوردي (4/ 336).

(3)

القرطبي (14/ 61).

(4)

المرجع السابق، القرطبي (14/ 61).

(5)

ابن الجوزي (6/ 319).

ص: 483

قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] الآية.

ولعظم بر الوالدين ولمكانته من الدين أمر الله ببرهما حتى ولو كانا كافرين، بل ولو جاهداك على أن تشرك بالله وبذلا وسعهما في ذلك، فلا يسقط برهما والإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف بل هو باق مع عدم إجابتهما وطاعتهما في المعصية.

يقول ابن كثير: «وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].

أَيْ: إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا، فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعَنَّكَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، أَيْ: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا»

(1)

.

ويبين القرطبي فيقول: «وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى صِلَةِ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْمَالِ إِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ، وَإِلَانَةِ الْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِرِفْقٍ وَقَدْ قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بلِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ قَدِمَتْ عَلَيْهَا خَالَتُهَا. وَقِيلَ: أُمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَرَاغِبَةٌ قِيلَ مَعْنَاهُ: عَنِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهَا رَاغِبَةٌ فِي الصِّلَةِ، وَمَا كَانَتْ لِتَقْدُمَ عَلَى أَسْمَاءَ لَوْلَا حَاجَتُهَا. وَوَالِدَةُ أَسْمَاءَ هِيَ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسَدٍ. وَأُمُّ عَائِشَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ أُمُّ

(1)

ابن كثير (7/ 336).

ص: 484

رُومَانَ قَدِيمَةُ الْإِسْلَامِ»

(1)

.

وأصل الحديث في «الصحيحين» : تقول أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة، أفأصلها؟ قال:«نعم: صِلي أمك»

(2)

.

ويوضح ابن سعدي فيقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15] أي: اجتهد والداك {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما، لأن حق الله مقدم على حق كل أحد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولم يقل: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما، بل قال: فلا تطعهما أي: في الشرك، وأما برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما»

(3)

.

سبب نزول آية {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15]:

قال الطبري: «قَالَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِيَّ {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] قَالَ: لَمَّا أَسْلَمْتُ، حَلَفَتْ أُمِّي لَا تَأْكُلُ طَعَامًا وَلَا تَشْرَبُ شَرَابًا. قَالَ: فَنَاشَدْتُهَا أَوَّلَ يَوْمٍ، فَأَبَتْ وَصَبَرَتْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي نَاشَدْتُهَا، فَأَبَتْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ

(1)

القرطبي (14/ 60).

(2)

البخاري (5979)، ومسلم (1003).

(3)

ابن سعدي (6/ 1352).

ص: 485

نَاشَدْتُهَا فَأَبَتْ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ لَخَرَجَتْ قَبْلَ أَنْ أَدَعَ دِينِي هَذَا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ، وَعَرَفَتْ أَنِّي لَسْتُ فَاعِلًا أَكَلَتْ»

(1)

.

‌الأنبياء وبر الوالدين:

إن بر الوالدين من العبادات العظيمة التي حثت ورغبت فيها كل الشرائع السماوية، وهو مع ذلك أمر عظيم يسعى في تحقيقه ويطمع ويرغب فيه كل صاحب فطرة نقية ونفس سوية، كما أنه من أخص أوصاف النبيين عليهم السلام، ومن خصال عباد الله الصالحين، وهو دليل ظاهر على وفاء صاحبه وصدق إيمانه، وهو من محاسن ديننا الحنيف، ذلك لأن فيه اعترافًا بفضل الوالدين والسعي في رد بعض الجميل لهما على إحسانهما، ودليل على كمال الدين ومحاسنه وشموليته، بخلاف قوانين البشر وشريعة الغاب التي لا تعرف للوالدين حقًّا ولا تقر لهم معروفًا ولا تعرف لها فضلًا.

ولقد أثنى الله على بر الأنبياء لوالديهم وبَيَّنَ أنه من أخص أوصافهم، وذكر بعضًا منها في كتابه المجيد لتتأسى بهم البرية، كما قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

- فهذا نوح عليه السلام أول رسل الله لأهل الأرض يدعو ربه قائلًا: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28].

- ولما زجر آزرُ ابنَه إبراهيمَ عليه السلام وهدده بالرجم وقال له: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)} [مريم: 46]، كان جوابه عليه السلام:{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47].

ص: 486

وكان من دعائه عليه السلام أيضًا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 41].

- وإسماعيل لما أخبره الخليل إبراهيم برؤياه قائلًا: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] كان الجواب بأدب جم وخلق عظيم: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

ضاربًا بذلك أروع الأمثلة في بر الوالدين تسليمًا وانقيادًا وانصياعًا للأمر واستجابة وإعانة على تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى.

- ويوسف الصديق عليه السلام يبرهن على بره بوالديه بفعله قبل قوله بإجلاله وإكرامه لوالديه وإنزالهما أكرم المنازل كما قال سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100].

- وكان من دعاء سليمان عليه السلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل: 19].

- وقد مدح الله تعالى يحيى عليه السلام بقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم: 14].

- ولما تكلم عيسى بن مريم عليه السلام في المهد أعلن موقفه من بره بأمه وعزمه عليه فقال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم: 32].

‌وختام الحديث عن بر الوالدين ببيان مكانته من الدين:

‌أولاً: بر الوالدين من أعظم الحقوق وأَجَلِّهَا:

لقد قرن الله تعالى حق الوالدين مع أعظم الحقوق، وهو حق عبوديته

ص: 487

وتوحيده سبحانه، في كتابه الكريم في أربعة مواضع:

الموضع الأول:

في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83].

الموضع الثاني:

في سورة النساء في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

الموضع الثالث:

في سورة الأنعام في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151].

الموضع الرابع:

في سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

كما قرن شكر الوالدين مع شكره سبحانه بعد الوصية بهما هنا في سورة لقمان فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14].

فبدأ الله في هذه الآيات بالأمر بتوحيده سبحانه الذي هو أعظم مأمور به، واستحقاقه سبحانه للعبودية، ثم عطف على ذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وفي هذا إظهار لعظم حقهما وبيانًا لفضلهما وقدرهما، كما أن فيه حثًّا على برهما وطاعتهما وامتثال أمريهما.

ص: 488

فما أعظم هذا الشرع الحنيف وأَجَلَّهُ حيث عَظَّم قدر الوالدين ورفع من مكانتهما وبَيَّنَ حقهما وجلَّى فضليهما وألزم برهما وحض على طاعتهما في المعروف.

‌ثانيًا: بر الوالدين من أسباب دخول الجنة:

- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»

(1)

.

قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: «أَحَيٌّ والداك؟» قال الرجل: عندي أمي، قال ابن عمر:«فو الله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر»

(2)

.

‌ثالثًا: بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله:

عن شُعبة قال: أخبرني الوليد بن عيزار قال: سمعتُ أبا عمر الشَّيبانيّ يقول: أخبرنا صاحب هذه الدَّار، وأومأ بيده إلى دار عبد الله قال: سألتُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل: قال: «الصَّلاة على وقتها» ، قال: ثُمَّ أي؟ قال: «برّ الوالدين» ، قال: ثُمَّ أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: «حدّثني بهنَّ، ولو استزدته لزادني»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة: باب رغم أنف مَنْ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنَّة (برقم: 2551)(4/ 1978).

(2)

الأدب المفرد، للبخاري (برقم: 8)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (1/ 35)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (2898).

(3)

أخرجه البخاريّ في كتاب الصَّلاة، باب: فضل الصَّلاة لوقتها (1/ 126) بلفظه، = =ومسلم في كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (برقم 1270)(1/ 89).

ص: 489

‌رابعًا: بر الوالدين من أسباب إجابة الدعاء:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أُويسُ بن عامرٍ مع أمدادِ أهل اليمن

(1)

من مُرَادٍ، ثم مِن قرنٍ، كان به برصٌ، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها بَرّ لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل»

(2)

.

‌خامسًا: بر الوالدين مقدّم على الجهاد:

- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال:«أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال:«ففيهما فجاهد»

(3)

.

- عن طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول

(1)

اليمن: اسمها رسميًّا: الجمهورية اليمنية، ويقع اليمن في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية بين السعودية وسلطنة عمان، ويشرف على مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط بالمحيط الهندي، يبلغ طول الشريط الحدودي بين اليمن والسعودية (1. 458 كم)، و (288 كم) مع عمان من جهة الشرق، ويطل اليمن على البحر الأحمر وبحر العرب ويبلغ الشريط الساحلي لليمن (2500)، ولدى اليمن أكثر من مائتي جزيرة في البحر الأحمر وبحر العرب، أكبرهما جزيرتي سقطرى وحنيش.

دليل موسوعة قارات ودول العالم، وينظر: الموسوعة الحرة.

(2)

رواه مسلم (2542) كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل أويس القرني.

(3)

متفق عليه، أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة: باب برّ الوالدين وأنَّهما أحقّ به، (برقم: 2549) (4/ 1974).

ص: 490

الله، إني أريد الجهاد في سبيل الله. قال:«أمك حية؟» قلت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الزم رجلها فثم الجنة!»

(1)

.

وَقد تقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أن بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مقدم عَلَى الْجِهَادِ؛ لأِنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ غَيْرُهُ. فَقَدْ قَال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ، وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي. فَقَال:«أَطِعْ أَبَوَيْكَ، فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ»

(2)

.

‌سادسًا: وجوب بر الوالدين وإن كانا مشركين:

فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلُ أمي؟ قال: «نعم صِلِي أمك»

(3)

.

فبر الوالدين الكافرين والإحسان إليهما رغب فيه الشارع اعترافًا بحقهما ووفاءً لما قدماه.

قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].

(1)

صحيح الترغيب للألباني (2483).

(2)

المهذب في فقه الإمام الشافعي (2/ 230). هذا إلا إذا تعين الجهاد وأعلن الإمام النفير (الباحث).

(3)

رواه البخاري (2/ 924)(برقم: 2477)، ومسلم (2/ 696) (برقم: 1003). وَوَالِدَةُ أَسْمَاءَ هِيَ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسَدٍ. وَأُمُّ عَائِشَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ أُمُّ رُومَانَ قَدِيمَةُ الْإِسْلَامِ.

ص: 491

فيجب على الأبناء بر الوالدين والإحسان إليهما وطاعتهما طاعة تامة في المعروف أما إذا أمرا بمعصية فإنه لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»

(1)

.

فلا يمنع كفرهما من برهما والإحسان إليهما تقربًا لله تعالى ورحمة بهما وأداءً لحقهما.

‌سابعًا: بر الوالدين سبب في رضا الرب سبحانه:

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد»

(2)

.

- وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، فقال:«ارجع عليهما؛ فأضحكهما كما أبكيتهما»

(3)

.

‌ثامنًا: بر الوالدين من أسباب سعة الرزق والبركة في العمر:

ومن ثمار بر الوالدين البركة في العمر والسعة في الرزق:

- فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَه»

(4)

.

(1)

البخاري (13/ 203)، ومسلم (6/ 15)، وأبو داود (2625)، والنسائي (2 (187)، والطيالسي (109)، وأحمد (1/ 94).

(2)

صحيح الترغيب للألباني (2501).

(3)

صحيح أبي داود للألباني (2528).

(4)

رواه البخاري في كتاب الأدب، في باب: من بسط له في رزقه بصلة الرحم (جـ 5)(5639).

ص: 492

‌تاسعًا: بر الوالدين لا ينقطع بموتهما:

لبركة برّ الوالدين ومكانته فإنه لا ينقطع بموتهما، وهذا من سعة رحمة الله بعباده ليتم لهم بر والديهم أحياءً وأمواتًا ويداوموا عليه ويلزموه، والله تعالى حثّ الأبناء ورغبهم وأمرهم بالإقرار والاعتراف بحق الوالدين وإحسانهما فأمرهم بالترحم عليهما مذكرًا لهم بتربيتهم والإحسان لهم صغارًا فقال سبحانه:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 24].

- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

(1)

.

- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: يا رب، أَنَّى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك»

(2)

.

ومن مشاهد البر بعد موت الوالدين أن يبر الابن أهل ودّ والديه وأن يحسن إليهم ويكرمهم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه»

(3)

.

أسأل الله أن يرزقنا برّ آبائنا وأن يرحمهم كما ربونا صغارًا.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

رواه مسلم في كتاب الوصية (1631)، والنسائي في كتاب الوصايا - باب فضل الصدقة على الميت (جـ 4)(6478)، وأبو داود في كتاب الوصايا (2880)، والترمذي في كتاب الأحكام (1376).

(2)

الألباني، صحيح الجامع (1617).

(3)

رواه مسلم في كتاب الأدب والصلة: باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما (جـ 16)(6461).

ص: 493

‌ثانيًا- الأمر بإقام الصلاة:

‌مكانة الصلاة في الاسلام:

لقد عظَّم الله سبحانه وتعالى شأنَ الصلاة، ورفع قدرها وذِكرَها، وأعلى مكانتَها في شريعتنا الغراء، فهي أعظم وأهم وآكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي من معالم الدين العظمى وشرائعه الكبرى.

وقد شرعها الله على أكمل الهيئات وأتمها وأحسنها، وقد حوت الصلاة أنواعًا من العبادات وصنوفًا من الأذكار، من تلاوة للقرآن، وما تضمنته من حمد وثناء وتمجيد وتسبيح وتنزيه وإخلاص وتقديس وإخبات وإنابة وإجلالٍ للرب سبحانه وتعالى، واستغاثة به جل في علاه، وإفراده سبحانه بالعبادة والاستعانة التي هي أعلى درجات منازل إياك نعبد وإياك نستعين، كما حوت مشاهد عظيمة من الذل والانكسار والإخبات بين يدي جبار السموات والأرض، وتكبير يُنبئ عن طرح كل ما سوى الله من قلب العبد، وتعظيم لله تعالى واستصغار لكل ما دونه سبحانه وتعالى من المخلوقين، مع ما جمعته وحوته من وقوف وانتصاب لا حركة، فيه مذلة لله، وركوع كله خضوع وخشوع لله، وسجود في ذلِ وانكسار بين يدي الله، ودعاء وابتهال وتبتل لله، وهي رأس العبادات البدنية، وهي أول ما يحاسب به العبد من عمله يوم القيامة، وهي حد فاصل بين الإسلام والكفر، كما قال ابن سعدي:«حَثَّهُ (لقمان) عَلَيْهَا، وَخَصَّهَا لِأَنَّهَا أَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ»

(1)

.

ولعظم مكانتها وجليل قدرها فرضها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في السموات العلى بلا واسطة؛ بخلاف سائر الشرائع السماوية؛ وأنه لم تخل منها

(1)

ابن سعدي (22/ 1352).

ص: 494

شريعة من شرائع الله السماوية.

فدل ذلك على تأكد فرضيتها وعظم مكانتها وجليل قدرها عند الله سبحانه.

والصلوات الخمس مفروضة بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب: فقوله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43].

وأما السنة: فقد جعَل النبي صلى الله عليه وسلم إقامتها رُكنًا من أركان الإسلام، ودعامة من دعائمه العظام.

- فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»

(1)

.

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على فرضيَّتها ووجوب أدائها في اليوم والليلة خمس مرات، وأنها رُكن من أركان الإسلام، ولَم يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين، بل ذلك مما عُلِم من دين الله بالضرورة، وهي حدٌّ فاصل بين الإسلام والكفر، ومن جحد فرضيتها فهو كافر مرتد عن دين الله تعالى، يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل ردة، وذلك بإجماع الأمة.

ولعظم شأنها فإنها أول ما يُسأل عنه العبدُ يوم القيامة فعن عبد الله بن قرط رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما يُحاسب به العبدُ يومَ القيامةِ الصلاةُ، فإنْ

(1)

صحيح البخاري (1/ 20)(رقم: 8)، وصحيح مسلم (1/ 45) (رقم: 16).

ص: 495

صلحتْ، صلح سائرُ عمله، وإن فسَدَتْ، فَسَدَ سائِرُ عمله»

(1)

.

ولعظم مكانتها من الدين كانت من آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته عند موته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فهي كوصية مودع يقول صلى الله عليه وسلم:«الصلاةَ. الصلاةَ. وما ملكتْ أيمانُكم»

(2)

.

‌قوله: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان: 17]:

والمقصود بإقامة الصلاة: أداؤها خالصة لله، بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومستحبَّاتها، على الوجه المشروع عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي»

(3)

.

قال القاسمي: «{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان: 17] أَيْ: بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، لِتَكْمِيلِ نَفْسِكَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ»

(4)

.

ويقول ابن عاشور: «انْتَقَلَ (لقمان) مِنْ تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ إِلَى تَعْلِيمِهِ أُصولَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَابْتَدَأَهَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الْأَعْمَالِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الِاعْتِرَافِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِدَامَتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا»

(5)

.

(1)

رواه الطبراني في الأوسط (2/ 240)(برقم: 1859)، وصححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (برقم: 1358).

(2)

سنن ابن ماجه (2/ 900)(برقم: 2697)، وأحمد (25944).

(3)

أخرجه البخاري وغيره من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه (213).

(4)

القاسمي (13/ 4801).

(5)

ابن عاشور (22/ 165) بتصرف.

ص: 496

ويقول البقاعي: «وَلَمَّا نَبَّهَهُ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَإِقَامَتِهِ لِلْحِسَابِ، أَمَرَهُ مِمَّا يَدَّخِرُهُ لِذَلِكَ تَوَسُّلًا إِلَيْهِ، وَتَخَضُّعًا لَدَيْهِ، وَهُوَ رَأْسُ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَمَلُ وَيُصَحِّحُ التَّوْحِيدَ وَيُصَدِّقُهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مُكَرِّرًا لِلْمُنَادَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَنْبِيهًا عَلَى فَرْطِ النَّصِيحَةِ لِفَرْطِ الشَّفَقَةِ (أَقِمِ الصَّلاةَ) أَيْ: بِجَمِيعِ حُدُودِهَا وَشُرُوطِهَا وَلَا تَغْفُلْ عَنْهَا، سَعْيًا فِي نَجَاةِ نَفْسِكَ وَتَصْفِيَةِ سِرِّكَ، فَإِنَّ إِقَامَتَهَا -وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ-؛ مَانِعَةٌ مِنَ الْخَلَلِ فِي الْعَمَلِ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] «

(1)

.

ويقول البغوي رحمه الله: «{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يعني: الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها»

(2)

.

ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: «إقامة الصلاة: إتمامُ الركوع والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها فيها» .

ويقول قتادة رحمه الله: «إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها» .

ويقول مقاتل بن حيَّان رحمه الله: «إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطُّهور بها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهُّد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إقامتها»

(3)

.

وينبغي أن يُعلم الأبناءُ عظم جزاء من أحسن الوضوء والصلاة، ترغيبًا لهم

(1)

البقاعي (15/ 174).

(2)

معالم التنزيل للبغوي- الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (1/ 88).

(3)

تفسير القرآن العظيم (1/ 78) لابن كثير.

ص: 497

في أداء الطهارة والصلاة وإتمامهما على الوجه المشروع، بمثل حديث عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله»

(1)

.

- وبمثل حديث أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من توضأ كما أُمِرَ وصلى كما أُمِرَ غُفِرَ له ما قدم من عمل»

(2)

.

ليصبح هذا الترغيب من الحوافز الدافعة للأبناء على إتمام الطهارة وإحسان الصلاة طاعة لله وطمعًا في ثوابه.

وقد بَيَّنَ الله -سبحانه- في كتابه أن فلاحَ المؤمنين متعلق بخشوعهم في صلاتهم، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2] ولا شك أن الخشوع روح الصلاة.

يقول ابن القَيِّم رحمه الله: «فمَن فاتَه خشوع الصلاة، لَم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصولُ الخشوع مع العَجَلة والنقر قطعًا، بل لا يحصل الخشوع قطُّ إلاَّ مع الطمأنينة، وكلَّما زادَ طمأنينة ازدادَ خشوعًا، وكلَّما قلَّ خشوعه، اشتدَّتْ عَجَلته؛ حتى تصيرَ حركة يَدَيه بمنزلة العبث الذي لا يَصحبه خشوع ولا إقبال على العبوديَّة، ولا معرفة حقيقة العبودية.

(1)

رواه مسلم (1/ طهارة/ 206/ جـ 7)، وأحمد في مسنده (5/ 260) بنحوه، ورواه البيهقي في سننه (2/ 290).

(2)

رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6172).

ص: 498

- والله -سبحانه- قد قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43].

- وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [لقمان: 4].

- وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [هود: 114].

- وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103].

- وقال: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الحج: 35].

- وفي أخص دعاء إبراهيم عليه السلام قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40].

- وقال لموسى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14].

فلن تكاد تجد ذِكْرَ الصلاة في موضع من التنزيل إلاَّ مقرونًا بإقامتها، فالمصلون في الناس قليل، ومُقيم الصلاة منهم أقلُّ القليل!»

(1)

.

هذا وصف المصلين في زمن ابن القيم فكيف به إذا رأى صلاة أهل زماننا إلا من رحم الله؟! {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53].

يقول الزهري -رحمه الله تعالى: «دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه بدمشقَ وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرفُ شيئًا مما أدركتُ على عهدِ رسول الله إلَّا هذه الصلاة، وهذه الصلاةُ قد ضُيِّعت»

(2)

.

وأثر أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يوضح عناية السلف بشأن الصلاة

(1)

الصلاة وأحكام تاركها (ص 140) بتصرف يسير.

(2)

صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة (530).

ص: 499

وبإقامتها كما أمر الله تعالى وكما علم رسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس لك من صلاتك إلاَّ ما عَقَلت منها»

(1)

.

وإن مما يندرج ضمنًا تحت معنى إقام الصلاة، أن تُؤدَى في أوقاتها كما قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103].

وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238].

يقول القرطبي رحمه الله: «قوله تعالى: (حَافِظُوا) خطاب لجمع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها. والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه»

(2)

.

ويقول الطبري رحمه الله: «يعني تعالى ذكره بذلك: واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، وتعاهدوهن والزَمُوهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ»

(3)

.

وإن مما يندرج ضمنًا تحت معنى إقام الصلاة أيضًا تأديتها في جماعة قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43].

وقوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: صلوا مع المصلين، ففيه الأمر

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 31).

(2)

القرطبي (3/ 208).

(3)

الطبري (5/ 167).

ص: 500

بالجماعة للصلاة ووجوبها

(1)

.

ولنتأمل جميعًا في عظم الأجر وجزيل الثواب المترتب على المحافظة والمواظبة على صلاة الجماعة:

- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق»

(2)

.

- ويقول عليه الصلاة والسلام: «سبعة يُظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلّ إلا ظلُّه» ، وذكر منهم:«ورجلٌ قلبُه معلَّق بالمساجد»

(3)

.

قال النووي: «أي: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد»

(4)

.

(1)

ابن سعدي (1/ 50).

(2)

سنن الترمذي الجامع الصحيح -أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب في فضل التكبيرة الأولى حديث (230)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي حديث (رقم: 24).

(3)

صحيح البخاري: كتاب الأذان (660)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031).

(4)

صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 122).

ص: 501

- قال الحافظ في الفتح: «ظاهره أنه من التعليق كأنه شبه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلًا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجًا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي: كأنما قلبه في المسجد»

(1)

.

قال المناوي: «قلبه معلق بالمساجد من شدة حبه إياها، لَمَّا آثر طاعة الله وغلب عليه حبُّه، صار قلبه ملتفتًا إلى المسجد، لا يُحِب البَرَاح عنه؛ لِمَا وجد فيه من رَوْح القُربة، وحلاوة الخدمة، فآوى إلى الله مؤثِرًا فأظله»

(2)

.

قال ابن حجر: «إدراك التكبيرة الأولى سنة مؤكدة، وكان السلف إذا فاتتهم عزوا أنفسهم ثلاثة أيام، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام»

(3)

.

- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قال: «والّذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثمّ آمر بالصّلاة فيؤذّن لها، ثمّ آمر رجلًا، فيؤمّ النّاس، ثمّ أخالف إلى رجال فأحرّق عليهم بيوتهم، والّذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنّه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء»

(4)

.

ولو لم تكن الجماعة واجبة لما همّ النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريق.

ومن سمع الأذان فلا عذر له في التخلف عن الجماعة.

- فعن ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال: جئت رسول الله فقلت: يا رسول الله، أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال:«أتسمع النداء؟» قلت: نعم. قال: «ما أجد لك رخصة»

(5)

.

(1)

فتح الباري (2/ 184).

(2)

فيض القدير (4 - 89).

(3)

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: (جـ 4)(ص 102).

(4)

صحيح البخاري: كتاب الأذان -أبواب صلاة الجماعة والإمامة- باب: وجوب صلاة الجماعة حديث (626).

(5)

سنن أبي داود -كتاب الصلاة- باب: في التشديد في ترك الجماعة، حديث (470) وقال الألباني:«حسن صحيح» ، ينظر: صحيح سنن أبي داود حديث (رقم: 552).

ص: 502

- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر»

(1)

.

‌وإن من خير ما يختم به بيان حال خير القرون مع صلاة الجماعة:

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»

(2)

.

‌كيفية تربية الأبناء على أداء الصلاة وأمرهم بها:

إن من أعظم وأجل وسائل تربية الأبناء وتعويدهم على إقام الصلاة وأدائها على الوجه المشروع هو ضرورة وجود القدوة العملية الصالحة المتمثلة في الوالدين وحرصهما على أداء الصلاة في أوقاتها على الوجه المشروع كذلك.

وقد مرّ معنا في طيات البحث أن التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية.

(1)

المستدرك على الصحيحين للحاكم -ومن كتاب الإمامة- أما حديث عبد الرحمن بن مهدي - حديث (841)، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث (رقم 6300).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه -كتاب المساجد ومواضع الصلاة- باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى - حديث (1081).

ص: 503

قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

قال ابن سعدي: «أي: حثّ أهلك على الصلاة، وأزعجهم إليها من فرض ونفل.

والأمر بالشيء: أمر بجميع ما لا يتم إلا به، فيكون أمرًا بتعليمهم، ما يصلح الصلاة ويفسدها ويكملها»

(1)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ .. } [التحريم: 6].

قال ابن كثير: «أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملًا فتأكلهم النار يوم القيامة»

(2)

.

- ويقول صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»

(3)

.

‌أثر صلاة النوافل في البيت:

لقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في أداء النوافل في البيت لما يترتب على أدائها فيه من المصالح والمنافع العظيمة، ولا شك أن من أهم تلك المنافع والمصالح مشاهدة الأبناء لتك الصلاة ومحاكاة الآباء ومحاولة تقليدهم، لأنها مرحلة إعداد وتهيئة نفسية وتعويد غير مباشر.

إعدادًا وتمهيدًا لمرحلة الأمر بالصلاة، وفي هذا غرس لمحبة الصلاة في

(1)

ابن سعدي (ص 517).

(2)

تفسير ابن كثير (5/ 240).

(3)

البخاري (853)، ومسلم (1829).

ص: 504

نفوسهم وترغيبهم فيها بالقدوة الحسنة من غير أمر مباشر بها، فإذا ما حان وقت أمرهم بها إذا هم قد تهيأوا لها واستعدوا لأدائها ورغبوا فيها طواعية، ومن ثَمَّ أداؤها على الوجه المشروع والأكمل والأتم عند مرحلة التكليف الشرعي.

وفي مثل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا»

(1)

.

ولا شك أن من أعظم هذا الخير وأنفعه رؤية الأبناء صلاة الآباء ومن ثَمَّ التأسي والاقتداء بهم.

‌متى يُؤمرُ الصَّبِيُّ بالصلاة:

- يقول صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»

(2)

.

قال الرافعي: «قال الأئمة: يجب على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الطهارة والصلاة والشرائع بعد سبع سنين وضربهم على تركها بعد عشر سنين» .

قال الشافعي في المختصر: «وعلى الآباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم ويعلموهم الطهارة والصلاة ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا» قال أصحابنا: ويأمره الولي بحضور الصلوات في الجماعة وبالسواك وسائر الوظائف الدينية»

(3)

.

(1)

رواه أحمد (13986)، ومسلم (778).

(2)

صححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 266، رقم 247) وينظر: الموسوعة الكويتية (12/ 24).

(3)

النووي، المجموع شرح المهذب، كتاب الصلاة (ص 13).

ص: 505

ويؤدب الصبي بالأمر بأداء الفرائض والنهي عن المنكرات بالقول ثم التعنيف ثم بالضرب إن لم تُجْدِ الطرق المذكورة قبله، ولا يضرب الصبي لترك الصلاة إلا إذا بلغ عشر سنين؛ للحديث السابق:«مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع»

(1)

.

قال ابن قدامة رحمه الله: «هَذَا الْأَمْرُ وَالتَّأْدِيبُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَمْرِينِهِ عَلَى الصَّلَاةِ، كَيْ يَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا، وَلَا يَتْرُكَهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ»

(2)

انتهى.

ومما ينبغي لفت النظر إليه أيضًا أن تأديب الصبي لا يكون على ترك الصلاة بالكلية فحسب، وإنما يكون أيضًا على التهاون في إتمام شروط صحتها وأركانها وواجباتها، فقد يصلي ولكن يتهاون في إتمام الطهارة لها، أو يصلي متعمدًا ترك الطهارة بالكلية، أو يتعمد تأخيرها عن وقتها، أو يؤديها بسرعة مخلة لصحتها، أو لا يتم ركوعها أو سجودها، أو يؤديها على أي صفة لا تصح معها الصلاة، فيجب تعليمه وتوجيهه ومتابعته وتشجيعه وترغيبه في الإحسان والإتمام، وتذكيره وتخويفه بما ورد في السنة المطهرة بمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً، ومَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ، وَلَا يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ، وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ»

(3)

.

(1)

صححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 266)(رقم: 247) وينظر: الموسوعة الكويتية (12/ 24).

(2)

المغني (1/ 357).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 288)، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (برقم: 1895)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 347)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 81) (برقم: 2535).

ص: 506

- وبمثل حديث أبي قتادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ:«لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» ، أَوْ قَالَ:«لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ»

(1)

.

فإن أصر بعد تكرار الترغيب والتوجيه بالحسنى، أُدّب واستُعمِلَ معه أسلوب الترهيب حتى يصل إلى الضرب بضوابطه الشرعية إلى أن يستجيب ويؤدي الصلاة على الوجه المشروع.

وقال السبكي: «يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَ الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَيَضْرِبَهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ.

ولَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالضَّرْبَ عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَنَحْنُ نَضْرِبُ الْبَهِيمَةَ لِلتَّأْدِيبِ فَكَيْفَ الصَّبِيُّ؟ وَذَلِكَ لِمَصْلَحَتِهِ وَأَنْ يَعْتَادَها قَبْلَ بُلُوغِهِ»

(2)

.

- ويقول معالي الشيخ الفوزان: «الضّرب وسيلة من وسائل التربية، فللمعلِّم أن يضرب، وللمؤدِّب أن يضرب، ولولّي الأمر أن يضرب تأديبًا وتعزيرًا، وللزوج أن يضرب زوجته على النشوز لكن يكون بحدود، لا يكون ضربًا مبرحًا

(1)

أخرجه أحمد في المسند (37/ 319)(برقم: 22642) واللفظ له، وابن خزيمة (1/ 332) (برقم: 663)، والحاكم (1/ 229)، وابن حبان في صحيحه (برقم: 1888)، والبيهقي، والطبراني (برقم: 2347)، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 345)، وصححه محققو مسند الإمام أحمد (37/ 319).

(2)

فتاوى السبكي (1/ 379) بتصرف

ص: 507

يشقّ الجلْد أو يكسرُ العظم، وإنّما يكون بقدر الحاجة»

(1)

.

قال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «وكذلك قوله: «اضربوهم عليها لعشر» الأمر للوجوب، لكن يقيد بما إذا كان الضرب نافعًا؛ لأنه أحيانًا تضرب الصبي ولكن ما ينتفع بالضرب، ما يزداد إلا صياحًا وعويلًا ولا يستفيد، ثم إن المراد بالضرب الضرب غير المبرح، الضرب السهل الذي يحصل به الإصلاح ولا يحصل به الضرر»

(2)

.

ويقول رحمه الله أيضًا: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نأمر أولادنا بالصلاة لسبع سنين، وأن نضربهم عليها لعشر سنين، مع أنهم لم يُكلفوا بعد، من أجل أن يتمرنوا على فعل الطاعة ويألفوها، حتى تسهل عليهم بعد الكبر، وتكون محبوبة لديهم، كذلك الأمور التي ليست بالمحمودة، لا ينبغي أن يعود الصغار عليها وإن كانوا غير مكلفين؛ وذلك لأنهم يألفونها عند الكبر ويستسيغونها»

(3)

.

ويقول سماحة شيخينا العلامة ابن باز رحمه الله: «والعناية بأهل البيت، لا تغفل عنهم يا عبد الله، عليك أن تجتهد في صلاحهم، وأن تأمر بنيك وبناتك بالصلاة لسبع، وتضربهم عليها لعشر، ضربًا خفيفًا يعينهم على طاعة الله، ويعودهم أداء الصلاة في وقتها، حتى يستقيموا على دين الله ويعرفوا الحق، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

(1)

إغاثة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (282 - 284) بتصرف.

(2)

لقاءات الباب المفتوح (جـ 95) لابن عثيمين.

(3)

فتاوى نور على الدرب (11/ 386).

(4)

مجموع فتاوى ابن باز (6/ 46) بتصرف.

ص: 508

‌والخلاصة:

أن أول خطوات تربية الأبناء وتعويدهم على أداء الصلاة، أداء الآباء النوافل والسنن الرواتب في البيت ليطالعها الصغار ويحاكوها، ثم تعليمهم فقه الطهارة والصلاة وما يتعلق بهما من آداب وأحكام شرعية بحسب مداركهم مع أمرهم بها وترغيبهم وتحبيبهم فيها وتدريبهم عليها وذلك في سن سبع سنين، ويكون ذلك بالقدوة من الوالدين أولًا، ثم اصطحاب الأولاد لصلاة الجماعة في المسجد، مع المتابعة والصبر على ذلك، وكذلك حرص الأم على أمر بناتها بالصلاة وتأديتهن لها معها في البيت ليتعودنها ويألفنها، مع الوعظ والنصح والتذكير بأهمية الصلاة ومكانتها وفضلها، وبيان أنها أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأنه لا يتم دين المسلم إلا بالمحافظة والمواظبة عليها.

ومن الأهمية بمكان أن يعلم الأبناء حكم ترك الصلاة وأن تركها كفر وهذا مما يزيدهم حرصًا عليها ورغبة فيها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال محذرًا ومبينًا لهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقَد كفر»

(1)

.

وبقوله صلى الله عليه وسلم أيضًا: «بين الرجل والكفر -أو الشرك- تركُ الصلاة»

(2)

.

ذلك كله مع إدامة الدعاء لهم اقتداءً وتأسيًا بخليل الرحمن عليه السلام حيث يقول

(1)

مسند أحمد (5/ 346) عن بريدة رضي الله عنه، وأخرجه أيضًا الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (2621)، والنسائي في الصلاة، باب: الحكم في تارك الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079)، وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» ، وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (11)، وهو في صحيح الترغيب (564).

(2)

صحيح مسلم: كتاب الإيمان (82) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه.

ص: 509

في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، والله تعالى أعلم.

والله تعالى لم يشرع لعباده إلا كل ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم؛ وإنَّ من أهم شرائعه -الصلاة- فهي محققة لمصالح العباد في المعاش والمعاد.

قال العز بن عبد السلام: «التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم»

(1)

.

وللصلاة ثمار ومنافع عظيمة كما قال ابن القيم: «اعلم أنه لا ريبَ أن الصلاةَ قرَّة عُيون المحبِّين، ولذَّة أرواح الموحِّدين، وبستان العابدين ولذَّة نفوس الخاشعين، ومحكُّ أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين هداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يدِ رسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، رحمةً بهم، وإكرامًا لهم؛ لينالوا بها شرفَ كرامته، والفوز بقربه، لا لحاجةٍ منه إليهم، بل منَّة منه وتفضُّلًا عليهم، وتعبَّد بها قلوبَهم وجوارحهم جميعًا، وجعل حظَّ القلب العارف منها أكملَ الحظَّين وأعظمَهما؛ وهو إقباله على ربِّه -سبحانه- وفرحه وتلذُّذه بقربه، وتنعُّمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله حقوق عبوديته ظاهرًا وباطنًا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربُّه سبحانه»

(2)

.

ويقول نصر بن محمد السمرقندي: «واعلم أن مثلَ الصلاة كمثلِ مَلِكٍ اتَّخذ

(1)

انتهى من «قواعد الأحكام» (2/ 73).

(2)

أسرار الصلاة، لابن القيم (ص 55 - 56).

ص: 510

عرسًا، فاتَّخذ وليمةً وهيَّأ فيها ألوانًا من الأطعمة والأشربة، لكل لون لذة، وفي كل لون منفعة؛ فكذلك الصلاة دعاهم الربُّ إليها، وهيَّأ لهم فيها أفعالًا مختلفة، وأذكارًا، فتعبَّدهم بها ليلذَّهم بكل لونٍ من العبودية؛ فالأفعال كالأطعمة، والأذكار كالأشربة»

(1)

.

وفيما يلي بيان لأهم الثمار التي يجنيها العبد من الصلاة.

‌أولًا- الصلاة حاجز بين العبد والمعاصي

؛

قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لا تنفعُ الصلاة إلا مَن أطاعها» ، ثم قرأ عبد الله:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]

(2)

.

قال ابن سعدي رحمه الله: «والصلاة على هذا الوجْه: تَنهى صاحبها عن كلِّ خُلقٍ رذيل، وتحثُّه على كلِّ خُلق جميل؛ لِمَا تؤْثِره في نفسه من زيادة الإيمان، ونور القلب وسروره، ورغْبته التامَّة في الخير»

(3)

.

‌ثانيًا- الصلاة من أعظم الخصال المكفرة للذنوب:

فهي كَفَّارةٌ للخطايا والذنوب، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من

(1)

تنبيه الغافلين للسمرقندي (ص 147).

(2)

مصنف ابن أبي شيبة (13/ 298).

(3)

بهجة قلوب الأبرار وقُرَّة عيون الأخيار في شرْح جوامع الأخبار (ص 168).

ص: 511

درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه. قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»

(1)

.

- وعن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة»

(2)

.

- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَل الصلوات الخمس كمَثَل نَهر جارٍ غمر على بابِ أحدكم يغتسل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ» قال: قال الحسن: «وما يبقي ذلك من الدرن»

(3)

.

‌ثالثًا: الصلاة نور للعبد:

- عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزانَ، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجة لك أو عليك، كلُّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتِقُها، أو مُوبقُها»

(4)

.

- وعن أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم: «بشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنورِ التامِّ يوم القيامة»

(5)

.

‌رابعًا: الصلاة خير ما يتحصن به العبد:

- عن جُنْدُب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن صلَّى صلاةَ

(1)

رواه البخاري (2/ حـ 528)، ورواه مسلم (1/ المساجد/ 462/ حـ 283)، ورواه الترمذي (5/ حـ 2868)، والنسائي (1/ حـ 461)، وأحمد في مسنده (2/ 379).

(2)

رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2144).

(3)

صحيح مسلم (برقم: 668).

(4)

صحيح مسلم (203/ 1)(برقم: 223).

(5)

سنن ابن ماجه (برقم: 773)، وصححه الألباني.

ص: 512

الصبح، فهو في ذمَّة الله، فلا يطلبنَّكم الله من ذمَّتِه بشيءٍ؛ فإنه مَن يطلبه من ذمته بشيءٍ يُدرِكه، ثم يكبُّه على وجهه في نار جهنم»

(1)

.

‌خامسًا- من حافظ على الصلاة فجزاؤه الجنة:

- عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ الله على الْعِبَادِ فَمَنْ جاء بِهِنَّ لم يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شيئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ؛ كان له عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ»

(2)

.

فإن منافع الصلاة وآثارها الحميدة عظيمة وكثيرة وجليلة وأكثر من أن يحصيها مقال، فبينت أَجَلَّهَا، اختصارًا وخوفًا من الإطالة، ولعل في ذلك كفاية، والحمد لله رب العالمين.

‌ثالثًا: الأمر بالإنابة ولزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين:

ويحتوي على ما يلي:

‌أولًا: تعريف الإنابة

.

ثانيًا: بيان أهل التفسير حول آية لقمان.

ثالثًا: وجوب لزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين.

أولاً-تعريف الإنابة:

‌أ-الإنابة لغة:

تدور مادة: (ن و ب) حول الرجوع.

(1)

رواه مسلم (برقم: 657).

(2)

المسند (جـ 5)(ص 315)(برقم: 22745)، وسنن النسائي (جـ 1 ص 230) (برقم: 461)، وأبو داود (جـ 2 ص 62) (برقم: 1420)، وصححه ابن حبان (جـ 5)(ص 23)(برقم 1732)، والألباني في صحيح الجامع (5554) وغيره.

ص: 513

- يقول ابن فارس: «النون والواو والباء» كلمة واحدة تدل على اعتياد مكان ورجوعٍ إليه»

(1)

.

تقول: أناب فلان إلى الشيء، رجع إليه مرة بعد أخرى، وإلى الله تاب ورجع

(2)

.

وقال الراغب: «الإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل»

(3)

.

وفي التنزيل العزيز: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 31] أي: راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شيء من أمره، وقوله عز وجل:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] أي: توبوا إليه وارجعوا.

وقال ابن الأثير: «يقال: أناب ينيب إنابة فهو منيب، إذا أقبل ورجع، وفي حديث الدعاء «وإليك أنبت»

(4)

.

‌ب-الإنابة شرعًا:

إخراج القلب من ظلمات الشبهات، وقيل: الإنابة الرجوع من الكل إلى من له الكل، وقيل: الإنابة الرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأُنْس.

وقال أبو البقاء الكفوي: «الإنابة: الرجوع عن كل شيء إلى الله تعالى»

(5)

.

(1)

مقاييس اللغة (5/ 367).

(2)

المعجم الوسيط (2/ 961).

(3)

المفردات: (نوب)(529).

(4)

النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 123).

(5)

الكليات (308).

ص: 514

ويقول ابن القيم: «الإنابة: الإسراع إلى مرضاة الله، مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له»

(1)

.

ويقول ابن القيم أيضًا: «قال صاحب المنازل: الإنابة في اللغة: الرجوع، وهي ههنا الرجوع إلى الحق وهي ثلاثة أشياء: الرجوع إلى الحق إصلاحًا كما رجع إليه اعتذارًا، والرجوع إليه وفاءً كما رجع إليه عهدًا، والرجوع إليه حالًا كما رجعت إليه إجابة، لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته كان من تتمة ذلك: رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته»

(2)

.

قال تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].

بعد أن تجلى لنا معنى الإنابة لغة وشرعًا، نتحول إلى بيان أهل التفسير لدلالة الآية الكريمة.

‌ثانيًا- بيان أهل التفسير حول آية لقمان:

يقول الطبري: «وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] يَقُولُ: وَاسْلُكْ طَرِيقَ مَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَاتَّبَعَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.

- قال قَتَادَةَ: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] أَيْ: مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ.

وَقَوْله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15] فَإِنَّ إِلَيَّ مَصِيرَكُمْ وَمَعَادَكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، فَأُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَعْمَلُونَ مِنْ

(1)

مدارج السالكين (1/ 467) بتصرف (21).

(2)

مدارج السالكين (1/ 434 - 435).

ص: 515

خَيْرٍ وَشَرٍّ، ثُمَّ أُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ»

(1)

.

يقول الإمام البغوي رحمه الله: «{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] أي: دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه»

(2)

.

ويقول أبو حيان:» {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] أَيْ: رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ سَبِيلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

ويقول السيوطي: «{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] قَالَ: مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ.

وأخرج ابن المنذر، عن ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] قَالَ: مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

ويقول ابن عاشور: «واتباع سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي: الراجعين إليه»

(5)

.

ولقد جاءت تلك الوصية بالإنابة بعد تمام ما سبقها من الوصية بنبذ الشرك والوصية بالوالدين وعدم طاعتهما في معصية الله ولا سيما في الشرك لتدلل على أن تلك الوصايا توجب إخلاص العمل لله، وأن الوصية بالإنابة تدلل على

(1)

الطبري (20/ 140).

(2)

معالم التنزيل (6/ 288).

(3)

البحر المحيط (7/ 187).

(4)

الدر المنثور (11/ 649).

(5)

التحرير والتنوير (162).

ص: 516

إيجاب اتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه الكرام رضي الله عنهم ومنهج من سلك سبيلهم من سائر المنيبين.

‌ثالثًا - وجوب لزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين:

وفي قوله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] دلالة على الأمر بوجوب لزوم جماعة المسلمين وعدم شق عصا الطاعة بالخروج عن تلك الجماعة، ومن ثَمَّ لزوم تربية الأبناء على منهج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] وَالْأُمَّةُ مُنِيبَةٌ إلَى اللَّهِ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهَا»

(1)

.

يقول ابن القيم رحمه الله: «قال تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] وكل من الصحابة منيب إلى الله فيجب اتباع سبيله وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله، والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى أن الله قد هداهم وقد قال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]»

(2)

.

وقد رضي الله عن الصحابة وعن الذين اتبعوهم بإحسان.

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].

(1)

مجموع الفتاوى (19/ 177 - 178).

(2)

إعلام الموقعين (4/ 120).

ص: 517

- ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله بأسانيده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، قال:«الجماعة»

(1)

.

وفي بيان مفهوم الجماعة يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: «أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه»

(2)

.

‌وسموا بالطائفة المنصورة:

وهو مأخوذ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في أحاديث عدة، منها: ما رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرُّهم من خذلهم، أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»

(3)

.

فكل من تمسك بالأصول الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع وسار على نهج السلف الصالح عقيدة ومنهاجًا وشريعة فهو من أهل السنة والجماعة كائنًا من كان.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: «من قال بما تقول به جماعة المسلمين؛ فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم، التي أُمِرَ بلزومها»

(4)

.

(1)

الطبري (7/ 71).

(2)

ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، بيروت، (1401 هـ)(3/ 434).

(3)

مسلم في صحيحه (3/ 1524)(برقم: 1037).

(4)

الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة، (1358 هـ/ 1939 م)(ص 475).

ص: 518

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع، كان من أهل السنة والجماعة»

(1)

.

‌ومن أبرز مسميات أهل السنة الصحيحة التي أطلقت عليها:

1 -

أهل السنة والجماعة.

2 -

السلف الصالح.

3 -

الفرقة الناجية.

4 -

أهل الحديث والسنة.

5 -

أهل الأثر.

6 -

الطائفة المنصورة.

‌وختامًا:

فإن مما يجب أن تُربَى عليه الأجيالُ المسلمة، وتُنشأ عليه الناشئة، هو منهج أهل السنة والجماعة، واتباع منهج السلف الصالح عقيدة ومنهاجًا، شريعة وأخلاقًا، ولا شك أن الوصية باتباع سبيل المنيبين في قوله تعالى:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] ضمن عموم وصايا لقمان التربوية فيه دلالة على وجوب العناية بهذا المنهج الأصيل ووضعه في أوليات مناهج التربية السديدة للأجيال المسلمة على مرّ العصور والأزمان.

وفي هذا كفاية.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى (3/ 346).

ص: 519

‌رابعًا- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترغيب في الصبر على ذلك:

قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

‌أولاً: مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

‌أ- المعروف في اللغة:

- قال ابن منظور: «المعروف: الجود، وقيل: اسم لما تبذله وتسديه.

- قال الزجاج: المعروف ما يستحسن من الأفعال»

(1)

.

والمعروف مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه، وتسكن إليه النفس، قال الله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، والمعروف ضد المنكر، والعرف ضد النكر، والعارِفُ والعَروفُ الصبور، ويطلق المعروف على الوجه لأن الإنسان يعرف به، كما يطلق على الجود وقيل: هو اسم ما تبذله وتسديه

(2)

.

‌ب-المعروف في الاصطلاح:

اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات

(3)

.

(1)

لسان العرب (جـ 4)(ص 2899 - 2900).

(2)

الجوهري، الصحاح (4/ 1401)، وابن منظور، لسان العرب (9/ 236 - 243)، والفيروز آبادي، القاموس المحيط (3/ 173)، وإبراهيم أنيس ورفاقه، المعجم الوسيط (ص 595).

(3)

ابن منظور، لسان العرب (9/ 240).

ص: 520

‌ج-المنكر لغة:

اسم لما تنكره النفوس وتشمئز منه ولا تعرفه، والمنكر من الأمر: خلاف المعروف.

قال تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]، أي: أقبح الأصوات

(1)

.

المنكر: هو واحد المَناَكِر، وهو النكر، قال تعالى:{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74]، والنَكِير والإنْكارُ: تغيير المنكر، والإنكارُ: الجحود، والتناكرُ: التجاهل

(2)

.

‌د-والمنكر في الاصطلاح:

كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه

(3)

.

وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة من أَجَلِّ وأعظم وأهم المهمات، وعبادة وطاعة من أفضل الطاعات، وقربى من أعظم وأعز القربات، وبالقيام بها ينال العبد رضا الله، ويتجافى عن شديد سخطه وأليم عقابه سبحانه. اهـ.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، وتظهر أعلام الشريعة، وتفشو أحكام الإسلام، وبارتفاع سهمه يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل

(1)

لسان العرب (جـ 6)(من 4539).

(2)

الجوهري، الصحاح (2/ 837)، وابن منظور، لسان العرب (5/ 232 - 234).

(3)

ابن منظور، لسان العرب (5/ 233).

ص: 521

والفجور، ويورث القوة والعزة في المؤمنين، ويذل أهل المعاصي والأهواء، وترغم أنوف المنافقين

(1)

.

وبهذه الفريضة تقام الملة والشريعة ويحفظ الدين ويعلو الحق وينتشر العدل ويرفع الجور والظلم بين العباد، فتزول كل عوامل الشّرّ والفساد وتثبّت كل معاني الخير والصّلاح في الأمّة، ويبعث الإحساس بمعنى الإخوة والتكامل بين المؤمنين، فيُشد ظهر المؤمنين وتقوى عزائمهم وتُرغم أنوف المنافقين وتضعف معنوياتهم، ويُمَّكن لهذه الأمة في الأرض وتنتصر على أعدائها، ويُدفع عنها العقوبات وتنجو من عذاب الله، وينتفع الخلق وتقام الحجة عليهم، وتستنزل الرحمة من الله تعالى، وتصلح حياة الأمة بجميع جوانبها

(2)

.

‌أولاً- تربية الأبناء وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن تربية الأبناء لا بد أن تكون كاملة الأركان شاملة كل جوانب التربية، وهذا ما عناه لقمان في موعظته لولده، فبعد أن أسس فيه أعظم الجوانب ألا وهو جانب التوحيد وهو حق الخالق سبحانه وهو أعظم الحقوق، جاءت الوصية بأعظم الحقوق بعد حق الله ألا وهي الوصية بالوالدين، ثم جاءت بعد ذلك الوصية بمراقبة الله حتى يعظم الله في قلبه وتتحقق خشيته والخوف منه سبحانه، ثم تلتها الوصية ببيان سعة علمه سبحانه واطلاعه على خلقه ليكتمل البنيان، وبعد ذلك تهيأ لأن يعبد الله حق عبادته فجاء الأمر بالصلاة، ثم ينتقل لقمان في

(1)

ينظر: شعاع من المحراب (1/ 57) د/ سليمان بن حمد العودة.

(2)

حكمة الشارع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قُدم لندوة تقوية الإيمان وزيادته (الدورة السابعة) المنعقدة بجامعة الإيمان بتاريخ 6 - 8/ جماد أولى/ 1431 هـ، الموافق 20 - 22/ إبريل/ 2010 م. (ص 28).

ص: 522

موعظته لابنه من عبوديته للخالق بإقام الصلاة إلى عبوديته سبحانه مع الخلق، فيوصيه بمخالطتهم ودعوتهم والصبر على ما يناله من أذى بسبب ذلك في ذات الله سبحانه، والسعيِ إلى التأثير في نفوسهم، بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ودعوتهم إلى الله تعالى؛ وتلك الرسالة العظيمة من عزائم الأمور وهي من المهام العظيمة التي أُنيطت بالرسل الكرام عليهم السلام، الذين خالطوا الناس وصبروا على الأذى في ذات الله ومن أجل إبلاغ الحق للخلق، فلم يعكفوا على عبادة ربهم متبتلين في صوامعهم، ولم يعيشوا في عزلة عن مجتمعاتهم، مخلفين وراءهم أعظم مهمة وأَجَلَّ رسالة، فلهم فيهم أسوة حسنة، بلاغًا وصبرًا واحتسابًا.

وبعد أن صلحت نفسه واكتملت بالفضائل تهيأت لأن تصلح غيرها وأن يكون الابن داعيًا إلى الله آمرًا بالمعروف مؤتمرًا به وناهيًا عن المنكر منتهيًا عنه، فجاءت الوصية به.

ويؤكد هذا المعنى الرازي فيقول: «{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] أي: إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا أنفسهم ويكملوا غيرهم»

(1)

.

‌ثانيًا: بيان مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين

.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من أوجب فرائض الدين، وشعيرة من أعظم شعائره، ولذا ضمه لقمان ضمن وصاياه الخالدة لولده.

وإن مما حازت به هذه الأمة الخيرية بين الأمم قيامها بهذه الشعيرة العظيمة،

(1)

الرازي (131).

ص: 523

ولعظم مكانتها فقد قرنها الله بالإيمان به سبحانه، كما قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

يقول رشيد رضا: «فعلم أنَّ خيرية الأمة وفضلها على غيرها تكون بهذه الأمور: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى»

(1)

.

ويقول الإمام القرطبي: «هذه الآية مدح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ويظل هذا معها ما أقاموا ذلك، فإذا تركوا ذلك التغيير زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببًا لهلاكهم؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو شرط الخيرية»

(2)

.

ويقول ابن كثير: «فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح، كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها، رأى من الناس سرعة، فقرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ثم قال: من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله فيها»

(3)

.

ولما كانت خيرية هذه الأمة منوطة بالقيام بهذا الواجب الشرعي، فقد أوجب الله عليهم نشر هذا الخير، وبذله للغير، ودعوة الناس إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بهذا الواجب العظيم على أتم وجه، حتى تحافظ

(1)

تفسير المنار (4/ 47).

(2)

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (جـ 4)(ص 173).

(3)

تفسير القرآن العظيم (2/ 103).

ص: 524

الأمة على هذا الفضل الذي حباها الله إياه

(1)

.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه مصالح عظيمة لا تخفى، ومن أَجَلِّهَا، حصول الفلاح لأهل هذه الشعيرة العظيمة، مع كونهم قائمين بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

يقول الشوكاني: «في الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت في الكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها»

(2)

.

‌ثالثًا: بيان مكانة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وعلو شأن أهل هذه الشعيرة

.

قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

قال ابن سعدي: «وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله، وإرشاد الخلق إلى دينه .. وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين؛

(1)

حكمة الشارع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مرجع سابق- (ص 13) بتصرف يسير.

(2)

فتح القدير (1/ 368).

ص: 525

ولهذا قال -تعالى- عنهم: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [لقمان: 5] الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب»

(1)

.

ولقد وصف سبحانه أهل النفاق في كتابه بأنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].

فمن اتصف بتلك الصفات شمله وصف النفاق والفسق والعياذ بالله.

بينما وصف سبحانه أهل الإيمان في كتابه بأنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].

قال ابن كثير: «أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات»

(2)

.

فمن قام بحق هذه الشعيرة واتصف بتلك الصفات شمله الكريم برحمته.

والجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحدًا.

قال القرطبي: «فجعل -تعالى- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»

(3)

.

فلما عظموا أمره وأمر دينه وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، جعلهم الله

(1)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (142).

(2)

تفسير ابن كثير (4/ 175).

(3)

الجامع لأحكام القرآن (4/ 49).

ص: 526

أهلًا للتمكين في الأرض، فكيف لا يعلو شأنُهم وتعلو منزلتُهم ومكانتُهم وقد قاموا بهذا الواجب العظيم؟! كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

‌رابعًا: أخص صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:

والقائم بهذه الشعيرة العظيمة لا بد أن يكون:

‌أولاً: عالمًا بما يأمر به، عالمًا بما ينهى عنه:

ولزامًا «على من يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالمًا بما يأمر به وعالمًا بما ينهى عنه»

(1)

.

وفي ذلك يقول ابن سعدي: «{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه، والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به، من الرفق، والصبر»

(2)

.

ولا شك في أن لقمان قصد هذا المعنى، بدلالة تقديم الوصية بالتوحيد والوصية بالوالدين وغيرها على هذه الشعيرة العظيمة كما هو ظاهر من السياق، والله أعلم.

‌ثانيًا: أن يكون مؤتمرًا بما يأمر به، منتهيًا عما ينهى عنه:

ولقد ذم سبحانه وتعالى مَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وخالف فعلُهُ قولَهُ،

(1)

مختصر منهاج القاصدين (ص 164).

(2)

ابن سعدي (6/ 1353).

ص: 527

وفي نحو ذلك يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3].

- ويقول سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

- وقال سبحانه عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «أي: لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به»

(1)

.

‌ثالثًا: أن يكون الآمر والناهي صبورًا:

لأن الأمر والنهي مظنة عاقبته الابتلاء، فجات وصية لقمان الحكيم لولده بالصبر عقب وصيته بالأمر والنهي فقال له:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].

قال الطبري: «{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] يقول: واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف، ونهيتهم عن المنكر، ولا يصدّنك عن ذلك ما نالك منهم {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17] يقول: إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزمًا منه»

(2)

.

ويؤكد نفس المعنى تأخير التواصي بالصبر عن التواصي بالحق في سورة العصر، والله أعلم.

(1)

الجامع لأحكام القرآن (جـ 9)(ص 89).

(2)

الطبري (20/ 143).

ص: 528

ويقول ابن كثير: «{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا بد أن يناله من الناس أذى، فأمره بالصبر.

وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17] أي: إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور»

(1)

.

ويقول ابن سعدي: «ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس، أمره بالصبر على ذلك؛ فقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ} [لقمان: 17] الذي وعظ به لقمان ابنه {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17] أي: من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم»

(2)

.

كما وصى الله بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} [المزمل: 10].

ويبيِّن شيخ الإسلام ابن تيمية جملة من الصفات التي يجب أن يتصف بها القائم بهذه الشعيرة وأن يتحقق بها ويصطحبها فيقول: «لا بد من العلم والرفق والصبر، فالعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده»

(3)

.

‌رابعًا: ولا بد أن يكون رفيقًا فيما يأمر به رفيقًا فيما ينهى عنه:

وفي نحو ذلك جاءت وصيته تعالى لموسى وهارون عليه السلام فقال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43 - 44].

(1)

ابن كثير (6/ 339).

(2)

ابن سعدي (6/ 1353).

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية (جـ 28)(من ص 134 إلى ص 137).

ص: 529

هذا مع ما جمع فرعون من صنوف الشرّ كله: من ادعاء الألوهية والربوبية، والعلو في الأرض، والصد عن سبيل الله، والتكبر والتجبر، والفساد والإفساد فيها، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء، واستحياء النساء.

وقال الله تعالى أيضًا مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، ثم أوصى صلى الله عليه وسلم أمته بذلك فقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»

(1)

، ولا شك أن لنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.

- ويؤكد سفيان الثوري رحمه الله أيضًا على جملة من خصال القائم بتلك الشعيرة العظيمة فيقول: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى»

(2)

.

ولا ريب أن استعمال تلك الخصال له العواقب الحميدة والآثار الطيبة على الداعي والمدعو والدعوة نفسها على حدٍّ سواء.

ويقول سبحانه ممتنًا على نبيه صلى الله عليه وسلم أيضًا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].

(1)

مسلم (2539).

(2)

جامع العلوم والحكم (جـ 3)(ص 963). (59)

ص: 530

هذا كله مع وجوب التحلي بالإخلاص وحسن القصد، ولم يفرد الباحث الكلام عن الإخلاص مع أهميته ومكانته، لأنه شرط صحة في قبول جميع الأعمال.

قال ابن القيم: «لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولًا فاذبحه بسكين اليأْس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص»

(1)

.

‌أعظم مأمور به وأعظم منهي عنه:

وأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، والدليل قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]

(2)

.

- ويقول سعيد بن جبير: في قوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان: 17]«يعني: التوحيد. {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] يعني: الشرك»

(3)

.

ومما ورد في دعاء عمر بن عبد العزيز عند موته قوله: «اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو

(1)

الفوائد (1/ 149).

(2)

وينظر: ثلاثة الأصول (ص 42).

(3)

الدر المنثور للسيوطي (11/ 651).

ص: 531

الكفر، فاغفر لي ما بينهما»

(1)

.

والقيام بهذه الشعيرة العظيمة يترتب عليه فعل الخير العميم، والنفع العظيم للأمة أفرادًا وجماعات، وتتحقق للأمة خيريتها الموعودة، وينال أهلها الفلاح، ويتحقق لهم كمال الإيمان وعلو الدرجات، وإجابة الدعوات، كما يتحقق لها كمال التأسي بالنبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين، الذين قاموا بهذا الواجب العظيم، وتسلم من الوعيد والعقاب المترتب على إهمال هذا الجانب العظيم، وتتربى الأجيال المسلمة على تعظيم الشريعة بالقيام بحق هذه الشعيرة.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

ابن الجوزي، سيرة عمر بن عبد العزيز (ص 242).

ص: 532

‌المطلب الثالث

الجانب الأخلاقي

ويشتمل على:

1 -

التحذير من الكبر والتعالي.

2 -

الأمر بالوقار وترك الخيلاء.

3 -

الأمر بالقصد في المشي تواضعًا.

4 -

الأمر بخفض الصوت والاعتدال في ذلك.

‌أولاً: بيان مفهوم الأخلاق:

أ- مفهوم الأخلاق لغة:

قال الفيروز آبادي: «الخُلق: بالضمِّ، وبضمتين: السجية والطَّبع، والمروءة والدين»

(1)

.

ب-مفهوم الأخلاق اصطلاحًا:

- قال الماوردي: «هي غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتقهر بالاضطرار»

(2)

.

(1)

القاموس المحيط، الفيروز آبادي (ص 793) دار الفكر- بيروت.

(2)

تسهيل النظر وتعجيل الظفر (ص 5).

ص: 533

‌ثانيًا: مكانة الأخلاق في الإسلام:

لقد عُنيَت شريعة الإسلام بالجانب الأخلاقي وأولته عناية كبرى، ولقد تبوأت الأخلاق مكانة سامية ورفيعة في كتاب الله، وكان حامل مشعل الهداية صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس أخلاقًا، ولقد تمثل أخلاق القرآن، كما أخبرت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ سعد بن هشام: سألها عن خُلق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فوصفت خُلُقَه بوصف جامع، فقالتْ:«أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: «فإنَّ خلقَ نبيِّ الله كان القُرآن»

(1)

.

قال ابن كثير: «صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سَجِيَّة له وخُلُقًا تطبَّعَهُ، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمرَه القرآن فعله، ومهْما نهاه عنه تركه»

(2)

.

وحسبنا في ذلك ثناء ربه عليه في محكم كتابه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].

ولقد بلغ من عِظَم مكانة الأخلاق في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنَّه حصر حقيقة بعثته، والغاية المهمة من رسالته و دعوته، في تقويم الأخلاق وإتمام مكارمها وإكمال محاسنها.

وكأني بمكارم الأخلاق صرحًا شامخ البنيان مكتمل الأركان شيده النبيون والمرسلون عليهم السلام، وَبُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليتم هذا الصرح، فيكتمل بنيانه المرصوص ببعثته صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه مسلم (برقم: 746)، وأحمد في المسند (6/ 54، 91، 111، 163، 188، 216)، وأبو داود (برقم: 1342)، وابن ماجه (برقم: 2333)، والنسائي (3/ 199).

(2)

تفسير ابن كثير (جـ 4)(ص 403).

ص: 534

يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «إنما بعثت لأتمم مكارم -في رواية: أبي صالح- الأخلاق»

(1)

.

قال المناوي: ««إنما بُعِثت» أي: أُرسلت «لأتمم» أي: لأكمل «الأخلاق» بعد ما كانت ناقصة، وأجمعها بعد ما كانت متفرقة»

(2)

.

ولذلك حرص الإسلام على غرس تلك الأخلاق ومكارمها وفضائلها في نفوس أتباعه، وحثهم على التمسك بها ورغبهم فيها.

ولقد كانت بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تزكية تلك النفوس وتطهيرها وتعليمها، كما

(1)

إنما بعثت لأتمم مكارم (و في رواية صالح) الأخلاق).

قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 75): رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم: 273)، و ابن سعد في الطبقات (1/ 192 (1/ 192)، والحاكم (2/ 613)، وأحمد (2/ 318)، و ابن عساكر تاريخ دمشق (6/ 267/ 1) من طريق ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا. وهذا إسناد حسن.

وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي، و ابن عجلان إنما أخرج له مسلم مقرونًا بغيره.

وله شاهد: أخرجه ابن وهب في الجامع (ص 75)، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم مرفوعًا به.

وهذا مرسل حسن الإسناد، فالحديث صحيح. وقد رواه مالك في الموطأ (8/ 904/ 2) بلاغًا.

وقال ابن عبد البر: هو حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره.

وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي، و ابن عجلان إنما أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، و هذا إسناد حسن.

(2)

فيض القدير بشرح الجامع الصغير (2/ 710).

ص: 535

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].

وكما قال سبحانه أيضًا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} [البقرة: 151].

وإن المتأمل في القرآن المجيد والمتدبر لآياته يجد أن العناية بالجانب الأخلاقي ظهر جليًّا واضحًا بين ثنايا آياته، كما يجد قواعد هذا الجانب وأسسه والتوجيه إلى سجاياه ومحامده في كل أوامره ونواهيه وقصصه وأخباره ظاهرة وجلية أيضًا، ومن جملة هذه الأخلاق الفاضلة ما جاء في وصف وصايا لقمان للجانب الأخلاقي لولده وهو يعظه، وهو موضوع بحثنا هنا.

‌ثالثًا: الجانب الأخلاقي في وصايا لقمان:

قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 18 - 19].

الوصية الأولى من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي:

‌1 - التحذير من الكبر والتعالي:

قوله سبحانه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18]، هذه هي الوصية الأولى من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي، فبعد تأسيس الجانب العقدي والجانب التعبدي جاءت الوصية بالجانب الأخلاقي كالحلية لتلك الجوانب جميعًا.

ص: 536

فبعد تلك الوصايا جميعًا يأمر لقمان ابنه بالتواضع وينهاه عن صفة الكبر والتعالي على الناس، فكيف يدعوهم وهو متكبر عليهم، فالكبر مذموم على كل حال ومن كل أحد، فكيف بمن يدعو ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمن يفعل ذلك لا يجد قبولًا لدعوته عند الناس، ولا أثرًا لتعليمه في نفوسهم، ولا ثمرة مرجوة ولا صدى فعالًا لأمره ونهيه، وقد سبق في موعظة لقمان قوله:{إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17]؛ لأن هذا الأمر من مهام النبيين والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فالتعبير بـ (عزم الأمور) فيه معنى التشبه بأولي العزم، ولا شك أن التشبه بالكرام فلاح.

يقول البقاعي في ذلك: «الْمَطْلُوبُ فِي الْأَمْر والنهي اللينُ لا الْفَظَاظَةُ وَالْغِلْظَةُ الْحَامِلَانِ عَلَى النُّفُور»

(1)

.

والكبر كما يقول الغزالي هو: «استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير»

(2)

.

ومِن علامات الكِبْر والتعالي على الناس: تصْعِيرُ الخدِّ احتقارًا وتنقصًا لهم.

ويجلي الطبري هذا المعنى فيقول: «وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَمَّنْ كَلَّمْتَهُ تَكَبُّرًا وَاسْتِحْقَارًا لِمَنْ تُكَلِّمُهُ، وَأَصْلُ (الصُّعْرِ) دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤوسِهَا حَتَّى تَلْفِتَ أَعْنَاقَهَا عَنْ رُؤوسِهَا، فَيُشَبَّهُ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ عَلَى النَّاسِ

(3)

.

(1)

نظم الدرر (15/ 177).

(2)

إحياء علوم الدين (جـ 3)(ص 40).

(3)

الطبري (20/ 144).

ص: 537

وتصعير الوجه: فيه معنى الصدود والإعراض، كما يقول مجاهد:{وَلَا تُصَعِّرْ} [لقمان: 18] قَالَ: الصُّدُودُ وَالْإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ عَنِ النَّاسِ»

(1)

.

ولقمان يعلم ولده أدب التعامل مع الناس فينهاه عن احتقارهم وازدرائهم والإعراض عنهم، لأنه واحد منهم، فمن السفه أن يستخف بهم ويترفع عنهم بالإعراض ولَيِّ العنق تكبرًا وصدودًا.

وجاء في البُخاريِّ: «لا تُصعِّر: الإعراض بالوجه»

(2)

.

والإعراض بالوجه ليس من مكارم الأخلاق.

فدفعًا لكل المفاسد الأخلاقية من الكبر والتعالي، نهى لقمان ولده عن مخاطبة الناس وهو معرض ويؤكد هذ المعنى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فيقول:«{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] لَا تَكَلَّمْ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ» .

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، وَأَبِي الْجَوْزَاءِ، وَسَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ

(3)

.

وقد يكون الإعراض سببه الحقد والضغينة فيحمله على الكبر والتعالي، كما قال مُجَاهِدٌ:«{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] قَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْحِنَةَ، فَيَرَاهُ فَيُعْرِضُ عَنْهُ»

(4)

.

(1)

الطبري (20/ 145)

(2)

صحيح البخاري (2: 466).

(3)

ابن كثير (6/ 339).

(4)

الطبري (20/ 145).

ص: 538

ولا شك أن نهي لقمان ولده عن الإعراض عن الناس، دفعًا للتكبر وحثًّا له على التمسك بمحاسن الأخلاق والتواضع للخلق بالإقبال عليهم بوجه طليق، وجانب لين، ووجه منبسط، وفي هذا المعنى يَقُولُ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ عَنِ النَّاسِ، يَقُولُ: أَقْبِلْ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ

(1)

.

ويؤكد ابن كثير نفس المعنى فيقول أيضًا: «وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَلِنْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ وَجْهَكَ.

وتصعير الوجه عن الناس مع ما فيه من معنى التكبر، هو الحامل والداعي إلى احتقار الناس وازدرائهم، وهذا المعنى يجليه قول ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] يَقُولُ: لَا تَتَكَبَّرْ فَتَحْقِرَ عِبَادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ»

(2)

.

وفي ختام معنى الآية يورد القرطبي كلامًا نفيسًا فيقول: «{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا تُمِلْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ كِبْرًا عَلَيْهِمْ وَإِعْجَابًا وَاحْتِقَارًا لَهُمْ. وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ تَلْوِيَ شِدْقَكَ إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ عِنْدَكَ كَأَنَّكَ تَحْتَقِرُهُ; فَالْمَعْنَى: أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا، وَإِذَا حَدَّثَكَ أَصْغَرُهُمْ فَأَصْغِ إِلَيْهِ حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ

(1)

الطبري (20/ 145).

(2)

ابن كثير (6/ 339).

ص: 539

-صلى الله عليه وسلم يَفْعَل»

(1)

.

ويبين النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مصير المتكبر والمتعالي على الناس فيقول: «لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ»

(2)

.

ولماذا لا يدخل المتكبر الجنة؟ لانتفاء حقيقة الذل والخضوع والانكسار لله عنه، وهذه هي أعظم وأَجَلُّ مشاهد العبودية الحقة لله تعالى، وفي مثل ذلك يقول ابن تيمية: الكبر ينافي حقيقة العبوديَّة، كما ثبت في «الصَّحيح»: عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذَّبته»

(3)

.

فالعظمة والكبرياء من خصائص الرُّبوبيَّة، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرِّداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار

(4)

.

الوصية الثانية من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي:

‌2 - الأمر بالوقار وترك الخيلاء:

قوله سبحانه: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18].

(1)

القرطبي (14/ 66).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 93)(رقم: 91)، وأبو داود (4/ 59) (رقم: 4091)، والترمذي (4/ 360)، (رقم: 1998) وقال: «حسن صحيح» ، وابن ماجه (1/ 22) (رقم: 59)،

وأخرجه أيضًا: البزار (4/ 323)(رقم: 1512)، وأبو يعلى (8/ 476) (رقم: 5065)، والشاشي (2/ 309) (رقم: 889)، وابن حبان (1/ 460) (رقم: 224)، والطبراني (10/ 75) (رقم: 10000)، وابن منده في الإيمان (2/ 611) (رقم: 542).

(3)

مسلم (4759).

(4)

العبودية (99).

ص: 540

قال الراغب: «المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة»

(1)

.

يعاود لقمان الوصية لولده بالبعد عن صفة أخرى من صفات التكبُّر والخيلاء ألا وهي المشْي في الأرض مرَحًا وخُيَلاءً وإعجابًا بالنفس.

والمشي في الأرض مرحًا هو: المشي بشدة وطءٍ على الأرض، ولا شك أن هذه الشدة فيها مقصود الكبر، وقد مضى معنا بيان معنى المشي أنه بإرادة. والماشي في الأرض مرحًا هو الماشي في تخايل وتكبر، يطأ الأرض بشدة متعمدًا الكبر وقاصدًا له بإرادته، وذلك ليترفع ببدنه علوًّا واستطالة على الخلق، وغرورًا وإعجابًا بالنفس، وتكبرًا عليهم وازدراءً لهم، ولاريب أن كل ذلك من عمل الشيطان، ولقد حثنا ديننا الحنيف على التواضع وأمرنا بالخضوع لله رب العالمين، لأن هذا الرب العظيم حرّم على عباده الكبر، والتعاظم والتعالي والاستعلاء في الأرض، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ»

(2)

.

والتواضع لعباد الله يكون عبودية لله وتزلفًا وتقربًا لديه سبحانه، ولذلك كان من صفات عباد الرحمن أنهم:{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].

قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «هونًا: حال أو صفة للمشي بمعنى: هينين، أو مشيًا هينًا، والهون: الرفق واللين، والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع»

(3)

.

(1)

مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني (2/ 377).

(2)

رواه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.

(3)

تفسير الكشاف (3/ 283).

ص: 541

وفي وصف أهل الإيمان أنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].

قال ابن كثير: «وقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] أي: جذلًا متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك يبغضك الله»

(1)

.

قال القرطبي: «{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] أَيْ: مُتَبَخْتِرًا مُتَكَبِّرًا، وَهُوَ النَّشَاطُ وَالْمَشْيُ فَرَحًا فِي غَيْرِ شُغْلٍ وَفِي غَيْرِ حَاجَةٍ. وَأَهْلُ هَذَا الْخُلُقِ مُلَازِمُونَ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ; فَالْمَرِحُ مُخْتَالٌ فِي مِشْيَتِهِ»

(2)

.

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18].

قال ابن سعدي: «أي: بطرًا، فخرًا بالنعم، ناسيًا المنعم معجبًا بنفسك»

(3)

، ولقمان كأنه أراد أن يلفت نظر ولده إلى أن الأرض التي تمشي عليها من ترابها قد خُلِقْتَ، ومصيرك إليها، فعلامَ يكون المشي مرحًا والتطاول عليها.

ويعبر البقاعي عن هذا المعنى فيقول: «ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر، ذكره بأن أصله تراب، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال: (في الأرض)، وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال: (مرحًا) أي: اختيالًا وتبخترًا، أي: لا تكن منك هذه الحقيقة؛ لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي، بل امش هونًا فإن ذلك يفضي بك إلى التواضع، فتصل إلى كل خير، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها»

(4)

.

(1)

ابن كثير (6/ 339).

(2)

القرطبي (14/ 66).

(3)

ابن سعدي (6/ 1353).

(4)

نظم الدرر (15/ 177).

ص: 542

ويقول الشوكاني: «{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] أَيْ: خُيَلَاءَ وَفَرَحًا، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ، وَالْمُخْتَالُ يَمْرَحُ فِي مَشْيِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ»

(1)

.

ومثله قول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].

يقول ابن كثير: «هذه صفات عباد الله المؤمنين: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]. أي: بسكينة ووقار من غير جبريَّة ولا استكبار، كما قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]»

(2)

.

لقد تضمنت هذه الآية (آية الإسراء) النهي عن مشية المرح والتكبر، لما اتصف فاعلها بالتطاول والتعالي، ودك للأرض تطاولًا واستعلاء على الخلق، وهذه المشية يبغضها الله ويمقت صاحبها؛ لأنها مشية المتجبرين والمتكبرين والمتعالين الذين يحتقرون الناس.

يبين ذلك ويوضحه قول القرطبي: «{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح، وقيل: التكبر في المشي، وقيل: تجاوز الإنسان قدره، وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي، وقيل: هو البطر والأشر، وقيل: هو النشاط، وهذه الأقوال متقاربة»

(3)

.

وما ذكره القرطبي حول معنى المرح، معانيه متقاربة ومتشابهة، وقد تجتمع

(1)

الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).

(2)

ابن كثير (6/ 121/ 122).

(3)

القرطبي (10/ 235).

ص: 543

كلها في آن واحد، فالمَرِح في مشيه- يمشي في زهو وخيلاء تصحبه حالة من البطر والأشر في قوة ونشاط، قاصدًا بذلك التكبر والتعالي على الناس.

ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «لن تجعل فيها خرقًا بدوسك لها وشدة وطأتك بتطاولك، وهو تهكم بالمختال»

(1)

.

والمشي مرحًا يندرج تحته كل محرم يؤدي إليه.

وفي ذلك يقول العلامة الشنقيطي: «واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] على منع الرقص وتعاطيه؛ لأن فاعله ممن يمشي مرحًا»

(2)

.

و بنحو من ذلك يقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي أيضًا: «ولا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون بنعالهم أشرًا وبطرًا»

(3)

.

ولا شك أن متعاطي الرقص يفعل ذلك، ولعل كلام الشنقيطي مُستقى من فحوى كلام الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي، وذلك لأمرين:

أولًا: لتقدم الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي زمانًا.

ثانيًا: لتشابه المعنيين إن لم يتفقا على وصف من يتعاطى الرقص.

ويُختَمُ الكلامُ عن المشي في الأرض مرحًا بنفيسة من نفائس ابن عاشور

(1)

الكشاف (2/ 641).

(2)

أضواء البيان (3/ 157).

(3)

الكشاف (3/ 283).

ص: 544

حيث يقول:

وموقع قوله: (في الأرض) بعد (لا تمش) مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويهم وضعيفهم، ففي ذلك موعظة للماشي مرحًا أنه مساوٍ لسائر الناس

(1)

.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18].

إن من كمال تربية لقمان وتمام موعظته أن سعى لتوجيه ولده لخلق التواضع ونبذ أخلاق المتكبرين وصفات المتعالين، من الفخر والخيلاء والإعجاب بالنفس ومدحها وذم الآخرين، وبيان بغض الله لأهلها وذمهم وذم فعالهم، وذلك لصيانته عن هذه الأخلاق الذميمة وتلك الصفات القبيحة، حفظًا لديانته وصيانة لمروءته.

وفي ذلك يقول ابن كثير: «{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: مختال معجب في نفسه، فخور: أي على غيره»

(2)

.

والمختال هو: من يمشي مشية البطر الأشر المتكبر المترفع على الناس عمومًا وعلى أقرانه خصوصًا.

والفخور هو: الذي يذكر مناقبه ومآثره ومآثر آبائه وأجداده ومناقبهم ومحامدهم متطاولًا بذلك على سامعيه ومتفاخرًا عليهم تباهيًا بنفسه وتعظيمًا لذاته.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ

(1)

ابن عاشور (22/ 167).

(2)

ابن كثير (3/ 339).

ص: 545

يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ؛ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

(1)

.

ويقول مجاهد في ذلك: «{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18] قَالَ: مُتَكَبِّرٍ. وَقَوْلُهُ: {فَخُورٍ (18)} قَالَ: يُعَدِّدُ مَا أَعْطَى اللَّهَ، وَهُوَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ»

(2)

.

والمختال: هو المتكبر كما سلف وقد يكون اختياله بفعله، وقد يكون أيضًا بقوله وبالعكس.

وفي ذلك يقول ابن سعدي:» إن الله لا يحب كل (مختال) بقوله (فخور) في نفسه وهيئته وتعاظمه»

(3)

.

ولقد حذر لقمان ولده من الكبر وأخلاق المتكبرين، وإنما يصدر هذا من قلب أبٍ شفيق حريص على وقاية فلذة كبده وثمرة فؤاده من غضب الله وأليم عقابه، و يدلل هذا أيضًا على حكمة لقمان، وفي مثل هذا المعنى جاء تحذير النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأمته فيقول:«من تعظّم في نفسه أو اختال في مِشْيته لقي اللهَ وهو عليه غضبان»

(4)

.

(1)

رواه البخاري (3297)، ومسلم (2088).

(2)

الطبري (20/ 145).

(3)

ابن سعدي (6/ 1353).

(4)

المسند (5995)، والأدب المفرد (549)، وشُعَب الإيمان (8167)، وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 60)، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 98): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وبنحوه قال الحافظ المُنْذري في الترغيب والترهيب (4302) في باب الترغيب في التواضع، والترهيب من الكِبْر والعُجب والافتخار، وقد أورد فيه (44) حديثًا، منها هذا الحديث.

ص: 546

- وقال مجاهد في قوله تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)} [القيامة: 33]«أي: يتبختر»

(1)

.

وقد أجاد من قال:

وَلَا تَمْشِ فَوْق الْأَرْض إِلَّا تَوَاضُعًا

فَكَمْ تَحْتهَا قَوْم هُمُو مِنْك أَرْفَع

وَإِنْ كُنْت فِي عِزّ وَحِرْز وَمَنْعَة

فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْم هُمُو مِنْك أَمْنَع

(2)

.

وإنما أعقب لقمان تحذيره لولده من الكبر بقوله:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]، مبينًا له سبب نهيه عن الكبر ومحذرًا له من مغبته وسوء عاقبته.

وفي ذلك يقول الشوكاني: «وَجُمْلَةُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ.

وَالْفَخُورُ: هُوَ الَّذِي يَفْتَخِرُ عَلَى النَّاسِ بِمَا لَهُ مِنَ الْمَالِ أَوِ الشَّرَفِ أَوِ الْقُوَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْهُ التَّحَدُّثُ بِنِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]»

(3)

.

وقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} [النحل: 23].

ويوضح الألوسي معنى الفخور فيقول: «والفخور: من الفخر، وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه»

(4)

.

(1)

إحياء علوم الدين (جـ 3)(ص 340).

(2)

روضة العقلاء (ص 61).

(3)

الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).

(4)

الألوسي (11/ 89).

ص: 547

‌وختامًا:

فإن الكبر من الأمور المعضلات المهلكات وهو داء شديد، ووبال هائل عظيم، وبه هلك من هلك من خواص الأنام فضلًا عن غيرهم من العوام، وهو حاجب لصاحبه عن قبول الحق والوصول لأخلاق المؤمنين الكرام، إذ فيه إباء مانع من التواضع، وقبول الحق والإذعان له.

‌وأما حقيقة الكبر:

فهي تأتي من باب رؤية النفس والإعجاب بها، والحقد على ذوي النعم وحسدهم على نعم الله عليهم، وكذلك ازدراء الناس وتنقصهم واحتقارهم، ورد الحق وإن كان جليًّا.

‌وأما أسباب الكبر:

فتدخل على الإنسان غالبًا من باب: العلم وحب الاستعلاء بسبب تحصيله والظهور على الأقران، أو العبادة وحب المدح من أجلها، أو المكانة الاجتماعية وما يتبعها من مال أو جاه أو سلطان أو منصب أو نسب وحسب أو أيّ قوة حسّية أو معنوية، وقد يكون الكبر ناتجًا أيضًا عن الشعور بالنقص.

‌أضرار الكبر:

وللكبر أضرار على العبد بالغة كما تبين معنا سابقًا، فوجب بيان تلك الأضرار والمساوئ بشيء من التفصيل والإيضاح.

إن الكبر:

1 -

من أعظم أسباب حلول سخط الله ونقمته وغضبه على من تلبس به لأنه منازع للرب أخص صفاته سبحانه.

ص: 548

2 -

يعامل صاحبه يوم القيامة بنقيض قصده فيحشر يوم القيامة أمثال الذر ذليلًا إلى النار.

3 -

من أعظم الأسباب المؤدية إلى ردّ الحق وعدم قبوله.

4 -

من أعظم الأسباب المؤدية إلى وقوع الشحناء والبغضاء بين الناس، وبالتالي هو من أسباب نفور الناس من صاحبه وبغضهم ومعاداتهم له.

‌وأما معالجة الكبر فتكون:

‌أولاً: بمعرفة عظمة الخالق سبحانه

، وأن الكبرياء من أخص صفاته، وأن الكبرياء والعظمة لا تليق إلا به سبحانه.

فالْكِبْرُ وَالْكِبْرِيَاءُ: من الصفات الذاتية الخبرية اللازمة الثابتة بالكتاب والسنة لله تبارك وتعالى وحده دون ما سواه من خلقه

(1)

.

قالَ تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23].

والكبرياء لا يكون إلا له جل في علاه كما قال سبحانه: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 37].

(1)

الصفات الخبرية، هي الصفات الثابتة لله تعالى بالخبر كالوجه واليدين والساق ونحوها، فإن العقل لا سبيل له إلى إثباتها، ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه الصفات وغيرها من صفات الرب العظيم جل في علاه، مشهور ومعروف، وهو أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة على الحقيقة، بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، ويمرونها كما جاءت مع اعتقاد تنزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين كما أخبر جل في علاه عن نفسه في كتابه بقوله سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

ص: 549

- عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»

(1)

.

وهذا كافٍ لنزع الكبر من النفس لمن كان له أدنى بصيرة.

قال ابن القيم: «فكلما شمخت نفسُه: ذَكَر عظمة الرب تعالى، وتفرده بذلك، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأن لهيبته، وأخْبت لسلطانه، فهذا غاية التواضع، وهو يستلزم الأول من غير عكس. (أي: يستلزم التواضع لأمر الله ونهيه، وقد يتواضع لأمر الله ونهيه من لم يتواضع لعظمته).

والمتواضع حقيقة: من رزق الأمرين، والله المستعان»

(2)

.

‌ثانيًا: بتذكر الإنسان أصله وضعفه ومصيره

.

فمعرفة الإنسان أصل خلقته ومصيره، مما يعينه ويحمله على ترك الكبر، فأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل بين جنبتيه العذرة، وبمثل هذا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَقَالَ بَعْضُهُم:«مَا بَالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرَهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ بَيْنَ ذَلِكَ وِعَاءٌ لِقَذَرِهِ أَنْ يَفْخَرَ»

(3)

.

يقول الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «عَجَبًا لابْنِ آدَمَ يَتَكَبَّرُ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ

(1)

رواه البخاري (7444)، ومسلم (180).

(2)

الروح (233).

(3)

شعب الإيمان للبيهقي، السابع والخمسون من شعب الإيمان وهو

(فصل في التواضع وترك الزهو والصلف والخيلاء)(برقم: 7727).

ص: 550

مَرَّتَيْنِ»

(1)

.

ويقول سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه لابنه: «يا بني، إيَّاك والكبر، وليكن فيما تستعين به على تركه: علمك بالذي منه كنت، والذي إليه تصير، وكيف الكبر مع النُّطفة التي منها خُلِقْتَ، والرحم التي منها قُذِفْتَ، والغذاء الذي به غُذِّيتَ»

(2)

.

فمن كان هذا منشأه وتلك أطواره وأحواله فمن أين يداخله الكبر والتعالي على الخلق، فلا يليق بالمخلوق الضعيف الفقير من كل وجه وفي كل حال إلى الله الغني الحميد من كل وجه وفي كل حال، إلا الذل والخضوع والتواضع لله ثم لعباده.

‌ثالثًا: التأمل في عاقبة المتكبرين

.

ويتأمل مصير المتكبرين وأولهم إبليس، والنمرود بن كنعان، ثم فرعون وهامان وقارون، مرورًا بأبي جهل بن هشام، وأُبي بن خلف، ومن سار على دربهم من سائر المتكبرين والعتاة المتجبرين، وما آلوا إليه وما عوقبوا به في العاجلة، مع ما ينتظرهم من سوء المصير والمآل في الآخرة، ومعرفة بغض الله للمتكبرين، وأن الكبر يوجب لصاحبه النار؛ لأنه منازعة الرب أخص صفاته سبحانه، كما أسلفنا.

أما مصير هؤلاء المتكبرين ومآلهم يوم القيامة فقد أخبرنا الله عنه في مواضع كثيرة من كتابه محذرًا من سلوك مسلكهم وسوء مصيرهم، ومنها قوله تعالى:

(1)

التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، بَابٌ فِي الْكِبْرِ (203)، وإحياء علوم الدين (3/ 3389).

(2)

العقد الفريد، لابن عبد ربه (2/ 197).

ص: 551

{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 76].

قال ابنُ كثيرٍ: «أَيْ: بِئْسَ الْمَقِيل وَالْمَقَام وَالْمَكَان مِنْ دَار هَوَان لِمَنْ كَانَ مُتَكَبِّرًا عَنْ آيَات اللَّه وَاتِّبَاع رُسُله، وَهُمْ يَدْخُلُونَ جَهَنَّم مِنْ يَوْم مَمَاتهمْ بِأَرْوَاحِهِمْ وَيَنَال أَجْسَادهمْ فِي قُبُورهَا مِنْ حَرّهَا وَسَمُومهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة سَلَكَتْ أَرْوَاحهمْ فِي أَجْسَادهمْ وَخَلَدَتْ فِي نَار جَهَنَّم، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36].

وكَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]». اهـ.

وقال ابنُ كثيرٍ أيضًا: «أَيْ: فَبِئْسَ الْمَصِير وَبِئْسَ الْمَقِيل لَكُمْ، بِسَبَبِ تَكَبُّرِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَإِبَائِكُمْ عَنْ اِتِّبَاع الْحَقّ، فَهُوَ الَّذِي صَيَّرَكُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ فَبِئْسَ الْحَال وَبِئْسَ الْمَآل»

(1)

. اهـ.

وكذلك حذر رسوله صلى الله عليه وسلم أمته من سلوك مسلكهم واتباع سبيلهم، كما ورد في حديث عَمْرو بْن شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:«يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ»

(2)

.

(1)

ابن كثير (7/ 158) بتصرف يسير.

(2)

الترمذي (2416)، وأحمد (6390)، وهو في صحيح الأدب المفرد (جـ 1)(219).

ص: 552

‌رابعًا: التعرف على هدي وشمائل سيد المتواضعين صلى الله عليه وسلم، والسعي للتخلق بأخلاقه:

وكذلك التعرف على صفات سائر المتواضعين من صالح المؤمنين، والتخلق بأخلاقهم، ومعرفة ثواب المتواضعين في العاجل والآجل، والتأسي بفعالهم، وهذا كله مما يعين على التواضع والبعد عن التكبر والتعالي على الناس.

خامسًا: العلم بالله سبحانه وبأمره ونهيه وثوابه وعقابه، له أبلغ الأثر في صلاح حال العبد واستقامته:

وكذلك الحرص على التفقه في الدين عمومًا، مع محاسبة النفس، ومجالسة أهل الفضل والعلم والعقل والدين، كل ذلك من العوامل المعينة على نبذ الكبر والإعراض عنه، والتخلق بأخلاق المؤمنين والكملة من عباد الله الصالحين.

الوصية الثالثة من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي:

‌3 - الأمر بالقصد في المشي تواضعًا

قوله سبحانه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19].

‌تمهيد:

إن نعمة المشي من نعم الله على خلقه، وقد قسم سبحانه هذه النعمة بين خلقه كما قسم بينهم أرزاقهم وجميع آلائه بينهم، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] كالحيات، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور: 45] كسائر البشر، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور: 45] كالبهائم وغيرها من المخلوقات، وهكذا سبحانه {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور: 45]، ويعطي كل مخلوق ما يناسبه ويهديه إلى ما يلائمه، فهذا خلقه، فسبحانه قد أحسن وأحكم كل شيء خلقه حكمة وعلمًا، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45].

ص: 553

قال القرطبي رحمه الله: «المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره، وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى، والأربع لسائر الحيوان»

(1)

.

فالإنسان خُلِقَ في أحسن تقويم، وقد جعل الله مشيه على رجلين يمشي مشيًا سويًّا، ولم يجعل مشيه على بطنه كالثعابين، ولم يجعل مشيه على أربع كالبهائم وسائر العجماوات، أفبعد هذا التكريم يليق بعاقل أن يتخايل ويتمايل ويتبختر ويتعالى في مشيته ويتكبر على عباده.

وإن كان المشي من نعم الله تعالى على خلقه؛ فهو كذلك آية عظيمة من آياته الكبرى الباهرة التي تدل على قدرته في عظم تدبير شؤون خلقه كل بما يناسبه فسبحانه: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50].

ومن دلائل قدرته سبحانه أنه يحشر الكفار يوم القيامة على وجوههم كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97].

قال ابن سعدي رحمه الله: «يحشرهم الله على وجوههم ـخزيًاـ عميًا وبكمًا، لا يبصرون ولا ينطقون»

(2)

انتهى.

ومما يدل على ذلك أيضًا من السنة ما ورد في باب قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} [الفرقان: 34].

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا نبي الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة! قال:«أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» ؟!

(1)

تفسير القرطبي (12/ 292).

(2)

ابن سعدي (ص 467).

ص: 554

قال قتادة: بلى وعزة ربنا

(1)

.

يقول ابن حجر: «قوله: قال قتادة: (بلى وعزة ربنا) هو موصول بالسند المذكور، والحكمة في حشر الكافر على وجهه أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا بأن يسحب على وجهه في القيامة إظهارًا لهوانه بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات»

(2)

.

والمتتبع لآي الذكر الحكيم والمتأمل في كلمة المشي وما اشتقت منه يجدها ذكرت في نيف وعشرين موضعًا في كتاب الله تعالى، وفي هذا دلالة على العناية بالمشي، لأنه آية من آياته سبحانه الدالة على قدرته وعظمته.

ولقمان هنا يعاود المواعظ التربوية لولده ملازمًا لقاعدة التخلية قبل التحلية، والتصفية قبل التربية، فأراد أن يخلي قلب ابنه ويصفيه من الرذائل أولًا، فنهاه عن الإعراض عن الناس وتصعير خده إليهم تكبرًا، والمشي في الأرض مرحًا مختالًا فخورًا متعاليًا، ثم أراد هنا أن يجمله ويحليه بالفضائل ثانيًا، فأمره بالمشي متواضعًا، ووجهه إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال مشيه من التوسط والاعتدال وسلوك مسلك عباد الرحمن.

فحينما يَنْهَى المربي عن الخلق الرذيل الممنوع، فلا بد من تقديم الخلق البديل المشروع، وهذا ما فعله لقمان الحكيم عليه السلام.

(1)

رواه البخاري في صحيحه - في كتاب الرقاق: باب كيف الحشر (برقم: 4760) وهو في كتاب تفسير القرآن، تفسر سورة الفرقان (برقم: 44829) (ص 349) البخاري أيضًا.

(2)

فتح الباري، حديث (رقم: 9750) (ص 390).

ص: 555

وفي هذا يقول أبو حيان: «ولما نهاه عن الخلق الذميم، أمره بالخلق الكريم»

(1)

.

ويبين ابن كثير معنى القصد فيقول: «وقَوْلُه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19].

أَيِ: امْشِ مَشْيًا مُقْتَصِدًا لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ، بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ»

(2)

.

ويؤكد الشوكاني نفس المعنى فيقول: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيْ: تَوَسَّطْ فِيهِ، وَالْقَصْدُ مَا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالْبُطْءِ، يُقَالُ: قَصَدَ فُلَانٌ فِي مِشْيَتِهِ: إِذَا مَشَى مُسْتَوِيًا لَا يَدِبُّ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِينَ وَلَا يَثِبُ وُثُوبَ الشَّيَاطِينِ، فَلَا بدَّ أَنْ يُحْمَلَ الْقَصْدُ هُنَا عَلَى مَا جَاوَزَ الْحَدَّ فِي السُّرْعَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ لَا تَخْتَلْ فِي مِشْيَتِكَ.

- وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، كَقَوْلِهِ:{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] «

(3)

.

فبعد أن علَّم لقمان ابنه خلق التعامل مع الخلق، بانبساط نفسٍ وبشاشة وجهٍ ورحابة صدرٍ وإقبالِ ذاتٍ مصحوبٍ بإصغاءٍ إلى من يحدثه؛ يعقبه بتوجيهه ووعظه وإرشاده لحسن الأدب مع نفسه في مشيه متواضعًا مصطحبًا السكينة والوقار، وهذا من أظهر الأخلاق وأحسنها مع الناس ومع النفس على حدٍّ سواء.

(1)

أبو حيان (7/ 189).

(2)

ابن كثير (6/ 340).

(3)

فتح القدير (1/ 1143).

ص: 556

ويقول البغوي: «{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] أَيْ: لِيَكُنْ مَشْيُكَ قَصْدًا لَا تَخَيُّلًا وَلَا إِسْرَاعًا.

- وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، كَقَوْلِهِ:{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] «

(1)

.

ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «واعدل فيه حتى يكون مشيًا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين، وتثب وثيب الشطار»

(2)

.

ويقول ابن سعدي: «أي: امش متواضعًا مستكينًا، لا مشي البطر والتكبر، ولا مشي التماوت»

(3)

.

وأما حقيقة التواضع: فتتمثل في الإذعان للحق وعدم رده وقبوله من أي مخلوق كائنًا من كان، وتتمثل في خفض الجناح للمؤمنين تواضعًا لهم، وأداء الحقوق لأهلها بلا امتنان ولا تفضل.

يقول الجنيد بن محمد رحمه الله: «التواضع هو: خفض الجناح ولين الجانب»

(4)

.

وأما حقيقة الكبر: فتتمثل في بطر الحق ورده وعدم قبوله، ورؤية النفس ومحاولة رفعها وإعلائها بالكبر وإنزالها منزلة غير منزلتها، تعظيمًا وإكبارًا وإجلالًا لها، وغمط الناس واستصغارهم وازدرائهم تحقيرًا لهم.

(1)

البغوي (6/ 290).

(2)

تفسير الكشاف (3/ 383).

(3)

ابن سعدي (6/ 1353).

(4)

مدارج السالكين (2/ 329).

ص: 557

وفي الحديث: «الكبر: بطر الحقِّ وغمط النَّاس»

(1)

.

يقول ابن القيم: «فسَّر النَّبي صلى الله عليه وسلم الكِبْر بضده فقال: «الكِبْر بطر الحق، وغمص الناس»

(2)

.

فبطر الحق: رده، وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل.

وغمص الناس: احتقارهم، وازدراؤهم، ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها»

(3)

.

وحول الأسباب التي يتحقق بها التواضع يقول الإمام ابن القيم:

التواضع يتولد من العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله، وتعظيمه، ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها، وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو (التواضع)، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلًا، ولا يرى له عند أحدٍ حقًّا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبُّه، ويكرمه، ويقربه

(4)

.

وأخيرًا: لعل هذا يكون هاديًا لكل مسترشد لا يريد علوًا في الأرض ولا

(1)

مسلم (91) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

وكلمة: (غمص) رواية في الحديث، وهي بمعنى غمط، ينظر: مشارق الأنوار (2/ 135).

(3)

مدارج السالكين (2/ 218).

(4)

الروح (233).

ص: 558

فسادًا، كما قال سبحانه:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

- قال ابن جُرَيْج: «{لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83]: تعظمًا وتجبرًا، {وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]: عملًا بالمعاصي»

(1)

.

ويُخْتَمُ الكلامُ ببيان بعض هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المشي ليكون نبراسًا يضيء الطريق لكل مسترشد راغبٍ في التأسي به والاقتداء بهديه والاستنان بسنته صلى الله عليه وسلم فيقول: «عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ .. »

(2)

.

ومعنى تكفأ يوضحه قول عليٍّ رضي الله عنه حيث يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفُّؤًا كأنما ينحط من صبب» أَي: في موضع مُنْحدر

(3)

.

- وقال أيضًا: «إذا مشى تقلع» .

والتقلع: كما قال ابن القيم: «الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات، وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، وهي مشية

(1)

تفسير ابن كثير (6/ 258).

(2)

أخرجه مسلم (برقم: 2330).

(3)

البخاري في تاريخه (1/ 7، 8)، والترمذي (3637)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .

ص: 559

مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مشية مذمومة أيضًا، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إن كان يكثر الالتفات حال مشيه يمينًا وشمالًا، وإما أن يمشي هونًا، وهي مشية عباد الرحمن، كما وصفهم بها في كتابه فقال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].

قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار، من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تُطوى له حتى كان الماشي معه يجهد نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين: أن مشيته لم تكن مشية تماوت ولا مهانة، بل مشية أعدل المشيات»

(1)

.

وفي هذا كفاية، والحمد لله رب العالمين.

الوصية الرابعة من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي:

‌4 - الأمر بخفض الصوت والاعتدال في ذلك

.

قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

يعرف ابن عاشور الغض فيقول: «والغض: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غض بصره، إذا خفض نظره فلم يحدق .. فغض الصوت: جعله دون الجهر»

(2)

.

ويعرفه أبو حيان فيقول: «والغض من الصوت: التنقيص من رفعه وجهارته،

(1)

زاد المعاد (1/ 160).

(2)

ابن عاشور (21/ 111).

ص: 560

والغض: ردّ طموح الشيء، كالصوت والنظر والزمام.

وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به في الجاهلية»

(1)

.

وإن علو الصوت والصخب ليس من صفات أهل الإيمان، إلا ما كان لعبادة مأمور بها شرعًا كالنداء للصلاة، أو رفع الصوت بالتلبية، أو لمصلحة شرعية راجحة لا تتحقق إلا بذلك، أو لحاجة عارضة لا بد له منها ولا غنى له عنها.

يقول النيسابوري: «قال العلماء: إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف .. ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ.

ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» ، وكان العباس أجهر الناس صوتًا»

(2)

.

(1)

أبو حيان (7/ 189).

(2)

تفسير النيسابوري (جـ 7)(ص 38)، وينظر: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (1/ 558) تأليف: حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري المالكي، نزيل مكة، المتوفى بها (966 هـ - 1558 م)، الناشر: دار صادر -بيروت الطبعة: - عدد الأجزا: 2، نوفمبر (2010 م). بتصرف يسير.

وهذا الحديث: رواياته مبسوطة في كتب التفسير والسير والمغازي، ولم أقف له على تخريج له يشفي الغليل إلا قول ابن حجر:«لم أجده» ، الكافي الشاف في تحرير أحاديث الكشاف (155) (رقم: 9، 10) لابن حجر، وينظر:(ص 715) من كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، تأليف: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: 762 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد الرحمن السعد، الناشر: دار ابن خزيمة -الرياض- الطبعة الأولى (1414 هـ)، عدد الأجزاء:(4).

=

= * يوضح الباحث ويقول:

لقد وجدت في أغلب الروايات (يوم أحد) بدلًا من (يوم حنين)، ومن المعلوم أن العباس لم يشهد أحدًا أصلًا، لأنه لم يكن قد أسلم بعد، وقد اخُتلِف في زمن إسلامه، والراجح -والله أعلم- أنه عام خيبر في السنة السابعة للهجرة، وإنما كانت غزوة حنين في السنة الثامنة للهجرة، وهذا مما يدلل على وهن هذا الحديث واضطراب رواياته المذكورة في كتب التفسير والسير والمغازي، والله أعلم.

ص: 561

وإن مخاطبة الناس بصوت منخفض ومعتدل يتحقق به المرغوب ويُنالُ به المطلوب، وفي نحو ذلك، يقول أبو حيان:«وغض الصوت أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه»

(1)

.

ومع ذلك فهو يدل على رجاحة العقل والثقة بالنفس مع الدلالة على كمال الأخلاق وحسن الأدب الذي يرقى بصاحبه إلى مدارج أهل الفضل الذين بلغوا الدَّرَجَاتُ الْعُلَا من الكمال البشري، ويجد من الناس الاطمئنان إليه، والإقبال على حديثه، والإنصات إليه، والإصغاء له وتصديقه، والثقة فيما يروي من كلام وأخبار وغير ذلك، ذلك لأن الكلمة الطيبة الهادئة لها مكانتها في النفوس وتُبَلِّغُ صاحبها ما أراد من الخير ما لا تبلغه بعلو الصوت المصحوب بالصخب والرعونة وأذى السامع، هذا مع ما يقع في قلوبهم من محبته وإجلاله وتقديره وتبجيله وقبول ما يدعو إليه.

ولذا رتب لقمان الحكيم مواعظه لولده فجاءت منتظمة كعقد فريد منتظم ومتتابع كحبات من لؤلؤ صافٍ من النضارة والبهاء والصفاء والجمال والكمال والتمام مبتدئًا بالأهم فالمهم، فجاءت تلك الموعظة مناسبة بعد الموعظة بالأمر

(1)

أبو حيان (8/ 187).

ص: 562

بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولهذا كان على كل لبيب عاقل ناصح لنفسه أن يربأ بها عن علو الصوت لغير حاجة مرعية يرجو من ورائها أي مصلحة شرعية.

لذا يقول ابن زيد: «لو كان رفع الصوت هو خيرًا ما جعله للحمير»

(1)

.

وقال ابن سعدي: «فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار، الذي قد علمت خسته وبلادته»

(2)

.

وعلو الصوت غالبًا ما يكون عند الخصومات، فالصوت المرتفع هنا من غير حاجة حجته داحضة واهية ومرفوضة، فالصخب وعلو الصوت لا يثبتان حقًا، والحجج الواضحات لا يثبتها صوت مرتفع فليس كل من علا صوته محقًّا، فالحق حق في نفسه، فالمحق من يثبت حقه بالحجة الدامغة والبرهان الساطع والدليل الواضح، وكذلك خفض الصوت لا يضيع حقًّا، ونفوس البشر بجبلتها تميل إلى الصوت المعتدل في هدوئه واتزانه وانضباطه، مع أن رفع صوت المتكلم فيه دلالة على عدم إجلال وتقدير المُخَاطَب، فكيف إذا كان علو الصوت مقرونًا بكلام خارج عن مدارج الأدب، أو عند مخاصمة لا يُتمسكُ فيها بمكارم الأخلاق ومحامد الصفات، أو في بيت من بيوت الله تعالى لا تُرَاعَى حرمتُهُ ولا مكانتُهُ، أو بحضور من لهم مكانة سامية كالوالدين أو أهل العلم والفضل ومن في نحو مكانتهم، أو عند النوازل والمصائب التي يجب فيها التصبر وعدم التسخط على أقدار الله في خلقه؟! فلا شك في كون الخطب أعظمَ وأَجَلَّ.

(1)

الطبري (جـ 20)(ص 147).

(2)

تفسير السعدي (جـ 1)(ص 648).

ص: 563

يقول القرطبي: «في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة، بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية»

(1)

.

يقول الألوسي: «وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَضِّ مِنَ الصَّوْتِ الْغَضُّ مِنْهُ عِنْدَ التَّكَلُّمِ وَالْمُحَاوَرَةِ، وَقِيلَ: الْغَضُّ مِنَ الصَّوْتِ مُطْلَقًا فَيَشْمَلُ الْغَضَّ مِنْهُ عِنْدَ الْعُطَاسِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ عَدَمُ الرَّفْعِ، ثمَّ إِنَّ الْغَضَّ مَمْدُوحٌ إِنْ لَمْ يَدْعُ دَاعٍ شَرْعِيٌّ إِلَى خِلَافِهِ»

(2)

.

والظاهر أن الأمر بِغَضِّ الصوت يشمل كل صوت؛ لأن الأصل فيه أن يُحمَل على العموم ما لم يأتِ مخصص يخصصه، ولا شك أن هذا أجمع وأشمل، فهو أكمل في الأدب وأعم في حصول تمام الأخلاق وكمالها التي سعى لقمان لغرسها في فؤاد فلذة كبده وثمرة فؤاده.

وكذلك إن كان علو الصوت من النساء كان الأمر أعظم.

وفي ذلك يقول الحطاب الرُّعيني المالكي في مواهب الجليل: «رفع الصوت في حق النساء مكروه مع الاستغناء عنه لما فيه من الفتنة وترك الحياء، وإنما تُسْمِعُ المرأة نفسها»

(3)

.

(1)

تفسير القرطبي (جـ 14)(ص 72).

(2)

الألوسي (21/ 91).

(3)

مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، تأليف: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (المتوفى:(954 هـ). الناشر: دار الفكر- الطبعة: الثالثة (1412 هـ - 1992 م) عدد الأجزاء: (6)، (جـ 3)(ص 325).

ص: 564

ويبين ابن جماعة الكناني آداب الكلام والمتكلِّم فيقول: «ولا يسرد الكلام سردًا، بل يرتله، ويرتبه، ويتمهل فيه؛ ليفكر فيه هو وسامعه» .

وما ذكره ابن جماعة آنفًا مما يعين على خفض الصوت وإفهام السامع إذ يمتنع على من تأدب بتلك الآداب في المخاطبة والمحادثة أن يعلو صوته على محدثيه وسامعيه؛ لأن مادة الغضب قد ذهبت وانحدرت أمام تلك الأخلاق الفاضلة السامية والآداب الكريمة العالية.

وقال ابن جماعة أيضًا: «ألَّا يرفع صوته زائدًا على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضًا لا يحصل معه كمال الفائدة» .

وقال أيضًا: «والأولى ألَّا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين؛ فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه، إذ رفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع، ففي ذلك رعونة وإيذاء»

(1)

.

ويؤيده كلام ابن كثير حيث يقول: «وَقَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أَيْ: لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]»

(2)

.

ويقول البغوي: «{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] انْقُصْ مِنْ صَوْتِكَ.

(1)

تَذْكِرَةُ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم في أَدَب العَالِم والمُتَعَلِّم (ص 64) وما بعدها.

تأليف: بدر الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة الكناني، المتوفى سنة (733 هـ) - عدد الأجزاء:(1)، مكتبة مشكاة الإسلامية، وينظر: أيضًا: مع المعلمين (جـ 1)(ص 89).

(2)

ابن كثير (6/ 340).

ص: 565

وَقَالَ مُقَاتِل: اخْفِضْ صَوْتَكَ {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} [لقمان: 19] أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] أَوَّلُهُ زَفِيرٌ وَآخِرُهُ شَهِيقٌ، وَهُمَا صَوْتُ أَهْلِ النَّارِ»

(1)

.

ولذا يصف الله عذابهم في النار فيقول سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)} [هود: 106].

‌من حكمة لقمان تعليل الأمر والنهي:

ومن حكمة لقمان الإتيان بالعلة بعد الموعظة، وهذا أدعى لحصول الاقتناع بها ولقبولها والانقياد لها، فلما أمره باجتناب الشرك أتى بعلته الموجبة لاجتنابه فقال:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]، وكذلك جاء عقب الوصية بالوالدين التعليل ببيان السبب الموجب لبرهما ولا سيما الأم، فقال:{ .. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ .. } [لقمان: 14]، ثم جاء بعده الأمر بشكره سبحانه وشكرهما، وبعد أن جاء الأمر باتباع سبيل المؤمنين جاء بيان العلة والسبب في قوله:{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15] من الخير والشر صغيرًا كان أم كبيرًا، ولما نهاه عن الكبر قائلًا:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] علل سبب التحذير منه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]، وهنا لما أمره بغض الصوت وخفضه {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] علل الأمر بقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]، ولا شك أن لقمان سلك مسك الحكمة في التربية والموعظة

(1)

البغوي (6/ 290).

ص: 566

باستخدام أسلوب وتوجيه تربوي مثيل، أتى فيه بعلل قوية، وحجج دامغات، وبراهين ساطعات واضحات وأسلوب مقنع مخاطبًا للعقل، يرغبه في التجاوب وامتثال الأمر، واستَخدَمَ أسلوب الإقناع، الذي يعد من أرقى أساليب التربية وأنفعها وأكثرها تأثيرًا في النفس، وبه تُجنى الثمار المرجوة من جراء تلك المواعظ، وتتحقق الغايات والأهداف التربوية التي يأمل المربي أن يجد أثرها فيمن يعلمه ويعظه ويربيه.

فما أحوج المربين اليوم لسلوك هذا المسلك الحكيم الرشيد، واستخدام هذا الأسلوب التربوي السديد.

وحول هذا المعنى يقول الشوكاني: «{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أَيِ: انْقُصْ مِنْهُ وَاخْفِضْهُ وَلَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَهُ، فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ يُؤْذِي السَّامِعَ، وَجُمْلَةُ {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الصَّوْتِ أَيْ: أَوْحَشُهَا وَأَقْبَحُهَا»

(1)

.

ويعاضده قول ابن عاشور: «وجملة {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيهًا بليغًا، أي: لأن صوت الحمير أنكر الأصوات.

ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة»

(2)

.

ولا شك أن التوسط في رفع الصوت وخفضه هو المعني، ليتحقق المقصود

(1)

فتح القدير (1/ 1143).

(2)

ابن عاشور (22/ 169).

ص: 567

من إسماع المُخَاطَب، ففي رفعه إيذاء للسامع، وفي خفضه عن الحد المعقول والمطلوب فيه نوع تكلف من المُتَكلِّم وعدم إسماع وإفهام للمُخَاطَب.

وفي ذلك يقول البقاعي: «ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكرًا كما كان خفضه دونها تماوتًا أو دلالًا وتكبرًا، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا، فأفهم أن الطرفين مذمومان»

(1)

.

ورفع الصوت مع ما فيه من الرعونة والأذى للسامع، فهو منكر تنفر منه النفوس السوية والفطرة والطباع السليمة.

ويبين القرطبي الضرر المترتب على التكلف في رفع الصوت عن حده ممثلًا ومستشهدًا بأثر عمر رضي الله عنه، فيقول: و «قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أي: انقص منه، أي: لا تتكلف رفع الصوت، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي. والمراد بذلك كله التواضع، وقد قال عمر رضي الله عنه لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مريطاؤك، والمؤذن هو أبو محذورة

(2)

سمرة بن معير رضي الله عنه.

(1)

نظم الدرر للبقاعي (جـ 6/ ص 352).

(2)

أبو محذورة: سمرة، وقيل: أوس بن معير الجمحي، أبو محذورة: المؤذن، أمه من خزاعة، اشتهر بلقبه، واختلفوا في اسمه واسم أبيه. أسلم بعد حنين، وكان الأذان قبله دعوة للناس إلى الصلاة، على غير قاعدة.

وسمع في الجعرانة صوتًا غير منسجم يقلده هزؤًا به، واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ودعاه إلى الإسلام فأسلم، قال: وألقى عليَّ التأذين هو بنفسه فقال: «قل: الله أكبر الله أكبر» .

ولمّا تعلّم الأذان جعله مؤذنه الخاص وطلب أن يكون مؤذن مكة، فكان، وظل الأذان في بنيه وبني أخيه مدة، ورويت عنه أحاديث، توفي سنة (59 هـ).

ينظر ترجمته في: الاستيعاب (2/ 62)، والإصابة (3/ 397)، والأعلام للزركلي (2/ 31).

ص: 568

(والمريطاء) بميم مضمومة، ثم راء مفتوحة، ثم ياء مثناة من تحت ساكنة، ثم طاء مهملة بالمد والقصر:(ما بين السرة إلى العانة)»

(1)

.

ويؤيده أبو حيان فيقول: «ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن»

(2)

.

وبنحو قولهما يقول الشوكاني: «{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أَيِ: انْقُصْ مِنْهُ وَاخْفِضْهُ وَلَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَهُ، فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ يُؤْذِي السَّامِعَ»

(3)

.

ومما سبق يتبين أن مفهوم غض الصوت عند أئمة التفسير هو: خفضه وانقاصه وتقليله عن الحد الزائد عما يألفه أهل الطباع السليمة والفطر السوية، وعدم الجهر به والتكلف في رفعه عن المألوف، ولا يرُفع إلا عند الحاجة وبالقدر الذي لا يؤذي السامعَ ولا يُنَفِّرُ الجليسَ، ولا يَخرُجُ عن مجلسه ومحيطه الذي هو فيه.

وأن خفض الصوت دلالة على أدب صاحبه وحسن خلقه مع من يخاطبه.

وحول هذا المعنى يقول ابن سعدي: «{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أدبًا مع الناس ومع الله»

(4)

.

وهذا ما عناه لقمان وقصده في موعظته لولده، أراد له التحلي بتمام الأدب مع

(1)

تفسير القرطبي (جـ 14)(ص 71) بتصرف يسير، (3/ 121)، وينظر: المجموع شرح المهذب، للنووي، باب: الأذان، كتاب الصلاة.

(2)

أبو حيان (7/ 189).

(3)

الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).

(4)

ابن سعدي (6/ 1353).

ص: 569

الله تعالى أولًا ثم بمكارم الأخلاق مع عباده ثانيًا، ليختم له مواعظه بتلك الحلية التي يتزين بها في تعامله مع الناس، وإن حقيقة التأدب مع المخلوق إنما هو تأدب مع الخالق سبحانه وتعالى.

وهذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم: فعن عبد الله الجدلي قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح»

(1)

.

قال المباركفوري: «قوله: (ولا صخابًا) أي: صيّاحًا»

(2)

.

يقول السيوطي: «فعلى الإنسان ألَّا يبالغ في الجهر إلا لغرض صحيح، ومنه الأذان والإنذار من العدو، لأن رفع الصوت في مواطن القتال يفت في أعضاد العدو. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يكون الرجل خافض الصوت، ويكره أن يكون جهير الصوت، والمبالغة في الجهر تشوه الوجه، وتذهب بهاؤه، وتركه أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه»

(3)

.

قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] عن الضحاك: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} قال: إن أقبح الأصوات {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .

عن قتادة قال: «{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] أي: أقبح الأصوات لصوت الحمير، أوله زفير، وآخره شهيق، أمره بالاقتصاد في

(1)

أخرجه الترمذي (2016)، وصححه الألباني في الشمائل (298).

(2)

تحفة الأحوذي (جـ 5)(ص 268).

(3)

الدر المنثور (جـ 8)(ص 274).

ص: 570

صوته»

(1)

.

- قال ابن كثير: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19].

قالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ: غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبَّهُ بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»

(2)

.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[أَنَّهُ] قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا»

(3)

.

قال القرطبي: «وهذه الآية أدب من الله -تعالى- بترك الصياح في وجوه الناس تهاونًا بهم، أو بترك الصياح جملة، وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتًا كان أعزّ، ومن كان أخفض كان أذل. فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ

(1)

الطبري (20: 147).

(2)

البخاري (2622) كتاب الهبة، وينظر: ابن كثير (6/ 340).

(3)

وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهِ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ:«بِاللَّيْلِ» ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ابن كثير (6/ 340).

وهو في الصحيحين، البخاري (3303)، ومسلم (2729) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 571

لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]»

(1)

.

وقول القرطبي آنفًا مبني على اعتماده واستدلاله على أن قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] من كلام الله تعالى ابتداءً وليس من قول لقمان، وهذا محل نظر وتأمل، لأن كلام لقمان متصل، ويؤيد ذلك قول كل من الشوكاني وابن عاشور إن قوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] تعليل علل به الأمر بالغض من صوته، فالأمر بغض الصوت من كلام لقمان، وتعليله بالأمر بالغض بقوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} من كلام لقمان أيضًا، ويؤيد ذلك أيضًا ما ذهب إليه أبو حيان بقوله:«والظاهر أن قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} من كلام لقمان لابنه، تنفيرًا له عن رفع الصوت، ومماثلة الحمير في ذلك»

(2)

.

وكذلك هو قول الألوسي

(3)

.

وكذلك هو قول القاسمي، كما سيأتي

(4)

.

‌يقول الباحث:

ولم يرد استنباط واضح يبين ويدلل على ما ذهب إليه الإمام القرطبي وغيره من أئمة التفسير، إلَّا لو ثبت في سبب نزول الآية ما قرره القرطبي وغيره بسند صريح، أو حديث ثابت صحيح.

(1)

القرطبي (14/ 67) بتصرف.

(2)

البحر المحيط (7/ 189).

(3)

الألوسي (15/ 446).

(4)

القاسمي (13/ 4802).

ص: 572

وإن معرفة سبب نزول آيةٍ ما متوقف على نقل صحيح لسبب نزولها، ولا يجوز أي قول فيه إلا برواية وتصريح بسماع ممن شاهد وعاين التنزيل ووقف على أسبابه، ألا وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا مجال فيه لاجتهاد، وحكمه حكم المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لأن مثله لا يُقالُ فيه بالرأي، وكذلك إن رويت أسباب النزول عمن تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم وهم أئمة التابعين، كطاوس بن كيسان اليماني، وسَعِيْدِ بْنِ جبير، ومُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ المَكِّيُّ، وعِكْرِمَةَ القُرَشِيِّ مولى ابن عباس، وأَبِي العَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ المَدَنِيِّ، وعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح القرشي المكي، والضَّحَّاك بْن مُزَاحِم، وغيرهم ممن أخذوا التفسير عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم، والذين انتشروا في الأمصار يعلمون الناس آي التنزيل وتأويل القرآن الحكيم.

وفي هذا الصدد يقول الواحدي: «ولا يحل القول فِي أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقف عَلَى الأسباب، وبحث عن العلم وجدَّ فِي الطِّلب.

وَقَد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العِثار فِي هذا العِلْم بالنار»

(1)

.

ويقول الشيخ مُقبلُ بنُ هادي الوادِعيُّ: «فالعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول على صحة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عن الصحابي؛ فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا له حكم الرفع»

(2)

انتهى.

قال ابن عاشور: «ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من

(1)

أسباب النزول (5 - 6).

(2)

الصحيح المسند في أسباب النزول (15).

ص: 573

النكارة، لأن صوت الحمير أنكر الأصوات»

(1)

.

يقول القاسمي: «{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أَيِ: انْقُصْ مِنْ رَفْعِهِ، وَأَقْصِرْ، فَإِنَّهُ يُقَبَّحُ بِالرَّفْعِ حَتَّى يُنْكِرَهُ النَّاسُ، إِنْكَارَهُمْ عَلَى صَوْتِ الْحَمِيرِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ مُعَلِّلًا لِلْأَمْرِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ وَآكَدِهِ وَ (أَنْكَرَ) بِمَعْنَى أَوْحَشَ، مِنْ قَوْلِكَ: (شَيْءٌ نُكُرٌ) ; إِذَا أَنْكَرَتْهُ النُّفُوسُ وَاسْتَوْحَشَتْ مِنْهُ وَنَفَرَتْ»

(2)

.

ومما سبق يتبين أن علو الصوت لغير حاجة مع ما فيه من الضرر والأذى، فيه تشبه بصوت الحمير الذي فيه من النكارة والغاية في القبح والشر وأنه أبغض الأصوات وأوحشها، وهذا أسلوب غاية في التنفير والزجر لكل من تسول له نفسه في أن يعلو صوته ويؤذي سامعيه ومُخَاطَبيه، وهذا ما أراده لقمان لينزجر ولده وتتأفف نفسه الأبية بأن يكون فيها شبه من أخس المخلوقات وأوضعها.

فرفع الصوت وعلوه فيما لا طائلة من ورائه لأنه يشبه نهيق الحمير التي لا تفعل ذلك إلا إذا رأت الشياطين، فلا يليق بإنسان قد أكرمه الله بالعقل وخلقه في أحسن تقويم، وسواه وعدله، وفي أي صورة ما شاء ركبه، وجعل له عينين، ولسانًا وشفتين، ودله على الطريق القويم، وهداه إلى صراطه المستقيم، فأنعم عليه بنعمة الإسلام وأكرمه وزينه بزينة الإيمان، أن ينزل لدرجة العجماوات التي لا تعقل، فيتشبه بأبلدها وأدناها وأخسها، ألا وهو الحمار الذي لا يعقل شيئًا ولا يهتدي سبيلًا، وإنما كان الزجر على علو الصوت في تشبيهه بصوت

(1)

ابن عاشور (22/ 169).

(2)

القاسمي (13/ 4802).

ص: 574

الحمار ليتبين عظم نكارة صوته وقبحه وشناعة فعله حتى أصبح من أشبه الخلق بأبلد المخلوقات حسًّا وأدناهم وأحطهم وأخسهم منزلة، ألا وهو الحمار، والحمار في نفسه لا يلام على علو صوته ونهيقه بقوة وشدة ونكارة، إنما اللوم والتوبيخ على من تشبه به من بني آدم فخرج عن جبلته وفطرته وأبى لنفسه أن ينزلها مكانتها ويصون لها كرامتها، فتشبه بمن لا يليق بمثله أن يتشبه بمثله.

فعلى هذا المنهج الذي ربَّى لقمان عليه ولده يجب على المربين أن يربوا الناشئة ويلزموهم هذه الخلال الصالحة الحميدة، والخصال الطيبة الرشيدة، وأن يحثوهم على التمسك بمكارم الأخلاق وجليل الصفات التي حثَّ عليها ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء التي أمرت بالفضائل ورغبت فيها، ونهت عن الرذائل وزجرت عنها.

ومن أهمها: التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، والإقبال على الناس بوجه طلق بشوش، والإنصات لمن يخاطبهم ويحدثهم، وعدم الإعراض عنهم تعاليًا وتكبرًا، والمشي في الأرض بأدب المتواضعين متشبهين بعباد الرحمن في مشيهم على الأرض هونًا تواضعًا لله غير متكبرين على عباده سبحانه، ومخاطبة الناس بأدب جمّ وخلق كريم مصحوب بصوت منخفض يتحقق معه المطلوب ويُنالُ به المرغوب، مع تجنب علو الصوت لما فيه من الأذى والرعونة مع ما يسببه من وقوع البغضاء في قلوب الناس، علاوة على ما فيه من التشبه بأوضع المخلوقات وأخس الكائنات وأبلد الحيوانات.

وبالانتهاء من بيان الجانب الأخلاقي في ضوء وصايا لقمان يكتمل المنهج التربوي المتكامل الذي قدمه لقمان لابنه وهو يعظه تلك الموعظة البليغة التي

ص: 575

أصبحت نورًا يتلألأ وريحانة تهتز، ليضيء بهذه الموعظة الطريق للمربين والقائمين على مناهج التربية والتعليم والدعوة والإصلاح والتوجيه والإرشاد على مرّ الأجيال والأزمان وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا شك أن هذا من محض فضل الله على هذا العبد الكريم على ربه، الذي آتاه الحكمة وعلمه مما يشاء كما قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269].

وفي هذا كفاية.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 576

‌المطلب الرابع طبيعة العلاقة بين الجوانب الثلاثة

(العقدي والتعبدي والأخلاقي)

‌تمهيد:

‌فقه الأولويات في منهج لقمان التربوي:

إن من أهم مهام المربي مراعاة فقه الأولويات في منهجه التربوي.

وإذا تغيب فقه حسن الاهتمام بترتيب الأولويات عند المربي كانت نتائج عمله غير مرضية وربما كانت لها نتائج عكسية.

وإن من حكمة لقمان أنه راعى فقه حسن الاهتمام بترتيب الأولويات في منهجه التربوي، حيث ابتدأه أولًا بالجانب العقدي الذي هو أصل العلاقة مع الخالق سبحانه وتعالى، ويمثل القاعدة الأساسية الأولى للعملية التربوية الإيمانية الاعتقادية المتكاملة، وبصلاح العقيدة يصلح شأن العبادات والأخلاق والمعاملات وكافة جوانب التربية.

وفي ذلك يقول البقاعي: «ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: لا تشرك أي: [لا] توقع الشرك

ص: 577

لا جليًّا ولا خفيًّا»

(1)

.

ثم إنه ثنَّى بالجانب التعبدي الذي به صلاح شأن العبد مع نفسه، وثلث بالجانب الأخلاقي الذي يمثل صلاح شأن العبد في تعامله مع الناس كافة.

‌طبيعة العلاقة بين هذه الجوانب:

يقوم بنيان الدين وصرحه المتين على العقيدة أولًا التي هي بمثابة حجر الأساس في بناء صرح هذا الدين العظيم، وعلى هذا الأساس المتين تقوم أركان بنيان العملية التربوية بجميع جوانبها التعبدية والأخلاقية والسلوكية.

وإذا هيمنت تلك العقيدة على نفس المؤمن وسكنت فؤاده، سمت نفسه، وتوجهت نحو الخير وتحلت بكل فضيلة، وتخلت عن كل رذيلة، وأثمرت كل خلق حميد.

ذلك لأن تلك العقيدة بينها وبين جوانب وأركان العملية التربوية صلة وثيقة، لأن العقيدة هي الدافع الذاتي الذي يدفع المؤمن ويقوده نحو الفضائل كلها، وأن رسوخ العقيدة في قلبه يحثه ويؤزه على الخير أزًّا، فيؤدي الفرائض التعبدية بنفس راضية مصحوبة بانشراح صدره وطمأنينة نفسه، ويدفعه لاكتساب مكارم الأخلاق، وإلى حسن معاملة الخلق بالمعروف، وإن في التخلي عن تلك العقيدة أيضًا الدافع الذاتي لهدم الجانب التعبدي والأخلاقي معًا، لأن هذه الجوانب فقدت قاعدة الأساس التي تقوم وترتكز عليها، ألا وهي قاعدة العقيدة الصحيحة والإيمان الراسخ، ولذا كانت أول وصايا لقمان في موعظته لولده بترسيخ العقيدة والنهي عن الشرك المتضمن تحقيق التوحيد؛ لأنه هو الأساس

(1)

نظم الدرر للبقاعي (15/ 162).

ص: 578

الذي يحمل فوق هامته العالية جميع الجوانب التعبدية والأخلاقية، فإذا انهدم الأساس سقط ما كان يحمله فوق هامته.

ولعظم شأن العقيدة فإنها تؤثر في جميع جوانب العملية التربوية إيجابًا وسلبًا وذلك لمكانة هذه العقيدة من الدين.

وفي ذلك يقول ابن القيم: «التَّوحيد ألطف شيء، وأنزهه، وأنظفه، وأصفاه، فأدنى شيءٍ يخدشه، ويدنّسه، ويؤثّر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون يؤثّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصَّافية جدًّا أدنى شيءٍ يُؤثر فيها، ولهذا تشوشه: اللَّحظة، واللَّفظة، والشَّهوة الخفيَّة، فإنْ بادر صاحبه وقلعَ ذلك الأثر بضدِّه؛ وإلَّا اِسْتحكم وصارَ طبعًا يتعسّر عليه قلعه»

(1)

.

‌الارتباط الوثيق بين الجانب الأخلاقي والجانب التعبدي:

إن ارتباط الجانب الأخلاقي بالجانب التعبدي في كتاب الله ارتباط وثيق والرابط بينهما هو ذلك الرباط الوثيق والأساس المكين المتمثل في عقيدة الإسلام الصحيحة والصافية.

وإن المتأمل في العلاقة بين العبادات والأخلاق يجد بينها رباطًا وثيقًا، ويظهر ذلك جليًّا في مقاصدها وأهدافها وغاياتها، فالمتأمل فيها يجد أن جميع تلك الجوانب تعبدية كانت أم أخلاقية إنما هي وسائل لتحقيق غايات عظيمة ومقاصد وأهداف جليلة، من أَجَلِّهَا تحقيق العبودية وامتثال مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات.

ومن تلك العبادات أركان الإسلام الأربعة: الصلاة، والصيام، والزكاة،

(1)

الفوائد (195، 196).

ص: 579

والحج؛ يجدها كلها وسائل لتحقيق غايات عظيمة، وهي من الأمثلة الحية الشاهدة على الترابط بين العبادة والأخلاق في شريعة الله تبارك وتعالى.

‌أولاً: فريضة الصلاة وعلاقتها بالجانب العقدي والأخلاقي:

فالصلاة صلة بين المخلوق الفقير والخالق الغني، وصلاة الجماعة صلة بين المسلم وإخوانه المؤمنين، وفي إقامتها والمواظبة على أدائها تواصل بين الأجيال المؤمنة على مرّ العصور والأزمان، وفي جميع الأمصار وإن تباعدت الأبدان فرابط العبودية لرب واحد وروح معاني الأخوة الإيمانية تجمع أهل الإيمان، ولها تواصل وامتداد عبر الزمان والمكان، والتواصل الروحي بين أهل الإيمان في كل عصر ومصر.

وهي من أعظم العبادات في الإسلام وأحد أركانه العظام، وهي وسيلة عظيمة، من أعظم غاياتها ومقاصدها أن ينتهي الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فإذا لم ينته المصلي عن مقصود الصلاة فقد قصرت به تلك الوسيلة العظيمة عن بلوغ مقصودها وغاياتها ألا وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

يقول ابن سعدي: «وجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا

ص: 580

من أعظم مقاصدها وثمراتها»

(1)

انتهى.

ويقول ابن عاشور: «فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال:{تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ولم يقل تصد وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر.

ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل، ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس، وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة.

ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة، يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر»

(2)

.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «نَفْسُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَعَاصِي يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَالصَّلَاةُ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَهْيُهَا عَنِ الذُّنُوبِ، والثَّانِي: تَضَمُّنُهَا ذِكْرُ اللَّهِ»

(3)

انتهى.

ويقول ابن كثير: «يَعْنِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، أيْ: إِنَّ مُوَاظَبَتَهَا تَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ»

(4)

.

(1)

ابن سعدي (632).

(2)

ابن عاشور (20/ 178 - 179).

(3)

مجموع الفتاوى (10/ 753).

(4)

ابن كثير (6/ 280 - 282).

ص: 581

ويقول البقاعي: «أقم الصلاة: أي: بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها، سعيًا في نجاة نفسك وتصفية سرك، فإن إقامتها -وهي الإتيان بها على النحو المرضي- مانعة من الخلل في العمل {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]؛ لأنها الإقبال على مَنْ وَحَّدْتَهُ فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه»

(1)

.

- ويقول ابن تيمية: قَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. «بَيَانٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ»

(2)

.

ويقول معالي الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله: «للصلاة الصحيحة تأثير في سلوك العبد وأعماله الأخرى، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].

فالذي يصلي بحضور قلبه وخشوع واستحضار لعظمة الله؛ هذا يخرج بصلاة مفيدة نافعة، تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ويحصل بها على الفلاح.

أما الذي يصلي صلاة صورية؛ من غير حضور قلب، ومن غير خشوع، قلبه في واد وجسمه في واد آخر؛ فهذا لا يحصل من صلاته على طائل»

(3)

انتهى.

وعلى هذا فإن كان الإنسان مُقْتَصِدًا في العبادة لكنه حسن الخلق مع الناس، خَيْرٌ له مِنْ أن يكون قَانِتًا عابدًا مسيئًا لعباد الله.

(1)

نظم الدرر (15/ 174).

(2)

انتهى من مجموع الفتاوى (20/ 192 - 193).

(3)

المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان (3/ 53، 54)، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (26/ 86).

ص: 582

- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ -يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا- غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ:«هِيَ فِي النَّارِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ -يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا- وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ»

(1)

.

«بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ» أي: بقطع منه جمع ثور بالمثلثة وهو قطعة من الأقط ذكره الجوهري

(2)

.

وفي ذلك ومثله يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «لَا تَنْفَعُ الصَّلَاةُ إِلَّا مَنْ أَطَاعَهَا» ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]

(3)

.

فَإن الصلاة الصحيحة أثمرت الكف والانتهاء عن رذائل الأخلاق ومنكراتها، والصلاة ثمرة من ثمار صحة المعتقد، لأن العقيدة هي الدافع لأداء الصلاة، وأنه لا صلاة تامة إلا بأخلاق حميدة، ولهذا تصبح مكارم الأخلاق ثمرة من ثمار العقيدة، وهذا كله يدل على التلازم بين جوانب التربية جميعًا، عقيدة وعبادة وأخلاقًا سلوكًا.

فإذا لم يكن ثَمَّ عقيدة صحيحة تدفع لأداء العبادة على الوجه المشروع

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 440)، وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 321)، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 190).

(2)

وينظر: مرقاة المصابيح شرح مشكاة المصابيح، للهروي، كتاب الآداب: كتاب الشفقة والرحمة على الخلق (ص 3127).

(3)

مصنف ابن أبي شيبة (13/ 298).

ص: 583

وتحث عليها وتُقَوِّمُ بها الأخلاق وتُصلح ما اختل منها وما أعتل، فلا عبادة ومن ثَمَّ فلا أخلاق، وهذا مما يؤيد ويعاضد من أوجه الترابط والتواثق والتلازم بين تلك الجوانب جميعًا.

وقد مرَّ معنا كثيرًا في طيات البحث الكلام عن مكارم الأخلاق، وأنها غاية من أعظم الغايات التي بُعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لتحسينها وإتمامها وإكمالها.

وحينما يعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المقصد من مبعثه وبيان الغاية منه بأداة تفيد الحصر وهي كلمة «إنما» ، ذلك ليثبت للبشرية قاطبة أن الشريعة السمحة التي بعث بها إنما شرعت لإصلاح هذا الجانب العظيم ولإكماله وإتمامه وتحسينه.

‌ثانيًا: فريضة الصيام وعلاقتها بالعقيدة والأخلاق وكذلك الشأن في فرضية الصيام ومشروعيته

.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].

والصيام من أعظم الوسائل لتحقيق التقوى التي بها جماع الخير كله- وهي الجامع لأمر الاستجابة لله بفعل المأمور وترك المحذور، والصيام الذي يثمر التقوى يقيم سياجًا قويًّا وحصنًا منيعًا بين المؤمن و بين محارم الله تبارك تعالى.

يقول ابن كثير: «لِمَا فِيهِ مِنْ زَكَاةِ النَّفْسِ وَطَهَارَتِهَا وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ»

(1)

.

والصِّيام سرٌّ خفي بين العبد وربِّه لا يطَّلع عليه إلا هو سبحانه وتعالى.

(1)

ابن كثير (1/ 497).

ص: 584

ومن حقائق الصوم ترك ما جبلت عليه النفوس وألفته الطباع من حظوظ النَّفس ومشتهياتها لله عز وجل، مع قدرة العبد على ذلك.

وهذا دليل على تمام صدق العبد و كمال إخلاصه لله تعالى، وذلك لعلمه باطلاع ربه عليه ومراقبته له في خلواته وجلواته، فأطاع الله تعالى واستجاب لداعي الإيمان رغبة فيما عند الله من جزيل الثواب، ورهبة فيما عنده من أليم العقاب، ذلك لأن الصِّيام من العبادات الَّتي تسمو بنفس المسلم إلى مرتبة الإيمان ثم ترتقي به إلى درجة الإحسان التي هي أعلى مراتب الدين.

- يقول ابن عاشور {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]: «بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع»

(1)

.

والصيام يقوي إرادة المؤمن ويقرب قلبه من بارئه سبحانه، ويقوي صلته بربه جل في علاه، ويشحذ من عزيمته ويحث على التراحم والود وحسن الصلة بين الصائم وإخوانه المؤمنين، كل ذلك لما له من آثار طيِّبة تربوية وإيمانية وأخلاقية وسلوكية على الفرد المسلم والجماعة المسلمة على حدٍّ سواء مع ما فيه من الترغيب في مجاهدة النفس وكبح لجماحها عن شهواتها، وتزكية لها من أدرانها، وتصفية لها وتنقية لما علق بها من شوائب، مع ما يرغب فيه من الحثّ على اكتساب الفضائل، واجتناب الغوائل والرذائل، ولذا كان من ثمار الصيام وأثره على النفس ما يجده المؤمن من رقة في قلبه وصلاحٍ في نفسه وتهذيبٍ لسمعه وبصره ومنطقه ولفظه وفعله، وتربية نفسه على مراقبة الله وخشيته في علانيته وسره، والمداومة على محاسبة نفسه، وتهذيبٍ لجميع جوارحه، لم لا؟

(1)

ابن عاشور (2/ 157).

ص: 585

فالصَّوم مدرسة لتهذيب الأخلاق وتقوية لإرادة المؤمن وتهيئته للتضحية والبذل والسخاء والعطاء لله تعالى، وهو من أعظم أسباب انشراح الصدور، وطمأنينة القلوب، وهدوء النفوس.

ويقول رشيد رضا: «هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا»

(1)

.

يقول ابن القيم: «المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تركِّز به ما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكِّر بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يفيدها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين. وهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثارًا لمحبة الله ومرضاته. وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحمايتها من التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها»

(2)

.

ويقول الشوكاني: «قيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة، لأنها تكسر الشهوة وتضعف دواعي المعاصي»

(3)

.

(1)

تفسير المنار (2/ 117).

(2)

زاد المعاد (1/ 211).

(3)

الشوكاني فتح القدير (1/ 117).

ص: 586

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه»

(1)

.

«والصِّيام جُنَّة» : أي: (وقاية) يتوقَّى العبد به الآثام ويستتر به من النَّار، فإن العبد إذا كفَّ نفسه عن الذنوب والآثام والشَّهوات المحرمة في الدُّنيا كان ذلك سترًا له من نار جهنم في الآخرة.

ففي الصومِ وقايةٌ من المأثم، لأنه يُعوِّد المسلم على خلق العفة والطهارة والمراقبة والخشية، ويحجبه عن هواجس النفس وثورات الشهوات المحرمة المستعرة، وهو أيضًا وقايةٌ لها من كل داء.

ويقول الألوسي: «أي: كي تحذروا المعاصي، فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها، أو يكسرها.

فقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»

(2)

.

(1)

صحيح البخاري (2/ 673)(برقم: 1805)، وصحيح مسلم (2/ 806) (برقم: 1151).

(2)

الألوسي (2/ 183)، والحديث أخرجه البخاري (3/ 412)، ومسلم (4/ 128) = =والنسائي (1/ 312 ـ 313) والترمذي (1/ 201)، وكذا الدارمي (2/ 132)، وابن الجارود (672)، والبيهقي (7/ 77)، وأحمد (1/ 424، 425، 432)، وابن أبي شيبة (2/ 1/ 7).

ص: 587

ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغاية العظمى التي يجنيها المؤمن من الصيام هي الخلق الحسن، الذي هو أعظم ثمار الصيام الصحيح، فمن لم يصم صومًا صحيحًا فمن أين يجني تلك الثمار؟.

- وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»

(1)

.

- والصوم يقوّم النفس ويصلحها ويهذبها وينقيها من الشوائب والأخلاقيات الرديئة وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].

قال البغوي: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]: «يعني بالصوم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات»

(2)

.

فالصوم يكسو النفس المؤمنة لباس التقوى، ويتميز الصوم من بين سائر العبادات بأن فيه قمعًا لغرائز الصائم عن الاسترسال في شهواتها، التي هي أصل البلاء على النفس والبدن والروح على حدٍّ سواء، ففيه فطامٌ لها عن ملذاتها ومحبوباتها ومشتهياتها ومألوفاتها، والصوم مؤدب ومهذب وكابح تربوي وإيماني وأخلاقي لتلك الشهوات، لأنه يصرف وساوس الشَّيطان وكيده وتدبيره

(1)

البخاري (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

البغوي (1/ 196).

ص: 588

عن العبد، وهو مهذب لتلك النفس وحاد لسلطانها.

وإن في التقرُّب إلى الله بترك الحلال الطيب المباح حال الصَّيام خير معين للعبد على ترك الخبيث الحرام في غير الصيام، وهذا من دلائل أوجه التلازم بين جوانب التربية قاطبة في هذا الجانب العظيم.

‌ثالثًا: فريضة الزكاة وعلاقتها بالعقيدة والأخلاق:

‌مقاصد الزكاة وعلاقتها بالأخلاق والعقيدة:

وإن الله تعالى لا يشرع لعباده إلا ما فيه صلاح شأنهم كله في معاشهم ومعادهم، وما فيه تحقيق للغايات والمقاصد الحسنة التي تتحقق معها مصالحهم الدينية والدنيوية، ومن هذه الوسائل العظيمة الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام العظام.

ومن الثمار الطيبة التي تُجنَى من جراء إيتاء الزكاة جملة من الروابط الأخلاقية التي تدل على التلازم بينها وبين تلك الشعيرة العظيمة، والتي من أبرزها ما يلي:

‌1 - تزكية النفس وتطهيرها من داء الشح والبخل:

إن حب المال غريزة تحمل الإنسان على حب المال وكنزه وإمساكه عن الإنفاق والبذل، فأوجب الشرع المطهر أداء الزكاة تطهيرًا للنفس، وإزالة حب المال منها ببذله تقربًا وطاعة لله تعالى.

وإنما شرعت الزكاة وفرضت تزكية لتلك النفس وتربية لها على التخلق بخلق الجود والكرم وترك الشح والبخل؛ لأن النفس جبلت على الشح والبخل ومحبة المال وكنزه وإمساكه إلا من رحم الله، فتتعود بإيتاء الزكاة الأخلاق

ص: 589

الطيبة من الكرم والجود وسخاء النفس وسماحتها، وتتريض على أداء الأمانات لأهلها وإيصال الحقوق لأصحابها، وهذه غايات حميدة وأخلاق كريمة ومقاصد جليلة أرادها الشارع الحكيم تربية للمؤمن وتزكية لنفسه وتنقية لها من البطر وتطهيرًا لها من دنس الأثرَة والأنانية وحب الذات واستئثارها بالمال وسد أبواب الشيطان عليها الذي يأمرها بالشح والبخل خوفًا من الفقر والعيلة، وإذا تطهرت النفس من أدرانها صلحت وخرجت من وصف الشح والبخل إلى وصف الجود والكرم والإحسان.

‌2 - الزكاة مطهرة للعبد من الذنوب وتزكية له ولماله:

قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

يقول الطبري: «يقول -تعالى ذكره- لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} من دنس ذنوبهم {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} يقول: وتنميهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها إلى منازل أهل الإخلاص»

(1)

.

يقول ابن سعدي: «وفيها أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها؛ لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها»

(2)

.

والمسلم إذا تطهر من شح نفسه وبخلها، وألف إنفاق المال وبذله لله، وإيصاله لمستحقيه، قوي قلبه وزكت نفسه، وارتقى من وحل البخل والشح،

(1)

الطبري (14/ 454).

(2)

ابن سعدي (3/ 239).

ص: 590

وسلك مسلك المفلحين كما قال ربنا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 15 - 16].

والشحُّ من كسب النفس الأمارة بالسوء؛ ولذا نُسِبَ إليها كما قال ربنا: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16].

‌3 - الزكاة تربية للمؤمن على التراحم وخلق شعور الجسد الواحد ومبدأ التكافل الاجتماعي:

إن روابط الأخوة الإيمانية والألفة والمحبة ثمرة من ثمار أداء الزكاة ودفعها لمستحقيها؛ لأن النفوس مجبولة على محبة ومودة من يحسن إليها، وبذلك التكافل الاجتماعي يعيش المسلم في مجتمع أخوي يسوده الحب والود والوئام.

و بذلك تشيع روح المحبة والترابط بين أفراد المجتمع وتذوب الفوارق الاجتماعية، ويصبح أفراد المجتمع المسلم كالجسد الواحد، وهذه الأخلاق الحميدة من مقاصد الشريعة في الزكاة.

‌4 - تطهير المجتمع من الآفات الاجتماعية الحسية والمعنوية:

ولا شك أن أداء الزكاة لمستحقيها فيه وأد وحسم لمادة الحقد والحسد والكراهية والضغينة والبغضاء، واقتلاع جذور تلك الأمراض من النفوس وإبعاد لها، وفي أدائها أيضًا الحد من الجريمة ومن أسباب التعدي على أموال الأغنياء بالسرقة، والنهب وغير ذلك، والحد أيضًا من سفك الدماء وجريمة القتل التي تنجم غالبًا عن السطو على أموال ذوي اليسار من الناس بسبب التطلع لما في أيديهم والطمع فيه.

ص: 591

ومما سبق يتبين العلاقة بين الزكاة وبين الأخلاق وتقويمها، ومع هذا فإنها عبادة وركن من أركان الإسلام يؤديها المسلم طواعية لله تعالى معتقدًا فرضيتها متعبدًا لله بوجوب أدائها لمستحقيها. والحمد لله رب العالمين.

‌رابعًا: فريضة الحج وعلاقتها بالعقيدة والأخلاق:

‌العلاقة بين جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق في شعيرة الحج:

الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، يقول الله عز وجل:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

إن من أهم مقاصد الشريعة العظيمة في الحج، تربية النفس على الأخلاق العالية بكل معانيها وصورها، ففيه معاني التربية على خلق إخلاص العمل لله تعالى وتجريده سبحانه بالقصد دون ما سواه من المخلوقين، وكذلك خلق التجرد في الاتباع وتجنب الابتداع في الدين، وتجريد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقصد العظيم، وفيه معاني التربية على خلق التقوى والمراقبة له سبحانه وحده لا شريك له، وفيه معاني التربية على مكارم الأخلاق وجميل الصفات مع الناس، وترويضها على محاسن الطباع، والترقي بها في مدارج أهل التقى والصلاح، والحج فيه معاني التربية على الترفع عن الشهوات المباحة لتتروض النفس على الترفع عن الشهوات المحرمة، وفيه معاني التربية على حسن التعامل مع الناس وتحمل الأذى منهم، والصبر على ذلك كله ابتغاء مرضات الله تعالى.

‌أولاً: الأخلاق مع الله تعالى:

قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].

ص: 592

- قال ابن سعدي: «بإخلاصهما لله تعالى»

(1)

.

وهذا الخلق -أعني: الإخلاص- متعلق بتعلق القلب بالله وتجريد العمل له سبحانه، وهذا من أعلى مقامات الأخلاق في التعامل مع الله تعالى.

والنبي صلى الله عليه وسلم يحج متواضعًا لله ويدعوه أن يجنبه الرياء.

- فعن أنس رضي الله عنه قال: حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلِ قَطِيفَةٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لِي بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، ثم قال:«اللَّهُمَّ حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ»

(2)

.

ومن هذا الحديث نستنبط خلقين كريمين متلازمين مع عبادة الحج ألا وهما: خلق التواضع لله، وخلق إخلاص العمل له سبحانه وتعالى.

‌ثانيًا الأخلاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم

-:

أخرج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في «صحيحه» من حديث جابر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:«لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»

(3)

.

ولا شك أن هذا الحديث أصل في الاتباع، وهذا الجانب الخلقي العظيم هو من أَجَلِّ أخلاق المؤمن مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في تعظيم شريعته، واتباع سنته، والتمسك بطريقته بلزوم الاتباع واجتناب الابتداع.

يقول أبو إسحاق الرقي: «علامة محبة الله: إيثار طاعته، ومتابعة رسوله

(1)

ابن سعدي (1/ 146).

(2)

صحيح لغيره (122) صحيح الترغيب والترهيب، الألباني.

(3)

رواه مسلم في صحيحه (برقم: 1297).

ص: 593

-صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

ويقول ابن أبي العز: «والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع»

(2)

.

‌ثالثًا: الأخلاق مع الناس:

ومن الأخلاق المتلازمة مع فريضة الحج، الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك حسب القدرة والطاقة، وحسن الخلق مع الناس والتعامل معهم بإحسان؛ ويَتمثل ذلك ويَتأكد أكثر في مشاهد الزحام الشديد في المناسك ومشاعر الحج وما ينبغي أن يكون ملازمًا للمسلم من خلق التراحم والإيثار والشفقة والحلم وانضباط للنفس وكبح لجماحها عن كل شرّ مع كتم الغيظ والعفو عن المسيء من الناس وترك المراء والجدال بالباطل، والتباعد والتجافي عن سيئ الأخلاق ورديئها، والصبر على الأذى في ذات الله، مع تحمل المشاق والصعاب في إتمام النسك على الوجه المشروع دون إيذاء لأحد، وخدمة الحجيج ولا سيما الضعفاء وذوي الحاجة منهم، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وطيب الكلام، والدفع بالتي هي أحسن، مع بذل المعروف عمومًا لكل أحد، مع كمال وتمام حبس الجوارح وكفها عن كل مكروه، ولا سيما جارحتي اللسان والبصر خاصة مع كثرة الاختلاط الذي يحتاج للصبر عن معصية الله، ولا سيما وقت التزاحم والتدافع واجتماع الحجيج.

(1)

مدارج السالكين (2/ 487).

(2)

شرح الطحاوية (37)، وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 170).

ص: 594

وهذه الآداب الشرعية وغيرها، هي جملة من الأخلاق الحميدة المقصودة في الشرع من هذه الشعيرة العظيمة، والتي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن في حجه.

- والإحسان للعباد من بِرِّ الحج، لما ثبت من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قال: «إيمانٌ بالله» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرورٌ»

(1)

.

وفي معنى الحج المبرور يقول القرطبي: «فقيل: الذي لا يخالطه شيء من المأثم، وقيل: المتقبَّل، وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سُمْعَة»

(2)

.

ويقول البغوي: «الحج المبرور قيل: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم، والبيع المبرور: الذي لا خيانة فيه ولا شبهة»

(3)

.

والبر عمومًا: هو حُسن الخُلق.

والبر في الحج يُطلق على معانٍ عدة:

- منها: الإحسان إلى عموم الناس

- ومنها: فعل الطاعات وسائر القربات

- ومنها: ألا يأتي فيه معصيةَ اللهِ تعالى، ولا يعقبه بمعصية.

ولا شك أن ترك المأثم من أَجَلِّ الأخلاق وأرفعها؛ لأن الحج فيه تربية للنفس على تهذيب الأخلاق وتعويدها وترويضها على تحمل الأذى والمكاره وبذل الندى والمعروف والإحسان إلى الخلق مع الصبر على ذلك كله ابتغاء

(1)

البخاري (1422).

(2)

(11/ 15) المفهم.

(3)

شرح السنة (7/ 6).

ص: 595

رضوان الله تعالى، وتعلم الشجاعة ونزع الضعف والكسل والدعة والإحجام عن أداء الواجبات من تلك النفس، وتنمية أخلاق الصابرين فيها، وغرس خلق الإيثار والبذل والكرم والجود والعطاء والسخاء وحب الخير للغير؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

(1)

.

‌والخلاصة:

أن العبادات عمومًا لها دور بارز في إصلاح النفس وتوجيهها إلى مكارم الأخلاق، وتزكيتها من كل شائبة، وقد سبق معنا بيان ذلك، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك لِمَا تجدده من معاني الإيمان؛ لأنها تجدد الصلة بالله في أوقات متفرقة ومتجددة يوميًّا في طرفي النهار ووسطه وآخره، والزكاة في طياتها معاني تزكية النفس من البخل والشح والأنانية وحب الذات، مع ما تجلبه للعبد من تطهير لماله ونماء له بإخلاف الله عليه، وما يجعل سبحانه من البركة للعبد في ماله ونفسه، وكذلك الصيام فرضه الله تزكية لعباده وتربية لهم على الخشية والمراقبة والكف عن الشهوات لتتحقق لهم مرتبة التقوى، وكذلك شعيرة الحج وما يترتب عليها من تحصيل المراتب العالية من جليل وجميل الصفات، وتحقيق معاني الأخوة الإيمانية، وما يترتب من جراء ذلك من تزكية للنفس وتربية لها على البذل والتضحية في ذات الله وابتغاء مرضاته، فالعبادات في الإسلام عمومًا بينها وبين تزكية النفس وتربيتها على مكارم الأخلاق ترابط وتلازم لا ينفكان أبدًا، ولذا عقد ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين» فصلًا بعنوان:(الدين كله خلق)، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين

(2)

.

(1)

البخاري (1521)، ومسلم (1350) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

(2)

مدارج السالكين (2/ 307).

ص: 596

فالعقيدة الصحيحة تدفع المؤمن لأداء العبادات على الوجه المطلوب تقربًا لله تعالى، والعبادة الصحيحة هي التي تترك أثرًا وانطباعًا على سلوك المؤمن وأخلاقه، وهذا تلازم وترابط لا ينفك أبدًا بين تلك الجوانب جميعًا.

وأخيرًا:

فهذا بيان لتأكيد التلازم والترابط بين تلك الجوانب جميعًا مصحوبًا بأمثلة من كتاب الله تعالى.

وإن المتأمل في كتاب الله خاصة في القرآن المكي يجد ذلك واضحًا جليًّا، وأشير فقط لمواضع من كتاب الله ليتأمل من أراد الاستزادة.

‌المثال الأول:

يقول الله تعالى في سورة البقرة: -الآية (177) - {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].

يتبين في الآية السابقة من سورة البقرة -وهي مدنية- التلازم والترابط بين جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق، ففي الآية الكريمة نرى تلازمًا وترابطًا بين جملة من الأخلاق وهي إنفاق المال على حبه وإيتائه لمستحقيه، وبين جملة من العبادات المحضة كالصلاة والزكاة، والوفاء بالعهد والصبر وهما من مكارم الأخلاق، وجعل كل ما سبق من العبادات والأخلاق الحسنة والأخلاق الكريمة من علامات الإيمان وخصاله الدالة عليه.

ص: 597

‌المثال الثاني:

صدر سورة المؤمنون -وهي مكية- الآيات من 9: 1: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} [المؤمنون: 1 - 9].

فالمتأمل في تلك الآيات يجد الترابط والتلازم بين الإيمان والعبادة والأخلاق، فالآيات افتتحت بالصلاة وختمت بها مع ما تضمنته بين الافتتاح والخاتمة من وصف الإيمان وفلاح أهله وبيان لبعض العبادات كالزكاة، ثم بيان لجملة من أخلاق أهل الإيمان، وفي ذلك برهان ساطع على التلازم والترابط بين تلك الجوانب جميعًا.

‌المثال الثالث:

في سورة المعارج -وهي مكية- الآيات: من 2: 34: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ

ص: 598

وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)} [المعارج: 1 - 34].

يجد المتأمل تلازمًا بين تلك الجوانب جميعًا، فجاء التلازم بين فريضتي الصلاة والزكاة والإيمان في ثلاث آيات متتابعات ثم تلتها عقب ذلك جملة من مكارم الأخلاق، ثم ختم الأمر بالمحافظة على الصلاة، ولا ريب أن في ذلك أوضح الدلالات على التلازم والترابط بين تلك الجوانب جميعًا.

‌المثال الرابع:

في سورة الفرقان -وهي مكية- في محض الكلام عن صفات عباد الرحمن، الآيات: من 63: 68: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 63 - 68].

يجد المتأمل هذا التلازم جليًّا للعيان، ففي الآية الأولى ذكر أخص صفتين من صفات عباد الرحمن، وهما صفتا التواضع وحسن مخاطبة الجاهلين، وهذا في الجانب الأخلاقي، ثم ثنى بوصف تهجدهم في الليل، وهذا في الجانب التعبدي، ثم ثلث بوصف شفقتهم وخوفهم من عذاب الله، وهذا جانب إيماني

ص: 599

عقدي، فجمع بين الإيمان والإقرار باليوم الآخر والخوف من عذاب الله، وكلاهما جانب عقدي، ثم بتتابع الآيات يتجلى الأمر كذلك جليًّا ليؤكد الترابط والتلازم بين تلك الجوانب جميعًا.

‌المثال الخامس والأخير:

في سورة لقمان -وهي مكية- الآيات: من 12: 19 - وهي موضوع بحثنا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 12 - 19].

ففي مطلع الآيات ورد الأمر بنبذ الشرك، وهو أمر عقدي، وتعقبه بالأمر ببر الوالدين وهو أمر خلقي، ثم الأمر باتباع سبيل المؤمنين وهو أمر تعبدي، ثم تلاه بيان سعة علم الله واطلاعه على خلقه وهو أمر عقدي، ثم تلاه الأمر بإقام الصلاة وهو أمر تعبدي، ثم تلاه الأمر بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر والصبر على ذلك وهو أمر تعبدي، ثم الأمر بالتواضع والنهي عن

ص: 600

التكبر، ثم الأمر بخفض الصوت وهذا كله في الجانب الخلقي، ويتبين مما سلف وضوح الترابط والتلازم بين تلك الجوانب جميعًا.

- ومثال ذلك من السنة حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ»

(1)

.

فجمع الحديث بين تلك الجوانب جميعًا.

ومما لا شك فيه أن من أشد المعضلات التي تعاني منها المجتمعات المسلمة اليوم أن في جنبات بعض أبنائها المنتسبين لهذا الدين العظيم، وجود انفصام بين العلم والعمل، وبين العبادة وبين تحقيق جَني ثمارِها اليانعة وآثارها الطيبة المرجو قطافها من أثر تلك العبادة والتي من أعظمها وأَجَلِّها الجانب الخلقي، حيث أصبحت تأدية العبادة عند البعض أشبه بعبادات شكلية ظاهرة، مع أن البواطن لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، لكن هذه العبادات لها آثار حميدة وغايات طيبة يجب أن تتجلى وتظهر على صاحبها في حركاته وسكناته، ومن أهمها وأَجَلِّهَا حسن الخلق.

إذًا فهناك خلل وانفصام واضح وكبير بين أداء تلك الشعائر التعبدية، وبين السعي الحثيث لتحقيق غاياتها ومقاصدها وأهدافها.

ولعل السبب الرئيس لهذا السلوك البعد والتخلي عن منهج التربية الإيمانية المتكاملة التي يتجلى فيها جانب الترابط والتلازم والتعاضد بين جوانب التربية

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الإيمان: باب أمور الإيمان (1/ 11)(رقم: 9)، ومسلم، كتاب الإيمان: باب شعب الإيمان (1/ 63)(رقم: 35)، واللفظ لمسلم.

ص: 601

جميعًا، عقيدة وعبادة وسلوكًا وأخلاقًا، فلو أن المؤمن استقام على أمر الله تعالى ولم يخالف قوُلُه فِعلَهُ، وحقق الغايات والمقاصد التي من أجلها شُرعت تلك العبادات؛ لأصلح الله أحوال البلاد والعباد، وتم بذلك درء الكثير من الآفات والأضرار الاجتماعية الناجمة عن الانفصام بين العقيدة والعبادة والسلوك الأخلاقي العملي، والتي أفسدت على كثير من الناس أحوالهم ونكدت عليهم صفو حياتهم ومعيشتهم.

وفي مثل ذلك يقول ربنا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].

فالإسلام بنيان مرصوص تام كامل لا يتجزأ، تراه مترابطًا في كل جوانبه «العقدية والتعبدية والأخلاقية» .

وفي نحو هذا الصدد يقول أبو حامد الغزالي: «الأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة»

(1)

.

ولهذا كانت موعظة لقمان الحكيم لابنه منهاجًا تربويًّا متكامل الأركان تام البنيان شمل جميع جوانب التربية الإيمانية عقيدة وعبادة وأخلاقًا.

‌وختامًا:

فما أحوج الأب والمربي والداعي وكل من تصدر للتربية والتعليم والدعوة

(1)

إحياء علوم الدين (3/ 49).

ص: 602

والإصلاح والتوجيه والإرشاد أن يتأمل تلك الوصايا الجامعة النافعة والصادرة من مرب حكيم، لتربية الأجيال تربية صالحة في ضوء هذا المنهج التربوي المتكامل الأركان التام البنيان.

وبهذا ينتهي المبحث الرابع

والحمد لله رب العالمين.

ص: 603

‌خاتمة البحث

وفيها:

1 -

أبرز النتائج

2 -

أهم التوصيات.

ص: 605

‌1 - أبرز النتائج

.

لقد دعا الله عباده لتدبر كتابه ليهتدوا بهداياته، فقال سبحانه في وصف كتابه:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]، ومن تدبر وتأمل كتابَ الله تيقن أنه كتاب هداية، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور، قال سبحانه:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

فالقرآن كتاب هداية يَسْتَقي منه العبادُ سبلَ الهدى والرشاد، ويهتدون به لأقوم الطرق والشرائع وأعدلها، وأوضح السبل وأسدها وأصوبها، وهي سبل النبيين والمرسلين عليهم السلام، فمن اهتدى بهداية القرآن؛ كان من أكمل الناس وأقومهم سبيلًا، وأهداهم وأحسنهم طريقًا، وأعدلهم حكمًا، وأصوبهم وأرشدهم رأيًا في جميع شأنه كله.

والمسلمون في أَمَسِّ الحاجة للعودة لهذا المنهل العذب الذي يجب عليهم أن ينهلوا من معينه الصافي مصادر التربية والتوجيه والإصلاح في كل زمان ومكان، ولا سيما في زمن تشعبت بهم فيه السبل وكثرت فيه موارد التربية وتنوعت فيه مصادر التلقي، والله من رحمته بعباده لم يتركهم سدى ولم يدعهم هملًا ولا حيارى تائهين، بل دلهم على ما فيه عزهم وصلاحهم وفلاحهم

ص: 607

وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فإن أخذوا بهدايات كتاب ربهم فقد اهتدوا للتي هي أقوم، وسلكوا بهداياته سبل السلام، وأخرجهم به ربهم من الظلمات إلى النور بإذنه وهداهم إلى صراطه المستقيم، صراط الله العزيز الحميد.

وإن أقوم طرق التربية الإيمانية المتكاملة هي التي تُسْتَقَى من هذا الكتاب المبارك، ومما ورد من تلك المناهج في كتاب الله عز وجل، منهج لقمان التربوي المتكامل في ضوء موعظته ووصاياه لابنه، وقد مرّ معنا بيان هذا المنهج الحكيم الذي حاز تزكية الرب تبارك وتعالى وثناءه على المربي الحكيم، ومنهجه القويم، وخلد ذكره في كتابه ليكون عبرة لكل معتبر، ومنهجًا أصيلًا وموردًا عذبًا زلالًا لكل وارد ظمآن، ليرتوي من معين هذا المنهج المبارك، وسبيلًا رشيدًا لكل حيران يبحث عن سبيل النجاة وسلوك طريق الهدى الرشاد.

والباحث بعد أن نهل من هذا المورد العذب الزلال توصل بحمد الله لنتائج جمة يبرز أهمها فيما يلي:

‌أولاً: عظم شأن التوحيد:

وأنه أول واجب على العبيد، ولذا بدأ لقمان بالأمر بنبذ الشرك المتضمن تحقيق التوحيد الذي هو أعظم حق من حقوق الله في رقاب جميع العبيد، فيجب العناية بهذا الجانب لعظم شأنه ولما يترتب عليه من حسن العاقبة في العاجل والآجل.

‌ثانيًا: مكانة بر الوالدين من الدين:

إن مجيء الوصية بحق الوالدين في غير ما موضع من كتاب الله مقترنة بأعظم الحقوق وأَجَلِّهَا ألا وهو حق الله في توحيده وإفراده بالعبودية، فيه دلالة قاطعة

ص: 608

على عظم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما، ثم الوصية بالأم خاصة فيه إشارة ودلالة على مكانتها وفضلها وعظيم قدرها وحقها ووجوب برها والعناية بها عناية خاصة، وإن برّ الوالدين من أوجب الواجبات المتحتمات في جميع الأحوال والأوقات.

‌ثالثًا: وجوب برِّ الوالدين ولو كانا مشركين:

إن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة، وطاعة سائر المخلوقين طاعة مقيدة بالمعروف -ومنها طاعة الوالدين- لا تكون كذلك إلا في المعروف، أما إنْ أمرا بالشرك وما دونه من المعاصي فلا سمع لهما هنا ولا طاعة، هذا مع وجوب برهما وشكرهما بعد شكر الله تعالى والإحسان إليهما من كل الوجوه ولو كانا كافرين.

‌رابعًا: وجوب اتباع سبيل المؤمنين:

بيان عظم شأن الوصية بلزوم الجماعة المسلمة، ووجوب اتباع سبيل المؤمنين المنيبين، ولزوم طريق السلف عقيدة وشريعة وأخلاقًا ومنهاجًا، وعدم شق عصا الطاعة بالخروج عن الجماعة المسلمة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.

‌خامسًا: وجوب تعظيم الله تعالى:

وجوب تعظيم الله وإجلاله، لعظمته وسعة علمه واطلاعه على خلقه وإحاطة علمه وقدرته بجميع مخلوقاته.

وهذا لا يتأتى لأحد إلا إذا صلح قلبه وأصبح ممتلئًا بمحبة الله وخشيته ومداومة مراقبته وذكره، والخوف منه ومن قربان محارمه، وغشيان معاصيه،

ص: 609

والقرب مما يسخطه ويمقته سبحانه وتعالى، وهذه أَجَلُّ علامات يقظة القلب وعلامات تعظيم الله وإجلاله سبحانه جل في علاه.

‌سادسًا: بيان مكانة الصلاة من الدين:

إن الصلاة من أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وأنها من أعظم وأَجَلِّ وسائل التربية الإيمانية العملية، ومن أهم وسائل الثبات على الحق ذلك لما لها من عظيم الأثر في تقويم الأخلاق وتحقيق الخشية لله وإدامة المراقبة له سبحانه وتعالى.

‌سابعًا: وجوب الدعوة إلى الله وتحمل المشاق في سبيلها:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة من أهم وسائل الإصلاح للفرد والجماعة، وهي بمثابة الحصن الحصين والدرع الواقي للمجتمع المسلم، وأن القيام بهذه الشعيرة من أوجب الواجبات وأهم المهمات، وأن تركها له أسوأ العواقب الوخيمة، وبسبب إهمالها تحل النكبات وتتنزل العقوبات، وأن القائم بهذه الشعيرة لا بد له من مواجهة المجتمع فلا بد له من الصبر على إبلاغ الحق، والصبر على الأذى الذي قد يقع له من بعض الخلق.

‌ثامنًا: ذم الكبر ووجوب الحذر منه:

الكبر من الصفات الذميمة والخصال الذميمة التي يجب أن يترفع عنها المؤمن، وهي من أعظم أسباب حلول سخط الله ونقمته ومقته وغضبه على المتلبس بها، وصاحبها متوعد بأشد العقوبة في الآخرة، لأنه منازع الرب العظيم أخص صفاته، هذا مع ما يقع من بغض العباد له، والنفور منه ومن معاشرته ومخالطته.

ص: 610

‌تاسعًا: وجوب تواضع العبد لله:

التواضع من أخص صفات المؤمنين، ومن هدي عباد الله المخبتين، ودلهم، وسمتهم. والتواضع يدلل على رجاحة العقل وحسن الخلق والاعتزاز بالدين، فيجب على المؤمن الحرص على التخلق بهذا الخلق العظيم، تواضعًا وتذللًا لله وإخباتًا وإنابة إليه.

‌عاشرًا: ذم علو الصوت لغير حاجة:

التأدب مع الناس مطلب شرعي عزيز المنال، وإن خفض الصوت مع المُخَاطَب دلالة على حسن الأدب معه، مع ما يزين صاحبه بالسكينة والوقار، وإن علو الصوت يوقع بصاحبه المذمة والتشبه بأخس المخلوقات، فالترفع عنه واجب من أهم الواجبات.

ص: 611

‌2 - أهم التوصيات

يوصي الباحث بما يلي:

‌أولاً:

بالاعتصام بحبل الله المتين، والتمسك بكتاب الله المبين، والأخذ بهداياته، وكذلك بالتمسك بالسنة المطهرة، فهي مفسرة لمجمل القرآن، ومبينة وموضحة لهداياته.

‌ثانيًا:

بالاستفادة من وصايا لقمان خصوصًا لأنها من النماذج التربوية الفريدة والمتكاملة، ولا سيما في مناهج إعداد المعلمين والدعاة، ومناهج الدراسات الشرعية، وسائر المؤسسات التعليمية والدعوية والتربوية والإصلاحية، ومن ثَمَّ تصبح من المقررات الدراسية في محافل التعليم النظامية والرسمية، والغاية من ذلك هو إخراج جيل مسلم صالح مرتبط بهدايات القرآن، مستضيء بنوره، مهيأ للاستخلاف في الأرض.

‌ثالثًا:

بالعناية بالتربية الكاملة وإصلاح مناهج التربية والتعليم في جميع مراحلها وروافدها، وتأسيسها على ضوء مبادئ الدين الحنيف، وأصول الشريعة الغراء، من جميع جوانبها -عقيدة وشريعة ومنهاجًا- عبادة وسلوكًا وأخلاقًا- والعناية بالناشئة والأخذ بنواصيهم نحو سبل الرشاد، ودلالتهم على الخير وحثهم على التمسك بالفضائل والترفع عن الرذائل ومهاوي الردى.

ص: 612

‌رابعًا:

بالعناية بدور روافد التربية ووجوب أداء كل منها ما يجب عليه تجاه الناشئة على أتم الوجوه وأكملها وأحسنها، كما يوصي بضرورة الترابط بين واجبات تلك الروافد مجتمعة، وعدم التناقض بينها ليخرج للأمة جيل صالح متزن متكامل الشخصية صحيح البناء، ليس لديه انفصام في فهم الدين والعمل به.

‌خامسًا:

كما يوصي كذلك بضرورة وجود القدوة الصالحة ذات المقومات التربوية المتكاملة والمتمثلة في المربي الصالح، من الآباء والمربين والدعاة والمعلمين وسائر المصلحين، والعناية البالغة بهذا الجانب المهم لما لها من عظيم الأثر في نفوس الناشئة.

‌وأخيرًا:

فإن الباحث قد بذل ما في وسعه لإكمال هذا البحث وإتمامه، على وجه يرجو به حسنه وكماله، لتبرأ به الذمة، راجيًا نفعه لعموم الأمة، ولم يأل في ذلك جهدًا، وبذل له من عمره زمنًا ووقتًا، فلم يبخل ببذل وقت نفيس، ولا التضحية بزمن غالٍ عزيز، والكمال لدى عموم البشر مطلب بعيد المنال، شبيه بالمحال، لأن الإنسان محل للخطأ والنسيان. والبحث ما يزال يحتاج لتنقيب، ولجهد كل باحث لبيب، فلعل الله ييسر له من يزيد الحق وضوحًا، ويكون بذلك للأمة أمينًا نصوحًا، ويقرب تلك المعاني، لطالب الحق، من كل قاصٍ أو دان.

ولعل في هذا كفاية لمن أراد الانطلاق والبداية لتحقيق تلك الغاية.

ولقد صَدَقَ القاضي الفاضل عبد الرَّحيم بن عليّ البيسانيّ لما قال: «إنِّي رأيتُ أنَّه لا يكتُبُ إنسانٌ كتابًا في يومِه؛ إلَّا قالَ في غَدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسنَ،

ص: 613

ولو زِيدَ كذا لكان يُستَحسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجملَ. هذا مِنْ أعظَمِ العِبَرِ، وهو دليلٌ علَى استيلاءِ النَّقصِ علَى جُملةِ البَشَرِ»

(1)

.

‌ومسك الختام بكلام نفيس لإمام ناصح ليس عنده تدليس

.

فهذه كلمات معبرات وحروف مؤثرات، انطلقت من قلب وعقل عالم إمام وحبر همام، كان وما يزال قدوة للأنام، على مرّ الدهور والأعوام؛ ألا وهو ابن القيم -رحمه الله تعالى- حيث يقول: «فيا أيها الناظر فيه، لك غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، ولك صفوه، وعليه كدره، وهذه بضاعته المزجاة تعرض عليك، وبنات أفكاره تُزفّ إليك، فإن صادفت كفئًا كريمًا، لم تعدم منه إمساكًا بمعروف، أو تسريحًا بإحسان، وإن كان غيره، فالله المستعان، وعليه التكلان، وقد رضي من مهرها بدعوة خالصة إن وافقت قبولًا وإحسانًا، وبرد جميل إن كان حظها احتقارًا، واستهجانًا، والمنصف يهب خطأ المخطئ لإصابته، وسيئاته لحسناته؛ فهذه سنة الله في عباده جزاءً وثوابًا، ومن ذا الذي يكون قوله كله سديدًا وعمله كله صوابًا؟ وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن

(1)

كان الأُستاذ أحمد فريد الرِّفاعي (ت 1376 هـ) هو الَّذي شهَّر هذه الكلمةَ؛ حيث وضعها أوَّلَ كلِّ جزء من أجزاء مُعجم الأدباء، لياقوت الحمويّ، وغيره من الكُتب، وتداولَها النَّاس عنه منسوبةً إلى العماد الأصفهانيّ!! والصَّواب نسبتُها للقاضي الفاضل، بعثَ بها إلى العماد؛ كما في أوَّل شرح الإحياء، للزَّبيديّ (1/ 3)، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام، لقطب الدِّين محمد بن أحمد النهر والي الحنفيّ (ت 988 هـ)

نقلًا عن كتاب: «إعلام العابد في حكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد» ، للشيخ/ مشهور بن حسن بن سلمان:(ص 7) دار المنار- الخرج (ط 2).

ص: 614

الهوى، ونطقه وحي يوحى؟ فما صح عنه فهو نقل مُصَدَّقٌ عن قائل معصوم، وما جاء عن غيره فثبوت الأمرين فيه معدوم، فإن صح النقل لم يكن القائل معصومًا، وإن لم يصح لم يكن وصوله إليه معلومًا»

(1)

.

ولعل فيما مضى معتبرًا لأهل البحث والنظر، والباحث لا يزعم أنه أتى بجديد، ولكن-حسبه- قول ربنا:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أملاه

الفقير إلى عفو ربه الباري

الباحث

أبوعبد الرحمن عرفة بن طنطاوي

arafatantawy@hotmil.com

(1)

تضمين من آخر مقدمة ابن القيم لكتابه: روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص 28).

ص: 615

‌فهرس: أهم المصادر والمراجع

ترتيب (ألف بائي)

[1]

القرآن الكريم. -طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية.

(أ)

[2]

أصول التربية الإسلامية. الحازمي: خالد بن حامد، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، ط 1 (1420 هـ-2000 م).

[3]

أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع. النحلاوي- عبد الرحمن، دار الفكر- ط 25 - (هـ 1428).

[4]

أحكام القرآن. المالكي: ابن العربي، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة: الثالثة (1424 هـ - 2003 م)، عدد الأجزاء: أربعة أجزاء.

[5]

أحكام القرآن. الجصاص: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي، تحقيق: عبد السلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى (1415 هـ- 1994 م) عدد الأجزاء: 3.

ص: 619

[6]

أُسد الغابة في معرفة الصحابة. ابن الأثير: عز الدين بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، دار إحياء التراث العربي -بيروت.

[7]

أخلاقنا. جوهري: محمد ربيع -طـ 2 - توزيع دار الاعتصام (1418 هـ).

[8]

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. الشنقيطي: محمد الأمين بن محمد ابن المختار الجكني، دار الفكر، سنة النشر:(1415 هـ/ 1995 م) عدد الأجزاء: تسعة أجزاء.

[9]

أنوار التنزيل وأسرار التأويل «تفسير البيضاوي» . البيضاوي: ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي-بيروت- ط 1 (1418 هـ) عدد الأجزاء: خمسة أجزاء.

[10]

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان. ابن القيم: الإمام محمد بن أبي بكر، تحقيق: محمد حامد الفقي -دار المعرفة- الطبعة: الثانية (1395 هـ).

[11]

إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. الألباني: محمد ناصر الدين، إشراف: زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي -بيروت- الطبعة: الثانية (1405 هـ- 1985 م)، عدد الأجزاء: 9 (8، ومجلد للفهارس.

[12]

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم «تفسير أبي السعود» . أبو السعود العمادي: محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، دار إحياء التراث العربي، بتصوير الطبعة المصرية، تحقيق، محمد عبد السلام محمد - ط 1 - (1408 هـ) عدد الأجزاء: تسعة أجزاء.

ص: 620

[13]

آداب الزفاف في السنة المطهرة. الألباني: أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري، الطبعة: الطبعة الشرعية الوحيدة (1423 هـ-2002 م) عدد الأجزاء: 1.

[14]

الأعلام. الزركلي: خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي، دار العلم للملايين -ط 15 - أيار/ مايو 2002 م.

[15]

إعلام العابد في حكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد. مشهور بن حسن بن سلمان. -دار المنار- الخرج، ط 2.

[16]

الاستيعاب في معرفة الأصحاب. يوسف بن عبد البر القرطبي الأندلسي، دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان الطبعة: الأولى (1995 م)، تحقيق عادل عبد الموجود، وعلي معوض.

[17]

الإصابة في تمييز الصحابة. أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى (1996 م).

[18]

الإشارات التربوية في سورة لقمان. مريمه الحاج، ماجستير غير منشور، جامعة المدينة العالمية، كلية العلوم الإسلامية، قسم القرآن وعلومه،

(1436 هـ).

[19]

الإسرائيليات والموضوعات في التفسير والحديث. د/ محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة (1990 م)، الطبعة: الرابعة، عدد المجلدات:1.

[20]

أسرار ترتيب القرآن السيوطي. جلال الدين: عبد الرحمن بن أبي بكر، دار الفضيلة للنشر والتوزيع (1422 هـ-2002 م)، عدد الأجزاء:1.

ص: 621

[21]

أهداف وخصائص الثقافة الإسلامية. د/ مصطفى مسلم، شارك في التأليف: د/ فتحي محمد الزغبي، شبكة الألوكة- 6/ 7/ 1435 هـ-5/ 5/ 2014 م.

[22]

أساليب التعليم والتعلم. الأغا: إحسان الخليل -ط 1 - الجامعة الإسلامية -غزة- (1986 م).

[23]

الإتقان في علوم القرآن، السيوطي. جلال الدين: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، -دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان -ط 3 - (1415 هـ).

[24]

أساليب التربية النبوية للجند. الجعيد: مشعل بن سيف، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة (1418 هـ).

[25]

أساليب التربية والتعليم في الإسلام. عوض الله الأمين، دار القراءة للجميع، (1410 هـ).

[26]

أسباب النزول. الواحدي: علي بن أحمد الواحدي النيسابوري أبو الحسن، ط-العلمية، تحقيق: كمال بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، (1411 هـ - 1991 م) -ط 1 - عدد الأجزاء: 1

[27]

أسباب النزول المسمى: «لباب النقول في أسباب النزول» . السيوطي: عبد الرحمن جلال الدين، مؤسسة الكتب الثقافية، (1422 هـ-2002) -ط 1 - عدد المجلدات: 1

[28]

أحكام القرآن. الكيا الهراسي: علي بن محمد بن علي، دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق: موسى بن محمد على، عزة عطية (1405 هـ).

ص: 622

[29]

أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم. شحاته عبد الله محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2.

[30]

إعلام الموقعين عن رب العالمين. ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي ثم الدمشقي، دار الجيل، بيروت (1973 هـ)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد.

[31]

اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. ابن تيمية: أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، تحقيق: الدكتور/ ناصر بن عبدالكريم العقل، مكتبة الرشد - الرياض -ط 8 - (1421 هـ).

[32]

الأمثال في القرآن. ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي ثم الدمشقي، الطبعة: الأولى (1406 هـ - 1986 م)، تحقيق: أبي حذيفة إبراهيم ابن محمد، الطبعة: الأولى.

[33]

إحياء علوم الدين. الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، دار المعرفة، بيروت (1402 هـ)، عدد الأجزاء:4.

[34]

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه. مكي بن أبي طالب القيسي أبو محمد، تحقيق: أحمد حسن فرحات، دار المنارة، (1406 هـ - 1986 م)، ط 1، عدد المجلدات: 1

[35]

الاستقامة. ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، تحقيق: محمد رشاد سلام، مكتبة السنة، الطبعة: الثانية، (1409 هـ).

[36]

الاعتصام. الشاطبي: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي،

ص: 623

المتوفى: (790 هـ). تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، الناشر: دار ابن عفان، السعودية الطبعة: الأولى، (1412 هـ - 1992 م)، عدد الأجزاء: 1

(ب)

[37]

البداية والنهاية. أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، دار الكتب العلمية -بيروت- الطبعة: الثالثة، سنة (1407 هـ).

[38]

بر الوالدين. مفهوم وفضائل وآداب وأحكام، في ضوء الكتاب والسنة، القحطاني: سعيد بن وهف، مطبعة سفير الرياض، الناشر: مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان، عدد الأجزاء: 1، أكتوبر (2012 م).

[39]

بر الوالدين في ضوء السنة النبوية الشريفة. د/ سعاد سليمان إدريس الخندقاويّ- عن مجلة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية- الصادرة عن جامعة أم درمان الإسلامية- العدد الخامس عشر (1428 هـ).

[40]

البرهان في علوم القرآن. الزركشي: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، (1376 هـ - 1957 م)، دار إحياء الكتب العربية- عيسى البابي الحلبي وشركائه، ثم صوَّرته دار المعرفة، بيروت، لبنان. وبنفس ترقيم الصفحات، عدد الأجزاء:4.

[41]

البحر المحيط في التفسير. أبو حيان: محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل الناشر: دار الفكر -بيروت- الطبعة (1420 هـ).

[42]

بعض المبادئ التربوية المستنبطة من قصة موسى والخضر عليه السلام. السريحي: محمد بن عيد، رسالة ماجستير، غير منشورة، كلية التربية، جامعة أم

ص: 624

القرى، مكة المكرمة، قسم التربية الإسلامية والمقارنة (1419 هـ).

[43]

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. الفيروز آبادي: محمد بن يعقوب، تحقيق محمد على النجار، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي- القاهرة (1416 هـ)، ط 3

[44]

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار. السعدي: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله، تحقيق: عبد الكريم بن رسمي آل الدريني، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى (1422 هـ - 2002 م).

(ت)

[45]

التبصرة لمن أراد بتعليم القرآن وجه الله والدار الآخرة. تأليف: عرفة بن طنطاوي، دار المأثور -المملكة العربية السعودية- الرياض، الطبعة: الثانية، (1434 هـ) عدد الأجزاء:1.

[46]

تيسير كلام الرحمن في تفسير كلام المنان. السعدي: عبد الرحمن بن ناصر، تحقيق، سعد بن ناصر الصميل، دار ابن الجوزي (1422 هـ) -ط 1 - عدد الأجزاء:4.

[47]

تفسير القرآن العظيم. ابن كثير: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن زرع القرشي، طبعة: دار النهضة العربية للطباعة والنشر -بيروت- ط 5 (1417 هـ).

[48]

تفسير مجاهد. أبو الحجاج: مجاهد بن جبر التابعي المكي القرشي المخزومي، تحقيق: الدكتور محمد عبد السلام أبو النيل، دار الفكر الإسلامي الحديثة، مصر، الطبعة: الأولى (1410 هـ - 1989 م) عدد الأجزاء: 1.

ص: 625

[49]

تفسير الثوري. أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى (1403 هـ -1983 م).

[50]

تفسير عبد الرزاق. أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني، دار الكتب العلمية- بيروت، دراسة وتحقيق: د/ محمود محمد عبده، الطبعة: الأولى (1419 هـ) عدد الأجزاء: 3.

[51]

تفسير القرآن الحكيم «تفسير المنار» . محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين القلموني الحسيني، الهيئة المصرية العامة للكتاب،

(1990 م)، عدد الأجزاء: 12 جزءًا.

[52]

التحرير والتنوير. ابن عاشور: محمد الطاهر، الطبعة التونسية -دار سحنون (1418 هـ-1997 م)، عدد الأجزاء: 30 جزءًا.

[53]

تحفة المودود بأحكام المولود. ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي ثم الدمشقي، تحقيق: بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان بدمشق، ومكتبة المؤيد بالطائف، الطبعة: الثانية (1407 هـ).

[54]

تربية الأولاد في الاسلام. علوان: عبد الله ناصح، دار السلام، بيروت، ط 3، 1401 هـ.

[55]

التربية الأسرية بين الضوابط الشرعية والمتطلبات العصرية. د/ محمد السيد علي، مجلة المنهل، شوال/ ذو القعدة 1420 هـ، يناير/ فبراير 2000 م

[56]

تذكرة الحفاظ. الإمام الذهبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان ابن قايماز، تحقيق العلامة المعلمي: عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أبي

ص: 626

بكر المعلمي العتمي اليماني، نشر دائرة المعارف العثمانية (1374 هـ)، عدد المجلدات:4.

[57]

تذْكِرَةُ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم في أَدَب العَالِم والمُتَعَلِّم. تأليف: بدر الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله، ابن جماعة الكناني، عدد الأجزاء: 1، مكتبة مشكاة الإسلامية.

[58]

التوفيق على مهمات التعريف. المناوي: زين الدين محمد عبد الرؤوف ابن تاج العارفين الحدادي القاهري -تحقيق محمد رضوان الداية - ط 1 - دار المفكر المعاصر -بيروت- دار الفكر دمشق (1410 هـ).

[59]

التربية الوقائية وأساليبها في سورة الحجرات وتطبيقاتها التربوية. الفعر: خالد بن عوض بن علي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، كلية التربية، قسم التربية الاسلامية والمقارنة، رسالة ماجستير غير منشورة (1421 هـ).

[60]

التسهيل لعلوم التنزيل. ابن جزيّ: أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزيّ الكلبي الغرناطي، تحقيق محمد سالم هاشم، طبعة دار الكتب العلمية -بيروت- ط 1 (1415 هـ).

[61]

تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور وسبب اختصاص كل سورة بالحروف التي افتتحت بها. د/ محمد حسن أبو النجا- وما بعدها بحث غير منشور-موقع الألوكة- 29/ 7/ 1433 هـ-/ 6/ 2012 - م.

[62]

تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق. ابن مسكويه: أبو علي أحمد بن محمد ابن يعقوب، دراسة وتحقيق: عماد الهلالي، الناشر: طليعة النور، الطبعة: الأولى (1426 هـ).

ص: 627

[63]

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري المعروف بابن عبد البر، تحقيق: سعيد أحمد أعراب وآخرين، (ط. بدون).

[64]

التربية الوقائية في الإسلام ومدى استفادة المدرسة الثانوية منها. الحدري: خليل بن عبد الله بن عبدالرحمن، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية التربية، مكة المكرمة (1418 هـ).

[65]

التربية الإسلامية دراسة مقارنة. صبيح محمد أحمد جاد، دار الجبيل بيروت (د. ت).

[66]

التربية بضرب الأمثال. عبد الرحمن النحلاوي، دار الفكر دمشق، دار الفكر المعاصر-بيروت- الطبعة: الأولى (1419 هـ -1998 م).

(ج)

[67]

جمال القراء وكمال الإقراء. السخاوي: علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري الشافعي أبو الحسن علم الدين، دراسة وتحقيق: عبد الحق عبد الدايم سيف القاضي، أصل الكتاب رسالة دكتوراه بإشراف: د/ محمد سالم المحيسن، مؤسسة الكتب الثقافية -بيروت- الطبعة: الأولى (1419 هـ - 1999 م) عدد الأجزاء: 2.

[68]

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم. ابن رجب: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد، المعروف بـ (ابن رجب) الحنبلي، تحقيق: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، دار السلام للطباعة والنشر

ص: 628

والتوزيع، الطبعة: الثانية (1424 هـ - 2004 م)، عدد المجلدات: 3 (في ترقيم مسلسل واحد).

[69]

جهود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ الضرورات الخمس. عبد العزيز بن عبد الله، النملة، الطبعة: الأولى (1432 هـ)، سلسلة إصدارات مركز المحتسب. عن -بحوث ندوة الحسبة وعناية المملكة العربية السعودية بها المنعقدة خلال الفترة من: 11 - 12/ 4/ 1431 هـ.

[70]

جامع البيان عن تأويل آي القرآن «تفسير الطبري» . الطبري: محمد بن جرير، دار الهجرة، ط 1.

[71]

الجامع لأحكام القرآن «تفسير القرطبي» . محمد بن أحمد القرطبي، دار الفكر -بيروت- لبنان (1998 م)، تحقيق ومراجعة صدقي جميل، وعرفات العشا.

[72]

الجواب الكافي. ابن قيم الجوزية: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ابن حريز بن مكي زين الدين الزُّرعي ثم الدمشقي، مكتبة الرياض الحديثة، ط:(1401 هـ).

[73]

الجامع الصحيح «سنن الترمذي» . الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية (د. ت).

(ح)

[74]

حكمة الشارع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قُدم لندوة تقوية الإيمان وزيادته (الدورة السابعة) المنعقدة بجامعة الإيمان-اليمن، بتاريخ 6 - 8/ جماد أولى/ 1431 هـ، الموافق 20 - 22/ إبريل/ 2010 م.

ص: 629

[75]

حلية الأولياء. الأصبهاني: الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة: الخامسة، سنة (1407 هـ).

(خ)

[76]

خلق أفعال العباد. البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، تحقيق: د/ عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية-الرياض، عدد الأجزاء:1.

(د)

[77]

ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ، بيروت -دار الفكر- (1408 هـ) طـ 2.

[78]

الدر المنثور في التفسير بالمأثور. السيوطي: جلال الدين عبدالرحمن ابن أبي بكر، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى (1403 هـ - 1983 م).

(ذ)

[79]

ذيل العبر. الإمام الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت (1405 هـ).

(ر)

[80]

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. الألوسي: أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود بن عبد الله الحسيني، دار إحياء التراث العربي-بيروت- ط: 4 (1405 هـ- 1985 م).

[81]

روح البيان. الخلوتي: إسماعيل حقي بن مصطفى الإسطنبولي

ص: 630

الحنفي، المولى أبو الفداء، دار الفكر- بيروت، عدد الأجزاء:15.

[82]

الرسول العربي المربي. الهاشمي: عبد الحميد محمد، دار الهدى- الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 2 (1405 هـ).

[83]

الرسالة. الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة (1358 هـ-1939 م).

[84]

الرُّوح. ابن القيم: محمد بن أبي بكر، دار الكتب العلمية، بيروت (د. ط).

(ز)

[85]

زاد المسير. ابن الجوزي: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي ابن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، سنة النشر:(1984 م- 1404 هـ)، الطبعة: الثالثة، عدد الأجزاء: تسعة أجزاء.

(س)

[86]

سنن أبي داود -مطبوع مع عون المعبود-. سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الكتب العلمية، ط 1 (د. ت).

[87]

سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي. ط، 1 سنة (1418 هـ - 1997 م) دار الكتب العلمية

[88]

سنن ابن ماجه. أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية.

[89]

السنن الكبرى. النسائي: أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، حققه وخرج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم

ص: 631

له: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة -بيروت- الطبعة: الأولى (1421 هـ -2001 م).

[90]

سنن البيهقي «السنن الكبرى» . أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، دار الفكر، (د. ت).

[91]

السبق التربوي في فكر الشافعي. ملك: بدر محمد؛ أبو طالب: خليل محمد (1409 هـ) الكويت: مكتبة المنار (د. ط).

[92]

سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها. محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع -الرياض، الطبعة الأولى، سنة النشر:(1415 هـ)، عدد الأجزاء:6.

عام النشر:

جـ 1 - 4: 1415 هـ - 1995 م

جـ 6: 1416 هـ - 1996 م

جـ 7: 1422 هـ - 2002 م

[93]

سير أعلام النبلاء. الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت، سنة (1409 هـ).

(ش)

[94]

شرح النووي على مسلم. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، (1392 هـ).

[95]

شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية. ابن دقيق

ص: 632

العيد: تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، مؤسسة الريان، الطبعة: السادسة (1424 هـ - 2003 م)، عدد الأجزاء:1.

[96]

شرح السنة. الحسين بن مسعود البغوي، حققه: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، ط 2 سنة (1403 هـ- 1983 م) المكتب الإسلامي.

(ص)

[97]

صفوة التفاسير. الصابوني: محمد على، دار الصابوني للطباعة والنشر- القاهرة، الطبعة: الأولى (1417 هـ - 1997 م) عدد الأجزاء: 1

[98]

صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان. ابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد ابن حبان التميمي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة: الثانية، (1414 هـ - 1993 م) عدد الأجزاء: 18

[99]

الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين. مقبل بن هادي الوادعي، الناشر: مكتبة دار القدس -صنعاء- الطبعة: الأولى، سنة الطبع:(1411 هـ).

[100]

صحيح البخاري. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ضبطه ورقمه مصطفى ديب البغا -ط 3 - دار ابن كثير-دمشق- بيروت (1407 هـ).

[101]

صيد الخاطر. ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن محمد الجوزي، دمشق- دار القلم- (1425 هـ).

[102]

صحيح ابن خزيمة. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى (1393 هـ).

[103]

صحيح سنن أبي داود. محمد ناصر الدين الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج (1409 هـ) ط 1، توزيع المكتب الإسلامي.

ص: 633

[104]

صحيح الأدب المفرد. للإمام البخاري، محمد ناصر الدين الألباني، دار الصديق، الطبعة: الأولى (1414 هـ).

[105]

صحيح سنن ابن ماجه. محمد ناصر الدين الألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج الطبعة: الثالثة (1408 هـ) توزيع المكتب الإسلامي.

[106]

صحيح الترغيب والترهيب. للمنذري، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى (1421 هـ).

[107]

صحيح سنن الترمذي. محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، الطبعة الأولى (1408 هـ).

[108]

صحيح الجامع الصغير وزياداته. الألباني: أبوعبد الرحمن محمد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري، الناشر: المكتب الإسلامي، عدد الأجزاء:2.

[109]

الصحيح المسند من أسباب النزول. مقبل بن هادي الوادعي، دار ابن حزم، الطبعة: الثانية (1415 هـ).

[110]

الصلاة وأحكام تاركها. ابن قيِّم الجوزية: محمد بن أبي بكر، مكتبة الثقافة - المدينة المنورة (د. ط)، (د. ت).

(ض)

[111]

الضعفاء الكبير. العقيلي: أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد المكي، تحقيق: د/ عبدالمعطي أمين قلعجي (بيروت: دار الكتب العلمية - ط 1، 1404 هـ - 1984 م).

ص: 634

[112]

ضرب الأمثال في القرآن أهدافه التربوية وآثاره. عبد المجيد البيانوني، دار القلم دمشق، الدار الشامية بيروت، الطبعة الأولى (1411 هـ- 1991 م).

(ط)

[113]

طبقات المدلسين. العسقلاني: الحافظ ابن حجر، شهاب الدين أحمد بن على بن حجر بن أحمد العسقلاني، تحقيق، عاصم القريوتي، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، الطبعة: الأولى (1405 هـ).

[114]

الطبقات الكبرى. محمد بن سعد بن منيع الزهري، دار صادر، بيروت، (1380 هـ).

(ع)

[115]

العبودية. ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، تحقيق: محمد زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت، ط 7، (1426 هـ - 2005 م).

[116]

عون المعبود شرح سنن أبي داود. لمحمد شمس الحق العظيم آبادي، طبعة، دار الحديث، القاهرة (1415 هـ-1995 م)، ط 1

(غ)

[117]

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب. السفاريني: شمس الدين أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، المتوفى:(1188 هـ) مؤسسة قرطبة -ط 2 - (1414 هـ-1993 م).

ص: 635

(ف)

[118]

فتح القدير: الجامع بين فني الرواية والدراية. الشوكاني: محمد بن على ابن محمد الشوكاني، دار المعرفة، سنة النشر:(1423 هـ - 2004 م)، عدد الأجزاء: جزء واحد.

[119]

فيض القدير: شرح الجامع الصغير. المناوي: محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي ثم المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى -مصر، الطبعة: الأولى (1356 هـ)، عدد الأجزاء:6.

[120]

فنون الأفنان في عيون علوم القرآن. ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن ابن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التيمي البكري، دار البشائر- بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى (1408 هـ - 1987 م).

[121]

الفكر التربوي عند الشيخ عبد الرحمن السّعدي. د/ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الرّشُودي، الرياض، دار ابن الجوزي (1420 هـ-2000 م).

[122]

الفوائد. ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي ثم الدمشقي، بيروت، دار الكتب العلمية (1393 هـ) ط 2.

[123]

فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ابن حجر: الحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني -راجعه: قصي محب الدين الخطيب -دار الريان، القاهرة- الطبعة: الأولى (1407 هـ).

[124]

الفتاوى الكبرى. ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، ومصطفى عبدالقادر عطاـ دار الكتب العلمية (1408 هـ).

ص: 636

[125]

فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء -بالمملكة العربية السعودية. جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، دار المؤيد للنشر والتوزيع- الرياض، (1424 هـ)، ط 2، عدد المجلدات:23.

[126]

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. عبد الرحمن بن حسن بن محمد ابن عبد الوهاب، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، الطبعة: السابعة (1377 هـ-1957 م).

(ق)

[127]

القاموس المحيط. الفيروز آبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب، بيروت، دار إحياء التراث العربي (1417 هـ/ 1997 م) ط 1.

[128]

قواعد قرآنية. القاعدة (32)، المقبل: عمر بن عبد الله، الطبعة: الثانية، صدر عن مركز تدبر للاستشارات التربوية والتعليمية بالتعاون مع دار الحضارة للطباعة والنشر والتوزيع: المملكة العربية السعودية، الرياض (1432 هـ).

[129]

القيم الإسلامية والتربية. أبو العينين: على خليل مصطفى، مكتبة إبراهيم الحلبي، المدينة المنورة (1408 هـ).

[130]

الإقناع في التربية الإسلامية. جبار: سالم بن سعيد -ط 2 - دار الأندلس الخضراء- السعودية (1996 م).

[131]

القصص القرآني في منظومه ومفهومه. الخطيب: عبد الكريم، مكتبة السنة المحمدية، القاهرة، ط 1، 1964 م.

ص: 637

[132]

القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز على ناظمة الزهر للإمام الشاطبي. شرح العلامة المخللاتي على ناظمة الزهر، رضوان بن محمد بن سليمان أبو عيد المخللاتي، تحقيق: عبد الرزاق بن علي بن إبراهيم موسى، مطابع الرشيد (1412 هـ-1992 م).

(ك)

[133]

الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل «تفسير الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي» . الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: محمود بن عمر، مكتبة العبيكان، (1418 هـ - 1998 م) الطبعة: الأولى، عدد الأجزاء: ستة أجزاء.

(ل)

[134]

لسان العرب. ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت (1414 هـ).

[135]

لمحات في الثقافة الإسلامية. عمر عودة الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الخامسة عشرة، (1425 هـ-2004 م).

[136]

اللباب في علوم الكتاب. ابن عادل: أبو حفص سراج الدين عمر بن علي ابن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى (1419 هـ -1998 م) عدد الأجزاء: 20.

(م)

[137]

مباحث في علوم القرآن. القطان: مناع خليل، مكتبة المعارف-الرياض (1421 هـ).

ص: 638

[138]

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد. الجاوي: محمد بن عمر نووي، تحقيق محمد أمين الصناوي، دار الكتب العلمية -بيروت- الطبعة: الأولى (1417 هـ) عدد الأجزاء: 4.

[139]

مفاتيح الغيب «التفسير الكبير» . فخر الدين الرازي: أبو عبد الله محمد ابن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الأصل، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة النشر:(2004 م - 1425 هـ)، عدد الأجزاء: ستة عشر مجلدًا.

[140]

محاسن التأويل «تفسير القاسمي» . محمد جمال الدين بن محمد سعيد ابن قاسم الحلاق، دار إحياء الكتب العربية، (1376 هـ - 1957 م) الطبعة: الأولى، عدد الأجزاء: سبعة عشر جزءًا.

[141]

معالم التنزيل. البغوي: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن الفراء، تحقيق وتخريج: محمد عبد الله النمر -عثمان جمعة ضميرية- سليمان مسلم الحرش. الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الرابعة (1417 هـ).

[142]

معاني القرآن للأخفش. الأخفش: أبو الحسن المجاشعي بالولاء، البلخي ثم البصري، المعروف بالأخفش الأوسط، تحقيق: د/ هدى محمود قراعة -مكتبة الخانجي- القاهرة، الطبعة: الأولى (1411 هـ - 1990 م) عدد الأجزاء: 2.

[143]

معاني القرآن وإعرابه. الزجاج: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب-بيروت- الطبعة: الأولى (1408 هـ - 1988 م) عدد الأجزاء: 5.

ص: 639

[144]

مدارك التنزيل وحقائق التأويل «تفسير النسفي» . أبو البركات: عبد الله بن أحمد بن محمود، دار الكلم الطيب (1409 هـ-1998 م) عدد الأجزاء: ثلاثة أجزاء.

[145]

منهج التربية في التصور الإسلامي. مدكور: أحمد علي -دار الفكر العربي- القاهرة (2002 م).

[146]

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. ابن تيمية: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: محمد رشاد سالم، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى (1406 هـ - 1986 م).

[147]

مجموع الفتاوى. ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، دار الوفاء (1426 هـ) ط 3.

[148]

معجم مقاييس اللغة. ابن فارس: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر (1399 هـ - 1979 م) عدد الأجزاء: 6

[149]

ميزان الاعتدال. الإمام الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز، دار المعرفة -بيروت- الطبعة: الأُولى، سنة (1382 هـ).

[150]

مع قصص السابقين في القرآن. الخالدي: صلاح عبد الفتاح، دار القلم، دمشق، ط 1، (1409 هـ) مركز النشر-مكتب الإعلام الإسلامي- (1404 هـ-1984 م).

ص: 640

[151]

المحيط في اللّغة. الصّاحب: كافي الكفاة إسماعيل بن عباد، حققه: الشيخ محمد حسن آل ياسين، بيروت (1414 هـ/ 1994 م).

[152]

المضامين التربوية المستنبطة من سورة الفاتحة وتطبيقاتها التربوية. الزيلعي: أحمد بن علي بن عمر، رسالة ماجستير-غير منشورة- جامعة أم القرى - كلية التربية، قسم التربية الإسلامية والمقارنة، (1425 هـ) المكتبة المركزية- مكة المكرمة.

[153]

المضامين التربوية المستنبطة من سورة التحريم وتطبيقاتها في واقع الأسرة المعاصرة. السلمى: سلطان رجاء الله سلطان -رسالة ماجستير غير منشورة- (1432 - 1433 هـ)، جامعة أم القرى -مكة المكرمة- كلية التربية- قسم التربية الإسلامية والمقارنة.

[154]

المفردات في غريب القرآن. الراغب الأصفهاني: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، ط 1، دار القلم، الدار الشامية -دمشق بيروت- (1412 هـ).

[155]

المستصفى من علم الأُصول. الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد ابن محمد الطوسي النيسابوري، المطبعة الأميرية ببولاق مصر، الطبعة: الأُولى، عام (1324 هـ).

[156]

المصنف. عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي العبسي، دار الفكر، بيروت، الطبعة: الأُولى، سنة (1409 هـ).

[157]

المجموع شرح المهذب. النووي: أبو زكريا يحيى بن شرف محيي

ص: 641

الدين، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، طبع ونشر مكتبة الإرشاد، (د. ت). عدد المجلدات:23.

[158]

المسند. أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، تحقيق شعيب الأرناؤوط -عادل مرشد، وآخرين. إشراف: د/ عبد الله ابن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى (1421 هـ - 2001 م (.

[159]

معالم الثقافة الإسلامية. الدكتور: عبدالكريم عثمان، ط 3، الرياض، مؤسسة الأنوار، (1399 هـ-1979 م).

[160]

مقدمة في التربية الإسلامية. الدكتور: صالح بن علي أبو عرَّاد، دار الصولتية للنشر والتوزيع-الرياض- الطبعة الأولى (1424 هـ -2003 م).

[161]

مسؤولية الآباء تجاه الأبناء. آل نواب: عبد الرب نواب الدين -ط وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد- المملكة العربية السعودية (1423 هـ).

[162]

مناهج البحث وتطبيقاتها في التربية الإسلامية. مقداد يالجن، ط 1، دار عالم الكتب-الرياض (1419 هـ).

[163]

مواهب الجليل في شرح مختصر خليل. شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني، دار الفكر الطبعة: الثالثة (1412 هـ - 1992 م) عدد الأجزاء: 6.

[164]

موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم. إعداد

ص: 642

مجموعة من المتخصصين، صالح بن عبد الله بن حميد، وعبدالرحمن بن محمد بن ملوح، وآخرين، دار الوسيلة، جدة (1418 هـ).

[165]

مضامين تربوية مستنبطة من كتاب: مختصر الترغيب والترهيب للحافظ ابن حجر العسقلاني. اصليح: محمد عطية إسماعيل، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الإسلامية -المدينة النبوية- كلية التربية، قسم أصول التربية- التربية الإسلامية (1430 هـ -2009 - م).

[166]

مدارج السالكين. الإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي - دار المعرفة، بيروت - الطبعة: الثانية (1359 هـ).

[167]

المزهر في علوم اللغة. السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر -بيروت- دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى (1418 هـ -1998 م).

[168]

المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح. مقبل بن هادى الوادعي، دار الآثار للنشر والتوزيع، صنعاء (طبعة 3، 1425 هـ -2004 م).

[169]

المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية. للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، شرحها الشيخ/ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر-دار الفضيلة، المحمدية- الجزائر، الطبعة: الثانية (1432 هـ-2011 م).

[170]

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز «تفسير ابن عطية» . ابن عطية: أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر بن غالب بن عطية الأندلسي، طبعة وزارة الأوقاف القطرية (1428 هـ - 2007 م) الطبعة: الثانية، عدد الأجزاء: 8 أجزاء.

ص: 643

[171]

المعجم الأوسط. الطبراني: أبو القاسم: سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، -دار الحرمين- القاهرة، عدد الأجزاء:10.

[172]

الموافقات. الشاطبي إبراهيم بن موسى الغرناطي، تحقيق عبد الله دراز -دار المعرفة- بيروت (د. ط)، (د. ت).

[173]

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. ابن القيم: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي (1416 - 1996 م) عدد الأجزاء: جزءان.

[174]

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح. الملا علي القاري: علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي، دار الفكر، بيروت - لبنان- الطبعة: الأولى (1422 هـ - 2002 م)، عدد الأجزاء:9.

[175]

موسوعة السياسة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة: الثالثة (1990 م).

[176]

مجلة الجامعة الإسلامية -العدد الرابع- سنة (1389 هـ).

(ن)

[177]

نواسخ القرآن: ناسخ القرآن ومنسوخه. ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي: تحقيق: محمد أشرف علي، المليباري وأصله رسالة ماجستير -الجامعة الإسلامية- الدراسات العليا -التفسير- (1401 هـ)، الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية،

ص: 644

المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثانية (1423 هـ/ 2003 م)، عدد الأجزاء: 1

[178]

نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي. الجمالي: محمد فاضل، الدار التونسية، تونس (1972 م).

[179]

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. البقاعي: برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، دار الكتاب الإسلامي -القاهرة- ط (1403 هـ-1992 م) عدد المجلدات (22) مجلدًا

[180]

النكت والعيون «تفسير الماوردي» . الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان (1993 م) عدد الأجزاء: 6، تحقيق: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم.

[181]

عن القدوة السيئة وبيان أضرارها. علي بن نايف الشحود -المكتبة الشاملة- الطبعة: الأولى (1433 هـ).

[182]

نظرات في قصص القرآن. عبدالعال: محمد قطب (د. ت) مكة المكرمة: مطابع رابطة العالم الإسلامي

[183]

الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم. ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد ابن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، تحقيق: د/ عبد الغفار سليمان البنداري، دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى (1406 هـ - 1986 م) عدد الأجزاء: 1.

[184]

الناسخ والمنسوخ. ابن سلامة: أبو القاسم هبة الله بن سلامة، مطبعة مصطفى الحلبي -ط 2 (1967 م).

ص: 645

[185]

النهاية في غريب الحديث والأثر. ابن الأثير: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري: المكتبة العلمية -بيروت- (1399 هـ - 1979 م)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي -محمود محمد الطناحي- عدد الأجزاء: 5.

(و)

[186]

الوجيز في أصول الفقه. زيدان: عبد الكريم، مؤسسة الرسالة -بيروت- ط 1 (1422 هـ -2001 م).

[187]

وجوه التحدي والإعجاز في الحروف المقطعة في أوائل السور. د/ فهد ابن عبد الرحمن الرومي، مجلة البحوث الإسلامية -العدد الخمسون- (من ذي الحجة إلى صفر)، (إصدارها كل ثلاثة أشهر)(1417 - 1418 هـ).

[188]

الوابل الصيب من الكلم الطيب. ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: سيد إبراهيم -دار الحديث- القاهرة، الطبعة: الثالثة (1999 م).

ص: 646