المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا - فتح الرحيم في الصلاة والسلام على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: "والمقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا".

وقال أيضًا رحمه الله: "قال النووي: إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: "صلى الله عليه فقط"، ولا "عليه السلام" فقط، وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، فالأولى أن يقال: صلى الله عليه، وسلم تسليمًا".

* * *

ص: 5

‌مقدمة المعتني بالكتاب

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد:

فإن من أوجب الواجبات، وألزم المهمات، أن يتعلم المسلم أصول دينه، ويتعرف عليها، فبمعرفتها يتحصل على تمام النجاة في الدارين، وبخلاف ذلك ومقداره يكون عطبه وهلاكه.

وإن من أصول الإسلام العظيمة، ومبانيه الجليلة، معرفة ما يتعلق

ص: 7

بالركن الأول من أركان الإسلام، وهو ركن الشهادتين:"شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، وهذا الركن قد احتوى جملتين لا انفكاك بينهما، ولا تتم الأولى إلا بالأخرى، وهما مفتاح الدخول إلى دين الإسلام، والخلود في دار السلام.

فالشطر الأول من هذه الجملة المباركة، فيه إثبات الألوهية لله تبارك وتعالى، وأنه المتفرد والمستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأما الشطر الثاني: ففيه إثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من ربه تبارك وتعالى.

وقد أفاض علماء الإسلام في بيان أهمية هاتين الشهادتين، وعظم هاتين الجملتين، وقيام الإسلام عليهما، وأفردوا لكل جملة منهما مصنفات تشرح مجملها، وتبين مقاصدها، وتوضح نواقضها.

ومما لا ريب فيه أن بيان حق النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ذلك والعمل به، هو من مضمون الإقرار له بالرسالة، والشهادة له بالرسالة من لازمها وشرطها "طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع".

وإن مما يتصل بحقه صلى الله عليه وسلم تعزيره وتوقيره، من غير غلو ولا إجحاف، والذود عن حياض سنته، والاقتداء بها قولًا وعملًا واعتقادًا.

[

وإن لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حقوقًا يجب علينا رعايتها والقيام بها. فأعظم حق له صلى الله عليه وسلم علينا أن نؤمن به ونصدق برسالته، ونعتقد أنه عبد الله ورسوله، الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ شرعه ودينه، فإن الإيمان به أحد ركني التوحيد، إذ التوحيد قائم على ركنين: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن اسم الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم خاصٌّ بما جاء به، وكان اسم الإسلام عامًا لجميع ديانات الرسل، وبعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم صار مسمَّى الإسلام خاصًّا بشريعته، التي بعث بها صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ

ص: 8

يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"

(1)

.

• ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا: طاعته فيما أمرنا به؛ فإن طاعته طاعة لله، وإن معصيته معصية لله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ويقول صلى الله عليه وسلم:"كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"

(2)

.

• ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا: أن نحكم سنته، وأن نتحاكم إليها، وأن نستجيب لمن دعانا إلى التحاكم إليها، وأن نرضى بحكمه ونسلم، وأن لا يكون في صدورنا حرج من أي حُكم حَكم به صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء]، وقال سبحانه:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور] والذين لا يرضون بحكمه، في قلوبهم مرض النفاق وارتياب من رسالته صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} [النور 50].

• ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا: ألا تكون لنا خيرة في أي أمر أمرنا به، أو نهي نهانا عنه، أو حُكم حَكَم به؛ لأننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أنه أولى بنا من أنفسنا، {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب 6]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب 36].

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس

برقم (153).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب التمني، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7280).

ص: 9

• ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا: أن يكون هوانا ومرادنا تابعًا لما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإذا تعارض في نظر العبد أمران، أمر هوى النفس، وأمر جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلنقدم ما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم على هوى النفوس ومشتهياتها، فهو صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"

(1)

.

• ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا: أن نحبه المحبة الصادقة، فأصل محبته من أصول الإيمان، وكمالها من كمال الإيمان، وهي أن نحبه محبة فوق محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"

(2)

، وكلما قويت محبة العبد لمحمد صلى الله عليه وسلم كلما قوي الاتباع والاقتداء.

• ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا: أن نتبع منهجه ونقتفي أثره ونسير على ما سار عليه قدر الاستطاعة والإمكان، قال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31]، وقال الله عز وجل:{وإن تطيعوه تهتدوا} [النور 54]، وقال عز وجل:{ولأتم نعمتي عليك ولعلكم تهتدون} [البقرة 150]، وإن المؤمن ليجد نفسه منشرحة بالاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فهو على يقين جازم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق أخلاقًا، وأحسنهم سيرة، وأعلاهم فضيلة، قال الله تعالى في حقه:{وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم 4]، وقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب 21].

(1)

أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 358) في شرح الحديث (7308)، وعزاه إلى الحسن بن سفيان ووثقه رجاله وقال:"صححه النووي في آخر الأربعين .. "، وانظر: تعليق سماحة الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله على هذا الحديث في كتابه "فتح القوي المبين في شرح الأربعين" للإمام النووي رحمه الله عند شرحه للحديث رقم (41).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان برقم (15)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين برقم (44) واللفظ له.

ص: 10

إن أصحابه الكرام صلى الله عليه وسلم نقلوا لنا حياته صلى الله عليه وسلم كأن المسلم يشاهد ذلك عيانًا، نقلوا ذلك لنا كله لنقتفي أثره ونسير على نهجه، فها هم رضي عنهم وأرضاهم ينقلون لنا حياته صلى الله عليه وسلم، هذا يصف لنا وضوءه، وهذا يصف صلاته، وهذا يصف حجه، وهذا يصف كل أحواله، العبادات والعادات، ما افترض علينا العمل به، وما استحب لنا ذلك، فنقلوا لنا كيف كان يأكل، وكيف كان يشرب، وكيف كان ينام، وأحواله في سفره وإقامته، وأحواله في جميع تعامله، حتى سيرته مع أهله، كل ذلك سجلوه ليحثوا الأمة على اقتفاء أثره والسير على نهجه؛ لأن ذلك عنوان الإيمان الصادق]

(1)

.

وقد تمثل هذا الحق وقام به خير قيام صحابته الكرام رضوان الله عليهم، فعرفوا له حقه صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، فكانوا كما وصفهم عروة بن مسعود الثقفي، قبل إسلامه، حيث روى البخاري في صحيحه أنه لما أرسله كفار مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال:"فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له"، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: "أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له .....

وقد صحت الآثار عن آحادهم بما يدلل على التوقير والتبجيل،

(1)

انظر: كتاب "الجامع لخُطب عرفة" لسماحة الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ المفتي العام للمملكة (1/ 185 - 188).

ص: 11

فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياقة الموت قال لابنه: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني إجلالًا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه".

فكانوا في هذا الإجلال والتوقير ممتثلين لأمر الله تعالى حينما أمر بذلك في كتابه الكريم بقوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} [الفتح].

ومعرفة حقوق النبي صلى الله عليه وسلم هو من أنواع شكر نعمة الله تعالى على خلقه التي لا تعد ولا تحصى، والتي من أعظمها بعثة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والهداية إلى ما جاء به، فبسبب هذه البعثة المباركة أنقذ الله تبارك وتعالى البشر من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم، ولذا كان معرفة هذه الحقوق النبوية وما يتصل بها مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الضرورات للعباد.

ولقد أجاد العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - حين أشار إلى ذلك بقوله: "ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسول فوقها بكثير،

ص: 12

وما ظنك بمن غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، (وما لجرح بميت إيلام)، وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"

(1)

.

وفي تضاعيف هذا المصنف النافع يجد القارئ ما يجب عليه الإتيان به من تلك الحقوق النبوية، والتي من أعظمها الإيمان به ومحبته وتعزيره وتوقيره، والصلاة والسلام عليه، والتنبيه على الاعتدال في ذلك وعدم الخروج عن الشرع المطهر فإن خير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

ولقد كان صلوات الله وسلامه عليه حريصًا على سعادة الأمة كما قال تعالى منوهًا بما حباه الله به من صفات جليلة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة].

ولما كانت نعمة الله تعالى على المؤمنين بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم عظيمة أمرهم الله تعالى في كتابه العزيز أن يصلوا عليه ويسلموا تسليمًا بعد أن أخبرهم أنه وملائكته يصلون عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب].

إن الصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من القربات العظيمة والطاعات الجليلة التي ندب الشرع إليها وهي من أنفع أدعية العبد له في الدنيا والآخرة ومن لوازم وتمام محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره وأداء

(1)

زاد المعاد (1/ 69).

ص: 13

حقه، لذا اعتنى العلماء قديمًا وحديثًا بهذا الجانب دراسة وبحثًا وتأليفًا ومن هؤلاء العلماء الفضلاء صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: محمد بن خليفة ابن علي التميمي - يحفظه الله - الذي ألف كتابًا قيمًا سماه "حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة" وهو كتاب نفيس لا يستغني عنه طلاب العلم ولا يشبع منه العلماء.

فاطلعت على درر نفيسة وفوائد جليلة في هذا الكتاب فألفيته نافعًا مفيدًا لإخواني من طلاب العلم لما حواه من تأصيل بديع، فاستعنت بالله ورأيت أن أفرد منه البحث الذي يتعلق بالصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسميته:"فتح الرحيم في الصلاة والسلام على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم " ليعم النفع به بإذن الله.

فالشكر الله جل ثناؤه أولًا وآخرًا فله الحمد والشكر كله أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة لا نحصي نعمه ولا نحصي ثناء عليه جلت عظمته.

وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم مقربًا إليه جل ثناؤه وأن ينفع به كل من انتهى إليه فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

كتبه

الفقير إلى عفو ربه

عبد الجبار بن عبد العظيم بن محمد آل ماجد

غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

a.J.majid.hotmail.com

ص: 14

‌تمهيد

فقد أمرنا الباري تبارك وتعالى أن نصلي ونسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك تشريف منه عز وجل لنبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار للاحترام والتعظيم الذي شرعه في حقه، فقد قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب].

فهذه الآية فيها من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها، وذلك بسبب ما فيها من تمييز للنبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا شك أن ذلك فيه رفع لقدره وإعلاء لمكانته في حياته وبعد موته.

ولذلك فإن من أعظم شعب الإيمان الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم محبة له وأداء لحقه وتعظيمًا لقدره، والمواظبة عليها من باب أداء شكره صلى الله عليه وسلم، وشكره واجب لعظمة الإنعام به، فقد جعله الله سببًا لنجاتنا من الجحيم، ودخولنا في دار النعيم، وإدراكنا الفوز بأيسر الأسباب، ونيلنا السعادة من كل الأبواب.

وليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة منا له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بالمكافأة لمن أحسن إلينا وأنعم علينا، فإن عجزنا عنها كافيناه بالدعاء، فأرشدنا الله - لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا - إلى الصلاة عليه لتكون صلاتنا عليه مكافأة بإحسانه إلينا وإفضاله علينا، إذ لا إحسان لمخلوق أفضل من إحسانه صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فإن المقصود بصلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم هو التقرب إلى الله تعالى بامتثال ما أمر به، وقضاء لحق من حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم التي

ص: 15

أوجبها الله علينا، فحق على هذه الأمة أن تعظم قدر نبيها وذلك بأن تكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم اتباعًا لأمر ربها تبارك وتعالى، وقيامًا بما لنبيها صلى الله عليه وسلم من الحق عليها.

"وقد اعتنى العلماء بهذه العبادة العظيمة، فأفردوها بالتأليف، وأول من علمته ألف في ذلك: الإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي المتوفى سنة (282 هـ) واسم كتابه: "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"، وقد طبع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وهو يشتمل على مائة وسبعة أحاديث كلها مسندة.

ومن الكتب المطبوعة المتداولة في هذا الباب كتاب "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام"، للعلامة ابن القيم، وكتاب "الصلاة والبشر في الصلاة على خير البشر"، للفيروزآبادي صاحب "القاموس"، وكتاب "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع"، للسخاوي المتوفى سنة (902 هـ)، وقد ختم كتابه هذا ببيان الكتب المصنفة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر جملة كبيرة من هذه الكتب مرتبة، وخامسها بالترتيب كتاب "جلاء الأفهام" لابن القيم وقد أشار إلى قيمة كل منها ثم قال:"وفي الجملة فأحسنها وأكثرها فوائد خامسها، يعني كتاب ابن القيم".

أقول: وهو في الحقيقة كتاب قيِّمٌ جمع مؤلفه فيه بين ذكر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة العظيمة، والكلام عليها صحة وضعفًا، فقهًا واستنباطًا، وقد قال عنه في مقدمته: "وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وصحيحها من حسنها ومعلولها، وبينا ما في معلولها من العلل بيانًا شافيًا، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه، وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثم مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ومحالها، ثم الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه،

ص: 16

وترجيح الراجح، وتزييف الزائف، ومخبر الكتاب فوق وصفه، والحمد الله رب العالمين" انتهى.

وما ألف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مبنيًا على غير علم، ومشتملًا على فضائل وكيفيات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل بها من سلطان كتاب "دلائل الخيرات"، للجزولي المتوفى سنة (854 هـ).

وقد شاع وانتشر في كثير من أقطار الأرض، قال عنه صاحب "كشف الظنون" (1/ 495): "دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار عليه الصلاة والسلام أوله الحمد لله الذي هدانا للإيمان

إلخ، للشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الجزولي السملالي الشريف الحسني المتوفى سنة (854 هـ).

وهذا الكتاب آية من آيات الله في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام يواظب بقراءته في المشارق والمغارب، لا سيما في الروم". ثم أشار إلى بعض شروح هذا الكتاب.

أقول: ولم يكن إقبال الكثير من الناس على تلاوته مبنيًا على أساس يعتمد عليه، وإنما كان تقليدًا عن جهل من بعضهم لبعض، والأمر في ذلك كما قال الشيخ محمد الخضر بن مايابي الشنقيطي في كتابه "مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني"، قال في أثناء رده على التجاني:"فإن الناس مولعة بحب الطارئ، ولذلك تراهم يرغبون دائمًا في الصلوات المروية في دلائل الخيرات ونحوه، وكثير منها لم يثبت له سند صحيح ويرغبون عن الصلوات ردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في "صحيح البخاري" فقل أن تجد من المشايخ أهل الفضل له ورد منها، وما ذلك إلا للولوع بالطارئ، وأما لو كان الفضل منظورًا إليه لما عدل عاقل - فضلًا عن شيخ فاضل - عن صلاة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد سؤاله فكيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: قولوا كذا، وهو لا ينطق

ص: 17

عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، أقول: لما عدل إلى صلاة لم يرد فيها حديث صحيح، بل ربما كانت منامية من رجل صالح في الظاهر" انتهى.

ولا شك أن ما جاءت به السنة، وفعله الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان هو الطريق المستقيم، والمنهج القويم، والفائدة للآخذ به محققة والمضرة عنه منتفية، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".

وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

وقد حذر عليه الصلاة والسلام أمته من الغلو فيه، فقال في الحديث الصحيح:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"

(1)

.

ولما قال له رجل: (ما شاء الله وشئت) قال عليه الصلاة والسلام: "أجعلتني الله ندا؟ ما شاء الله وحده"

(2)

.

وكتاب "دلائل الخيرات" قد اشتمل على الغث والسمين، وشيب فيه الجائز بالممنوع، وفيه أحاديث موضوعة، وأحاديث ضعيفة، وفي مجاوزة للحد، ووقوع في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو طارئ لم يكن في نهج السابقين بإحسان.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} برقم (3445).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 214، 224، 283، 347)، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (987).

ص: 18

‌كيفيات مبتدعة في كتاب "دلائل الخيرات":

وحسبي هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة مما فيه من الكيفيات المبتدعة في الصلاة والتسليم على النبي الكريم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أتبع ذلك بنماذج مما فيه من الأحاديث الموضوعة في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والتي يتنزه لسانه الشريف عن النطق بها، فمن الكيفيات الواردة فيه:

"اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء، وارحم محمدا وآل محمد حتى لا يبقى من الرحمة شيء، وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من البركة شيء، وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من السلام شيء".

فإن قوله: "حتى لا يبقى من الصلاة والرحمة والبركة والسلام شيء"، من أسوأ الكلام، وأبطل الباطل؛ لأن هذه الأفعال لا تنتهي.

وكيف يقول الجزولي: "حتى لا يبقى من الرحمة شيء"، والله تعالى يقول:{ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156].

وقال في (ص 71): "اللهم صل على سيدنا محمد بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، ولسان حجتك، وعروس مملكتك، وإمام حضرتك، وطراز ملكك وخزائن رحمتك

إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود ....

وقال في (ص 64): "اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار

اللهم صل على من أخضرت من بقية وضوئه الأشجار، اللهم صل على من فاضت من نوره جميع الأنوار".

فإن هذه الكيفيات فيها تكلف وغلو لا يرضاه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". أخرجه البخاري في "صحيحه".

ص: 19

وقال الجزولي في (ص 144 و 145): "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم، وحمت الحوائم، وسرحت البهائم، ونفعت التمائم، وشدت العمائم، ونمت النوائم".

فإن في قوله: "ونفعت التمائم" إشادة بالتمائم وحث عليها، وقد حرمها صلى الله عليه وسلم فقال:"من تعلق تميمة فلا أتم الله له".

‌نماذج مما في كتاب "دلائل الخيرات" من الأحاديث الموضوعة:

وأذكر فيما يلي أمثلة لما فيه من أحاديثَ موضوعة أو ضعيفة جدًّا، مع الإشارة إلى بعض ما قاله أهل العلم فيها وذلك على سبيل التمثيل لا الحصر.

قال في (ص 15): "وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلى علي صلاة تعظيمًا لحقي خلق الله عز وجل من ذلك القول ملكًا له جناح بالمشرق والآخر بالمغرب، ورجلاه مقرورتان في الأرض السابعة السفلي، وعنقه ملتوية تحت العرش يقول الله عز وجل له: صل على عبدي كما صلى على نبي فهو يصلي عليه إلى يوم القيامة".

وقال في (ص 16): "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد صلى علي إلّا خرجت الصلاة مسرعة من فيه، فلا يبقى بر ولا بحر ولا شرق ولا غرب إلا وتمر به وتقول: أنا صلاة فلان ابن فلان، صلى على محمد المختار، خير خلق الله، فلا يبقى شيء إلا وصلى عليه، ويخلق من تلك الصلاة طائر له سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بسبعين ألف لغة، ويكتب الله له ثواب ذلك كله.

هذان حديثان من أحاديث دلائل الخيرات يصدق عليهما قول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "المنار المنيف": "والأحاديث الموضوعة

ص: 20

عليها ظلمة وركاكة، ومجازفات باردة تنادي على وضعها واختلافها"، ثم ضرب لذلك بعض الأمثلة ثم قال: "فصل: ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعًا، فمنها: اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة جدًّا، كقوله في الحديث المكذوب:"من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له، ومن فعل كذا وكذا أعطي في الجنة سبعين ألف مدينة، في كل مدينة سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف حوراء".

وأمثال هذه المجازفات الباردة التي لا تخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية (الجهل والحمق) وإما أن يكون (زنديقًا) قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه" انتهى.

وممن حكم بالبطلان على أمثال هذه الأحاديث من المعاصرين أبو الفضل عبد الله الصديق الغماري، قال في تعليقه على كتاب "بشارة المحبوب بتكفير الذنوب" للأذرعي (ص 125):"تنبيه: جاء في كثير من الأحاديث: من عمل كذا خلق الله من ذلك العمل ملكًا يسبح، أو يحمد الله، وكلها أحاديث باطلة". قال ذلك هنا، كتاب "دلائل الخيرات" ثناء عظيمًا في كتابه "خواطر دينية" ووصفه بأنه سار مسير الشمس"

(1)

.

يجب على المسلم البحث عن الحكم الشرعي والتثبت فيه قبل إتيان العمل في جميع شؤون حياته لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". وتطبيق ذلك هو حقيقة الاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر مجموع كتب ورسائل سماحة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر. (76 - 71/ 6)

ص: 21

يقول الشاطبي حول ذلك: "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل"

(1)

.

وفيه أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم سبب كل خير في الدنيا والآخرة، وأن مخالفته سبب كل شر في الدنيا والآخرة؛ فقال ابن القيم: "إن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلًا وآجلًا. ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فإنه بسبب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هو من موجبات مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومقتضياتها، فعاد شر الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يترتب عليه، فلو أن الناس أطاعوا الرسول صلى الله عليه وسلم حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط، وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض، فكذلك هو في الشر والألم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فإنما هو بسبب مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الآمنين، والكهف الذي من لجأ إليه فهو من الناجين

(2)

.

* * *

(1)

الموافقات الشاطبي (2/ 322)

(2)

الرسالة التبوكية (135)

ص: 22

‌المبحث الأول: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

وفيه ثلاث مطالب

المطلب الأول: المعنوي اللغوي للفظة (الصلاة)

المطلب الثاني: المعني الشرعي لصلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم

المطلب الثالث: شرح الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 23

‌المطلب الأول: المعنى اللغوي للفظة "الصلاة".

قال الخليل بن أحمد

(1)

: "الصلاة: ألفها واو لأن جماعتها الصلوات ولأن التثنية صلوان"

(2)

.

ومادة (ص. ل. و) وردت في اللغة لمعان منها:

‌1 - " الصلاة":

وهو وسط الظهر لكل ذي أربع وللناس. وقيل: ما انحدر من الوركين

(3)

. قال الخليل بن أحمد: "والصلاه، وسط الظَّهْر لكل ذي أربع وللناس وكل أنثى إذا ولدت انفرج صلاها قال:

كأن صلا جهيزة حين قامت

حباب الماء يتبع الحبابا

وإذا أتى الفرس على أثر الفرس السابق قيل: صلى، وجاء مصليا لأن رأسه يتلو الصلايين يديه"

(4)

.

وقال الأزهري: "وقال أهل اللغة في الصلاة: إنها من الصلوين، وهما مكتنفا الذنب من الناقة وغيرها، وأول مواصل الفخذين من الإنسان فكأنهما في الحقيقة مكتنفا العصعص

وأما المصلى الذي يلي السابق

(1)

الخليل بن أحمد الفراهيدي من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وهو أستاذ سيبويه النحوي، ومن أشهر كتبه كتاب العين، توفي سنة 170 هـ بالبصرة. الأعلام (2/ 314).

(2)

كتاب العين (7/ 153).

(3)

الصِلات والبشر (ص 6).

(4)

كتاب العين (7/ 153).

ص: 24

فهو مأخوذ من الصلوين لا محالة، وهما مكتنفا ذنب الفرس، فكأنه يأتي ورأسه في ذلك المكان"

(1)

. وقد قيل إن اشتقاق الصلاة الشرعية هو من هذا.

قال الحليمي: "وقيل للصلاة المعهودة صلاة لما فيها من حني الصَّلا وهو وسط الظهر"

(2)

.

‌2 - " الصلا" بالقصر وهي النار:

قال الخليل بن أحمد: "والصلى: النار، وصلى الكافر نارا فهو يصلاها أي قاسى حرها وشدتها، وصليت اللحم صليا: شويته، وإذا ألقيته في النار قلت: أصليته أصليه إصلاء، وصليته، تصلية"

(3)

.

وفي معجم مقاييس اللغة: "صلى: الصاد واللام والحرف المعتل أصلان: أحدهما: النار وما أشبهها من الحمى

فقولهم: صليت العود بالنار، والصلى صلى النار. واصطليت بالنار. والصلاء: ما يصطلى به وما يذكى به النار ويوقد وقال:

فجعل العود واليلنجوج والرذ

صلاء لها على الكانون

(4)

قال الفيروز أبادي

(5)

." وقيل اشتقاق لفظة الصلاة من الصلى بالقصر وهي النار من صليت العصا إذا قومتها بالنار فالمصلي كأنَّما يسعى لتعديل باطنه وظاهره كمن يحاول تقويم العود بالنار"

(6)

.

(1)

تهذيب اللغة (12/ 237).

(2)

المنهاج (2/ 133).

(3)

كتاب العين (7/ 154).

(4)

معجم مقاييس اللغة (3/ 300).

(5)

محمد بن يعقوب بن محمد بن الفيروزآبادي، من أئمة اللغة والأدب وكان مرجع عصره في اللغة والحديث والتفسير، توفي سنة 817 هـ في زبيد باليمن وأشهر مؤلفاته القاموس المحيط. الأعلام (7/ 146 - 147).

(6)

الصِلات والبشر (ص 5 - 6)

ص: 25

‌3 - " الصلاة" الملازمة:

قال الأزهري: "قال الزجاج الأصل في الصلاة اللزوم يقال: قد صلى واصطلى إذا لزم، ومن هذا من يصلى في النار: أي يلزم النار فالصلاة لزوم ما فرض الله، والصلاة من أعظم الفرض الذي أمر بلزومه"

(1)

.

وقال الفيروزآبادي "وقيل الصلاة الملازمة، ومنه قوله {تَصْلى نارًا حامِيَةً} [الغاشية] {سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ} [المسد] ومنه سمي ثاني أفراس الحلبة مصليا"

(2)

.

‌4 - " الصلاة" الدعاء:

حاء في معجم مقاييس اللغة "صلى: الصاد واللام والحرف المعتل أصلان: أحدهما: النار وما أشبهها من الحمى - وقد تقدم ذكره - والآخر جنس من العبادة

وأما الثاني: فالصلاة وهي الدعاء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل"

(3)

أي فليدع لهم بالخير والبركة.

قال الأعشى

(4)

:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا

يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

(1)

تهذيب اللغة (12/ 238).

(2)

الصِّلات والبشر (ص 6).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة برقم (1431).

(4)

اسمه ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي: من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات، أدرك الإسلام ورحل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤمن به، ولكن قريشًا صرفته بمئة من الإبل. الأعلام (7/ 341).

ص: 26

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي

نومًا فإن لجنب المرء مضطجعًا

(1)

وقال في صفة الخمر:

وقابلها الريح في دِنِّها

وصلى على دِنِّها وارتسم

(2)

"

(3)

"أي دعا لها ألا تحمض وتفسد"

(4)

.

وأورد هذا المعنى أيضا الأزهري في تهذيب اللغة

(5)

.

وقال ابن القيم "وأصل هذه اللفظة يرجع إلى معنيين: أحدهما: الدعاء والتبريك. والثاني: العبادة. فمن الأول قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]. وقوله تعالى في حق المنافقين: {ولا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهُمْ ماتَ أبَدًا ولا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وقول النبي صلى الله عليه وسم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كانصائما فليصلِّ" فسِّر بهما. قيل: فليدع لهم بالبركة. وقيل: يصلي عندهم بدل أكله. وقيل إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء.

والدعاء نوعان: دعاء عبادة. ودعاء مسألة. والعابد داع كما أن السائل داع، وبهما فسر قوله تعالى {وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. قيل: أطيعوني أثبكم. وقيل: سلوني أعطكم. وفسر بهما قوله تعالى: {وإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ} [البقرة: 186] ".

ثم قال رحمه الله تعالى: "والصواب: أن الدعاء يعم النوعين،

(1)

ديوان الأعشى (73).

(2)

المصدر السابق (29).

(3)

معجم مقاييس اللغة (3/ 300).

(4)

تهذيب اللغة (12/ 237).

(5)

تهذيب اللغة (12/ 237).

ص: 27

وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه

(1)

، فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ} [سبأ: 22] وقوله تعالى: {والَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شيئا وهم يخلقون} [النحل].

وقوله تعالى: {قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] والصحيح من القولين لولا أنكم تدعونه وتعبدونه أي: شيء يعبأه بكم لولا عبادتكم إياه فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل. وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف]، وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله:{إنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا} [الأنبياء: 90].

وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء.

(1)

الألفاظ على أربعة أقسام:

ا - الألفاظ المترادفة: وهي ما اختلفت ألفاظها واتحدت معانيها مثل: الليث، الأسد، الغضنفر ألفاظ مختلفة ولكنها جميعها دلت على معنى واحد وهو الحيوان المعروف.

2 -

الألفاظ المشتركة: وهي ما اتحدت ألفاظها واختلفت معانيها مثل: العين، تطلق على العين الباصرة والعين الجارية والجاسوس.

3 -

الألفاظ المتباينة: ما اختلفت ألفاظها ومعانيها. مثل: السماء والأرض - الجدار والسقف.

4 -

الألفاظ المتواطئة: ما اتفقت ألفاظها ومعانيها.

فإذا كان المعنى متساويًا في الجميع فهو: التواطؤ المطلق ومثاله: "الرجل": لزيد وعمرو.

وإذا كان المعنى متفاضلًا فهو: التواطؤ المشكك ومثاله: النور للشمس والسراج، التحفة المهدية (1/ 209).

ص: 28

وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة شرعية أو مجازا شرعيا.

فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة وهو الدعاء، والدعاء، دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقة لا مجازا ولا منقولة، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوهما، فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه، ولهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم. انتهي

(1)

.

(1)

جلاء الأفهام (ص 73 - 74).

ص: 29

‌المطلب الثاني: المعني الشرعي لصلاة الله عز وجل على نبيِّه صلى الله عليه وسلم

-

لما كانت الصلاة التي أُمرت بها هذه الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ تعني الطلب من الله ما أخبر به من صلاته عليه. إذ المصلي يقول: "اللهم صل على محمد

الخ" فالأمر هنا يتطلب شرح معنى صلاة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القيم: "وأما صلاة الله سبحانه فنوعان: عامة وخاصة.

فالنوع الأول: الصلاة العامة وهي صلاته على عباده المؤمنين:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43].

ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله: "اللهم صل على آل أبي أوفى "

(1)

.

النوع الثاني: صلاته الخاصة على أنبيائه ورسله وخصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم

(2)

.

واختلفت الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال:

القول الأول: إنها رحمته.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنى صلاة الرب الرحمة

(3)

وروى

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة برقم (1497)؛ وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته برقم (1078).

(2)

جلاء الأفهام (ص 74).

(3)

فتح الباري (11/ 156).

ص: 30

إسماعيل القاضي

(1)

بسنده عن الضحاك

(2)

قال: "صلاة الله رحمته، وصلاة الملائكة الدعاء"

(3)

.

وقال المبرد

(4)

"أصل الصلاة الرحمة فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة"

(5)

.

قال ابن القيم: "وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين"

(6)

.

القول الثاني: إن صلاة الله مغفرته.

فقد روى إسماعيل القاضي بسنده عن الضحاك: {هو الذي يصلي عليكم} قال: "صلاة الله مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء"

(7)

.

وأورد ابن حجر رحمه الله في الفتح: عن مقاتل بن حيان

(8)

قال:

(1)

إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الجهضمي الأزدي فقيه على مذهب الإمام مالك، جليل التصانيف، من بيت علم وفضل توفي سنة 282 هـ. الأعلام (1/ 310).

(2)

الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد الخراساني: مفسر ولم يثبت له سماع من أحد من الصحابة توفي سنة 105 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 453 - 454).

(3)

كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 40)

(4)

محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي، المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمانه، وأحد أئمة الأدب والأخبار، توفي ببغداد سنة 286 هـ. الأعلام (7/ 144).

(5)

فتح الباري (11/ 156) وجلاء الأفهام (ص 75).

(6)

جلاء الأفهام (ص 75).

(7)

كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 41)

(8)

مقاتل بن حيان النبطي (بفتح النون والموحدة) أبو بسطام البلخي، صدوق، وكان ناسكا فاضلا خرج له الجماعة إلا البخاري، مات بكابل قبيل الخمسين ومائة. تهذيب التهذيب (10/ 277 - 279).

ص: 31

"صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار"

(1)

.

قال ابن القيم: "وهذا القول هو من جنس الذي قبله"

(2)

.

القول الثالث: أن معنى صلاة الله تعالى على نبيه ثناؤه وتعظيمه وإظهار شرفه وفضله وحرمته.

فإذا قلنا اللهم صل على محمد فإنما نريد اللهم عظِّم محمدا في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين والشهود

(3)

.

قال أبو العالية

(4)

: "صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة"

(5)

.

وعن الربيع بن أنس

(6)

قال: "صلاة الله عليه ثناؤه عند ملائكته"

(7)

.

وقال الخليل بن أحمد: "صلوات الله على أنبيائه والصالحين من خلقه: حسن ثنائة عليهم وحسن ذكره لهم"

(8)

(1)

ذكره ابن حجر في فتح الباري (11/ 155 - 156).

(2)

جلاء الأفهام (ص 75).

(3)

المنهاج (2/ 134).

(4)

رفيع (بالتصغير) بن مهران أبو العالية الرياحي مولاهم، البصري أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ودخل على أبي بكر وصلى خلف عمر، ثقة، توفي سنة تسعين وقيل بعد ذلك. تهذيب التهذيب (3/ 284 - 286).

(5)

ذكره تعليقا البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير قوله تعالى {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيّ

} الآية. انظر: فتح الباري (8/ 532).

(6)

الربيع بن أنس البكري ويقال الحنفي البصري ثم الخرساني روى عن أنس بن مالك وأبي العالية والحسن البصري وغيرهم، مات في خلافة أبي جعفر المنصور. تهذيب التهذيب (3/ 238 - 239).

(7)

كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 40) القول البديع (ص 19). وأورده ابن حجر في الفتح وعزاه لابن أبي حاتم. فتح الباري (8/ 533).

(8)

العين (7/ 154).

ص: 32

وقال ابن القيم رحمه الله: "الصلاة المأمور بها في هذه الآية هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه. فهي تتضمن الخبر والطلب وسُمِّي هذا السؤال منا والدعاء صلاة عليه لوجهين:

أحدهما: أنه يتضمن ئناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة كذلك من الله تعالى، فقد تضمَّنت الخبر والطلب.

والوجه الثاني: أن ذلك سمي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه. فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به"

(1)

.

وزاد الحافظ ابن حجر: أن صلاة الله على خلقه تكون خاصة وتكون عامة. فصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم.

وصلاته على غيرهم الرحمة فهي التي وسعت كل شيء.

ونقل عياض عن بكر القشيري

(2)

قال: "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تشريف وزيادة وتكرمة، وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] وقال قبل ذلك في السورة المذكورة {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها"

(3)

.

(1)

جلاء الأفهام (ص 78).

(2)

بكر بن محمد بن العلاء القشيري، قاضي من علماء المالكية من أهل البصرة، انتقل إلى مصر قبل سنة (330 هـ) وتوفي بها سنة 344 هـ. الأعلام (2/ 69).

(3)

فتح الباري (11/ 156).

ص: 33

وقد ضعف ابن القيم رحمه الله تفسير الصلاة بالرحمة والاستغفار وذكر في تضعيفهما عدة أوجه منها:

1 -

أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته فقال: {وبَشِّرِ الصّابِرِينَ الَّذِينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة] فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما، وهذا أصل العطف، وأما قولهم: وألفى قولها كذبا ومينا.

فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المَين أخص من الكذب.

2 -

أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وأما رحمته فوسعت كل شيء، فليست الصلاة مرادفة للرحمة لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها، فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمراتها ومقصودها، وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن، والرسول لا يفسر اللفظة بلازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك، والشك جزء مسمى الريب وتفسير المغفرة بالستر، وهو جزء منه مسمى المغفرة، وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان، وهو لازم الرحمة ونظائر ذلك كثيرة.

3 -

أن هذه اللفظة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلا والمعروف عند العرب من معناها إنما هو الدعاء والتبريك والثناء، ولا تعرف العرب قط "صلى عليه" بمعنى "رحمه" فالواجب حمل اللفظ على معناه المتعارف في اللغة.

4 -

أنه يسوغ بل يستحب لكل أحد أن يسأل الله أن يرحمه فيقول: اللهم ارحمني كما علم النبي صلى الله عليه وسلم الداعي أن يقول: "اللهم اغفر لي

ص: 34

وارحمني وعافني وارزقني"، فلما حفظها قال: "أما هذا فقد ملأ يديه من الخير"

(1)

. ومعلوم أنه لا يسوغ لأحد أن يقول: "اللهم صل علي" بل الداعي بهذا يكون معتديا في دعائه والله لا يحب المعتدين، بخلاف سؤاله الرحمة فإن الله يحب أن يسأله عبده مغفرته ورحمته فعلم أنه ليس معناهما واحدا.

5 -

أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة كقوله تعالى: {ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وقوله: {إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ} [الأعراف] وقوله {وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب] وقوله: {إنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها"

(2)

. وقوله: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"

(3)

فمواضع استعمال الرحمة في حق الله وفي حق العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها، بل في أكثرها، فلا يصح تفسير الصلاة بالرحمة والله أعلم.

6 -

أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها إذا قال: "اللهم ارحم محمدا وآل محمد" وليس الأمر كذلك

(4)

. وزاد السخاوي:

(1)

أخرجه أحمد في المسند (4/ 353).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الولد برقم (5998). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه برقم (2754).

(3)

أخرجه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين (4/ 323 - 324) ح 1924، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(4)

جلاء الأفهام (ص 75 - 82) بتصرف.

ص: 35

7 -

أن الصحابة فهموا المغايرة بين الصلاة والرحمة، فلذلك سألوا عن كيفية الصلاة مع ما تقدم من ذكر الرحمة في تعليم السلام حيث جاء بلفظ "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم قد علمتم ذلك في السلام

(1)

.

وأولى الأقوال بالصواب ما تقدم عن أبي العالية "أن معنى صلاة الله تعالى على نبيه ثناؤه وتعظيمه".

فهي من الله إكرام وتعظيم ومحبة وثناء لنبيه صلى الله عليه وسلم.

فصلاتنا عليه: إنما هي ثناء عليه صلى الله عليه وسلم وإرادة من الله أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا.

(1)

القول البديع (ص 20).

ص: 36

‌المطلب الثالث شرح الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

-

• قوله: "اللهم صل على محمد": اللهم: بمعنى: يا الله

(1)

، وصلاة الله على رسوله: هي الثناء عليه في الملأ الأعلى.

• قال البخاري رحمه الله: "قال أبو العالية: "صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"

(2)

.

• قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يصلون: يبركون"

(3)

فظهر أن الصلاة من الله على نبيه هي الثناء عليه في الملأ الأعلى؛ أي: عند الملائكة المقربين، وإنما جاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه العلم فقط؛ لأن هذا من باب الخبر، قال الطيبي رحمه الله:"عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وقيل: أمرنا الله بالصلاة عليه، لم نبلغ قدر الواجب من ذلك، فأحلنا على الله تعالى، وقلنا: اللهم صل أنت على محمد؛ لأنك أعلم بما يليق"

(4)

، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الصلاة المأمور بها فيها [أي: آية الأحزاب] هي: الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته، وصلاة ملائكته وهي ثناء عليه، وإظهار لفضله، وشرفه، وإرادة تكريمه،

(1)

انظر: لسان العرب (13/ 470)، مادة:(آله)

(2)

صحيح البخاري (6/ 120)، قبل الحديث رقم (4797).

(3)

صحيح البخاري (6/ 120)، قبل الحديث رقم (4797).

(4)

شرح المشكاة للطيبي، الكاشف عن حقائق السنن (3/ 1039).

ص: 37

وتقريبه، فهي تتضمَّن الخبر، والطلب، وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن: صلاة عليه لوجهين:

أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه، وفضله، والإرادة، والمحبة لذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر، والطلب.

والوجه الثاني: أن ذلك سُمِّي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله عليه وثناؤه، وإرادته لرفع ذكره، وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه: سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به"

(1)

.

وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عن جماعة أقوالًا في شرح معنى صلاة الله عليه بالمغفرة، وبالرحمة، ثم قال رحمه الله:"وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية: أن معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه، وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد: طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة"

(2)

، وقال أيضًا:"وقال الحليمي في الشعب: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد: عظم محمدًا، والمراد: تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: "صلوا عليه: ادعوا ربكم بالصلاة عليه. انتهى"

(3)

• قوله: "وعلى آل محمد": الآل: تأتي للأتباع على الدين، ويدل على ذلك قول الله عز وجل:{ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، وإذا قرن الآل بالأتباع كقولنا: "آله وأتباعه، فيُراد بالآل: المؤمنون من قرابته، وكذلك إذا قرن الآل،

(1)

جلاء الأفهام (ص 162).

(2)

فتح الباري (11/ 156).

(3)

فتح الباري (11/ 156).

ص: 38

والأصحاب، والأتباع، فالآل قرابته المؤمنون، والأصحاب: صحابته، والأتباع: أتباعه على دينه، كقولنا:"اللهم صل على محمد، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان"، وقال القرطبي رحمه الله:"اختلف في آله من هم؟ فقيل: أتباعه، وقيل: أمته، وقيل: آل بيته، وقيل: أتباعه من رهطه وعشيرته، وقيل: آل الرجل نفسه؛ ولهذا كان الحسن يقول: "اللهم صل على آل محمد"، واختلف النحويون: هل يضاف الآل إلى المضمر، أم لا يضاف إلا إلى الظاهر؟ فذهب النحاس، والزبيدي، والكسائي، إلى أنه لا يقال إلا: "اللهم صل على محمد وآل محمد"، ولا يقال: وآله"

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم رحمه لله: "واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال، فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة

والقول الثاني: إن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته، وأزواجه خاصة

والقول الثالث: إن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة

والقول الرابع: إن آله صلى الله عليه وسلم الأتقياء من أمته

والصحيح هو القول الأول، ويليه القول الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة.

• بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد"

(2)

.

• وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يأكل آل محمد من هذا المال"

(3)

.

• وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا"

(4)

، وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعًا، فأولى ما حُمل عليه الآل في

(1)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 127).

(2)

البخاري برقم (1485)، ومسلم برقم (1069)، ومسند أحمد (13/ 180) برقم (7758)، واللفظ له.

(3)

البخاري برقم (3711)، ومسلم برقم (1759).

(4)

البخاري برقم (6460)، ومسلم برقم (1055).

ص: 39

الصلاة: الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك"

(1)

.

وقال الحافظ بن حجر رحمه الله: "واختلف في المراد بآل محمد في هذا الحديث، فالراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة

ولمسلمٍ من حديث عبد المطلب بن ربيعة في أثناء حديث مرفوع:

"إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد"، وقال أحمد: المراد بآل محمد في حديث التشهد أهل بيته، وعلى هذا فهل يجوز أن يقال أهل عوض آل؟ روايتان عندهم.

وقيل: المراد بآل محمد: أزواجه، وذريته؛ لأن أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ "وآل محمد"، وجاء في حديث أبي حميد موضعه:"وأزواجه وذريته"، فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية، وتعقب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة كما في حديث أبي هريرة، فيحمل على أنّ بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره، فالمراد بالآل في التشهد: الأزواج، ومن حرمت عليهم الصدقة، ويدخل فيهم الذرية، فبذلك يجمع بين الأحاديث"

(2)

.

• وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "وآل محمد، قيل: إنهم أتباعه على دينه؛ لأن آل الشخص: كل من ينتمي إلى الشخص، سواء بنسب، أم حمية، أم معاهدة، أم موالاة، أم أتباع، كما قال الله تعالى: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، فيكون "آله" أتباعه على دينه، وقيل: "آل النبي صلى الله عليه وسلم " قرابته المؤمنون، والقائل بذلك خص القرابة المؤمنين، فخرج بذلك سائر الناس، وخرج بذلك كل من كان كافرًا من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح الأول، وهو أن الآل هم

(1)

جلاء الأفهام (ص 210).

(2)

فتح الباري (11/ 160).

ص: 40

الأتباع، لكن لو قُرِنَ "الآل" بغيره، فقيل: على محمد، وآله، وأتباعه، صار المراد بالآل المؤمنين من قرابته"

(1)

.

• قوله: "كما صليت على إبراهيم": الكاف هنا للتعليل، وليس للتشبيه؛ وذلك لأن المقرر هو أن المشبه أدنى من المشبه به، ومعلوم أن محمدا وآله أفضل من إبراهيم وآله، وعلى هذا يكون المعنى أن هذا من باب التوسل بفعل الله السابق وهو الفضل على إبراهيم وآله إلى تحقيق فضل الله اللاحق وهو الفضل لمحمد وآله، قال العلامة ابن عثيمين:"وهذا هو القول الأصح الذي لا يرد عليه إشكال"

(2)

.

• قوله: "وعلى آل إبراهيم": قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "هم ذريته من إسماعيل، وإسحاق، كما جزم به جماعة من الشراح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة، وهاجر، فهم داخلون لا محالة، ثم إن المراد: المسلمون منهم، بل المتقون، فيدخل فيهم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، دون من عداهم، وفيه ما تقدم في آل محمد"

(3)

، ويدخل في ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من ولد إبراهيم عليه السلام، وقال الإمام النووي رحمه الله:"ويدخل في آل إبراهيم خلائق لا يحصون من الأنبياء، ولا يدخل في آل محمد صلى الله عليه وسلم نبي، فطلب إلحاق هذه الجملة التي فيها نبي واحد بتلك الجملة التي فيها خلائق من الأنبياء"

(4)

• قوله: "إنك حميد": أي: كثير المحامد فهو الحامد لعباده الذين

(1)

الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 125)، وانظر: شرح رياض الصالحين، شرح الحديث رقم (1407).

(2)

انظر: الشرح الممتع (3/ 165 - 166).

(3)

فتح الباري (11/ 162).

(4)

شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 126).

ص: 41

اصطفاهم لإقامة شرعه ودينه، وهو المحمود من قبل أوليائه لما يتصف به من صفات الجلال والعظمة، قال الإمام النووي رحمه الله:"الحميد: الذي تحمد فعاله، وهو بمعنى المحمود، والله تعالى الحميد، المحمود، المستحمد إلى عباده"

(1)

، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:"فالحميد هو الذي له من الصفات، وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودًا، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه، والمحمود من تعلق به حمد الحامدين"

(2)

، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"أما الحميد: فهو فعيل من الحمد بمعنى محمود، وأبلغ منه، وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها، وقيل: هو بمعنى الحامد؛ أي: يحمد أفعال عباده"

(3)

.

• قوله: "مجيد": أي: متعاظم الأمجاد إلى عباده بما يفيض عليهم من الخيرات. قال النووي رحمه الله: "والمجيد: الماجد، وهو ذو الشرف والكرم، يقال: مجد الرجل يمجد مجدًا، ومجادة، ومجد يمجد لغتان. قال الحسن والكلبي: المجيد الكريم

المجيد: الرفيع. قال أهل المعاني: المجيد: الكامل الشرف، والرفعة، والكرم، والصفات المحمودة"

(4)

. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "المجيد، والممجد، والكبير، والمكبر، والعظيم، والمعظم، والحمد، والمجد إليهما يرجع الكمال كله؛ فإن الحمد يستلزم الثناء، والمحبة للمحمود، فمن أحببته، ولم تثن عليه، لم تكن حامدًا له حتى تكون مثنيًا عليه، محبًا له، وهذا الثناء والحب تبع للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، والإحسان إلى الغير؛ فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع،

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (4/ 134).

(2)

جلاء الأفهام (ص 316).

(3)

فتح الباري (11/ 163).

(4)

تهذيب الأسماء واللغات (4/ 134).

ص: 42

وأكمل، كان الحمد والحب أتم، وأعظم، والله سبحانه له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما، والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يحب لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه، ولكل ما صدر منه سبحانه وتعالى، وأما المجد، فهو مستلزم للعظمة والسعة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام، والله سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام، وهذا معنى قول العبد: لا إله إلا الله، والله أكبر، فلا إله إلا الله دال على ألوهيته، وتفرده فيها، فألوهيته تستلزم محبته التامة، والله أكبر دال على مجده وعظمته، وذلك يستلزم تعظيمه، وتمجيده، وتكبيره؛ ولهذا يقرن سبحانه بين هذين النوعين في القرآن كثيرًا كقوله:{رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود: 73]

(1)

. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأما المجيد: فهو من المجد، وهو صفة من كمل في الشرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال، كما أن الحمد يدل على صفة الإكرام"

(2)

.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله أيضًا: "ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثناء الله تعالى عليه، وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره وزيادة حبه وتقريبه، كما تقدم، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده؛ فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له، وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما أسماء الحميد والمجيد، وهذا كما الداعي يشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به، وتقدم أن هذا من قوله: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180] "

(3)

. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ومناسبة

(1)

جلاء الأفهام (ص 316 - 317).

(2)

فتح الباري (11/ 163).

(3)

جلاء الأفهام (ص 318).

ص: 43

ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله لنبيه، وثناؤه عليه، والتنويه به، وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد، ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو التذييل له، والمعنى: إنك فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك"

(1)

، واقتران الحميد المجيد بيان أن الله محمود على مجده وعظمته وكمال صفاته، فليس كل ذي شرف محمود وكذلك ليس كل محمود يكون ذا شرف

(2)

.

• قوله: "اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد": المراد بالبركة: الزيادة من الخير، والكرامة، وهي شاملة للبركة في العمل والبركة في الأثر المترتب على هذا العمل. قال القاضي عياض رحمه الله: "معنى البركة هنا: الزيادة من الخير والكرامة والتكثير منهما، ويكون بمعنى الثبات على ذلك من قولهم: بركت الإبل، وتكون البركة هاهنا بمعنى: التطهير والتزكية من المعايب،

نبينا صلى الله عليه وسلم سأل ذلك لنفسه وأهل بيته؛ ليتم النعمة عليهم والبركة كما أتمها على إبراهيم وآله، وقيل: بل سأل ذلك لأمته ليثابوا على ذلك، وقيل: بل ليبقى له ذلك دائمًا إلى يوم الدين، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين، كما جعله لإبراهيم"

(3)

. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والبركة: النماء، والزيادة، والتبريك: الدعاء بذلك، ويقال: باركه الله، وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له

فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته، وثبوته له، ومضاعفته، وزيادته، هذا حقيقة البركة"

(4)

.

(1)

فتح الباري (11/ 163).

(2)

انظر: النهج الأسمى للنجدي (1/ 434).

(3)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 303)، وانظر: جلاء الأفهام للإمام ابن القيم (ص 302).

(4)

جلاء الأفهام (ص 302 - 308).

ص: 44

• قوله: "كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد": قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: معنى البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: هو بمعنى التطهير، والتزكية، واختلف العلماء في الحكمة في قوله: "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم" مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض رحمه الله: أظهر الأقوال أن نبينا صلى الله عليه وسلم سأل ذلك لنفسه، ولأهل بيته؛ ليتم النعمة عليهم، كما أتمها على إبراهيم، وعلى آله، وقيل: بل سأل ذلك لأمته، وقيل: بل ليبقى ذلك له دائمًا إلى يوم القيامة، ويجعل له لسان صدق في الآخرين، كإبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقيل: سأل صلاة يتخذه بها خليلا، كما اتخذإبراهيم

والمختار في ذلك أحد ثلاثة أقوال:

أحدها:

أن معناه صلِّ على محمد، وتم الكلام هنا، ثم استأنف: وعلى آل محمد؛ أي: وصل على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، فالمسؤول له مثل إبراهيم وآله، هم آل محمد صلى الله عليه وسلم لا نفسه.

القول الثاني: معناه: اجعل لمحمد وآله صلاة منك، كما جعلتها لإبراهيم وآله، فالمسؤول المشاركة في أصل الصلاة لا قدره.

القول الثالث: أنه على ظاهره، والمراد اجعل لمحمد وآله صلاة، بمقدار الصلاة التي لإبراهيم وآله، والمسؤول مقابلة الجملة؛ فإن المختار في الآل كما قدمناه أنهم جميع الأتباع، ويدخل في آل إبراهيم خلائق لا يحصون من الأنبياء، ولا يدخل في آل محمد صلى الله عليه وسلم نبي، فطلب إلحاق هذه الجملة التي فيها نبي واحد بتلك الجملة التي فيها خلائق من الأنبياء، والله أعلم"

(1)

.

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 125).

ص: 45

وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأقوال في ذلك، ثم قال: "وقالت طائفة أخرى: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم؛ فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء، حصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيحصل له بذلك من المزية ما لم يحصل لغيره.

وتقرير ذلك: أن يجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله، وفيهم الأنبياء جملة مقسومة على: محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لآل إبراهيم، وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى قسم النبي صلى الله عليه وسلم، والزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى الله عليه وسلم، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أعظم، وأفضل من الحاصل لإبراهيم، وهذا أحسن من كل ما تقدمه.

وأحسن منه أن يقال: محمد صلى الله عليه وسلم هو من آل إبراهيم، بل هو آل إبراهيم، كما علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{إن الله اصطفى آدم ونوحا وقال إبراهيم وآل عمران على العلمين} [آل عمران]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "محمد من آل إبراهيم"

(1)

وهذا نص؛ فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آله، فدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم متناولًا للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم.

ثم قد أمرنا الله أن نصلي عليه، وعلى آله خصوصًا بقدر ما صلينا

(1)

ذكره في تفسير الطبري (5/ 329) عن قتادة، واستشهد الشيخ الألباني بكلام ابن القيم في كتابه صفة الصلاة، دون التعليق عليه. انظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص 168).

ص: 46

عليه سائر آل إبراهيم عمومًا، وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صلى الله عليه وسلم.

وتقرير هذا: أنه يكون قد صلى عليه خصوصًا، وطلب له من الصلاة ما لآل إبراهيم، وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعًا، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه، وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب له بغيره، فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه، صار له من المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبه به من الحصة التي لم تحصل لغيره.

فظهر بهذا من فضله، وشرفه على إبراهيم، وعلى كلٍّ من آله، وفيهم النبيون، ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل، وتابعة له، وهي من موجباته، ومقتضياته، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"

(1)

• وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، الكاف هنا للتعليل، وهذا من باب التوسل بأفعال الله السابقة إلى أفعاله اللاحقة؛ يعني: كما مننت بالصلاة على إبراهيم وآله، فامنن بالصلاة على محمد وآله صلى الله عليه وسلم، فهي من باب التعليل،

(1)

جلاء الأفهام (ص 289).

ص: 47

وليست من باب التشبيه، وبهذا يزول الإشكال الذي أورده بعض أهل العلم رحمهم الله؛ حيث قالوا: كيف تلحق الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة على إبراهيم وآله، مع أن محمدًا أشرف من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالجواب أن الكاف هنا ليست للتشبيه، ولكنها للتعليل، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد: حميد يعني: محمود؛ مجيد يعني: ممجد، والمجد هو: العظمة، والسلطان، والعزة، والقدرة، وما إلى ذلك، "اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، كذلك أيضًا التبريك: تقول: اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد؛ أي: أنزل فيهم البركة، والبركة هي الخير الكثير الواسع الثابت، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وسلم، وهذه هي الصفة الفضلى، وإذا اقتصرت على قولك: اللهم صل على محمد، كما فعل العلماء في جميع مؤلفاتهم، إذا ذكروا الرسول لم يقولوا هذه الصلاة المطولة؛ لأن هذه الكاملة، وأما أدنى مجزئ فأن تقول: اللهم صل على محمد"

(1)

.

• قوله: "وعلى أزواجه": هن أمهات المؤمنين - رضي عنهن -. وقال ابن الجوزي رحمه الله: "والأزواج جمع زوج، والفصيح من الكلام أن يقال لامرأة الرجل زوج بغير هاء، وبذلك جاء القرآن"

(2)

.

• قوله: "وذريته": الذرية هي النسل، وقد يختص بالنساء والأطفال، وقد يطلق على الأصل

(3)

. وقال ابن الجوزي رحمه الله: "والذرية فيها قولان: أحدهما: أنها من الذر؛ لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم

(1)

شرح رياض الصالحين، شرح الحديث رقم (1407).

(2)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 170).

(3)

فتح الباري (8/ 193).

ص: 48

كالذر، والثاني: أن أصلها ذروة

ثم أدغمت الواو في الياء فصار ذرية"

(1)

. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وفي هذا الحديث يعني: حديث أبي حميد: "اللهم صل على محمد، وأزواجه، وذريته" قالوا: فهذا تفسير ذلك الحديث، ويبين أن آل محمد هم أزواجه، وذريته

قالوا: والآل، والأهل سواء، وآل الرجل وأهله سواء، وهم: الأزواج، والذرية بدليل هذا الحديث"

(2)

.

• قوله: "وعلى أهل بيته": قال في الفتح الرباني: "قال النووي رحمه الله: اختلف العلماء في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال، أظهرها، وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين: أنهم جميع الأمة، والثاني: بنو هاشم، وبنو المطلب، والثالث: أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وذريته، والله أعلم. اهـ. قال الشوكاني: وقد ذهب نشوان الحميري إمام اللغة إلى أنهم جميع الأمة"

(3)

.

• قوله: "السلام عليك أيها النبي": أما السلام فهو من أسماء الله عز وجل؛ لأنه هو السالم من كل عيب ونقص وآفة وفساد، والمعنى: سلمك الله من كل مكروه وسوء، وإنما جاء الخطاب بالنبوة رفعة لقدره ومقامه. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يجوز فيه وفيما بعده؛ أي: السّلام حذف اللام وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين

قال الطيبي: أصل سلام عليك سلمت سلامًا عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النّصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره، ثم التعريف إما للعهد التقديري؛ أي: ذلك السّلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك

(1)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 170).

(2)

جلاء الأفهام (ص 211).

(3)

الفتح الرباني بشرح مسند الإمام أحمد الشيباني (1/ 23).

ص: 49

أيها النبي، وكذلك السّلام الذي وُجِّه إلى الأمم السالفة علينا وعلى إخواننا، وإما للجنس والمعنى أن حقيقة السّلام الذي يعرفه كل واحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك وعلينا، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى:{وسلام على عباده الذين اصطفى} [النمل: 59]. قال: ولا شك أن هذه التقادير أولى من تقدير النّكرة، انتهى"

(1)

. وقال الفيروز أبادي رحمه الله: "وأما التسليم: وهو أن يقال: السلام عليك أيها النبي، وأيها الرسول، وفي التشهد: السلام عليك أيها النبي، ولو قال في هذا الوقت: الصلاة والسلام عليك لأغنى عن تجديد الصلاة بعد التشهد، ولو أخر السلام إلى وقت الصلاة فقال: اللهم صل وسلم على محمد لأغنى عن السلام في التشهد، ومعناه: السلام - الذي هو اسم من أسماء الله تعالى - عليك، وتأويله: لا خلوت من الخيرات، والبركات، وسلمت من المكاره، والآفات؛ إذ كان اسم الله تعالى إنما يذكر على الأمور توقعًا لاجتماع معاني الخير، والبركة فيها، وانتفاء عوارض الخلل، والفساد عنها، ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة؛ أي: ليكن قضاء الله تعالى عليك السلامة؛ أي: سلمت من الملام والنقائض، فإذا قلت: اللهم سلم على محمد؛ فإنما تريد منه: اللهم اكتب لمحمد في دعوته، وأمته، وذكره السلامة من كل نقص، فتزداد دعوته على ممر الأيام علوًا، وأمته تكاثرًا، وذكره ارتفاعًا"

(2)

.

• قوله: "ورحمة الله": الرحمة صفة من صفات الله تعالى تليق بجلاله وكماله، يرحم بها عباده، وينعم عليهم بها

(3)

، وليست رحمة الله كرحمة خلقه، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11].

(1)

فتح الباري، لابن حجر (2/ 313).

(2)

الصِّلات والبُشَر في الصلاة على خير البشر، للفيروزآبادي (ص 66).

(3)

انظر: توضيح الأحكام للشيخ عبد الله البسام، (ص 269).

ص: 50

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "ورحمة الله: رحمة معطوفة على (السّلام عليك)؛ يعني: ورحمة الله عليك، فيكون عطف جملة على جملة والخبر محذوف، ويجوز أن يكون من باب عطف المفرد على المفرد، فلا يحتاج إلى تقدير الخبر، والرحمة إذا قرنت بالمغفرة، أو بالسّلام صار لها معنى، وإن أفردت صار لها معنى آخر، فإذا قرنت بالمغفرة، أو بالسلام صار المراد بها: ما يحصل به المطلوب، والمغفرة والسلام: ما يزول به المرهوب، وإن أفردت شملت الأمرين جميعًا، فأنت بعد أن دعوت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالسّلام دعوت له بالرحمة؛ ليزول عنه المرهوب ويحصل له المطلوب"

(1)

.

• قوله: "وبركاته": البركة بمعنى النماء والزيادة من كل خير، وهذه البركة تشمل:

أ - البركة في حياته، ويدخل فيها البركة في طعامه، وشرابه، وكسوته، وأهله، وعمله.

ب - البركة بعد موته بكثرة أتباعه واتباعهم له فيما شرع

(2)

. قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله "وبركاته: جمع بركة، وهي الخير الكثير الثابت؛ لأن أصلها من البركة - بكسر الباء - والبركة: مجتمع الماء الكثير الثابت، والبركة: هي: النماء والزيادة في كل شيء من الخير، فما هي البركات التي تدعو بها للرسول عليه الصلاة والسلام بعد موته؟ ففي حياته ممكن أن يبارك له في طعامه، في كسوته، في أهله، في عمله، فأما البركة بعد موته: فبكثرة أتباعه، وما يتبع فيه، فإذا قدرنا أن شخصًا أتباعه مليون رجل، وصار أتباعه مليونين فهذه بركة، وإذا قدرنا أن الأتباع يتطوعون بعشر ركعات، وبعضهم بعشرين ركعة صار في الثاني

(1)

انظر: الشرح الممتنع (3/ 152).

(2)

انظر: الشرح الممتع (3/ 153).

ص: 51

زيادة، إذا؛ نحن ندعو للرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة، وهذا يستلزم كثرة أتباعه، وكثرة عمل أتباعه؛ لأن كل عمل صالح يفعله أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، فله مثل أجورهم إلى يوم القيامة"

(1)

.

• قوله: "السلام علينا": هذا شامل لجميع من حضر هذه الصلاة: إمامًا، ومأمومًا، وملائكة. قال ابن حجر رحمه الله:"السّلام علينا استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء"

(2)

.

• قوله: "وعلى عباد الله الصالحين": هذا تعميم بعد تخصيص وهم كل عبد صالح في السماء والأرض، حي أو ميت: من بني آدم، ومن عالمي الملائكة والجن

(3)

(4)

.

* * *

(1)

انظر: الشرح الممتع (3/ 153).

(2)

فتح الباري، لابن حجر (2/ 314).

(3)

انظر: الشرح الممتع (3/ 154).

(4)

انظر: كتاب (الفضل الكبير في الصلاة والسلام على البشير النذير)(ص 58 - 77) لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور سعيد بن وهف القحطاني حفظه الله تعالى فقد استفدت منه كثيرًا (المعتني).

ص: 52

‌المبحث الثاني الأدلة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها ومواطنها وفضلها

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثاني: كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 53

‌المطلب الأول الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

-

‌1 - من القرآن:

قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب].

وهذه الآية هي الأصل في هذا الباب

(1)

والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها

(2)

.

وهي مدنية النزول وقد جاءت بعد جملة من الآيات في سورة الأحزاب ذكر الله فيها عددا من حقوق نبيه صلى الله عليه وسلم وما خصه به دون أمته، من حِلِّ نكاحه لمن تهب نفسها له، ومن تحريم نكاح أزواجه على الأمة من بعده، ومن سائر ما ذكر بعد ذلك من حقوقه وتعظيمه وتبجيله.

ثم ذكر رفع الجناح عن أزواجه في تكليمهن آباءهن وأبناءهن ودخولهم عليهن، وخلوتهم بهن.

ثم عقَّب ذلك بما هو حق من حقوقه الأكيدة على أمته، وهو أمرهم بصلاتهم عليه وسلامهم، مستفتحًا ذلك الأمر بإخباره بأنه هو وملائكته يصلون عليه

(3)

.

(1)

المنهاج للحليمي (2/ 143).

(2)

القول البديع (ص 21).

(3)

جلاء الأفهام (ص 174 - 175).

ص: 54

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا"

(1)

.

"فهذه الآية شرَّف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته"

(2)

"وفيها تنبيه على كمال الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعة درجته وعلو منزلته عند الله وعند خلقه ورفع ذكره، فقوله:{إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ} ؛ أي يثني الله عليه بين الملائكة وفي الملأ الأعلى لمحبته تعالى، ويثني عليه الملائكة المقربون ويدعون له ويتضرعون.

{يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اقتداء بالله وملائكته وجزاء له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلا لإيمانكم، وتعظيما له صلى الله عليه وسلم ومحبة وإكراما وزيادة في حسناتكم وتكفيرًا من سيئاتكم"

(3)

.

قال الحليمي: "وقد أمر الله تعالى في كتابه بالصلاة والتسليم عليه جملة فقال: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا، وقدم قبل أمرهم بذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه، لينبئهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل، إذ كانت الملائكة مع انفكاكهم من شريعته

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 507).

(2)

تفسير القرطبي (14/ 232) بتصرف.

(3)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (6/ 120 - 121).

ص: 55

تتقرب إلى الله بالصلاة والتسليم عليه ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أولى وأحق"

(1)

.

‌2 - من السنة النبوية:

ورد في شأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الأحاديث التي وضَّحت وبيَّنت ما يتعلق بشأن هذه الصلاة من جهة مشروعيتها وكيفيتها ومواطنها وفضلها إلى غير ذلك من الجوانب المتعلقة بها.

وقد روى هذه الأحاديث ما جمع من الصحابة رضوان الله عليهم عدهم ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" فبلغوا اثثين وأربعين صحابيا.

وقد جمع ابن القيم هذه الأحاديث وبيَّن طرقها وصحيحها من حسنها ومعلولها، وما في معلولها من العلل بيانا شافيا.

وسيأتي ذكر بعض هذه الأحاديث في مواضعها المناسبة في المطلب القادم وذلك تلافيا للتكرار والإعادة.

* * *

(1)

المنهاج للحليمي (2/ 131).

ص: 56

‌المطلب الثاني كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

-

ورد في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث منها:

‌1 - حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه:

فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه

(1)

.

والمراد بالسلام في قوله: "قد علمنا كيف نسلم عليك" السلام الذي في التشهد وهو قول "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"

(2)

.

‌2 - حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه:

عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) برقم (4797)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد برقم (405).

(2)

فتح الباري (11/ 155).

ص: 57

على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه

(1)

.

‌3 - حديث أبي سعيد الخدري

(2)

رضي الله عنه:

عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله، هذا السلام عليك فكيف نصلي؟ قال:"قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم"

(3)

.

‌4 - حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري

(4)

رضي الله عنه:

عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد

(5)

أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا اللهم صل على

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب هل يُصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم برقم (6360): ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد برقم (407).

(2)

واسمه سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي أبو سعيد الخدري، مشهور بكنيته استصغر بأحد واستشهد أبوه بها، وشهد هو ما بعدها، كان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثا كثيرا، مات بعد الستين من الهجرة. الإصابة (2/ 32 - 33).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (6358).

(4)

عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري أبو مسعود البدري، مشهور بكنيته شهد العقبة، والمشاهد كلها، مات بعد سنة أربعين للهجرة. الإصابة (2/ 483 - 484).

(5)

بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري البدري: شهد العقبة وشهد بدرا والمشاهد بعدها، استشهد بعين التمر مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة. الإصابة (1/ 162) والاستيعاب (1/ 155 - 156).

ص: 58

محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم"

(1)

.

‌5 - حديث طلحة بن عبيد الله:

عن طلحة بن عبيد الله قال: قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: "قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"

(2)

.

والملاحظ في هذه الأحاديث هو اختلاف ألفاظها، ومن أجل ذلك فإن المرء قد يسأل بأي هذه الألفاظ يدعو؟

قال ابن القيم: "لقد سلك بعض المتأخرين

(3)

في ذلك طريقة، وهو أن الداعي يستحب له أن يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة، ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها، فرأى أنه يستحب للمصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول" اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى أزواجه وذريته، وارحم محمدًا وآل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وكذلك في البركة والرحمة.

وعلل ذلك بقوله: ليصيب ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يقينًا فيما شك فيه الراوي وليجتمع له ألفاظ الأدعية الأخر فيما اختلفت ألفاظها.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد برقم (406).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 262). وأخرجه النسائي في السنن، كتاب السهو، باب كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 48) وإسناده حسن.

(3)

كالإمام النووي في الأذكار ص 80.

ص: 59

ونازعه في ذلك آخرون وقال: هذا ضعيف من وجوه:

أحدها: أن هذه الطريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين.

الثاني: أن صاحبها إن طرَّدها لزمه أن يستحب للمصلي أن يستفتح بجميع أنواع الاستفتاحات، وأن يتشهد بجميع أنواع التشهدات، وأن يقول فيركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه، وهذا باطل قطعا فإنه خلاف عمل الناس، ولم يستحبه أحد من أهل العلم وهو بدعة، وإن لم يطردها تناقض وفرق بين متماثلين.

الثالث: أن صاحبها ينبغي له أن يجمع بين القراءات المتنوعة في التلاوة في الصلاة وخارجها. قالوا: ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب ذلك للقارئ في الصلاة ولا خارجها إذا قرأ قراءة عبادة وتدبر، وإنما يفعل ذلك القراء أحيانا ليمتحن بذلك حفظ القارئ لأنواع القراءات، وإحاطته بها واستحضاره إياها، والتمكن من استحضارها عند طلبها، فذلك تمرين وتدريب لا تعبد مستحب لكل تال وقارئ، ومع هذا ففي ذلك للناس كلام ليس هذا موضعه، بل المشروع في حق التالي أن يقرأ بأي حرف شاء، وإن شاء أن يقرأ بهذا مرة وبهذا مرة جاز ذلك.

وكذا الداعي إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة بلفظ هذا الحديث، ومرة بلفظ الآخر، وكذلك إذا تشهد، فإن شاء تشهد بتشهد ابن مسعود، وإن شاء بتشهد ابن عباس، وإن شاء بتشهد ابن عمر، وإن شاء بتشهد عائشة رضي الله عنها أجمعين، ولا يستحب له أحد أن يجمع بين ذلك كله. وقد احتج غير واحد من الأئمة منهم الشافعي رحمه الله تعالى على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات ونحوها بالحديث الذي رواه أصحاب الصحيح والسنن وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنزل القرآن على سبعة

ص: 60

أحرف"

(1)

. فجوَّز النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بكل حرف من تلك الأحرف، وأخبر أنه "شافي كافي "ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ بتلك الأحرف على سبيل البدل لا على سبيل الجمع كما كان الصحابة يفعلون.

الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة في آن واحد، بل إما أن يكون قال هذا مرة وهذا مرة كألفاظ الاستفتاح والتشهد، وأذكار الركوع والسجود وغيرها، فاتباعه صلى الله عليه وسلم يقتضي أن لا يجمع بينها، بل يقال هذا مرة وهذا مرة.

وإما أن يكون الراوي قد شك في أي الألفاظ قال، فإن ترجح عند الداعي بعضها صار إليه وإن لم يترجح عنده بعضها كان مخيرا بينهما، ولم يشرع له الجمع، فإن هذا نوع ثالث لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعود الجمع بين تلك الألفاظ في آن واحد على مقصود الداعي بالإبطال لأنه قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففعل ما لم يفعله قطعا.

ومثال ما يترجح فيه أحد الألفاظ حديث الاستخارة فإن الراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري" أو قال: "وعاجل أمري وآجله"

(2)

بدل "وعاقبة أمري" والصحيح اللفظ الأول وهو قوله "وعاقبة أمري" لأن عاجل الأمر وآجله هو مضمون قوله "ديني ومعاشي وعاقبة أمري" فيكون الجمع بين المعاش وعاجل الأمر وآجله تكرارا، بخلاف ذكر المعاش والعاقبة، فإنه لا تكرار فيه، فإن المعاش هو عاجل الأمر والعاقبة أجله.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب أُنزل القرآن على سبعة أحرف برقم (4992)؛ وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه برقم (818).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى برقم (1162) وقد جاءت رواية البخاري على الشك الذي ذكره ابن القيم.

ص: 61

ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال" رواه مسلم

(1)

.

واختلف فيه، فقال بعض الرواة "من أول سورة الكهف".

وقال بعضهم "من آخرها" وكلاهما في الصحيح، لكن الترجيح لمن قال:"من أول سورة الكهف" لأن في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان

(2)

في قصة الدجال "فإذا رأيتموه فاقرأوا عليه فواتح سورة الكهف"

(3)

ولم يختلف في ذلك، وهذا يدل على أن من روى العشر من أول السورة حفظ الحديث، ومن روى من آخرها لم يحفظه.

الخامس: أن المقصود إنما هو المعنى والتعبير عنه بعبارة مؤدية له، فإذا عبر عنه بإحدى العبارتين حصل المقصود، فلا يجمع بين العبارات المتعددة.

السادس: أن أحد اللفظين بدل عن الآخر، فلا يستحب الجمع بين البدل والمبدل معًا، كما لا يستحب ذلك في المبدلات التي لها إبدال والله أعلم

(4)

* * *

(1)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي برقم (809) وذكر مسلم أيضًا هذا الاختلاف فقال: قال شعبة: من آخر الكهف، وقال همام من أول الكهف كما قال هشام.

(2)

النواس في سمعان بن خالد بن عمرو العامري الكلابي: له ولأبيه صحبة وحديثه عند مسلم في صحيحه الإصابة (3/ 546).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه (2937).

(4)

جلاء الأفهام (373 - 379) بتصرف.

ص: 62

‌المطلب الثالث: مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

-

تتأكد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن: إما وجوبًا، وإما استحبابًا مؤكدا

(1)

ومن هذه المواطن ما يلي:

‌الموطن الأول: في الصلاة في آخر التشهد:

وهو أهمها وآكدها، وقد أجمع المسلمون على مشروعيته

(2)

واختلفوا في وجوبه فيها.

فقالت طائفة: ليس بواجب فيها، وهذا قول أبي حنيفة ومالك ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم

(3)

.

وقالت طائفة: بوجوب ذلك، وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد، والظاهر أنها آخر قوليه

(4)

وهي المعتمدة في المذهب

(5)

. وبهذا القول قال جمع من الصحابة والتابعين وأرباب المذاهب، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو مسعود، والشعبي، ومقاتل بن حيان، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين

(6)

، وإسحاق بن راهويه

(7)

.

(1)

جلاء الأفهام ص (251).

(2)

جلاء الأفهام ص (251).

(3)

مجموع الفتاوى (27/ 408)، والمغني (1/ 542) وجلاء الأفهام ص (251).

(4)

مجموع الفتاوى (27/ 408)، والمغني (1/ 542) وجلاء الأفهام ص (251).

(5)

المغني (1/ 541).

(6)

محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، من فقهاء أهل المدينة من التابعين، توفي سنة أربع عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (9/ 350 - 352).

(7)

المغني (1/ 542)، جلاء الأفهام (253 - 255)، والقول البديع (180 - 183).

ص: 63

ولكل واحد من الفريقين أدلته، وهي مبسوطة في كتب الفقه.

وقد جمعها ابن القيم في كتابه القيم "جلاء الأفهام"

(1)

فمن أراد الاستزادة في هذا الشأن فليرجع إليه

(2)

.

وأما ما يتعلق بأدلة مشروعيتها في هذا الموطن، فهي بعينها الأدلة التي تقدم ذكرها في المطلب السابق عند الحديث عن كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

‌الموطن الثاني: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول:

قال ابن القيم: "وهذا قد اختلف فيه:

القول الأول: قال الشافعي في "الأم": "يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول

(3)

وهذا هو المشهور من مذهبه وهو الجديد، ولكنه يستحب وليس بواجب.

القول الثاني: قال الشافعي في "القديم": "لا يزيد على التشهد" وهذه رواية المزني

(4)

عنه، وبهذا قال أحمد وأبو حنيفة ومالك وغيرهم.

واحتج لقول الشافعي بما رواه الدارقطني بسنده عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد التحيات الطيبات الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله

(1)

انظر جلاء الأفهام (ص 251 - 276).

(2)

صرفت النظر عن إيراد أدلة كل فريق نظرًا:

1 -

كثرة الأدلة والاعتراضات الواردة في هذه المسألة.

2 -

كون المسألة تتعلق بالنواحي الفقهية، فهذا مما يتعارض مع منهجية البحث الذي يتناول النواحي العقدية.

(3)

الأم للشافعي (1/ 117).

(4)

إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، أبو إبراهيم المزني: صاحب الإمام الشافعي، كان زاهدا عالما مجتهدا قوي الحجة، توفي سنة 264 هـ. الأعلام (1/ 329).

ص: 64

الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم "

(1)

.

وروى الدارقطني أيضًا من حديث عمرو بن شمَّر عن جابر عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بريدة إذا صليت في صلاتك فلا تتركن الصلاة علي فيها، فإنها زكاة الصلاة"

(2)

.

قالوا: وهذا يعم الجلوس الأول والآخر.

واحتج له أيضًا بأن الله تعالى أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسوله صلى الله عليه وسلم فدل على أنه حيث شرع التسليم عليه شرعت الصلاة عليه، ولهذا سأله أصحابه عن كيفية الصلاة عليه، وقالوا "قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ " فدل على أن الصلاة عليه مقرونة بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن المصلي يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيشرع له أن يصلي عليه.

قالوا: ولأنه مكان شرع فيه التشهد والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم فشرع فيه الصلاة عليه كالتشهد الأخير.

قالوا: ولأن التشهد الأول محل يستحب فيه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحب فيه الصلاة عليه، لأنه أكمل في ذكره.

قالوا: ولأن في حديث محمد بن إسحاق: كيف نصلي عليك إذا نحن جلسنا في صلاتنا؟

(3)

.

(1)

أخرجه الدارقطني في السنن، كتاب الصلاة، باب صفة التشهد ووجوبه واختلاف الروايات فيه (1/ 351) وإسناده ضعيف جدًّا؛ لأن فيه خارجة بن مصعب: متروك، وموسى بن عبيدة: ضعيف.

(2)

أخرجه الدارقطنى في السنن، كتاب الصلاة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (1/ 355) وإسناده ضعيف فيه عبد المهيمن بن عباس لا يحتج به.

(3)

أخرجه أحمد في المسند (4/ 119) والحاكم في المستدرك (1/ 268).

ص: 65

وقال الآخرون: ليس التشهد الأول بمحل لذلك، وهو القديم من قولي الشافعي رحمه الله تعالى، وهو الذي صححه كثير من أصحابه؛ لأن التشهد الأول تخفيفه مشروع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس فيه كأنه على الرضف

(1)

(2)

.

ولم يثبت عنه أنه كان يفعل ذلك فيه، ولا علّمه للأمة، ولا يعرف أن أحدا من الصحابة استحبه، ولأن مشروعية ذلك لو كانت كما ذكرتم من الأمر لكانت واجبة في المحل كما في الأخير، لتناول الأمر لهما، ولأنه لو كانت الصلاة مستحبة في هذا الموضع، لاستحب فيه الصلاة على آله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرد نفسه دون آله بالأمر بالصلاة عليه، بل أمرهم بالصلاة عليه وعلى آله في الصلاة وغيرها.

ولأنه لو كانت الصلاة عليه في هذه المواضع مشروعة لشرع فيها ذكر إبراهيم وآل إبراهيم، لأنها هي صفة الصلاة المأمور بها، ولأنها لو شرعت في هذه المواضع لشرع فيها الدعاء بعدها لحديث فضالة، ولم يكن فرق بين التشهد الأول والأخير.

قالوا: وأما ما استدللتم به من الأحاديث فمع ضعفها لا تدل، لأن المراد بالتشهد فيها هو الأخير دون الأول بما ذكرناه من الأدلة

(3)

.

(1)

الرضف: الحجارة المحماة على النار، واحدتها: رضفة. النهاية (2/ 231)

(2)

أخرجه أحمد في المسند (1/ 386، 410، 428، 436، 460). وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الصلاة، باب تخفيف القعود (1/ 606). ح 995 وأخرجه الترمذي في السنن، أبواب الصلاة، باب ما جاء في مقدار القعود في الركعتين الأوليين (2/ 202) ح 366. وقال الترمذي:"هذا حديث حسن إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون أن لا يطيل الرجل القعود في الركعتين الأوليين ولا يزيد على التشهد شيئا" انتهى كلامه.

(3)

جلاء الأفهام (ص 277 - 279).

ص: 66

‌الموطن الثالث من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: آخر القنوت:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "استحبه الشافعي ومن وافقه واحتج لذلك بما رواه النسائي بسنده عن الحسن بن علي

(1)

قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر قال: "قل اللهم اهدني فيمن هديت، وبارك لي فيما أعطيت، وتولني فيمن توليت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت

(2)

وصلى الله على النبي"

(3)

وهذا إنما هو في قنوت الوتر، وإنما نقل إلى قنوت الفجر قياسًا كما نقل أصل هذا الدعاء إلى قنوت الفجر.

وهو مستحب في قنوت رمضان، فعن عروة بن الزبير

(4)

أن عبد الرحمن بن عبد القاري

(5)

وكان في عهد عمر بن الخطاب مع

(1)

الحسن بن علي بن أبي طالب: سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته في الدنيا، وأحد سيدَي شباب أهل الجنة، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم. بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه ثم تنازل عنها لمعاوية حقنًا لدماء المسلمين، ومات سنة تسع وأربعين وقيل بعدها. الإصابة (1/ 327 - 330).

(2)

الحديث إلى قوله "وتعاليت"، أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر (2/ 133 - 134). وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر (1/ 328)(ح 464)؛ وأخرجه ابن ماجه في السنن، أبواب إقامة الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر (1/ 213) ح 1167، وقال الحافظ ابن حجر:"الحديث حسن صحيح". التلخيص (ص 94 - 95).

(3)

أخرجه النسائي في السنن (3/ 248) وقد انفرد النسائي بهذه الزيادة "وصلى الله على النبي"، وروايته ضعيفة، قال الحافظ ابن حجر هذه الزيادة في هذا السند غريبة لا تثبت وإن سنده لا يخلو إما من راو مجهول، أو انقطاع في السند.

(4)

عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد الله المدني، تابعي ثقة فقيه مشهور، ولد في أوائل خلافة الفاروق، وتوفي سنة أربع وتسعين على الصحيح. تهذيب التهذيب (8/ 180 - 185).

(5)

عبد الرحمن بن عبد من غير إضافة القارئ بتشديد الياء من ولد القارة ابن =

ص: 67

عبد الله بن الأرقم

(1)

على بيت المال، قال: إن عمر خرج ليلة في رمضان، فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القارى فطاف في المسجد، وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر رضي الله عنه، والله إني لأظن لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد يكون أمثل، ثم عزم عمر على ذلك وأمر أبي بن كعب أن يقوم بهم في رمضان، فخرج عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، وقال: كانوا يلعنون الكفرة في النصف يقولون: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو للمسلمين ما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين، قال: فكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفار، وصلاته على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره للمؤمنين، ومسألته: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد

(2)

ونرجو رحمتك، ونخاف عذابك إن عذابك الجد لمن عاديت ملحق، ثم يكبِّر ويهوي ساجدًا"

(3)

.

وروى إسماعيل بن إسحاق بسنده عن قتادة، عن عبد الله بن

= الديش، ذكره العجلي في ثقات التابعين واختلف قول الواقدي فيه: قال تارة: له صحبة، وتارة تابعي، مات سنة ثمان وثمانين. تقريب التهذيب (206).

(1)

عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب القرشي الزهري: صحابي أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وكان على بيت المال أيام عمر، وتوفي في خلافة عثمان. الإصابة (2/ 265).

(2)

وإليك نسعى ونحفد أي نسرع في العمل والخدمة. النهاية (1/ 406).

(3)

أخرجه الشافعي في الأم (1/ 239 - 240) والبيهقي في السنن (4/ 39) ورجاله كلهم ثقات.

ص: 68

الحارث

(1)

أن أبا حليمة - معاذًا

(2)

كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت"

(3)

(4)

.

‌الموطن الرابع: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية:

لا خلاف في مشروعيتها فيها، واختلف في توقف صحة الصلاة عليها. فقال الشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبهما: إنها واجبة في الصلاة، لا تصح إلا بها، ورواه البيهقي عن عبادة بن الصامت وغيره من الصحابة. وقال مالك وأبو حنيفة: تستحب وليست بواجبة، وهو وجه لأصحاب الشافعي. والدليل على مشروعيتها في صلاة الجنازة، ما روى الشافعي بسنده عن الزهري، قال أخبرني أمامة بن سهل، أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي

(1)

عبد الله بن الحارث الأنصاري أبو الوليد البصري، ثقة من رجال الشيخين. تهذيب التهذيب (5/ 181 - 182).

(2)

معاذ بن الحارث الأنصاري النجاري أبو حليمة ويقال أبو الحارث المدني القاري، قال ابن عبد البر شهد الخندق، ويقال لم يدرك من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ست سنين، وهو الذي أقامه عمر فيمن أقام في رمضان ليصلي التراويح، يقال إنه قتل يوم الحرة. تهذيب التهذيب (10/ 188 - 189).

(3)

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 45) رقم 107، قال الألباني:"إسناده موقوف صحيح"، وأبو حليمة معاذ هو ابن الحارث الأنصاري القاري قال ابن أبي حاتم:(4/ 1/ 246)"وهو الذي أقامه عمر يصلي بهم في شهر رمضان صلاة التراويح وعبد الله بن الحارث هو أبو الوليد البصري ثقة من رجال الشيخين، ورواه ابن نصر في "قيام الليل" (ص 136) بلفظ "كان يقوم في القنوت في رمضان يدعو ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويستسقي الغيث".

(4)

جلاء الأفهام (ص 279 - 281).

ص: 69

على النبي صلى الله عليه وسلم، ويُخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه

(1)

. وروى إسماعيل بن إسحاق في كتاب "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " بسنده عن الزهري قال سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف

(2)

يحدث سعيد بن المسيب

(3)

قال: إن السُّنَّة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت حتى يفرغ، ولا يقرأ إلا مرة واحدة، ثم يسلم في نفسه

(4)

.

(1)

الأم (1/ 239 - 240) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 39).

(2)

أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري: ولد في حياة النبي علمًا وسمي باسم جده لأمه أسعد بن زرارة وكني بكنيته، وكان من أكابر الأنصار وعلمائهم، توفي سنة مائة للهجرة. تهذيب التهذيب (1/ 263 - 264).

(3)

سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي: وسيد التابعين وأحد فقهاء المدينة السبعة، وكان زاهدا ورعا يعيش من كسب يده توفي سنة 94 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 84 - 88).

(4)

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 39) رقم 94. وقال الألباني في تعليقه على هذا الكتاب: إسناده صحيح، وأبو أمامة هذا صحابي صغير كما قال ابن القيم، وقد رواه عن جماعة من الصحابة، فقال يونس عن ابن شهاب، قال أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف - وكان من كبراء الأنصار وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره رجال من أصحاب رسول الله في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم الحديث نحوه وزاد: قال الزهري: حدثنا بذلك أبو أمامة وابن المسيب يسمع فلم ينكر ذلك عليه. قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من السنة في الصلاة على الميت لمحمد بن سويد فقال وأنا سمعت الضحاك بن قيمة يحدث عن حبيب بن مسلمة في صلاة صلاها على الميت مثل الذي حدثنا أبو أمامة.

أخرجه الحاكم (1/ 360) وعنه البيهقي (4/ 39، 40) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، ورواه النسائي (1/ 281) من طريق الليث عن ابن شهاب به مختصرًا. انتهى.

ص: 70

وأبو أمامة هذا صحابي صغير، وقد رواه عن صحابي آخر كما ذكره الشافعي.

وقال صاحب "المغني"

(1)

يروى عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بمكة فكبر، ثم قرأ وجهر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا لصاحبه فأحسن ثم انصرف، وقال: هكذا ينبغي أن تكون الصلاة على الجنازة.

وفي الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي

(2)

حدثنا مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري

(3)

عن أبيه

(4)

أنه سأل أبا هريرة كيف نصلي على الجنازة؟ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أنا لعمر الله أخبرك، أتبعها من أهلها، فإذا وضعت كبرت وحمدت الله تعالى، وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أقول:"اللهم إنه عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده"

(5)

.

(1)

(2/ 486).

(2)

يحيى بن يحيى بن أبي عيسى كثير بن وسلاس الليثي بالولاء، أبو محمد عالم الأندلس في عصره بربري الأصل، سمع الموطأ من مالك قال عنه الإمام مالك هذا عاقل أهل الأندلس، توفي بقرطبة سنة 234 هـ. الأعلام (8/ 176).

(3)

سعيد بن كيسان المقبري أبو سعد المدني، ثقة جليل تغير قبل موته بأربع سنين، مات في حدود العشرين ومائة وقيل قبلها وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (4/ 38 - 40).

(4)

كيسان أبو سعيد المقبري: مولى أم شريك، تابعي ثقة كثير الحديث توفي سنة مائة للهجرة. تهذيب التهذيب (8/ 453 - 454).

(5)

الموطأ (ص 151 - 152) ح 535، وأخرجه إسماعيل القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 39) ح 93. وقال الألباني المحقق عند تعليقه عليه: إسناده موقوف صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه البيهقي في السنن (4/ 40).

ص: 71

إذا تقرر هذا، فالمستحب أن يصلَّى عليه صلى الله عليه وسلم في الجنازة كما يصلى عليه في التشهد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم ذلك أصحابه لما سألوه عن كيفية الصلاة عليه. وفي مسائل "عبد الله بن أحمد" عن أبيه قال: يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلى على الملائكة المقربين.

قال القاضي: يقول: "اللهم صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين من أهل السموات والأرضين، إنك على كل شيء قدير"

(1)

.

‌الموطن الخامس: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: في الخطب كخطبة الجمعة والعيدين، والاستسقاء، وغيرها:

وقد اختلف في اشتراطها لصحة الخطبة.

قال الشافعي وأحمد في المشمهور من مذهبهما: لا تصح الخطة إلا بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو حنيفة ومالك: تصح بدونها، وهو وجه في مذهب أحمد واحتج لوجوبها في الخطبة بقوله تعالى:{ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ ووَضَعْنا عَنْكَوِزْرَكَ صَدْرَكَ الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "رفع الله ذكره، فلا يذكر إلا ذكر معه. وفي هذا الدليل نظر، لأن ذكره صلى الله عليه وسلم مع ذكر ربه هو الشهادة له بالرسالة إذا شهد لمرسله بالوحدانية، وهذا هو الواجب في الخطبة قطعًا بل هو ركنها الأعظم، وقد روى أبو داود، وأحمد وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء"

(2)

(1)

جلاء الأفهام (ص 281 - 284).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (2/ 302، 343). وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الخطبة (5/ 173) ح 4841 وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب =

ص: 72

واليد الجذماء: المقطوعة، فمن أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة دون التشهد فقوله في غاية الضعف.

وقد روى ابن جرير في تفسيره بسنده عن قتادة {ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطب ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادى بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله

(1)

.

وعن الضحاك: {ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح] قال: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي، ولا يجوز خطبة ولا نكاح إلا بذكرك

(2)

معي.

وعن مجاهد {ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: لا أُذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله"

(3)

.

فهذا هو المراد من الآية، وكيف لا يجب التشهد الذي هو عقد الإسلام في الخطبة، وهو أفضل كلماتها وتجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها.

والدليل على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ما رواه الإمام أحمد في المسند بسنده عن عون بن أبي جحيفة

(4)

قال: كان أبي

(5)

من شرط علي، وكان تحت المنبر، فحدثني: أنه صعد

= النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح (3/ 414) ح 1106 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.

(1)

تفسير الطبري (30/ 235).

(2)

أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه لعبد بن حميد (6/ 363).

(3)

أخرجه ابن جرير في تفسيره (30/ 235).

(4)

عون بن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي الكوفي، ثقة من الرابعة، مات سنة ست عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (8/ 170).

(5)

واسمه وهب بن عبد الله السوائي - بضم المهملة -: ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، أبو جحيفة مشهور بكنيته، ويقال له وهب الخير، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم =

ص: 73

المنبر - يعني عليًّا رضي الله عنه فحمد الله وأثني عليه وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني عمر، وقال يجعل الله الخير حيث شاء

(1)

.

قال ابن القيم: "وقد كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطب أمرًا مشهورا معروفًا عند الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

أما وجوبها فيعتمد دليلا يجب المصير إليه وإلى مثله"

(2)

.

‌الموطن السادس: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: الصلاة عليه بعد إجابة المؤذن وعند الإقامة:

لما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله تعالى، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي"

(3)

.

‌الموطن السابع: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند الدعاء:

والدليل على ذلك حديث فضالة بن عبيد

(4)

رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاة لم يحمد الله ولم يصل على

= في أواخر عمره وحفظ عنه، ثم صحب عليًّا بعده وولاه شرطة الكوفة. مات سنة أربع رستين. الإصابة (3/ 606).

(1)

المسند (1/ 106).

(2)

جلاء الأفهام (ص 286).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه

برقم (383).

(4)

فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي: صحابي جليل أسلم قديما ولم يشهد بدرًا، وشهد أُحدًا فما بعدها، وشهد فتح مصر والشام قبلها، مات في خلافة معاوية. الإصابة (3/ 251).

ص: 74

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عجل هذا" ثم دعاه، فقال له أو لغيره:"إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء"

(1)

.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

‌الموطن الثامن: من مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: عند دخول المسجد وعند الحروج منه:

لما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم"

(3)

.

وعن فاطمة بنت الحسين

(4)

عن جدتها فاطمة الكبرى

(5)

قالت:

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 17)؛ وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الدعاء (2/ 162) ح 1481، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب الدعوات، باب ادع تجب (5/ 517) ح 3473، 3475 وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في سننه (3/ 44) باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والحاكم في المستدرك (1/ 232) وصححه ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 356). وقال أحمد شاكر بهامشه:"هذا موقوف بحكم المرفوع" وذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 150، 151). وقال: حسن - الصحيحة 2035.

(3)

صحيح ابن خزيمة (452) وابن حبان (321) موارد.

(4)

فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمية المدنية: روت عن أبيها وأخيها زين العابدين وغيرهم، وزوجها هو ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي، وتزوجها بعده عبد الله بن عمرو بن عثمان. وذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. تهذيب التهذيب (12/ 442 - 443).

(5)

فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم الحسنين سيدة نساء هذه الأمة، =

ص: 75

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال:"رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"

(1)

.

= تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في السنة الثانية للهجرة، وماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر وقد جاوزت العشرين بقليل. تقريب التهذيب (ص 471).

(1)

أخرجه بهذا اللفظ: الإمام أحمد في المسند (6/ 272). والترمذي في السنن أبواب الصلاة باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد (2/ 127، 128) ح 314، وقال الترمذي:"وفي الباب عن أبي حميد، وأبي أسيد، وأبي هريرة، وقال: "حديث فاطمة حديث حسن، وليس إسناده بمتصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى، وإنما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشهرا". وأخرجه بلفظ:"إذا دخل المسجد يقول "بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال" بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفم لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك". الإمام أحمد في المسند (6/ 283). وابن ماجه في السنن، أبواب المساجد، الدعاء عند دخول المسجد (1/ 139) ح 755 وله شاهد من حديث أبي حميد وأبي أسيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: "اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد (1/ 317، 318) ح 465 وهو عند مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب ما يقول إذا دخل المسجد (2/ 155) بلفظ إذا دخل المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك وهو عند أحمد بهذا اللفظ (5/ 425).

وهو عند النسائي بهذا اللفظ أيضًا، انظر: السنن كتاب المساجدن باب القول عند دخول المسجد والخروج منه (2/ 53) وفي سنن ابن ماجه، أبواب المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد (1/ 139) ح 756، قال رسول صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم ثم ليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك.

وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم =

ص: 76

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة والتابعين"

(1)

.

وقال القاضي عياض: "ومن مواطن الصلاة والسلام عند دخول المسجد" وذكرا عددا من الآثار عن بعض الأئمة

(2)

.

‌الموطن التاسع: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: على الصفا والمروة:

لما روى إسماعيل بن إسحاق القاضي بسنده عن نافع

(3)

أن عمر رضي الله عنهكانيكبرعلى الصفا ثلاثا، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدر، ثم يصلي

= المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم" أخرجه ابن ماجة في سننه، أبواب المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد (1/ 131) ح 757، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا دخل المسجد ح 90 وفيه: فليقل: اللهم باعدني من الشيطان بدل قوله: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم. وأخرجه من طريق آخر عن أبي هريرة ولم يذكر فيه السلام ح 91، 92 وتعرض النسائي هنا لاختلاف ألفاظ الحديث فليراجع.

والحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (452). وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 207) كتاب الصلاة ولفظه عند الحاكم إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (528).

(1)

الرد على الأخنائي (ص 147).

(2)

الشفا (2/ 637).

(3)

نافع الفقيه مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور قال البخاري: أصح الأسانبد مالك عن نافع عن ابن عمره مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك. تهذيب التهذيب (10/ 412 - 414).

ص: 77

على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو ويطل القيام والدعاء، ثم يفعل على المروة نحو ذلك

(1)

.

وعن وهب بن الأجدع

(2)

قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس بمكة يقول إذا قدم الرجل منكم حاجا فليطف بالبيت سبعا وليصل عند المقام ركعتين ثم يستلم الحجر الأسود، ثم يبدأ بالصفا، فيقوم عليها ويستقبل البيت فيكبر سبع تكبيرات بين كل تكبيرتين حمد الله عز وجل وثناء عليه عز وجل، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة لنفسه وعلى المروة مثل ذلك

(3)

.

‌الموطن العاشر: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند اجتماع القوم قبل تفرقهم:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم مجلسا فلم يذكروا الله ولم يصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كان مجلسهم عليهم

(1)

كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 36 - 37) ح 87. وقال الألباني في تعليقه عليه: "إسناده موقوف منقطع فإن نافعا لم يدرك عمر، ولكن في إجلاء الأفهام نقلا عن المصنف أن ابن عمر فإن صح هذا فيكون قد سقط من نسختنا لفظة (ابن) ويكون السند حينئذ متصلا صحيحا، وهذا مما أستبعده، والله أعلم، انتهى كلامه.

(2)

وهب بن الأجدع الهمداني الخارفي الكرفي، تابعي ثقة، روي عن عمر وعلي وعنه هلال بن سياف والشعبي، وكان قليل الحديث. تهذيب التهذيب (1/ 158).

(3)

أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 34) ح 81 وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 292 - 293) وعزاه لجعفر بن عون وأبي ذر الهروي. وأورده السخاوي في القول البديع (ص 209) وعزاه للبيهقي وإسماعيل القاضي وأبي ذر الهروي وقال - أي السخاوي - إسناده قوي.

ص: 78

تِرة

(1)

يوم القيامة، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء أخذهم"

(2)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "ما جلس قوم مجلسا لم يصل فيه على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كانت عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة"

(3)

.

وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا من غير صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا تفرقوا على أنتن من ريح جيفة"

(4)

.

‌الموطن الحادي عشر: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند ذكره:

قال ابن القيم: "وقد اختلفت في وجوبها كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم فقال أبو جعفر الطحاوي

(5)

وأبو عبيد الله الحليمي: تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه. وقال غيرهما إن ذلك مستحب، وليس بفرض يأثم تاركه. ثم اختلفوا: فقالت فرقة: تجب الصلاة عليه في العمر مرة

(1)

ترة: النقص، وقيل التبعة. النهاية (1/ 189).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 446، 453، 481، 484) وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعاء، باب في القوم يجلسون لا يذكرون الله (5/ 146) ح 3380 وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 159) ح 449 وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 496) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وصالح ليس بالساقط وتعقبه الذهبي بقوله صالح ضعيف. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2322).

(3)

أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 314) ح 410 وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 22) ح 55.

وقال الألباني في تعليقه عليه: إسناده صحيح موقوف، ولكنه في حكم المرفوع.

(4)

أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 314) ح 411.

(5)

أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، أبو جعفر، فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، وهو أحد الثقات الأثبات الحفاظ، توفي سنة 321 هـ. الأعلام (1/ 206).

ص: 79

واحدة، لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا، والماهية تحصل بمرة، وهذا محكي عن أبي حنيفة ومالك، والثوري، والأوزاعي"

(1)

.

قال القاضي عياض وابن عبد البر: وهو قول جمهور الأمة.

وقالت فرقة: بل تجب في كل صلاة في تشهدها الأخير كما تقدم، وهو قول الشافعي وأحمد في آخر الروايتين عنه، وغيرهما.

وقالت فرقة: الأمر بالصلاة عليه أمر استحباب لا أمر إيجاب، وهذا قول ابن جرير وطائفة، وادعى ابن جرير فيه الإجماع، وهذا على أصله فإنه إذا رأي الأكثرين على قول، جعله إجماعا يجب اتباعه.

واحتج الموجبون بحجج:

• الحجة الأولى: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رَغِمَ أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة"

(2)

.

ورغم أنفه: دعاء عليه وذم له، وتارك المستحب لا يذم ولا يدعى عليه.

(1)

عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، أهله من سبي السند استقر بدمشق وهو من شيوخ الإسلام كان عابدا مجاهدا، قال عنه الحاكم: الأوزاعي إمام عصره عموما وإمام أهل الشام خصوصا، توفي ببيروت عام 157 هـ. البداية والنهاية (10/ 115 - 120).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"رغم أنف رجل" برقم 3545 وقال: "وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 9) ح 16 وقال الألباني في تعليقه عليه إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.

ص: 80

• الحجة الثانية: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صعد المنبر فقال:"آمين، آمين، آمين"، فقيل له: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا؟ فقال:"قال لي جبريل رغم أنف عبد دخل عليه رمضان ولم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنفه عبد أدرك أبويه أو أحدهما الكبر لم يدخل الجنة، فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف عبد ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين"

(1)

.

(1)

أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 9) ح 18 وقال الألباني في تعليقه عليه: إسناده حسن؛ وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2387) والحديث روي كذلك من طرق أخرى عن كل من:

1 -

كعب بن عجرة رضي الله عنه:

أخرجه إسماعيل بن إسحاق في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 15) ح 19. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 153، 154) وصححه ووافقه الذهبي.

2 -

أنس بن مالك رضي الله عنه:

قال السخاوي في القول البديع (ص 148) أخرجه ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما.

3 -

مالك بن الحويرث رضي الله عنه:

أخرجه ابن حبان في صحيحه (2386) موارد، وقال السخاوي (ص 148) أخرجه ابن حبان في صحيحه وثقاته معا، والطبراني ورجاله ثقات لكن فيهم عمران بن أبان الراسطي وهو وإن وثقه ابن حبان وأخرج حديثه هذا في صحيحه فقد ضعفه غير واحد.

4 -

جابر بن عبد الله رضي الله عنه:

أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 95). وقال السخاري في كتابه القول البديع (ص 148): رواه البخاري في الأدب المفرد والطبري في تهذيبه والدارقطي في الأفراد وهو حديث حسن ونحوه من وجه آخر عند الطبراني في الأوسط وابن السني في عمل اليوم والليلة، وأشار إليه الترمذي في جامعه بقوله وفي الباب عن جابر وقد أخرجه النسائي وساقه الضياء في المختارة =

ص: 81

• الحجة الثالثة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذكرت عنده فليصل علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا"

(1)

. وهذا إسناد صحيح والأمر ظاهره الوجوب.

• الحجة الرابعة: حديث الحسين بن علي

(2)

رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي"

(3)

.

وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد أو قعد أبو ذر - فذكر حديثا طويلا - وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبخل الناس من

= من طريق الطيالسي وقال هذا عندي على شرط مسلم. انتهي وفي ذلك نظر والله أعلم.

5 -

جابر بن سمرة رضي الله عنه:

قال السخاوي: أخرجه الدارقطني في الأفراد والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير والدقيقي في أماليه. وللحديث طرق أخرى ذكرها السخاوي في القول البديع (ص 147 - 151) ولا يتسع المجال هنا لذكرها. قال ابن القيم:"ولا ريب أن الحديث بتلك الطرق المتعددة تفيد الصحة"، جلاء الأفهام (ص 295).

(1)

أخرجه النسائي في اليوم والليلة رقم (61) وابن السني (383) وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (643).

(2)

الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني: سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسرن سنة. الإصابة (1/ 330 - 334).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 201). والترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "رغم أنف رجل" (5/ 551) ح 3546 وقال: حديث حسن صحيح غريب والنسائي في اليوم والليلة (55). وابن حبان في صحيحه (2388) موارد. والحاكم في المستدرك (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 15) ح 33.

ص: 82

ذكرت عنده فلم يصل علي"

(1)

.

قالوا: فإذا ثبت أنه بخيل، فوجه الدلالة به من وجهين:

أحدها: أن البخل اسم ذم، وتارك المستحب لا يستحق اسم الذم قال الله تعالى:{إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبُخْلِ} [الحديد] فقرن البخل بالاختيال والفخر، والآمر بالبخل، وذم على المجموع، فدل على أن البخل صفة ذم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وأي داء أدوأ من البخل"

(2)

.

الثاني: أن البخيل هو مانع ما وجب عليه، فمن أدى الواجب عليه كله لم يسم بخيلا، وإنما البخيل مانع ما يستحق عليه إعطاؤه وبذله.

• الحجة الخامسة: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والتسليم عليه، والأمر المطلق للتكرار، ولا يمكن أن يقال: التكرار هو كل وقت، فإن الأوامر المكررة إنما تتكرر في أوقات خاصة، أو عند شروط وأسباب تقتضي تكرارها، وليس وقت أولى من وقت، فتكرار المأمور بتكرار ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أولى لما تقدم من النصوص، فهنا ثلاث مقدمات:

الأولى: أن الصلاة مأمور بها أمرا مطلقا، وهذه معلومة.

المقدمة الثانية: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار، وهذا مختلف فيه فنفاه طائفة من الفقهاء والأصوليين. وأثبته طائفة. وفرَّقت طائفة بين

(1)

أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي (ص 16) رقم 37 وقال الألباني في تعليقه عليه: حديث صحيح بشاهده المتقدم والآتي بعده، ورجال إسناده ثقات لولا الرجل الذي لم يسم. وقد رواه ابن أبي عاصم في "كتاب الصلاة" من طريق أخرى عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي ذر، فأحد الطريقين يقوى الآخر.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (296) عن جابر رضي الله عنه والإمام أحمد في المسند (3/ 307).

ص: 83

الأمر المطلق والمعلَّق على شرط أو وقت، فأثبتت التكرار في المعلق دون المطلق. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد والشافعي، وغيرهما.

ورجَّحت هذه الطائفة التكرار بأن عامة أوامر الشرع على التكرار كقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ} [الحديد: 7] وقوله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة: 208] وقوله تعالى: {أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقوله تعالى:{واتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189]، وقوله تعالى:{وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ} [البقرة: 43]، وقوله تعالى:{يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا ورابِطُوا واتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200] وقوله تعالى: {وخافُونِ} [آل عمران: 175].

وقوله: {واخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، وقوله:{واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج: 78]، وقوله:{واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103].

وذلك في القرآن أكثر من أن يحصر، وإذا كانت أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر، علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله للأمة، والأمر وإن لم يكن في لفظه المجرد ما يؤذن بتكرار ولا فور فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار، فلا يحمل كلامه إلا على عرفه والمألوف من خطابه، وإن لم يكن ذلك مفهوما من أصل الوضع في اللغة، وهذا كما قلنا: ان الأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد، فإن هذا معلوم من خطاب الشارع وإن كان لا تعرض لصحة المنهي ولا لفساده في أصل موضوع اللغة، وكذا خطاب الشارع لواحد من الأمة يقتضي معرفة الخاص أن يكون اللفظ متناولا له ولأمثاله، وإن كان موضوع اللفظ لغة لا يقتضي ذلك، فإن هذا لغة صاحب الشرع وعرفه في مصادر كلامه وموارده، وهذا معلوم بالاضطرار من دينه قبل أن يعلم صحة القياس واعتباره وشروطه، وهكذا الفرق بين اقتضاء اللفظ وعدم اقتضائه لغة، وبين اقتضائه في عرف الشارع وعادة خطابه.

ص: 84

المقدمة الثالثة: أنه إذا تكرر المأمور به، فإنه لا يتكرر إلا بسبب أو وقت، وأولى الأسباب المقتضية لتكراره ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، لإخباره برغم أنف من ذكر عنده فلم يصل عليه، وللإسجال عليه بالبخل وإعطائه اسمه.

قالوا: ومما يؤيد ذلك أن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه عقب إخباره لهم بأنه وملائكته يصلون عليه، لم يكن مرة وانقطعت. بل في صلاة متكررة، ولهذا ذكرها مبينًا بها فضله وشرفه وعلو منزلته عنده، ثم أمر المؤمنين بها، فتكرارها في حقهم أحق وآكد لأجل الأمر.

قالوا: ولأن الله أكد السلام بالمصدر الذي هو التسليم، وهذا يقتضي المبالغة والزيادة في كميته، وذلك بالتكرار.

قالوا: ولأن لفظ الفعل المأمور به يدل على التكثير وهو "صلى وسلم" فإن "فعَّل" المشدد، يدل على تكرار الفعل، كقولك كسّر الخبرز وقطَّع اللحم، وعلّم الخير، وشدّد في كذا، ونحوه.

قالوا: ولأن الأمر بالصلاة عليه في مقابل إحسانه إلى الأمة، وتعليمهم وإرشادهم وهدايتهم، وما حصل لهم ببركته من سعادة الدنيا والآخرة، ومعلوم أن مقابلة مثل هذا النفع العظيم لا يحصل بالصلاة عليه مرة واحدة في العمر، بل لو صلى العبد عليه بعدد أنفاسه لم يكن موفيا لحقه ولا مؤديا لنعمته، فجعل ضابط شكر هذه النعمة بالصلاة عليه عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم.

قالوا: ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بتسميته من لم يصل عليه عند ذكره بخيلا، لأن من أحسن إلى العبد الإحسان العظيم، وحصل له به هذا الخير الجسيم، ثم يذكر عنده ولا يثني عليه ولا يبالغ في حمده ومدحه وتمجيده، ويبدي ذلك ويعيده، ويعتذر من التقصير في القيام بشكره وحقه، عده الناس بخيلا لئيما كفورا فكيف بمن أدنى إحسانه إلى العبد يزيد على أعظم إحسان المخلوقين بعضهم لبعض الذي بإحسانه

ص: 85

حصل للعبد خير الدنيا والآخرة، ونجا من شر الدنيا والآخرة، الذي لا تتصور القلوب حقيقة نعمته وإحسانه، فضلًا عن أن تقوم بشكره، أليس هذا المنعم المحسن أحق بأن يعظم ويثنى عليه، ويستفرغ الوسع في حمده ومدحه إذا ذكر بين الملأ، فلا أقل من أن يصلى عليه مرة إذا ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم.

قالوا: ولهذا دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم برغم أنفه، وهو أن يلصق أنفه بالرغام وهو التراب، لأنه لما ذكر عنده فلم يصل عليه استحق أن يذله الله ويلصق أنفه بالتراب.

قالوا: ولأن الله سبحانه نهى الأمة أن يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضا، فلا يسمونه إذا خاطبوه باسمه، كما يسمى بعضهم بعضا بل يدعونه برسول الله ونبي الله، وهذا من تمام تعزيره وتوقيره وتعظيمه، فهكذا ينبغي أن يخص باقتران اسمه بالصلاة عليه، ليكون ذلك فرقا بينه وبين ذكر غيره، كما كان الأمر بدعائه بالرسول والنبي فرقا بينه وبين خطاب غيره، فلو كان عند ذكره لا تجب الصلاة عليه كان ذكره كذكر غيره في ذلك، هذا على أحد التفسيرين في الآية.

وأما على التفسير الآخر وهو أن المعنى: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا فتؤخروا الإجابة بالاعتذار والعلل التي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض ولكن بادروا إليه إذا دعاكم بسرعة الإجابة ومعاجلة الطاعة حتى لم يجعل اشتغالهم بالصلاة عذرا لهم في التخلف عن إجابته والمبادرة إلى طاعته فإذا لم تكن الصلاة التي فيها شغل عذرا يستباح بها تأخير إجابته فكيف ما دونها من الأسباب والأعذار؟ فعلى هذا يكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، وعلى القول الأول يكون مضافا إلى المفعول.

وقد يقال - وهو أحسن من القولين - إن المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول، وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة،

ص: 86

ويكون المعنى: لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضا، وعلى هذا فيعم الأمرين معا، ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضا، وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير فكما أمر الله سبحانه أن يميز في خطابه ودعائهم إياه قياما للأمة بما يجب عليه من تعظيمه وإجلاله فتمييزه بالصلاة عليه عند ذكر اسمه من تمام هذا المقصود.

قالوا: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن من ذكر عنده فلم يصل عليه خطيء طريق الجنة"

(1)

فلولا أن الصلاة عليه واجبة عند ذكره لم يكن تاركها مخطئا لطريق الجنة. قالوا: وأيضا فمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر عنده فلم يصل عليه فقد جفاه، ولا يجوز لمسلم جفاؤه صلى الله عليه وسلم.

فالدليل على المقدمة الأولى: ما روي عن قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي علي"

(2)

.

ولو تركنا وهذا المرسل وحده لم نحتج به، ولكن له أصول وشواهد

(1)

أخرجه ابن ماجة في السنن، أبواب إقامة الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 164) ح 895 وقال الألباني حسن صحيح (صحيح ابن ماجة 1/ 150). وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 17 - 18) ح 41 - 42 - 43 - 44. وقال الألباني في تعليقه عليه:"إسناده مرسل صحيح، والحديث له طرق وإن كانت لا تخلو من ضعف فبعضها يقوي بعضا فالحديث وتقي بها إلى درجة الحسن على أقل الدرجات" انتهي كلامه. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 418) مرسلا عن محمد بن الحنفية. وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 138) رقم 2887 موصولا عن الحسين بن علي من طريق بشر بن محمد الكندي وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوئد (10/ 164). وأخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الشعب (1/ 419).

(2)

أورده ابن القيم وعزاه لسعيد بن الأعرابي "جلاء الأفهام"(ص 301) وأورده السخاوي في القول البديع (ص 152) وقال: أخرجه النميري من وجهين من طريق عبد الرزاق وهو في جامعه، ورواته ثقات.

ص: 87

قد تقدمت من تسمية تارك الصلاة عليه عند ذكره بخيلًا وشحيحًا، والدعاء عليه بالرغم، وهذا من موجبات جفائه.

والدليل على المقدمة الثانية: أن جفاءه مناف لكمال حبه، وتقديم محبته على النفس والأهل والمال، وأنه أولى بالمؤمن من نفسه فإن العبد لا يؤمن حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ومن ولده ووالده والناس أجمعين، كما ثبت عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال:"لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال: فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال:"الآن يا عمر"

(1)

.

وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"

(2)

فذكر هذا الحديث أنواع المحبة الثلاثة، فإن المحبة: إما محبة إجلال وتعظيم، كمحبة الوالد، وإما محبة تحنن وود ولطف كمحبة الولد، وإما محبة لأجل الإحسان وصفات الكمال، كمحبة الناس بعضهم بعضًا، ولا يؤمن العبد حتى يكون حب الرسول صلى الله عليه وسلم عنده أشد من هذه المحاب كلها.

ومعلوم أن جفاءه صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك

قالوا: فلما كانت محبته فرضا، وكانت توابعها من الإجلال والتعظيم والتوقير والطاعة والتقديم على النفس، وإيثاره بنفسه بحيث يقي نفسه فرضًا، كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر من لوازم هذه الأحبيَّة وتمامها.

قالوا: وإذا ثبت بهذه الوجوه وغيرها وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على من ذكر عنده، فوجوبها على الذاكر نفسه أولى، ونظير هذا أن سامع

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم برقم (6632).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان برقم (15)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

برقم (44).

ص: 88

السجدة إذا أمر بالسجود إما وجوبًا أو استحبابًا، فوجوبها على التالي أولى، والله أعلم.

قال نفاة الوجوب: الدليل على قولنا من وجوه:

• أحدها: أن من المعلوم الذي لا ريب فيه أن السلف الصالح الذين هم القدوة لم يكن أحدهم كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقرن الصلاة عليه باسمه، وهذا في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يذكر فإنهم كانوا يقولون يا رسول الله، مقتصرين على ذلك وربما كان يقول أحدهم "صلى الله عليك" وهذا في الأحاديث ظاهر كثير، فلو كانت الصلاة عليه واجبة عند ذكره لأنكر عليهم تركها.

• الثاني: أن الصلاة عليه لو كانت واجبة كلما ذكر، لكان هذا من أظهر الواجبات، ولبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بيانًا يقطع العذر وتقوم به الحجة.

• الثالث: أنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم هذا القول، ولا يعرف أحد منهم قال به، وأكثر الفقهاء - بل قد حكى الإجماع - على أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليست من فروض الصلاة، وقد نسب القول بوجوبها إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع السابق، فكيف تحب خارج الصلاة.

• الرابع: أنه لو وجبت الصلاة عليه عند ذكره دائمًا، لوجب على المؤذن أن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يشرع له في الأذان على أن يجب عليه.

• الخامس: أنه كان يجب على من سمع النداء وأجابه أن يصلي عليه صلى الله عليه وسلم، اقتصاره على قوله "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" فإن هذا مثل ما قال المؤذن.

• السادس: أن التشهد الأول ينتهي عند قوله: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" اتفاقًا، واختلف هل يشرع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله فيه، على ثلاثة أقوال:

أحدها: لا يشرع ذلك إلا في الأخير.

ص: 89

والثاني: يشرع.

والثالث: تشرع الصلاة عليه خاصة دون آله، ولم يقل أحد بوجوبها في الأول عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

• السابع: أن المسلم إذا دخل في الإسلام بتلفظه بالشهادتين لم يحتج أن يقول أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

• الثامن: أن الخطب في الجمع والأعياد وغيرهما لا يحتاج أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الشهد، ولو كانت الصلاة واجبة عليه عند ذكره لوجب عليه أن يقرنها بالشهادة، ولا يقال تكفي الصلاة عليه في الخطبة فإن تلك الصلاة لا تنعطف على ذكر اسمه عند الشهادة، ولا سيما مع طول الفصل، والموجبون يقولون: تجب الصلاة عليه كلما ذكر ومعلوم أن ذكره ثانيا غير ذكره أولا.

• التاسع: أنه لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر لوجب على القارئ كلما مر ذكر اسمه أن يصلي عليه، ويقطع لذلك قراءته ليؤدي هذا الواجب، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، فإن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا تبطل الصلاة، وهي واجب قد تعين فلزم أداؤه، ومعلوم أن ذلك لو كان واجبا لكان الصحابة والتابعون أقوم به وأسرع إلى أدائه وترك إهماله.

• العاشر: أنه لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر لوجب الثناء على الله عز وجل كلما ذكر اسمه، فكان يجب على من ذكر اسم الله أن يقرنه بقوله:"سبحانه وتعالى" أو "عز وجل" أو "تبارك وتعالى" أو "جلت عظمته" أو "تعالى جده" ونحو ذلك، بل كان ذلك أولى وأحرى فإن تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته وطاعته تابع لتعظيم مرسله سبحانه وإجلاله ومحبته وطاعته، فمحال أن تثبت المحبة والطاعة والتعظيم والإجلال للرسول صلى الله عليه وسلم دون مرسله، بل إنما يثبت ذلك له تبعًا لمحبة الله وتعظيمه وإجلاله،

ص: 90

ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة لله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومبايعته مبايعة لله {إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ومحبته محبة لله قال تعالى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وتعظيمه تعظيم لله، ونصرته نصرة لله، فإنه رسوله وعبده الداعي إليه وإلى طاعته ومحبته وإجلاله، وتعظيمه وعبادته وحده لا شريك له، فكيف يقال تجب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، وهي ثناء وتعظيم كما تقدم، ولا يجب الثناء والتعظيم للخالق سبحانه وتعالى كلما ذكر اسمه؟ هذا محال من القول.

• الحادي عشر: لو جلس إنسان ليس له هجِّيرى

(1)

إلا قوله: محمد رسول الله، أو اللهم صل على محمد، وبشر كثير يسمعونه، فإن قلتم تجب على كل أولئك السامعين أن يكون هجيراهم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ولو طال المجلس ما طال، كان ذلك حرجا ومشقة وتركا لقراءة قارئهم، ودراسة دارسهم، وكلام صاحب الحاجة منهم، ومذاكرته في العلم، وتعليمه القرآن وغيره، وإن قلتم لا تحب عليهم الصلاة عليه في هذه الحال، نقضتم مذهبكم، وإن قلتم: تجب عليه مرة أو أكثر، كان تحكما بلا دليل مع أنه مبطل لقولكم.

• الثاني عشر: أن الشهادة له بالرسالة أفرض وأوجب من الصلاة عليه بلا ريب، ومعلوم أنه لا يدخل في الإسلام إلا بها، فإذا كانت لا تجب كلما ذكر اسمه، فكيف تحب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، وليس من الواجبات بعد كلمة الإخلاص أفرض من الشهادة له بالرسالة، فمتى أقر له بوجوبها عند ذكر اسمه تذكر العبد الإيمان وموجبات هذه الشهادة فكان يجب على كل من ذكر اسمه أن يقول محمد رسول الله، ووجوب ذلك أظهر بكثير من وجوب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه.

(1)

هجِّيرى: الدأب والشأن.

ص: 91

ولكل فرقة من هاتين الفرقتين أجوبة عن حجج الفرقة المنازعة لها، بعضها ضعيف جدا وبعضها محتمل، وبعضها قوي، ويظهر ذلك لمن تأمل حجج الفريقين، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب"

(1)

.

‌الموطن الثاني عشر: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: يوم الجمعة:

فعن أوس بن أوس

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خُلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي".

قالوا: يا رسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرِمت؟ - يعني وقد بليت - فقال: "إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"

(3)

.

(1)

جلاء الأفهام (ص 294 إلى 305).

(2)

أوس بن أوس الثقفي، صحابي، سكن الشام ومات بها. الإصابة (1/ 92) وتهذيب التهذيب (1/ 381).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/ 8)؛ وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي (ص 11) رقم 22. وأخرجه أبو داود في سننه (1/ 635) كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة ح 1047. وأخرجه النسائي في السنن (3/ 91) كتاب الجمعة، باب ذكر فضل الجمعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1/ 195) أبواب إقامة الصلاة، باب فضل الجمعة ح 1071 وفي أبواب ما جاء في الجنائز باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم (1/ 300) ح 1637. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 60) وصححه ووافقه الذهبي. ورواه ابن حبان في صحيحه. انظر الورارد (550).

قال ابن القيم: "وقد أعله بعض الحفاظ بأن حسينًا الجعفي حدَّث به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعت الصنعاني، عن أوس بن أوس، قال ومن تأمل هذا الإسناد لم يشك في صحته، لثقة رواته وشهرتهم وقبول الأئمة أحاديثهم وعلَّته: أن حسينًا الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن =

ص: 92

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يزيد بن جابر، وإنما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم لا يحتج به، فلما حدث به حبان الجعفي غلط في اسم الجد، فقال ابن جابر، وقد بين ذلك الحفاظ ونبهوا عليه".

فقال البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 1365) عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الشامي عن مكحول، سمع منه الوليد بن مسلم، عنده مناكير، ويقال: هو الذي روى عنه أبو أسامة وحسين الجعفي، وقالا: هو يزيد بن جابر، وغلطا في نسبه ونريد بن تميم أصح، وهو ضعيف الحديث.

وقال الخطيب: روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ووهموا في ذلك، والحمل عليهم في تلك الأحاديث. وقال موسى بن هارون الحافظ: روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وكان ذلك وهنا منه، وهو لم يلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فظن أنه ابن جابر نفسه، وابن تميم ضعيف. وقد أشار غير واحد من الحفاظ إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة.

وجواب هذا التعليل من وجوه:

أحدها: أن حسينا الجعفي قد صرح بسماعه له من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. قال ابن حبان في صحيحه: حدثنا ابن خزيمة، حدثنا أبو كريب، حدثنا حسين بن علي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فصرح بالسماع منه.

وقولهم: إنه ظن أنه ابن جابر وإنما هو ابن تميم، فغلط في اسم جده بعيد، فإنه لم يكن يشببه على حسين هذا بهذا، مع نقده وعلمه بهما وسماعه منهما.

فإن قيل: فقد قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" سمعت أبي يقول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، لا أعلم أحدا من أهل العراق يحدث عنه، والذي عندي أن الذي يروي عنه أبو أسامة وحسين الجعفي واحد، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة خمسة أحاديث أو ستة أحاديث منكرة، لا يحتمل أن يحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بمثله، ولا أعلم أحدا من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئا. وأما حسين الجعفي فإنه يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث، عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة أنه قال: "أفضل الأيام يوم الجمعة، فيه الصعقة وفيه =

ص: 93

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= النفخة، وفيه كذا" وهو حديث منكر لا أعلم أحدًا رواه غير حسين الجعفي، وأما عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فهو ضعيف الحديث، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة، تم كلامه.

قيل: وقد تكلم في سماع حسين الجعفي، وأبي أسامة من ابن جابر فأكثر أهل الحديث أنكروا سماع أبي أسامة منه. قال شيخنا (أبو الحجاج المزي) في التهذيب: قال ابن نمير - وذكر أبا أسامة - فقال: الذي - يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يرى أنه ليس بابن جابر المعروف، ذكر لي أنه رجل يسمى باسم ابن جابر، قال يعقوب: صدق، هو عبد الرحمن ابن فلان بن تميم، فدخل عليه أبو أسامة فكتب عنه هذه الأحاديث فروى عنه، وإنما هو إنسان يسمى بابن جابر. قال يعقوب: وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة أنه علم ذلك وعرف ولكن تغافل عن ذلك قال: وقال لي ابن نمير أما ترى روايته لا تشبه سائر حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه؟ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سكت محمد بن عبد الرحمن ابن أخي حسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فقال قدم الكوفة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثم قدم عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر والذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر، بل هو ابن تميم وقال ابن داود سمع أبو أسامة من ابن المبارك عن ابن جابر وجميعا يحدثان عن مكحول، وابن جابر أيضا دمشقي، فلما قدم هذا قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقي، وحدث عن مكحول، فظن أبو أسامة أنه ابن يزيد بن جابر الذي روى عنه ابن المبارك وابن جابر ثقة مأمون يجمع حديثه، وابن تميم ضعيف.

وقال أبو داود: متروك الحديث، حدث عنه أبو أسامة وغلط في اسمه، وقال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي وكل ما جاء عن أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد، فإنما هو ابن تميم.

وأما رواية حسين الجعفي عن ابن جابر، فقد ذكر شيخنا في التهذيب وقال: روى عنه حسين بن علي الحعفي، وأبو أسامة حماد بن أسامة إن كان محفوظًا فجزم برواية حسين عن ابن جابر، وشك في رواية حماد فهذا ما ظهر في جواب هذا التعليل. =

ص: 94

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا هي مصيخة

(1)

يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقًا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيها ساعة لا يصادفها عبدٌ مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه"

(2)

.

قال ابن القيم: "فهذا الحديث الصحيح مؤيد لحديث أوس بن أوس، دال على مثل معناه"

(3)

.

= ثم بعد أن كتبت ذلك رأيت الدارقطني قد ذكر ذلك نصًّا، فقال في كلامه على كتاب أبي حاتم في "الضعفاء" قوله: حسين الجعفي روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبو أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم. فيغلط في اسم جده، تم كلامه.

وللحديث علة أخرى: وهي أن عبد الرحمن بن يزيد لم يذكر سماعه من أبي الأشعث.

قال علي بن المديني رحمه الله: حدثنا الحسين بن علي بن الجعفي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس

فذكره.

وقال إسماعيل بن إسحاق في كتابه (ص 11) رقم 22 حدثنا على بن عبد الله

فذكره. وليست هذه بعلة قادحة، فإن للحديث شواهد من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وأبي مسعود الأنصاري، وأنس بن مالك والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى كلام ابن القيم جلاء الأفهام (ص 69 - 71).

(1)

مصيخة؛ أي مستمعة، مصغية.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة برقم (854)؛ وأخرجه الترمذي في سننه، أبواب الجمعة، باب ما جاء في فضل يوم الجمعة (2/ 359) ح 488. وأخرجه النسائي في سننه، كتاب الجمعة، باب ذكر فضل يوم الجمعة (3/ 89). وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 108).

(3)

جلاء الأفهام (ص 71).

ص: 95

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لا يصلي عليّ إلا عُرضت علي صلاته حتى يفرغ منها "قال: قلت بعد الموت؟ قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء "فنبيُّ الله حي يُرزق"

(1)

.

وعن أبي أمامة

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتى تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم صلاة كان أقربهم مني منزلة"

(3)

.

(1)

أخرجه ابن ماجة في سننه، أبواب ما جاء في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم (1/ 300) 1638، وقال في الزوائد: هذا حديث صحيح، إلا أنه منقطع في موضعين لأن عبادة روايته عن أبي الدرداء مرسلة، قاله العلاء، وزيد بن أيمن عن عبادة مرسلة قاله البخاري. وقال السخاوي: أخرجه ابن ماجه ورجاله ثقات لكنه منقطع. وأخرجه الطبراني في الكبير بلفظ: "أكثروا الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ليس من عبد يصلي علي إلا بلغتني صلاته حيث كان" قلنا وبعد وفاتك قال: "وبعد وفاتي إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وقال العراقي إن إسناده لا يصح. القول البديع (ص 164).

(2)

صُدي (بالتصغير) ابن عجلان بن الحارث الباهلي، أبو أمامة صحابي مشهور يكنيه، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين. الإصابة (2/ 175 - 176).

(3)

أخرجه البيهقي في السنن (3/ 249). وقال السخاوي: رواه البيهقي بسند حسن لا بأس به، إلا أن مكحولا قيل إنه لم يسمع من أبي أمامة في قول الجمهور. وقد رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس له فأسقط منه ذكر مكحول وسنده ضعيف القول البديع (ص 164). وقال ابن القيم: ولكن لهذا الحديث علتان:

إحداهما: أن برد بن سنان قد تكلم فيه، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره.

العلة الثانية: أن مكحولا قد قيل إنه لم يسمع من أبي أمامة والله أعلم. جلاء الأفهام (ص 72 - 73).

ص: 96

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة على يوم الجمعة، فإنه أتاني جبريل آنفا من ربه عز وجل فقال: ما على الأرض من مسلم يصلي عليك مرة واحدة إلا صليت أنا وملائكتي عليه عشرًا"

(1)

. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض علي"

(2)

.

قال ابن القيم: "هذان وإن كانا ضعيفين فيصلُحان للاستشهاد"

(3)

.

وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة"

(4)

وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة. وعن زيد بن وهب

(5)

قال: قال لي ابن مسعود رضي الله عنه: "يا زيد بن وهب لا تدع - إذا كان يوم الجمعة - أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة تقول: "اللهم صل على محمد النبي الأمي"

(6)

.

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، فإنه ليس أحد يصلي علي يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته"

(7)

.

(1)

قال السخاوي: "رواه الطبراني بسند لا بأس به في المتابعات". القول البديع (ص 162).

(2)

أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 144) وسنده ضعيف، كما ذكر السخاوي فيه ثلاثة رواة ضعفاء هم: جبارة بن مغلس، وأبو إسحاق خازم، ويزيد الرقاشي. القول البديع (ص 162).

(3)

جلاء الأفهام (ص 73).

(4)

الكامل لابن عدي (3/ 1039).

(5)

زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض وهو في الطريق، ثقة جليل، كثير الحديث، توفي سنة ست وتسعين وقيل قبلها. تهذيب التهذيب (3/ 427).

(6)

جلاء الأفهام (ص 73، 74) والقول البديع (ص 159).

(7)

أورده السخاوي في القول البديع وقال: رواه الحاكم، وقال =

ص: 97

وفي "مراسيل الحسن" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنها تعرض علي"

(1)

.

وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: "أن انشروا العلم يوم الجمعة فإن غائلة العلم النسيان، وأكثروا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة"

(2)

.

وهناك مواطن أخرى غير ما ذكرنا، ذكرها ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام"

(3)

.

= صحيح الإسناد، والبيهقي في شعب الإيمان وحياة الأنبياء في قبورهم له، وابن أبي عاصم في فضل الصلاة له، وفي سنده: أبو رافع وهو إسماعيل بن رافع وثقه البخاري وقال يعقوب بن سفيان يصلح حديثه للشواهد والمتابعات لكن قد ضعفه النسائي ويحي بن معين وقيل إنه منكر الحديث". وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 310) وقال: وفيه إسماعيل بن رافع قال يعقوب بن سفيان: يصلح حديثه للشواهد والمتابعات.

(1)

أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين انظر (ص 13) ح 28، ح 29، قال الألباني: حديث صحيح بشاهده عن أوس بن أوس.

(2)

أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 311) وعزاه لابن وضاح، والسخاوي في القول البديع (ص 199 - 200) وعزاه لابن وضاح وابن بشكوال.

(3)

من المواطن التي ذكرها ابن القيم غير ما تقدم ما يلي:

1 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند استلام الحجر الاسود.

2 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره.

3 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى السوق أو إلى دعوة أو غيرها.

4 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا قام الرجل من نوم الليل.

5 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب ختم القرآن.

6 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند القيام من المجلس.

7 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند المرور على المساجد ورؤيتها. =

ص: 98

وكذلك السخاوي في كتابه "القول البديع"، والفيروزآبادي في "الصلات والبشر" ممن أراد الاستزادة فليرجع إليها، وحسبي أني أشرت لأشهرها.

* * *

= 8 - الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الهم، والشدائد وطلب المغفرة.

9 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند كتابة اسمه صلى الله عليه وسلم.

10 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند تبليغ العلم إلى الناس، والتذكير والقصص.

11 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أول النهار وآخره.

12 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه.

31 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند العطاس.

14 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الوضوء.

15 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول المنزل.

16 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في كل موطن يجتمع فيه لذكر الله سبحانه وتعالى.

17 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الصلوات.

18 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند النوم.

19 -

الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أثناء صلاة العيد.

ص: 99

‌المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

-

قال ابن القيم: "إن طلب الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته"

(1)

يدلك على ذلك ما جاء في فضلها من الأحاديث.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على واحدة صلى عليه عشرا" رواه مسلم

(2)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" رواه مسلم

(3)

.

وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: " ما شئت". قلت: الربع؟ قال: " ما شئت، وإن زدت فهو خير. قلت: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: الثلثين؟ قال: "ما شئت وإن زدت فهو

(1)

بدائع الفوائد (2/ 190).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد برقم (408).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه

برقم (384).

ص: 100

خير". قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: "إذًا تُكفى همك ويغفر لك ذنبك"

(1)

.

وللحديث طريق آخر عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من ربي فقال: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرا" فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أجعل نصف دعائي لك؟ قال: "إن شئت" قال: ألا أجعل ثلثي دعائي لك؟ قال: "إن شئت" قال: ألا أجعل دعائي كله؟ قال: "إذن يكفيك الله هم الدنيا وهم الآخرة"

(3)

.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذُكرت عنده فليصلِّ عليَّ، ومن صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرا"

(4)

.

وفي رواية: "من صلَّى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات"

(5)

.

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة برقم (2457)، والإمام أحمد في مسنده (1/ 136) والحاكم (2/ 421)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 256)، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (754).

(2)

يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي، أبو يوسف المدني: قاضي المدينة، ثقة قليل الحديث، ومات في ولاية أبي جعفر. تهذيب التهذيب (11/ 385).

(3)

أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 87) رقم (13) وقال: قال شيخ كان بمكة يقال له منيع لسفيان: عمن أسنده؟ قال: لا أدري، وقال الألباني في تعليقه: هذا مرسل صحيح الإسناد، ويشهد له الحديث الذي بعده؛ يعني: الحديث الذي تقدم ذكره.

(4)

أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 165) رقم (61)، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 135، 136) رقم (380).

(5)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 102، 261) والبخاري في الأدب المفرد (ص 94، 95)، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 166)(ح 63)، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر: موارد الظمآن (2395).

ص: 101

وفي رواية "من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلَّى الله عليه عشر صلوات وحطَّ عنه عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات"

(1)

.

وفي رواية: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتبرز، فلم يجد أحدا يتبعه فهرع عمر فاتبعه بمطهرة - يعني إداوة - فوجده ساجدا في شربة، فتنحى عمر فجلس وراءه حتى رفع رأسه قال: فقال: " أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من صلى عليك واحدة صلى الله عليه عشرا، ورفعه عشر درجات"

(2)

.

وأخرج هذا الحديث عن عمر بن الخطاب قال: " خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتبرز، فاتبعته بإدواة، فوجدته قد فرغ، ووجدته ساجدًا لله في شربة،

(1)

أخرجه النسائي في السنن (3/ 50)، باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في عمل اليوم والليلة (ص 165، 166) ح 62، ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 550) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وكل من رواية "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات".

ورواية: "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات" جاءت من طريق بريد بن أبي مريم وقد جاء في بعض الروايات عن بريد بن أبي مريم عن الحسن عن أنس وفي بعضها عن بريد بن أبي مريم عن أنس، وقد ذكر ابن القيم أن هذه العلة لا تقدح فيه شيئا، لأن الحسن لا شك في سماعه من أنس، وقد صح سماع بريد بن أبي مريم من أنس أيضا هذا الحديث، فرواه ابن حبان في صحيحه موارد 2390 والحاكم في المستدرك (1/ 550) من حديث يونس بن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، قال سمعت أنس بن مالك

نذكره. ولعل بريدا سمعه من الحسن ثم سمعه من أنس، فحدث به على الوجهين، فإنه قال: كنت أزامل الحسن بن محمد، فقال حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، ثم إنه حدثه به أنس فرواه عنه كما تقدم". جلاء الأفهام (ص 56).

(2)

أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 4) ح 4. وقال الألباني: إسناده ضعيف، ولكن المرفوع من الحديث صحيح له شواهد كثيرة.

وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 94) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 102

فتنحيت عنه فلما فرغ، رفع رأسه فقال:"أحسنت يا عمر حين تنحيت عني إن جبريل أتاني فقال: من صلى عليك صلاة صلى الله عليه عشرًا ورفعه عشر درجات"

(1)

.

وعن عبد الرحمن بن عوف

(2)

قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فأطال السجود قال: "أتاني جبريل قال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكرًا"

(3)

.

وفي رواية "كان لا يفارق فيء النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار خمسة نفر من أصحابه أو أربعة لما ينوبه من حوائجه قال: فجئت فوجدته قد خرج فتبعته، فدخل حائطا من حيطان الأسواف

(4)

فصلى فسجد سجدة أطال فيها، فحزن وبكيت فقلت: لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض الله روحه، قال: فرفع رأسه، وتراءيت له، فدعاني، فقال: مالك؟ قلت: يا رسول الله سجدت سجدة أطلت فيها فحزنت، وبكيت، وقلت: لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض الله روحه".

(1)

أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 5) ح رقم 5. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 94) عن أوس بن الحدثان عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره. وهذا الحديث والذي قبله هما من طريق سلمة بن وردان وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحه (2/ 503) ح رقم 829 وسلمة بن وردان ضعيف بغير تهمة، فيصلح للاستشهاد به وللحديث شاهد آخر من حديث عبد الرحمن بن عوف.

(2)

عبد الرحمن بن عوف الزهري: ولد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل دخول دار الأرقم، وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد رجال الشورى الستة، توفي سنة 31 هـ وقيل سنة 32 هـ وهو الأشهر. الإصابة (2/ 408 - 410).

(3)

أخرجه بهذا اللفظ إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 5) ح 7 وأخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 191)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 287)(رواه أحمد ورجاله ثقات). وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 222) وقال هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

(4)

الأسراف -بالفتح- آخره" فاء": موضع شامي البقيع. وفاء الوفاء (4/ 1125).

ص: 103

قال: "هذه سجدة سجدتها شكرًا لربي فيما آتاني في أمتي، من صلى علي صلاة كتب الله له عشر حسنات"

(1)

.

وفي رواية "إني سجدت هذه السجدة شكرا لله عز وجل فبما آتاني في أمتي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"

(2)

.

وعن أبي طلحة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوما يعرفون البشر في وجهه فقالوا: إنا نعرف الآن في وجهك البشر يا رسول الله. قال: أجل أتاني الآن آت من ربي فأخبرني أنه لن يصلي علي أحد من أمتي إلا ردها الله عليه عشر أمثالها"

(3)

.

وفي رواية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يومًا والبِشر يُرى في وجهه فقالوا: يا رسول الله إنا نرى في وجهك بِشرًا لم نكن نراه، قال: أجل إنه أتاني ملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا سلم عليك إلا سلمت عليه عشرا"

(4)

.

(1)

أخرجه بهذا اللفظ إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 6 - 7) ح 10.

(2)

أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 64) وعزاه لابن أبي الدنيا والسخاوي في القول البديع (ص 112) وعزاه لابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا.

(3)

أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ص 3 ح رقم 1

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/ 30). وإسماعيل القاضي، في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 3 - 4) ح 2، والنسائي في السنن (3/ 44 و 50) كتاب الصلاة، باب فضل التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وباب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحافظ ابن حجر (رواته ثقات) فتح الباري (11/ 167) وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 550)، وابن حبان في صحيحه (2391) موارد.

ص: 104

وفي رواية: "أصبح رسول لله صلى الله عليه وسلم يومًا طيب النفس يرى في وجهه البشر. قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر. قال: "أجل أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ورد عليه مثلها"

(1)

.

وعن أبي بردة بن نيار

(2)

قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصًا من قلبه، صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر دارجات، كتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات"

(3)

.

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا".

ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله

(1)

أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند (4/ 29).

قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 503) ح رقم 829 عن رواية أحمد هذه" وهذا إسناد ضعيف، لسوء حفظ أبي معشر، وإسحاق بن كعب مجهول الحال فهو إسناد لا بأس به في الشواهد والمتابعات" انتهى كلامه والحديث له شواهد متعددة سبق ذكر بعضها.

(2)

هانيء بن نيار بن عمرو البلوي، أبو بردة بن نيار حليف الأنصار، خال البراء بن عازب مشهور بكنيته وقيل اسمه الحرث وقيل مالك والأول أشهر، صحابي جليل شهد بدرا وما بعدها، مات في أول خلافة معاوية. الإصابة (3/ 565) - (4/ 19).

(3)

أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 166، 167) ح رقم 64، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن حجر: رواته ثقات. فتح الباري (11/ 167). وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 83، 84) وعزاه للطبراني في المعجم الكبير وابن أبي عاصم في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 105

والثناء عليه ثم يصلِّي عليَّ، ثم يدعو بما شاء"

(1)

.

وفي رواية: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي" ثم علَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي فمجد الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادع تجب وسل تعط"

(2)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"

(3)

.

فالمتأمل في هذه الأحاديث يعرف عظم فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الباب الرابع من كتابه القيم "جلاء الأفهام" عددا من الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أنتقى منها ما يلي:

الفائدة الأولى: امتثال أمر الله تعالى.

الثانية: موافقته سبحانه في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفت الصلاتان، فصلاتنا عليه دعاء وسؤال، وصلاة الله تعالى عليه ثناء وتشريف.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم (4811) وأحمد في مسنده (6/ 17).

(2)

سنن النسائي (3/ 44)، باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال الألباني في صحيح سنن النسائي، صحيح الترمذي (3724).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2/ 354)، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رقم 484 وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2389). وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام وعزاه كذلك إلى البزار والبغوي جلاء الأفهام (ص 53). وقال ابن حجر في الفتح (11/ 167) وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ "صلاة أمتي تعرض عليَّ في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" ولا بأس بسنده انتهي كلامه.

ص: 106

الثالثة: موافقة ملائكته فيها.

الرابعة: حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة.

الخامسة: أنه يرفع عشر درجات.

السادسة: أنه يكتب له عشر حسنات.

السابعة: أنه يمحي عنه عشر سيئات.

الثامنة: أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه، فهي تصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.

التاسعة: أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له.

العاشرة: أنها سبب لغفران الذنوب.

الحادية عشرة: أنها سبب لكفاية الله العبد ما أهمَّه.

الثانية عشرة: أنها سبب لقرب العبد منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.

الثالثة عشرة: أنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه، تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك. فقلب المؤمن توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق إليهما محو ولا إزالة ودوام الذكر سبب لدوام المحبة، فالذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك، لا حياة له إلا به

الرابعة عشرة: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سبب لمحبته للعبد، فإنها إذا كانت سببًا لزيادة محبة المصلي عليه له، فكذلك هي سبب لمحبته هو للمصلي عليه صلى الله عليه وسلم.

ص: 107

الخامسة عشرة: أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره، استولت محبته على قلبه، حتى لألقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره ولا شك في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوبا مسطورا في قلبه لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله، ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة ومعرفة ازدادت صلاته عليه صلى الله عليه وسلم.

ولهذا كانا صلاة أهل العلم - العارفين بسُنَّته وهديه المتبعين له عليه، خلاف صلاة العوام عليه الذين حظهم منها إزعاج أعضائهم بها ورفع أصواتهم.

وأما أتباعه العارفون بسُنَّته العالمون بما جاء به فصلاتهم عليه نوع آخر، فكلما ازدادوا فيما جاء به معرفة ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطلوبة له من الله.

وهكذا ذكر الله سبحانه، كلما كان العبد به أعرف وله أطوع وإليه أجل كان ذكره غير ذكر الغافلين واللاهين، وهذا أمر إنما يعلم بالخبر لا بالحبر وفرق بين من يذكر صفات محبوبه الذي قد ملك حبه جميع قلبه ويثني عليه بها ويمجده بها، وبين من يذكرها إما إمارة وإما لفظًا، لا يدري ما معناه، ولا يطابق فيه قلبه لسانه، كما أنه فرق بين بكاء النائحة وبكاء الثكلى.

فذكره وذكر ما جاء به، وحمد الله تعالى على إنعامه علينا ومنته بإرساله هو حياة الوجود وروحه، كما قيل:

روح المجالس ذكره وحديثه

وهدى لكل ملدد حيران

وإذا أخلَّ بذكره في مجلس

فأولئك الأموات في الحيَّان

السادسة عشرة: أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه صلى الله عليه وسلم وذكره عنده، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم "إن صلاتكم معروضة علي" وكفى بالعبد نبلًا أن يذكر اسمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 108

السابعة عشرة: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أداء لأقل القليل من حقه، وشكر له على نعمته التي أنعم الله عز وجل علينا، مع أن الذي يستحقه من ذلك لا يحصى علمًا ولا قدرة ولا إرادة، ولكن الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقه.

الثامنة عشرة: أنها متضمنة لذكر الله وشكره، ومعرفة إنعامه على عبده بإرساله، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد تضمنت صلاته عليه ذكر الله وذكر رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله، كما عرفنا ربنا أسماءه وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته، وعرفنا ما لنا بعد الوصول إليه والقدوم عليه، فهي متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه، وإرسال رسوله وتصديقه في أخباره كلها، وكمال محبته، ولا رضا أن هذه هي أصول الإيمان، فالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم متضمنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه به، ومحبته له، فكانت من أفضل الأعمال.

التاسعة عشرة: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان:

أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته، وما ينوبه في الليل والنهار فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبة.

الثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه، ويزيد في تشريفه وتكريمه.

وإيثار ذكره، ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى كتاب الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه وحوائجه ومحابه هو، بل كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله ورسوله على ما يحبه هو، وقد آثر الله ومحابه على سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره آثره الله على غيره.

ص: 109

واعتبر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المطاع أن يُنعم على من يعلمونه أحب رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشريفه، علت منزلتهم عنده، وازداد قربهم منه، وحظوا به لديه، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبهم، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالا ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه، وهذا أمر مشاهد بالحس، ولا تكون منزلة هؤلاء ومنزلة من سأل المطاع حوائجه هو - وهو فارغ من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه - واحدة.

فكيف بأعظم محب وأنه لأكرم محبوب وأحقه بمحبه ربه له.؟ ولو لم يكن من فوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفًا

(1)

.

وكما وردت أحاديث تذم تارك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة"

(2)

وعن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ"

(3)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نسي الصلاة عليَّ خطيء طريق الجنة"

(4)

.

(1)

جلاء الأفهام (ص 335، 344) بتصرف.

(2)

تقدم تخريجه (ص 81).

(3)

تقدم تخريجه (ص 82).

(4)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:"قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (11/ 168) أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والطبراني من حديث حسين بن علي رضي الله عنه، وهذه الطرق يَشُدّ بعضه بعضًا".

ص: 110

‌المبحث الثالث: السلام عليه صلى الله عليه وسلم

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: الأدلة على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها.

ص: 111

‌المطلب الأول: الأدلة على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم

-

إن نصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلي على النبي ونسلِّم عليه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

أما في القرآن:

فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يسلِّموا على نبيهم مع أمره لهم بالصلاة عليه فقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب]. والشاهد من الآية معنا هو قوله عز وجل: {وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

فهذا نصٌّ في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان لحق من حقوقه صلوات الله وسلامه عليه، وإظهار لشرفه ورفعة منزلته.

والآية في جملتها فيها من تشريف الله وتكريمه ما لا يوجد في غيرها من الآيات.

وأما في السنة:

فقد جاء تشريع السلام عليه صلى الله عليه وسلم مع تعليمهم التشهد الذي كان متقدمًا على تعليمهم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

فتعليم الصلاة عليه إنما كان بعد نزول الآية، فلهذا سأل الصحابة عن كيفية الصلاة ولم يسألوا عن كيفية السلام فقالوا: يا رسول الله قد

(1)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 159).

ص: 112

علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلى عليك

(1)

فقولهم: "قد علمنا كيف نسلم عليك" إشارة إلى السلام الذي في التشهد وهو قول "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"

(2)

.

قد بيَّنت السُّنَّة المواطن التي يشرع فيها السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

فالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم مشروع في التشهد عند كل صلاة ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على لله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله الصلوات الطيبات، والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو"

(3)

.

وشرع السلام كذلك عند دخول المسجد والخروج منه.

فعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج قال: بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباري (11/ 152) ح 6357.

(2)

فتح الباري (11/ 155).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد. وليس بواجب. فتح الباري (2/ 320) ح 835. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة (2/ 13).

(4)

تقدم تخريجه (ص 75).

ص: 113

وقد ورد كذلك في فضل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث أورد بعضا منها هنا:

1 -

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام"

(1)

.

2 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عز وجل إلى روحي حتى أرد عليه السلام"

(2)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 387، 441، 452). وأخرجه النسائي في السنن، كتاب السهو، باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 43). وأخرجه أيضا في اليوم الليلة، فضل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ح 66. وأخرجه الدارمي في السنن، كتاب الرقائق، باب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 317) ح 2777، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب الأدعية، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: موارد الضمآن (ح 2393). وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 11) ح 21، وقال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 54): إسناده صحيح.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 527). وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2/ 534) ح 4102، وعزاه السخاوي في القول البديع (ص 161) إلى الطبراني والبيهقي أيضا والحديث لا يسلم من مقال في إسناده. قال ابن عبد الهادى: أما المقال في إسناه فمن جهة تفرد أبي صخر به عن ابن قسيط عن أبي هريرة. ولم يتابع ابن قسيط أحد في روايته عن أبي هريرة ولا تابع أبا صخر أحد في روايته عن ابن قسيط. الصارم المنكي (ص 250) وحميد بن زياد أبو صخر، ويزيد بن عبد الله بن قسيط فيهما كلام قال ابن عبد الهادي: وأبو صخر حميد بن زياد قد اختلف الأئمة في عدالته والاحتجاج بخبره مع الاضطراب في اسمه وكنيته واسم أبيه، فما تفرد به من الحديث ولم يتابعه عليه أحد لا ينهض إلى درجة الصحة بل يستشهد به ويعتبر به. انتهي كلامه. وهذا الحديث مما تفرد به كما سبق بيانه من كلام ابن عبد الهادى. وقد ذكر ابن عبد الهادي أقوال أئمة الجرح والتعديل في كل من حميد بن زياد أبي صخر ويزيد بن عبد الله بن قسيط وقال في نهاية نقله والحديث إسناده مقارب وهو صالح أن يكون متابعًا لغيره عاضدًا له والله أعلم. الصارم المنكى (ص 259).

ص: 114

3 -

وقد تقدم حديث عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل فقال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه"

(1)

.

4 -

وكذلك حديث أبي طلحة وفيه "أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا سلم عليك، إلا سلمت عليه عشرا"

(2)

.

وبما تقدم من نصوص يُعلم أن السلام هو حق من الحقوق التي للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، والمسلم مأمور بالقيام بهذا الحق حيث كان، إما مطلقًا، وإما عند الأسباب المؤكدة لذلك كما في التشهد وعند الدخول إلى المسجد أو الخروج منه. وهذا السلام فيه من الخاصية للنبي صلى الله عليه وسلم والفضل على هذه الأمة ما فيه.

أما الخاصية التي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالأمر بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم مع الغيبة من خصائصه التي خصه الله بها، فلم يرد في الشرع الأمر بالسلام على معين مع مغيبه إلا عليه صلى الله عليه وسلم وذلك كما في التشهد فليس فيه سلام على معين إلا عليه وكذلك عند دخول المسجد والخروج منه

(3)

.

وأما الفضل الذي جعله الله لهذه الأمة بهذا السلام فهو جعله سبحانه وتعالى هذا السلام مطلقا لا يتكلف فيه المرء قطع المسافة ولا يشترط فيه اللقاء به في حياته أو المجيء إلى قبره بعد وفاته.

فالمسلم يسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان في هذه الدنيا وفي أي وقت وزمان يشاء وهذا من الفضل والنعمة التي امتن الله بها علينا.

(1)

تقدم تخريجه (ص 104)

(2)

تقدم تخريجه (ص 103)

(3)

مجموع الفتاوى (27/ 412).

ص: 115

‌المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها

وهذه المسألة أشكلت على كثير من الناس، ولكن الذي ينبغي على من أراد أن يعرف الحق ودين الإسلام، أن يتأمل في النصوص النبوية الواردة في جوانب هذه المسألة، وأن يعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين، ليعرف ما هو المشروع وما هو المبتدع، وما هو مجمع عليه وما هو متنازع فيه.

وسيرًا على هذا الأساس، فسأعرض هذه المسألة بشيء من التوسع متناولا في ذلك عددا من الجوانب التي جاءت بها النصوص الشرعية بغرض إبراز أمور هامة قد تخفى على كثير من الناس ويغفلون عنها، وهي أمور على درجة كبيرة من الأهمية إذ على أساسها ينبني اللهم الصحيح الموافق لنصوص الشرع في هذه المسألة.

وقد قسمت هذا المطلب إلى نقاط ختمتها بذكر خلاصة لأقوال العلماء في عدد من المسائل الواردة في هذا الشأن.

النقطة الأولى: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ صحيح صريح يأمر فيه أمته بالسلام عليه عند قبره، فالمتأمل للنصوص الواردة في شأن السلام عليه صلى الله عليه وسلم والتي سبق إيرادها - لا يجد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص قبره بالسلام، كما قد ورد تخصيص التشهد بالسلام عليه وكذا الدخول إلى المسجد والخروج منه.

وهنا يحسن توضيح الأمور الهامة التالية:

ص: 116

1 -

أن عدم التخصيص للقبر بالسلام فيه إظهار لخاصية اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم لا يماثله فيها أحد من الخلق.

فالمقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور له في حق الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها. فالله عز وجل فضله بهذا الأمر على غيره، وأغناه بذلك عما يفعل عند قبور غيره

(1)

.

2 -

أن الذي تدل عليه نصوص السلام عليه صلى الله عليه وسلم أن هذا السلام يستوى فيه القريب والبعيد، وهذا أمر اختص به النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب

(2)

لذلك الرجل الذي رآه يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده. فقال له: يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغني"

(3)

فما أحط ورجل بالأندلس منه إلا سواء.

فالحسن بن الحسن - شيخ أهل بيته - وغيره لا يفرقون بين أهل المدينة والغرباء ولا بين المسافر وغيره ولا يرون في السلام عليه عند قبره مزية

(4)

فالسلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها.

(1)

الصارم المنكي (ص 54).

(2)

الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي: المدني الإمام أبو محمد، وهو قليل الرواية مع صدقه وجلالته، توفي سنة تسع وتسعين وقيل سبع وتسعين للهجرة. سير أعلام النبلاء (4/ 483، 487).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7626)؛ وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 13 - 14) ح 30 وقال الألباني بهامشه: حديث صحيح. وابن عساكر (4/ 217/ أ). وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 483 - 484). وعزاه الألباني في تحذير الساجد (ص 141) إلى ابن خزيمة في حديث علي بن حجر (4/ رقم 48).

(4)

الرد على الأخنائي (ص 146).

ص: 117

وهذا من فضل الله على هذه الأمة فالمسلم في أي بقعة من الأرض له أن يقوم بهذا الحق للنبي صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثبت بالسنة واتفاق الأمة أن كل ما يفعل من الأعمال الصالحة في المسجد عند حجرته من صلاة عليه وسلام وثناء وإكرام وذكر محاسن وفضائل، ممكن فعله في سائر الأماكن، ويكون لصاحبه من الأجر ما يستحقه، كما قال: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"

(1)

. ولو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة، ولما منعوا من الوصول إلى القبر"

(2)

.

"فالله سبحانه خصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم بما خصه به تفضيلا له وتكريما لما يجب من حقه على كل مسلم في كل موضع، فإن الله أوجب الإيمان به ومحبته وموالاته ونصره وطاعته واتباعه على كل أحد في كل مكان، وأمر من الصلاة عليه والسلام عليه في كل مكان ومن سؤال الوسيلة له عند كل أذان ومن ذكر فضائله ومناقبه وما يعرف به قدر نعمة الله به على أهل الأرض، وأن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، وأنه هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأنه لا يؤمن العبد حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه إلى غير ذلك من حقوقه، وكل هذه مشروعة في جميع البقاع ليس منها شاء يختص بالقبر ولا بما هو قريب من القبر. ولا شرع للناس أن يكون قيامهم بهذه الحقوق عند القبر أفضل من قيامهم بها في بلادهم. بل المشروع أن يقوموا بها في كل مكان. ومن قام بها عند القبر وفتر عن القيام بها في بلده كما يوجد في بعضالناس يوجد من محبته وتعظيمه وثنائه ودعائه للرسول عند قبره أعظم مما

(1)

انظر تخريجه (ص 126).

(2)

الجامع الفريد (ص 396).

ص: 118

يوجد في بلده وطريقه، فهذه حالة منقوصة غير محمودة، وصاحبها منحوس الحظ ناقص النصيب وهو ناقص الدين والإيمان إما بترك واجب يأثم بتركه وإما بترك مستحب تنقص درجته بتركه بخلاف من منَّ الله عليه فجعل محبته وثناءه وتعظيمه ودعاءه للرسول في بلده مثل ما إذا كان بالمدينة عند قبره أو أعظم.

فهذه هي الحالة المحمودة المشروعة، وهي حال الصحابة والتابعين لهم ياحسان إلى يوم القيامة، لا يعرف عن أحد منهم أنه كان يزيد حبه وتعظيمه ودعاؤه وثناؤه عند القبر، ولهذا لم يكونوا يأتونه لأن قيامهم بما يجب من حقوق الرسول في جميع الأمكنة سواء.

وقد نهى عن تخصيص القبر بذلك وأن يتخذوه عيدًا ومسجدًا لأنه مظنة أن يتخذ وثنا ويفضي إلى الشرك، ومظنة أن ينقص قيامهم بحقه في سائر البقاع إذا خصوا تلك البقعة بمزيد القيام، كما أن المشاعر لما خصت بالعبادات فالمؤمن تجد إيمانه فيها أعظم من إيمانه في غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم حقه في جميع البقاع سواء ولكن تتنوع حقوقه بحسب الأحوال، ولهذا إذا اعتبرت أحوال الناس كان من يعظم النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره مقصرًا في حقوقه التي أمر بها في سائر البقاع بحسب ما زاد عند القبر. وهذا أمر مطَّرد معروف من جميع أحوال الناس.

ولما كان السابقون الأولون أقوم بحقوقه في جميع المواضع كانوا أبعد الناس عن، تخصيص القبر بشيء، والخلفاء الراشدون ونحوهم لما كانوا أقوم بحقوقه من غيرهم لم يفعلم ما فعله ابن عمر ونحوه، فأبوه عمر كان أقوم بحقه صلى الله عليه وسلم منه وكان ينهي أن يقصد الصلاة في موضع صلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما فعله ابنه عبد الله مع فضله ودينه رضي الله عنهم أجمعين"

(1)

.

(1)

الرد على الأخنائي (ص 74 - 76).

ص: 119

فمن يجد قلبه عند قبر الرسول أكثر محبة له وتعظيما، ولسانه أكثر صلاة عليه وتسليما مما لا يجده في سائر المواضع، كان ذلك دليلا على أنه ناقص الحظ منحوس النصيب من كمال المحبة والتعظيم وكان فيه من نقص الإيمان وانخفاض الدرجة بحسب هذا التفاوت، بل المأمور به أن تكون محبته وتعظيمه وصلاته وتسليمه عند غير القبر أعظم فإن القبر قد حيل بين الناس وبينه.

فمن لم يجد إيمانه به ومحبته له وتعظيمه له وصلاته عليه وتسليمه عليه إذا كان في بلده أعظم مما يكون لو كان في نفس الحجرة من داخل، فهو ناقص الحظ من الدين وكمال الإيمان واليقين، فكيف إذا لم يكن من داخل بل من خارج؟ هذا والله أعلم

(1)

.

3 -

أن عدم تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للقبر بالسلام ولا بغيره من العبادات هو لما في ذلك من مظنة اتخاذه وثنا أو عيدا فيفضي ذلك إلى الشرك، والمعروف عنه صلى الله عليه وسلم أنه حريص على سد كل ذريعة قد توصل إلى الشرك.

وسيأتي توضيح هذه المسألة في النقطة الثالثة بإذن الله.

النقطة الثانية: الأحاديث الواردة في زيارة قبره كلها موضوعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئا، لا أهل الصحاح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسانيد كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى هذه الأحاديث من جمع الموضوع وغيره"

(2)

.

وقال أيضا: "وأما قوله: "من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي". وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فليس منها شيء

(1)

الرد على الأخنائي (ص 97 - 98).

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 400).

ص: 120

صحيح

(1)

، ولم يروها أحد من أهل الكتب المعتمدة لا أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم. ولا أصحاب السنن كأبي داود والنسائي ولا الأئمة من أهل المسانيد: كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه كمالك والشافعي وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي وأمثالهم.

بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة، كقوله "من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" وقوله "من حج ولم يزرني فقد جفاني" فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب.

وقال أيضا: وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك - إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة - كره أن يقول الرجل زرت قبره صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم، أو مشروعا، أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة

(2)

.

ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيبا في ذلك ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم

(3)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا أعرف عن أحد من الصحابة أنه

(1)

جمع الإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي"، الأحاديث التي وردت في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبين درجتها ورد على من احتج بها، وكذلك الشيخ حماد الأنصاري في رسالة له سماها كشف الستر عما ودد في السفر إلى القبر الأحاديث الواردة في هذه المسألة وبين حكمها.

(2)

الجامع الفريد - كتاب الزيارة (ص 395، 396).

(3)

الرد على الأخنائي (ص 137).

ص: 121

تكلم بلفظ زيارة قبره ألبتة، فلم يكن هذا اللفظ معروفا عندهم

(1)

.

ولهذا كره من كره من العلماء إطلاق هذا الاسم.

"والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه إما قرنا من الحجرة وإما بعيدا عنها إما مستقبلا للقبلة وإما مستقبلا للحجرة.

وليس في أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روى في زيارة قبره.

بل إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلا وهو أنه "كان يسلم" أو بما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"

(2)

وذلك احتجاج بلفظ السلام لا بلفظ الزيارة.

وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في زيارة قبره.

أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك، بل يذكرون المدينة وفضائلها وأنها حرم ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك ونحو ذلك من المسائل ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره فليس في الصحيحين وأمثالهما شيء من ذلك ولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي وأحمد وإسحاق ونحوهم من الأئمة.

وطائفة أخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره، كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر كما قال أبو داود في سننه، "باب ما جاء في زيارة القبور"

(1)

الرد على الأخنائي (ص 137).

(2)

تقدم تخريجه (ص 114).

ص: 122

وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام"

(1)

.

ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ ليس فيها استحباب زيارة قبره مع ما يذكرون من أحكام المدينة.

وإنما يذكر ذلك قليل منهم، والذين يذكرون ذلك يفسرونه بإتيان المسجد كما تقدم.

ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهورا عند علماء الإسلام في كل زمان كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه، وكما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه، فلا يكاد يعرف مصنف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجده

(2)

.

فالمعنى الذي أراده العلماء بقولهم: "يستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم " أو قولهميستحب السفر لزيارة قبره" - كما هو موجود في كلام كثير منهم عند ذكرهم للحج - هو السفر إلى مسجده إذ كان المصلون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده، ولا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل أحد إلى حجرته.

ولكن قد يقال هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره؟ ولهذا كره من كره من العلماء أن يقال زرت قبره. ومنهم من لم يكره. والطائفتان متفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور بل إنما يدخل إلى مسجده.

وأيضا فالنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة.

فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع. وإن كان لم يقصد إلا القبر ولم يقصد المسجد، فمالك

(1)

تقدم تخريجه (ص 114).

(2)

الرد على الأخنائي (ص 172 - 173).

ص: 123

والأكثرون يحرمون هذا السفر، وكثير من الذين يحرمونه لا يجوِّزون قصر الصلاة فيه.

وآخرون يجعلونه سفرا جائزا وإن كان غير مستحب ولا واجب بالنذر. وأما إن كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قد قصد مستحبا مشروعا بالإجماع

(1)

أي السفر إلى المسجد لا السفر إلى القبر.

النقطة الثالثة: استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ينهي فيها عن الصلاة إلى القبور أو اتخاذها مساجد، ولعن من اتخذ تلك القبور من الأمم السابقة مساجد. وقد جاء هذا التحذير منه حتى وهو في آخر أيام حياته كما جاءت بذلك بعض روايات تلك الأحاديث.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا "

(2)

.

وعنها رضي الله عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالا: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مثل ما صنعوا"

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه

(1)

الرد على الأخنائي (ص 21) بتصرف.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور برقم 1330. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (529).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان، برقم 435، 436، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (529).

ص: 124

كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنها أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. فرفع رأسه فقال:"أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله"

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم تروي هذه الأحاديث وقد سمعتها منه، وإن كان غيرها من الصحابة أيضا يرويها كابن عباس، وأبي هريرة، وجندب بن عبد الله

(2)

وابن مسعود رضي الله عنهم"، انتهى كلامه

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

(4)

.

وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

(5)

.

وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر برقم (1341)؛ وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (528).

(2)

جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، صحابي، سكن الكوفة ثم البصرة، ومات زمن فتنة ابن الزبير. الإصابة (1/ 250).

(3)

مجموع الفتاوى (27/ 404).

(4)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد وباب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (529).

(5)

أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان، برقم (437)؛ وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (530).

ص: 125

قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"

(1)

. وعن أبي مرثد الغنوي

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها"

(3)

.

فهذه النصوص النبوية وردت لحماية جناب التوحيد، ولسد كل ذريعة إلى الشرك، فقد لعن فيها من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد. وجُلُّ هذه الأحاديث قالها النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، نصيحة للأمة وحرصًا منه على هداها.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نهيه لهذه الأمة عن اتخاذ قبره عيدًا أو وثنًا، وهذا أبلغ في بيان مراده في سد كل ذريعة إلى الشرك بالله.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا، وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم (532).

(2)

أبو مرثد الغنوي: كناز بن حصين، ويقال: حصين كناز، وقيل غير ذلك، صحابي، ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرًا، سكن الشام وتوفي سنة 12 من الهجرة. الإصابة (4/ 177) وتهذيب التهذيب (8/ 448).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة إليه برقم (972).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 367) واللفظ له؛ وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2/ 534) ح 2042. والبيهقي في حياة الأنبياء (ص 12). كلهم من طريق عبد الله بن نافع الصائغ عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا. قال الشيخ ربيع المدخلي في تعليقه على كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (ص 144): "عبد الله بن =

ص: 126

وعن عطاء بن يسار

(1)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

(2)

.

= نافع، ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، فالحديث حسن على أقل الأحوال وصححه النووي في الأذكار (ص 93) وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء: إسناده حسن" وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار - كما في الفتوحات الربانية وله شواهد تقويه.

وقال الألباني في تحذير الساجد (ص 2) رواه أحمد (رقم 7352) وابن سعد (2/ 241 - 242) والمفضل الجندي في فضائل المدينة (66/ 1) وأبو يعلى في مسنده (312/ 1)، والحميدي (2501) وأبو نعيم في الحلية (6/ 283 و 7/ 317) بسند صحيح.

وله شاهد مرسل رواه عبد الرزاق في المصنف (1/ 456) ح 1587 وكذا ابن أبي شيبة (4/ 141) عن زيد بن أسلم وإسناده قوي. وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 185) وعنه ابن سعد (2/ 240، 241) عن عطاء بن يسار مرفوعا وسنده صحيح، وقد وصله البزار عن أبي سعيد الخدري وصححه ابن عبد البر مرسلا وموصولا

".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا حديث حسن" ورواته ثقات، مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال يحيى بن معين، هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقا. وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر.

قلت: ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة. الرد على الأخنائي (ص 145).

(1)

عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني القاص مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان مولده سنة 19 هـ، ثقة، فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة 94 وقيل بعد ذلك. تهذيب التهذيب (7/ 217 - 218).

(2)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ (ص 119) رقم 414، كتاب جامع الصلاة عن عطاء بن يسار مرسلا. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 406) باب الصلاة على القبور برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. وابن سعد في =

ص: 127

قال أبو عمر بن عبد البر: "الوثن: الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يُعبد من دون الله فهو وثن، صنمًا كان أو غير صنم، وكان العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم، كان إذا مات نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "

(1)

.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدا كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم، وكان صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته أتباعهم"

(2)

. والعيد إذا جعل اسما للمكان: فهو المكان الذي يقصد للاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده، أو لغير العبادة

(3)

.

وقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يتخذ قبره - ولله الحمد والمنة - عيدا ولا وثنا كما اتخذ قبر غيره بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة. وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدا من أن يدخل إليه ليدعو عنده ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره.

ولكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه، وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره.

= الطبقات (2/ 241) وابن أبي شيبة (3/ 345). قال الشيخ ربيع المدخلي: "فهو معضل عند هؤلاء، لكنه جاء موصولًا عن أبي هريرة

" انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 34)، وقد تقدم تخريج حديث أبي هريرة.

(1)

سبق تخريجه (ص 141).

(2)

التمهيد (5/ 45).

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324).

ص: 128

وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنًا، فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تمكِّن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهي عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر.

كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا.

وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم، وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة.

فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدا.

ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم.

والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء - وهو الرمل الغليظ - ليس عليه حجارة ولا خشب، ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره.

وهو صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن ذلك سدا للذريعة، كما نهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لئلا يفضي ذلك إلى الشرك.

ودعا الله أن لا يتخذ قبره وثنًا يعبد، فاستجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدا لا يدخل إلى قبره ألبتة، فإن من كان قبله من الأنبياء إذا ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهي عنها.

وهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا، فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك، وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فُعل بقبور غيره صلى الله عليه وسلم.

ص: 129

فالدخول عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو الصلاة والدعاء مما لم يشرعه لهم، بل نهاهم فقال:"لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"

(1)

فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد، وكذلك السلام، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن سلم عليه مرة سلمالله عليه عشرا، كما قد جاء في بعض الأحاديث.

وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا، وهو قد نهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا، ولعن من فعل ذلك ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة.

وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم بسنته، وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره صلى الله عليه وسلم من داخل الحجرة ولا من خارجها.

وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر.

وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه: لا لسلام ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبيَّن لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان مع غيرهم، فأضلهم عند قبره، وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر ويحدثهم ويفتيهم ويأمرهم وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا منامًا.

(1)

سبق تخريجه (ص 126).

ص: 130

فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس.

وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاهًا ما لم يحصل لمن بعدهم

ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما ناله ممن بعدهم من أهل البدع. فلم يكن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به صلى الله عليه وسلم.

والمقصود هنا أن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا البدع المتعلقة بالقبور كقبره المكرم وقبر غيره، لنهيه صلى الله عليه وسلم لهم عن ذلك، ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم أوثانًا.

والصحابة رضوان الله عليهم خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء بل إن خير الناس بعدهم أتبعهم لهم.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علمًا وأقلها تكلُّفًا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا علي الهدي المستقيم"

(1)

.

"ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته على بن الحسين

(2)

رضي الله عنه نهي

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 387 - 395)(بتصرف).

(2)

هو: علي بن الحسين بن علي بن أبي طاب الهاشمي: المدني زين العابدين، من أجلِّ التابعين علما ودينا، حتى قال عنه الزهري: ما رأيت هاشميا مثله وكان ثقة، مأمونا، كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعا، توفي سنة 49 هـ. سير أعلام النبلاء (4/ 386 - 401).

ص: 131

ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

فقد روى إسماعيل بن إسحاق بسنده عن علي بن الحسين بن علي أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما اشتهره عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين ما يحملك على هذا؟ قال: أحب التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال له علي بن الحسين: هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي؟ قال: نعم، فقال له علي بن الحسين أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم"

(2)

.

فاستدل رضي الله عنه بالحديث، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيره.

وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند قبره كما لا مزية للصلاة عليه عند قبره بل قد نهي عن تخصيص القبر بهذا

(3)

فتبين أن قصد قبره للدعاء ونحوه: اتخاذ له عيدًا

(4)

.

وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته: كره أن يقصد القبر

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324).

(2)

أخرجه في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 10) رقم 20.

قال الألباني: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 83/ 2). وعنه أبو يعلى في مسنده، ورواه الضياء في المختارة (1/ 154) من طريق أبي يعلى والخطيب في الموضح (2/ 30). وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور كما قال الحافظ في التقريب. تحذير الساجد (ص 140). وقال أيضا:"حديث صحيح بطرقه وشواهده" انظر: هامش كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 10).

(3)

الرد على الأخنائي (ص 144).

(4)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324).

ص: 132

للسلام ونحوه غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا.

فعن سهيل بن أبي سهيل

(1)

عن الحسن بن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"

(2)

.

وفي رواية عند إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سهيل قال: جئت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن حسن يتعشى في بيت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني فجئته فقال: أدن فتعش، قال: قلت: لا أريده.

قال: ما لي رأيتك وقفت؟ قال: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: إذا دخلت المسجد فسلِّم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"

(3)

.

فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد، وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

فانظر هذه السُّنَّة كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين

(1)

سهيل هذا أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكر له عنه راويين:

أحدهما: محمد بن عجلان وهو الراوي لهذا الحديث عن ابن أبي شيبة.

والآخر: سفيان الثوري. قال الألباني في تحذير الساجد (ص 141) وله راو ثالث وهو: إسماعيل بن علية الراوي لهذا الحديث عنه عند ابن خزيمة، فقد روى عنه ثلاثة من الثقات، فهو معروف غير مجهول، انتهي كلامه.

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور برقم (2042)، وأحمد (2/ 267) واللفظ له.

(3)

كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 13 - 14). ح رقم 30 وقال الألباني بهامشه: حديث صحيح.

(4)

الرد على الأخنائي (ص 146).

ص: 133

لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النسب، وقرب الدار؟ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط.

النقطة الرابعة: نظرًا لتعلق المسألة بزيارة القبور فيحسن إعطاء نبذة موجزة عن أقوال العلماء في مسألة زيارة القبور:

اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهي عن زيارة القبور.

ثم اختلفوا هل نسخ ذلك؟

فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك.

وقد ذهب إلى ذلك طائفة من السلف فقد نقل ذلك عن إبراهيم النخعي

(1)

والشعبي ومحمد بن سيرين وهؤلاء من أجلِّ علماء المسلمين في زمن التابعين باتفاق المسلمين ويحكى قولًا في مذهب مالك

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وتنازع المسلمون في زيارة القبور، فقال طائفة من السلف إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري، ولم تشتهر، ولما ذكر البخاري زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بكت عند القبر"

(3)

.

وروي عن الشعبي أنه قال: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي"

(4)

.

(1)

إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، الإمام الحافظ فقيه العراق، أحد الأعلام، مات سنة ست وتسعين ولما بلغ الشعبي موته قال: والله ما ترك بعده مثله. سير أعلام النبلاء (4/ 520 - 529).

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 343) والرد على الأخنائي (57، 58، 120).

(3)

انظر: صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور. فتح الباري (3/ 148) ح 1283.

(4)

انظر: المصنف لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345).

ص: 134

وقال النخعي: "كانوا يكرهون زيارة القبور"

(1)

وعن ابن سيرين مثله

(2)

قال ابن بطال

(3)

: وقد سئل مالك عن زيارة القبور؟

فقال: "قد كان نهي عنها عليه السلام ثم أذن فيها، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أر بذلك بأسا، وليس من عمل الناس".

وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها

(4)

.

فهذا قول طائفة من السلف، ومالك في القول الذي رخص فيه يقول:"ليس من عمل الناس" وفي الآخر ضعفها، فلم يستحبها لا في هذا ولا في هذا

(5)

.

وقالت طائفة: بل نسخ ذلك وهم على قسمين:

القسم الأول: قالوا إنما نسخ إلى الإباحة، فزيارة القبور مباحة لا مستحبة، وهذا قول في مذهب مالك وأحمد.

قالوا: لأن صيغة أفعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا"

(6)

.

وروي: "فزوروها ولا تقولوا هجرًا"

(7)

وهذا يدل على أن النهي

(1)

انظر: المصنف لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345).

(2)

انظر: المصنف لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345).

(3)

علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، أبو الحسن، عالم بالحديث من أهل قرطبة له كتاب شرح البخاري، توفى سنة 449 هـ. الأعلام (4/ 285).

(4)

مجموع الفتاوى (27/ 375) والرد على الأخنائي (120).

(5)

الرد على الأخنائي (ص 120).

(6)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (977).

(7)

أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الجنائز (1/ 376).

ص: 135

كان لما كان يقال عندها من الأقوال المنكرة سدًّا للذريعة، كالنهي عن الانتباذ في الأوعية أولا؛ لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدري بذلك فيضرب الشارب الخمر وهو لا يدري.

القسم الثاني: قال الأكثرون: زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم

(1)

وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين "أنه خرج إلى شهداء أُحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات"

(2)

.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه كان يعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية"

(3)

. وهذا في زيارة قبور المؤمنين.

وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الإستغفار لهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال:"استأذت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (974).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أحد برقم (4042)؛ وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حرض نبينا صلى الله عليه وسلم برقم (2296).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (974).

(4)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (976).

ص: 136

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر - فإن العلماء ورثة الأنبياء - وقال تعالى: {وداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا} [الأنبياء].

والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار: فهناك زيارة محرمة، وزيارة مباحة وزيارة مستحبة، فالذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد، ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع: منهي عنه، ومباح، ومستحب، وهو الصواب:

وأما النوع الأول: فإن الزيارة إذا تضمَّنت أمرًا محرمًا من شرك، أو كذب أو ندب أو نياحة أو قول هجر: فهي محرمة بالإجماع، كزيارة المشركين والساخطين لحكم الله، فإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإنه لا يقبل دين إلا دين الإسلام: وهو الاستسلام لخالقه وأمره. فيسلم لما قدره وقضاه.

ويسلم لما يأمر به ويحبه، وهذا نفعله وندعو إليه، وذاك نسلمه ونتوكل فيه عليه، فنرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ونقول في صلاتنا:{إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة] مثل قوله تعالى: {فاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت، لقرابته أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة.

كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال:"زوروا القبور فإنها تذكر الموت" فهذه الزيارة كان نهي عنها لِما كانوا يفعلون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها لأن فيها مصلحة، وهو تذكر الموت فكثير من الناس إذا رأى قريبه وهو مقبور، ذكر الموت، واستعد

ص: 137

للآخرة، وقد يحصل منه جزع، فيتعارض الأمران، ونفس الحزن مباح، وإن قصد به طاعة كان طاعة وإن عمل معصية كان معصية.

وأما النوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور.

فيستحب عند الجمهور لمن أتى المدينة أن يأتي البقيع وشهداء أحد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.

فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقًا من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند قبورهم، وهذا مشروع بل فرض كفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين

(1)

.

والذي يجب معرفته هنا أن زيارة القبور على وجهين:

زيارة بدعية، وزيارة شرعية.

فالزيارة البدعية: هي التي نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء على أنها غير مشروعة، وهي مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر، واتخاذه وثنا أو عيدا فلا يجوز أن تقصد القبور للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ولا أن تتخذ عيدا يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى.

فكل زيارة تتضمن فعل ما نهي عنه وترك ما أمر به - كالتي تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر، أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله فهي منهي عنها.

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 365 - 381) بتصرف.

ص: 138

وأما الزيارة الشرعية: فهي السلام على الميت والدعاء له وهي مستحبة عند الأكثرين. وقيل: مباحة. وقيل: كلها منهي عنها كما تقدم.

والقول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطق من كلام العلماء على المقيد ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع:

1 -

منهي عنه.

2 -

مباح.

3 -

مستحب.

وهو الصواب، كما تقدم.

قال مالك وغيره: "لا نأتي إلا هذه الآثار: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء وأهل البقيع، وأحد. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين"

(1)

.

ولكن بعد هذا التوضيح هل يصح أن يقاس قبر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور سائر المسلمين فيقال إذا كانت زيارة قبور المؤمنين مشروعة فزيارة قبره من باب أولى؟ هذا ما سيأتي تفصيله في النقطة التالية:

النقطة الخامسة: أقوال العلماء في مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره.

سبق وأن وضِّحت في النقطة الثانية من هذا المطلب أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ ثابت صحيح في هذه المسألة، يأمر فيه الأمة بالإتيان إلى قبره للسلام عليه، كما ورد ذلك في شأن السلام عليه في التشهد وعند دخول المساجد والخروج منها، وكذلك فإن الذي كان عليه فعل جمهور الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم هو عدم الإتيان للقبر للسلام، ولا تخصيصه بأي عمل من الأعمال.

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 380) بتصرف.

ص: 139

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وجمهور الصحابة كانوا يدخلون المسجد ويصلون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة وعند القدوم من السفر، بل يدخلون المسجد فيصلون فيه ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتون القبر، ومقصود بعضهم التحية"

(1)

.

وعلى هذا سار كثير من السلف من بعدهم. روى ابن أبي شيبة

(2)

في المصنف

(3)

عن خالد بن الحارث

(4)

قال سئل هشام

(5)

أكان عروة يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه؟ قال: لا.

وعن نوح بن يزيد قال: "أخبرنا أبو إسحاق؛ يعني: إبراهيم بن سعد قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكره إتيانه"

(6)

.

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 414).

(2)

عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة، أبو بكر: الكوفي، ثقة حافظ صاحب تصاينف، ومن أشهر كتبه "المصنف"، توفى سنة 235 هـ. تهذيب التهذيب (6/ 2 - 4).

(3)

(3/ 341).

(4)

خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة ست وثمانين ومائة. تهذيب التهذيب (3/ 83 - 84).

(5)

هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي: ثقة، فقيه ربما دلس من الخامسة، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب (11/ 48 - 51).

(6)

الرد على الأخنائي (ص 268).

وقال شيخ الإسلام بعد إيراده لهذا الأثر وعزوه إلى أبي الحسن علي بن عمر القزويني في أماليه ما نصه: "ونوح بن يزيد بن سيار المؤدب هذا الراوي عن إبراهيم بن سعد هو ثقة معروف بصحبة إبراهيم وله اختصاص به روى عنه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما. قال أبو بكر الأثرم: ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال هذا شيخ كبير أخرج أبي كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظا وقال محمد بن المثنى: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: اكتب عنه فإنه ثقة حج مع إبراهيم بن سعد وكان يؤدب ولده. وذكره ابن حبان في الثقات. وأما إبراهيم بن سعد فهو من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علمًا =

ص: 140

ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلِّم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضًا

(1)

.

= وأوثقهم، وكان قد خرج إلى بغداد روى عنه الناس: أحمد بن حنبل وطبقته، ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد وهو أقدم وأجل منه. وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه قال: ما رأيت أبي قط أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره إتيانه وهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين ومن أصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين في زمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله

توفي سنة ست وعشرين ومائة

وقد أدرك بالمدينة جابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدى وغيرهما من الصحابة، ورأى كبار التابعين مثل سعيد بن المسيب وسائر الفقهاء السبعة، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، بل قد يخالف ابن عمر، فإن ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه كان صلى الله عليه وسلم يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقا كما كان جمهرر الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأنه أمر بالصلاة والسلام عليه في كل زمان ومكان

مع أن سعد بن إبراهيم هذا في دينه وعبادته وصيامه وتلاوته للقرآن بحيث كان يختم باليوم والليلة كثيرًا.

وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والذين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبيِّنوا للناس كيف كان السلف يفعلون في مثل ذلك" [الرد على الأخنائي (ص 268، 270)].

(1)

لعل شيخ الإسلام يقصد هنا بقوله: وقد يكون فعله غيره ما نقل عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 293) وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى.

وقال في اقتضاء الصراط المستقيم (ص 372): "وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب أخبار المدينة

قال حدثني عمر بن هارون عن سلمة بن وردان قال: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو، فهذا إن كان ثابتًا عن أنس فإن أنسًا لم يكن ساكنًا بالمدينة، وإنما كان يقدم من البصرة، اما مع الحجيج أو نحوهم". =

ص: 141

فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزًا اقتداء بمن فعل ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف، ولا يقف، يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف

(1)

. وكان يفعل ذلك إذا قدم من سفر أو أراده.

فعن عبد الله بن دينار

(2)

قال رأوا ابن عمر إذا قدم من سفر دخل المسجد فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ويصلى ركعتين

(3)

. وفي رواية عنه أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما"

(4)

. وفي المصنف لابن أبي شيبة بسنده عن نافع عن ابن عمر

= وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (ص 371): ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار، وهو مضعَّف عند أهل الحديث كالواقدي ونحوه، ولكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به.

وهذا يعني أنه لا يعول على أحاديثه، وإنما تؤخذ شاهدًا ومقويًا. هامش اقتضاء الصراط (ص 371) وهذا الأثر أورده السخاوي في القول البديع (ص 212) وعزاه لابن أبي الدنيا البيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن أبي أمامة عن أبيه قال:"رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف".

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 400).

(2)

عبد الله بن دينار العدوي: مولاهم أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة من الرابعة، مات سنة سبع وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب (5/ 201 - 203).

(3)

أخرجه إسماعيل القاضي (ص 41) ح 99 وقال الألباني: إسناده موقوف صحيح.

(4)

أخرجه إسماعيل القاضي (ص 41) ح 98 وقال الألباني: إسناده موقوف صحيح وهو في الموطأ ح 397 برواية يحيى بن يحيى الليثي بهذا اللفظ، ومن طريقه رواه البيهقي (5/ 245).

ص: 142

"أنه كان إذا أراد أن يخرج دخل المسجد فصلى ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه ثم يأخذ وجهه، وكان إذا قدم من سفر يفعل ذلك قبل أن يدخل منزله

(1)

.

وفي المصنف لعبد الرزاق

(2)

عن معمر

(3)

عن أيوب

(4)

عن نافع

(5)

قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.

قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر

(6)

فقال: "لا نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك

(7)

.

(1)

المصنف (3/ 341).

(2)

عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم، أبو بكر الصنعاني ثقة، حافظ، مصنف شهير مات سنة إحدى عشر ومائتين. تهذيب التهذيب (6/ 310 - 315).

(3)

معمر بن راشد الأزدي الحداني: مولاهم، البصري، نزيل اليمن ثقة، ثبت فاضل، أخرج له الجماعة، مات سنة أربع وخمسين ومائة. تهذيب التهذيب (1/ 243 - 246).

(4)

هو: أيوب السختياني وقد تقدم ترجمته.

(5)

هو: نافع مولى ابن عمر وقد تقدم ترجمته.

(6)

عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عثمان القرشي العدوي ثم العمري المدني، إمام، مجود، حافظ، ثقة ثبت، من صغار التابعين، مات سنة بضع وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء (6/ 304 - 307).

(7)

المصنف لعبد الرزاق (3/ 576)(ح 6724).

قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي بعد أن أورد هذا الأثر في تعليقه على كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"(ص 128 - 129) أقول: "يستفاد من قول عبيد الله بن عمر الإمام المدني، الثقة الثبت. أن الصحابة الكرام وفيهم الخلفاء الراشدون ما كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا قدم من سفر. مع حبهم الشديد لرسول الله =

ص: 143

واستنادًا لفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أجاز الإمام مالك وأحمد وغيرهما

(1)

من الأئمة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر على الحال التي كان يفعلها ابن عمر رضي الله عنهما وهي حال القدوم من السفر أو إرادته، واقتصروا في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر على هذه الحال ولم يفتوا في غيرها.

وهم وإن استحب بعضهم وأجاز بعضهم السلام على النبي عند القبر للقادم إلا أنهم لم يقولوا بوجوبه وتعيينه فالذي نقل عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة من قول في هذه المسألة يدل على أنه استدل بفعل ابن عمر رضي الله عنهما، وأن فتواه لم تتجاوز ما فعله رضي الله عنه، وهذا من دقة فقه الإمام مالك، ويتضح لك هذا من عبارته، ففي "الشفا" للقاضي عياض: وقال مالك في "المبسوط" وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء.

= وإكرامهم إياه وطاعتهم وانقيادهم"، فهلَّا آن للأمة الإسلامية أن تتوب إلى رشدها، فتتبع هؤلاء العظماء والفقهاء النبلاء، وإننا على ثقة أنهم ما وقفوا جميعًا هذا الموقف إلا على أساس متين، وصراط مستقيم من العلم النبوي الصحيح، وعلى إدراك واع لمقاصد الشريعة وأهدافها.

إنه ما كان ذلك منهم مع حبهم الشديد الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذًا لتوجيهاته الكريمة مثل قوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". تنفيذًا لهذه التوجيهات العظيمة الهادفة إلى حماية التوحيد وصيانة العقيدة الإسلامية من شرائب الغلو والضلال الذي وقع فيه أهل الكتاب كان ذلك الموقف الواعي الرشيد من الصحابة الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الرشدون والفقهاء المبرزون مثل زيد بن ثابت وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم من علماء الصحابة وعظمائها وساداتها

".

(1)

الرد على الأخنائي (ص 73).

ص: 144

وقال فيه أيضًا: لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر.

فقيل له: فإن ناسًا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمران أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة؟

فقال: "لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده"

(1)

.

وقد ذكر الإمام مالك في موطئه فعل عبد الله بن عمر وأنه كان يأتي فيقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت"، ثم ينصرف.

وفي رواية: كان إذا قدم من سفر. رواه معمر عن نافع عنه.

وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يُفعل عند الحجرة إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرة التردد على القبر للصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك، وقال هو بدعة لم يفعلها السلف ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها

(2)

.

وقد تقدم ذكر نص كلامه وإذا كان مالك رحمه الله يكره أن يطل الرجل الوقوف عنده صلى الله عليه وسلم للدعاء فكيف بمن لا يقصد لا السلام ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول، ويشرك بالله ويظلم نفسه؟

(3)

(1)

الشفا (2/ 675، 676).

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 384).

(3)

مجموع الفتاوى (27/ 385).

ص: 145

وقد كره الإمام مالك رحمه الله أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. كره هذا اللفظل أن السنة لم تأت به في قبره

(1)

.

وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوهًا، ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور.

ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده. وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعًا لابن عمر.

ومالك من أعلم الناس بهذا لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك، ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة.

فكره أن يطل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفعلون ذلك.

وكره الإمام مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك.

وقال رحمة الله عليه: "ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"

(2)

. وقد صرح مالك وغيره: بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"

(3)

والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في "المبسوط"

(4)

.

(1)

فالسُّنَّة إنما وردت بزيارة مسجده والصلاة فيه.

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 386).

(3)

سيأتي تخريجه (ص 168).

(4)

مجموع الفتاوى (27/ 334). والإمام مالك نظر إلى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته، فقد يكون السائل من عُرفه أن لفظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم =

ص: 146

وما أفتى به الإمام مالك من جواز السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها وذلك لمن قدم من سفر هو ما أفتي به باقي الأئمة الأربعة.

وقد احتجوا بفعل ابن عمر كما احتج به مالك

(1)

.

ومنهم من احتج بحديث: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام"

(2)

.

فقد اعتمد الإمام أحمد في زيارة قبره المكرم على هذا الحديث. وعن أحمد أخذ ذلك أبو داود

(3)

فلم يذكر في زيادة قبره المكرم غير هذا الحديث وترجم عليه: "باب زيارة القبر"

(4)

.

فهذا الحديث هو عمدة الإمام أحمد وأبي داود وأمثالهم، وهو غاية ما عندهم في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل

(5)

. فليس في لفظ الحديث المعروف في

= يتناول من أتى المسجد وكان قصده القبر، ومن أتاه وقصده المسجد، وهذا عرف عامة الناس المتأخرين يسمون هذا كله زيارة، ولم يكن هذا لغة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. الرد على الأخنائي (ص 23) بتصرف.

(1)

الرد على الأخنائي (ص 137 - 138).

(2)

تقدم تخريجه (ص 114).

(3)

سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي، السجستاني أبو داود، مصنف السنن وغيرها، ثقة حافظ من كبار العلماء وأئمة الحديث، مات سنة خمس وسبعين ومائتين. تهذيب التهذيب (4/ 169 - 173).

(4)

مجموع الفتاوى (27/ 330).

(5)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الأخنائي (ص 203): "ولو أريد إثبات سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفًا فيه، فالنزاع في إسناده ودلالة متنه".

وقال ابن عبد الهادي: "وهذا الحديث لا يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته" وقد تقدم الكلام على إسناده. وأما نزاع في دلالة الحديث فمن جهة =

ص: 147

السنن والمسند (عند قبري) مع أن الذين احتجوا بهذا الديث قالوا إن هذا هو المراد، ولم يرد على كل مسلم عليه في شرق الأرض وغربها مع أن المعنى؛ أي أنه يرد على كل مسلم في شرق الأرض وغربها إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام.

وإن كان المراد بالسلام في الديث هو السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء، فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة؟

فهذا مما تنازع فيه الناس، وقد توزعوا في دلالته.

فمن الناس من يقول هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة في زمن عائشة رضي الله عنها فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فكان يرد عليهم فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم

(1)

.

وهذا السلام عليه عند قبره كان مشروعًا لما كان ممكنًا بدخول من يدخل على عائشة رضي الله عنها.

وقالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره بل سلامهم عليه كالسلام عليه إذا دخل المسلم المسجد وخرج منه.

والذين استدلوا بهذا الحديث على اختصاص تلك البقعة بالسلام جعلوه متناولا لمن سلم عليه من داخل الحجرة أو من خارجها.

وقد اعترض على من احتج بهذا الحديث: "ما من أحد يسلم عليَّ

= احتمال لفظه فإن قوله: "ما من أحد يسلم علي" يحتمل أن يكون المراد به عند قبره ما فهمه جماعة من الأئمة، ويحتمل أن يكون معناه على العموم وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد وهذا هو ظاهر الحديث وهو الموافق للأحاديث المشهورة. [الرد على البسكي (ص 259)].

(1)

هذا على قول من خصَّ الحديث على السلام القريب وقالوا: إنما هو فيمن سلم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع. [الرد على الأخنائي (ص 170)].

ص: 148

إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام"

(1)

على استحباب السلام للقادم عند الحجرة. فقيل: إن هذا الحديث لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره؟

فقد اتفق الصحابة ابن عمر وغيره على أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا وخرجوا بل يكره ذلك، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره علم أنه غير مستحب بل لو كان جائزا لفعله بعضهم، وبهذا يتبين ضعف حجة من احتج بالحديث على استحباب السلام عليه من المسجد.

ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة ولا بين حال السفر وغيره فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن لأحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرر ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذالك لأهل المدينة، فمثل هذه الشريعة ليس منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه ولا هو معروف من عمل الصحابة وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، كما كان ابن عمر رضي الله عنه يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعَبَر النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك بل أبوه عمر رضي الله عنه كان ينهي عن مثل ذلك.

فعن المعرور بن سويد عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} ، و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} في الثانية، فلما رجع من حجه رأى الناس

(1)

سبق تخريجه (147).

ص: 149

ابتدروا المسجد فقال: "ما هذا؟ فقالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "وهذا ملة أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له فليمض"

(1)

(2)

. ومن استدل بهذا الحديث من العلماء ذكر أنه ود على القريب وخصوا الجواز للمسافر القادم أو المقيم المسافر.

وليس في الحديث ما يدل على التخصيص، ذلك أنه يمتنع أن يقال إنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين فيها، فيمتنع أن يكون المعنى من سلم منكم يا أهل المدينة لم أرد عليه مادمتم مقيمين بها فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص، ولا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.

يبين هذا: أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور ويسلمون عليه إنما كان يرد عليهم إذا سلموا.

فإن قيل: إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطل للحديث.

وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك، ولا يرد إذا سلموا من خارج فقد ظهر الفرق.

وإن قيل: بل هو يرد على الجميع، فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به.

وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو من سلَّم من خارج، لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام كلما دخلوا المسجد وخرجوا وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وخلاف قول المفرقين

(3)

- أي بين أهل المدينة والغرباء - الذين استدلوا بهذا الحديث.

(1)

عزاه شيخ الإسلام إلى سنن سعيد بن منصور. انظر: الرد على الأخنائي (ص 169، 170).

(2)

الرد على الأخنائي (ص 169، 170) بتصرف.

(3)

الرد على الأخنائي (ص 176، 177).

ص: 150

هذا ولم يعتمد الأئمة الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها البعض في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم كحديث "من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي".

وحديث: "من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" ونحو ذلك. فإن هذه الأحاديث وأمثالها لم يروها أحد من أئمة الإسلام ولم يعتمدوا عليها، ولم يروها لا أهل الصحاح ولا أهل السنن التي يعتمد عليها كأبي داود والنسائي لأنها ضعيفة بل موضوعة كما قد بين العلماء الكلام عليها"

(1)

.

ولكن جاء لفظ زيارة القبور في غير هذه الأحاديث كما في قوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكر الموت"

(2)

. وكان صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين .. "

(3)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يزور قبور أهل البقيع وشهداء أُحد

(4)

.

‌بيان غلط من قاس قبره صلى الله عليه وسلم على قبر غيره في شأن الزيارة:

وقد استدل طائفة من الناس بهذه الأحاديث على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا إنه إذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبره أولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 385، 638)(بتصرف).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (974).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (974).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أحد برقم (4042)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم برقم (2296).

ص: 151

الأولين والآخرين. وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقًا هو من باب الإكرام والتعظيم له والرسول أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد.

وظنوا أن ترك الزيارة له فيه تنقيص لكرامته، فغلطوا وخالفوا السنة وإجماع الأئمة سلفها وخلفها.

فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور، فإن ذلك أبلغ في الدعاء له فالرسول أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه. وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول لا يشرع الوصول إلى قبره لا للدعاء له ولا لدعائه، ولا لغير ذلك.

بل غيره من الناس يصلَّى على قبره عند أكثر السلف كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر - كالصلاة على الجنازة - تشرع مع القرب والمشاهدة.

أما للنبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع لا يصلى على قبره سواء كان للصلاة حد محدود أو كان يصلى على القبر مطلقًا.

ولم يعرف عن أحد من الصحابة الغائبين لما قدم صلَّى على قبره صلى الله عليه وسلم.

وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والإجماع، ولا هي أيضًا ممكنة فقبر النبي صلى الله عليه وسلم خص بالمنع شرعًا وحسًّا، فقد دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من داخل الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون أن غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلًا عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها.

وبهذا يتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين، وهذا من باب القياس الفاسد.

ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من

ص: 152

المقيس والمقيس عليه كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين يقيسون الميتة على المذكى ويقولون للمسلمين أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟

(1)

فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام].

وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها ححب جهنم. قاس ابن الزعبري

(2)

- قبل أن يسلم - هو وغيره من المشركيين - عيسى بها وقالوا فيجب أن يعذب عيسى؟

(3)

.

قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف].

ثم قال: {إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ وجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرائيلَ} [الزخرف]. وبين تعالى الفرق بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء] بيَّن أن من كان صالحًا نبيًّا أو غير نبي لم يعذب لأجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم به.

وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصبًا للنار، وقد قيل إنها من الحجارة التي قال الله:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم] وقال تعالى: {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن].

والمقصود هنا أن يعرف أن ما مضت به سُنَّته وكان عليه خلفاؤه

(1)

انظر سبب نزول الآية في: تفسير الطبري (8/ 15 - 19).

(2)

عبد الله بن الزعبري - بكسر الزاي الموحدة وسكون المهملة بعدها راء مقصورة - ابن قيس القرشي السهمي: كان من أشهر قريش، وكان شديدًا على المسلمين، ثم أسلم في الفتح ومدح النبي صلى الله عليه وسلم. الإصابة (2/ 300).

(3)

انظر: سبب النزول في تفسير ابن كثير (4/ 131).

ص: 153

وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله:

1 -

فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره.

2 -

وهو أيضًا في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ.

بيان ذلك:

أما كونه أتم في حق الله: فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا

" الحديث

(1)

.

ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب: فلا يُتقى غيره، ولا يخاف غيره ولا يتوكل على غيره، ولا يدعى غيره، ولا يصلى لغيره، ولا يصام لغيره، ولا يتصدق إلا له، ولا يحج إلا إلى بيته. قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور].

فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده.

وقال تعالى في سورة التوبة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} .

فجعل الإيتاء لله والرسول كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

وجعل التوكل والرغبة إلى الله وحده.

وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح].

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار برقم (2856)؛ وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار برقم (30).

ص: 154

وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)} [النحل].

وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)} [الإسراء].

وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأحقاف: 4].

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} [سبأ] وهذا باب واسع.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"

(1)

.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال: إنهم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون، ولا

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 293، 303، 357). وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب صفة القيامة، باب (59) (4/ 667) (ح 2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 541 - 542).

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم (ص 174): "لهذا الحديث عن ابن عباس طرق كثيرة، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قال ابن منده وغيره، وقد روى أيضا من طرق عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد وعبد الله بن جعفر، وفي أسانيدها كلها ضعف، وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة". انتهي باختصار يسير.

ص: 155

يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون"

(1)

، فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، والرقية دعاء فكيف بما هو أبلغ من ذلك؟

ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيدًا ومسجدًا ووثنًا، وصار الناس يدعونه ويتضرعون إليه ويسألونه ويتوكلون عليه ويستغيثون به، ويستجيرون به، وربما سجدوا له وطافوا به وصاروا يحجون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده لا يشركه فيها مخلوق.

فكان من حكمة الله دفنه في حجرته ومنع الناس من مشاهدة قبره، والعكوف عليه، والزيارة له، ونحو ذلك لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له لإخلاص الدين لله.

وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يجعل ذلك عندها وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال

(2)

.

وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته: فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أُحد هو الدعاء لهم كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم وكما سنه لأمته.

فلو سنَّ للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له، كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحيانا وبين مالك أنه بدعة لم يبلغه عن صدر هذه الأمة ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة فإنه

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب من لم يرق برقم (5752) واللفظ له؛ وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب برقم (218).

(2)

انظر: البداية لابن كثير (2/ 44 - 52).

ص: 156

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها لكن بعض الناس يزوره ثم لتعظيمه في القلوب وعلم الخلق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاهًا وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه، يدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأعراضها وتعرض عن حقه الذي هو له من الصلاة والسلام عليه والدعاء له.

فإن الناس مع ربهم كذلك إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، إنما يعظمون الله عند ضرورتهم إليه كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} [الزمر: 8] ونظائر هذا في القرآن متعددة.

فإذا كانوا إلا ما شاء الله، إنما يعظمون ربهم ويوحدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم ولا يعرفون حقه إذا خلصهم فلا يحبونه ويعبدونه ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته فكيف يكونون مع المخلوق؟

فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم كما هو الموجود في عامة الذين يحجون إلى القبور المعظمة ويفصدونها لطلب الحوائج.

فلو أذن الرسول لهم في زيارة قبره ومكَّنهم من ذلك لأعرضوا عن:

1 -

حق الله الذي يستحقه من عبادته.

2 -

وعن حق الرسول الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه

ص: 157

والدعاء له، بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره.

فكانوا يهضمون حق الله وحق الرسول كما فعلت النصارى فإنهم بغلوهم في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده وتركوا حق المسيح، فهم لا يدعون له بل هو عندهم رب يدعى ولا يقومون بحق رسالته فينظرون ما أمر به وما أخبر به بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وطلب حوائجهم ممن يستضفعون به من الملائكة والأنبياء والصالحين عما يجب من حقوقهم.

وأيضا فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل، لكانوا يخصون تلك البقعة بزيادة الدعاء له وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له، فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول كما يجتهد في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان، وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقص إيمانا وقياما بحقه من المجاور لقبره، وقال لهم صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني"

(1)

. وقد شرع لهم أن يصلوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا، وأن يسلموا عليه في كل صلاة، ويصلوا عليه في الصلاة، وأن يسلموا عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه.

فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان، وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوي بين قبره وقبر غيره.

بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه، بفعل ما شرعه وسنه لأمته

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (7626)، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (30)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 141).

ص: 158

من واجب ومستحب: وهو أن يقوموا بحق الله، ثم بحق رسوله حيث كانوا من المحبة والمولاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك. ولا يقصدون تخصيص القبر لما يفضي إليه ذلك من ترك حق الله وحق رسوله.

فهذا وغيره مما يبين أن ما نهي عنه الناس ومنعوا منه، وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره، وإن كانا زيارة قبر غيره مستحبة، فهو أعظم لقدره وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته، وأن ذلك أقوم بحق الله وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.

وإن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه الله بل ما نهي عنه وخالفوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه، هم مضاهؤون للنصارى، وإنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله وبرسوله، والقيام بحق الله وحق رسوله بقدر ما دخلوا فيه من البدعة التي ضاهوا بها النصارى فهذا هذا، والله أعلم.

وأيضا فإنه إذا أطيع أمره وأتبعت سنته كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتبع سنته لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا"

(1)

.

وأما البدع - التي لم يشرعها بل نهي عنها، وإن كانا متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى، فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها فلا يكون للرسول فيها منفعة، بل صاحبها إن عذر كان ضالا لا أجر له، وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا تطروني كما أطرت

(1)

أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة

برقم (2674).

ص: 159

النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"

(1)

.

فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور: إن الناس منعوا من الوصول إليه تعظيما لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من الحجرة لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم.

قيل: فهذا يوجب الفرق فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له فكون ذلك قريبا من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له من داخل الحجرة أقرب، وإن كان القرب مستحبا فكلما كان أقرب كان أفضل كسائر القبور.

وإن كان مقصودها؛ أي: الزيارة، ما يقوله أهل الشرك والضلال من أن دعاؤه من القرب أولى، فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى.

ولما ثبت بالنص والإجماع أن هذا القرب من القبر ممنوع منه، وهو أيضا غير مقدور عليه، علم أن القرب من ذلك ليس بمستحب. بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره - أي قبر ذلك الغير - فإن القرب منه مستحب إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة فإن أفضى إلى ذلك منع من ذلك. ومما يوضح هذا: أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث يمكن زيارته فيكون له باب يدخل منه إلى القبر ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه بل يوسع المكان ليسع الزائرين.

ومن اتخذه مسجدًا جعل عنده صورة محراب أو قريبا منه، وإذا كان الباب مغلقا جعل له شباكا على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه.

وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله لم يجعل للزوار طريق إليه بوجه من

(1)

أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله:{واذْكُرْ فِي الكِتابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها} برقم 3445.

ص: 160

الوجوه ولا قبر في مكان كبير يسع الزوار، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له.

ومن أعظم ما منَّ الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده.

فلا يقدر أحد أن يصل إلا إلى المسجد والعبادة المشروعة في المسجد معروفة بخلاف ما لو كان القبر منفردا عن المسجد.

والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد وإذا سمِّي هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له إنما هو إتيان إلى مسجده، ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ"

(1)

فالزيارة المعهودة من القبور ممتنعة فيه قبره فليست من العمل المقدور ولا المأمور، فامتنع أن يكون أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه، ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له وثناء عليه في مسجده سواء كان هناك القبر أو لم يكن

(2)

.

فمجرد زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة عند قبره، وهم لم يمكنوا إلا من الدخول إلى مسجده

(3)

والله سبحانه قد فرَّق بين قبر رسوله صلى الله عليه وسلم وقبر غيره فإنهم دفنوه بالحجرة ولم يبرزوا قبره كما كانوا يزورون قبورهم خوفا أن يتخذ مسجدا.

(1)

الرد على الأخنائي (ص 151 - 160)(بتصرف).

(2)

الصارم المنكي (ص 85، 86).

(3)

الصارم المنكي (ص 112).

ص: 161

ثم إنهم منعوا الناس من زيارته كما يزورون القبور، فلم يكونوا يمكنون الناس من الدخول لزيارته. ثم إنهم سدوا باب الحجرة وبنوا عليها حائطا آخر فلم يبق أحد متمكنا من زيارته كما تزار القبور.

ولهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بهذا الاسم في حقه فقال تستحب زيارة قبره أو لا تستحب أو نحو ذلك ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا وقد كره من كره من العلماء التكلم به، وذلك اسم لا مسمى له ولفظ لا حقيقة له وإنما تكلم به من تكلم من المتأخرين ومع هذا فلم يريدوا ما هو معروف من زيارة القبور"

(1)

.

فتبين أنه ليس في الشريعة عمل يسمى "زيارة لقبره" وأن هذا الاسم لا مسمى له، والذين أطلقوا هذا الاسم إن أرادوا به ما يشرع فالمعنى صحيح لكن عبروا عنه بلفظ لا يدل عليه.

وإن أرادوا ما لا يشرع فذاك المعنى خطأ مفهوم ومع هذا فليس هو زيارة.

فخلاصة ما يمكن حصره من مسائل وأقوال في مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ما يلى:

1 -

أن السلام عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول مسجده وسائر المساجد في سائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع وقد تقدم ذكر الأدلة في ذلك.

2 -

أما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعا لما كان ممكنا بدخول من يدخل على عائشة.

3 -

أما تخصيص هذا السلام أو الصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع.

(1)

الرد على الأخنائي (ص 25 - 26).

ص: 162

وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

القول الأول: منهم من ذكر استحباب السلام أو الصلاة والسلام عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضا أن يأتي إلى الحجرة ويصلي ويسلم كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.

القول الثاني: ومنهم من لم يذكر إلا النوع الثاني فقط؛ أي: أنه يأتي إلى الحجرة ويصلي ويسلم.

القول الثالث: ومنهم من لم يذكروا إلا النوع الأول فقط أي السلام أو الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد، وفي التشهد في الصلاة وهذا ما ذكره كثير من السلف

(1)

.

فهذا النوع الأول - أي السلام عند دخول المسجد - هو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المسجد وغير هذا المسجد.

وأما النوع الثاني - أي: السلام عليه عند الحجرة - فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء سواء فعله مع الأول أو مجردا عنه فاستحبوه للغرباء دون أهل البلد، محتجين على ذلك بفعل ابن عمر رضي الله عنهما.

وفي هذا الاستحباب نظر "لأن الأمر إذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر، دون غيرهم كان غايته أن يثبت به التسويغ بحيث يكون هذا مانعا من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي يساغ فيها الاجتهاد، أما أن يجعل من سنة الرسول وشريعته وحكمه ما لم تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز

(2)

.

فالأولى في هذه المسألة أن يقال: إن فعل ابن عمر إنما يدل على

(1)

الرد على الأخنائي (ص 142).

(2)

الرد على الأخنائي (ص 177 - 178).

ص: 163

التسويغ بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء بفعل بعض الصحابة لم يبتدع شيئا من عنده.

أما أن يقال إن فعل هذا عبادة وطاعة يشرع فعلها احتجاجا بفعل بعض الصحابة - ولا سيما إذا عرف أن جمهور الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك - فلا يكفي الإحتجاج بفعل بعض الصحابة على استحبابه بل الأمر يحتاج إلى دليل شرعي.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أن يقال إن الرسول ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها، فهذا يحتاج إلى دليل شرعي ولا يكفي في ذلك فعل بعض السلف.

ولا يجوز أن يقال: إن الله ورسوله يحب ذلك أو يكرهه، وإنه سنَّ ذلك وشرعه، أو نهي عن ذلك وكرهه، ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك لا سيما إذا عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك.

فيقال: لو كان ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، ونظائر هذا متعددة والله أعلم"

(1)

.

وفي الوقت ذاته لا يقال: انعقد إجماعهم

(2)

على تركه فيبدع من فعله مع أنه قد ثبت فعله من بعض الصحابة كما ثبت من فعل ابن عمر رضي الله عنهما.

هذا فيما يتعلق بالسلام عليه عند حجرته للقادم من السفر.

أما الشخص المقيم فلم يستحب أحد من علماء السلف أن يأتي أحد إلى الحجرة للسلام أو الصلاة، بل هو منهي عنه لأن في تخصيص

(1)

الرد على الأخنائي (ص 179).

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أن يثبت به التسويغ بحيث يكون وإنما من دعوى الإجماع".

ص: 164

الحجرة للصلاة والسلام بهذه الصورة جعلًا لها عيدًا، وكذلك فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكونوا يفعلون ذلك. وقد تقدم نقل كلام الإمام مالك في هذه المسألة بعينها وكيف أنه كره ذلك لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وقال رحمه الله:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها"

(1)

.

فوقوف أهل المدينة بالقبر من البدع التي لم يفعلها الصحابة، وهذه الزيارة منهي عنها لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري عيدا وصلُّوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"

(2)

وروي مثل ذلك في السلام عليه، فعلم أنه يكره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام بل يصلى ويسلم في جميع المواضع وذلك واصل إليه فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها.

والذين أجازوا السلام عليه عند الحجرة للغرباء اختلفوا كيف يسلم عليه هل تستقبل الحجرة أم القبلة؟ على قولين:

القول الأول: فالأكثرون يقولون يستقبل الحجرة؛ كمالك والشافعي وأحمد.

القول الثاني: وأبو حنيفة يقول: يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفه في قول.

لأن الحجرة النبوية لما كانت خارجة عن المسجد لم يكن يمكن أحدا أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم، ويستدبر القبلة، كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد، بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره، وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح"

(3)

.

(1)

انظر كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ص 762 - 763).

(2)

سبق تخريجه (ص 126).

(3)

مجموع الفتاوى (27/ 330).

ص: 165

والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئًا ولا يطلب منه ما يطلب في حياته ويطلب منه يوم القيامة لا شفاعة ولا استغفار ولا غير ذلك، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه

(1)

.

فقد تكلم السلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره:

1 -

فمنهم من نهي عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه.

2 -

ومنهم من رخص في الدعاء له والسلام عليه.

3 -

ومنهم من نهي عن الدعاء له والسلام عليه

(2)

(أي عند قبره).

ولا يجوز السجود للحجرة ولا الطواف بها بل هو كفر بإجماع المسلمين

(3)

بل ولا الصلاة إليها لما ثبت في صحيح مسلم من أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"

(4)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها وغير ذلك مما يفعله الجهال منهي عنه باتفاق المسلمين"

(5)

.

قال أبو بكر الأثرم

(6)

: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل -: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يلمس ويتمسَّح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: ورأيت أهل

(1)

الرد على الأخنائي (ص 166).

(2)

الرد على الأخنائي (ص 163).

(3)

الرد على الأخنائي (ص 177، 215).

(4)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر

برقم (ص 972).

(5)

الرد على الأخنائي (ص 229).

(6)

أحمد بن محمد بن هانئ الطائي: ويقال الكلبي، أبو بكر الأثرم، ثقة حافظ، صاحب تصانيف، روى عن أحمد بن حنبل وتفقه عليه، وسأله عن المسائل والعلل، توفي سنة 261 هـ، وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (1/ 78 - 79).

ص: 166

العلم من أهل المدينة لا يمسونه، ويقيمون ناحية فيسلمون. فقال أبو عبد الله:"نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

أما السفر إلى "زيارة قبره" فهذا اللفظ فيه إجمال

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لفظ إتيان القبر، وزيارة القبر، والسفر إلى القبر ونحو ذلك، يتناول من يقصد المسجد وهذا مشروع.

ويتناول من لم يقصد إلا القبر، وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وأنه مالك وغيره. فمن نقل عن السلف أنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد ولا الصلاة فيه، بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك فإذا لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلا عن إجماعهم عليه. وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده وطاعة له ولرسوله وبر وتقوى وقيام بحق الرسول.

(1)

الرد على الأخنائي (ص 178).

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس، فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجمع عليه من المتنازع فيه. فإن في الزيارة مسائل متعددة تنازعوا فيها، لكن لم يتنازعوا في استحباب السفر إلى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده، ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا لغير ذلك، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال" حديث متفق على صحته وعلى العمل به، عند الأئمة المشهوون، وعلى أن السفر إلى القبور داخل فيه. الرد على الأخنائي (ص 270 - 271).

ص: 167

وما هو شرك وبدعة وضلالة منهي عنها لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين لكن:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".

وقد تقدم عن مالك وغيره أنه من نذر إتيان المدينة إن كان قصده الصلاة في المسجد يوفي بنذره، وإلا لم يوف بنذره.

وأما إذا نذر إتيانه المسجد لزمه لأنه إنما يقصد الصلاة.

فلم يجعل إلى المدينة سفرًا مأمورًا به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"

(1)

.

وجعل من سافر إلى المدينة أو بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفرًا منهيًّا عنه، لا يجوز أن يفعله وإن نذره، وهذا هو قول جمهور العلماء.

فمن سافر إلى مدينة الرسول أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور أو من آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرمًا عند مالك والأكثرين وقيل إنه سفر مباح ليس بقربة كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو قول ابن عبد البر.

وما علمنا أحدًا من علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب.

فدعوى من ادعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. برقم (1189)؛ وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم (1397).

ص: 168

علماء المسلمين كذب ظاهر، وكذلك إن ادَّعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور أصحابهم أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا ريب، وكذلك إن ادَّعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين.

وإن قال: إن هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك وهو بعد أن يعرف صحة نقله، نقل قولًا شاذًّا مخالفًا لإجماع السلف مخالفًا لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكفي بقول فسادًا أن يكون قولًا مبتدعًا في الإسلام مخالفًا للسُّنَّة والجماعة، ولما سنَّه الرسول، ولما اجتمع عليه سلف الأمة وأئمتها، والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك، فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب

(1)

.

هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.

* * *

(1)

الرد على الأخنائي (ص 219 - 221).

ص: 169