الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)[سورة مريم: 24]
(مِنْ تَحْتِها) هو جبريل عليه السلام. قيل: كان يقبل الولد كالقابلة. وقيل: هو عيسى، وهي قراءة عاصم وأبى عمرو. وقيل (تَحْتِها) أسفل من مكانها، كقوله:(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)[البقرة: 25]. وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة، فصاح بها: لا تَحْزَنِي وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص. (مِنْ تَحْتِها) وفي ناداها ضمير الملك أو عيسى. وعن قتادة: الضمير في (تحتها) للنخلة. وقرأ زرّ وعلقمة: (فخاطبها من تحتها).
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السريّ فقال: (هو الجدول). قال لبيد:
فتوسّطا عرض السّري فصدّعا
…
مسجورة متجاورا قُلامها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي قراءة عاصم)، أي:((من تحتها))، قرأها عاصمٌ من رواية أبي بكر، وقرأها ابن كثيرٍ وابن عامرٍ أيضاً.
قوله: (الأكمة)، الأساس: هي التل.
قوله: (وقرأ زرٌّ وعلقمة)، في ((جامع الأصول)): هو أبو مريم زر بن حبيش الكوفي، وهو من أكابر القراء والمشهورين من أصحاب عبد الله بن مسعود. زرٌّ بكسر الزاي وتشديد الراء، أما علقمة فمن التابعين ثلاثةٌ: علقمة بن عبد الله المزني، وعلقمة بن أبي علقمة مولى عائشة رضي الله عنها، وعلقمة بن قيسٍ النخعي، روى عن عمر وعبد الله بن مسعود، وفي الحاشية ما يدل على أنه هو.
قوله: (فتوسطا عرض السري) البيت، الضمير في ((توسطا)) للعير والأتان.
وقيل: هو من السرو. والمراد: عيسى. وعن الحسن: كان والله عبدا سريا.
فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسرى والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أنّ ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عرض السري: جانب النهر الصغير، فصدعا: فشقا، مسجورةً: عيناً مملوءةً، فحذف الموصوف، والقلام: ضربٌ من النبت، متجاوراً: ملتفاًّ. يقول: فتوسط العير والأتان جانب النهر وشقا عيناً مملوءةً ماءً، فدخلا عرض نهرها الذي كثر على حافتيه حذو هذا الضرب من النبت.
قوله: (وقيل: هو من السرو، والمراد عيسى عليه السلام، الراغب: السرو: الرفعة، يقال: رجلٌ سريٌّ، وأشار بذلك إلى عيسى عليه السلام وما خصه به من سروةٍ، يقال: سروت الثوب عني، أي: نزعته، وسروت الجل عن الفرس، قيل: ومنه رجلٌ سريٌّ، كأنه سري ثوبه، بخلاف المتدثر والمتزمل.
قوله: (من حيث إنهما معجزتان) في تسميتهما ((معجزتان)) بحثٌ؛ لأن المعجزة هي: إظهار خرق العادات على سبيل التحدي، وهذا لا يستقيم في حقها ولا في حق عيسى عليه السلام؛ لأن ما يتقدم على البعثة من خرق العادات يسمى إرهاصاً، كإظلال الغمام في طريق الشام، وارتجاس إيوان كسرى لنبينا صلوات الله عليه. والذي يصح أن يقال: إنهما كرامتان لها، ويؤيده ما ذكرنا في قوله:(لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ)[آل عمران: 37]، وقد استقصينا القول هناك.
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [سورة مريم: الآيات 25 - 26].
(تُساقِطْ) فيه تسع قراءات: (تساقط)، بإدغام التاء. و (تتساقط)، بإظهار التاءين. و (تساقط)، بطرح الثانية. و (يساقط)، بالياء وإدغام التاء. و (تساقط)، و (تسقط)، و (يسقط)، و (تسقط)، و (يسقط)، التاء للنخلة، والياء للجذع. و (رطبا) تمييز، أو مفعول على حسب القراءة. وعن المبرد: جواز انتصابه "بهزّى" وليس بذاك. والباءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((تُسَاقِطْ) فيه تسع قراءات)، حمزة:((تساقط)) بالتخفيف وفتح التاء، والباقون: بالتشديد إلا حفصاً، فإنه يخفف بضم التاء وكسر القاف، والبواقي: شواذ.
قوله: (و (رُطَبًا): تمييزٌ أو مفعولٌ على حسب القراءة)، فإذا قرئ بفتح الياء أو التاء يكون تمييزاً، أي: تتساقط النخلة رطباً، كقولك: تصبب الفرس عرقاً، وإذا قرئ بالضم يكون مفعولاً به، أي: تساقط النخلة رطباً جنياًّ، قال أبو البقاء: ورطباً فيه أوجه، أحدها: هو حالٌ موطئة، وصاحبها الضمير في الفعل. والثاني: هو أنه مفعولٌ به ل (تُسَاقِطْ).
والثالث: هو مفعول (وهُزِّي)، والرابع: هو تمييزٌ. وتفصيل هذه الأوجه يتبين بالنظر في القراءات، فيحمل كلٌّ منها على ما يليق به.
قوله: (وعن المبرد: جواز انتصابه ب ((هزي)))، قال الزجاج: قال محمد بن يزيد- يعني: المبرد-: هو مفعولٌ به، المعنى: وهزي إليك بجزع النخلة رطباً تساقط عليك، فالتاء ليست بمزيدةٍ، مثلها في قولك: كتبت بالقلم.
قال أبو البقاء: المعنى: هزي الثمرة بالجذع. وقيل: التقدير: هزي إليك رطباً جنياًّ كائناً
في (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) صلة للتأكيد، كقوله تعالى:(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[البقرة: 195]، أو على معنى: افعلي الهزّ به، كقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بجذع النخلة، فقوله:((بالجذع)): حالٌ.
وقلت: فعلى هذا، يكون قد تنازع في (رُطَبًا):((هزي)) و ((تساقط))، وقد أعمل فيه الأول، وهو ضعيف، ولأنه يكون ما في حيز الأمر متأخراً عن جوابه، ومن ثم قال المصنف:((وليس بذاك)).
قوله: (أو على معنى: افعلي الهز به) يعني: نزل المتعدي منزلة اللازم للمبالغة، نحو: فلانٌ يعطي ويمنع، ثم عدي كما يعدى اللازم، نحو قول الشاعر:
فإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها
…
إلى الضيف يجرح في عراقبيها نصلي
((ذي ضروعها)): اللبن في الضرع، و ((يجرح)): جواب الشرط، و ((نصلي)): فاعله، و ((العراقيب)): جمع عرقوب، وهو العصب الغليظ فوق عقب الحيوان. يقول: إذا اعتذرت الناقة إلى الضيف قلة اللبن بالمحل أنحرها له.
وذهب صاحب ((الكشف)) إلى أن الباء للتسبب، والمضاف محذوفٌ، أي: هزي إليك بهز جذع النخلة، أي: إذا هززت النخلة اهتزت، وبهزك النخلة تساقط عليك رطباً، و (رُطَبًا): منصوبٌ ب (تُسَاقِطْ)، فإن يتفاعل قد جاء متعدياً. قال تعالى:(أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا)[النساء: 128]، و (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس: 45] ومن قال: ضربني وضربت زيداً، كان (رُطَبًا) منصوباً ب (وهُزِّي)، أي: هزي إليك رطباً جنياًّ متمسكة بجذع
يجرح في عراقيبها نصلى
قالوا: التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت، وكذلك التحنيك، وقالوا: كان من العجوة.
وقيل: ما للنفساء خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل، وقيل: إذا عسر ولادها لم
يكن لها خير من الرطب. عن طلحة بن سليمان (جَنِيًّا) بكسر الجيم للإتباع، أى: جمعنا لك في السرىّ والرطب فائدتين، إحداهما: الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين، وهو معنى قوله (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أى: وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضى عنك ما أحزنك وأهمك. وقرئ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النخلة تساقطه عليك، فأضمر ل (تُسَاقِطْ) مفعولاً، وجعل الباقي موضع الحال، هذا هو الجيد البالغ في الآية. وقيل: رطباً: نصب على الحال، أي: وهزي إليك بجذع النخلة، أي: بثمرة جذع النخلة، تساقط عليك ثمرة النخلة رطباً.
قوله: (التحنيك)، وهو: إلصاق التمر بحنك الصبي.
قوله: (أي: جمعنا لك في السري والرطب فائدتين)، يعني: رتب بقوله: (فَكُلِي) الآية على قوله: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًا) وقوله: (وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) معنى ما يحتاج إليه، وفي ضمنه التسلية بما أصابها من الحزن.
الراغب: الهز: التحريك الشديد، يقال: هززت الرمح فاهتز، ويقال: هززت فلاناً للعطاء، واهتز النبات: إذا تحرك لغضارته، (فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج: 45].
قوله: ((وقَرِّي عَيْنًا) أي: وطيبي نفساً، يريد: أن (وقَرِّي عَيْنًا) كنايةٌ عن طيب النفس، ورفع الحزن.
(وَقَرِّي) بالكسر لغةُ نجد، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) بالهمز: ابن الرومي. عن أبي عمرو، وهذا من لُغةِ مَن يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهاية: في حديث الاستسقاء: لو رآك لقرت عيناه، أي: لسر بذلك وفرح، وحقيقته: أبرد الله دمعة عينيه؛ لأن دمعة الفرح والسرور باردةٌ. وقيل: معنى أقر الله عينك: بلغك أمنيتك حتى ترضى نفسك وتسكن عينك فلا تستشرف إلى غيره.
الراغب: قر في مكانه يقر قراراً: ثبت ثبوتاً جامداً، من القر، وهو البرد؛ لأنه يقتضي السكون، ويوم القر يوم النحر، لاستقرار الناس فيه بمنىً، والإقرار: إثبات الشيء، قال تعالى:(وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ)[الحج: 5]، وقد يكون ذلك إثباتاً إما بالقلب وإما باللسان وإما بهما. وأما الجحود فإنما يقال فيما ينكر باللسان دون القلب. وقيل: لمن يسر به: قرة عين. وقيل: أصله من القر أي: البرد، معناه: بردت فصحت. وقيل: بل لأن للسرور دمعةً قارةً وللحزن دمعةً حارة، ولذلك يقال فيمن يدعى عليه: أسخن الله عينه. وقيل: هو من القرار، والمعنى: حصول ما يسكن به عينه، فلا يطمح إلى غيره.
قوله: (((ترئن)): بالهمز)، قال ابن جني: رويت عن أبي عمرو، وهي ضعيفةٌ؛ لأن الياء مفتوحٌ ما قبلها والكسرة فيها لالتقاء الساكنين، فليست محتسبةً أصلاً، وعليه قراءة الجماعة:(تَرَيِنَّ) بالياء. نعم، وقد حكي الهمز في الواو التي هي نظيرة الياء في قوله تعالى:(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ)[آل عمران: 186]، فشبه الياء، لكونها ضميراً وعلم تأنيثٍ، بالواو من حيث كانت ضميراً، وعلم تذكيرٍ، وهذا ليس بقوي.
لبأت بالحج، وحلأت السويق، وذلك لتآخ بين الهمزة وحرف اللين في الإبدال. (صَوْماً): صمتا. وفي مصحف عبد الله: (صمتاً). وعن أنس بن مالك مثله. وقيل: صياماً، إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت، لأنه نسخ في أمته، أمرها الله بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع البشر المُتَّهمين لها في الكلام لمعنيين، أحدهما: أن عيسى صلوات الله عليه يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها. والثاني: كراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم. وفيه أن السكوت عن السفيه واجب. ومن أذل الناس: سفيه لم يجد مسافها. قيل: أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة. وقيل: سوغ لها ذلك بالنطق (إِنْسِيًّا) أى: أكلم الملائكة دون الإنس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لبأت بالحج) أصله: لبيت تلبيةً، ثم أبدل التضعيف بالياء ثم أبدل الياء بالهمزة، وحلأت، أي: لطت بالشيء الحلو، وأصله حلوته، قلبت الواو ياءً، ثم أبدل الياء بالهمز.
قوله: (وقيل: صياماً) هو عطفٌ على قوله: (((صَوْمًا): صمتاً))، يعني:(صَوْمًا)، إما مجازٌ عن: صمتاً، بقرينة ترتب:(فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِيًا)، أو هو على حقيقته، وأما معنى ترتب (فَلَنْ أُكَلِّمَ) عليه، فإنهم كما كانوا يمسكون عن الطعام والشراب، كانوا يمسكون عن الكلام أيضاً.
قوله: (وفيه أن السكوت عن السفيه واجبٌ)، يريد: أن هذا المعنى مدمجٌ في الآية.
وقوله: (من أذل الناس: سفيهٌ لم يجد مسافهاً)، ينظر إلى قول أبي الطيب:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه
…
وأغيظ من عاداك من لا تشاكله
قوله: (أي: أكلم الملائكة دون الإنس) يعني: عدل من قوله: فلن أكلم اليوم أحداً، إلى: إنسياًّ، ليفيد- بدلالة المفهوم- هذه الدقيقة، ويدمج فيه معنى كرامةٍ أخرى، وهي رفعة منزلتها.
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [سورة مريم: 27 - 28].
الفرىّ: البديع، وهو من فرى الجلد (يا أُخْتَ هارُونَ) كان أخاها من أبيها من أمثل بنى إسرائيل. وقيل: هو أخو موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما عنوا هرون النبىّ» وكانت من أعقابه في طبقة الإخوة، بينها وبينه ألف سنة وأكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الفري: البديع)، الأساس: فلانٌ يفري الفري: إذا أتى بالعجب. ويقال: قد أفريت وما فريت، أي: أفسدت وما أصلحت. ومن المجاز: يفري الليل عن بياض النهار، وتفرت الأرض بالعيون.
الراغب: الفري: قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء: للإفساد، والافتراء فيهما، وفي الإفساد أكثر، ولذلك استعمل في القرآن للكذب والشرك والظلم، نحو:(ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى)[النساء: 48]، وقوله تعالى:(لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًا) قيل: معناه عظيماً، وقيل: عجيباً، وقيل: مصنوعاً.
قوله: ((هَارُونَ) كان أخاها من أبيها)، يؤيده ما روينا عن مسلم والترمذي، عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون: (يَا أُخْتَ هَارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال:((إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم))، والنظم يساعد عليه، كما سبق في قوله تعالى:(ولَمْ أَكُ بَغِيًا).
قوله: (وكانت من أعقابه)، أي: وكانت ممن يعقب هارون في مرتبة الأخوة، وذلك بأن تكون من نسل أخت هارون وأخيه. وقيل:((في طبقة))، خبر ((كان))، أي: كانت في طبقة الأخوة من جهة أعقابه، أي: أخلاقه في النسك والعبادة. و ((من)): ابتدائية.
وعن السُّديّ: كانت من أولاده. وإنما قيل: يا أخت هارون، كما يقال يا أخا همدان، أى: يا أحداً منهم. وقيل: رجل صالح أو طالح في زمانها، شبهوها به، أى: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو شتموها به، ولم ترد إخوة النسب، ذكر: أن هارون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون تبركا به وباسمه، فقالوا: كنا نشبهك بهارون هذا. وقرأ عمر بن لجأ التيمي: (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ). وقيل: احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار، فلبثُوا فيه أربعين يوما حتى تعلت من نفاسها، ثم جاءت تحمله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو شتموها به) عطفٌ على قوله: ((شبهوها به))، و (شبهوها)) نشرٌ، لقوله:((رجلٌ صالحٌ))، ومعنى التشبيه قولهم: كنا نشبهك بهارون، أو: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو ((شتموها)) نشرٌ لقوله:((أو طالح))، والشتم هو: إما أن يقولوا: أنت مثله في الفساد، أو اتهموها به. والله أعلم.
قوله: (تعلت من نفاسها)، أي: طهرت من بقايا ما كان يعتريها من نفاسها.
الأساس: بقية كل شيءٍ: علالته، وللفرس بداهةٌ وعلالةٌ. وقال:
وقد تعاللت ذميل العيس
وهو يتعلل ناقته، أي: يحلب اللبن الذي يجتمع في ضرعها بعد الحلب الأول، وما هي إلا علالةٌ أتعلل بها، وهي اسم ما يتعلل به.
قوله: (ثم جاءت تحمله) في ((إيجاز البيان)): (تَحْمِلُهُ): حالٌ منها أو منه أو منهما لحصول الضمائر في الجملة التي هي حالٌ. والبغي: الفاجرة، مصروفةٌ عن الباغية، أي: بمعنى المفعول، كقولك: نفسٌ قتيلٌ، وكفٌ خضيب. وقال صاحب ((الكشف)): ولم يقل: بغية، فيحتمل أن يكون (بَغِيًا) مصدراً، كما قالوا في قوله:(قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ)[يس: 8] ولم يقل: رميمةٌ، قالوا: لأنه أراد المصدر، ويجوز أن يكون ذلك للفواصل.
فكلَّمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه، أبشرى فإنى عبد الله ومسيحه، فلما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل: هَمُّوا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام. فتركوها.
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)[سورة مريم: 29].
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أى: هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل: كان المستنطق لعيسى زكريا عليه السلام. وعن السدى: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشدّ علينا من زناها. وروى: أنه كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره وأشار بسبابته. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان. (كانَ): لإيقاع مضمونِ الجملة في زمان ماضٍ مبهم يصلح لقريبه وبعيده، وهو هاهنا لقريبه خاصة، والدال عليه معنى الكلام، وأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإني عبد الله ومسيحه). النهاية: قيل: المسيح: الصديق، وهو بالعبرانية مشيحا فعرب، وقيل: إنما سمي لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهةٍ إلا برئ.
قوله: (والدليل عليه معنى الكلام) يعني: لما قيد مضمون الجملة ب ((كان))، وهي وإن كانت قيداً، لكن بالنظر إلى دلالتها على الأزمنة الماضية مطلقةٌ مفتقرةٌ في الاختصاص بزمانٍ دون زمانٍ إلى قرينةٍ مقيدة، وها هنا القرينة المخصصة بالزمان القريب: سوق الكلام للتعجب، فعلى هذا (نُكَلِّمُ) للحال الحاضرة، و ((من)): موصولةٌ، والمراد عيسى عليه السلام. ويجوز جعلها موصوفةً، فالمراد كل من هو موصوفٌ بكونه في المهد صبياًّ، فيكون قوله:(((نُكَلِّمُ) بحكاية الحال الماضية)) وكان على إيهامها، قال أبو البقاء: قيل: (كَانَ) مثل (وكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، وقيل: زائدةٌ، أي: من هو في المهد صبياًّ، و (صَبِيًا): حالٌ من
مسوق للتعجب. ووجه آخر: أن يكون (نُكَلِّمُ) حكاية حال ماضية، أى: كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صبيا في المهد فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا؟ !
(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)[سورة مريم: 30 - 33].
أنطقه الله أوّلا بأنه عبد الله ردا لقول النصارى. و"الْكِتابَ": هو الإنجيل. واختلفوا في نبوّته، فقيل: أعطيها في طفولته: أكمل الله عقله، واستنبأه طفلا؛ نظرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضمير في الجار والمجرور، ولو كانت زائدةً يستتر فيها الضمير فلا تحتاج إلى تقدير ((هو))، بل الظرف صلة ((من))، أي: كيف نكلم من في المهد صبياًّ.
وقال الزجاج: الأجود أن يكون ((من)) في معنى الشرط، أي: من يكن في المهد صبياًّ، كيف نكلمه؟ وقال ابن الأنباري: هذا كما يقال: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟ أي: من يكن لا يقبل. والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء.
قوله: (أنطقه الله أولاً بأنه عبد الله رداًّ لقول النصارى)، أي: قدم ما هو الأهم وأعنى بشأنه، وهو كتقدمة الإعجاز.
قوله: (و ((الكتاب)): هو الإنجيل). الراغب: كل موضع ذكر في وصف الكتاب: ((آتينا)) فهو أبلغ من كل موضع ذكر فيه ((أوتوا))؛ لأن ((أوتوا)) قد يقال إذا أوتي من لم يكن منه قبولٌ، وآتيناهم يقال فيمن له قبول، والإيتاء: الإعطاء، وخص دفع الصدقة في التنزيل بالإيتاء
في ظاهر الآية. وقيل: معناه أنّ ذلك سبق في قضائه. أو: جُعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد (مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نفاعا حيث كنت» وقيل: معلما للخير. وقرئ: (وَبَرًّا) عن أبى نهيك، جعل ذاته برا لفرط بره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا محالة)، الجوهري: لا محالة، أي: لابد، يقال: الموت آتٍ لا محالة.
المغرب: أصل التركيب دالٌّ على الزوال والنقل، ومنه التحويل، وهو نقل الشيء من محلٍّ إلى آخر، فعلى هذا معنى لا محالة: لا تحول عنه، كما أن معنى لابد: لا فراق، والتبديد: التفريق، والاسم في البابين مبنيٌّ، والخبر محذوفٌ.
قوله: (وقرئ: ((وبراًّ))) بكسر الباء، والبر، بفتح الباء: صفةٌ مشبهة، وبالكسر: اسم.
قال ابن جني: قرأها أبو نهيكٍ وأبو مجلزٍ، وهو معطوفٌ على موضع الجار والمجرور من قوله:(بِالصَّلاةِ)، كأنه قال: وألزمني براًّ بوالدتي؛ لأنه إذا أوصاه به فقد ألزمه إياه، وعليه بيت ((الكتاب)):
فإن لم تجد من دون عدنان والداً
…
ودون معدٍّ فلتزعك العواذل
عطف دون الثانية على موضع (من)، وإن شئت حملته على حذف المضاف، أي: وجعلني ذا برٍّ، وإن شئت جعلته إياه على المبالغة كقولها:
فإنما هي إدبارٌ وإقبال
فعلى هذا هو معطوفٌ على: (مُّبَارَكًا).
أو نصبه بفعل في معنى: أوصانى، وهو كلفنى، لأن أوصانى بالصلاة وكلفنيها واحد (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) قيل: أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله، كقولك: جاءنا رجل، فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى: ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلىّ. والصحيح: أن يكون هذا التعريف تعريضا باللعنة على متهمى مريم عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو نصبه بفعلٍ) عطفٌ على قوله: ((جعل ذاته براًّ))، يعني: جعل أبو نهيكٍ (وبَرًا) منصوباً بقوله: (وجَعَلَنِي) وعطفه على: (مُّبَارَكًا) أو نصبه بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قيل: وكلفني براًّ بوالدتي.
قوله: (والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً باللعنة)، يؤذن أن التعريف السابق غير صحيح، قيل: لأن التعريف في العهد الخارجي إشارةٌ إلى ذلك الشخص المعير المتوجه إلى يحيى عليه السلام، ويستحيل أن يتوجه ذلك السلام بعينه إلى عيسى عليه السلام.
وقلت: يحمل على التشبيه ليصح كقوله تعالى: (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ)[البقرة: 25]، وليس ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات المرزوق في الدنيا، ومعناه: هذا مثل الذي رزقنا من قبل وشبهه، كأنه عليه السلام سأل ربه أن يفعل به مثل ما فعل بيحيى عليه السلام من السلامة في سائر أحواله، قاله الأزهري.
والسلام: مصدر سلمت سلاماً وسلامةً، وهو دعاء الإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه ويتخلص من المكروه، كذا عن المبرد. وهذا معنىً صحيحٌ لو أريد به مجرد الدعاء، لكن المانع شيءٌ آخر، وهو اقتضاء المقام التعريضي الجنس؛ لأن الكلام مع القوم ولم يجر بين عيسى وبين القوم حديث سلام الله على يحيى عليه السلام ليشير بذلك إليه، بل إن أمه الصديقة لما أشارت إليه، وقالوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًا* قَالَ إنِّي
السلام وأعدائهما من اليهود. وتحقيقه أن اللام للجنس، فإذا قال: وجنس السلام علىّ خاصة فقد عرض بأن ضدّه عليكم. ونظيره قوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى)[طه: 47]، يعنى: أنّ العذاب على من كذَّب وتولَّى، وكان المقام مقام مُناكرة وعناد، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض.
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)[مريم: 34].
قرأ عاصم وابن عامر (قَوْلَ الْحَقِّ) بالنصب. وعن ابن مسعود: (قال الحق)، و (قال الله) - وعن الحسن:(قول الحق)، بضم القاف، وكذلك في الأنعام (قَوْلُهُ الْحَقُّ) [الأنعام: 73]، والقولُ والقالُ والقُوْل في معنى واحد، كالرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف. وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله، وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق، كقولك: هو عبد الله الحق لا الباطل، وإنما قيل لعيسى:«كلمة الله» و «قول الحق» لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله:«كُنْ» من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَبْدُ اللَّهِ .... ) إلى آخر الآيات، براءةً لساحتها، وإظهاراً لكرامتها، فافتتح بالتعريض، وهو قوله:(إنِّي عَبْدُ اللَّهِ) رداًّ لقول النصارى، واختتم بمثله من التعريض، كأنه قال: والسلام علي دائماً والعذاب على من كذَّب وتولى، ولذلك قال: وكان المقام مقام مناكرةٍ وعناد، فهو مئنةٌ لنحو هذا من التعريض.
قوله: (فهو مئنةٌ). النهاية: أي: موضعٌ تستعمل فيه، أي: هي مفعلةٌ من معنى ((أن)) التي للتحقيق غير مشتقةٍ من لفظها، ووإنما ضمنت حروفها على أن معناها فيها كالحوقلة والحيعلة.
قوله: (وعن ابن مسعود: ((قال الحق)))، والحق: الله، ولهذا عقبه بقوله:((وقال الله)).
غير واسطة أب؛ تسمية للسبب باسم السبب، كما سمى العشب بالسماء، والشحم بالندى ويحتمل إذا أريد بقول الحق عيسى، أن يكون الحق اسم الله عز وجل، وأن يكون بمعنى: الثبات والصدق، ويعضده قوله:(الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أى: أمرُه حقُّ يقينٌ وهم فيه شاكون (يَمْتَرُونَ) يشكون. والمرية: الشك. أو: يتمارون: يتلاحون، قالت اليهود: ساحرٌ كذاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة. وقرأ علي بن أبى طالب رضي الله عنه:
(تمترون)، على الخطاب. وعن أبىّ بن كعب:(قول الحق الذي كان الناس فيه يمترون).
(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[مريم: 35].
كذب النصارى وبكتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه، وأنه مما لا يتأتى ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما سمي العشب بالسماء)، قال:
إذا نزل السماء بأرض قوم
…
رعيناه وإن كانوا غضابا
قوله: (والشحم بالندى)، قال ابن الأحمر:
كثور العداب الفرد يضربه الندى
…
تعلى الندى في متنه وتحدرا
العداب: ما استدق من الرمل، والندى الأول: المطر، والثاني: الشحم.
قوله: (يتلاحقون) الجوهري: لاحيته ملاحاةً ولحاءً: إذا نازعته، وتلاحوا: إذا تنازعوا، وفي روايةٍ: يتلاحون من اللجاج.
قوله: (كذب النصارى وبكتهم)، اعلم أنه تعالى لما أشار بقوله:(ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إلى الموصوف السابق وجعله علماً في العبودية بتلك الإشارة، وأكد الكلام بقوله:(قَوْلَ الحَقِّ) - أي: ما ذكر من صفته قول الحق، أو: أقول قول الحق- وقلع الريبة من
يتصور في العقول وليس بمقدور عليه، إذ من المحال غير المستقيم أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه
الولد، ثم بين إحالة ذلك بأن من إذا أراد شيئا من الأجناس كلها أوجده بـ (كن)، كان منزها من شبه الحيوان الوالد. والقول هاهنا مجاز، ومعناه: أنّ إرادته للشيء يتبعها كونه لا محالة من غير توقف، فشبه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل.
(وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)[مريم: 36].
قرأ المدنيُّون وأبو عمرو بفتح ((أن)). ومعناه: ولأنه ربى وربكم فاعبدوه، كقوله:(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)[الجن: 18]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شتمها، أتى بما يلقمهم الحجر، وشفع النص الساطع بالبرهان القاطع، فقال:(مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ سُبْحَانَهُ)، ثم علله بقوله:(إذَا قَضَى أَمْرًا فَإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، فالآيتان معترضتان بين كلامي المسيح عليه السلام (إنِّي عَبْدُ اللَّهِ)، (وإنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) تقريراً لمعنى العبودية، ينصر هذا النظم قول الواحدي:((من كسر (وإنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكُمْ) جعله عطفاً على قوله: (إنِّي عَبْدُ اللَّهِ)، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن عيسى عليه السلام أقر بالعبودية على نفسه وبربوبية الله تعالى أول ما تكلم)).
قوله: (من إذا أراد شيئاً) موصولةٌ منصوبةٌ ب ((أن))، والجملة الشرطية من قوله:((إذا أراد)) مع جوابه- وهو: ((أوجده)) - صلتها، و ((كان منزهاً)) خبر ((أن)).
قوله: (قرأ المدنيون وأبو عمروٍ) وقرأ ابن كثيرٍ أيضاً: بفتح ((أن)).
قوله: (كقوله: (وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18])، قال المصنف:((لأن المساجد لله، اللام متعلقةٌ ب (لا تَدْعُوا)، أي: لا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله
والإستارُ وأبو عبيد بالكسر على الابتداء. وفي حرف أبىّ: (إن الله)، بالكسر بغير واو، و:(بأن الله)، أى: بسبب ذلك فاعبدوه.
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[مريم: 37].
(الْأَحْزابُ): اليهود والنصارى عن الكلبي. وقيل النصارى؛ لتحزُّبهم ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أى: من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى))، قال أبو البقاء: ولوحدانيته أطيعوه، فعلى هذا ما بعد فاء السببية يجوز أن يعمل فيما قبلها، بخلاف الجزائية.
قوله: (والإستار) في ((الصحاح)) و ((الأساس)): الإستار بكسر الهمزة، في العدد: أربعةٌ.
قال جرير:
إن الفرزدق والبعيث وأمه
…
وأبو الفرزدق قبح الإستار
وقال الكميت:
أبلغ يزيد وإسماعيل مألكةً
…
ومنذراً وأباه شر إستار
والمراد منه: عاصمٌ والأعمش وحمزة والكسائي. وقيل بدل الأعمش: ابن عامر.
قوله: (وعن الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء)، مؤذنٌ بأن التعريف في (الأَحْزَابِ): للجنس، والمراد قومٌ معهودون لكمالهم في الاختلاف، وقريبٌ منه قوله تعالى:(وقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ)[الفرقان: 37]، وإنما كذبوه وحده، ولذلك جمع الأنبياء.
قوله: (أي: من شهودهم هول الحساب) ذكر في (مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ستة أوجه؛ لأن
أو: من وقت الشهود. أو: من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو: من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه.
(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَاتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [مريم: 38 - 40].
لا يوصف الله تعالى بالتعجب، وإنما المراد: أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جديرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشهود إما بمعنى الحضور، وهو إما مصدر ميمي، والمعنى من شهودهم هول الحساب، أو: اسم مكانٍ منه، أي: من مكان الشهود أو زمانه، والمعنى: من وقت الشهود. وإما بمعنى الشهادة فهو أيضاً إما: مصدرٌ والمعنى: من شهادة ذلك اليوم، أو: اسم مكان، أي: من مكان الشهادة، أو زمان، والمعنى: من وقت الشهادة.
قوله: (وأن تشهد عليهم الملائكة) عطفٌ تفسيريٌّ على قوله: ((شهادة ذلك اليوم))، يعني: أسند الشهادة إلى اليوم على المجاز نحو: (يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا)[المزمل: 17]، والأصل: تشهد عليهم الملائكة والأنبياء في ذلك اليوم.
قوله: (لا يوصف الله بالتعجب)، يريد: أن قوله: (أَسْمِعْ بِهِمْ وأَبْصِرْ) فعلا تعجب، والتعجب راجعٌ إلى العباد لا إلى الله تعالى؛ لأن المعجب هو ما يخفى سببه، وهو على الله محال. قال المالكي: منع بعض النحويين تنازع فعلي تعجب، والصحيح عندي جوازه، لكن بشرط إعمال الثاني، كقولك: ما أحسن وأعقل زيداً، بنصب ((زيداً)) ب ((أعقل))، لا ب ((أحسن))؛ لأنك لو نصبته به لفصلت ما لا يجوز فصله، ولا يمتنع على مذهب البصريين
بأن يُتعجَّب منهما بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا. وقيل: معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوؤهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر -أعنى الظالمين- موقع الضمير، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدى عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين: إغفال النظر والاستماع (قُضِيَ الْأَمْرُ): فرغ من الحساب، وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه -أى: عن قضاء الأمر- فقال: «حين يذبح الكبش والفريقان ينظران» و (إذْ) بدل من (يوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يقال: أحسن وأعقل بزيدٍ، ثم حذف الباء لدلالة الثانية عليها، ثم اتصل الضمير واستتر، كما استتر في الثاني من قوله تعالى:((أسمع وأبصر))، فإن الثاني يستدل به على الأول، كما يستدل على الثاني بالأول، إلا أن الاستدلال بالأول على الثاني أكثر من العكس.
قوله: (وقيل: معناه: التهديد بما سيسمعون): عطفٌ على قوله: ((وإنما المراد))، وعلى الأول المراد بالتعجب، وهو راجعٌ إلى العباد، لقوله:((جديرٌ لأن يتعجب منهما))، ومتعلق الاستماع والإبصار منسيٌّ ليشمل كل ما يصح أن يسمع وأن يبصر، فهو كقول الشاعر:
شجو حساده وغيظ عداه
…
أن يرى مبصرٌ ويسمع داعي
فقطع الفعل عن متعلقه الخاص ليصير مطلقاً، ثم كني به عن ذلك المتعلق بقرينة مقام التهديد. وعلى الثاني: هو كنايةٌ عن مجرد التهديد، والمتعلق المنوي هو ما يسوؤهم ويصدع قلوبهم.
قوله: (حين يذبح الكبش) روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله ليه وسلم: ((يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت)). ثم قرأ: (وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ) الآية.
الحسرة)، أو منصوبٌ بالحسرة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) متعلِّق بقوله:(في ضلال مبين) عن الحسن. و (أنذرهم): اعتراض. أو هو متعلق بـ (أنذرهم)، أى: وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. يحتمل أنه يميتهم ويخرب ديارهم، وأنه يفنى أجسادهم ويفنى الأرض ويذهب بها.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَاتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا* يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا* يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا)[مريم: 41 - 45].
الصدّيق: من أبنية المبالغة. ونظيره: الضِّحيك والنطيق، والمراد: فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله، وكأنَّ الرُّجحان والغلبة في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: وأنذرهم على هذه الحال) هذا التفسير غير ملائم لقوله تعالى: (إنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا)[النازعات: 45] والوجه أن يتعلق بقوله: (فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) لأن قوله: (وهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) نفي الإيمان منهم على سبيل الدوام مع الاستمرار في الأزمنة الماضية والآتية على التأكيد والمبالغة.
قوله: (وأنه يفني أجسادهم) أي: يحتمل (إنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ) أن يراد به الوراثة الخاصة، وأن يراد العامة، فالتعريف في الأرض على الأول للعهد، ولذلك قال:((تخرب ديارهم))، وعلى الثاني للجنس، وهو المراد بقوله:((ويفني الأرض ويذهب بها)). والثاني هو الراجح لوجهين: أحدهما: أن الكلام من قوله: (مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في شأن القيامة. وثانيهما: أن فيه معنى (لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ)[غافر: 16].
قوله: (وكثرة ما صدق به) الراغب: الصديق: من كثر الصدق منه. وقيل: بل من لم يكذب قط. وقيل: بل من لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل: بل من صدق بقوله
هذا التصديق للكتب والرسل، أى: كان مصدقاً بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبيا في نفسه، كقوله تعالى:(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)[الصافات: 37]. أو: كان بليغاً في الصدق؛ لأن ملاك أمر النبوة الصدق، ومُصدقُ الله بآياته ومعجزاته حري أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعتقاده وحقق صدقه بفعله. قال تعالى: (واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًا)[مريم: 41] وقال تعالى: (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ)[النساء: 69]، والصديقون هم قومٌ دون الأنبياء في الفضيلة على ما بينت في ((الذريعة)).
قوله: (أو كان بليغاً في الصدق). الظاهر أنه عطفٌ على قوله: ((والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به))، يعني: أن ((الصديق)) من أبنية المبالغة يجوز أن يحمل على فرط صدقه وكثرة ما صدق به، ويجوز أن يحمل على المبالغة، يدل عليه قوله في فاتحة البقرة:(بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[البقرة: 10] قرئ: ((يكذبون))، من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغةٌ في ((كذب)). ثم قال:((أو بمعنى الكثرة))، ولما عد ها هنا أشياء في مثال الكثرة من قوله:((غيوب الله وآياته وكتبه ورسله)) أراد أن يرجح بعضاً منها على بعض بمقتضى المقام. وقال: وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل، واستدل عليه بانضمام:(صِدِّيقًا) مع (نَّبِيًا) ليوافق قوله: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ)[الصافات: 3]، فقوله:(بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ) إشارةٌ إلى كونه نبياًّ، وقوله:(وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ) إشارةٌ إلى كونه صديقاً، أما قوله:((أي: كان مصدقاً بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبياًّ))، فهو معنى مقاربة الوصفين، أعني: صديقاً ونبياًّ، وقوله:((لأن ملاك أمر النبوة الصدق)) تعليلٌ لتفسير
يكون كذلك. وهذه الجملةُ وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله، أعنى إبراهيم. و (إِذْ قالَ):
نحو قولك: رأيت زيداً، ونِعم الرجل أخاك. ويجوز أن يتعلق (إذ) بـ (كان) أو بـ (صديقاً نبيا)، أى: كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(صِدِّيقًا) في هذا المقام بالمبالغة، يعني: إنما وصفه بقوله: (صِدِّيقًا) وقرن معه (نَّبِيًا) لأن ملاك أمر النبوة الصدق، و ((مصدق الله)) مع خبره معطوفٌ على الجملة التي قبله، واقترانه مع النبي على الوجه الأول: للتكميل، وعلى الثاني: للتتميم.
قوله: (وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله). قال صاحب ((الفرائد)): كون الجملة اعتراضاً بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيدٌ عن الطبع وع الاستعمال، والذي ذكر من النظر ليس بمستعمل، وهو مع ذلك بالواو، ويمكن أن يقال:(إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا) في مقام التعليل، كأنه قال: واذكره لقومك؛ لأنه كان صديقاً نبياًّ. ثم ابتدأ وقال: (إذْ قَالَ) أي: اذكر لهم ما قال لأبيه، كأنه بيانٌ لبعض ما يكون به صديقاً نبياًّ. والعامل في:(إذْ): (واذْكُرْ)، والوقت في هذا قائمٌ مقام المفعول به.
قلت: أما قوله: ((كون الجملة اعتراضاً بدون الواو بعيدٌ)، فكلام من لم يحقق معنى الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام متصلين معنىً بجملةٍ لا محل لها من الإعراب، ومرجعه إلى التأكيد، وهو يأتي تارةً بالواو، كقوله:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأخرى بلا واوٍ نحو قوله تعالى: (ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ولَهُم مَّا يَشْتَهُونَ)[النحل: 5]، ومن القبيلين قوله تعالى:(فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة: 75 - 76]، هذا إذا كان:(إذْ قَالَ) بدلاً من (إبْرَاهِيمَ)، وإذا تعلق ب (كَانَ) أو ب (صِدِّيقًا) كان تعليلاً.
خاطب أباه تلك المخاطبات. والمرادُ بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب: أن يتلُو ذلك على الناس ويبلغه إياهم، كقوله:(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ)[الشعراء: 69]، وإلا فالله عز وجل هو ذاكرُه ومُوردُه في تنزيله. التاء في (يا أَبَتِ): عوضٌ من ياء الإضافة، ولا يقال "يا أبتى"؛ لئلا يُجمع بين العوض والمعوض منه. وقيل:"يا أبتا"، لكون الألف بدلا من الياء، وشبه ذلك سيبويه بأينق، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة.
انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع
الذي عصى فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإلا فالله هو ذاكره ومورده في تنزيله) إشارةٌ إلى أن أصل الكلام: إنا قد أوردنا في التنزيل قصة إبراهيم، وذكرناها فيه، فاتلها أنت على الناس وبلغها إياهم، كقوله:(واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبْرَاهِيمَ)[الشعراء: 69]. ولما كان رسول الله صلى الله ليه وسلم خليفة الله في أرضه والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، جعله ذاكراً ومورداً في القرآن قصص الأنبياء عليهم السلام.
قوله: (وقل: ((يا أبتا)) لكون الألف بدلاً من الياء)، يريد:((يا أبتي)) غير جائزٍ لاجتماع العوض والمعوض عنه صريحاً، وهما الياء والتاء، بخلاف:((يا أبتا))؛ لأن الألف بدلٌ من الياء، كما أن التاء بدلٌ منها، فلا يكون في الصراحة مثل الياء، ولكن قل استعماله للعود إليه، ولا يبعد اجتماع عوضين عن معوضٍ واحد، فإن صاحب الجبيرة يجب عليه التيمم والمسح، وهما عوضان عن الغسل.
قوله: (بأينقٍ)، قد جمعت ((الناقة)) في القلة على ((أنوق))، ثم استثقلوا الضمة على الواو فقدموها، وقالوا:((أونق))، ثم عوضوا من الواو ياءً، فقالوا:((أينقٌ))، ثم جمعوها على ((أيانق)).
قوله: (أن ينصح أباه ويعظه فيما كان) تنازع ((ينصح)) و ((يعظه)) في الظرف، و ((من الخطأ)) بيان ((ما))، ويجب أن يقدر في ((وانسلخ عن قضية التمييز)):((فيه))؛ لأن الجملة معطوفةٌ على صلة الموصول ولابد من الراجع.
قوله: (متورطاً فيه). الجوهري: أورطه وورطه توريطاً: إذا أوقعه في الورطة، وهي: الهلاك، فتورط هو فيها.
آمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة-التي ليس بعدها غباوة- كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدّث أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار،
فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه، أظله تحت عرشي، وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري"؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (آمر العقل) معناه: العقل الآمر والفكر الصائب، وقوله:((ومن الغباوة)) عطفٌ على ((من الخطأ)).
قوله: (أرشق مساقٍ). الأساس: غلامٌ رشيقٌ: إذا كان في اعتدالٍ ودقة، ومن المجاز: رجلٌ رشيقٌ: ظريفٌ، وخطٌّ رشيق.
قوله: (م استعمال المجاملة واللطف)، هذا الأسلوب يسمى بالاستدراج والكلام المنصف.
قوله: (منتصحاً في ذلك) إشارةٌ إلى قوله: ((رتب الكلام معه في أحسن اتساقٍ)).
اعلم أن ((حين)) في قوله: ((انظر حين أراد أن ينصح)) لا يجوز أن يكون ظرفاً لقوله: ((انظر))، إذ ليس المراد بالأمر بالنظر في ذلك الزمان، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لقوله:((رتب))، إذ لا يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله، بل هو مفعولٌ به لقوله:((انظر))، أي: انظر إلى زمان إرادته نصيحة أبيه، والمقصود من النظر في ذلك الزمان: النظر إلى ما هو فيه، لكن ذكر الزمان للإشعار بأن ذلك الزمان لغرابة ما وقع فيه، جديرٌ بأن ينظر فيه، وهذا المعنى مأخوذٌ من كلام المصنف في قوله:(وَقُلْنَا يَا آدَمُ)[البقرة: 34]، (وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ) [البقرة: 126]، وفي الكلام حذفٌ، وهو فعل العلم المعلق عن العمل، أي: انظر لتعلم كيف رتب.
وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا، سميعا بصيرا، مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، -إلا أنه بعض الخلق- لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغىّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة، كالملائكة والنبيين. قال الله تعالى:(وَلا يَامُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَامُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 80]؛ وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرزاق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره - وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره - لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع -يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكفرا وجحوداً)، الراغب: الجحود: نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. قال تعالى:(وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)[النمل: 14].
قوله: (فلا يسمع- يا عابده- ذكرك له) هذا الاعتراض فيه التنبيه على غباوة السامع والتمادي في الغفلة والانغماس في ورطة الجهل، قال الفرزدق:
فانعق بضأنك يا جرير، فإنما
…
منتك نفسك في الخلاء ضلالا
الدلالة على الطريق السوي، فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه: بأن الشيطان - الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدوّ أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم - هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذرّيته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (استعصى على ربك) أبلغ من ((عصى))، لمعنى الطلب فيه.
قوله: (لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه) لعله يريد أن قوله: (إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًا) من باب التلميح، وهو أن يشار في الكلام إلى نحو قصةٍ، وهي ما ذكره الله تعالى في قوله:(وإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي)[الكهف: 50] من استعصاء اللعين على الله، وأنه عدوٌّ لبني آدم، فآثر خليل الله ما هو مختصٌّ بالله على ما يختص بالغير، لأنه أهم شيءٍ عنده، ومنه قوله تعالى:(قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)[الأنعام: 33]، قال المصنف:((إن تكذيبك أمرٌ راجعٌ إلى الله فاله عن حزنك لنفسك، وأنهم كذبوك وأنت صادقٌ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم، وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه)).
قوله: (كأن النظر في عظم ما ارتكب [من ذلك] غمر فكره) أي: لم يلتفت إلى ما هو في غير ما هو في جنب الله، وهو عداوته لآدم، وقد يعرض للمتكلم وهو في أثناء كلامه ما يذهله عن بعض ما هو فيه، فيأخذ في الأهم.
ثم رَبَّعَ بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجرُه ما هو فيه من التَّبِعة والوبال، ولم يخل ذلك من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة)، فإن قلت: قال: رتب الكلام معه أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، ثم أتى بكلمة الترتب، وعد أربعة أنواع من النصيحة وما بين وجه الاتساق؟
قلت: وفي كلامه إشعارٌ به وتلويحٌ إليه، وبيان ذلك: أن الواجب على الداعي الناصح والطبيب الحاذق بيان الضلال، وتشخيص الداء العضال، ثم الشروع في الدواء بإزالة المرض ورد الصحة، فبين عليه السلام أولاً خطأه في ارتكاب الشنيع من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً، وإليه الإشارة بقوله: طلب أولاً العلة في خطابه طلب منبهٍ على تماديه، إلى آخره، فإذا تنبه المنصوح والمريض على الضلال والمرض لابد أن يطلب من المنبه طريق الإزالة، فعليه أن يوقفه على الطبيب والمرشد، وإليه الإشارة بقوله:((وعندي معرفةٌ بالهداية فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه))، فإذا أذن له عند ذلك يشرع في إزالة ما ينبغي إزالته، فيبتدئ بالأهم والأولى. ولا ارتياب في أن الشيطان هو الذي باض الضلال في بني آدم وفرح فيه من أول الزمان، وأوقعه في ورطة المهالك، وإليه الإشارة بقوله:((وهو عدوك وعدو أبيك وأبناء جنسك، وهو الذي ورطك في هذه الضلالة))، وإن الشيطان هو الذي انتصب لاستجرارهم إلى الوبال وعذاب النار في آخر الأمر، وإليه الإشارة بقوله:((ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة)) فلما لم ينجح في أبيه هذا الوعظ حيث أجاب جوابه الأحمق بقوله: (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي)، لا جرم أنه عليه السلام لما لم يتمكن من التخلية بإزالة الشرك الذي هو المرض، فأسرع في التحلية من الأمر بالتوحيد الذي هو رد الصحة التي هي فطرة الله التي فطر الناس علليها، وبمكارم الأخلاق، فطلب الاعتزال
حُسن الأدب؛ حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال:(أخاف أن يمسك عذابٌ)، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه، وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم حيث قال:(وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 72]، فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله، أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله يا (أَبَتِ)؛ توسلا إليه واستعطافا. (ما)
في (ما لا يَسْمَعُ) و (ما لَمْ يَاتِكَ) يجوزُ أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في (لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ)
منسى غير منوي، كقولك: ليس به استماع ولا إبصار (شَيْئاً) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع المصدر، أى: شيئاً من الغناء، ويجوز أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقوله: (وأَعْتَزِلُكُمْ ومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُو رَبِّي)[مريم: 48](واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)[الأحزاب: 4].
قوله: (فذكر الخوف والمس ونكر العذاب) ثم أسنده إلى ((الرحمن)) للإيذان بأن العذاب من الموصوف بالرحمة أشد، وإليه لوح المتنبي بقوله:
فما يوجع الحرمان من كف حارمٍ
…
كما يوجع الحرمان من كف رازق
قوله: (وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب)، وجعل مسيس العذاب سبباً لكون الشيطان وليه ووسيلةً إلى الدخول في زمرة أشياعه.
قوله: ((شَيْئًا) يحتمل وجهين) أي: في قوله: (ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، ولعل إيقاعه قوله:((ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين)) يعني: لا يسمع ولا يبصر، اعتراضا بين الوجهين للإشعار باختصاص النصب على المصدر فيهما دون المفعول به، كما في الوجه الثاني، لئلا يفوت إرادة الإطلاق منهما على ما سبق له. واعلم أن (شَيْئًا) جيء به مراعاةً
يُقدَّر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني: أن يكون مفعولا به من قولهم: أغن عنى وجهك. (قَدْ جاءَنِي): فيه تجدُّد العِلْم عنده.
(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)[مريم: 46].
لما أطلعه على سماجة صورة أمره، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة، وناصحه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لفواصل السورة ظاهراً، وكان من حقه أن يعلق بالأفعال الثلاثة، فترك تعلقه بالفعلين السابقين لذلك الغرض، فوجب تعلقه بالأخير. ثم من الوجهين الأول أولى؛ لأنه أقرب إلى إرادة المبالغة.
قوله: (أغن عني وجهك)، أي: بعد وجهك عني؛ لأن الشيء إذا استغني عنه فقد ترك وبعد. قال في ((المغرب)): أغن عني كذا، أي: نحق عني وبعده. قال:
لتغني عني إنائك أجمعا
وعليه حديث عثمان رضي الله عنه في صحيفة الصدقة التي بعثها عليٌّ رضي الله عنه على يد محمد بن الحنفية: ((أغنها عنا))، وهو في الحقيقة من باب القلب، كقولهم: عرض الدابة على الماء.
قوله: ((قَدْ جَاءَنِي) فيه تجدد العلم عنده): بيانٌ لاتصال قوله: (يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ) بقوله: (ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) أي: لم تعبد الجماد وما لا يدفع عنك الأذى؟ وما أقول ذلك من تلقاء نفسي، ولا كنت عاملاً به قبل هذا، بل قد جاءني فيه تجدد العلم عند إمحاض نصحي هذا، فالضمير في ((فيه)) يعود إلى المذكور، ولما كان المذكور محض النصح، كان الضمير في ((عنده)) راجعاً إليه.
ناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخُ بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل (يا أَبَتِ) بـ"يا بنىّ"، وقدَّم الخبر على المبتدأ في قوله (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ)؛ لأنه كان أهمَّ عنده وهو عنده أعنى، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سُلوان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أقبل عليه الشيخ)، وفي تخصيصه تنبيهٌ على جسارة قلبه وشدة شكيمته، يعني: كان من حقه وكونه رجلاً شيخاً أن يأتي باللطف والمجاملة، لكن عكس.
قوله: (وقدم الخبر على المبتدأ). قال أبو البقاء: (أَرَاغِبٌ): مبتدأ، و (أَنتَ): فاعله أغنى عن الخبر، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على الهمزة.
وقال المالكي وغيره: إن (أَنتَ): مرفوعٌ ب (أَرَاغِبٌ)، وإلا يلزم الفصل بين (أَرَاغِبٌ) ومعموله وهو (عَنْ آلِهَتِي) بأجبني وهو (أَنتَ). وأجيب أن (عَنْ): متعلقٌ بمقدرٍ بعد (أَنتَ) دل عليه (أَرَاغِبٌ).
قال ابن الحاجب في ((الأمالي)): لا يتوهم أحدٌ أن ((أقائمٌ هو)) من قبيل ((أقائمٌ زيدٌ))، بل قائمٌ: خبرٌ ل ((هو)) مقدمٌ عليه، ولذا يقال في التثنية والجمع: أقائمان هما، وأقائمون هم؟ وعورض بنحو: أراغبٌ أنتما وأراغبٌ أنت؛ لأنه متعينٌ أن يكون ((أراغبٌ)) مبتدأ.
قوله: (وهو عنده أعنى)، أي: تقديم الخبر عند أبي إبراهيم أهم.
الأساس: عني بكذا واعتنى به وهو معنيٌ به، ومنه قول سيبويه: وهم ببيانه أعنى.
قوله: (سلوانٌ). الجوهري: السلوانة، بالضم: خرزةٌ كانوا يقولون: إذا صب عليها الماء من المطر فيشربه العاشق سلا، واسم ذلك الماء: السلوان.
وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأرمينك بلساني؛ يريد الشتم والذمّ، ومنه:"الرَّجِيمِ" المرمىّ باللعن. أو: لأقتُلنَّك، من رجم الزاني. أو: لأطردنك رميا بالحجارة. وأصل الرجم: الرمي بالرجام (مَلِيًّا) زمانا طويلاً، من الملاوة. أو: مليا بالذهاب عنى والهجران قبل أن أثخنك بالضرب، حتى لا تقدر أن تبرح. يقال: فلان ملىّ بكذا، إذا كان مطيقا له مضطلعا به. فإن قلت: علام عطف (وَاهْجُرْنِي)؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه (لَأَرْجُمَنَّكَ) أى فاحذرنى واهجرني، لأن (لَأَرْجُمَنَّكَ) تهديد وتقريع.
(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [مريم: 47 - 48].
(سَلامٌ عَلَيْكَ) سلامُ توديع ومتاركة، كقوله تعالى: (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وثلجٌ لصدر). الأساس: ومن المجاز ثلج فؤاده، وهو مثلوج الفؤاد، وثلجت نفسه بكذا: بردت وسرت.
قوله: (الرمي بالرجام). الجوهري: الرجم: القتل، وأصله الرجم بالحجارة، والرجام: حجارةٌ ضخام.
قوله: (من الملاوة). الجوهري: أقمت عنده ملاوةً من الدهر، أي: حيناً وبرهة، وعلى هذا (مَلِيًا): ظرفٌ، وعلى الوجه الثاني: حالٌ من الفاعل.
قوله: (أثخنك بالضرب). الأساس: أثخن في الأمر: بالغ فيه.
قوله: ((لأن (لأَرْجُمَنَّكَ) تهديدٌ وتقريع)، تعليلٌ لدلالة (لأَرْجُمَنَّكَ) على ((فاحذرني))، ولا يصلح المذكور أن يكون معطوفاً عليه؛ لأنه جواب القسم، ولا يصلح هذا أن يكون جواباً له، فيقدر ما يكون مسبباً عما تقدم، فيعطف عليه، على منوال قوله تعالى:(ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ)[النمل: 15].
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص: 55]، وقوله:(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)[الفرقان: 63]، وهذا دليلٌ على جواز متاركة المنصوح والحال هذه. ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له. ألا ترى أنه وعده الاستغفار؟ فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قلت:
قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب. وقالوا: إنما استغفر له بقوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)[الشعراء: 86]؛ لأنه وعده أن يؤمن. واستشهدوا عليه بقوله تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ)[التوبة: 114]. ولقائل أن يقول: إنّ الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأمّا القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع، بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما ترد الأوامر والنواهي)، قيل: النواهي مجمعٌ عليها في كونهم مخاطبين بها، وأما الأوامر فعند الشافعي رضي الله عنه أنهم مخاطبون بها بشرط الإيمان، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم مخاطبون مطلقاً، قيل: فيه نظرٌ؛ لأن التوحيد أصلٌ، فلا يجوز أن ينقلب شرطاً؛ لأن الشرط تبعٌ للمشروط، وأجيب: أن كونه شرطاً بسبب اقتضاء صحة هذا المأمور به، لا أنه شرطٌ في نفس الأمر.
قوله: (والذي يدل على صحته) أي: صحة القول بجواز الاستغفار على قضية العقل، وبطلان القول باشتراط التوبة عن الكفر: هذه الآية، وبيانه: أنه لو كان إبراهيم عليه السلام شارطاً للإيمان لم يكن استغفاره مستنكراً ومستثنىً في قوله: (إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)[الممتحنة: 4]، فلما استثنى دل على أنه ما شرط التوبة؛ لأن الاستغفار على شريطة التوبة مستحسنٌ من كل أحد، فلا يكون منكراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب ((الانتصاف)): الحق أن التحسين والتقبيح باطلان، فلا حاجة إلى هذا التعليل.
وقال صاحب ((الفرائد)): لو كان الوعد والوفاء على قضية العقل لقيل: ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا جرياً على قضية العقل، فلما ورد السمع بأن الاستغفار لا يجوز للكافر، ترك الاستغفار وتبرأ منه، ويمكن أن يقال: وعده الاستغفار بشرط التوبة، ولم يعلم بأنه ممن لا يؤمن البتة، فوفى بالوعد وقال:(واغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)[الشعراء: 86]، كأنه قال: أخرجه من الضلال واغفر له، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ) [التوبة: 114] أي: ممن لا يؤمن، ترك الدعاء وتبرأ منه.
قال الإمام: الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك، والمنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصيةً، فإن كثيراً من خواص النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز لنا التأسي بها مع أنها كانت مباحةً له.
وزاد صاحب ((التقريب)) على هذا بأن قال: نفي اللازم ممنوعٌ أيضاً، فإن استثناءه عما وجبت فيه الأسوة إنما يدل على أنه غير واجب، لا على أنه غير جائزٍ ومنكر، وكان ينبغي له أن يقول- بدل قوله: ومستثنىً عما وجبت فيه الأسوة-: مستثنىً عما جازت فيه الأسوة لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
…
) [الممتحنة: 6] الآية، ولا دلالة فيه على الوجوب.
وقلت- واعلم عند الله-: كلام صاحب ((الفرائد)): وعده الاستغفار بشرط التوبة ولم يعلم بأنه ممن لا يؤمن، إلى آخره، حسنٌ، لكن مع زيادةٍ يسيرة، والنظم يساعد عليه. وبيانه: أنه عليه السلام لما أجاب عن قول أبيه: (لأَرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًا) بقوله: (سَأَسْتَغْفِر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًا) جوابه الحكيم إظهاراً للتعطف والرأفة، وإبداءً للرقة والرحمة، كأنه عليه السلام ما التفت إلى جفائه وغلظته بناءً على ما وصفه الله تعالى:(إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)[التوبة: 114]، ولما لم يكن عارفاً بما يؤول إليه حال أبيه من الإصرار على الكفر، وأنه ممن لا يؤمن البتة، وفى بالوعد وقال:(واغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)[الشعراء: 86]، كأنه قال: أخرجه من الضلال واغفر له (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ)[التوبة: 114]، أي: مصرٌّ على الضلالة والكفر، ترك الدعاء وتبرأ منه.
فظهر من هذا أن استغفاره إنما لم يكن مستنكراً؛ لأنه عليه السلام لم يكن عالماً بإصراره على الكفر، لقوله تعالى:(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ)[التوبة: 114]، بخلافه في تلك الصورة، فإنه تبين للمؤمنين أنهم أعداء الله بقوله:(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ)[الممتحنة: 1] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجهٍ ما.
ثم بالغ في تفصيل عداوتهم بقوله تعالى: (إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)[الممتحنة: 2]، ثم حرضهم على قطيعة الأرحام بقوله:(لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ)[الممتحنة: 3]، ثم سلاهم بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ
…
) إلى قوله: (إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)[الممتحنة: 4]، فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله هذا المقام، كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع، يعني: لكم التأسي بإبراهيم مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير، فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم بالرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم لأبيه في قوله:(لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)؛ لأنه لم يتبين له حينئذٍ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم لكم. فظهر من هذا البيان أن لابد للمفسر من تعيين المقام والنظر إلى ترتيب النظام، لئلا يدحض في مزال الأقدام، والحمد لله الذي هدانا لهذا.
قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)[الممتحنة: 4]، فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأمّا (عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة: 114]، فالواعدُ هو إبراهيمُ لا آزر، أى: ما قال (وَاغْفِرْ لِأَبِي)[الشعراء: 86] إلا عن قوله: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، وتشهد له قراءةُ حمادٍ الرواية:(وعدها أباه). والله أعلم (حَفِيًّا)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأما (عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إيَّاهُ)[التوبة: 114] فالواعد إبراهيم لا آزر): إبطالٌ لاستشهاد الخصوم وقولهم: إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن، بدليل قوله:(ومَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إيَّاهُ)[التوبة: 114] بأن الواعد هو إبراهيم لا آزر، بدليل قراءة حماد.
وقلت: أظهر منه سياق الآيات؛ لأن قوله عليه السلام: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) إنما صدر منه بعد فظاظة أبيه في الرد وغلظته في قوله: (لأَرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًا)، فيكون هذا هو الوعد، فالواعد في قوله:(وعَدَهَا إيَّاهُ) هو إبراهيم عليه السلام، فيعلم منه ضعف قول صاحب ((التيسير)): الاستثناء في قوله: (إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)[الممتحنة: 4] منقطعٌ تقديره: لكن (قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)؛ لأنه كان لموعدةٍ وعدها أبوه، فظن أنه قد أنجزها، فلما تبين إصراره تبرأ منه، ولا تحل لكم ذلك مع علمكم.
قوله: (ما قال: (واغْفِرْ لأَبِي)[الشعراء: 86] إلا عن قوله) أي: ما صدر قوله إلا عن قوله: (لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) وبسببه، كقوله:
ينهون عن أكلٍ وعن شربٍ
قوله: (قراءة حمادٍ الرواية)، قيل: حمادان، الرواية الكوفي، والراوية البصري، وهو المراد ها هنا، وتصحيفاته مشهورةٌ، من ذلك في قوله:(عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ)[الأعراف: 156]
الحفيّ: البليغ في البر والإلطاف، حفى به وتحفى به (وَأَعْتَزِلُكُمْ): أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام. المرادُ بالدعاء العبادة؛ لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» . ويدل
عليه قوله تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ)[مريم: 49]، ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء. عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله:(عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، مع التواضع لله بكلمة (عَسى) وما فيه من هضم النفس.
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم: 49 - 50].
ما خسر على الله أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه، فعوّضه أولادا مؤمنين أنبياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه قرأ: أساء، وفي قوله:(لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى ائْتِنَا)[الأنعام: 71] أنه قرأ: إيتنا.
قوله: (الدعاء هو العادة) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي، عن النعمان بن بشير. ومعنى الحصر: أن المقصود من العبادة: إنشاء غاية الخضوع والتذلل، والدعاء ليس إلا إظهار الافتقار وإبداء التذلل لله تعالى.
قوله: (الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء)، وهو قوله:(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[الشعراء: 83] إلى آخره.
(مِنْ رَحْمَتِنا) هي النبوّة عن الحسن. وعن الكلبي: المال والولد، وتكون عامّة في كل خير دينى ودنيوى أوتوه. لسان الصدق: الثناء الحسن. وعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. قال:
إنى أتتنى لسان لا أسر بها
يريد الرسالة. ولسان العرب: لغتهم وكلامهم. استجاب الله دعوته (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[الشعراء: 84]؛ فصيَّره قدوةً حتى ادّعاه أهل الأديان كلهم. وقال عز وجل: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ)[الحج: 78]، و:(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)[البقرة: 135]، (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل: 123]، وأعطى ذلك ذُرِّيَّتَه فأعلى ذِكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكره وأثنى عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما عبر باليد عما يطلق باليد)، هو من باب إطلاق السبب على المسبب، أو من باب إطلاق اسم المحل على الحال.
قوله: (إني أتتني لسانٌ لا أسر بها)، تمامه:
من علو لا عجبٌ منها ولا سخر
علوة: اسم امرأة. الضمير في ((بها)) راجعٌ إلى الكلمة، والشعر لأعشى باهلة قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر، ويروى: ولا صخب، وهو الصياح مكان: ولا سخر، يقال: سخرت منه أسخر سخراً، بالتحريك، مسخراً وسخراً.
قوله: (وأعطى ذلك)، يجوز أن يكون إشارةً إلى معنى قوله:(ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا) الآية، ولذلك رتب عليه قوله:((فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم)) وجعل ذلك تخلصاً إلى ذكر موسى عليه السلام بقوله: (واذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا).
قوله: (كما أعلى ذكره). الأساس: ومن المجاز: له ذكرٌ في الناس، أي: صيتٌ وشرفٌ (وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ولِقَوْمِكَ)[الزخرف: 44]، ورجلٌ مذكور.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا)[مريم: 51].
المخلص بالكسر: الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء. أو: أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. وبالفتح: الذي أخلصه الله. الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء: والنبىّ: الذي يُنبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، كيوشع.
(وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا)[مريم: 52].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المخلص، بالكسر): عاصمٌ وحمزة والكسائي، وبالفتح: الباقون.
قوله: (النبي: الذي ينبيء عن الله عز وجل. الراغب: النبي بغير همز، فقد قال النحويون: أصله الهمز، واستدلوا بقولهم: مسيلمة نبيء سوء. وقال بعض العلماء: هو من النبوة، أي: الرفعة، وسمي نبياًّ لرفعة محله عن سائر الناس، المدلول عليه بقوله: (ورَفَعْنَاهُ مَكَانًا علِيًا)، فالنبي بغير الهمز أبلغ؛ لأنه ليس كل متنبئٍ رفيع المحل، ولذلك ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن قال له: يا نبيء الله، فقال:((لست بنبيء الله، ولكن نبي الله)) لما خاطبه بالهمز ليغض منه، والنبوة والنباوة: الارتفاع، ومنه قيل: بنا بفلانٍ مكانه، كقولهم: قض عليه مضجعه، ونبا السيف عن الضريبة؛ إذا ارتد عنه ولم يمض فيه، ونبا بصره عن كذا، تشبيهاً بذلك.
الأيمن: من اليمين، أى: من ناحيته اليُمنى. أو: من اليُمن صفة للطور، أو للجانب. شبهه بمن قرّبه بعض العظماء للمناجاة، حيث كلمه بغير واسطة ملك. وعن أبى العالية قرّبه حتى سمع صريف القلم الذي كُتبت به التوراة.
(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا)[مريم: 53]
(مِنْ رَحْمَتِنا) من أجل رحمتنا له وترؤفنا عليه، وهبنا له هارون. أو بعض رحمتنا، كما في قوله (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) [مريم: 50]. و (أَخاهُ) على هذا الوجه بدل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (صريف القلم). النهاية: صريف الأقلام: صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله عز وجل ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ.
قوله: (كما في قوله: (ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا))، يعني: ما ينصر أن ((من)): للتبعيض: قوله تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ وكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًا (49) ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًا) لأن ((من)) في هذه الآية لا تحتمل ما تحتمله في تلك الآية من الوجهين؛ لأن (وهَبْنَا) يقتضي مفعولاً به وليس فيها غيره، بخلافه فيما نحن فيه؛ لأن (أَخَاهُ) إن جعل مفعولاً كان ((من)): ابتدائياً، وإذا جعل ((من)) مفعولاً، كان (أَخَاهُ) بدلاً منه، وبعض الرحمة أما دينيٌّ وهو النبوة والكتاب والحكمة وإرشاد الخلق، أو دنيويٌّ وهو الولد والمال وسعة الرزق، وفي كلام الواحدي إشعارٌ بهذا.
فعلى هذا الأنسب أن يجعل (أَخَاهُ) بدل البعض من الكل؛ لأن معاضدته بأخيه، ومؤازرته به، بعض المذكورات، قال في قوله تعالى:(فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ)[إبراهيم: 21]: يجوز أن يكونا للتبعيض معاً، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيءٍ، هو بعض عذاب الله؟ أي: بعضَ بعضِ عذاب الله، والمعنى على الابتداء: ووهبنا له من أجل سبق رحمتنا، وتقدير تخصيصه بالمواهب الدينية والدنيوية:(أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًا)، والأول
و (هارُونَ): عطف بيان، كقولك: رأيت رجلا أخاك زيدا. وكان هرون أكبر من موسى، فوقعت الهبة على معاضدته ومؤازرته كذا عن ابن عباس رضى الله عنه.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم: 54 - 55].
ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان ذلك موجودا في غيره من الأنبياء، تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو: الحليم، والأوّاه، والصدّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله. عن ابن عباس رضى الله عنه: أنه وعد صاحبا له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو الوجه، لما فيه من تنبيهٍ على سعة رحمة الله، فإن الأنبياء مع جلالتهم ورفعة منزلتهم منحوا بعضاً منها.
قوله: (وكان هارون أكبر من موسى فوقعت الهبة على معاضدته)، يعني: لما كان هارون أكبر سناً لم تكن الهبة في قوله: (ووَهَبْنَا) نحو قوله: (ووَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ)، فوجب الحمل على المعاضدة والمؤازرة.
قوله: (كالتقليب، نحو: الحليم)، يعني: ذكر إسماعيل للشهرة بصدق الوعد، كذكر إبراهيم عليه السلام بالحليم والأواه في قوله:(إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)[التوبة: 114]، الأساس: هو ملقبٌ بكذا ومتلقبٌ به، ولقب به وتلقب، ونبز بلقبٍ قبيح:(ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)[الحجرات: 11]، وقال: الحماسي:
أكنيه حين أناديه لأكرمه
…
ولا ألقبه والسوءة اللقبا
قيل: الفرق بين اللقب والعلم، أن اللقب من معنىً في الغالب، كقفةً وبطة، سمي بها لقصره.
أن ينتظره في مكان، فانتظره سنة. وناهيك أنه وعد في نفسه الصبر على الذبح فوفى، حيث قال:(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات: 102]. كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه: 132]، (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم: 6]، ألا ترى أنهم أحق بالتصدّق عليهم؟ فالإحسان الديني أولى. وقيل: أَهْلَهُ أمته كلهم من القرابة وغيرهم؛ لأنّ أمم النبيين في عداد أهاليهم. وفيه أنّ من حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فانتظره سنةً)، عن أبي داود، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له بقيةٌ، ووعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاثٍ فجئت، فإذا هو في مكانه، فقال:((يا فتى، لقد شققت علي، أنا ها هنا منذ ثلاثٍ أنتظرك)).
قوله: (أنهم أحق بالتصدق عليهم)، روينا عن أبي داود والنسائي عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، قال رجلٌ: يا رسول الله، عندي دينارٌ. قال:((تصدق به على نفسك)). قال: عندي آخر. قال: ((تصدق به على ولدك)). قال: عندي آخر. قال: ((تصدق به على زوجتك)). قال: عندي آخر، قال:((تصدق به على خادمك)). قال: عندي آخر. قال: ((أنت أبصر)).
قوله: (وفيه أن من حق الصالح)، أشار إلى معنى الإدماج في هذا الوجه، وأن في وضع الأهل موضع الأمة إشارةً إلى الحض على النصح وإدخال الأجانب في زمرة الأهل والأقارب، وإذا كان حكم الأباعد بهذه المثابة، فكيف بالأقرباء؟
والمتصلين به، وأن يحظيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في شيء من ذلك.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم: 56 - 57].
قيل: سُمى إدريساً؛ لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل، وكان اسمه أخنوخ، وهو غير صحيح، لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل العجمة. وكذلك إبليس أعجمى، وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرّب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات. ويجوز أن يكون معنى (إِدْرِيسَ) في تلك اللغة قريبا من ذلك، فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. المكان العلى: شرف النبوّة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأوّل من خاط الثياب ولبسها، وكانوا يلبسون الجلود. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه يرفعه:((إنه رفع إلى السماء الرابعة)). وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إلى السماء السادسة. وعن الحسن رضى الله عنه. إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة. وعن النابغة الجعدي: أنه لما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره:
بلغنا السّماء مجدنا وسناءنا
…
وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إنه رفع إلى السماء الرابعة)، عن الترمذي، عن أنسٍ قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة))، وكذا في حديث المعراج، عن البخاري ومسلم.
قوله: (بلغنا السماء مجدنا) البيت، قبله:
قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلى أين يا أبا ليلى؟ » قال: إلى الجنة.
(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)[مريم: 58].
(أُولئِكَ): إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. و «من» في (مِنَ النَّبِيِّينَ) للبيان، مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)[الفتح: 29]؛ لأن جميع الأنبياء مُنعم عليهم. و"من"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له
…
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له
…
حكيمٌ إذا ما أوردا الأمر أصدرا
قيل: ((مجدنا)): مفعولٌ له. ((مظهراً))، أي: مصعداً. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بها قال: ((لا يفضض الله فاك))، وإنه نيف على مئةٍ وكان من أحسن الناس ثغراً، والله أعلم بصحته.
قوله: (فاك) أي: أسنان فيك.
قوله: (لأن جميع الأنبياء منعمٌ عليهم) تعليلٌ لجعل ((من)) للبيان لا للتبعيض، لما يلزم من الثاني خروج بعضهم من أن يكونوا منعماً عليهم، وقال تعالى:(ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ)[النساء: 69]، كذلك قوله:(وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وأَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح: 29]؛ لأن الضمير في (مِنْهُم) عائدٌ إلى قوله: (والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح: 29] إلى آخره، فإن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات لا بعضهم، وإن الله تعالى وعد الكل مغفرةً وأجراً عظيماً لا البعض.
الثانيةُ للتبعيض، وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبى نوح. وإبراهيم عليه السلام من ذرية من حمل مع نوح؛ لأنه من ذرية سام بن نوح، وإسماعيل من ذرية إبراهيم. وموسى وهارون وزكريا ويحيى من ذرية إسرائيل. وكذلك عيسى: لأنّ مريم من ذرّيته (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) يحتمل العطف على "مِن" الأولى والثانية. إن جعلت (الذين) خبرا لـ (أولئك) كان (إِذا تُتْلى) كلاما مستأنفا. وإن جعلته صفة له كان خبرا. قرأ شبل بن عباد المكي: (يُتلى)، بالتذكير؛ لأن التأنيث غير حقيقى مع وجود الفاصل. البكى: جمع باك، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد. عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نعم، المشار إليه بقوله:(أُوْلَئِكَ) بعض الأنبياء لا الكل، وهم المذكورون في هذه السورة، وقد أخبر عنهم بقوله:(فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم)[النساء: 69] وبين قوله: (مِّنَ النَّبِيِّينَ)[النساء: 69] فوجب أن يحمل التعريف في الخبر على الجنس للمبالغة، كقوله تعالى:(ذَلِكَ الكِتَابُ)[البقرة: 2]، أو أن يقدر مضافٌ بأن يقال: أولئك بعض الذين أنعم الله عليهم من النبيين.
قوله: (لقربه منه)، وفي ((جامع الأصول)): ولد إدريس وآدم حيٌّ قبل أن يموت بمئة سنة.
قوله: (جد أبي نوح) وهو نوح بن لمك. وقيل: ملكان بن متوشلخ بن إدريس.
قوله: ((ومِمَّنْ هَدَيْنَا) يحتمل العطف على ((من)) الأولى والثانية)، فالمعنى على الأول:(أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) وممن هدينا واجتبينا. وعلى الثاني: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) الذين هم بعض ذرية آدم وبعض من حملنا مع نوح، وبعض من هدينا واجتبينا. وعلى التقديرين قوله: ممن هدينا غير الأنبياء تنويهاً بشأنهم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المري رضى الله عنه: قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي:«هذه القراءة يا صالح، فأين البكاء؟ » وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا قرأتم سجدة "سبحان" فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن القرآن أنزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا» وقالوا: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها، فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة سبحان قال: اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ هذه، قال: اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اتلوا القرآن وابكوا). الحديث من رواية ابن ماجه، عن سعدٍ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نزل القرآن بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)).
قوله: (وعن صالح المري)، قال الحافظ إسماعيل بن محمدٍ صاحب ((سير السلف)): هو صالح بن بشير المري قارئ أهل البصرة أحد الزهاد، وكان إذا قص قال: هات جؤنة المسك والترياق المجرب، يعني القرآن، ولا يزال يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم: 59].
خلفه: إذا عقبه، ثم قيل في عقب الخير «خلف» بالفتح، وفي عقب السوء: خلف، بالسكون، كما قالوا «وَعيدٌ» في ضمان الخير، و «وعيد» في ضمان الشر. عن ابن عباس رضى الله عنه: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن إبراهيم ومجاهد رضى الله عنهما: أضاعوها بالتأخير. وينصر الأول قوله: (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ)[مريم: 60]، يعنى: الكفار. وعن علىٍّ رضى الله عنه في قوله: (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ): من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور. وعن قتادة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (خلفه: إذا عقبه). الراغب: خلف: ضد تقدم وسلف، والمتأخر لقصور منزلته. يقال: له خلفٌ، ولذلك قيل: الخلف: الرديء، والمتأخر لا لقصور منزلته، يقال له: خلفٌ، ويقال: سكت ألفاً ونطق خلفاً. ويقال: تخلف فلانٌ فلاناً: إذا تأخر عنه، وإذا جاء خلف آخر، وإذا قام مقامه، ومصدره الخلافة، وخلف خلافةً، بفتح الخاء، أي: فسد، فهو خالفٌ رديءٌ أحمق، ويعبر عن الرديء ب ((خلف))، نحو:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ)[مريم: 59].
قوله: (وينصر الأول قوله: (إلاَّ مَن تَابَ وآمَنَ))، أي: ينصر الوجه الأول وهو أن يراد بالقوم: اليهود، وب (أَضَاعُوا الصَّلاةَ) تركوها لا أخروها عن وقتها؛ لأنه لا يقال: آمن، إلا لمن كان كافراً. ويجوز أن يحمل على التغليظ، كما قال تعالى:(مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ)[آل عمران: 97]، وبهذا التأويل يحسن قول قتادة: هو في هذه الأمة، أي: هذا الكلام نازلٌ في شأن أمة محمدٍ صلوات الله عليه، ولأن إضاعة الصلاة في مقابلة محافظتها في قوله:(والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[المعارج: 34] والمحافظة كما قال: أن لا يسهوا عنها، ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها، فإضاعتها ما يضادها.
قوله: (وركب المنظور)، أي: الفرس والبغل لا للجهاد، بل لأجل ما ينظر إليه، قال ابن نباتة:
هو في هذه الأمة. وقرأ ابن مسعود والحسن والضحاك رضى الله عنهم: (الصلوات)، بالجمع.
كلُّ شرٍّ عند العرب: غىّ، وكل خير: رشاد. قال المرقش:
فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره
…
ومن يغو لا يعدم على الغى لائما
وعن الزجاج: جزاء غىّ، كقوله تعالى:(يَلْقَ أَثاماً)[الفرقان: 68]، أى: مجازاة أثام. أو: غيَّا عن طريق الجنة. وقيل: «غىّ» واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها. وروي الأخفش: (يُلْقُونَ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يكمل الطرف المحاسن كلها
…
حتى يكون الطرف من أسرائه
قوله: (فمن يلق خيراً) البيت. قبله:
أمن حلمٍ أصبحت تنكت واجماً
…
وقد تعتري الأحلام من كان نائماً
نكت في الأرض: إذا جعل يخط وينقر، وهو كنايةٌ عن المهتم، والواجم: الحزين، يقول: أمن أجل أضغاث أحلام تصبح حزيناً تنكت في الأرض، ومن كان نائماً تعتريه الأحلام، ثم قال:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
…
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي: ومن يفعل الشر لا يعدم من يلومه عليه، ((ومن يغو))، بالكسر، من: غوي، وبالفتح، من: غوى يغوي غياًّ وغوايةً فهو غاوٍ وغوٍ.
قلت: ويجوز أن يكون التقابل معنوياًّ، كقول المتنبي:
لمن يطلب الدنيا إذا لم يرد بها
…
سرور محبٍّ أو مساءة مجرم
(إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً)[مريم: 60].
قرئ: (يُدْخلون)، و (يَدْخلون) أى: لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه، بل يضاعف هم، بيانا لأن تقدّم الكفر لا يضرهم إذا تابوا من ذلك، من قولك: ما ظلمك أن تفعل كذا؟ بمعنى: ما منعك. أو لا يظلمون البتة، أى شيئا من الظلم.
(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا)[مريم: 61].
لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، كقولك: أبصرت دارك القاعة والعلالي. و «عدن» معرفة علم، بمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا. فينة، وسحر، وأمس -فيمن لم يصرفه-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: ((يدخلون)) و (يَدْخُلُونَ))، ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وأبو بكرٍ: على صيغة المفعول، والباقون: على صيغة الفاعل.
قوله: (بياناً لأن تقدم الكفر لا يضرهم)((بياناً)): نصب على أنه مفعولٌ له، واللام في ((لأن)) صلة ((بياناً)). المعنى: قال تعالى: (ولا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) ليبين أن تقدم الكفر لا يضرهم، وأنه تعالى لا يمنع من جزاء أعمالهم شيئاً إذا تابوا من الكفر كما لم يمنع المسلم الأصلي.
قوله: (أو: لا يظلمون البتة)، والتأكيد يستفاد من جعل (شَيْئًا) مفعولاً مطلقاً، ولهذا قال:(شَيْئًا) من الظلم، وعلى الأول: مفعولٌ به، والظلم متضمنٌ لمعنى النقص.
قوله: (لما كانت الجنة مشتملةً على جنات عدنٍ أبدلت منها)، وهو من بدل البعض من الكل لاستشهاده بقوله:((أبصرت دارك القاعة والعلالي)) لأن القاعة والعلالي بعض الدار، والعلالي: جمع عليةٍ، وهي الغرفة، وهي فعلية، أصله عليوة من علوت. وقيل: هي علية بالكسر، على فعلية، يجعلها من المضاعف. قال: وليس في الكلام فعليةٌ.
أعلاماً لمعاني: الفينة، والسَّحر، والأمس. فجرى مجرى العدن لذلك. أو هو علم لأرض الجنة، لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها ب (الَّتِي). وقرئ:(جنات عدن)، و (جَنّةُ عَدنٍ) بالرفع على الابتداء. أى: وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة. أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. أو بتصديق الغيب والإيمان به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال في ((الأساس)): ولهم قاعةٌ واسعةٌ، وهي عرصة الدار، وأهل مكة يسمون أسفل الدار: القاعة، ويقولون: فلانٌ قعد في العلية، ووضع قماشه في القاعة، وعليه قول القاضي، حيث قال:(جَنَّاتِ عَدْنٍ): بدلٌ من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها.
قوله: (أعلاماً لمعاني الفينة)، قال ابن الحاجب: وضعوا للأوقات أعلاماً كما وضعوا للمعاني الموجودة، وإن لم تكن الأوقات شيئاً موجوداً إجراءً لها مجرى الأمور الموجودة، ولهذا قال: لمعاني الفينة. وقال أيضاً: إن وضع الأعلام للأوقات كوضعها في باب أسامة، لا كوضعها في باب زيدٍ وعمرو؛ لأنه يصح استعمالها لكل فردٍ من الأوقات المخصوصة، كما يصح استعمال أسامة وفينة وقتك الذي أنت فيه.
وقيل: ليس المراد بها الآن، وإنما يراد بها الساعة. يقال: فلان يأتي فينةً بعد فينة، أي: ساعةً بعد ساعة، وقال الجوهري: الفينات: الساعات، يقال: لقيته الفينة بعد الفينة، أي: الحين بعد الحين.
قوله: (وهي غائبةٌ عنهم)، يريد أن قوله:(بِالْغَيْبِ) إما: حالٌ من المفعول الأول ل ((وعد))، وهو الضمير الراجع إلى ((جنات)) وهو محذوفٌ، فالتقدير: وعدها وهي غائبةٌ عنهم، أو: حالٌ من المفعول الثاني وهو ((عبادة)) فالتقدير: وهم غائبون عنها، أو: صلةٌ
قيل في (مَاتِيًّا) مفعول بمعنى فاعل. والوجه: أنّ الوعد هو الجنة وهم يأتونها. أو هو من قولك: أتى إليه إحسانا، أى: كان وعده مفعولا منجزا.
(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)[مريم: 62].
اللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه:(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)[الفرقان: 72]، (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لـ ((وعد)) بتقدير المضاف، والباء للسببية، أي: وعدها عباده بسبب تصديقهم الغيب وإيمانهم به.
قوله: (قيل في: (مَاتِيًا) مفعولٌ بمعنى: فاعل)؛ لأن وعد الله يأتي ولا يؤتى.
الراغب: مأتياًّ: مفعولٌ من أتيته. وقال بعضهم: معناه آتياً، وليس كذلك، بل يقال: أتيت الأمر، وأتاني الأمر، ويقال: أتيته بكذا وآتيته كذا، قال تعالى:(وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا)[البقرة: 25](وآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)[النساء: 54].
قال أبو البقاء: و (مَاتِيًا) على بابه؛ لأن ما تأتيه فهو يأتيك، وقال: الوجه أن الوعد هو الجنة، والجنة تؤتى؛ لأن المكلفين يأتونها.
الأساس: أتى إليه إحساناً: إذا فعله، ووعد الله مأتيٌّ، وأتيت الأمر من مأتاه، أي: من وجهه. قال: البحتري:
أعد سنيني فارحاً بمرورها
…
ومأتى المنايا من سني وأشهري
قوله: ((وإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[الفرقان: 72])، قال: إذا مروا بأهل اللغو
لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص: 55]! نعوذُ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا. أى: إن كان تسليم بعضهم على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادى قوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
…
بهنّ فلول من قراع الكتائب
أو لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، على الاستثناء المنقطع. أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة. ودار السلام: هي دار السلامة، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
من الناس من يأكل الوجبة. ومنهم من يأكل متى وجد. وهي عادة المنهومين. ومنهم من يتغدى ويتعشى، وهي العادة الوسطى المحمودة، ولا يكون ثم ليل ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتغلين به مروا مُعرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم.
الراغب: اللغو من الكلام: ما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن رويةٍ وفكر، فيجري مجرى اللغا، وهو: صوت العصافير ونحوها من الطيور. قال أبو عبيدة: يقال: لغوٌ ولغاً.
قوله: (لولا ما فيه من فائدة الإكرام)، اعلم أن أصل السلام: الدعاء بالسلام. قال المبرد: هو دعاء الإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه ويتخلص من المكروه، ثم فشا استعماله في الإكرام حتى لا يفهم غيره، ولهذا لو تركتها لحمل صاحبك على الإهانة.
قوله: (الوجبة) الجوهري: الموجب: الذي يأكل في اليوم والليلة مرةً. يقال: فلانٌ يأكل وجبةً، وعنه: النهمة: بلوغ الهمة في الشيء، وقد نهم فهو منهومٌ، أي: مولعٌ به، والنهم بالتحريك: إفراط الشهوة في الطعام.
قوله: (وهي العادة الوسطى المحمودة)، يريد أن أكل الوجبة من طرف التفريط
نهار، ولكن على التقدير، ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودُروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، تريد: الديمومة، ولا تقصد الوقتين المعلومين.
(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)[مريم: 63].
(نُورِثُ) وقرئ: (نورّث)، استعارة، أى: نبقى عليه الجنة كما نُبقى على الوارث مال المورّث، ولأنَّ الأتقياءَ يلقَوْن ربَّهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفى. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأكل على الدوام إفراطٌ، والوسطى هي المحمودة، والمراد بمن يأكل الوجبة: المسكين الذي يتقنع بالبُلغةِ دون العارف الذي يتعانى التقشف.
قوله: (ولأن المتنعم عند العرب) عطفٌ على قوله: "ولكن على التقدير"، أي: لا يكون ثمة ليلٌ ولا نهار، لكن يُقدران على ما أُلف في الدنيا أو لا يُقدرُ ذلك، فيكونُ كنايةً عن مجردٍ التنعم والتترف؛ لأن المتنعم عند العرب: من جد غداءً وعشاءً.
قوله: (ولأن الأتقياء يلقون ربهم): عطفٌ على قوله: "أي: نُبقي عليه الجنة" من حيث المعنى، فعلى الأول:(نُورِثُ): استعارة لنُبقي، كقوله صلواتُ الله عليه:"واجعله الوارث منا" أي: أبقهما، وعلى الثاني: أعمالهم وثمرتُها بمنزلة المورث وتركته كما أن المورث إذا قضى نحبه يبقى للوارث مالُه، كذلك أعمالهم تنقضي وتبقى ثمرتها لهم، وهي الجنة، وعلى الأول: استعارةٌ تبعية، على الثاني: تمثيلية.
(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)[مريم: 64].
(وَما نَتَنَزَّلُ): حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أنه احتبس أربعين يوما. وقيل: خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أبطأت حتى ساء ظنى واشتقت إليك". قال: إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى. والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله:
فلست لإنسىّ ولكن لملأك
…
تنزّل من جو السّماء يصوب
لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله، وعلى ما يراه صوابا وحكمة، وله ما قدامنا (وَما خَلْفَنا): من الجهات والأماكن (وَما بَيْنَ ذلِكَ): وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث ويتجدد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فلست لإنسيٍّ) البيت، أي: لست ابناً لإنسيٍّ، و"يصوبُ": استئنافٌ على سبيل البيان والتعليل، وفي معناه قولُ صواحب يوسف:(مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)[يوسف: 31].
في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة، وأطلق لنا الإذن فيه؟ ! وقيل: ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وهو أربعون سنة. وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها. وقيل: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى: أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل: معنى (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا): وما كان تاركا لك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: معنى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً): وما كان تاركاً لك): عطفٌ على قوله: "لا تجوز عليه الغفلة والنسيان"، وقوله:"وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة": عطفٌ على قوله: (وَمَا نَتَنَزَّلُ) حكاية قول جبريل عليه السلام.
نقل الإمام عن القاضي من المعتزلة، أنه رد هذا القول قوال: هذا مخالفٌ للظاهر؛ لأن التنزيل بنزول الملائكة أليقُ، والأمر في قوله:(بِأَمْرِ رَبِّكَ) بالتكليف أنسبُ، ولأن الخطاب هنا من جماعةٍ لواحد، وذلك لا يليقُ بمخاطبة بعض أهل الجنة لبعض.
وقلتُ: وكلا الوجهين له اعتباراٌ في النظم. أما الأول: فلأنه صلواتُ الله عليه حين سُئل ن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والرُّوح، وأبطأ عليه الوحيُ حتى لم يدر كيف يجيب، ثم أنزل الله الأجوبة إكراماً له وأراد الله تعالى أن يفرق هذه الأحوال في السور الثلاث، أودع سؤال الروح في بني إسرائيل:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء: 85]، وسؤال قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فيما يليها، وأودع ذكر استبطاء الأجوبة في هذه السورة، وللاختصاص أسرارٌ لا يعلمها إلا الله، ومن أيده بروح القُدس. وأما الوجه الثاني فترتيبه ما ذكره المصنف بقوله:"وما ننزلُ الجنة إلا بان من الله علينا" إلى آخره.
كقوله تعالى: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)[الضحى: 3]، أى: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحى فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة. وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أى: وما ننزل الجنة إلا بأن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازى عليها، ثم قال الله تعالى- تقريرا لقولهم-: وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين غافلا عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذى ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟ ! ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:
فحين عرفته على هذه الصفة، فأقبل على العمل واعبده: يثبك كما أثاب غيرك من المتقين. وقرأ الأعرج رضى الله عنه: (وما يتنزل)، بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحى. وعن ابن مسعود رضى الله عنه:(إلا بقول ربك).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (السالفة والمترقبة والحاضرة) قال أبو علي: هذه الآية تدل على أن الأزمنة ثلاثةٌ: مستقبلٌ، وهو قوله:(مَا بَيْنَ أَيْدِينَا)، وماضٍ وهو:(وَمَا خَلْفَنَا)، وحالٌ وهو قوله:(وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ).
قوله: (واعبدهُ يثبك كما أثاب غيرك من المتقين)، أشار إلى ارتباط الأمر بالعبادة بكلام أهل الجنة، وأما اتصاله بحديث نُزولِ جبريل عليه السلام فكأن جبريل عليه السلام يقول:(وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ)؛ لأنه الحكيم الذي يعرفُ المصالح كلها والمحيط بكل شيء علماً، ونحن لا نقدم على فعل إلا بأمره وإذنه؛ لأنه المالك المتصرف، وليس لنا إلا الطاعة والامتثال لأمره، فعليك أيضاً لزوم العبادة والصبر عليها، لا التصرف؛ لأنه لا ملجأ ولا مفزع إلا إليه، فهل تعلمُ له سمياً يُلجأُ إليه.
قوله: ((وَمَا نَتَنَزَّلُ) بالياء على الحكاية عن جبريل)، أي: يكونُ كلامُه ومقولُه وذلك بأن يقول: يا محمد، وما يتنزل الوحي إلا بأمر ربك.
يجب أن يكون الخلاف في النسى مثله في "البغي".
(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مريم: 65].
(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ): بدل من (ربك)، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أى: هو رب السماوات والأرض (فَاعْبُدْهُ)، كقوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة. فإن قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يجب أن يكون الخلاف في "النسي" مثله في "البغي")، وقد سبق أنه فعولٌ أو فعيل.
قوله: (وقائلةٍ: خولان فانكح فتاتهم)، تمامه:
وأُكرومةُ الحيين خُلوٌ كما هيا
"خولانُ": اسم قبيلة، و"الأكرومةُ" من الكرم، كالأعجوبة من العجيب، و"الخلوُ": التي لا زوج لها، أي: الخلية، كنى به عن كونها مطلقةً، "الحيينِ": حي أبيها وحيُّ أمها.
ورفع بعد القول الجملة من المبتدأ والخبر، يقولُ: رب قائلةٍ، قالت: هؤلاء خولان فانكح فتاتهم. فأجبتها: كيف أتزوج والحال أن أكرومةٌ الحيين خلوٌ لا زوج لها وهي أولى بأن أتزوجها فالفاء في: (فَاعْبُدْهُ) كالفاء في البيت، وهي دلت على أن وجود هذه القبيلة علةٌ لأن يُتزوج منها لحسن نسائها وشرفها. وفيه إشارةٌ إلى ترتب الحكم على الوصف المناسب.
قوله: (وعلى هذا الوجه، يجوز أن يكون (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة)، وعلى الوجه كان قوله:(وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ) حكاية
هلا عديَّ (اصْطَبِرْ) بـ"على" التي هي صلته، كقوله تعالى:(وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول المتقين حين يدخلون الجنة، وقوله:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) من كلام الله تعالى تقريراً لقولهم. وفيه أنه إذا جُعل بدلاً من (رَبُّكَ)، لا يجوز أن يكون (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) من كلام المتقين، بل إما من كلام الله تعالى أو كلام الملائكة؛ لأن المتقين إذا قالوا:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) ويكون قوله: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) بدلاً منه، يبقى قوله:(فَاعْبُدْهُ) لا متعلق له، فإنه كما تقرر حكمٌ مرتبٌ على الوصف السابق، ولا جائز أن يكون من تتمة كلام المتقين؛ لأن الجنة ليست دار تكليف وعبادة. وأما إذا جُعل جملة مستقلة مقتطعةً عن كلام المتقين يترتبُ عليها (فَاعْبُدْهُ) ويصحُّ؛ اللهم إلا أن يُجعل الفاءُ جزاء شرطٍ محذوف، ويكون من كلام رب العزة، أي: لما عُرفَ من أحوال أهل الجنة وأقوالهم على هذه الصفة فأقبل على العمل واعبده.
قال صاحب "التقريب": وقيل: هي حكاية قول المتقين، أي: وما ننزلُ الجنة إلا بإذن من الله علينا بثواب أعمالنا، وأمرنا بدخولها، وقرر الله ذلك، أي: وما كان ربُّك نسياً لأعمال المتقين. وفيه حزازةٌ لقوله: (بِأَمْرِ رَبِّكَ) دون ربنا، إلا أن يُخاطبوا به جبريل حين دُخولها.
وقلتُ: المرادُ أنهم بسرورهم وتبجحهم بما فازوا به من الكرامة والنعيم يُقبلُ بعضهم على بعض يبشرون، وهو أبلغ من لو قيل ربُّنا؛ لأن دلك على أن البشارة بلغت بحيث لم يختص بها مبشرٌ دون مبشَّر، بل كل من يتأتى منه البشارة فهو مبشرٌ.
قوله: (هلا عُدي "اصطبر" بـ"علي"؟ ) يعني: "اصطبر" يُعدى بـ"على" لا باللام، فلمَ خُولف؟ وأجاب أن التركيب من باب الاستعارة، وفيه تضمين معنى الثبات، شُبهت العبادة بالقرن، وهو كفؤك في الشجاعة، ثم أُمر المكلفُ بالمكابدة معها بما يؤمرُ به من يريد مدافعة قرنه ومزاولته في الحرب، وهو كقوله: اصطبر لهُ، وهذا هو المرادُ من قوله:"جُعلت العبادةُ بمنزلة القِرن". ولما ضمن "اصطبر" معنى "اثبُت" عُديَ تعديته، أي:
132]؟ قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أى: اثبت له فيما يورد عليك من شداته أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اثبُت له صابراً، وإليه الإشارة بقوله: اثبُتْله فيما يوردُ عليك من شداته، أي: حملاتِه. وفيه لمحةٌ من بارقة "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، ما رويناهُ عن مسلمٍ ومالك والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغُ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباطُ فذلكم الرباط"، أي: ذلكم المجاهدة الكاملة التي تستحق أن تُسمى مجاهدة، وكأن غيرها من المجاهدات بالنسبة إليها كلا مُجاهدةٍ.
قال القاضي: إنما عُديَ باللام لتضمنه معنى الثبات
وذكر الكواشي ما ذكره المصنف بعينه، ثم قال: ويجوز أن يُراد: اصطبر على الشدائد لأجل العبادة، أي: للتمكن من الإتيان بها.
قوله: (عُداتك) الجوهري: العدا، بكسر العين: الأعداء، يقال: قومٌ أعداءٌ وعداً بكسر العين، فإذا دخلت الهاءُ قلت: عداةٌ بالضم.
قوله: (الأغاليط). الجوهري: الأغلوطة: ما يُغلطُ به من الرسائل، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم
وعن احتباس الوحي عليك مدَّة، وشماتة المشركين بك. أى: لم يسم شيء بالله قط، وكانوا يقولون لأصنامهم: آلهة، والعزى إله. وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يسمى أحد الرحمن غيره. ووجه آخر: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتدّ بها كلا تسمية. وقيل:
مثلا وشبيها، أى: إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها.
(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أئِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم: 66 - 67].
يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة. فإن قلت: لم جازت إرادة الأناسى كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم، كما يقولون: بنو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن الأغلوطات، والمراد بها هاهنا: ما سألته اليهود عن قصة الكهف وذي القرنين والروح.
قوله: (هل تعلم من سُمي باسمه على الحق؟ ) أي: يستحقُّ أن يسمى بـ"إله"؛ لأن الإله ينبغي أن يكون خالقاً رازقاً لعابده مُثيباً، وما سُمي من دونه بإلهٍ تسميته باطلة، كقوله تعالى:(إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)[النجم: 23].
فلان قتلوا فلانا، وإنما القاتل رجل منهم. قال الفرزدق:
فسيف بنى عبس وقد ضربوا به
…
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
فقد أسند الضرب إلى بنى عبس مع قوله «نبا بيدي ورقاء» وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي.
فإن قلت: بم انتصب (إِذا) وانتصابه بـ (أخرج) ممتنع لأجل اللام، لا تقول: اليوم لزيد قائم؟ قلت:
بفعل مضمر يدل عليه المذكور. فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطى معنى الحال، فكيف جامعت حرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فسيفُ بني عبس) البيت، ورقاءُ عبس ضرب رأس خالدٍ ونبا السيفُ عن الضربة، أي:" لم يثبت، قال صاحب "الانتصاف": التبس على الزمخشري إرادة العموم، فقال: أراد الله بالإنسان العموم، ومعناه: يريد الله نسبة الشك والكفر إلى كل فردٍ فردٍ من أفراد الإنسان، وقد صرح بأن الناطق بكلمة الشك بعضُ الجنس، ففي عبارته خللٌ، والصحيح أن يقال: يحتمل أن يكون التعريف جنسياً، فيتناول العموم، والمراد الخصوص، ويحتمل أن يكون عهداً، فيكون في أول وهلة خاصاً.
وقلتُ: ما لبس عليه إرادة العموم لما لا يحتملها؛ لأن دليل الخصوص عندهم مستقلٌّ بنفسه كما سبق في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)[البقرة: 228]، فقوله:(يَقُولُ) لا يخصص الإنسان، لأنه مستبدٌّ به، بل يفيده، ما ذهب إليه بأمر ثالثٌ، وفيه تهجيرُ ما وُجد في بني آدم من القول الشنيع، نحو قوله تعالى:(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَاتُمْ فِيهَا)[البقرة: 72]، قال: خُوطبت الجماعةُ لوجود القتل فيهم.
قوله: (لا تقولُ: اليوم لزيدٌ قائمٌ) لأن لام الابتداء تمنع ما بعدها عن العمل فيما قبلها.
قوله: (بفعل مضمر يدل عليه المذكور)، قال أبو البقاء: أئذا العاملُ فيها فعلٌ دل عليه
الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف. و «ما» في (أءِذا ما) للتوكيد أيضا، فكأنهم قالوا: أحقا أنا سنُخرج أحياءً حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ ! على وجه الاستنكار والاستبعاد. والمراد الخروج من الأرض، أو من حال الفناء. أو هو من قولهم: خرج فلان عالما، وخرج شجاعا: إذا كان نادرا في ذلك، يريد: سأخرج حيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكلامُ، أي: أُبعثُ إذا، ولا يجوز أن يعمل فيها (أُخرج)؛ لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها.
قوله: (لم تُجامعها إلا مخلصةً للتأكيد)، قال ابن الحاجب في "الأمالي": هذه اللامُ لامُ تأكيد، وليست لام ابتداء، وإلا وجب أن يُذكر معها الابتداء.
فإن قيل: قدرِ المبتدأ محذوفاً وأبقِ اللام داخلةً على الخبر، قلت: إن اللام مع المبتدأ كـ"قد" مع الفعل و"أن" مع الاسم، فكما لا يُحذف الفعلُ والاسم ويبقى"قد" و"أن"، فكذلك هذا، وهذا التقدير يخالف تقدير المصنف في سورة (وَالضُّحَى) حيث قدرَ:"ولأنتَ سوف يُعطيك".
قوله: (و (مَا) في (أَئِذَا مَا) للتوكيد أيضاً)، وذلك أن حروف الصلات كلها وُضعت لتوكيد مضمون الكلام، فقد ضُمت مع اللام التوكيدي، ولذلك قال:"أيضاً".
قوله: (أحقاً أنا سنُخرج أحياءً؟ )، قال المرزوقي: قال سيبويه: "أحقاً؟ " منصوبٌ على الظرف، كأنه قال: أفي الحق ذلك وإنما جاز ذلك لأنهم يقولون: أفي حق كذا، أو: في الحق كذا؟ فنصبوه على تلك الطريقة، والمعنى: أفي الحق أنا سنُخرج أحياء ونحوه: عندي إنك قائمٌ، وإتيانُ ضمير الجماعة، وفي التنزيل مفردٌ، إيذانٌ بن المراد بالإنسان: الجنس.
قوله: (خرج فلانٌ عالماً، وخرج شجاعاً: إذا كان نادراً). الأساس: ومن المجاز: خرج
نادرا! على سبيل الهزؤ. وقرأ الحسن وأبو حيوة: (لسوف أخرج). وعن طلحة بن مصرف رضى الله عنه: (لسأخرج)، كقراءة ابن مسعود رضى الله عنه:(ولسيُعطيك)[الضحى: 5]. وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم، فهو كقولك للمسئ إلى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه: الواو عطفت (لا يَذْكُرُ) على (يَقُولُ)، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف، يعنى: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى فإن تلك أعجب وأغرب وأدل على قدرة الخالق؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلانٌ في العلم والصناعة خروجاً: إذا نبغَ، وخرجهُ فلانٌ فتخرج. قال زهيرٌ يصفث الخيل:
وخرجها صوارخ كل يوم
…
فقد جعلت عرائكها تلين
أراد أنه أدبها كما يُخرجُ المعلم المتعلم.
قوله: (وتقديمُ الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار) يعني: لما كان الوقت الذي تكون الحياة فيه منكرةً هذا الوقت، قرن به حرف الإنكار، ويمكن أن يُقال: دل إيلاءُ الظرف همزة الإنكارن وتقديمه على عامله، أن الكلام في الظرف، وأن المنكر وقت حياتهم بعد الموت، فكأنهم أنكروا مجيء وقت فيه حياةٌ بعد الموت، يعني: أن هذا الوقت لا يكون موجوداً، وهو أبلغُ من إنكار الحياة بعد الموت، لما يلزمُ إنكاره على وجه بُرهاني.
قوله: (أحين تمت عليك نعمةُ فلانٍ أسأت إليه؟ )، وأنشد في معناه:
أحين أتى أن أجتني ثمر الرضا
…
أُرد على نزرٍ من العيش يُرضخ
قوله: (الواو عطفت (لا يَذْكُرُ) على (يَقُولُ) ووُسطت همزةُ الإنكار)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأن الهمزة ليست من المعطوف عليه، لتأخُّرها عنهُ، ولأنه كيفَ يدخُلُ الإنكارُ على "يقول" مع تأخر الهمزة عنه؛
حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف. ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته. وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه. وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها، وردها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق. وقوله تعالى:(وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى، وكذلك قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولأنه يبطل صدريتها، فالأولى أن يقال:(لا يَذْكُرُ) عطفٌ على (يَقُولُ) مُقدراً بعد الهمزة لدلالة الأول عليه، فيرتفع الإشكال.
وقلتُ: قد سبق مراراً وأطواراً أن هذه الهمزة مقحمةٌ لتأكيد الإنكار السابق، وأوردنا فيه كلاماً من جانب أبي إسحاق الزجاج. وقال القاضي: وتوسيطُ همزةِ الإنكارِ بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن يتقدمها، لا يدل على أن المنكر بالذات هو المعطوفُ، وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه؛ لأنه لو تذكر وتأمل فيما أنكر ما نشأ ذلك منه.
قوله: ((وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى)، قال صاحب "الانتصاف": إعادة المعدوم جائزةٌ عقلاً واقعةٌ نقلاً، ووافقت المعتزلةُ لكن زعموا أن المعدوم له ذاتٌ ثابتةٌ في العدم، وتُسمى شيئاً، وليس عدماً صرفاً قبل الوجود، فكأنهم لولا ذلك لقالوا بقول الفلاسفة خذلهم الله في نفي إعادة المعدوم، والمطابق للآية معتقدنا، إذ النشأة الأولى لم يسبقها وجودٌ، ولا كان المنشأ شيئاً بخلاف النشأة الثانية، فإنه سبق لها وجود، وكان شيئاً، فظهر الفرق بين النشأتين، والمعتزلي إن قال: إن الأجسام يُعدمها الله ثم يوجدها وهو حقٌّ، لكن لا يتمُّ عندهم فرقٌ بين النشأتين، فإن المعدوم فيها كان شياً، وإن قالوا: لا تنعدمُ
عَلَيْهِ) [الروم: 27]، على أن ربَّ العزة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال ولا استعانة بحكيم، ولا نظر في مقياس، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته، وكشفا عن صفحة جهله. القراء كلهم على (لا يَذْكُرُ) بالتشديد إلا نافعا وابن عامر
وعاصما رضى الله عنهم، فقد خففوا. وفي حرف أبىّ:(يتذكرُ). (مِنْ قَبْلُ): من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه.
(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) [مريم: 68 - 70].
في إقسام الله تعالى باسمه -تقدست أسماؤه- مضافا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى: (فَوَرَبِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأجسام، لكن تجتمعُ وتتفرقُ كما قال الزمخشريُّ فقد أبعدوا ومالوا إلى مهاوي الفلاسفة.
وتفطن الزمخشري بأن القول بإعدام الأجسام وإعادتها يُبطلُ الفرق بين النشأتين، فلم يُطلقه، والقرآن قد نطق به، فالتزم أن الجسام لا تنعدم ليتميز له الفرق بين النشأتين، لأنها على هذا جمعٌ وتأليفٌ، بخلاف الأولى، فإنها إيجادٌ، فهرب من القطر فوقع تحت الميزاب، والفرقُ بين النشأتين أن الأولى أصعبُ بالنسبة إلى قياس العقل، إلا أن ذلك راجعٌ إلينا وإلا فالكل إلى قدرته سواء.
قوله: (تفخيمٌ لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: الإضافة إضافة تشريف، كبيت الله وناقةِ الله، ثم إذا ضُم معها القسمُ يزداد التفخيم، وأنه بمكان له مدخلٌ في الإقسام به من الفضائل النابهة والكرامة الفائقة، ثم في إيراد هذا القسم بين السبب والمسبب تأكيدٌ بليغٌ في شأن الوعيد، وذلك أنهم لما أنكروا الحشر بقولهم: (أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) بعد
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) [الذاريات: 23]، والواو في:(وَالشَّياطِينَ) يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى "مع"، وهي بمعنى «مع» أوقع. والمعنى: أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت: هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسىُّ على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت: إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين. فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت: لم يفرّق بينهم وبينهم في المحشر، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطة وسرورا إلى سرور، ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم. فإن قلت: ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت: أما إذا فسر الإنسان بالخصوص، فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم، غير مشاة على أقدامهم، وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو. قال الله تعالى:(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً)[الجاثية: 28]، على العادة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معرفتهم أنهم لم يكونوا شيئاً فخلقهم وجعلهم بشراً سويا، رتب عليه الوعيد على سبيل التوكيد بقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ
…
) الآية.
قوله: (يعتلون). الأساس: عتلهُ: إذا أخذ في تلبيته فجره إلى حبس ونحوه (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ)[الدخان: 47].
قوله: (والمناقلات). الأساس: ومن المجاز: ناقل الشاعرُ الشاعرَ: ناقضهُ، ورجلٌ نقلٌ وذو نقلٍ: إذا كان جدلاً. وفي "الأساس": دهمتهم الخيلُ: غشيتهم.
من تجاثي أهلها على الرُّكب، لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحُبَا وخلاف الطمأنينة. أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، فيحبون على ركبهم حبوا. وإن فسر بالعموم، فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم، على أن (جثيا) حالٌ مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين؛ لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التوصل إلى الثواب والعقاب. والمراد بالشيعة -وهي «فعلة» كفرقة وفتية- الطائفة التي شاعت، أى: تبعت غاويا من الغواة. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً)[الأنعام: 159]، يريد: نمتازُ من كل طائفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإطلاقِ الحُبا) كنايةٌ عن خلاف الطمأنينة، ولذلك عطفه عليه على سبيل التفسير.
قوله: (وإن فُسر بالعموم) وما يشعر بأن إرادة الخصوص أولى بإتيان "إذْ" للتحقيق في القسم الأول، وأن للشك في الثاني، ولأن الضمير في:(لَنَحْشُرَنَّهُمْ) عائدٌ إلى الإنسان المنكر للبعث في قوله: (أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ)؛ لأنه مظهرٌ وُضع موضع المضمر؛ لأن المراد منه الإنسان المذكور في قوله: (يَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً).
قوله: (على أن (جِثِيّاً) حال مقدرةٌ) يعني: أن قوله: (لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً) إذا فُسر بالخصوص، أي: بالكفار، فيكون حالاً غير مقدرةٍ لاستمرار جثوهم من المحشر على شاطئ جهنم؛ لأن أهل المحشر كلهم يجثون على ركبهم قلقاً واضطرابا أو قلة طاقة وعجزاً. وإذا فُسر بالغموم كان: حالاً مقدرةً؛ لأن غير الكفار لا يستمر جثوهم إلى الإحضار إلى شاطئ جهنم، بل نهم بعد الجثو في المحشر يمشون إلى شاطئ جهنم بأرجلهم، ثم عند الإحضار يجثون، دل على هذا التقدير عطفُ (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ) على (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) وأنه لابد من الجثو في المحشر لقوله:(وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً)[الجاثية: 28].
قوله: (الطائفة التي شاعت، أي: تبعت غاوياً)، قاله بناءً على العرف، وإلا فالشيعة
من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم. فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب. نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم. أو أراد بالذين هم أولى به صليا: المنتزعين كما هم، كأنه قال: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصُّلى من بين سائر الصالين، ودركاتُهم أسفل، وعذابهم أشدّ. ويجوز أن يريد بأشدّهم عتيا: رؤساء الشيع وأئمتهم، لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا ومضلين. قال الله تعالى:(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)[النحل: 88]، (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت: 13]. واختلف في إعراب (أَيُّهُمْ أَشَدُّ):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لغةً: الأتباع. الجوهري: شيعةُ الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحدٌ يتبع بعضهم رأي بعضٍ فهم شيعٌ.
قوله: (ويجوز أن يريد بأشدهم عتيا: رؤساء الشيع)، يريد أن (أَيُّهُمْ أَشَدُّ)، يجوز أن يُحمل على الاستفهام، فيفيد العموم في الجنس باعتبار أفراده، فالمعنى: يمتازُ من كل طائفةٍ أعصاهم فأعصاهم، والمراد بـ (بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً): المنتزعون إما باعتبار الترتيب السابق، كما يقالُ: يقدم أولاهم للعذاب فأولاهم، أو باعتبار المجموع، كما قال:"المنتزعين كما هم"، فيكون قوله:"أو أراد بالذين" عطفاً على قوله: "فإذا اجتمعوا"، فوضع المُظهر موضع المضمر، وأن يُحمل على الموصولة، ويكون التعريفُ للعهد، والإشارة به إلى أشخاص معينين وهم الرؤساء.
قوله: (واختُلف في إعراب: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ))، قال ابن الحاجب في "الأمالي": مذهبُ الخليل: أنه مرفوعٌ على الحكاية، أي: لننزعن الذي يُقال فيه: أيهم أشدُّ فعلى هذا (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) استفهاميةٌ، ولذلك قدر القول ليصح وقوع الاستفهام بعده. ومذهب سيبويه: أن (أَيُّهُمْ) مبنيٌّ على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب، فقيل: أيهم هو أشدُّ، فعلى هذا هي موصولةٌ بمعنى الذي منصوبٌ مفعول (لَنَنزِعَنَّ)، هذا هو الصحيح؛ لأنه يلزمُ من قول الخليل إما حذفُ أشياءَ كثيرةٍ، أو حذفُ الصلةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والموصول، فهو بعيدٌ. وأيضاً، القولُ الذي يصحُّ حذفُه قولٌ مفردٌ غير واقعٍ صلة الموصول، نحو قوله تعالى:(وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)[الأنعام: 93] إلى غيرها، ولأن المعنى لا يستقيم إلا أن يُقدر الذي يقالُ فيه: أيهم هو أشدُّ، وليس الكلام على ذلك، ولأن الاستفهام لا يقع إلا بعد أفعال العلم أو القول على الحكاية، و"ننزعنَّ" ليس من أفعال العلم.
فإذا قلت: ضربتُ أيهم قام، فالوجه أن يقال: إن "أيهم" موصولةٌ، لا أن يقال: ضربتُ الذي يُقال فيه: أيهم قام، وإنما لم يقع الاستفهام إلا بعد أفعال العلم أو القول؛ لأن القول يحكي بعده كل شيء، وأفعالُ العلم إنما وقع بعدها الاستفهام لأحد أمرين: إما لكون الاستفهام مستعلماً به، فإذا قلت: زيدٌ عندك أم عمرو؟ كأنك قلت: أعلمني أيهما عندك؟ فإذا قلت: علمتُ أزيدٌ عندك أم عمرو؟ كان معناه علمتُ ما يُطلب به إعلامك، فبين الاستفهام والعلم اشتراكٌ في هذا. وإما لكثرتها في الاستعمال، فجُعل لها شيئانِ في الكثرة ليس لغيرها ما جُعل لها خصائصُ في غير ذلك، ولم يكثُر غيرها كثرتها.
وأجيب عن قوله: "يلزمُ منه حذفُ أشياء كثيرةٍ" أن أمثال هذا الحذف من حلية التنزيل الذي هو معدنُ البلاغة على التقدير: (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) المقول في حقه أيهم أشد، وعليه قراءة ابن عباس:(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ)[الدخان: 30] على الاستفهام صفة للعذاب، أي: المقول في حقه من: فرعون؟ وأنشد الزجاج:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزلٍ
…
فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
أي: فأبيت بمنزلها الذي يُقال له: لا هو حرجٌ ولا محرومٌ. وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله: وإنما القولُ الذي يصحُّ حذفه قولٌ مفردٌ عن قوله: إنما لم يقع الاستفهام إلا بعد القول.
فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية. تقديره: لتنزعنّ الذين يقال فيهم أيهم أشد، وسيبويه على أنه مبنى على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب. وقيل: أيهم هو أشد. ويجوز أن يكون النزع واقعا على: (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ)، كقوله سبحانه:(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا)[مريم: 50]، أى: لننزعن بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قوله: "وليس الكلام على ذلك"، فمن المقلوب، ذكر أبو إسحاق الزجاج بعد ما حكى قول الخليل وسيبويه وينس: والذي أتوهمه أن القول في هذا قول الخليل، ثم لننزعن الذي يُقال لهم أيهم أشد على الرحمن، وتأويله: ثم لننزعن من كل شيعةٍ الذي من أجل عتوه يقال له: أي هؤلاء أشد عتيا، فيُستعمل ذلك في الأشد، وقال: كأنه يبتدأ بالتعذيب لأشدهم عتياًّ، ثم الذي يليه، وهو أوفقُ للتفسير.
وروى محيي السنة عن مجاهدٍ: يريد الأعتى فالأعتى، وفي بعض الآثار: أنهم يُحضرون جميعاً حول جهنم مُسلسلين مغلولين، ثم يُقدم الأكفر فالأكفر، وعليه الوجه الأول من كلام المصنف:"يمتازُ من كل طائفة من طوائف الغي أعصاهم فأعصاهم"، وعليه ينطبق قوله تعالى:(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً)؛ لأن المعنى على ما قال: تقديم أولاهم بالعذاب فأولاهم على الترتيب، ولا يستقيم مثل هذا المعنى في الوجه الثاني.
قوله: (ويجوز أن يكون النزع واقعاً على: (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ))، أي: يكون (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) مفعولا به لقوله: (لَنَنزِعَنَّ)، أي: لننزعن عن بعض كل شيعة، كقوله:(وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا) أي: بعض رحمتنا كما سبق.
وروى الزجاج عن يونس أن قوله: (لَنَنزِعَنَّ) معلقةٌ لم تعمل شيئاً، وأوله الزجاج بقوله:(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) ثم استأنف فقال: (أَيُّهُمْ)، قال أبو علي: مرادُ
كل شيعة، فكأنّ قائلا قال: من هم؟ فقيل: أيهم أشد عتيا. و (أيهم أشد): بالنصب عن طلحة بن مصرف وعن معاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء. فإن قلت: بم يتعلق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يونُس: أن الفعل معملٌ في موضع (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ)، ولا يريدُ به انه غير معملٍ في شيءٍ البتة. والدليلُ عليه قوله: معلقةٌ، والمعلقُ يستعملُ في الموضع دون اللفظ، ألا تراهم قالوا في: علمتُ أزيدٌ في الدار إن الفعل معلقٌ، وهو معملٌ في موضع الجملة. وقال الكسائي: أي أن قوله: (لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) كقولك: أكلتُ من طعام، فأيهم منقطعةٌ مستأنفة، فهو كقول يونس.
فإن قلتَ: لم زعم يونسُ أنه إذا حذف العائد من الصلة، وجب البناء على الضم؟ قلت: لان الصلة تبينُ الموصول وتوضحه، كما أن المضاف إليه يبينُ المضاف ويخصصه كما أنه لما حذف المضاف غليه من الأسماء التي تبينها بالإضافة، يبني كذلك هذا. والأمر الجامع كونهما موضحين ومبينين. تم كلامُ أبي علي.
وقال أبو البقاء: إنما بُنيت هاهنا لأن أصلها البناءُ؛ لأنها بمنزلة "الذي" و"مَن" مِنَ الموصولات، إلا أنها أعربت حملاً على كل أو بعض، فإذا وُصلت بجملة تامة بقيت على الإعراب، وإذا حُذف العائدُ بنيت لمخالفتها بقية الموصولات، فرجعت إلى حقها من البناء لخروجها عن نظائرها، وموضعها: نصبٌ بـ"ننزعُ".
قوله: (وعن معاذٍ
…
الهراء)، قال الأنباري: هو أبو مسلم معاذٌ الهراءُ من موالي محمد ابن كعب القُرظي، أخذ عنه الكسائي، وأخذ الفراء عن الكسائي، ونسب الزجاج هذه القراءة إلى هارون الأعور، ونقله عن سيبويه، قال أبو البقاء:(أَيُّهُمْ أَشَدُّ) يُقرأُ
(على) والباء، فإنَّ تعلُّقهما بالمصدرين لا سبيل إليه؟ قلت: هما للبيان لا للصلة. أو يتعلقان بأفعل، أى: عتوّهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا.
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم: 71 - 72].
(وَإِنْ مِنْكُمْ) التفاتٌ إلى الإنسان، يعضده قراءة ابن عباس وعكرمة رضى الله عنهما:(وإن منهم). أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود دخولهم فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالنصب شاذاً والعامل فيه: (لَنَنزِعَنَّ)، وهي بمعنى الذي.
قوله: (فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه)؛ لأن معمول المصدر لا يتقدمُ عليه.
قوله: (هما: للبيان) كقوله تعالى: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف: 43]، كأن سائلاً سأل: من عتوا؟ قيل: (عَلَى الرَّحْمَنِ) وبأي شيء صليُّهم؟ قيل: النار.
قوله: (فإن أريد الجنس كله)، يجوزُ أن يكون تفريعاً على الوجهين وتفصيلاً لكل من القولين، إما على الالتفات، فالمرادُ بالإنسان هو: الذي ذُكر عنه قوله: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً)، وهو - على ما فسر- يجوز أن يُراد به الجنسُ، وأن يُراد به بعض الجنس وهم الكفرة، والالتفات لازمٌ لما ذكر بُعيدَ هذا من قوله:"وإن أريد الكفارُ خاصةً"، وإما أن يُراد به ابتداء كلام ولا التفات فيه، ولا يلتفت إلى الإنسان المذكور من قبلُ، فالمخاطبون: كل من يصلح أن يخاطب لعم الخطب، ولذلك عدل من الإنسان إلى الناس، فالفاء في قوله: فإن أُريد الجنسُ: تفصيلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "الانتصاف": احتمالُ الالتفات مفرعٌ على إرادة العموم من الأول حتى يتحد المخاطبون، إلا أنهم ذُكروا أولاً بلفظ غيبةٍ، وثانياً بلفظ حضور، وإن أردنا بالأول الخصوص لم يكن التفاتاً بل عدولاً إلى خطاب العامة عن خطاب الخاصة المعينين.
قلت: قوله: "وإن أردنا بالأول الخصوص لم يكن التفاتاً" غير مسلم؛ لأنه التفت فيه عن جماعة غائبين إلى الخطاب لهم. وأما العدول إلى خطاب العامة عن خطاب الخاصة فليس بمختص بمعين، بل هو مطلق؛ لأن (وَإِنَّ مِنْكُمْ) حينئذٍ: ابتداءُ كلام. وأما بيانُ الترتيب فإنه تعالى لما حكى عن جنس الإنسان أنه قال: (أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) ثُم أنكر عليه بقوله: (أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ) الآية في أنه يعاند ولا يلتفت إلى البرهان القاهر، ولا يذكر خلقته من قبلُ، ووضع المُظهر وهو الإنسان موضع المضمر ليؤذن بحقارته ودناءته وأن إعادة مثله لا يؤبه بها، ولهذا صرح بقوله:(وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)، ثم أقسم على تحقيق الإعادة بقوله:(فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) وأكده وفصله، بقوله:(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) مخاطباً للإنسان بعد الحكاية عنه، اعتناءً بشأن الإعادة وتقريراً لتحقيق ما أقسم عليه، وأن لابد من إبرار القسم ولا غنى عنه، ثم أردفه بقوله:(كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) تتميماً لمعنى القسم. ويُمكن أن يُحمل على هذا تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه بتحلة القسم في قوله: "لا يموتُ لمسلمٍ ثلاثةٌ من الولد فيلجُ النار إلا تحلة القسم". أخرجه البخاري ومسلمٌ ومالكٌ والترمذيُّ، عن أبي هريرة.
النهاية: أراد بتحلة القسم (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) كما يقال: ضربته تحليلاً: إذا لم تبالغ في ضربه، وهو مثلٌ في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يٌقسم عيه المقدار الذي يُبر به قسمه.
وهي جامدة، فيعبُرها المؤمنون وتنهار بغيرهم. عن ابن عباس رضى الله عنه: يردونها كأنها إهالة. وروى: "دواية". وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال لهم: قد وردتموها وهي جامدة". وعنه رضى الله عنه أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الورود الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إنّ للنار ضجيجا من بردها» وأما قوله تعالى: (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ)[الأنبياء: 101]؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي جامدة)، ورُوي:"هامدةٌ"، أي: باردةٌ أو ساكنةٌ لا تعملُ. الأساس: رجلٌ جامدُ الكف: بخيل، هو جامدُ العين، ولا زلت أضربه حتى جمد. الجوهري: جمد الماء يجمد جمداً وجموداً، أي: قام، وكذلك الدم وغيره إذا يبس.
قوله: (إهالة)، الأساس: هو الودك وكل من الأدهان يؤتدم به كالزيت والحلا بالحاء المهملة.
قوله: (دواية)، الأساس: يقالُ: ما على لبتك دوايةٌ، وهي جلدةٌ تعلو المرق والماء الراكد، شبه النار وحرارتها بالنسبة إلى المؤمنين بحرارة الإهالة والدواية مع دسمها ونعومتها، ليشير إلى السلامة المقرونة بالنعومة، فإن الجمود وإن دل على السلامة لكن لم يُعلم منه النعومةُ، فكلمةُ (بها) كقوله تعالى:(يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء: 69]، فإنه لو اقتصر على كونها سلاماً لم يُعلم معنى البرودة، وهو الإيناسُ بها.
قوله: (حتى إن للنار ضجيجاً من بردها)، روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن أبي سمية: اختلفنا في الورود، فمن قائل: لا يدخلها مؤمنٌ، ومنهم من يقول: يدخلونها جميعاً (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)، فسألنا جابراً عن ذلك، فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صُمتاً إن لم أكنْ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الورودُ الدخول، لا يبقى برٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها،
فالمراد عن عذابها. وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط؛ لأنّ الصراط ممدود عليها.
وعن ابن عباس: قد يرد الشيء الشيء ولا يدخله، كقوله تعالى:(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ)[القصص: 23]. ووردت القافلةُ البلد، وإن لم تدخُله ولكن قربت منه. وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا، لقوله عليه الصلاة والسلام «الحُمى من فيح جهنم» وفي الحديث:«الحمى حظ كل مؤمن من النار» . ويجوز أن يراد بالورود: جثوّهم حولها. وإن أريد الكفار خاصة، فالمعنى بيِّن.
الحتم: مصدر حتم الأمر إذا أوجبه، فسمى به الموجب، كقولهم: خلق الله، وضرب الأمير، أى: كان ورودهم واجبا على الله، أوجبه على نفسه وقضى به، وعزم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتكون على المؤمن برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، حتى إن لجهنم ضجيجاً من بردهم (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).
قال محيي السُّنة: وفي الحديث: "تقول النار للمؤمن: جُز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي".
قوله: (الحمى من فيح جهنم)، وتمامه:"فأبردوها بالماء"، أخرجه البخاري ومسلمٌ والترمذيُّ، عن عائشة رضي الله عنها.
النهاية: الفيحُ: سطوعُ الحر وفورانه.
على أن لا يكون غيره. قرئ (نُنَجِّي) و (ننجي)، و (ينجى) و (ينجى) على ما لم يسم فاعله. إن أريد الجنس بأسره فهو ظاهر، وإن أريد الكفرة وحدهم فمعنى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا): أنّ المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: (نُنَجِّي))، بالتخفيف: الكسائي، والباقون: بالتشديد، والقراءتان: شاذتان.
قوله: (فمعنى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا): أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار)، يعني: إذا جعل الورود للكفار خاصة، ينبغي أن يفسر (نُنَجِّي) بالسوق، ليتقابلا، لقوله تعالى:(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً)[الزمر: 71]، وقوله:(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً)[الزمر: 73]، وعلى الأول قوله:(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) مقابلٌ لقوله: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) لأنها برمتها بمعنى الهلاك.
فإن قلت: إذا كانت الآية من التقابل، فلم خُولف بين قوله:(الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقوله: (الظَّالِمِينَ)؟
قلت: ليؤذن بترجيح جانب الرحمة، وبأن التوحيد هو المنجي، والإشراك هو المُردي، فكأنه قيل ثم ننجي من وُجد منه تقوى ما وهو احترازٌ من الشرك، ونهلكُ من اتصف بالظلم، أي: بالشرك ويثبت عليه، قال تعالى:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، قال المصنف في قوله تعالى:(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)[هود: 113]، أي: الذين وجدتُم منهم الظلم، ولم يقل: الظالمين، وفي إيقاع "نذر" مقابلاً لقوله:(نُنَجِّي) إشعارٌ بتلك اللطيفة أيضاً.
قال الراغب: يقال: فلانٌ يذر الشيء، أي: يقذفه لقلة اعتداده به (وَنَذَرَ مَا كَانَ
لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس والجحدري وابن أبى ليلى: (ثم ننجي)، بفتح الثاء، أى هناك. وقوله:(وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) دليل على أنّ المراد بالورود الجثوّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) [الأعراف: 70]، والوذرة: قطعةٌ من اللحم، وسميت له لقلة الاعتداد بها، نحو قولهم فيما لا يُعتد به: هو لحمٌ على وضم.
فإن قلت: أي الوجهين أحسن؟ قلت: أن يراد بـ (مِنْكُمْ) ضمير جنس الإنسان رواية ودراية، أما الرواية: فكما سبق، وأما الدراية فإن (نُنَجِّي) إذا تُرك على ظاهره ليقع مقابلاً لنذر كما سبق، ويكونان كالتفصيل لقوله:(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) على إرادة الجنس، كان أحسن من التأويل وفقدان التفصيل.
فإن قلت: موقعُ "ثم" في قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي) على ذلك الوجه أحسنُ؛ لأنها حينئذٍ لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المتقين إلى الجنة، وأن أحدهما للإهانة، والآخر للكرامة.
قلت: وعلى هذا الوجه ينبني على التفاوت بين فعلِ الخلق، وهو ورودهم النار، وفعل الحق سبحانه، وهو النجاة والدمارُ - زماناً ورتبة.
قوله: (دليلٌ على أن المراد بالورود الجثو حواليها)، يعني: سبق أن المراد بالجثو إما الدخول أو الجواز على الصراط أو القرب والدنو من جهنم أو الجثو حولها، والذي يدل على ظهور الوجه الأخير قوله:(وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) لما قلنا: إن (نُنْجِي) و"نذَرُ" تفصيلٌ لقوله: (إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) فإذا قيل: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) بمعنى: نتركهم على ما كانوا عليه، عُلم أن حال المتقين بخلافه، فيلزم اشتراكهم في الجثو. ولا بُدَّ
الجنة بعد تجاثيهم، وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)[مريم: 73].
(بَيِّناتٍ): مرتلات الألفاظ، ملخصات المعاني، مبينات المقاصد: إما محكمات أو متشابهات، قد تبعها البيان بالمحكمات. أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا. أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها ولم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى:(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)[البقرة: 91]؛ لأن آيات الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على هذا الوجه من تقدير مضاف، أي: نذرُ الظالمين في حول جهنم جثياً، ويؤيده أيضاً قوله:(ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً).
قوله: (أو ظاهرات الإعجاز) عطفٌ على قوله: "مُرتلات الألفاظ"، وعلى الأول:(بَيِّنَاتِ) من: بان الشيءُ عن الشيءِ: انفصل وانقطع، وعلى الثاني من: بانَ الشيءُ بياناً: ظهر. الأساس: بانَ الشيءُ بيناً وبينونةً، وباينهُ مباينةً.
فقوله: "مُرتلاتِ الألفاظ" اعتبارُها بحسب الفصاحة. وقوله: "ملخصاتِ المعاني" بالنظر إلى البلاغة. وقوله: "مبينات المقاصد" بالنسبة إلى الأصول والفروع؛ لأن المعنى إما نصٌّ ملخصٌ، فهو المحكماتُ، وإما مُؤولٌ مُبينٌ مقاصده فهو المتشابهات التي تبعها البيانُ، إما بالقرآن أو بالسنة. والسنة: ما قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره.
قوله: (والوجه أن تكون حالاً مؤكدةً) يعني: (بَيِّنَاتِ) يحتملُ أن تكون حالاً منتقلةً من (آيَاتِنَا)، وأن تكون مؤكدة لمضمون الجملة. والوجه الثاني أوجه وإن لم تكن الجملة عقدها من اسمين؛ لأن المعنى عليه كقوله تعالى:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ)[آل عمران: 18]. وأما بيان النظم، فإنه تعالى لما حكى عن المشركين طعنهم في البعث والحشر بقوله:(وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً)[مريم: 66]، وأجابهم ذلك الجواب العتيد، شرع في طعنهم في القرآن المجيد، وقال: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
) [مريم: 73] الآية.
لا تكون إلا واضحة وحججا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أنهم يناطقون المؤمنين بذلك ويواجهونهم به، وأنهم يفوهون به لأجلهم وفي معناهم، كقوله تعالى:(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)[الأحقاف: 11]. قرأ ابن كثير (مَقاماً) بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد: المكان والموضع. والندىّ: المجلس ومجتمع القوم، وحيث ينتدون. والمعنى: أنهم إذا سمعوا الآيات وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم، قالوا: أىّ الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين لها أوفر حظا من الدنيا حتى يجعل ذلك عيارا على الفضل والنقص، والرفعة والضعة. ويروى أنهم كانوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ينتدون)، الأساس: وانتدو وتنادوا: تجالسوا.
الراغب: النداءُ: رفعُ الصوت وظهوره، وقد يقال للصوت المجرد، كقوله تعالى:(مَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً)[البقرة: 171]، أي: لا يُعرف، أي: الصوت المجرد دون المعنى الذي يقتضيه تركيبُ الكلام، ويقالُ للمركب الذي يُفهم منه المعنى ذلك كقوله تعالى:(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى)[الشعراء: 10]، وقوله:(وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)[المائدة: 58]، أي: دعوتم. ونداءُ الصلاة مخصوصٌ بالألفاظ المعروفة، وأصلُ من الندى، أي: الرطوبة، يقال: صوتٌ ندٍ، أي: رفيعٌ. واستعارةُ النداء للصوت من حيث إن من تكثر رطوبةُ فمه يحسن كلامه، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق، يقال: ندى وأنداءٌ وأنديةٌ، ويُسمى الشجرُ ندى لكونه منه، وعُبر عن المجالسة بالنداء حتى قيل للمجلس: النادي والمنتدى والنُّديُّ، وقيل ذلك للجليس، قال تعالى:(فَلْيَدْعُ نَادِيَه)[العلق: 17]، ومنهُ سُميت دارُ الندوة بمكة، وهو مكانٌ يجتمعون فيه، ويعبر عن السخاء بالندى، فيقال: أندى كفا من فلان، ويتندى على أصحابه، أي: يتسخى، وما نديت بشيءٍ من فلان، أي: ما نلتُ منه ندى.
يُرجلون شُعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً)[مريم: 74].
"كَمْ" مفعول (أَهْلَكْنا) و (مِنْ) تبيين لإبهامها، أى: كثيراً من القرون أهلكنا. وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. و (هُمْ أَحْسَنُ) في محل النصب صفة ل"كم". ألا ترى أنك لو تركت (هُمْ)؛ لم يكن لك بدّ من نصب (أَحْسَنُ) على الوصفية؟ . الأثاث: متاع البيت. وقيل: هو ماجد من الفرش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكل أهل عصر قرنٌ لمن بعدهم) الراغب: القرنُ: القومُ المقترنون في زمنٍ واحد.
النهاية: القرنُ: أهل زمان، وهو مقدارُ التوسط في أعمارِ كل زمان، مأخوذٌ من الاقتران، فكأنه المقدارُ الذي يقترنُ فيه أهلُ ذلك الزمان في أعمارهم، مثل: أربعون سنةُ. وقيل: ثمانون. وقيل: مئة. الجوهري: قرنُ الشمس: أعلاها وأولُ ما يبدو منها في الطلوع، وهُو المناسبُ لقوله:"لأنهم يتقدمونهم".
قوله: (لم يكن لك بدٌّ من نصب (أَحْسَنُ) على الوصفية)، معناه: أن قولهم: (هُمْ أَحْسَنُ) يجب إجراؤه على الوصف دون الاستئناف، إذ لو جيء مفرداً لم يكن بُدٌّ من نصبه على الوصف. قال أبو البقاء:(هُمْ أَحْسَنُ) صفةُ "كم".
قوله: (ما جد من الفُرُش). الجوهري: جد الشيءُ يجد، بالكسر، جدة: صار جديداً، وهو نقيضُ الخلق.
الراغب: الأثاثُ: متاعُ البيت الكثيرُ، من أثَّ، أي كثُر وتكاثف. وقيل: للمال كله إذا كثُر: أثاثٌ ولا واحد له كالمتاع، وجمعُه أثاثٌ، ونساءٌ أُثائثُ: كثيراتُ اللحم، كأنّ
والخُرثي: ما ليس منها. وأنشد الحسن بن على الطوسي:
تقادم العهد من أمّ الوليد بنا
…
دهرا وصار أثاث البيت خرثيّا
قرئ على خمسة أوجه (رِئياً)؛ وهو المنظر والهيئة، فعل بمعنى مفعول، من رأيت. و (ريْئاً)، على القلب كقولهم راء في رأى. و (رِيَّا)، على قلب الهمزة ياء والإدغام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليهن أثاثٌ، وتأثث فلانٌ: أصاب أثاثاً.
قوله: (والخرثيُّ: ما لُبسَ منها). وفي "الأساس": هو السقطُ من الثياب.
قوله: (قرئ على خمسةِ أوجهٍ: رئياً)، قالون وابن ذكوان:"ريًّا"، بتشديد الياء من غير همز، والباقون: بالهمز إلا حمزة، فإن له في حالة الوقف ثلاثة أوجه: إدغامٌ وإبدالٌ وحذف.
قال ابن جني: قرأ طلحةُ: "ورياًّ" خفيفة بلا همز، وقرأ:"وزياًّ" بالزاي سعيدُ بن جبير، والنظر من ذلك في "وريا"، وهو في الأصل فعلٌ بكسر الفاء وضم العين، من: رأيتُ، فأصله "ريا" ـ"رعيا" على قراءة أبي عمرو وغيره، أريد تخفيف الهمز فأبدلت الهمزة ياء لسونها وانكسار ما قبلها، ثم أدغمت الياء المبدلة من الهمزة في الياء الثانية التي هي لام الفعل، فصارت "رِيا". ويجوزٌ أن يكون من: رويت، قال أبو علي: لأن للريان نضارة وحُسناً.
وأما "رياً" مخففةً غير مهموزة فتحتمل أمرين، أحدهما: أن تكون مقلوبة من فعلٍ إلى فِلْع، فصارت في التقدير:"رِئياً"، ثم خُفف فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على الياء فصارت "ريا". وثانيهما: أن يكون "ريا" من: رويتُ، ثم خففت بحذف إحدى الياءين، وينبغي أن تكون المحذوفة الياء الثانية؛ لأنها هي المكررة، وبها وقع الاستثقال، ولأنها لامٌ وقد كثُرَ حذفُ اللام حرف علةٍ كمئةٍ ورئة وفئة.
وأما "الزيُّ" بالزاي ففعلٌ من: زويت، وذلك أنه لا يقال لمن له شيء واحد من آلته زيٌّ حتى تكثُر آلته المستحسنة، فهي إذاً من "زويت"، أي: جُمعت، من قول النبي صلى الله عليه وسلم:
أو من الري الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: رَيَّان من النَّعيم. و (رِياً)، على حذف الهمزة رأسا، ووجهه أن يخفف المقلوب -وهو «ريِئاً» - بحذف همزته وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها. و (زِيًّا)، واشتقاقه من الزىّ وهو الجمع: لأن الزىّ محاسن مجموعة، والمعنى: أحسن من هؤلاء.
(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً)[مريم: 75].
أى: مدّ له الرحمن، يعنى: أمهله وأملى له في العمر، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لتقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة:(أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)[فاطر: 37]، أو كقوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"زُويت لي الأرضُ"، أي: جُمعت، فأصلها: زويٌ، بكسر الزاي وسكون الواون فقلبت على ما مضىن وأدغمت في الياء.
قوله: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ)[فاطر: 37] أي: عمرناكم العمر الذي يتذكر فيه من يتصدى للتذكير. قال مجاهدٌ: هو العمرُ الذي أعذر الله إلى ابن آدم. روينا في "صحيح البخاري"، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعذر الله إلى امرئٍ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة".
النهاية: أعذر الله إلى امرئ، أي: لم يبق فيه موضعاً للاعتذار، حيث أمهله طول هذه المدة ولم يعتذر، يقال: أعذر الرجل: إذا بلغ أقصى الغاية في العُذر.
قوله: (أو كقوله) عطفٌ من حيثُ المعنى على قوله: "ليقطع معاذير الضال"، أي: أخرج على لفظ الأمر ليقطع معاذير الضال، كقوله:(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ)[فاطر: 37] أو ليكونن مبالغة في إرادة ازدياد الضلالة كقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً)[آل عمران: 178]، أي: ما نُملي لهم إلا لهذا.
تعالى: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً)[آل عمران: 178]. أو: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَمد لَهُ الرَّحْمنُ، في معنى الدعاء بأن يمهله الله ويُنفس في مدّة حياته. في هذه الآية وجهان. أحدهما: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أى قالوا:(أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا)، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ)، أى: لا يبرحون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: من كان في الضلالة فليمدد له الرحمنُ مداً، في معنى الدعاء) وفي بعض النسخ: "فمد له الرحمنُ، في معنى الدعاء"، هو عطفٌ على قوله:"مد له الرحمنُ".
فإن قلت: الآمِرُ والداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ)، فعلى التقديرين: دعاءٌ لا أمرٌ قلتُ: كل من الأمر والدعاء يقتضي الإنشاء، وأن لا يكون المطلوبُ حاصلاً، لكن الدعاء: طلبُ ما يتوقع حصوله، والأمرُ: طلبُ الإيجاد على الفور، وهو أقرب إلى التحقيق، وتقديره: قل لهم قولي لك: فليمدد له الرحمنُ. وفيه معنى التجريد؛ لأنه تعالى أمر به نفسه على سبيل الغيبة، وفي تخصيص ذكر الرحمن تتميم وتربية بمعنى الاستدراج والإمهال، كقوله تعالى:(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 44 - 45]، فلما أريد في الوجه الأول الإخبار عن الحصول قطعاً قال: أخرج على لفظ الأمر، ولهذا رح بالماضي حيث قال: أي: مد له الرحمن، وفائدته: تصوير تلك الحالة الماضية، وعدم انقطاعها وقتاً فوقتاً، وأتى في الثاني بالمضارع، وهو أن يمهله الله تعالى.
قوله: (ويُنفس في مدة حياته)، الأساس: ومن المجاز: وأنتَ في نفس من أمرك: في سعة. وتنفس النهارُ: طال، وتنفس به العمر، وبلغك الله أنفس الأعمار.
قوله: (في هذه الآية)، أي: قوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ).
قوله: (بالآية التي هي رابعتها)، أي: بالآية التي هذه الآية رابعة تلك الآية، وهي قوله:(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ).
قوله: (والآيتان)، أي:(كَمْ أَهْلَكْنَا)، (قُلْ مَنْ كَانَ). وأما بيانُ وجه الاعتراض فهو أن مضمون الآيتين الإنكارُ على الكفرة في أنهم حين تُتلى عليهم آياتُ الله ليهتدوا بها للإيمان يفتخرون بالحظوظ الدنيوية ويرجحونها على السعادة الأخروية، فأكد هذا المعنى بقوله:(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ) إلى قوله: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ).
يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأى عين (إِمَّا الْعَذابَ) في الدنيا؛ وهو غلبةُ المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسراً، وإظهارُ الله دينه على الدين كله على أيديهم؛ وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم (شرٌ مكانا وأضعف جندا)، لا خيرٌ مقاماً وأحسن نديًّا، وأن المؤمنينَ على خلاف صفتهم. والثاني: أن تتصل بما يليها. والمعنى: أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم. والخذلان لاصق بهم لعلم الله بهم، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها. والمراد بالضلالة: ما دعاهم من جهلهم وغلوهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه. ولا ينفكون عن ضلالهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدّماتها. فإن قلت: (حتى) هذه ما هي؟ قلت: هي التي تحكى بعدها الجمل. ألا ترى الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله: (إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ)(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) في مقابلة (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وظهر من هذا أن حمل قوله: (فَلْيَمْدُدْ) على الأمر للاستمرار أولى من الدعاء، وتصريحُ "قل" لبيان الاهتمام، وأن سُنة الله جاريةٌ على هذان وأما إذا اتصل "حتى" بقوله:(مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ) فيكون قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) أمراً بالجواب عن قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) المعنى: أنكم تفتخرون على الفقراء بما نلتم من الحظوظ الدنيوية وتزعمون أنها كرامةٌ من الله، وما تدرون أن ذلك استدراجٌ وإملاءٌ وإمهال، فتزدادوا بها إثماً فيأخذكم عذابُ الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في العقبى، فيكون قوله:(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً) مُعترضة.
وإنما لم يقُل: خيرٌ أثاثاً، كما قيل في الفواصل الثلاث اللاتي هذه الجملة معترضةٌ فيها، لأن ما عليه المشركون شر كله، ولا يليق بظاهر حالهم إلا أن يُقال:"أحسنُ"، وإنما أتى في الفاصلة الأخيرة بالخير للمشاكلة ومطابقة الجواب على السؤال، ولو حمل (فَلْيَمْدُدْ) في هذا الوجه على الدعاء لكان له وجهٌ.
قوله: (لا ينفكون): حالٌ من ضمير الفاعل في "قالوا".
لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم. والندىّ: المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند: هم الأنصار والأعوان.
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا)[مريم: 76].
(يَزِيدُ): معطوف على موضع (فليمدد)؛ لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مدّ أو يمدّ له الرحمن. ويزيد: أى يزيد في ضلال الضلال بخذلانه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن مقامهم هو مكانهم) تعليلٌ لمعلل مقدر، يعني: ذكرت أن هذه الآية مقابلة لتلك، وقد ذُكر هناك:(خَيْرٌ مَقَاماً) وفسرته بقولك: "أي الفريقين أوفر حظا من الدنيا"، والمذكور هنا (شَرٌّ مَكَاناً)، وذُكر هناك:(وَأَحْسَنُ نَدِيّاً)، والنديُّ: المجلس ومجتمع القوم، وهاهنا (وَأَضْعَفُ جُنداً) فأين التقابل؟ أجاب: وإنما كانا متقابلين، كذلك (جُنداً) مقابلٌ لقوله:(نَدِيّاً) لكن من حيث التصريح والكناية، فإن الجُند هم الأنصارُ والأعوانُ، والنديُّ: المجلسُ عُبرَ به عن وجوه الناس والأعوان، كما يُقال: المجلسُ العالي عزت أنصارُ دولته، فحصل التقابُل.
قوله: (مد أو يمُدُّ له الرحمن) هذا الاختلاف مبنيٌّ على اختلاف التفسيرين هناك، فإذا كان (فَلْيَمْدُدْ) بمعنى الأمر على تأويل الإخبار عن الماضي يُقدرُ "مدَّ" ويُعطفُ عليه:"يزيدُ"، وإذا كان بمعنى الدعاء يقدر "يمدُّ" مضارعاً ويعطفُ عليه "يزيد"، ومن ثم قدرهُ هناك بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته، وفي قوله:"معطوفٌ على موضع (فَلْيَمْدُدْ) " بحثٌ؛ لأن المعطوف على جزاء الشرط ينبغي أن يصلح جزاءً له. ولو قُلتَ: من كان في الضلالة يزيدُ الله الذين اهتدوا هدى، لا يستقيم إذ لا عائد فيه ولا رابطة معنوية. قيل:
ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه. الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أعمال الآخرة كلها. وقيل: الصلوات. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أى: هي خَيْرٌ ثَواباً من مفاخرات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب: أن الجملة الشرطية جملةٌ خبرية مقيدة بقيد، كما ذكره صاحب "المفتاح"، فقوله:(فَلْيَمْدُدْ)، في معنى: يمد أو مد له، والشرط كالقيد، والعطف لا يقتضي الاشتراك في جميع القيود، فكأنه قال: مد الرحمن مداً لمن كان في الضلالة (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى).
وأقول: إنما صح العطفُ لأن قوله: (الَّذِينَ اهْتَدَوْا) حكاية أعدائهم، فكأنه قال: من كان في الضلالة فيزيد الله ضلالته، ويزيد هداية أعدائهم من المؤمنين تشويراً لهم وغيظاً؛ لأن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم، فكان داخلا ًفي جملة التنكيل بهم، فوضع الظاهر موضع المضمر.
وقال القاضي: (وَيَزِيدُ اللَّهُ) عطفٌ على الشرطية المحكية بعد القول، كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه، بل لأن الله تعالى أراد به ما هو خيرٌ.
وقلتُ- والله أعلم-: قد سبق أن قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً) أمرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن قول المعاندين الذين إذا تليت عليهم آيات الله قالوا للذين آمنوا: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً)، فالواجبُ على المجيب أن يُراعي المطابقة في الجوابن ويذكر الفريقين أيضاً أصالة لا استطراداً، كما عليه كلام القاضي، فكأنه قيل: من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله الله وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع الله له عذاب الدارين، ومن كان في الهداية يزيد الله هدايته فيجمع له خير الدارين، والجواب من الأسلوب الحكيم، وفيه معنى قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفءٍ
…
فشركما الخيركما فداءُ
في الدعاء والاحتراز عن المواجهة.
الكفار (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أى: مرجعا وعاقبة، أو منفعة، من قولهم: ليس لهذا الأمر مردّ،
وهل يرد بكاى زندا
فإن قلت: كيف قيل: "خيرٌ ثواباً" كأنّ لمفاخراتهم ثواباً، حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت: كأنه قيل: ثوابهم النار. على طريقة قوله:
فأعتبوا بالصّيلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهل يرد بُكاي زندا). أوله:
ما إن جزعتُ ولا هلعـ
…
ـتُ وهل يرد بُكاي زندا
الزند مثلٌ في القلة. مضى شرحه في سورة الرعد.
قوله: (كأن لمفاخراتهم ثواباً)، والمراد بالمفاخرات قولهم:(أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) وتفسيرُ ما سبق، أي الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين أوفرُ حظاً من الدنيا. ويُروى: أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون، وهذا التفسير يعضد ما ذهبنا إليه أن قوله:(قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) أمرٌ بالجواب عن قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً).
قوله: (فأعتبوا بالصيلم)، أوله:
غضبت تميمٌ أن يُقتل عامرٌ
…
يوم النسار فأُعتبوا بالصيلم
مضى شرحه في "البقرة".
وقوله:
شجعاء جرّتها الذّميل تلوكه
…
أصلا إذا راح المطي غراثا
وقوله:
تحيّة بينهم ضرب وجيع
ثم بُنى عليه خير ثوابا. وفيه ضربٌ من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له: عقابك النار. فإن قلت: فما وجه التفضيل في الخير كأن لمفاخرهم شركا فيه؟ قلت: هذا من وجيز كلامهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (شجعاء جرتُها الذميلُ) البيتُ، "شجعاءُ" من الشجاعة، والشجعُ في الإبل: سرعةُ نقل الأقدام، يقال: ناقةٌ شجعةٌ، الجرة بالكسر: ما تجتره الإبل من أجوافها من العلف، والذميلُ: ضربٌ من السير، واللوكُ: مضغُ الشيء. إذا راح، أي: دخل في الرواح، وهو من زوال الشمس إلى الليل، وغراثاً، أي: جياعاً من السير.
تقولُ: تسير هذه الناقة الشجعاء لمفازة فسيرها لها بمثابة الاجترار لغيرها إذا كان سائرُ المطايا لا تسيرُ، ومثله في المعنى قول أبي تمام:
وركبٍ يساقون الركاب زجاجة
…
من السير لم يقصد لها كف قاطب
جعل الشاعرُ بالادعاء أفرادَ جنس الجرة قسمين، متعارفٌ هو: ما تفعله الإبل عند إخراج العلف، غير متعارفٍ وهو: السير، وكنى عنه بأحدِ قسميه وهو الذميل. والبيت إنما استشهد به لهذا المعنى فقط.
قوله: (هذا من وجيز كلامهم)، أي: في الكلام حذفٌ وإضمارٌ، ومن الأمثلة: العسلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحلى من الخل، وحاصل الجوابين أنه سأل أولاً عن الاشتراك في الثواب، وأجاب انه من باب التهكم على وجه لزم منه وجه التفصيل، ثم سال ثانياً عن وجه التفصيل، وأجاب بوجه عام غير ما لزم أولاً، أي: ثواب المؤمنين أبلغ في بابه من عقابهم في بابه، فلا يكون السؤال الثاني مستدركاً.
قال صاحب "الفرائد": هذا بعيدٌ عن الطبع عن الطبع والاستعمال، ولم أظفر في تراكيبهم بما يفيد هذا المعنى، ولم يُذكر ما يكونُ دليلاً على تحقيقه في كلامهم، ثم إنه أراد بما قال، أن الأعمال الصالحة في ثوابها خيرٌ من مفاخرتهم في ثوابها، وهو النارُ، ويمكن أن يُقال: المرادُ ثوابُ الأعمال الصالحة في الآخرة خيرٌ من ثوابهم في الدنيا، وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم، ومما أوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما.
وقال صاحب "التقريب": وفي قول المصنف نظرٌ، إذ يؤول إلى أن ثوابهم في بابه أبلغ من عقابهم في بابه، وهو غير محقق ولا مناسب للتهديد، بل الأولى أن تُجرى الخيرية أيضاً على التهكم كما ذكر في الثواب، كأنه قال: ثوابهم النار، وهو ثوابٌ حسن على التهكم، وهذا أحسنُ منه وخيرٌ.
والجواب عن قوله: "ولم أفر في تراكيبهم ما يفيد هذا المعنى"، هو أن الزجاج ذكر في تفسير قوله تعالى:(قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)[الفرقان: 15]: إن قال قائل: كيف يقال: الجنة خير أم النار، وليس في النار خيرٌ البتة؟ فيقال: إنما وقع التفضيل فيما دخل في صنف واحد، فالجنة والنار قد دخلا في باب المنازل في صنفٍ واحد، فلذلك قيل:(قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ)[الفرقان: 15]، كما قال:(خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).
يقولون: الصيف أحرّ من الشتاء، أى: أبلغ من الشتاء في برَدْه.
[(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً* أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً* كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا* وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَاتِينا فَرْداً)].
لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما وصحة الخبر عنها، استعملوا «أرأيت» في معنى «أخبر» والفاء جاءت لإفادة معناها الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: والذي يقتضيه النظمُ أن قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً) تتميمٌ لمعنى قوله: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ومشتملٌ على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفرة شيءٌ، كما أن قوله:(حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً) تتميم لوعيدهم، وكلاهما من تتمة الأمر بالجواب عن قولهم:(أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) ما قررنا، يدل عليه قول المصنف هاهنا قوله:"كأن لمفاخرهم شركاء فيه"، وتفسيرُ المفاخرة هو ما قال:" (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أوفر حظاً من الدنيا". وقال: "يدعون أنهم أكرمُ على الله منهم"، وتحقيقه: أن الكفرة لما بنوا الخيرية في قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً) على زعم المؤمنين جيء في الجواب بما يردُّ ذلك على طريق المشاكلة، وإطباق الجواب على السؤال، فقيل:(خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً)، ولا يخلو من شائبة الوعيد والتهكم بهم.
قوله: (استعملوا "أرأيت" في معنى: "أخبر")، قال صاحب "الفرائد": ذكر أهل التفسير هذا المعنى، أعني: إقامة "أرأيت" مقام "أخبرني"، ولابد فيه من ملاحة معنوية بينهما، بحيث ينتقل الذهن من المعنى المذكور إلى المراد، ولا شك أن الذهن ينتقل من معنى "أرأيت" إلى معنى "علمت" وينتقلُ أيضاً إلى معنى طلب الرؤية؛ لأن "أرأيت" سؤالٌ عن الرؤية في الماضي من الزمان، فإن لم تكن الرؤية حاصلة في الماضي كان هذا السؤال باعثاً له على تحصيلها في المستقبل منه، كأنه قيل: وإن لم تره فره لتتعجب من اله. هذا في الظاهر أقرب.
هو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) من قولهم: أطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه، وطلع الثنية. قال جرير:
لاقيت مطّلع الجبال وعورا
ويقولون: مرّ مطلعا لذلك الأمر، أى عاليا له مالكا له، ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول:
أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار. والمعنى: أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ قرأ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: مآل كلام المصنف يعودُ إلى التعجب؛ لأن طلب الله الإخبار، وهو عالمُ الغيب والشهادة، يعود إلى أن هاتين القضيتين مما لا ينبغي أن يُتركا، والمعنى تعجب أيضاً من قضية هذا الكافر عقيب تعجبك من تلك القضية.
قوله: (لاقيت مطلع الجبال وُعورا)، أوله:
إني إذا مُضرٌ عليَّ تحدثت
الوعر: المكان الصلبُ، الجمع الوعور، مطلعُ الجبل: مصعده ومرتقاه، وعوراً انتصب على الحال من "مُطلع"، ويجوز أن يكون مفعولاً به. ويقول: إذا مُضرُ تحدثت عليَّ، أي: تقولوا في ما لا أرضى به، لقيتُ رؤوس الجبال التي هي بمثابة الحصون.
قوله: (وتألى عليه) أي: حلف، وهو مستفادٌ من قوله:(لأوتَيَنَّ مَالاً)، فإنه جوابُ قسم محذوف.
حمزة والكسائي: (وُلْداً)، وهو جمع ولد، كأسد في أسد. أو بمعنى الولد كالعرب في العرب. وعن يحيى بن يعمر:(وولداً)، بالكسر. وقيل في العهد: كلمة الشهادة. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ وعن الكلبي: هل عهد الله إليه أنه يؤتيه ذلك؟ عن الحسن رحمه الله: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاصي بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فاقتضيته، فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد. قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث. قال: فإنى إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك. وقيل: صاغ له خباب حليا فاقتضاه الأجر، فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريراً، فأنا أقضيك ثم، فإنى أوتى مالا وولدا حينئذ. (كَلَّا): ردع وتنبيه على الخطأ أى: هو مخطئ فيما يصوره لنفسه ويتمناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل في العهد كلمةُ الشهادة) شروعٌ في تفسير قوله: (أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) وتعداد الأقوال فيه، وسُميت كلمةُ الشهادة عهداً لأنه تعالى وعد قائلها إخلاصاً أن يُدخله الجنة البتة، فهو كالعهد الموثق الذي لابد أن يوفى به.
قوله: (والمشهور أنها في العاص بن وائل). روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والترمذي، عن خباب بن الأرت، قال: كنت قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص ابن وائل دينٌ، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفرُ حتى يميتك الله ثم تُبعث، فقال: إني لميتٌ ثم مبعوث؟ قلتُ: نعم. قال: دعني حتى أموت وأُبعث. فسأوتي مالاً وولداً فأقضيك، فنزلت: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ
…
) الآيات.
قوله: (ولا حين تُبعث) أي: لا أكفرُ أبداً ما دمتُ حياً ولا ميتاً ولا في حال بعثك أيها الكافرُ وأنت مُعذب، يعني أومنُ بثوابي بعد الموت وعقابك بعد البعث، يدل عليه ذكره الموت والبعث.
قوله: ((كَلاَّ): ردعٌ وتنبيه). الراغب: (كَلاَّ): ردعٌ وزجرٌ وإبطالٌ لقولِ
فليرتدع عنه. فإن قلت: كيف قيل: (سَنَكْتُبُ) بسين التسويف، وهو كما قاله كتب من غير تأخير، قال الله تعالى:(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله، على طريقة قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أى: تبيِّن وعُلِمَ بالانتساب أنى لستُ بابن لئيمة. والثاني: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى: أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القائل، وذلك نقيضٌ، أي: في الإثبات. قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا) إلى قوله: (أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله: (وهو كما قاله)، أي: يُكتبُ عند صدور القول منه من غير تأخير، والكافُ لمقارنة الوجود. قال صاحب "اللباب": تجيء الكاف لقران الوقوع، وفي الحديث:"خيرُ الناس رجلٌ ممسكٌ بعنان فرسه، كلما سمع هيعة أو فزعةً طار إليها". رواه النسائي، عن أبي سعيد.
قوله: (إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ)، تمامه:
ولم تجدي من أن تُقري بها بُدا
قيل: البُد: العوض. الجوهري: لابد من كذا، أي: لا فراق منه، ولم تلدني: جواب (إذا)، وهو ليس في معنى الاستقبال؛ لأن الولادة كانت قبلُ. والمعنى على البيتين: يقول: إذا انتسبتُ علمت - يا فلانةُ - أني لست بابن لئيمة، وظهر لك ما تضطرين به إلى الإقرار بذلك. قال: لم تلدني لئيمةٌ؛ لأن الأم إذا كانت من الكرام فالأب أولى.
فجُرِّدَ هاهنا لمعنى الوعيد. (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ) أى: نطوّلُ له من العذاب ما يستأهله، ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزئون. أو: نزيدُه من العذاب ونضاعف له من المدد. يقال: مده وأمده بمعنى، ويدل عليه قراءة عليِّ بن أبى طالب رضي الله عنه:(ونمد له) بالضمِّ. وأكد ذلك بالمصدر، وذلك من فرط غضب الله، نعوذ به من التعرّض لما نستوجب به غضبه (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أى: نزوى عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه. والمعنى مسمى ما يقول. ومعنى ما يَقُولُ وهو المال والولد. يقول الرجل: أنا أملك كذا، فتقول له: ولى فوق ما تقول، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا، وبلغت به أشعبيته أن تألَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فجُرد هاهنا لمعنى الوعيد) أي: اشتمل التركيب على معنى إثبات العمل المؤدي إلى المُجازاة، فجُرد لأحد المعنيين، كأنه قيل: كلا سننتقم منه وإن استأخر الزمانُ. وحاصلُ الجواب أن القصد في كتابة الأعمال إظهار ما فيها على العامل وإعلامها إياه ليسر به أو يحزن، ثم مجازاته بمقتضاها: إن خيرا ًفخيرٌ وإن شراً فشر. فالجواب الأول مبني على الأول، والثاني على الثاني.
قوله: (أو: نزيدُه من العذاب ونضاعف له من المدد). فإن قلت: أليس هذا مخالفاً لما ذكر في "البقرة": (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[البقرة: 15] أنه من: مد الجيش، وأمده: إذا زاده، إلى آخره، وليس من المد في العمر والإملاء؛ ولأن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدٌّ له مع اللام، كأملي له. قلتُ: بلى، وقد تقرر هنا ما هو عليه.
قوله: (ويدل عليه: "ونُمدُّ له")؛ لأنه جاء: أمددت الدواة بالمداد ومددتها، بمعنى: الزيادة.
قوله: (ومعنى ما يقول) عطفٌ على مسمى ما يقول؛ على سبيل البيان.
على ذلك في قوله: (لَأُوتَيَنَّ) لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتأل على الله يكذبه، فيقول الله عز وعلا هب أنا أعطيناه ما اشتهاه، أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد، كقوله عز وجل:(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)
…
الآية [الأنعام: 94]، فما يجدى عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حيا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضا له منفردا عنه غير قائل له، أو لا ننسى قوله هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يُكذبه) وفي نسخة: "يكذبه" بالتشديد. الجوهري: أكذبت الرجل: ألفيته كاذباً، وكذبته: إذا قلت له: كذبت. قال الكسائي: أكذبته: إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه، وكذبته: إذا أخبرت أنه كاذبٌ. وقال ثعلبٌ: أكذبته وكذبته بمعنى.
قوله: (أو: لا ننسى قوله هذا) هو عطفٌ على قوله: "نزوي عنه ما زعم أنه يناله"، يريد أن معنى "نرثه" إما: نزوي عنهُ. قال في "الأساس": زوى المال غيره: اختاره، وزوى عنه حقه، وزوى الرجل الميراث عن ورثته: عدل به عنهم، وقد انزويت عنا، أي: انقبضت، أو نثبته ولا ننساه، من قوله صلوات الله عليه وسلم:"واجعله الوارث منا"، قال صاحب "النهاية": أي أبقهما، أي: السمع والبصر، صحيحين سليمين.
والقول الأول على وجهين، أحدهما: أن يُروى عن القائل مسمى ما قال، وهو ماله ولده حقيقة، يحال بينه وبينهما في الآخرة، ويعطى من يستحقه. وثانيهما: يحتمل وجهين أيضاً: أن يُزوى عنه ماله وولده تقديراًن وهو كما إذا تمنى ذلك، فيقال في حقه: هب أنا اعطيناه ما اشتهاه إما نزوي عنه في العاقبة ما تمناه ويأتينا فرداً بلا مال وولد، وان يُحال بينه وبين قوله ذلك ما قال:"إذا قبضناه حُلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا فرداً منفرداً عنه غير قائل له". ولما كان الوجه الأول هو الوجه، لما سبق من حديث العاص بن وائل، قال في الوجهين الآخرين:"ويحتملُ".
ولا نُلغيه، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به (وَيَاتِينا) على فقره ومسكنته (فَرْداً) من المال والولد، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه، فيجتمع عليه الخطبان: تبعة قوله ووباله، وفقد المطموع فيه. (فرداً) على الوجه الأول: حال مقدرة نحو (فَادْخُلُوها خالِدِينَ)[الزمر: 73]؛ لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتى، ثم يتفاوتون بعد ذلك.
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم: 81 - 82].
أى: ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا ينقذونهم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو البقاء: في (مَا) في (مَا يَقُولُ) وجهان، أحدهما: هي بدلٌ من الهاء، وهي بدلُ الاشتمالن أي: نرثث قوله. والثاني: هو مفعولٌ به، أي: نرثُ منهُ قوله.
قوله: ((فَرْداً) على الوجه الأول: حالٌ مقدرةٌ. وهو أن يُراد بـ (مَا يَقُولُ): مسمى ما يقولُ، وهو المال والولد، ويُراد من الفردية الانقطاع منهما في العاقبة بالكلية، ولا شك أن مثل هذه الفردية لا تحصل إلا للكافر، وغلا فالمؤمن والكافر سواءٌ عند البعث في كونهما منفردين عن المال والولد، لقوله تعالى:(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام: 94]، ثم يتفاوتون بعد ذلك، فالمؤمن يلاقي أحبته وأولاده وما اشتهاه، والكافر يحالُ بينه وبين ما يشتهيه وينفرد عنه أبداً. ومثلُ هذا الانفراد لا يحصل في بقية الوجوه.
قوله: (لأنه وغيره سواءٌ) تعليلٌ لشبه الحال المقدرة بقوله: (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر: 73] في أن المراد منها خاتمة الأمر وعاقبته. وأما اتصال قوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً)[مريم: 81] بما قبله، فإنه عطفٌ على (وَيَقُولُ الإِنسَانُ)، وسبق أن قوله:(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عطفٌ عليه، حكى الله تعالى عنهم أولاً إنكارهم الحشر، ثم طعنهم في القرآن، والافتخار بالمال والولد، ثم إثبات الشريك لله تعالى.
العذاب (كَلَّا): ردعٌ لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أى: سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم، كقولك: زيدا مررت بغلامه. وفي "محتسب" ابن جنى: (كلا) بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأى والاعتقاد كلا. ولقائل أن يقول: إن صحت هذه الرواية فهي "كلا" التي هي للردع، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في (قواريرا) [الإنسان: 15]. والضمير في (سَيَكْفُرُونَ) للآلهة، أى: سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون: والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون. قال الله تعالى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (زيداً مررتُ بغلامه)، أي: جُزتُ زيداً مررتُ بغلامه، كذلك (كلاً) منصوبٌ بفعلٍ يدل عليه (سَيَكْفُرُونَ) مناسب لهذا المفعول؛ لأن المراد من (سَيَكْفُرُونَ) إنكارُ الآلهة، وكل ما نسب المشركون إليها من الشفاعة والنصرة والإنقاذ من النار الدال عليه قوله:(لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً) فيُقدرُ الناصبُ: سيجحدون.
قوله: (في "محتسب" ابن جني)، وفيه:"كلا سيكفرون": قراءةُ ابن نهيك، وينبغي أن تكون مصدراً لقولك: كل السيف كلاً، ومنصوباً بفعل مضمر، فكأنه تعالى لما قال:(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً) قال الله رداً عليهم: كلا، أي: كل هذا الاعتقادُ كلا، كما يقال: ضعفاً لهذا الرأي، ثم استأنف (سَيَكْفُرُونَ)، والوقف إذاً على (عِزّاً)، ثم استأنف فقال: كل رأيهم كلا، ثم وقف، ثم قال:(سَيَكْفُرُونَ).
قوله: (كما في قوله: (قَوَارِيرَا)، أي: قلب ألف إطلاقه نوناً، قال الشاعر:
اقلي اللوم عاذلُ والعتابن
لَكاذِبُونَ) [النحل: 86]؛ أو للمشركين، أى: يُنكرون لسُوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها. قال الله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)[الأنعام: 23](عَلَيْهِمْ ضِدًّا) في مقابلة (لَهُمْ عِزًّا)، والمراد: ضدّ العز وهو الذل والهوان، أى: يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه، كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا، لا لهم عزا أو يكونون عليهم عونا، والضدّ: العون. يقال من أضدادكم؟ أى: أعوانكم وكأن العون سمى ضدا؛ لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه. فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه)، المعنى: طلب العز فانقلب ضدها وهو الذُل، فيكون من الطباق المقدر.
قوله: (أو يكونون عليهم عوناً) والعونُ هاهنا على التهكم، كما في قوله تعالى:(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)[هود: 99]، أي: بئس العون المُعان، فيلزمُ التقابل أيضاً لان ضد المعين لا يكونُ غلا الخاذل المُذل، قال القاضي: ومعنى كونهم ضداً أنها تكونُ معونةً في عذابهم، بأن توقد بها نيرانهم.
قوله: (وأن العون سُمي ضداً لأنه يُضاد عدوك وينافيه). الراغب: الضدان: الشيئان اللذان تحت جنس واحد، وينافي كل منهما الآخر في أوصافه الخاصة، وبينهما أبعد البعد، كالسواد والبياض، والخير والشر، وما لم يكونا تحت جنسٍ واحدٍ لا يقال لهما: ضدان، كالحلاوة والحركة، وكثيرٌ من المتكلمين وأهل اللغة يقولون: الضدان: ما لايصح اجتماعهما في محل واحد. وقيل: الله تعالى لا ند له ولا ضد؛ لأن الند هو الاشتراك في الجوهر، والضد هو أن يعتقب الشيئان المتنافيان على جنسٍ واحد، والله تعالى منزهٌ عن أن يكون له جوهر، فإذاً لا ضد له ولا ند.
قلت: لم وحد؟ قلت: وحد توحيده قوله عليه الصلاة والسلام: «وهم يد على من سواهم» لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عونا عليهم: أنهم وقود النار وحصب جهنم، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها وإن رجعت الواو في (سيكفرون) و"يكونون" إلى المشركين، فإن المعنى: ويكونون عليهم - أي أعداءهم - ضدا، أى: كفرة بهم، بعد أن كانوا يعبدونها.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)[مريم: 83].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهم يدٌ على من سواهم)، الحديث من رواية النسائي، عن أبي حسان، عن علي رضي الله عنه:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم".
النهاية: تتكافأ دماؤهم، أي: تتساوى في القصاص والديات، والكفؤ: النظير والمُساوي، وهم يدٌ على من سواهم، أي: مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل، بل يعاون بعضهم بعضاً على جميع الأديان، كأنه جعل أيديهم يداً واحدة وفعلهم فعلاً واحداً، ونظيره: جعل الفُساق يداً يداً، أي: فرق بينهم، فإذا أفردت اليد في مقام الجمع، دل على الاتفاق والاجتماع، وإذا جمعت أريد الشتات والافتراق.
وقال صاحب "الفرائد": إنما وحد لأنه ذكر في مقابله قوله: (عزاً) وهو مصدرٌ يصلح أن يكون جمعاً، فهذا وإن لم يكن مصدراً لكن يصلح أن يكون جمعاً بالنظر إلى ما يُراد منه، وهو الذل، وكأنه قيل: ويكونون عليهم خلافاً.
قوله: (ويكونون عليهم أي: أعدائهم)، جاء في كلامهم: الناس عليكم، أي: أعداؤكم، ومنه: اللهم كُن لنا ولا تكن علينا، وعلى هذا الضمير في (عَلَيْهِمْ) للمعبودين، وفي (سَيَكْفُرُونَ) ويكونون للكفرة، أي: يكونون على معبوديهم كافرين بعد أن كانوا عابدين.
الأزّ، والهزّ، والاستفزاز: أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، أى: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى: خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسرا. والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم، وملاحتهم، ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم بالدين
من تماديهم في الغىّ وإفراطهم في العناد، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه، وإنهما كهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم.
(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)[مريم: 84].
عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه، أى: لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وشدة الإزعاج). الراغب: قال تعالى: (تَؤُزُّهُمْ أَزّاً) أي: تزعجهم إزعاج القِدْرِ إذا أزت. أي: اشتد غليانُها. ورُوي في الحديث: "كان يُصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيزِ المرجل"، و"أزهُ" أبلغُ من "هزه".
قوله: (بعد الآيات التي ذكر فيها العُتاة)، وهي قوله تعالى:(وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) وأشار بالعتاة والمراد إلى ما في قوله: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً) وبقوله: "وأقاويلهم" إلى قوله تعالى: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ)، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، وبقوله:"مُلاجتهم ومُعاندتهم" إلى قوله: (لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً)، فهذه الآية واردةٌ كالتذييل لتلك الآيات، والتقرير لمضمونها لأن المقصود من أقاصيصهم تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلة اكتراثٍ منه إلى أحوالهم، ومنعٌ من الدعاء عليهم بالاستئصال، ومن ثم رتب عليها قوله:(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ).
قوله: (عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه). الأساس: أعجلته عن إسلال سيفه، وتعجلتُ إخراجه: كلفته أن يعجله، واستعجل الكفار العذاب.
حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم، وتطهر الأرض بقطع دابرهم، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لو عدت. ونحوه قوله تعالى:(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ)[الأحقاف: 35]، وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً)[مريم: 85].
نُصب (يَوْمَ) بمضمر، أى: يوم نَحْشُرُ ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر. ويجوز أن ينتصب ب (لا يملكون)] مريم: 87 [. ذكر المتقون بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم. وعن عليٍّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كأنها في سرعة تقضيها الساعة)، يريد أن قوله:(إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً) كنايةٌ عن سرعة تقضي أجلهم. قال- في قوله تعالى: (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ)[يوسف: 20]-: "قليلةٌ تُعد عداً، وقيل للقليل: معدودٌ؛ لأن الكثير يمنع من عده كثرته".
قوله: (إذا كانت الأنفاس بالعدد، إلى آخره)، وفي معناه قولُ القائل:
إن الحبيب من الأحباب مختلس
…
لا يمنع الموت بوابٌ ولا حرس
وكيف تفرحُ بالدنيا ولذتها
…
يا من يُعدُّ عليه اللفظ والنفس
قوله: (كما يفدُ الوفاد على الملوك)، يعني: ذكر الوفد تمثيلٌ وتشبيهٌ لحالة المتقين بحالة الوفود.
رضي الله عنه: ما يُحشرون -والله- على أرجلهم، ولكنهم على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سروجها ياقوت.
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً)[مريم: 86].
وذُكِرَ الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورود: العطاشُ؛ لأنّ من يَردُ الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد: المسير إلى الماء، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهاية: الوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد، واحدهم وافدٌ، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارةٍ استرفادٍ وانتجاع وغير ذلك تقول: وفد يفد فهو وافدٌ.
قال الراغب: وفد القوم تفد وفادةً، وهو وافدٌ، وهم وفدٌ ووفود، وهم: الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج، ومنه الوافد من الإبل، وهو السابق لغيره، قال تعالى:(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً).
قال القاضي: ولاختيار الرحمن في هذه السورة شأنٌ، ولعله أن ساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام، وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها، كأنه قيل: يوم نحشر المتقين إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وشملهم برأفته.
وقلتُ: في التقابل بين "الوفد" و"الرحمن" وبين "الورد" و"جهنم" إعلامٌ بتبجيل الوافد وتحصيل مطالبه، وأنها من جلائل النعم وإعظامٌ بالوافد الذي الموفود إليه من اسمه الرحمن، وإشعارٌ بإهانة الوارد وتهكمٌ به، كقوله: عتابه السيفُ ومقومهم لهذمياتٌ. وكفى بالعطش الذي ورده النار التي هي أعظم النيران.
ردي ردي ورد قطاة صمّا
…
كدريّة أعجبها برد الما
فسمى به الواردون. وقرأ الحسن: (يُحشر المتقون)، و (يُساقُ المجرمون).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ردي ردي) البيت، صماء: قيل: إنها من الصمم لا تسمعُ صوت القانص فتفر. كُدريةٍ، أي: قطاةٌ كُدرية أي غبراء اللون، يُخاطب ناقته، أي: ردي الماء كما يرد القطا، يعبجها برد الماء.
قوله: (فسمي به الواردون) أي: حقيقة الورد: المسير إلى الماء، فشبه من يقصد الجواد ويستجديه بمن يسير إلى الماء ليرتوي منه، فاستعير له، وقيل: الوارد.
الراغب: الورورد أصله: قصد الماء، ثم يستعمل في غيره، يقال: وردت الماء، قال تعالى:(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ)[القصص: 23]، والوردُ: الماء المرشح للورود، واستعمل في النار على سبيل الفظاعة، قال تعالى:(فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)[هود: 98]، والوارد: الذي يتقدم القوم فيستقي لهم، قال تعالى:(فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ)[يوسف: 19] أي: ساقيهم. وقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا)[مريم: 71] فقد قيل: هو مثلُ: وردت ماء كذا: إذا حضرته وإن لم تشرع فيه. وقيل: بل يقتضي ذلك الشروع فيه، ولكن من كان من أولياء الله لا تؤثر فيهم بل يكون حاله فيها كحال إبراهيم عليه السلام، ويعبر عن المحموم بالمورود، وعن الحُمى بالورد، وشعرٌ واردٌ: قد ورد العجز أو المتن. والوردُ قيل: هو من الوارد، تسميته بذلك لونه أول ما يرد من ثمار السنة، يقال لنور كل شجر: وردٌ، ويقال: ورد الشجر يورد: خرج نوره. وشُبه به لون الفرس فقيل: فرسٌ وردٌ، وقيل في صفة السماء: إذا احمرت احمراراً كالورد أمارة للقيامة، قال تعالى:(فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)[الرحمن: 37].
(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)[مريم: 87].
الواو في لا (يَمْلِكُونَ) إن جعل ضميراً؛ فهو للعباد، ودلَّ عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة. ويجوز أن تكون علامة للجمع، كالتي في «أكلونى البراغيث» والفاعل (مَنِ اتَّخَذَ)؛ لأنه في معنى الجمع، ومحل (مَنِ اتَّخَذَ) رفع على البدل، أو على الفاعلية. ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف، أى: إلا شفاعة من اتخذ. والمراد: لا يملكون أن يشفع لهم، واتخاذ العهد: الاستظهار بالإيمان والعمل. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والفاعلُ: (مَنْ اتَّخَذَ))، هذا على أن يكون الضمير في:(لا يَمْلِكُونَ) علامة للجمع. قال أبو البقاء: (إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ) استثناء متصلٌ إذا كان الضمير في (يَمْلِكُونَ) للمتقين والمجرمين. وقيل: هو في موضع رفع بدل من الضمير في (يَمْلِكُونَ)، أو في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع".
الانتصاف: في هذا الوجه تعسفٌ لأنه إذا جعله علامةً ثم أعاد على لفظها الإفراد بضمير اتخذ كان إجمالاً بعد إيضاح، وهو عكس طريق البلاغة التي هي: الإيضاح بعد الإجمال، فالواو على إعرابه وإن لم تكن عائدة على "مَن" إلا أنها كاشفةٌ لمعناها كشف الضمير العائد له.
قوله: (وعن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم)، الحديثُ الدعاء إلى آخر، أورده الإمام أحمد بن حنبل عنه في مسنده مع تغيير يسير.
أحدُكمْ أن يتخذَ كل صباحٍ ومساءٍ عند الله عهداً» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إنى أعهد إليك بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبنى من الشر وتباعدني من الخير، وأنى لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد، فيدخلون الجنة» وقيل: كلمة الشهادة.
أو يكون من «عهد الأمير إلى فلان بكذا» إذا أمره به، أى: لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَاذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)[النجم: 26]، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)] سبأ: 23 [(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) [طه: 109].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أعهد إليك). الجوهري: عهدتُ إليه، أوصيتُه، ومنه اشتق العهدُ الذي يكتبُ للولاة.
قوله: (طُبع عليه بطابع). النهاية: الطابع بالفتح: الخاتم، يريد أنه يُختمُ عليها وتُرفعُ كما يفعلُ الإنسانُ بما يعز عليه.
قوله: (أو يكونُ من: عهد الأمير): عطفٌ على قوله: "واتخاذ العهد: الاستظهار"، وحقيقةُ هذا الوجه تعودُ إلى قولك: عهد إليه واستعهد منه: إذا وصاه أو شرط عليه في الأساس.
قوله: (عهد الأمير إلى فلان بكذا) يريدُ أن عهده مضمنٌ معنى الأمر، وعُدي بالباء، فعلى هذا الباءُ في التنزيل محذوفٌ نحو قوله:"أمرتُك الخير".
(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم: 88 - 91].
قرئ: (إِدًّا) بالكسر والفتح. قال ابن خالويه: الإدّ والأدّ: العجب. وقيل: العظيم المنكر. والإدّة: الشدّة. وأدنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظُم علىّ أدّا (تَكادُ) قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ: (يَتَفَطَرنَ) الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود:(يَنصَدِعْنَ)، أى: تهد هدّا، أو مهدودة، أو مفعول له، أى: لأنها تهدّ. فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: (إداً) بالكسر والفتح) بالكسر: السبعةُ، والفتحُ: شاذ.
قوله: (قال ابن خالويه)، قال ابن الأنباري في "النزهة": إنه كان من كبار أهل اللغة، أخذ عن ابن دريد ونفطويه وابن الأنباري وأبي عمرو الزاهد، قيل: إنه اسمٌ مركبٌ مبنيٌّ على الكسر في ظاهر المذهب كسيبويه.
قوله: ((تَكَادُ)، قراءة الكسائي ونافع بالياء) التحتاني، الباقون: بالتاء.
قوله: (وقرئ: (يَتَفَطَّرْنَ)) الحرميان وحفصٌ والكسائي بالتاء الفقوانية وفتح الطاء مشددة، والباقون: بالنون ساكنةً وكسر الطاء مخففة. قال أبو البقاء: القراءة الأولى: هو مُطاوعُ "فطرَ" بالتشديد، وهو هنا أشبه بالمعنى، والثانية: مطاوع "فطر" بالتخفيف.
قوله: (وكرر الفعل) يعني أن "فعل" للتكثير، نحو: قطعتُ وغلقتُ.
قوله: (أو مفعولٌ له) يعني: (هْداً) إما: مفعولٌ مطلقٌ أو حالٌ أو مفعولٌ له، وهو إن لم ين من فعل الجبال، لكن إذا تُهدُّ يحصل له الهدُّ، فصح أن يكون مفعولاً له، وإليه الإشارة بقوله: لأنها تُهد.
الأرض وخُرور الجبال؟ ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن الله سبحانه يقول: كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من تفوّه بها، لولا حلى ووقارى، وأنى لا أعجل بالعقوبة كما قال:(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)[فاطر: 41]. والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده، وأنَّ مثال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً)، يريد أنه من باب التمثيل والتصوير وأخذ الزبدة من الجُمل كلها من غير نظر إلى مفرداتها، كقوله تعالى:(وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر: 67].
قال صاحب "الإنصاف": ويظهر لي أنه استعار لدلالتها على وجود الله وعلى وصفه بصفات الكمال كونها مُسبحةً بحمده في قوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ) الآية [الإسراء: 44]، ولما دلت عليه هي وكل ذرةٍ أنه مقدسٌ عن نسبة الولد إليه، فالمعتقد لذلك عطل وجه دلالتها على تقدسه ووحدانيته، فاستعير لما فيه من إبطال روح الدلالة التي خُلقت لأجلها إبطال صورتها بالهد والانفطار.
وقال صاحب "الانتصاف": استشهد هذا القائل على دلالة الموجودات على وحدانية الله بقول الشاعر:
وفي كل شيء له آيةٌ
…
تدل على أنه واحد
وأقولُ: الموجوداتُ تدل على أنلها خالقاً قادراً عالماً حكيماً؛ لأن الأثر دال على المؤثر، والمقدور على القدرة، وإتقانُ العمل دليلٌ على العلم والحكمة. وأما دلالةُ الموجودات على الوحدانية، فلا وجه له، وأصعبُ ما تحققُ به هذا الأصل قول الشاعر، ظن أن الموجودات
ذلك الأثر في المحسوسات: أن يُصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ. وفي قوله (لَقَدْ جِئْتُمْ) وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة- وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة- زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله، والتعرّض لسخطه، وتنبيه على عظم ما قالوا. في (أَنْ دَعَوْا) ثلاثة أوجه: أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في (منهُ)، كقوله:
على حالة لو أنّ في القوم حاتما
…
على جوده لضنّ بالماء حاتم
ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل، أى: هذا لأن دعوا، علل الخرور بالهدّ، والهدّ بدعاء الولد للرحمن. ومرفوعا بأنه فاعل (هداً)، أى: هدها دعاء الولد (للرحمن). وفي اختصاص "الرحمن" وتكريره مرات من الفائدة: أنه هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تدل على الوحدانية، والنكتة التي أبداها إنما تتم له بناء على أن الموجودات شاهدةً بنفي الولد، وقد ظهر لك ما فيه. وقلتُ: كلامُ صاحب "الانتصاف" أحسنُ ما ذُهب إليه في هذا المقام.
قوله: (عُلل الخرور بالهد، والهد بدعاء الولد) يعني: هو من تداخل العلة، كقوله تعالى:(وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ)، قالوا: محل (أَلاَّ يَجِدُوا) نصبٌ على أنه مفعولٌ له، وناصبه المفعول له الذي هو (حَزَناً).
قوله: (أي: هدها دعاءُ الولد)، قيل: هو كما تقول: شاهدت ضرباً زيداً، أي: أن أضرب زيداً.
قوله: (وفي اختصاص "الرحمن" وتكريره مرات)، اعلم أنه ذكر أحوال المتقين، وكرر فيها هذه الكلمة مرتين ليُعلق بها أولاً ما يخصهم من الله من فضيلة التبجيل والإكرام، وثانياً: ما ينبئ عن القرب من الله والزلفى عنده من مزية درجة الشفاعة، وعلل حصول هذه المرتبة باتخاذ العهد وهو التوحيد والقيام بمواجب الشكر والعبودية، وعقبه بقوله:
الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره، من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه: خلق العالمين، وخلق لهم جميع ما معهم، كما قال بعضهم: فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى "سمى" المتعدي إلى مفعولين، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني، طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدا. أو من دعا بمعنى نسب، الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام «من ادعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر:
إنّا بنى نهشل لا ندّعي لأب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً) إعلاماً بعظم تأثير هذه الكلمة من الموافقين والمخالفين في الدنيا ليكون تكميلاً لتأثيره في العقبى، فأتى أولاً بذكر المخالفين، وكررها أربع مرات تشديداً لكفران النعم التي موليها الرحمن وتعكيساً لآرائهم، يعني: كان من حق مُولي أصول النعم وفروعها وخالق العالمين وما فيها أن لا يشكر غيره، فقد كفروا به بأن اتخذوا له ولداً، كقوله تعالى:(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)[الواقعة: 82]، ثُم ثنى بذكر الذين اتخذوا عنده عهداً وأوثقوه توثقةً شديدة حتى علقت به عقدة المحبة والمودة تعريضاً بالمخالفين، وأنهم المبغوضون، ولذلك وُصفوا بالمغضوب عليهم.
قوله: (طلباً للعموم والإحاطة) أي: لم يقل: دعوا عيسى ولداً ولا عُزيراً ولا الملائكة، طلباً للعموم على منوال: فلانٌ يُعطي ويمنعُ، لكن اقتصر على أحد مفعوليه.
قوله: (إنا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ)، تمامه:
عنه ولا هو بالأبناء يشربنا
أي: لا ننتسب إليه.
(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً)[مريم: 92].
انبغى: مطاوعُ «بغى» ؛ إذا طلب، أى: ما يتأتى له اتخاذ الولد وما ينطلب لو طلب مثلا، لأنه محال غير داخل تحت الصحة. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى، وليس للقديم -سبحانه- جنس، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم: 93 - 95].
(مَنْ) موصوفة؛ لأنها وقعت بعد "كل" نكرة، وقوعها بعد رب في قوله:
ربّ من أنضجت غيظا صدره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("انبغى" مطاوعُ "بغى") الجوهري: قولهم: ينبغي لك أن تفعل كذا، فهو من أفعال المُطاوعة. تقولُ: بغيته فانبغى.
قوله: (وما ينطلبُ) أي: ما يحصل طلبته.
قوله: ((مَن) موصوفةٌ؛ لأنها وقعت بعد "كل")، قال أبو البقاء:(مَن) نكرةٌ موصوفةٌ، و (فِي السَّمَوَاتِ) صفتها، و (إِلاَّ آتِي) خبرُ كل، ووحد (آتِي) حملاً على لفظ كل، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها، ومن الإفراد (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ).
قوله: (رُب من أنضجت غيظاً صدره)، تمامه:
قد تمنى لي موتاً لم يُطع
وبعده:
وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة: (آتِي الرَّحْمنِ) على أصله قبل الإضافة. الإحصاء الحصر والضبط يعنى: حصرهم بعلمه وأحاط بهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير أنهم أولاد الله، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأن الرحمن يصح أن يكون والدا. والثاني: إشراك الذين زعموهم لله أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم، فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات، ثم عقبه بهدم الكفر الآخر. والمعنى: ما من معبود لهم في السماوات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتى الرحمن، أى: يأوى إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم، لا يدعي لنفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويراني كالشجا في حلقه
…
عسراً مخرجه ما يُنتزع
نضج اللحم والعنبُ ينضج نُضجاً فهو نضيج، والشجا: ما نشب في الحلق من غُصة هم أو نحوه. و"مَنْ" في "من أنضجتُ" موصوفة، أي: أي رجل أنضجت.
قوله: (فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات)، وأما الكفر الأول، وهو قوله:(اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً) فهدمه قوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) الآية، وهذا غنما يصحُّ هدماً إذا ذهب إلى ما ذكره صاحبُ "الانتصاف"، أي: لو صح هذا لتعطل وجه دلالة المكونات على تقدسه سبحانه وتعالى ووحدانيته، فاستعير لما فيه من روح الدلالة التي خُلقت لأجلها إبطالُ صورتها بالهدم بالانفطار. وأما الكفر الثاني، وهو ما يلزم من إشراك الأولاد الآباء في المالكية، فهدمه قوله:(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) الآيات؛ لأن من يأوي إلى الرحمن ويلتجيء على ربوبيته يكونُ عبداً منقاداً مطيعاً خاشعاً خاشياً لا يكونُ إلا ذليلاً فضلاً عن أن يكون شريكاً.
قوله: (لا يدعي لنفسه) الضمير المرفوع راجعٌ إلى قوله: "ما من معبودٍ"، وهو الذي
ما يدعيه له هؤلاء الضلال. ونحوه قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ)[الإسراء: 57]. وكلُّهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم وبحمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم، لا يفوته شيء من أحوالهم، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)[مريم: 96].
قرأ جناح بن حبيش (وُدًّا) بالكسر: والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا دجا الإسلام. وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه:«يا علىّ قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة» فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استتر في (ءاتى)، وقوله:"كما يجبُ عليهم" جملةٌ معترضةٌ تؤكدُ معنى: "كما يفعلُ العبيدُ" معطوفةٌ عليه، نحو: أعجبني زيدٌ وكرمه.
قوله: (مهيمنٌ). الجوهري: أصله مؤأمنٌ، لينت الثانية، وقلبت ياء، وقلبت الأولى هاءً.
قوله: (دجا الإسلام) الأساس: ومن المجاز: ثوبٌ داجٍ: سابغٌ غطى جسده كله، وكان ذلك مُذ دجا الإسلام، وثوبُ الإسلام داجٍ.
وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه.
(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) [مريم: 97 - 98].
هذه خاتمة السورة ومقطعها، فكأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه (بِلِسانِكَ) أى: بلغتك وهو اللسان العربي المبين، وسهلناه وفصلناه لِتُبَشِّرَ بِهِ وتنذر.
واللدّ: الشداد الخصومة بالباطل، الآخذون في كل لديد، أى في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم، يريد أهل مكة. وقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا) تخويف لهم وإنذار. وقرئ (تُحِسُّ) من حسه إذا شعر به. ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة:(تَسْمَعُ) مضارع "أسمعتَ". والرَّكْز: الصوت الخفي. ومنه: ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. والركاز: المال المدفون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يقول الله عز وجل: يا جبريل، قد أحببت فلاناً)، الحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض".
قوله: (فكأنه قال) الفاءُ: جوابُ شرط محذوف، أي: إذا كانت الآية خاتمة للسورة "فكأنهُ قال: بلغ هذا المنزل"، وفيه إشعارٌ بأن الفاء التنزيلية، أعني (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ) فاءٌ فصيحة؛ لأن السبب المحذوف إما قوله:"بلغ هذا المُنزل"، أو قوله:"بشر وأندر"، يعني بلغ المُنزل لأنا أنزلناه بلُغتك لييسهُل عليك إبلاغه، فبشر وأنذر. وقال: بشر وأنذر فإنا
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به، ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهرون وإسماعيل وإدريس، وعشر حسنات بعدد من دعا الله في الدنيا وبعدد من لم يدع الله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سهلنا بلسانك، وفصلنا مواقع البشارة والنذارة، وإنما كان خاتمة للسورة، بل للقرآن بأسره، لأنها مشتملة على البشارة لأولياء الله والنذارة لأعدائه. قال القاضي: ضمن (يَسَّرْنَاهُ) معنى: أنزلناه بلغتك، وعُدي بالباء، وإلا فحقه: على لسانك.
سورةُ طه
مكية وهي مئة وثلاثون وأربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
(طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) [طه: 1 - 4].
(طه) أبو عمرو فخم الطاء لاستعلائها. وأمال الهاء وفخمها ابن كثير وابن عامر على الأصل، والباقون أمالوهما. وعن الحسن رضى الله عنه:(طه)، وفسر بأنه أمر بالوطء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة طه
مكيةٌ، وهي مئة ثلاثون وأربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (أبو عمرو فخم الطاء)، قال صاحب "التيسير": قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بإمالة فتحة الطاء والهاء، وورشٌ وأبو عمرو بإمالة الهاء خاصة، والباقون بفتحهما.
الأرض بقدميه معا، وأن الأصل (طأ)، فقلبت همزته هاء، أو قلبت ألفا في (يطأ) فيمن قال:
لا هناك المرتع
ثم بنى عليه الأمر، والهاء للسكت. ويجوز أن يكتفى بشطرى الاسمين وهما الدالان بلفظهما
على المسلمين، والله أعلم بصحة ما يقال: إن «طاها»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو قُلبت في "يطأ")، أي: قُلبت الهمزة في "يطأ" ألفاً، وبنى الأمر عليه، كما قالوا في هنأك: لا هناك، وإذا بنى عليه الأمر فيكونُ: ط، كما يكون الأمر من "يرى": رَ، ثم ألحق هاء السكت فصار: طه.
قوله: (لا هناك المرتع)، أوله:
راحت بمسلمة البغالُ عشية
…
فارعي فزارة لا هناك المرتع
الرواحُ: نقيضُ الغدو، لا هناك: دعاءٌ على الناقة من الهنو، أ]: لا هناك رعيُ هذا المرتع، راحت بمسلمة البغال، نحو: مر بفلانٍ فلانٌ، فزارةُ حي من الغطفان، يخاطب ناقته وقد رحل مسلمة بالبغال عشية، وقد فقد بنى فزارة، أي: ما مقامك هاهنا ورعيك مرعاها، فاقصدي بني فزارة ارعي مرعاها.
قوله: (ويجوز أن يكتفى بشطري الاسمين)، أي: بنصف كل واحدٍ من الطاء والهاء، وقد سبق في فاتحة البقرة أنها أسماءٌ مسمياتها الحروف المبسوطة، فأسقطت الألفُ من كل واحد منهما، فقيل:(طه). عن نور الدين الحكيم: كأنه قصد بهذا الكلام الذب عن الحسن، فإنه أشهر القول بأن هذه السورة من السور الثمان والعشرين المبتدأ فيها بفواتح السور، فأراد أن يُدرج (طه) بالفواتح فقال:"يجوز أن يُكتفي بشطري الاسمين"، أي: بهذين الحرفين من طاها اللذين هما اسمان من الفواتح.
قوله: (والله أعلمُ بصحة ما يقال)، وجهٌ آخر.
في لغة عك في معنى: يا رجل، ولعل عكا تصرفوا في «يا هذا» -كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء- فقالوا في «يا»:«طا» ، واختصروا (هذا) فاقتصروا على (ها)، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به:
إنّ السّفاهة طاها في خلائقكم
…
لا قدّس الله أخلاق الملاعين
والأقوال الثلاثة في الفواتح: أعنى التي قدمتها في أول الكاشف عن حقائق التنزيل، هي التي يعوّل عليها الألباء المتقنون (ما أَنْزَلْنا) إن جعلت (طه) تعديداً لأسماء الحروف على الوجه السابق ذكره فهو ابتداء كلام. وإن جعلتها اسما للسورة احتملت أن تكون خبرا عنها وهي في موضع المبتدأ، و (الْقُرْآنَ) ظاهر أوقع موقع الضمير لأنها قرآن، وأن يكون جوابا لها وهي قسم. وقرئ: (ما نُزل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في لغة عك)، الجوهري: وهو عكُّ بن عدنان. أخو معد. وهو اليوم في اليمن.
قوله: (تصرفوا في "يا هذا")، أي: في لفظة "هذا"، فقلبوا حرف النداء طاء، واختصروا لفظة "هذا" بحذف الذال، وقالوا:"طا ها"، قال الواحدي: وأكثرُ المفسرين على أن معنى (طه): يا رجلُن يريد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قولا لحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة ومجاهدٍ وابن عباس في رواية عطاء والكلبي، غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة وبالنبطية والسريانية، ويقول الكلبي: بلغة عك، قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى، لأن الله لم يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان غير قريش، وقد ذكر محيي السنة مختصراً من هذا، والمصنفُ ما رضي بهذا القول، حيث قال: والله أعلمُ بصحة ما يقال. وقال: والأقوال الثلاثة في الفواتح هي التي يُعول عليها الألباءُ المتقنون.
قوله: (و (الْقُرْآنَ) ظاهر أوقع موقع الضمير)، يعني:(طه) إذا كان اسماً للسورة
عليك القرآن) (لِتَشْقى) لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى:(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ)[الشعراء: 3]، والشقاء يجيء في معنى التعب. ومنه المثل:"أتعب من رائض مهر"، أى: ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا له: إنك شقى لأنك تركت دين آبائك، فأريد ردّ ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في درك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان مبتدأ خبره: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، ولابد في الجملة إذا وقعت خبرا ًمن عائد، وهنا أقيم مقام العائد (الْقُرْآنَ)، وهو إما اسمٌ للسورة، فاستغنى عن الضمير به إشعاراً بالعلية وإيذاناً بأن ما هو رحمةٌ لك لا يكون إنزاله لشقاوتك، أو القرآن كله، فاكتفى عن الضمير بالعموم، كما في قول: نعم الرجل زيدٌ، في وجه، وقد أشار إلى الوجهين بقوله: لأنها قرآن.
قوله: (والشقاء يجيء في معنى التعب)، قال تعالى:(فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)[طه: 117]، أي: فتتعب، الأساس: ولم يزل في شقاء من امرأته في تعب، وما زلت تُشاقي فلاناً منذ اليوم مشاقاة تعاسره ويعاسرك.
قوله: (أتعبُ من رائض مُهر)، قال الميداني: هو كقولهم: لا يعدم شقي مهرا، يريد أن معالجة المهارة شقاءٌ، لما فيها من التعب.
قوله: (فأريد رد ذلك)، أي: قوله تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) رد لقول المشركين: إنك تشقى بتركك دين آبائك، وتعريضٌ بأنهم الأشقياء؛ لأن (طه) إذا جُعل اسماً للسورة و (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) خبره، يكون "القرآن" من وضع المُظهر موضع المضمر لما ذكرنا، وللتفخيم تعظيماً له، وأنه هو السُّلمُ في نيل كل فوزٍ وسعادة، ومن
وروي أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدَّتْ قدماه، فقال له جبريل عليه السلام: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا. أى: ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، وكل واحد من (لِتَشْقى) و (تَذْكِرَةً) علة للفعل، إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حُرم فهو الشقي الخائب الخاسر، وإذا جُعل قسماً، و (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) المُقسم عليه، دال أيضاً على شرفه، كقوله:
وثناياك إنها إغريض
من كون القسم والمقسم عيه من وادٍ واحد، فقوله: طوما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها" إشارةٌ إلى معنى التعريض.
قوله: (حتى اسمغدت قدماه)، النهاية: وفي الحديث: أنه صلى حتى اسمغدت رجلاه، أي: تورمتا وانتفختا، واسمغد الجُرحُ: إذا ورم.
قوله: (لتنهك نفسك)، الجوهري: نهكته الحمى: إذا جهدته وأضنته، وفدحه الدين: أثقله، وأمرٌ فادح: إذا عاله وبهظه.
قوله: (لاستجماعه الشرائط)، "الشرائط"، بالرفع في بعض النسخ، وفي الحاشية عن المصنف:"لاستجماع الشرائط بغيرها"، هذا هو الصحيح، لما ذكر صاحب "المُغرب": استجمع السيلُ: اجتمع من كل موضع، واستجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه، وهو لازمٌ كما ترى. وقولهم: استجمع الفرس جرياً: نصبٌ على التمييز، وأما قول الفقهاء مستجمعاً شرائط الجمعة، فليس يثبت. وأما قول الأبيودري:
أن تشقى، كقوله تعالى:(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ)[الحجرات: 2]؟ قلت: بلى، ولكنها نصبة طارئة، كالنصبة في (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف: 155]، وأما النصبةُ في (تذكرةً) فهي كالتي في ضربت زيدا؛ لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شآميةٌ تستجمع الشول حرجفٌ
فكأنه قاسها على ما هو الغالب في الباب، أو سمعه من أهل الحضر فاستعمله. تم كلامه.
ويمكن أن تُصحح الرواية بالرفع بأن يقال التقدير: لاستجماع الشرائط فيه، كقول الشاعر:
ويوم شهدناه سليماً وعامراً
قوله: (نصبة طارئة)، أي: في قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2]، يعني: كان من حقه دخولُ اللام لضعف دلالته على التعليل، لأنه ليس على الشريطة لكنها نصبةٌ عارضةٌ كما في قوله تعالى:(وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ)[الأعراف: 155]، قال صاحب "الفرائد": هذا السؤال مبنيٌّ على قوله: إلا أن الأول وجب مجيئه باللام، يعني: ذكرت الوجوب وليس به؛ لأنه يجوز مجيئه بدون اللام كما في قوله تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)[الحجرات: 20]، وخلاصة الجواب أن الواجب: أن يُجاء باللام، إلا أنه حذف اللام تخفيفاً لطول الصلة والموصول، ولذلك قالوا: يُحذف حرف الجر مع "أنّ" و"أنْ" كثيراً، واللامُ هاهنا متحققٌ حكماً، ولم يكن متحققاً في (تَذْكِرَةً) لا حقيقة ولا حُكماً.
وقوانين لغيرها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون (تَذْكِرَةً) بدلا من محل (لِتَشْقى)؟ قلت: لا، لاختلاف الجنسين، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي (إلا) فيه بمعنى «لكن» ويحتمل أن يكون المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لاختلاف الجنسين)، قال صاحب "الفرائد": هذا ليس بجواب. الجوابُ أن يُقال: المبدلُ منه لابد من أن لا يكون مقصوداً في الكلام، والمقصود هو البدل، ولهذا يجوز اطراحه إلا حيث لا يستقيم بقية الكلام، كما في قولك: زيدٌ أرأيت غلامه رجلاً صالحاً، وهاهنا (لِتَشْقَى) مقصود في الكلام، واطراحه يخل بالمقصود مع أن بقية الكلام يصح بعد اطراحه. وقال صاحب "التقريب": لا يجوز البدل لاختلاف الجنسين في الانتصاب، لكنه نُصب على الاستثناء المنقطع.
وقلتُ: الظاهر أن مقصود المصنف من قوله: "اختلاف الجنسين" أن التذكرة والشقاوة لا تتراءى ناراهما، ولو أبدلته منه لكنت جعلت الشيء بدلاً مما لا يجانسه، والقائم مقام الشيء لابد أن يكون بينهما مجانسة، ولأن البدل كالبيان للمبدل من حيث الإيضاح وكالتأكيد له من حيث تكرير العامل، كما سبق في (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)[الفاتحة 6 - 7]، ولهذا جاز أن يكون استثناء منقطعاً؛ لأن اختلاف الجنسية شرط فيه، إما تحقيقاً نحو: ما جاءني أحدٌ إلا حماراً، أو تقديراً نحو (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) [الحجر: 58 - 59]، على ما سبق، ويؤيده ما ذكره صاحب "الكشف": لا يجوز البدلُ؛ لأن التذكرة ليست من الشقاوة في شيء ليس هو إياه ولا بعضه ولا مشتملاً عليه.
قوله: (المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتل متاعب التبليغ)، يريد أن (لِتَشْقَى) تعليلٌ لـ (أَنزَلْنَا)، ثم دخل النفيُ على المعلل والاستثناء متصلٌ إما على تقدير الحال، فيقال:
وتكاليف النبوّة، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون (تذكرة) حالا ومفعولا له (لِمَنْ يَخْشى) لمن يؤول أمره إلى الخشية، ولمن يعلم الله منه أنه يبدل بالكفر إيمانا وبالقسوة خشية. في نصب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في حالٍ من الأحوال إلا في حال التذكرة، وإما على تقدير أن يكون مفعولاً له، فيكونُ التقدير ما أنزلنا هذا القرآن المتعب لأمر من الأمور إلا تذكرة. وقال صاحب "الانتصاف": في هذا الوجه بُعدٌ؛ لأنه حينئذ يكون الشقاء سبب النزول، وما جرت به عادة الله مع نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهاه عن الشقاء وضيق الصدر. قال تعالى:(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ)[الأعراف: 2]، (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء: 3].
وقلتُ: ما ذكره ليس بشيء؛ لأن المراد بالشقاء التعبُ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى:(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)[المزمل: 5]، حيثُ فسره المصنف بقوله: إن المعنى بالقول الثقيل القرآنُ، وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليفُ شاقةٌ ثقيلة، لا سيما عليه صلوات الله عليه؛ لأنه متحملها بنفسه، فهي أثقلُ عليه. والمعنى على هذا التفسير: ما أنزلنا عليك القرآن المتعب إلا ليكون تذكرة، لا لأن تحملَ على نفسك قيام الليل وتُذيقها المشقة، فحسبك منه ما تلقاه من متاعب ومشاق مقاولة الأعداء. ومعنى قوله تعالى:(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ)[الأعراف: 2] لا تخف تكذيب القوم وإعراضهم، ولا يضق صدرك من الأذى، فنهاه عن مبالاتهم، وهو صريحٌ في تلقي المكاره وتحمل المتاعب. وقوله تعالى:(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)[الشعراء: 3] معناه: لا تتساقط عليهم حسراتٍ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث، ودُم على التبليغ ولا تتهاون. وتلخيص ذلك أن الشفاء الذي نهاه عنه غيرُ الشقاء الذي هو سبب النزول، وهو الذي نحن بصدده.
قوله: (لمن يؤول أمره إلى الخشية)، هذا لأن القرآن تذكيرٌ للناس كلهم الخاشي وغير الخاشي، خص الخاشي لأنه المنتفع به.
قوله: (ولمن يعلمُ الله)، عطفٌ تفسيريٌّ لقوله:"لمن يؤولُ أمره".
(تَنْزِيلًا) وُجوه: أن يكون بدلا من (تذكرة) إذا جعل حالا، لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب ب (نُزًلَ) مضمرا، وأن ينصب بـ (أنزلنا)، لأن معنى: ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن ينصب بـ (يخشى) مفعولا به، أى: أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله، وهو معنى حسن وإعراب بين. وقرىّ:(تنزيل)، بالرفع على خبر مبتدأ محذوف. ما بعد (تَنْزِيلًا) إلى قوله:(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تعظيم وتفخيم لشأن المنزل، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن الشيء لا يُعللُ بنفسه)، يعني تذكرةً علةٌ لأنزلنا، ولو أبدل تنزيلاً عنه، رجع إلى كونه علةً لـ (أَنزَلْنَا)، فيلزم تعليلُ الشيء بنفسه، وإذا جُعل حالاً يكون بمعنى مُنزلاً، فيكونُ حالاً موطئة، كقوله:(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)[يوسف: 2]، بخلافه إذا جُعل مفعولاً له، فإنه يبقى على مصدريته، فيكون تعليلا ًلنفسه بهذا التقدير؛ لأنه لو كان منصوباً بـ (أَنزَلْنَا) لا على هذا التقدير، بل على ظاهره، يكون تقدير الكلام: ما أنزلنا تنزيلاً ممن خلق الأرض، وهو فاسد.
قوله: (لأن معنى: ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة)، تعليلٌ لجواز أن يكون أنزلناه عاملاً في المصدر المؤكد بهذا التقدير؛ لأنه لو كان منصوباً بأنزلنا لا على هذا التقدير، بلعلى ظاهره، يكونُ تقدير الكلام: ما أنزلنا تنزيلاً ممن خلق الأرض، وهو فاسد.
قوله: (وهو معنى حسنٌ وإعرابٌ بيِّن)؛ لأن المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكيراً لمن يخشى المنزل الذي شأنه أنه من جهة القادر العظيم القاهر السلطان الواسع الملك، فإذا خشيه بدل الكفر إيماناً، والعصيان طاعةً، ولا يتقدم على التكذيب والارتياب.
وقوله: (ما بعد (تَنزِيلاً) إلى قوله: (الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)؛ تعظيم وتفخيم لشأن المنزل)، فيه إيماءٌ إلى ترتب الحكم على الوصف.
ولا يخلو من أن يكون متعلقُه إما (تَنْزِيلًا) نفسه فيقع صلة له، وإما محذوفا فيقع صفة له. فإن قلت: ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت: غير واحدة منها عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة. ومنها أنّ هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة. ومنها أنه قال أولا: (أَنْزَلْنا) ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فضوعفت الفخامة من طريقين: ويجوز أن يكون (أَنْزَلْنا) حكاية لكلام جبريل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا يخلو من أن يكون متعلقه)، الضمير في "لا يخلو": راجعٌ إلى قوله: "ما بعد (تَنزِيلاً) ". وعليه قول صاحب "التقريب" في قول المصنف: "فيقع صلة"، ويُمكن أن يقال: إن "مَن" فاعل، أي: لا يخلو من أن يكون، يعني (مِمَّنْ خَلَقَ) إما أن يكون معمولاً لـ (تَنزِيلاً) أو لمُقدر، وهو صفة (تَنزِيلاً)، والصفة أدخل في التفخيم والتعظيم المطلوب؛ لأن الصفة حينئذ تكون مادحة.
قوله: (أن هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة)، يعني قوله:(وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى* لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
…
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، فلو دام على لفظ المتكلم لم يحسن سرد هذه الصفات على ما هو عليه؛ لأن المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن تذكرة لمن يخشى، تنزيلاً ممن هو مستحقٌّ لأن يُطاعَ فيما أمرَ ونهى، وأن يُعبد ويُخضع له، وأن لا يُستعان إلا به لأنه متصفٌ بهذه الصفات الكاملة، ومن الأسلوب قوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ) بالنساء: 64]، فلم يقل: استغفرت لهم؛ تعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم وتفخيماً لاستغفاره، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان.
وأما قوله: "إن هذه الصفات إنما تسردت على لفظ الغيبة"، فمعناه: أنه ما انتقل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة كما عليه ظاهرُ الالتفات، وإنما انتقل منه إلى ما من حقه أن يكون على لفظ الغيبة، وهو المُظهر، كما في هذه الآية من لفظ الرسول، فهو في الحقيقة من وضع المُظهر موضع المضمر لتوخي بيان العلة؛ لأن حق العود بعد المضمر أن يُجاء بالمضمر.
قوله: (فضوعفت الفخامة من طريقين)، يعني: إذا ابتدئ الكلامُ بنوع من التعظيم،
والملائكة النازلين معه. وصف السموات بالعلى: دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها.
(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) [طه: 5 - 6].
قرئ: (الرَّحْمنُ) مجروراً صفة لمن خلق والرفع أحسن، لأنه إما أن يكون رفعا على المدح على تقدير: هو الرحمن. وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى "من خلق". فإن قلت: الجملة التي هي: (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ما محلُّها - إذا جررت "الرحمن" أو رفعته على المدح؟ قلت: إذا جررت فهي خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن تكون كذلك وأن تكون مع "الرحمن" خبرين للمبتدأ. لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضا لشهرته في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو إتيان الضمير الدال على أن المتكلم به معظمٌ مطاعٌ ذو سلطان، ثم ثنى بما يتمكن من إجراء الأوصاف الجليلة على الموصوف بنوع التعظيم وتكرر المعنى المقصود، ويفوت هذا لأن أجري الكلام على سنن واحد.
قوله: (وإما أن يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى "من خلق")، يريدُ أن التعريف فيه كالتعريف في قوله:(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى)[آل عمران: 36]، فإن المشار إليه ما يُعلم من مفهوم قوله:(نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)[آل عمران: 35]، من الذكورة، فإنه لما قيل:(مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا) فُهِم منه معنى الرحمن، وأنه مولى جلائل النعم، ولا نعمة أجل من إيجاد الأشياء من العدم، فأشير باللام إلى ذلك المعهود، كأنه قيل: ذلك الخالقُ (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وفيه إثباتُ وصفين مستقلين، أي: الخالقية والمالكية.
قوله: (قالوه أيضاً)، جزاءٌ لقوله:"وإن لم يقعد"، وقوله:"ملك" مفعولٌ لقوله:
ذلك المعنى ومساواته "ملك" في مُؤدّاه، وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر. ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أنّ من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: هو جواد. ومنه قول الله عز وجل: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)[المائدة: 64]. أى: هو بخيل، (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة: 64]، أى: هو جواد، من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل للتثنية من ضيق العطن والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"ومُساواته"، يعني: أنهم يكنون بقوله: استوى فلانٌ على العرش، عن: ملك، سواءٌ قعد على السرير أو لم يقعد؛ لأن اللازم مساوٍ في تأدية المعنى، كما يقال: يدُ فلانٍ مبسوطةٌ ويد فلان ٍمغلولةٌ بمعنى أنه جوادٌ أو بخيلٌ، حتى إن لم يكن له يدٌ رأساً قيل هذا الكلام في حقه.
قوله: (وإن كان أشرح)، اسم "كان": ضميرٌ يرجعُ إلى قولهم: استوى فلانٌ على العرش، لا إلى: ملك، كما ظُن: فالمعنى: قالوا: استوى فلانٌ على العرش، يريد: ملك، سواءٌ قعد على السرير أو لم يقعد؛ لمساواة هذا اللفظ "ملك" في تأدية المقصود، وإن كان هذا اللفظ أبسط من "مَلكَ" وأبلغ منه، كما عُلم في البيان أن الكناية أوقع من الإفصاح بالذكر؛ لأنك مع الكناية كمُدعي الشيء بالبينة، ولأنه لا يقال: فلانٌ استوى على العرش إلا بعد تمكنه على الملك استقراره له، بخلاف ما إذا قيل: ملك، ولأن في تلك العبارة تصويراً لصورة العرش في الذهن، وتخييلاً لحالة الاستواء عليه، ويلزمه لمزيد المعنى الآخر لا عكسه، فيكونُ أبسط وأدل.
قوله: (والتمحل للتثنية من ضيق العطن)، يريدُ أن قولهم: إن معنى اليد: النعمة، فمعنى (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة: 64]: نعمةُ الله مقبوضةٌ، ومعنى (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ): نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة. نقله الواحدي عن بعضهم.
قوله: (من ضيق العطن)، أي: من ضيق مجاله في المعاني والبيان، الأساس: ضرب القومُ
(وَما تَحْتَ الثَّرى) ما تحت سبع الأرضين: عن محمد بن كعب وعن السدى: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.
[(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى* اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [طه: 7 - 8].
أي: يعلمُ ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، أو ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعطنٍ: إذا أناخوا حول الورد، وإذا أناخُوا حول الماء بعد السقي، والعطنُ والمعطنُ: المناخُ حول الورد، وأما في مكان آخر فمُراحٌ ومأوى. ومن المستعار: فلانٌ واسعُ العطن، إذا كان رحب الذراع، وقال الإمام في قوله: من غير تصوير يدٍ ولا غلٍّ ولا بسط، نظرٌ؛ لأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلاتُ الباطنية، فإنهم يقولون أيضاً: المراد من قوله تعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى)[طه: 12]: الاستغراق في خدمة الله من غير تصور فعل، وقوله تعالى:(بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء: 69]: المرادُ منه تخليصُ إبراهيم من يد الظالم من غير أن يكون هنا نارٌ وخطابٌ البتة، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله المجيد، بل القانون: أنه يجب حملُ كل لفظٍ ورد في التنزيل على حقيقته إلا إذا قامت دلالةٌ عقلةٌ قطعيةٌ توجبُ الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئاُ لم يخض فيه.
وأقولُ: سلمنا أن الأصل إجراءُ اللفظ على حقيقته إلا إذا منع مانعٌ، لكن طريق العدول غير منحصر في المجاز في المفرد جاز العدول من الإسناد إلى الإسناد، في مثل قولنا: أنبت الربيع البقل وهزم الأمير الجُندَ، ومن المركب إلى المركب ما نحن بصدده، فإنه عدولٌ إلى أخذ الزبدة الخلاصة من المجموع لمانع إجرائها على مفهومها الظاهري، ويُسمى هذا بالكناية الإيمائية.
قوله: ((وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) ما تحت سبع الأرضين)، والثرى هو: التُّرابُ الندي.
أسررته في نفسك (وَأَخْفى) منه وهو ما ستسره فيها. وعن بعضهم: أن "أخفى" فعل يعنى أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه، هو كقوله تعالى:(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)[طه: 110]، وليس بذاك. فإن قلت كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه وإن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غنى عن جهرك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن بعضهم أن "أخْفَى" فعلٌ)، قال محيي السنة: رُوي عن زيد بن أسلم؛ أي: يعلمُ أسرار العباد، وأخفى سرهُ عن عباده، فلا يعلمه أحدٌ، تحريرهُ أنه يعلمُ أسرار العباد، العبادُ لا يعلمون أسراره، كقوله تعالى:(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)[طه: 110].
قوله: (وليس بذاك) أي: الشرط لا يلائمه، لأن الكلام ليس في إثبات العلم لله تعالى ونفيه عما سواه. قال صاحب "الانتصاف": يلزمُ منه عطفُ الجملة الفعلية على الاسمية إن عطفته على الجملة الكبرى، أو عطفُ الماضي على المضارع إن عطفت على الجملة الصغرى، هذا من اللفظ، ومن المعنى: القصد: الحض على ترك الجهر وسقوط فائدته، يعلم الله ما هو أخفى منه، وإذا جعلته فعلاً ماضياً خرج عن قصد السياق، وليس مثله قوله تعالى:(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)[طه: 110]، إذ بين السياقين اختلاف.
قوله: (فاعلم أنه غنيٌّ عن جهرك)، فيه إيذانٌ بأن السُّؤال عن وجه ترتب الجزاء على الشرط، يعني: أن من شرط الجزاء أن يكون مسبباً عن الشرط، وهاهنا الشرطية مفقودة. وأجاب بوجهين مآلهما إلى تقدير الإعلام والتنبيه والتوبيخ، والجواب الأول مبنيٌّ على نفي الجهر وإثبات الغير، والثاني على الإرشاد إلى وجه حكمته، أما قوله أولا:"فاعلم أنه غني عن جهرك" فتوبيخٌ؛ يعني: جهرك بالقول سببٌ لأن أوقفك على قلة جدواه؛ لأن السامع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قريبٌ يسمعُ السر وأخفى، ومنه: تأديب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي موسى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اربعوا على أنفسكم، إنكم ما تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم" الحديث.
وأما قولُه ثانياً: "أن يكون نهياً عن الجهر" فمعناهُ: لا تجهروا بالقول في الدعاء، بل اعتمدوا الخُفية، فإنها أبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخضوع وأهضمُ للنفس، كما قال تعالى:(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ)[الأعراف: 205]. وأما قوله ثالثاً: تعليماً للعباد، فتأويله: إني ما كلفتكم الجهر لأني لا أسمع إلا الجهر، فإني أسمع السر وأخفى، وإنما كلفتكم لأمر آخر فروموه من مظانه، كأنه قيل: شرعية الأمر بالجهر سببٌ للتنبيه على وجه الحكمة ودفع الريبة، قال القاضي: الغرض في شرعية الجهر يس لإعلام الله، بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها، ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار.
وقلتُ: وقد أسلفنا في خاتمة الأعراف مراتب الدعاء بحسب اختلاف المقامات على لسان العارفين. ومن الاعتبارين ما روينا عن أبي داود والترمذي، عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً، فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يخفض من صوته، ومر بعمر رضي الله عنه يُصلي يرفع صوته، فسأل أبا بكر فقال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله، وسأل عمر رضي الله عنه فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. وأخرج الإمام أحمد نحوه عن علي، وزاد الحسن في حديثه فقال:"يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً"، وقال لعمر:"اخفض من صوتك شيئاً". ورواه أبو داود، عن أبي هريرة أيضاً.
فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)[الأعراف: 205]، وإما تعليماً للعباد أنّ الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر، (الْحُسْنى) تأنيث الأحسن، وصفت بها الأسماء لأنّ حكمها حكم المؤنث كقولك: الجماعة الحسنى، ومثلها (مَآرِبُ أُخْرى) [طه: 18]، و (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) [طه: 23].
والذي فضلت به أسماؤه في الحسن سائر الأسماء: دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن هذه المعاني المذكورة مستنبطةٌ من الآية باستعانة إشارة النص. وأما عبارتُه فلإثبات علمه الشامل للكائنات من جزئياتها وكلياتها وما يتصل بها من باطن أحوالها وظاهرها؛ لأن قوله تعالى: (خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا) بيان لكمال الخالقية، وقوله:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) إيماءٌ على التدبر التام، وقوله:(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)[البقرة: 255]، إشارةٌ إلى المالكية العامة، فيكون قوله:(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ)[طه: 7]، إثباتٌ للعالمية، فالمعنى: تنبه أيها السامعُ على أن علمه محيطٌ بكل شيء وإن أردت أن تجهر بالقول وتخفي في نفسك خلافه فاعلم أنه يعلمُ المضمر وأخفى منه مما ستسره فيها، وهو في المبالغة في جانب العلم مثل (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) في جانب المُلك فينطبق على هذا التأويل مجيء اسمه المقدس الجامع لأجل ترتب الحكم بالتوحيد عليه وإرداف قوله:(لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، به على التتميم.
قوله: (سائر الأسماء)، الجوهري: سائر الناس: جميعهم، وذكره في السين مع الياء، وقال ابن الأثير في "النهاية": السائر مهموزٌ، ومعناه: الباقي، والناسُ يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح. وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء، ومنه: فضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" أي: باقيه، وفي "المُغرب": الأسارُ: جمعٌ على أفعالٍ، جمع سؤر، هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء، ثم استعير
(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) [طه: 9 - 10].
قفاهُ بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوّة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود. يجوز أن ينتصب (إِذْ) ظرفا للحديث؛ لأنه حدث. أو لمضمر، أى: حين (رَأى ناراً) كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لبقية الطعام وغيره، وقال الحريري في "درة الغواص": يستعملون "سائر" بمعنى: جميع، وهو في كلام العرب بمعنى الباقي، والدليلُ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان حين أسلم وعنده عشرُ نسوة:"اختر أربعاً منهن وفارق سائرهن"، وما أنشد سيبويه:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
…
وسائره بادٍ إلى الشمس أجمعُ
قوله: (قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به)، الضمير راجعٌ إلى معنى قوله:(طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 1 - 3] على أن يكون المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العُتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم وغير ذلك، كما أنزلنا على موسى التوراة كذلك، فتكون الواو عاطفةً قصة باستقلالها على قصة مثلها.
قوله: (أعباء النبوة)، الجوهري: العبء، بالكسر: الحملُ، والجمع الأعباء.
قوله: (ظرفاً للحديث)؛ لأنه حدثٌ، أي: مصدرٌ هنا بدليل قوله: (فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا)[طه: 10] بخلاف قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)[الغاشية: 1] فإنهُ بمعنى الخبر، قال الجوهري: والحديثُ: الخبرُ، يأتي على القليل والكثير.
كيت وكيت. أو مفعولا لـ (اذكُر) استأذن مُوسى شعيباً عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وقد ضلّ الطريق وتفرّقت ماشيته ولا ماء عنده، وقدح فصلد زنده فرأى النار عند ذلك. قيل: كانت ليلة جمعة. (امْكُثُوا) أقيموا في مكانكم. الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء، والإنس: لظهورهم، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا، حققه لهم بكلمة «إنّ» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال:(لَعَلِّي) ولمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه، يقال له حديثٌ، قال تعالى:(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً)[التحريم: 3] وقال: (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ)[يوسف: 101]، أي: ما يحدث به الإنسان في نومه، وسمى تعالى كتابه حديثاً، قال:(فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)[الطور: 34]، وقال:(فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)[النساء: 78]، والحديث: الطري من الثمار، ورجلٌ حدوثٌ: حسنُ الحديث: ورجلٌ حدثٌ وحديثُ السن: بمعنى.
قوله: (شاتية)، قيل: هي من قولهم: شتوت بموضع كذا؛ أقمت به الشتاء.
قوله: (مثلجة)، أي: ذاتُ ثلج.
قوله: (وقدح فصلد زنده)، الجوهري: وصلد الزند يصلدُ - بالكسر- صُلوداً: ذا صوت ولم يُخرج ناراً.
قوله: (لما وجد منه الإيناس)، يُروى "وجد" معروفاً ومجهولاً، والأولُ أوجه لمطابقة "خيفةً" لهم، أي: لما وجد موسى من نفسه الإيناس حققهُ للأهل بأن قال: (إِنِّي آنَسْتُ) بكلمة التحقيق.
يقطع فيقول: إنى (آتِيكُمْ)؛ لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به. القبس: النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. ومنه قيل: المقبسة، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها (هُدىً) أى: قوما يهدوننى الطريق أو ينفعوننى بهداهم في أبواب الدين، عن مجاهد وقتادة، وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى: ذوى هدى. أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في (عَلَى النَّارِ) أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في (مررت بزيد): أنه لصوق يقرب من زيد. أو لأنّ المصطلين بها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من سعفةٍ)، السعفة: الخرقة بلغة أهل مكة، والسعافُ: الخزاف.
قوله: (إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى)، يريد أن أطلق "الهدى" وأريد "الهدى" إطلاقاً للازم على الملزوم، ويمكن أن تكون الآية من باب قول ابن المناذر:
إن عبد الحميد لما تولى
…
هد رُكنا ما كان بالمهدود
ما درى نعشه ولا حاملوه
…
ما على النعش من عفافٍ وجود
لأنه إذا وجد الهدى في ذلك المكان ولا ارتياب في أنه لا يتقوم فيه بنفسه، فقد وجد الهداة، وعليه البيت المستشهد به في "الكتاب".
قوله: (كما قال سيبويه)، يعني: جعل استعلاء مكانٍ يقربُ منها بمثابة استعلائها، كما جعل اللصوق بما كان يقربُ من زيدٍ بمثابة اللصوق بمكان زيد.
قوله: (أو لأن المصطلين بها)، اعلم أن (عَلَى النَّارِ): ظرفٌ مستقرٌ حالٌ من (هُدًى)، و"كان": صفة قُدمت، صارت حالاً.
قال صاحب "الفرائد": (عَلَى): حرفُ جر لا بد له من متعلق، فالتقدير: أو أجدُ ذوي هدى مشرفين على النار؛ لأنه لابد في الاصطلاء بالنار من أن تكون النار تحت أذيالهم.
والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى:
وبات على النّار النّدى والمحلّق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تكنفوها)، الجوهري: تكنفوه واكتنفوه، أي: أحاطوا به، والتكنيف مثله.
قوله: (وبات على النار) البيت، أوله
لعمري لقد لات عيونٌ كثيرةٌ
…
إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
…
وبات على النار الندى والمحلق
ريعي لبانٍ ثدي أم تقاسما
…
بأسحم داجٍ عوضُ لا نتفرقُ
قال الحريري في "درة الغواص" بعد إنشاد البيتين الأخيرين: يعني أن المحلق الممدوح والندى ارتضعا ثدي أم وتحالفا على أنهما لا يفترقان أبداً؛ لأن عوض: من أسماء الدهر، هي مما بُني على الضم والفتح، وهو للمستقبل، كما أن قط للماضي، وعني بالأسحم الداجي: ظُلمة الرحم المشار إليها في قوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ)[الزمر: 6]، وقيل: بل عُني به الليلُ. ومعنى "تقاسما" على التقديرين: تحالفا. وقيل: تقاسما: اقتسما، وأن المراد بالأسحم الداجي: الدمُ.
و"اليفاعُ": المكان المرتفع، وهو أشهر النار للقاصدين. "تُشبُّ": توقد، و"المقرور": من أصابه القُر، أي: البردُ، و"المحلقُ" بكسر اللام وفتحها: اسم رجلٍ من بني عُكاظ، كان خاملاً فقيراً له عدةُ بناتٍ لا يرغبُ فيهن فانعزل عن قومه إلى بعض المهامه، فنزل به الأعشى ذات ليلةٍ، فأحسن قراه، ونحر ناقته ولم يكن عنده غيرها، فوقع صنعه من الأعشى موقعاً جليلاً، فلما أراد الانصراف قال: ألك حاجةٌ؟ قال: أريد أن تسير بذكري في بني عُكاظ؛ لعلي أشتهر ويرغب في بناتي، فقد مسهن الضر، فتوجه الأعشى على قومه ومدحه بقصيدة ذكر فيها محاسن شيمته ومكارم أخلاقه واستمال به قلوبهم إلى مواصلته، فمل يمض قليلٌ حتى خُطب إليه جميعُ بناته.
(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه: 11 - 14].
قرأ أبو عمرو وابن كثير (أِنِّي) بالفتح، أى: نودي بأنى (أَنَا رَبُّكَ) وكسر الباقون، أى: نودي فقيل يا موسى. أو لأنّ النداء ضرب من القول فعومل معاملته. تكرير الضمير في (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. روى أنه لما نودي (يا مُوسى) قال: من المتكلم؟ فقال له الله عز وجل: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)، وأن إبليس وسوس إليه فقال: لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأنى أسمعه من جميع جهاتى الست، وأسمعه بجميع أعضائي. وروي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: نُودي فقيل: يا موسى)، قال صاحب "الكشف": فعلى هذا الذي قام مقام الفاعل في الحقيقة في (نُودِي) هو: المصدر، دون قوله:(يَا مُوسَى)؛ لأنه جملةٌ، والجملة لا تقوم مقام الفاعل، ألا ترى أنه قال في قوله:(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّه)[يوسف: 35]، أن التقدير: ثم بدا لهم بداءٌ، ولا يقوم (لَيَسْجُنُنَّه) مقام الفاعل؛ لأنه جملةٌ والجملُ نكرات، والفاعلُ يضمرُ، والمضمر أعرف المعارف، فإذن التقدير: نودي النداء، ثم فسر فقيل:(يَا مُوسَى).
قوله: (بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي)، قال صاحب "الانتصاف": إن كان الزمخشري قصد بهذا التعصب لمذهبه في حدوث الكلام لا يبعد منه، وإن كن نقلهن كما وجده في كتب التفسير، فلا عليه، والمعتقد الحق أن الذي سمعه موسى ليس حرفاً ولا صوتاً، إذ لو كان صوتاً عرضٌ، والعرضُ الواحدُ لا يوجد في الجهات الست، فعبر بنفي لازم كونه صوتاً عن ني الصوت، كقوله صلوات الله عليه:"وكلتا يديه يمينٌ"، أي: لو كانتا جارحتين لكانت أحداهما يُسرى.
أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما فخاف وبهت، فألقيت عليه السكينة ثم نودي، وكانت الشجرة عوسجة. وروى: كلما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت. وعن ابن إسحاق: لما دنا استأخرت عنه، فلما رأى ذلك رجع وأوجس في نفسه خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه، ثم كلم. قيل: أمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ عن السدى وقتادة. وقيل: ليباشر الوادي بقدميه مُتبركاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما أن الصوت لا يختلف بقُربٍ وبعدٍ فمما يجبُ تغليطُ رواته. والذي يثبت صوتاً وجسماً يقول: إن موسى قال: سبحانك أسمعُ صوتك ولا أرى شخصك.
وقلتُ: روى الواحدي ومحيي السنة عن وهب: نودي من الشجرة فقيل: يا موسى، فأجاب سريعاً - ما يدري من دعاه - فقال: إني أسمعُ صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقربُ إليك من نفسكن فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله عز وجل فأيقن به، هذا كله لايدل على لزوم الجسمية، وكذلك القرب والبعدُ.
وقال القاضي: وهذا إشارةٌ إلى أنه عليه السلام تلقى من ربه كلامه تلقياً روحانياً ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقل إليه من غير اختصاص بعضو وجهة.
قوله: (فألقيت عليه السكينة)، السكينة: فعيلةٌ من السكون، وهي الطمأنينة.
قوله: (عوسجة)، الجوهري: العوسج: ضربٌ من الشوك، الواحد منها عوسجةٌ.
قوله: (لأنهما كانتا من جلد حمار)، عن الترمذي، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم
به. وقيل: لأن الحفوة تواضع لله، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه، وكان إذا ندر منه الدخول منتعلا تصدق، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها وتشريف لقدسها. وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي، (طُوىً) بالضم والكسر منصرف وغير منصرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "كان على موسى يوم كلمه ربه سراويل صوفٍ وكُمةُ صوف ونعلان من جلد حمارٍ ميت".
الراغب: الخلعُ: خلعُ الإنسان ثوبه، والفرس جُله وعذاره، وإذا قيل: خلع فلانٌ على فلان، معناه: أعطاه ثوباً، واستفيد معنى العطاء من هذه اللفظة بأن وصل به على فلان لابمجرد الخلع. النعل معروفة، وشبه به نعل الفرس ونعل السيف، وفرس منعل: في أسفل رسغه بياض، ورجلٌ ناعلٌ ومنتعل، ويعبرُ به عن الغنى كما يعبر عن الفقير بالحافي.
قوله: (الحفوة: تواضع)، الجوهري عن الكسائي: رجلٌ حافٍ بين الحفوة والحفاء بالمد، وقد حفي يحفى. وهو الذي يمشي بلا خُف ولا نعل. وأما الذي حفي من كثرة المشي أي: رقت قدمه أو حافره - فإنه حفٍ.
قوله: ((طُوًى) بالضم والكسر، مُنصرفٌ وغير منصرف)، في "معالم التنزيل": قرأ أهلُ الكوفة الشام بالتنوين والآخرون بلا تنوين؛ لأنه معدولٌ عن طاوٍ.
بتأويل المكان والبقعة. وقيل: مرتين، نحو ثنى، أى: نودي نداءين أو قدس الوادي كرة بعد كرة (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) اصطفيتك للنبوة. وقرأ حمزة: (وأنا اخترناك)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: طويت طياً، وذلك كطي الدرج، وعليه قوله تعالى:(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ)[الأنبياء: 104]، ومنه طويتُ الفلاة، ويعبرُ بالطي عن مُضي العمر، يقال: طوى الله عمره. وقوله تعالى: (وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) بالزمر: 67]: يجوزُ أن يكون من الأول وأن يكون من الثاني، والمعنى: مُهلكاتٌ. وقوله تعالى: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)[طه: 12]، قيل: هو اسمٌ للوادي الذي حصل فيه، وقيل: إن ذلك جُعل إشارة إلى حالةٍ حصلت له على طريق الاجتباء، فكأنه طوى عليه مسافةً لو احتاج إليها أن ينالها بالاجتهاد لبعد عليه. وقيل: هو اسم أرض، فمنهم من يصرفه ومنهم من لا يصرفه. وقيل: مصدرُ طويتُ فيصرف ويفتح أوله ويكسر، نحو: ثني وثني، ومعناه: ناديته مرتين.
قوله: (وقيل: مرتين، نحو: ثنى)، الجوهري: قال بعضهم: مثل طوى، وهو الشيء المثني، وقال:"ثُنيت فيه البركة والتقديس مرتين".
قله: (كرة بعد كرة)، نحو: لبيك وسعديك.
قوله: (وقرأ حمزةُ: "وأنا اخترناك")، يعني:"أنا" بتشديد النون، والباقون: بتخفيف النون.
الراغب: الاختيارُ: طلبُ ما هو خيرٌ وفعله، وقد يقال لما يراه الإنسان خيراً، وإن لم يكن خيرا، وقوله تعالى:(وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) بالدخان: 32]، يجوز أن يكون إشارة إلى إيجاده تعالى إياهم خيراً، وأن يكون إشارة إلى تقديمهم على غيرهم، المختار في عرف المتكلمين يقال لكل فعل يفعله الإنسانُ لا على سبيل الإكراه، فقولهم:
(لِما يُوحى): للذي يوحى، أو للوحى. تُعلَّقُ اللام بـ (استمع)، أو بـ (اخترتك) (لِذِكْرِي): لتذكرني فإن ذكرى أن أعبد ويصلى لي. أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. أو: لأنى ذكرتها في الكتب وأمرت بها. أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق. أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيرى أو لإخلاص ذكرى وطلب وجهى لا ترائى بها ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو مختارٌ في كذا، فليس يريدون به ما يراد بقولهم: فلانٌ له اختيار، فإن الاختيار أخذُ ما يراه خيراً.
قله: (لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار)، هذا هو الوجه.
وقوله: (أو لتكون لي ذاكراً غير ناسٍ فعل المخلصين)، إلى آخره، متقاربان، لكن المراد بالإقامة على الأول: تعديل أركانها، وعلى الثاني: إدامتها، وجُعلت الصلاة في الأول مكاناً لذكر ومقره وعلته، وعلى الثاني: جُعلت إقامة الصلاة، أي: إدامتها، علة لإدامة الذكر، أي: أدم الصلاة لتستعين بها على استغراق فكرك وهمتك في الذكر، كقوله تعالى:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)[البقرة: 45] ولخصهما القاضي حيث قال: خص الصلاة بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها، وهو تذكر المعبود وشُغلُ القلب واللسان بذكره يعني: ولتنويه الذكر أفردت الصلاةُ عن جنس العبادات وجُعلت جنساً أشرف وأعلى منها، ثم نيط بها الذكر للعلية ليؤذن بأن الذكر مُخ العبادة تم كلامه.
واعلم أنه تعالى كلما خاطب كليمه عليه السلام في مقام القدس بخطاب رتب عليه بالفاء حُكماً، قال أولاً:(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فعقبه بقوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)، قال الإمام: نبه به على تعظيم البُقعة وعلى أن لا يطأها إلا حافياً، ولذلك علله بقوله: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طُوًى) وإكرام الديار لساكنيها، كأنه أُشير به، إنك بوادي فقد سجلال الله وطهارة عزته، فتجرد عما سوى الله. ويمكن أن يُقال: خلع النعلين إشارة إلى تجريد ما وقع النظر عن السعي بالكلية؛ لأن بالقدم يعبر عن السعي، كما أن باليد يعبر عن القوة، ويوافقه ما رواه السلمي في "الحقائق" عن الشبلي: اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية، فيكون ولا يكون، فتحقق في عين الجمع ليكون إخبارك عنا وفعلك فعلنا، وقال ابن عطاء: اخلع نعليك: انزع عنك قوة الاتصال والانفصال إنك بوادي الانفراد معي، ليس معك أحدٌ سواي. الله أعلم.
وثانياً: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) فعقبه بقوله: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)، قال الإمام:(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) لذلك المنصب العالي ابتداء لا أنه استحقاقٌ منك على الله فتأهب له واجعل نفسك وعقلك مصروفاً إليه، فقوله:(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) يفيد نهاية اللطف والرحمة، وقوله:(فَاسْتَمِعْ) غاية الهيبة والرهبة.
وثالثا: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي)، قال الإمام: الفاء دلت على أن إلهيته هي التي ألزمت العبادة، هذا هو تحقيق قول العلماء (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) معناهُ: المستحقُ للعبادة
ورابعاً: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا) رتب نهي المخاطب عما يصده عن الآيات على مجيء الساعة، كما رتب نهي مد النظر على إيتاء السبع المثاني في قوله تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) بالحجر: 87 - 88]، أي: لا يصدنك النظر إلى متمتعاتهم التي هي زهرةث الحياة الدنيا عن التهيئة لزاد المعاد، (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ
في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، قال:(رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)[النور: 37]، أو لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة، كقوله تعالى:(فَإِذاَ قَضَيْتُمُ الصَلَاةَ فَاذكُرُوا اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً)[النساء: 103]، واللامُ مثلُها في قولك: جئتك لوقت كذا، وكان ذلك لست ليال خلون. وقوله تعالى:(يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي)[الفجر: 24]، وقَدْ حُملَ على ذكر الصلاةِ بعد نسيانها من قوله عليه السلام «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) [طه: 15]. وقال الإمام: قوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تخليةٌ. والثلاثة الأخرى تحلية، فقوله:(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا) إشارةٌ إلى علم المبدأ، وقوله:(فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) علمُ الوسط، وهو مشتملٌ على العمل بالجارح وبالقلب، (فَاعْبُدْنِي): إشارةٌ إلى الأول، (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي): إلى الثاني، وقوله:(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) علمُ المعاد.
وقلتُ: إذا تقرر هذا المعنى انخرط فيه معنى قول سيد المرسلين: "من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها"، روينا عن مالك ومسلم والترمذي وأبي داود، وغيرهم، عن أبي هريرة، في حديث طويل: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه سلم-أي: صلاة الصبح حين نام عنها- قال: "من نسي صلاةً فليقضها إذا ذكرها"، فإن الله تعالى قال:(وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لأن الحكمة في وضع إقامة الصلاة كما سبق تذكر المعبود فيها، وأنها مكانهُ ومحله، فإذا ذكرت الصلاة بادرت الحكمة في شرعيتها في الذهن، فتكون الحكمة حاملة للمكلف على إقامتها، فصح أن يكون وجود ذكر الله سبباً لإقامة الصلاة، فالعدول عن هذا التأويل إلى الوجوه التي ذكرها المصنف في تأويل الحديث، وجعلُها متمحلة تعسفٌ وتمحل.
قوله: (وكان ذلك لست ليالٍ خلون)، قال الحريري في "دُرة الغواص": والاختيارُ أن يقال من أول الشهر إلى منتصفه: خلت وخلون، وإن يُستعمل في النصف الثاني بقيت
وكان حق العبارة أن يقال: لذكرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذكرها» ومن يتمحل له يقول: إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله. أو بتقدير حذف المضاف، أى: لذكر صلاتي. أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للذكرى).
(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى)[طه: 15].
أى: أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية؛ لفرط إرادتى إخفاءها؛ ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل: معناه أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مُطرح. والذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبقين، على أن العرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير، فيقولون: لأربع خلون، وإحدى عشرة خلت.
قوله: (وكان حق العبارة أن يقال: لذكرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرها")، يعني: حمل (لِذِكْرِي) على ذكر الصلاة بعد نسيانها غير صحيح؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل: أقم الصلاة لذكرها، ولا يُجاء بضمير الله سبحانه وتعالى، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد هذا المعنى أتى بضمير الصلاة دون ضمير الله في قوله:"إذا ذكرها".
قوله: (ومن يتمحل له)، تمحل، أي: احتال، فهو متمحلٌ. قاله الجوهري.
قوله: (أو لان الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة)، يعني: لما كان الذكر والنسيان من الله تعالى حقيقةً أسند إليه في الآية كما أسند في قوله: أنبت الله البقل، والمستعمل: انبت الربيع البقل.
قوله: (من اللطف)، لأن في الإعلام بتعيين وقوعها قطعاً، وفي إخفاء الوقت مع الانتظار ساعةً فساعةً تحذيراً.
قوله: (ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف)، يريد أنه لابد لهذا الكلام من وجود
غرهم منه أن في مصحف أبى: أكاد أخفيها من نفسي. وفي بعض المصاحف: أكاد أُخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها وعن أبى الدرداء وسعيد بن جبير: (أخفيها) بالفتح، من خفاه إذا أظهره، أى: قرب إظهارها كقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)[القمر: 1]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قرينة على تعيين المحذوف، والذي دل عليه الكلام الإتيان، فيجبُ أن يُقدر: أكادُ أخفي إتيانها، على حذف المضاف، وقيل: والذي يدل على ذلك المقدر إيجاب أخفيها من متعلقٍ، وهو على من أخفيها، فلا يجوز أن يُقال:(أَكَادُ أُخْفِيهَا) من الخلق؛ لأنه تعالى أخفاها عنهم ونص عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)[لقمان: 34]، وبقوله:(إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)[الأعراف: 187]، وغير ذلك، فتعين أنه تعالى كاد يخفيها من نفسه على سبيل المبالغة، قال محيي السنة: وأكثر المفسرين على أن معناها: أكاد أخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف أبي بن كعب، عبدالله بن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لكم؟ وهو على عادتهم إذا بالغوا في كتمان الشيء يقولون: كتمت سرك من نفسي، أي: أخفيته غاية الإخفاء.
روى صاحب "الانتصاف"، عن أبي علي:(أُخْفِيهَا): أزيل خفاءها وأُظهرها، تقول: أخفيته: أزلت خفاءه، مثل: أشكيته وأعتبته، ويؤيده القراءة بالفتح من: خفاه: إذا أظهره.
قوله: ("أخفيها" بالفتح)، قال ابن جني: أخفيت الشيء: كتمته وأظهرته جميعاً، وخفيته بلا ألف: أظهرته البتة، وقال أبو علي وابن جني: إذا كان "أخفيها" بالفتح و"أخفيها" بالضم بمعنى: أظهرها، فاللام في قوله:(لِتُجْزَى) متعلقةٌ بنفس (أُخفيها)، ولا يحسن الوقف دونها، وإذا كان بمعنى الإخفاء والستر فمتعلقةٌ بنفس "آتيةٍ" فالوجهُ أن يقف بعد أخفيها وقفةً قصيرةً.
وقد جاء في بعض اللغات: أخفاه بمعنى خفاه. وبه فسر بيت امرئ القيس:
فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه
…
وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
فـ (أكاد أخفيها) مُحتمل للمعنيين (لِتُجْزى) متعلق بـ (آتيةٌ)(بِما تَسْعى): بسعيها.
(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)[طه: 16].
أى: لا يصدنك عن تصديقها والضمير للقيامة. ويجوز أن يكون للصلاة. فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإن تدفنوا الداء) البيت، الأساس: ومن المجاز: فيه داءٌ دفين، وهو الذي لا يعلم به حتى يظهر شره، يقول: إن ترجعوا إلى الصلح لا تظهر العداوة، وإن تبعثوا الحرب، أي: تعودوا إلى الحرب، نعد إليها.
قوله: (فـ (أَكَادُ أُخْفِيهَا) محتمل للمعنيين)، أي: القراءةُ المشهورة تحتمل: "أخفيها"، أي: أكتمها، و"أخفيها"، أي: أُظهرها على ما سبق.
قوله: ((لِتُجْزَى) متعلقٌ بـ (آتِيَةٌ))، فيكون قوله:(أَكَادُ أُخْفِيهَا) معترضاً بين المتعلِق والمتعلَّق مؤكداً لمعنى الإخفاء؛ لأن قوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى)، دل على الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها وبيان الحكمة فيها.
قوله: (والضمير للقيامة، ويجوز أن يكون للصلاة)، هذا هو الوجه، وعليه تأليفُ النظم؛ لأن قوله:(وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) من عطف الخاص على العام، وهو (فَاعْبُدْنِي) أي: أعبدني وانتظر وقت الجزاء ولا تقصر في العبادة فيلحقك فيها فتورٌ؛ لأنك لا تدري متى تأتيك الساعة، لقوله تعالى:(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]، وإن اعتراك صاد يصدك عن العبادة فلا تلتفت إليه، فعلى هذا المراد بقوله:(وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي): أدم الصلاة لتكون ذاكراً غير ناسٍ فعلَ المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على
قُلت: العبارة لنهي من لا يؤمن عن صدّ موسى، والمقصود نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب. فذكر السببُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالٍ منهم وتوكيل همهم وأفكارهم به، كما قال:(لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)[النور: 37]، يدل عليه سياق الكلام، وينطبق عليه تأويل نبي الله صلوات الله عليه:"من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها"، يعني: دوموا على إقام الصلاة، فإذا طرأ النسيانُ الذي هو خلافُ العادة فارجعوا إلى ما كنتم عليه؛ لأن الشرط: تعليقٌ للحادث الطارئ.
قوله: (العبارة)، يعني: قوله: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا)، وهو لنهي الكافر الغائب، والمقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث، تهييجاً أو أمرةً بالمداومة على التصديق له.
قوله: (فيه وجهان)، أي: في صلاح هذه العبارة لأداء هذا المقصود طريقان، أحدهما: أن الكافرين إذا صدوه عليه السلام عن تصديقه البعث، وأثر فيه ذلك، كان سبباً بأن يُكذب بالبعث، فنهاهم عن الصد الذي هوا لسبب، وأريد المسبب وهو نهي موسى عن التكذيب تهييجاً وإلهاباً. وثانيهما: أن الكافر إنما يُنهي عن الصد إذا وجد في موسى ما يتأثر عن صد الكافر من الرخاوة واللين. فيكون تأثره سبباً للنهي، فذكر المسبب وهو النهي، ليدل على المسبب وهو الرخاوة واللين، فيرجع المعنى إلى قوله: كن شديد الشكيمة صليب المعجم، وفي اعتبار العكس إيذانا بأن الملازمة بين المذكور والمطلوب مساوية، وهذا شأن الكناية، ويجوز أن يكون الأول مجازاً والثاني كناية. قال صاحب "المفتاح": الانتقال من اللازم إلى ملزوم مُعين يعتمدُ مساواته إياها، لكنهما عند التساوي يكونان متلازمين، فيصير الانتقال من اللازم إلى الملزوم إذ ذاك بمنزلة الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وفي قوله:"عن رخاوة الرجل" أدبٌ حسنٌ، حيث كنى به عن نبي الله.
ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب، كقولهم: لا أرينك هاهنا، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، وذلك سبب رؤيته إياه. فكان ذكر المسبب دليلا على السبب، كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صليب المعجم، حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، يعنى: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيرا من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الشكيمة)، الأساس: إن فلاناً لشديد الشكيمة: إذا كان ذا جد وصرامة.
قوله: (صليب المعجم)، الجوهري: عجمت العود أعجمه بالضم: إذا عضضته لتعلم صلابته من خوره، والعواجم: الأسنان، ورجلٌ صليبُ المعجم: إذا كان عزيز النفس.
قوله: (يعني: أن من لا يؤمن بالآخرة)، شروعٌ في بيان كون موسى عليه السلام على الوصف الذي يُراد نهيه عنه، فجعل نهي الكافر وسيلةً إلى ذلك النهي، وهو كونه في رخاوة وعدم تصلب في الدين، بحيث يهوله وفور دهماء الكفرة، ولذلك لخص المعنى بقوله:"ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك" إلى آخره، وقلتُ- والله أعلم: ويمكن أن يحمل (مَنْ لا يُؤْمِنُ) على المُعرض عن عبادة الله المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها، بدليل قوله:(وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)، ويُحمل نهي الصد عن نهي النظر إلى متمتعاتهم من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ)[الحجر: 87 - 88]، كما سبق، وتُحمل متابعةُ الهوى على الميل إلى الإخلاد إلى الأرض، كقوله تعالى:(وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)[الأعراف: 176] يعني: تفرغ لعبادتي ولا تلتفت إلى ما هم فيه، فإنها مُرديةٌ مؤديةٌ إلى المهالك، فإن ما أوليناك واخترناه لك هو المقصد الأسني، فإن شئت فانظر إلى أحقر ما معك، وهو العصا، فإنها تبطل ما معهم، وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجرٌ بليغٌ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها.
كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه، لا البرهان وتدبره. وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله.
(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه: 17 - 18].
(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) كقوله تعالى: (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)[هود: 72]، في انتصاب الحال بمعنى الإشارة: ويجوز أن تكون (تِلْكَ) اسماً موصولاً صلته (بِيَمِينِكَ) إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزرّاد زبرة من حديد ويقول لك: ما هي؟ فتقول: زبرة حديد، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك: هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد. قرأ ابن أبى إسحاق: (عصىّ)، على لغة هذيل.
ومثله: (يا بُشْرى)[يوسف: 19] أرادوا كسر ما قبل ياء المتكلم فلم يقدروا عليه، فقلبوا الألف إلى أخت الكسرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كقوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً)[هود: 72] في انتصاب الحال)، قال أبو البقاء:"ما": مبتدأ، و (تِلْكَ): خبره، و (بِيَمِينِكَ): حالٌ يعمل فيها معنى الإشارة.
قوله: (نضناضة)، الأساس: حيةٌ نضناضةٌ تنضنض لسانها: تُحركها، قال:
تبيت الحية النضناض منه
…
مكان الحب يستمع السرارا
قوله: (زبرة)، الجوهري الزبرة: القطعة من الحديد.
وقرأ الحسن: (عَصايَ) بكسر الياء لالتقاء الساكنين، وهو مثل قراءة حمزة (بِمُصْرِخِيَّ)] إبراهيم: 22 [، وعن ابن أبى إسحاق: سكون الياء (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. هش الورق: خبطه، أى: أخبطه على رؤس غنمي تأكله. وعن لقمان بن عاد: أكلت حقا وابن لبون وجذع. وهشة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرأ الحسن: "عصاي"، بكسر الياء)، قال ابن جني: وقرأ الحسن وأبو عمرو أيضاً بخلاف عنهما، وكسرُ الياء في نحو هذا ضعيفٌ استثقالاً للكسرة التي فيها هرباً إلى الفتحة، وله وجه آخر، أنه قرأ حمزة:"ما أنتم بمصرخي"، بكسر الياء لالتقاء الساكنين، مع أن قبلها كرة وياء، والفتحة والألف في (عَصَايَ) أخف من الكسرة والياء في "بمصرخي" [إبراهيم: 22] وروينا عن قُطربٍ وغيره:
قال لها هل لك يا تافيٍّ
أراد (في) ثم أشبع الكسرة للإطلاق فأنشأ عنها ياء، نحو: منزلي وحولي، وقول ابن مجاهد: هو مثل: غُلامي لا وجه له؛ لأن الكسرة في ياء "عصاي" لالتقاء الساكنين، الكسرة في ميم "غلامي" هي التي تحدثها ياء المتكلم.
قوله: (أكلت حقا وابن لبون وجذع)، "الحق" بالكسر: ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين وقد دخل في الرابعة، سُمي لاستحقاقه أن يُحمل عليه وينتفع به، وابن لبون: إذا استكمل الثانية ودخل في الثالثة؛ لأن أمه وضعت غيره فصار لها لبن، وهي نكرة تعرف بالألف واللام، والجذع، قيل: الثني، وهو من الإبل ما طعن في السنة الخامسة، وهو اسم زمن، ليس بسن تنبت ولا تسقط، أراد بهشة نخب: ثمار ذلك الوادي؛ وسيلاً دفع: ما انصب دفعاتٍ.
نخب وسيلا دفع، والحمد لله من غير شبع، سمعته من غير واحد من العرب. ونخب: واد قريب من الطائف كثير السدر. وفي قراءة النخعي: (وأهش)، وكلاهما من هش الخبز يهش: إذا كان ينكسر لهشاشته. وعن عكرمة: (أهس) بالسين، أى: أنحى عليها زاجرا لها. والهس: زجر الغنم. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا، كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال: ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان، ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه. ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدّد المرافق الكثيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأساس: جاء الوادي بدفاع، أي: بالسيل العظيم، وفي المثل:"آكل من لُقمانَ"، قال الميداني: يعنون لقمان بن عاد، زعموا أنه كان يتغدى بجزورٍ ويتعشى بجزور، وهذا من أكاذيب العرب.
قوله: (وأهش)، "أهش" بكسر الهاء: لغةٌ في "أهش"، فقد جاء "يفعلُ" في مثل هذا متعدياً، كذا في "المنتقى" و"اللوامح"، وأما في "الموضح"، فنقل عن قراءة النخعي:"أُهشُّ"، بضم الهمزة وكسر الهاء والشين المعجمة.
قوله: (ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه)؛ لأنه تعالى إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه من الخشبة اليابسة، وموسى عليه السلام تفطن لذلك، وأتى بالجواب مطابقاً للغرض، وقال:(هِيَ عَصَايَ) إلى آخره.
وكان يكفي أن يقول: عصا، أي: ليست إلا هذه الخشبة اليابسة التي منافعها معلومة عند كل أحد.
قوله: (ويجوز أن يريد عز وعلا)، عطف على قوله:"ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا"،
التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة، كأنه يقول له: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتدّ بها وتحتفل بشأنها، وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته. وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه، وقالوا: انقطع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى الأول: التعداد لأجل تحقير شأنها، والمراد بقوله:(وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) التتميم للتحقير، أي: مآرب معدودة، وعلى الثاني: التعداد لأجل التعظيم، و (مَآرِبُ أُخْرَى): تتميم للتفخيم، أي: لا تُحصى ولا تُعد، ولعل هذا الوجه أحسن الوجوه، ولذلك نبهه في النداء بقوله:(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، أي: تفطن لها؛ لأنها مما اشتملت على مرافق عجيبةٍ وآياتٍ عظيمة، ومن ثم أجاب موسى بما عرفه منها من المنافع والمآرب ثم نبهه تعالى على منفعة أعظم منها بقوله:(أَلْقِهَا يَا مُوسَى)، فكرر النداء اهتماماً بشأنها، وإليه الإشارة بقوله:"أين أنت عن هذه المنفعة العظمى؟ " إلى آخره، فإجراء هذه الصفات على العصا كإجراء النعوت المادحة نداء على الجميل وإبداء للصنيع الذي يستزيد مواجب الشكر، لا للتفصلة والتمييز، كما ظن بعضهم، وأورد على صاحب "المفتاح" ما أورد، وقد بسطناه في "شرح التبيان"، فلينظر هناك. ومما يشد من عضد ما ذكرنا من أن المقام مقام الامتنان على موسى قوله تعالى:(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى)[طه: 37] إلى آخره.
قوله: (ليبسط منه)، الأساس: وقد بسط بساطه، وبسط إلينا يده ولسانه: أتى بما يُحب أو بما يُكره، وإنه ليبسطني ما بسطك، ويقبضني ما قبضك، أي: يسرني ويطيب نفسي ما سرك، ويسوؤني ما ساءك، كأن الإنسان إذا سُرَّ انبسط وجهه واستبشر، وبعكسه إذا اغتم.
الجوهري: الانبساطُ: ترك الاحتشام، يقال: بسطت من فلانٍ فانبسط.
قوله: (إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه)، ونحوه قول بعضهم:
لسانه بالهيبة فأجمل، وقالوا: اسم العصا نبعة. وقيل في المآرب: كانت ذات شعبتين ومحجن، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظلّ وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقى بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا، وتكونان شمعتين بالليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تصاممت إذ نطقت ظبية
…
تصيد الأسود بألحاظها
وما بين وقرٌ ولكنني
…
أردتُ إعادة ألفاظها
ولعل موسى عليه السلام أطنب أولاً للاستصغاء انبساطاً، وأوجز آخراً للاستصغاء استلذاذاً.
قوله: (اسم العصا: نبعة)، وهي غير منصرفة للعلمية التأنيث.
قوله: (والحلاب)، وهو المحلب، وهو الذي يُحلب فيه اللبن، قال:
صاح هل ريت أو سمعت براعٍ
…
رد في الضرع ما قرى في الحلاب
قوله: (وعرض الزندين على شعبتيها)، الجوهري: عرض العود على الإناء والسيف على فخذه يعرضه ويعرضه أيضاً، الأساس: الزندان: هما الزند الأعلى والزندة السفلى.
قوله: (وتكونان شمعتين بالليل)، قال بعضهم: يدفع هذا قوله: "وقدح فصلد زنده" في تفسير قوله تعالى: (إِنِّي آنَسْتُ نَاراً)، وأجيب أن المطلوب حينئذٍ هو النار لاستدفاء النفساء بها، لا الضوء وحدهن وما يدل على أن العصا لم تكن للنار: قوله هاهنا: "وعرض الزندين على شعبتيها"، لأن الزند إنما يُعد للنار، ولكن يدفعه هناك قوله: "في ليلةٍ شاتيةٍ
وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه، ويركزها فينبع الماء، فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام.
(قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [طه: 19 - 20].
السعى: المشي بسرعة وخفة حركة. فإن قلت: كيف ذكرت بألفاظ مختلفة: بالحية، والجان، والثعبان؟ قلت: أمّا الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير. وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف، لأنّ الثعبان العظيم من الحيات، والجان الدقيق. وفي ذلك وجهان: أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حيه تنقلب حية صفراء دقيقة، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى تصير ثعبانا، فأريد يا لجان أوّل حالها، وبالثعبان مآلها. الثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان. والدليل عليه قوله تعالى: (فلما رآها تهترّ كأنها جانّ). وقيل كان لها عرف كعرف الفرس. وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعا.
(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)[طه: 21].
لما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفاز ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خاف ونفر. وعن بعضهم: إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُظلمةٍ مثلجةٍ وقد ضل الطريق"، ولعل الجواب: أن الله طمس نورها كما جعل الزند صلداً اضطراراً إلى الطلب ليفوز بالمطلوب الحقيقي.
قوله: (عرف ما لقي آدمُ منها)، يريد الحية التي كانت سبباً لإخراجه بسببٍ تمكن منه إبليس من الوسوسة.
وقيل: لما قال له ربه (لا تَخَفْ) بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها.
السيرة من السير: كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة، ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل: سير الأوّلين، فيجوز أن ينتصب على الظرف، أى: سنعيدها في طريقتها الأولى، أى: في حال ما كانت عصا، وأن يكون. (أعاد) منقولا من (عاده) بمعنى عاد
إليه. ومنه بيت زهير:
وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين. ووجه ثالث حسن: وهو أن يكون (سَنُعِيدُها) مستقلا بنفسه غير متعلق ب (سِيرَتَهَا)، بمعنى أنها أنشئت أوّل ما أنشئت عصا، ثم ذهبت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بمعنى: عاد إليه)، الجوهري: عاد إليه يعود عوداً وعودةً: رجع.
قوله: (وعادك أن تلاقيها عداء)، أوله:
فصرم حبلها إذا صرمته
الحبلُ: العهدُ، قال أبو عمرو: وعادك بمعنى: شغلك، وقال الأصمعي: صرفك، والعداء: البُعد والشغل، وقال الأصمعي: الحورُ، وعادك: عطفٌ على "صرمته"، تقول: اقطع عهدها إذا قطعتهُ هي وعاد إليك وشغلك البُعدُ والحورُ عن ملاقاتها. وتلخيص الآية (سَنُعِيدُهَا) إلى سيرتها الأولى.
قوله: (وهو أن يكون (سَنُعِيدُهَا) مستقلاً بنفسه غير متعلقٍ بـ (سِيرَتَهَا))، أي: لا يكون عاملاً في (سِيرَتَهَا)، بل يكون عاملها مضمراً، ويكون حالاً من الهاء في (سَنُعِيدُهَا)، كما قدر: سنعيدها سائرة سيرتها الأولى، والفرقُ بين هذا وبين الوجهين الأولين أن الحية في الوجهين انقلبت عصا خشبةً كسائر ما يُسمى عصا، على هذا انقلبت
وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أوّلا. ونصب (سِيَرَتهَا) بفعل مضمر، أى: تسير سيرتها الأولى: يعنى سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها.
(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) [سورة طه 22 - 23].
قيل لكل ناحيتين: جناحان، كجناحى العسكر لمجنبتيه، وجناحا الإنسان: جنباه، والأصل المستعار منه جناحا الطائر. سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران. والمراد إلى جنبك تحت العضد، دل على ذلك قوله (تَخْرُجْ). السوء: الرداءة والقبح في كل شيء، فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة، وكان جذيمة صاحب الزباء أبرص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى عصا ذات شُعبتين ومحجن، فإذا طال الغُصن جناهُ بالمحجن، إلى سائر ما ذكره المصنف من المآرب، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون (سِيرَتَهَا) بدل اشتمال من ضمير المفعول في (سَنُعِيدُهَا)؛ لأن معنى سيرتها: صفتها أو طريقتها.
الراغب: السيرة: الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره، غريزياً كان أو مُكتسباً، يقال: له سيرة حسنة وسيرة قبيحة، وقوله تعالى:(سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى) أي: الحالة التي كانت عليها من كونها عوداً.
قوله: (لمجنبتيه)، وهي الميمنة والميسرة.
قوله: (والأصل المستعارُ منه جناحا الطائر)، هذه الاستعارة غير مسبوقة بالتشبيه؛ كاستعارة الأسد للمقدام، بل هي من المجاز الخالي من الفائدة، نحو إطلاق المرسن على لطف الإنسان.
فكنوا عنه بالأبرش،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فكنوا عنه بالأبرش)، الجوهري: البرشُ في شعر الفرس: نكتٌ صغارٌ تخالفُ سائر لونهن والفرس أبرش، والبرص: البياض في ظاهر الجلد، وفي زعم الأطباء: مادة نفاحةٌ بسبب اجتماع الرطوبات اللزجة، وكان من أخبار جذيمة على ما ذكره ابن الأثير في "الكامل": أنه كان من أفضل الملوك رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم العرب، وكان به برص، فكنت العرب عنه فقيل: الوضاح والأبرش إعظاماً له، وكانت منازله بين الحيرة والأنبار، وكان ملك العرب بأرض الجزرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب العمليقي، فحاربه جذيمة وقتله، وملكت بعد عمرو ابنته الزباء واسمها: نائلة، فلما استحكم مُلكها أجمعت لغزو جذيمة تطلب ثأر أبيها، فأشارت لها أختها زينب بترك الحرب وإعمال الحيلة، فأجابتها إلى ذلك، وكتبت إلى جذيمة تدعوه على نفسها وملكها، فلما انتهى الكتاب إلى جذيمة استخفه ما دعته إليه، وجمع إليه ثقاته واستشارهم، وأجمع رأيهم على المسير إليها، فخالفهم قصير، وكان أريباً حازماً ناصحاً قريباً منه، وقال:"رأيٌ فاتر وعدو حاضر" فذهبت مثلاً، اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لا تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها، فلم يُوافق جذيمة رأيه.
فاستخلف جذيمة عمرو بن عدي ابن أخته على مُلكه فسار في وجوه أصحابه، فلما نزل الفرضة استقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف فقال: يا قصير، كيف ترى؟ فقال:"خطبٌ يسير في خطب كبير" فذهبت مثلا، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإن القوم غادرون، فاركب العصا، وكانت فرساً لجذيمة لا تُباري، فإني راكبها ومسايرك عليها، فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصيرٌ ونظر إلى جذيمة مولياً على متنها، فقال:"ويلُ أمةٍ حزمها على ظهر العصا"، فذهبت مثلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلما دخل جذيمة على الزباء تكشفت، فإذا هي مضفورة الأسب، بالباء الموحدة، وهو شعر الاست، وقالت: يا جذيمة، "أدأب عروس ترى؟ " فذهبت مثلاً، وقالت: أنبئت أن دماء الملوك شفاءٌ من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وسقته الخمر حتى أخذت منه، ثم أمرت براهشيه فقُطعا، وقدمت إليه طستاً وقيل لها: إن قطر من دمه شيءٌ في غير الطست طُلب بدمه، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير لطست، فقالت: لا يُضيعوا الدم، فقال جذيمة:"دعوا دماً ضيعه أهله"، فذهبت مثلاً، فهلك جذيمة وخرج قصيرٌ حتى قدم على عمرو بن عدي، فقال له قصير: تهيأ واستعد ولا تُطل دم خالك، فقال:"وكيف لي بها وهي أمنعُ من عقاب الجو؟ " فذهبت مثلاً.
وكانت الزباء سألت عن هلاكها فقيل: سبب هلاكها عمرو بن عدي، ولكن حتفك بيدك، فحذرت عمراً واتخذت نفقاً من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها، وصورت صورة عمرو فلا تراه إلا وعرفته، وقال قصيرٌ لعمرو بن عدي: اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها، فأبي عمرو، فجدع قصير أنفه وأثر بظهره وهر كأنه هاربٌ، وأظهر أن عمراً فعل ذلك به، وقدم على الزباء فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال: زعم عمرو أني غدرت خاله وزينت له المسير إليك ومالأتك عليه، ففعل ما ترين، فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك فأكرمته وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك، فلما عرف أنها قد وثقت به، فقال لها: إن لي بالعراق أموالاً كثيرةً، وبها طرائف وعطر، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليك من طرائفها، فدفعت إليه أموالاً وجهزت معه عيراً، فسار حتى قدم على عمرو بن عدي مستخفياً وأخبره الخبر وقال: جهزني بالمز والطرف وغير ذلك، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك، فأعطاه حاجته، فلما عُرض عليها سرها وازدادت به ثقةً، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به أولاً، ثُم عاد الثالثةَ فأخبر عمراً الخبر وقال: اجمع ثقات أصحابك
والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مجاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. يروى أنه كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يعشى البصر. (بَيْضاءَ) و (آيَةً) حالان معا. و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجُندك وهيء لهم الغرائر واحمل كل رجلين في غرارتين اجعل معقد رؤوسها من باطنها، وقال له: إذادخلت مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها وتخرج الرجال من الغرائر فيصيحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قاتلوه، ففعل ذلك ثم ساروا، فملا قربوا تقدم قصيرٌ إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل من الثياب والطرائف، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض، فقالت: يا قصير:
ما للجمال مشيها وئيدا
…
أجندلاً يحملن أم حديدا؟
أم صرفاناً تسارزاً شديدا
…
أم الرجال جُثما قعودا؟
فلما توسطت الإبلُ المدينة خرج الرجال من الغرائر، فدل عمرو على باب النفق وأقبلت الزباء مولية تريد الخروج من النفق، فأبصرت عمراً قائماً فعرفته بالصورة، فمصت لما في خاتمها، وقالت:"بيدي لا بيد عمرو"، فتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة، ثم عاد إلى العراق وصار الملك له. والصرفان: الرصاص، والصرفان: نوعٌ من التمر، والله أعلم.
قوله: (أحز للمفاصل)، الأساس: وهو أصفى من المفاصل، وهو الماء الذي يقطر من بين العظمين إذا فُصلا. وتقول رب كلام بالمفصل أشد من كلام بالمقصل، وتكلم فأصاب المحز.
قوله: ((َيْضَاءُ) و (آيَةً): حالان معاً)، قال الزجاج: آية: اسمٌ في موضع الحال، أي تخرج بيضاء مبينة آية أخرى.
(مِن) صلة ل (بَيضَاءَ)، كما تقول ابيضت من غير سوء، وفي نصب (آيَةً) وجه آخر، وهو أن يكون بإضمار نحو: خذ، ودونك، وما أشبه ذلك، حذف لدلالة الكلام، وقد تعلق بهذا المحذوف (لِنُرِيَكَ) أي خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا.
أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك.
[(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى* قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)].
لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمرا عظيما وخطبا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو البقاء: (بَيْضَاءَ): حالٌ، و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يجوز أن يتعلق بتخرج، وأن يكون صفة لـ (بَيْضَاءَ) أو: حالاً من الضمير في (بَيْضَاءَ)، و (آيَةً): حالٌ أخرى بدلٌ من الأولى، وحالٌ من الضمير في (بَيْضَاءَ)، أي: تبيض آية، أو: حالاً من الضمير في الجار مع المجرور، وهو قوله:(مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).
قوله: (أو: لنريك من آياتنا الكبرى)، فعلى ذلك عطف على قوله:"وقد تعلق بهذه المحذوف لـ (نُرِيَكَ) "، ومن في قوله:(مِنْ آيَاتِنَا) إما للتبعيض، وإليه الإشارة بقوله: بعض آياتنا، أو للبيان، وإليه الإشارة بقوله: أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا، يؤيده قول ابن عباس:(كانت يد موسى أكبر آياته)، فيكون (مِنْ آيَاتِنَا) حالاً من (الْكُبْرَى) قُدمت عليها وإن كان ذو الحال معرفة، مراعاةً للفواصل.
قوله: (لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي، عرف أنه كُلف أمراً عظيما)، إلى قوله:(فاستوهب ربه أن يشرح صدره)، يعني: لما علل الله سبحانه وتعالى الأمر بالذهاب إلى
جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فرعون بوصفه بالطغيان، عرف موسى ذلك وطلب ما طلب، والإمام علق قول موسى عليه السلام (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بما خاطبه من لدن قوله:(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إلى هذا المقام، قال تارةً: إن شرح الصدر مقدمةٌ لسطوع الأنوار الإلهية في القلب، والاستماع أيضاً مقدمة لفهم كلام الله المجيد، فلما كلفه الله بالمقدمة التي هي الاستماع في قوله:(فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) نسج عليه السلام على ذلك المنوال وطلبا لمقدمة، وقال:(رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) حتى يتمكن قلبي في بهو ضوء المعرفة ووسادة قذف النور من تلقي سماع كلامك. وقال أخرى: لما نُصب موسى عليه السلام لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة من تلقي الوحي وتبليغه إلى المعاندين والمواظبة على خدمة الباري وإصلاح العالم السفلي، فكأنه كلف بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر، فطلب عليه السلام شرح الصدر حتى يفيض عليه كمالاً من القوة لتكون قوته وافية لضبط تدبير العالمين.
الراغب: شرحُ الصدر: بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى. قال الله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)[الزمر: 22].
وقلتُ: يؤيد هذا التأويل قوله عليه السلام: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً) بعد طلب تيسير الأمر وحل العقدة ومؤازرة أخيه للتبليغ ليطابق قوله: (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)، وقوله:(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، وعلى ما فسره المصنف يكون قوله:(كَيْ نُسَبِّحَكَ) الآية أجنبياً، وفيه نُكتةٌ أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى: كما علل إقامة الصلاة بذكره سبحانه وتعالى في قوله: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). وقوله (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، كذلك علل عليه السلام مطالبه كلها بالقيام على تكثير ذكر الله عز وجل فآذن بأن ذكر الله لا مطلب فوقه. وفي "حقائق" السلمي عن عطاء أنه قال: اكشف
إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب. فإن قلت:(لِي) في قوله (اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ما جدواه «2» والكلام بدونه مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره، من أن يقول: اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقى الإجمال والتفصيل. عن ابن عباس: كان في لسانه رتة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لي عن صدري حتى لا أشاهد غيرك؛ ويسر لي أمري حتى لا أنظر إلا بمعرفتك، واحلل عقدة من لساني حتى لا أتكلم إلا بما أبلغه عنك. وقال جعفر: قيل لموسى: استكثرت تسبيح ونسيت بدايات فضلنا عليك في اليم وردك إلى أمك وتربيتك في حجر عدوك، وأكبر من هذا كله خطابنا معك وكلامنا إياك، وأكبر منه إخبارنا باصطناعنا لك.
قوله: (ذو جأش رابط)، الأساس: والجأش والجؤشوش: الصدرُ، يقال: فلانٌ قد ربط لذلك الأمر جأشاً. ويقال لمن يربط نفسه عن الفرار لشجاعته: رابط الجأش.
قوله: (يستقبل ما عسى يردُ عليه)، استعمل "عسى" بغير "أنْ" تشبيهاً لها بـ "كاد" كما في قوله:
عسى الكربُ الذي أمسيتُ فيه
…
يكون وراءه فرجٌ قريب
قوله: (مستتب)، أي: مستقيم، الأساس: استتب الطريق: ذل وانقاد كما يقال: طريق معبدٌ، واستتب له الأمر.
قوله: (بذكرهما)، أي: بذكر المشروح والميسر.
لما روي من حديث الجمرة. ويروى أن يده احترقت، وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ، ولما دعاه قال: إلى أى رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المواكلة. واختلف في زوال العقدة بكمالها فقيل: ذهب بعضها وبقي بعضها، لقوله تعالى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)] القصص: 34 [وقوله تعالى (وَلا يَكادُ يُبِينُ)] الزخرف: 52 [وكان في لسان الحسين بن على رضى الله عنهما رتة «3» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ورثها من عمه موسى". وقيل: زالت بكمالها لقوله تعالى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) وفي تنكير العقدة -وإن لم يقل عقدة لساني-: أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا، ولم يطلب الفصاحة الكاملة. و (مِنْ لِسانِي) صفة للعقدة كأنه قيل: عقدة من عقد لساني.
الوزير من الوزر، لأنه يتحمل عن الملك أو زاره ومؤنة. أو من الوزر، لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لما رُوي من حديث الجمرة)، روى محيي السنة: أنه نشأ موسى عليه السلام في حجر فرعون وامرأته، فبينا هو يلعب وبيده قضيبٌ فضرب رأس فرعون، فغضب حتى هم بقتله، فقالت آسية: أيها الملك، إنه صغيرٌ لا يعقل، جربه إن شئت، فجاءت بطستين في احدهما الجمر وفي الآخر الجوهر، فأراد موسى أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل عليه السلام يده فوضعها في النار فاخذ جمرةً فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة.
الراغب: اللسان: الجارحة وقوتها، وقوله تعالى:(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) يعني به: من قوة لساني فإن العقدة لم تكن في الجارحة وإنما كانت في قوته التي هي النطق به، يقال لكل قوم لسانٌ ولسنٌ.
قوله: (أو من الوزر)، أي: الملجأن وأصلُ الزر: الجبل. الراغب: الوزر: الملجأ الذي
الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره. أو من المؤازرة وهي المعاونة. عن الأصمعى قال: وكان القياس أزيرا، فقلبت الهمزة إلى الواو، ووجه قلبها أنّ فعيلا جاء في معنى مفاعل مجيئا صالحا، كقولهم: عشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلبت في أخيه قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز، ونظرا إلى يؤازر وإخواته، وإلى الموازرة. (وَزِيراً) و (هارُونَ) مفعولا قوله (واجْعَل لِّي وزِيرًا مِّنْ أَهْلِي) قدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة. أو (لِي وَزِيراً) مفعولاه، وهارون عطف بيان للوزير. و (أَخِي) في الوجهين بدل من هارون، وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى:(كَلاَّ لا وَزَرَ)[القيامة: 11]، الوزرُ: الثقلُ تشبيهاً بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الإثم، قال تعالى:(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً) بالنحل: 25].
قوله: (أو من المؤازرة، وهي المعاونة)، قال في "الأساس": وزير الملك: الذي يؤازره أعباء الملك، أي يحامله، وليس من المؤازرة؛ لأن واوها عن همزةٍ، وفعيلٌ منها: أزيرٌ، يقال: ازره، أي: شد به أزره، وأردت كذا فآزرني عليه فلانٌ: إذا ظاهرك وعاونك، وأجاز في الكتاب أن يكون منه بناء على الوزن وحمل النظير على النظير، وذلك أن أزيراً أخو المؤازر، كما أن العشير والجليس والخليل أخواتُ المعاشر والمجالس والمخال، وإذا ثبت أنه أخو المؤازر فكما قُلبت الهمزة في أخيه، وهو المؤازر، واواً. وقيل: مؤازرٌ، لانضمام ما قبله، تُقلب فيه، وإن لم ينضم ما قبله حملاً للنظير على النظير، ونُظرٍ إلى المضارع منه والمصدر، وهما: يؤازر والمؤازرة، فقوله:"ونظراً إلى يؤازر" عطفٌ على قوله: "إن فعيلاً جاء من حيث المعنى"،
قوله: (أو (لِي وَزِيراً): مفعولاه)، فعلى هذا أيضاً قدم الثاني على الأول عناية بشأن نفسه، وأنه محتاجٌ إلى عون، ولذلك عقب به قوله:(يَفْقَهُوا قَوْلِي) كما قال: (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي)[القصص: 34].
قوله: (وإن جُعل عطف بيان آخر جاز وحسن)، يعني:(هَارُونُ) عطفُ بيانٍ للوزير،
قرؤوا جميعا (اشْدُدْ)(وَأَشْرِكْهُ) على الدعاء. وابن عامر وحده: (أشدُد). و (أُشرِكه)، على الجواب.
وفي مصحف ابن مسعود: (أخى واشدُد). وعن أبى بن كعب: (أشركه في أمرى، واشدد به أزرى).
ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر: أن يجعل (أَخِي) مرفوعا على الابتداء: و (اشْدُدْ بِهِ) خبره، ويوقف على (هارُونَ). الأزر: القوة. وأزره: قواه، أى: اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك، فإن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أى: عالما بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا، وأن هارون نعم المعين والشادّ لعضدى، بأنه أكبر منى سنا وأفصح لسانا.
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى)[طه: 36]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و(أخِي) مثله، وإنما جاز ذلك وحسن وإن لم يكن أشهر الاسمين، مثل:(هَارُونُ) لكونه بمنزلته في الشهرة. وقليلاً ما نسمعه في التنزيل، ولم يشعبه، وفي "جاز وحسن" إيماءٌ إلى أن تقدير البدل أحسنُ.
قوله: (قرؤوا جميعاً (اشْدُدْ))، وفي "التيسير": قرأ ابن عامر: "أشدد به"، بقطع الألف وفتحها في الحالين، و"أشركه": بضم الهمزة، والباقون: بوصل الألف في الأول، ويبتدئونها بالضم وفتح الهمزة في الثاني. قال الزجاج: أما قطع الألف وفتحها وضم الألف في "وأشركه" فعلى جواب الأمر، المعنى: اجعل لي أخي وزيراً، فإنك إن فعلت ذل أشد به أزري وأشركه في أمري، على الإخبار عن النفس، وأما من قرأ (أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) بوصل الألف، (وَأَشْرِكْهُ) بفتح الهمزة، فعلى الدعاء. المعنى: اللهم اشدد به أزري وأشركه في أمري.
السؤل: الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك: خبز، بمعنى مخبوز. وأكل، بمعنى مأكول.
[سورة طه (20): الآيات 37 إلى 39]
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَاخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه: 37 - 39].
الوحى إلى أم موسى: إما أن يكون على لسان نبىّ في وقتها، كقوله تعالى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ)] المائدة: 111 [، أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة، كما بعث إلى مريم. أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه. أو يلهمها كقوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)] النحل: 68 [أى أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا إلى العلم به إلا بالوحي، وفيه مصلحة دينية فوجب أن يوحى ولا يخل به، أى: هو مما يوحى لا محالة وهو أمر عظيم، مثله يحق بأن يوحى (إذْ أَوْحَيْنَا إلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى)«أن» هي المفسرة لأن الوحى بمعنى القول.
القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع. ومنه قوله تعالى (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)] الأحزاب: 26 [، وكذلك الرمي قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: أوحينا إليها أمراً لا سبيل إلى التوصل إليه
…
إلا بالوحي)، هذا يؤذن أن الوحي الذي هو بمعنى الإلهام، لا يكون إلا في أمر يعز على كل أحد.
قوله: (ولا يُخل به)، بضم الياء وفتح الخاء، من: أخل الفارس بمركزه؛ إذا ترك موضعه الذي عينه الأمير له.
قوله: (القذف مستعمل في معنى الإلقاء)، الراغب: القذفُ: الرمي البعيدُ، ولاعتبار البُعد فيه قيل: منزلٌ قذفٌ وقذيفٌ وبلدةٌ قذوفٌ: بعيدةٌ. وقوله عز وجل: (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أي: اطرحيه فيه، واستعير القذف للشتم والعيب، كما استعير للرمي.
غلام رماه الله بالحسن يافعا
أى: حصل فيه الحسن ووضعه فيه، والضمائر كلها راجعة إلى موسى. ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت: فيه هجنة، لما يؤدى إليه من تنافر النظم. فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت، وكذلك الملقى إلى الساحل. قلت: ما ضرك لو قلت: المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت، حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن. والقانون الذي وقع عليه التحدّى، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته أن لا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه، سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) روى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وجصصته وقيرته، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون تهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (غلامٌ رماه الله بالحسن يافعا)، تمامه في "المطلع":
له سيمياءٌ لا تشق على البصر
غلامٌ يافعٌ ويفعة: تحرك ولما يبلغ. والسيماءُ السيمياء: العلامة، وأصله الواو.
قوله: (فيه هجنةٌ)، والهجنة: مصدر الهجين، وهو الذي ولدته أمةٌ. الأساس: أنا أستهجنُ فعلك، وفيه هجنةٌ، وفي زناده هجنةٌ: إذا كان أحد الزندين واريا والآخر صلودا.
قوله: (سلك في ذلك)، جواب "لما"، والمشار إليه قوله:(فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ)، والمجاز من باب الاستعارة المكنية، شبه اليم بمأمورٍ ذي تمييز أورد عليه أمر آمر مطاع، وجعل القرينة أمره بقوله:(فَلْيُلْقِهِ).
مع آسية إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج ففتح، فإذا صبى أصبح الناس وجها، فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ أنّ البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، لأنّ الماء يسحله أى يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة (مِنِّي) لا يخلو إما أن يتعلق ب (ألقيت)، فيكون المعنى على: أنى أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يتمالك أن يصبر عليه)، الجوهري: ما تمالك: ماتماسك.
قوله: (وظاهر اللفظ)، عطفٌ على قوله:"رُوي" أو حالٌ من الضمير في "رُويَ"، يعني ظاهر لفظ القرآن يخالف الرواية المذكورة؛ لأن اليم: البحر، الساحل: هو شاطئه، والقذف من اليم إنما يكون بالساحل، وكذلك الالتقاط منه، وليس فيه دخول التابوت البركة فيلتقط منها إلا أن يُحمل اللفظُ على أن الساحل كان متصلاً بفوهة نهر فرعون، وقلتُ: رواية الواحدي ومحيي السنة: أن اليم هو نهر النيل والشاطئ هو شاطئ النيل، وكان يشرعُ من النيل نهر كبيرٌ في دار فرعون، فبينما فرعون جالس مع امرأته على رأس البركة إذا بتابوت يجيء به الماء، فأمر بإخراجه فأخرجوه.
قوله: (لأن الماء يسحله)، الجوهري: الساحلُ: شاطئ البحر، قال ابن دريد: هو مقلوبٌ، وإنما الماء سحله.
قوله: (وقذف به ثمة)، الفاعل المستتر في "قذف" للبحر، وهو عطفٌ تفسيريٌّ على "ألقاه بساحله"، وما بينهما معترض.
قوله: (فوهة نهر فرعون)، الجوهري: وأفواه الأزقة والأنهار، واحدتها فوهة بتشديد الواو.
وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة، أى: محبة حاصلة أو واقعة منى، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك. روى أنه كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه (عَلى عَيْنِي) لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإما أن يتعلق بمحذوفٍ)، يعني: الجار والمجرور، يحتمل أن يكون ظرفاً لغواً، وأن يكون مستقراً، على الأول:"من" ابتدائي، فيكون إنشاء إلقاء المحبة من الله، ثم يسري منه إلى الخلق، وإليه الإشارة بقوله:"من أحبه الله تعالى أحبته القلوبُ"، وعلى الثاني: إما أن يُقدر عاملاً عاماً، كما هو المشهور، وهو المراد من قوله:"أي: محبةً حاصلةً - أي كائنة موجودة- مني"، أو خاصاً لقرائن الأحوال، وهو أن الله تعالى أوقع محبته في قلب آسية وأعدى عدوه فرعون وغيرهما، وإليه الإشارة بقوله:"قد ركزتها أنا في القلوب"، فلذلك أحبك فرعونُ، وكل من أبصرك، والوجه الثاني أشمل من حيث المنطوق، والأول أدخلُ في البلاغة من حيث المفهوم، ويساعد عليه ما روينا عن البخاري ومالك والترمذي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"، ورواية مسلم أبسط من هذا.
قوله: (مسحة جمال)، الأساس: مسحه بالماء والدهن، ومسح رأسه: أمر يده عليه، ومن المجاز: به مسحةٌ من جمال، يعني: كأن الجمال مسح وجهه، ومنه بيت الحماسة:
على الوجه مني مسحةٌ من ملاحةٍ
…
وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
قوله: (وأنا مُراعيك وراقبك)، وفي نسخة:"ورافيك" من: رفوته سكينة من رُعب، يريد أن (عَلَى عَيْنِي): حالٌ من المستتر المرفوع في "لتُصنع"، وليس بصلة "لتُصنَعَ".
كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وتقول للصانع: اصنع هذا على عينى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتي. (ولتصنع): معطوف على علة مضمرة، مثل: ليتعطف عليك وترأم «1» ونحوه. أو حذف معلله، أي: ولتصنع فعلت ذلك. وقرئ: (ولتصنع) ولتصنع، بكسر اللام وسكونها. والجزم على أنه أمر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما يراعي الرجل الشيء بعينيه: إذا اعتنى به)، إشارةٌ إلى أن في التركيب تمثيلاً واستعارة، قال الواحدي: وتفسير قوله: (عَلَى عَيْنِي): بمرأى مني صحيح، ولكن لا يكون في هذا تخصيصٌ لموسى، فإن جميع الأشياء بمرأى من الله. الصحيح: لتُغذى على محبتي وإرادتي. وهذا قول قتادة اختيار أبي عبيدة وابن الأنباري، وقال أبو زيد: العرب تقول: اتخذ شيئاً على عيني: على محبتي.
وقلت: هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه السلام بكلمة الله، والكعبة ببيت الله، فإن الكل موجودٌ بـ "كُن"، وكل البيوت بيت الله، على أن خلاصة الكلام وزبدته تفيد مزيد الاعتناء بشأنه، وأنه من الملحوظين بسوابق إنعامه.
قوله: (وترأم)، الجوهري: رئمت الناقة ولدها رئماناً: إذا أحبته.
قوله: ((وَلِتُصْنَعَ) بكسر اللام وسكونها) قال ابن جني: وهي قراءة أبي جعفر، وليس دخول لام الأمر هنا كدخولها في قوله:(فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)[يونس: 58] بالتاء؛ لأن المأمور في (فَلْيَفْرَحُوا) مخاطبٌ، وهاهنا غائبٌ، وهو كقولنا: ولتعن بحاجتي ولتوضع في تجارتك؛ لأن المعاني بها، والواضع فيها غير المخاطبين، نحو: ليضرب زيدٌ ولتكرم هندٌ، فأما قول الرجل: خُذ طرفك لآخذ طرفين وقولهم: لنمش كلنا، وإنما جاء باللام ولم يخفف تخفيف "قُم" و"سِرْ" ونحوهما؛ لأنه لم يكثر أمرُ الإنسان لنفسه كرة أمره لغيره، فلما قل استعماله لم يخفف.
وقرئ: (ولتَصنَعَ)، بفتح التاء والنصب، أى: وليكون عملك وتصرفك على عين منى.
(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه: 40 - 41].
العامل في (إِذْ تَمْشِي)(أَلْقَيْتُ) أو (ِتُصْنَعَ) ويجوز أن يكون بدلا من (إِذْ أَوْحَيْنا).
فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح - وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه - أن يقول لك الرجل: لقيت فلانا سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها. يروى أن أخته واسمها مريم جاءت متعرفه خبره، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت: هل أدلكم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها. ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته، وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.
هي نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلى. قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("ولتصنع" بفتح التاء والنصب)، وكسر اللام، قرأها أبو نهيك.
قوله: (العامل في (إِذْ تَمْشِي): "ألقيتُ" أو"تُصنع")، قال صاحب "الانتصاف":(وَلِتُصْنَعَ) أولى؛ لأن معناه: إنك محفوظٌ مكلوءٌ وزمانُ التربية هو زمان رده إلى أمه، وأما إلقاء المحبة عليه، فقيل: ذلك من أول ما التقطه فرعون.
وقلتُ: والأولى تقدير: اذكر؛ لأن كونه مراقباً محفوظاً قبل زمان رده إلى أمه من حين وجوده وإلقائها له في التابوت واليم وغير ذلك، وكأن الكلام سيق للامتنان فاستقلاله، بالذكر أحرى.
اغتم بسبب القتل خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)] القصص: 16 [ونجاه من فرعون أن ينشب فيه أظفاره حين هاجر به إلى مدين.
(فُتُوناً) يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدّى، كالثبور والشكور والكفور. وجمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز وبدور، في حجزة وبدرة: أى فتناك ضروبا من الفتن. سأل سعيد بن جبير ابن عباس رضى الله عنه، فقال: خلصناك من محنة بعد محنة: ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، فهذه فتنة يا ابن جبير. وألقته أمّه في البحر. وهمّ فرعون بقتله. وقتل قبطيا. وأجر نفسه عشر سنين. وضلّ الطريق وتفرّقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير. والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان. وكل ما يبتلى الله به عباده: فتنة. قال (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)] الأنبياء: 35 [. (مَدْيَنَ) على ثماني مراحل من مصر. وعن وهب: أنه لبث عند شعيب ثمانيا وعشرين سنة، منها مهر ابنته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونجاه من فرعون أن يُنشب فيه أظفاره)، بدلٌ من فرعون بدل اشتمال، أي: نجاه من أن ينشب فرعون فيه الأظفار، شبه فرعون بسبعُ ضارٍ لقوة غضبه وشدة شكيمته وأثبت له لازمه. كقول الهُذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
قوله: (هاجر به)، الباء للتعدية، أي: جعله الله مهاجراً إلى مدينة
قوله: (على فعول في المتعدي)، إشارة إلى أن ذلك قليل، وهو مع قلته قد جاء كالأمثلة المذكورة.
قوله: (وجمع فتن)، من قولهم: فتن الذهب بالنار: إذا خلصته بها.
وقضى أوفى الأجلين. أي سبق في قضائي وقدرى أن أكلمك وأستنبئك، وفي وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر. وقيل: على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. هذا تمثيل لما خوّله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم. مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقضى أوفى الأجلين)، أي: المذكورين في قوله تعالى حكاية عن شُعيب: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ
…
) إلى قوله: (
…
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) [القصص: 29].
قوله: (قد وقته لذلك)، أي: التكليم والاستنباء. المُغرب: الوقت من الأزمنة المبهمة، ثم استعمل في كل حد، وقد اشتقوا منه فقالوا: وقت الله الصلاة ووقتها، أي: بين وقتها وحدده، ثم قيل لكل محدودٍ: موقوتٌ وموقت.
قوله: (هذا تمثيل لما خوله)، يعني قوله:(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) لا يجوز أن يجري على ظاهره لاستغنائه تعالى عن ذلك، فهو استعارةٌ تمثيلية وبيانها قوله "مثل حاله بحال من يراه" إلى آخره.
الراغب: الصنيعة ما اصطنعته من خير. وفرس صنيع: أُحسن القيام عليه، عُبر عن الأمكنة الشريفة بالمصانع، قال تعالى:(وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) بالشعراء: 129]، وكُني عن الرشوة بالمصانعة، والاصطناع: المبالغة في إصلاح الشيء، قال تعالى:(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)[طه: 41]، قوله:(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) إشارة إلى نحوٍ ما قال بعض الحكماء: إن الله إذا أحب عبداً تفقده كما يتفقد الصديقُ الصديقَ، والصنعُ: إجادةُ الفعل، ولا ينسبُ إلى الحيوانات والجمادات، كما ينسب إليها الفعل، قال تعالى:(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل: 88]، وللإجادة يقالُ للاذق المجيد: صنعٌ وللمرأة صناع.
لجوامع خصال فيه وخصائص، أهلا لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه، ولا ألطف محلا، فيصطنعه بالكرامة والأثرة، ويستخلصه لنفسه. ولا يبصر ولا يسمع إلا بعينه وأذنه، ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره.
(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه: 42 - 44].
الونى. الفتور والتقصير. وقرئ: (تِنيا)، بكسر حرف المضارعة للإتباع، أى: لا تنسيانى ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، واتخذا ذكرى جناحا تطيران به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لئلا يكون أقرب منزلة)، "يكون" تامة، والفاعل "أقربُ"، أي: لئلا يوجد أحدٌ أقرب منزلةً منه.
قوله: (ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره)، الأساس: سواءُ الشيء: وسطه، وضرب سواءه: وسطه ومستوى مفرقه، (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) بالصافات: 55] أي: وسطها.
قوله: (الوني: الفتور والتقصير)، الأساس: ونى في الأمر: ضعف وفتر، وفلانٌ عمل فونى: تعب، وأونيته: أتعبته.
قوله: (واتخذا ذكري جناحا)، ولما عقب النهي عن الونى في الذكر بالأمر بالذهاب، وكرره إجمالاً وتفصيلاً حسن قوله:"واتخذا ذكري جناحاً تطيران به"، يعني: اذهبا بآياتي وأسرعا فيه استعينا على إمضائها بمداومة ذكري، فإن الأمر الذي وجهتما إليه ما يتمشى إلا بمداومة الذكر والاصطبار عليها، وفيه تلويح إلى إشارات العارفين، وأن الترقي إلى المقامات العالية والعروج إلى مظان الزلفى إنما يحصل بملازمة الذكر وشد أعضاده بالأعمال الصالحة، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، انظر
مستمدين بذلك العون والتأييد منى، معتقدين أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكرى. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر. روى أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: سمع بمقبله. وقيل: ألهم ذلك. قرئ (لَيِّناً) بالتخفيف والقول اللين. نحو قوله تعالى (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)] النازعات: 18 - 19 [لأنّ ظاهره الاستفهام والمشورة، وعرض ما فيه من الفوز العظيم. وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت، وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وقيل: لا تجبهاه بما يكره، والطفا له في القول، لما له من حق تربية موسى، ولما ثبت له من مثل حق الأبوّة. وقيل:
كنياه وهو من ذوى الكنى الثلاث: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرّة. والترجي لهما، أى: اذهبا على رجائكما وطمعكما، وباشرا الأمر مباشرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كيف كرر الذكر من أول ما بدأ بالكليم ليعرف عائدته، ومن ثم قال: إن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحدٍ إلا بذكري.
قوله: (سمع بمقبله)، أي: بإقباله، الأساس: رأيتُ بذلك القبل شخصاً وهو ما استقبلك من نشز أو جبل.
قوله: (وعرضُ ما فيه من الفوز العظيم)، عطفٌ تفسيري على قوله:"والمشورة"، وهي على قوله:"الاستفهام"، يعني: القول اللين من مثل موسى عليه السلام لمثل فرعون لا يكون إلا على المشورة التعريض، فصح الاستشهاد بقوله:(هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى)[النازعات: 18 - 19].
قوله: (عداه)، وهو أمر للاثنين، من الوعد.
قوله: (لا تجبهاه بما يكره)، الأساس: جبهته، ومن المجاز: لقيه بما يكره، ولقيت منه جبهة، أي: مذلة.
قوله: (والترجي لهما)، إشارةٌ إلى أن معنى الترجي راجع إليهما لا إلى الله تعالى؛ لأنه يعلمُ
من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد بطوقه، ويحتشد بأقصى وسعه. وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ)] طه: 134 [، أى: يتذكر ويتأمّل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق (أَوْيَخْشى) أن يكون الأمر كما تصفان، فيجرّه إنكاره إلى الهلكة.
(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى)[طه: 45].
فرط: سبق وتقدّم. ومنه الفارط: الذي يتقدّم الواردة. وفرس فرط: يسبق الخيل، أى: نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرئ (يَفْرُطَ) من أفرطه غيره إذا حمله على العجلة. خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب من شيطان، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما كان وما سيكون (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ)[يونس: 61]، وقوله:"وجدوى إرسالهما" إلزام عطفٌ على قوله: "والترجي لهما".
قوله: (يتقدم الواردة)، أي: الذين يردون الماء.
قوله: (وقرئ: "يفرط"، من: أفرطه غيره)، هذه القراءة وما بعدها شاذتان. والمشهور:(أَنْ يَفْرُطَ) بفتح الياء وضم الراء، قال ابن جني: القراءة بفتح الراء وضم الياء لابن محيصن، وهي منقولة من (يَفْرُطَ عَلَيْنَا) أي: يسبق ويُسرع، فكأنه يفرطه مفرطٌ، أي: يحمله حاملٌ على السرعة وترك التأني بنا، والحم على العجلة في بابنا.
قال أبو البقاء الجمهور على فتح الياء وضم الراء، فيجوز أن يكون التقدير (أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا) منه قولٌ، فأضمر القول، كما تقول: فرط مني قول. أو الفاعل: ضميرُ فرعون كما في (أَنْ يَطْغَى).
من جبروته واستكباره وادّعائه الربوبية. أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين حكى عنهم ربّ العزّة (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ)] الأعراف: 60 [(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ)] المؤمنون: 33 [وقرئ: (يفرط)، من الإفراط في الأذية، أى: نخاف أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة. أو يجاوز الحدّ في معاقبتنا إن لم يعاجل، بناء على ما عرفا وجرّبا من شرارته وعتوّه (أَوْ أَنْ يَطْغى) بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي، لجرأته عليك وقسوة قلبه. وفي المجيء به هكذا على الإطلاق وعلى سبيل الرمز: باب من حسن الأدب وتحاش عن التفوّه بالعظيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو بمجاوزة الحد)، عطفٌ على قوله:"بالمعاجلة"، ويروى:"أو يجاوز الحد" عطفٌ على: "يحول بيننا"، والمعنى على الأول، أي: على القراءتين الأوليين: نخاف من أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة بالعقاب، فإنه لا أذية فوقها لماعهدنا من التوصية بإبلاغ الرسالة، وعلى الثاني المعنى: نخاف من الإفراط في الأذية، فإنه شرير عاتٍ عذابه شديدٌ، فقوله: أن يحول: مبني على القراءتين السابقتين، أو بمجاوزة الحد على الأخيرة على اللف والنشر.
قوله: (من شرارته)، الأساس: شر فلانٌ يشر شرارةً، وهو شريرٌ.
قوله: (على الإطلاق وعلى سبيل الرمز)، يريد أنهما عليهما السلام لم يذكرا متعلق (يَطْغَى)، وهو: عليك، بمعنى القول فيك بما لا ينبغي، وذكرا متعلق (يَفْرُطَ) وهو:(عَلَيْنَا)؛ لأن معرته عائدة إليهما إجلالاً لله تعالى وتهيباً من عزته واستزادة لرأفته واستنزالاً لرحمته، وذلك أن الجاهل بالله وبرسوله يخاف منه على الرسول بالإفراط في التكذيب أو في العقوبة، وعلى الله سبحانه وتعالى بما لا ينبغي من القول فيه (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108].
(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَاتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه: 46 - 48].
(مَعَكُما) أى حافظكما وناصركما (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصرتي لكما، فجائز أن يقدّر أقوالكم وأفعالكم، وجائز أن لا يقدّر شيء، وكأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر. وإذا كان الحافظ والناصر كذلك، تمّ الحفظ وصحت النصرة، وذهبت المبالاة بالعدّو. كانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون والقبط، يعذبونهم بتكليف الأعمال الصعبة: من الحفر والبناء ونقل الحجارة، والسخرة في كل شيء، مع قتل الولدان، واستخدام النساء.
(قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) جملة جارية من الجملة الأولى وهي (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فجائز أن يُقدر)، الفاء تفصيل لقوله:"ما يجري بينكما وبينه من قول أو فعل"، يعني: يجوز إرادة هذا المعنى من التركيب، إما بالتقدير بحسب القرائن، وإما بغير التقدير على سبيل الكناية، بأن يجعل الفعل المتعدي لازماً ليعم، ثم يكنى به عن فعل خاص ما فعل البحتري في قوله:
شجو حساده وغيظ عداه
…
أن يرى مبصر ويسمع واع
أي: يكون ذو رؤية وذو سمع، فعبر به عن قوله: أن يرى مبصرٌ آثار محاسن الممدوح، ويسمع واع صيت محامده.
قوله: (مجرى البيان والتفسير)، وإنما لم يكن بياناً تاماً؛ لأنه في الظاهر كالعلة، والعلة غير المعلول، كأنه لما قالا:(إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ)، فقيل: لم قالا: (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ)؟ لان دعوة الرسالة لا تثبت إلا ببينتها، إلى آخره.
بالآية، إنما وحد قوله (بِآيَةٍ) ولم يثن ومعه آيتان، لأنّ المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها، فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة، وكذلك (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)] الأعراف: 105 [، (فَاتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)] الشعراء: 154 [، (أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)] الشعراء: 30 [.
يريد: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين.
(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه: 49 - 50].
خاطب الاثنين، ووجه النداء إلى أحدهما وهو موسى، لأنه الأصل في النبوة، وهارون وزيره وتابعه. ويحتمل أن يحمله خبثه ودعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه، لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين)، إلى آخره، فيه إشارة إلى التعريض، والسلام محمول على التحية والتعريف فيه للعهد، والأحسن ما قال الزجاج: والسلام ليس يعني به التحية، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله وسخطه، الدليل على أنه ليس بسلام أنه ليس ابتداء لقاء، وتحقيقه ما ذكر المصنف في قول عيسى عليه السلام:(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ)[مريم: 33]: "اللام: للجنس، فإذا قال: جنسُ السلام عليَّ خاصةً فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره قوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى)، يعني أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد، فهو مظنة لنحو هذا من التعريض". وقلت: ولما دل قوله: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى) على التوبيخ لمكان التعريض، كان قوله:(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا) استئنافاً منطوياً على تعليل ذلك المفهوم المقصود في الإيراد، كأنه قيل: العذاب على من كذب وتولى؛ لأن الله تعالى أوحى إلينا ذلك، وفيه لمحة من كلام المصنف.
ويدل عليه قوله (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ)] الزخرف: 52 [، (خَلْقَهُ) أول مفعولي (أَعطَى)، أي: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به. أو ثانيهما، أى: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان: كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة، غير ناب عنه. أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة، حيث جعل الحصان والحجر «2» زوجين، والبعير والناقة، والرجل والمرأة، فلم يزاوج منها شيئا غير جنسه وما هو على خلاف خلقه. وقرئ:(خلقه)، صفة للمضاف أو للمضاف إليه، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويدل عليه قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ))، أي: يدل على أن فرعون كان عارفاً من فصاحة هارون والرتةِ في لسان موسى: هذا الكلام.
قوله: (أعطى خيفته)، الجوهري: الخليقة: الخلائق، يقالُ: هم خليقةُ الله، وهم خلق الله أيضاً، وهو في الأصل مصدر.
قوله: (أو ثانيهما، أي: أعطي كل شيء صورته)، فالضمير في (خَلَقَهُ) لـ (شيءٍ)، وعلى الأول لله تعالى. قال القاضي: إنما قدم المفعول الثاني على الأول لأنه المقصود بيانه.
وقلتُ: لأن مقصود موسى عليه السلام إيجاب العبودية على فرعون واستجلابُ الشكر على الوجه الثاني منه وأنه مغمورٌ في إنعام الله وعطائه، يؤيده قراءة من قرأ:"خلقَهُ" صفة، أي: كل شيءٍ خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه، وتنزيلُ الجواب على الوجه الثاني يناسب قوله:(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)[الانفطار: 7 - 8].
كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه (ثُمَّ هَدى) أى عرّف كيف يرتفق بما أعطى، وكيف يتوصل إليه. ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق.
(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه: 51 - 54].
سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون، وعن شقاء من شقى منهم وسعادة من سعد، فأجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرنى به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه)، يؤذن أن ثاني مفعولي (أَعْطَى) محذوفٌ، إما للعموم أو الإطلاق، قال أبو البقاء: المفعول الثاني محذوفٌ للعلم به، أي: أعطى كل شيء ما يُصلحه.
قوله: (ولله در هذا الجواب ما أخره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن)، يعني: وكان من حق الظاهر أن يقولا: رب العالمين، لكن سلكا طريق الإرشاد والأسلوب الحكيم.
قوله: (وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد)، يُريدُ به على سبيل التفصيل والتشخيص، يدل عليه الفاء في قوله:(فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى)؛ لأنه طلبُ تفصيل ما سبق من قوله: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى)، وقوله:(أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)، ومن ثم حسُنَ جوابه عليه السلام بقوله:(عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي)، وتعليله بقوله:(لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)، قال الإمام: إن موسى عليه السلام لما هدد في قوله: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)، فقال فرعون:(فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) فإنها كذبت ثُم ما عُذبوا.
مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، لا يجوز على الله أن يخطئ شيئا أو ينساه. يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له، كقولك: ضللت الطريق والمنزل. وقرئ: (يُضِلُّ)، من أضله إذا ضيعه. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا يترك من وحده حتى يجازيه. ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم، فتعنت وقال: ما تقول في سوالف القرون، وتمادى كثرتهم، وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟ فأجاب بأنّ كل كائن محبط به علمه، وهو مثبت عنده في كتاب، ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان، كما يجوزان عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أى: لا يضل كما تضل أنت، ولا ينسى كما تنسى يا مدعى الربوبية بالجهل والوقاحة (الَّذِي جَعَلَ) مرفوع صفة (لربي). أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح، وهذا من مظانه ومجازه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما يجوزان عليك أيها العبدُ الذليل)، إشارةٌ إلى أن قوله:(لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) على سبيل التعريض، كما مر؛ لأنه زعم أن الربوبية مشتركةٌ ينه وبين الله لقوله:(أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى)[النازعات: 24]، فإجراء الأوصاف الباقية على المدح أحرى وأولى، كأنه قال: ربي المعروفُ بالمالكية المشهور بالربوبية الذي لا يخفى على كل عالم وجاهل: خالقُ كل شيء في السماء والأرض وما بينهما من الخلائق والمرافق. ومن صفات كماله أنه جعل لكم الأرض مهاداً، وأنزل من السماء ماءً، ولو جُعل صفةً لـ (رَبِّي) أفاد تمييزاً وأن الرب مشتركٌ بينه وبين الله على زعمه، لقوله:(أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) وفاتت الفوائد.
(مَهْداً) قراءة أهل الكوفة، أى: مهدها مهدا. أو يتمهدونها فهي لهم كالمهد وهو ما يمهد للصبي (وَسَلَكَ) من قوله تعالى (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)] المدثر: 42 [، (سَلَكْناهُ)] الشعراء: 200 [، (نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)] الحجر: 12 [أى حصل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري (فَأَخْرَجْنا) انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع، لما ذكرت من الافتنان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((مهداً) قراءةُ أهل الكوفة)، والباقون:(مِهَاداً).
قوله: (انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المُطاع)، قال صاحب "الانتصاف": هذا ليس بالتفاتٍ؛ لأن الالتفات يكون في كلام مُتكلم واحد، وهاهنا حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون:(عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ) إلى قوله: (وَلا يَنسَى)، وقوله:(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) إلى قوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ)، إما أن يكون من كلام موسى، فيكون كلام بعض خواص الملك: أمرنا وفعلنا، يريدون الملك، وليس بالتفات، وإن كان الله تعالى ابتدأ وصف ذاته فليس التفاتاً، وهو انتقال من حاكية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا يوقف على (وَلا يَنسَى)، ويحتملُ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفة على لفظ الغيبة، وقال:(فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً) فلما حكاه الله عنه أسند الضمير إلى ذاته؛ لأنه الحاكي هو المحكي عنه، فمرجعُ الضميرين واحدٌ.
وقلتُ: هذا الأخير له وجهٌ؛ لأنه إذا نُظر إلى أن الله تعالى حكى عنه وغير العبارة يكون التفاتاً، وإذا نُظر إلى أن الله تعالى حكى عنه وغير العبارة يكون التفاتاً، وإذا نُظر أن موسى عليه السلام سمع هذه الكلمات بعينها من الله تعالى فاقتبسه وأُدرج في كلامه، كان التفاتاً أيضاً، ونحوه في الإدراج قوله تعالى في الزخرف:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً)[الزخرف: 9 - 10] إلى قوله: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً
والإيذان بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئة، لا يمتنع شيء على إرادته. ومثله قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)] الأنعام: 99 [، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها)] فاطر: 27 [، (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ)] النمل: 60 [، وفيه تخصيص أيضا بأنا نحن نقدر على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة أحد (أَزْواجاً) أصنافا، سميت بذلك لأنها مزدوجة ومقترنة بعضها مع بعض (شَتَّى) صفة للأزواج، جمع شتيت، كمريض ومرضى. ويجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سمى به النابت كما سمى بالنبت، فاستوى فيه الواحد والجمع، يعنى أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم. قالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام، وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزخرف: 11]، ومعنى (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إلى آخره: لينسُبن خلقها إلى الذي وُصف بهذه الأوصاف وقيل في حقه تلك النعوت.
قوله: (والإيذان بأنه مُطاعٌ تنقاد الأشياء المختلفة لأمره)، يعني: في وضع ضمير الجمع موضع المفرد على سنن الملوك في هذه الآيات الدالة على سرعة تأتي المكونات على اختلافها لإرادته، فإن الملك لا يأبى من تحت تصرفه مع اختلاف أصنافهم لسرعة إجابته وامتثال أمره، وقد أدمج في الكلام معنى الاختصاص رداً لزعم الطبيعيين على منوال: إنا نفعلُ كذا أيتها العصابة، كما قال: بأنا نحن نقدرُ على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة أحد، أي: الماء واحدٌ والأرض واحدةُ والمخرج مختلفٌ ألوانه، فلا يكون ذلك إلا بإيجاد قادرٍ مختارٍ لا يمتنع شيءٌ من إرادته ومشيئته، كقوله تعالى:(وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ)[الرعد: 4].
أي قائلين: (كُلُوا وَارْعَوْا) حال من الضمير في (فَأَخْرَجْنا) المعنى: أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها.
(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)[طه: 55].
أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم هو آدم عليه السلام منها. وقيل إن الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه فيبدّدها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معا. وأراد بإخراجهم منها أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب، ويردّهم كما كانوا أحياء، ويخرجهم إلى المحشر (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً)] المعارج: 43 [، عدّد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم، حيث جعلها لهم فراشا ومهادا يتقلبون عليها، وسوّى لهم فيها مسالك يتردّدون فيها كيف شاءوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم، وهي أصلهم الذي منه تفرعوا، وأمهم التي منها ولدوا، ثم هي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عدد الله عليهم ما علق بالأرض)، بيانٌ للنظم وأن الآية كالتتميم للآية الأولى، والتكميل للمنافع المنوطة بالأرض، دلت الأولى على بيان مرافقهم وأصناف انتفاعهم، وهذه على أنها أصلهم وفيها تقلبهم حياً وميتاً، فكانت كالأم البارة بولدها في جميع ما يفتقر إليه، ومن ثم استشهد بقوله:"تمسحوا بالأرض فإنها أم بارة".
النهاية: أراد به التيمم، وقيل: أراد به مباشرة ترابها بالجباه في السجود من غير حائل، وهذا أمر تأديب واستحباب لا وجوب، فإنها أم برةٌ، أي: مُشفقة كالوالدة بأولادها، يعني أن منها خلقكم ومنها معاشكم وإليها بعد الموت معادكم.
كفاتهم إذا ماتوا. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تمسحوا بالأرض فإنها بكم برّة» .
(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى)[طه: 56].
(أَرَيْناهُ) بصرناه أو عرفناه صحتها ويقناه بها. وإنما كذب لظلمه، كقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)] النمل: 14 [وقوله تعالى (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ)] الإسراء: 102 [وفي قوله تعالى (آياتِنا كُلَّها) وجهان، أحدهما: أن يحذى بهذا التعريف الإضافى حذو التعريف باللام لو قيل الآيات كلها، أعنى أنها كانت لا تعطى إلا تعريف العهد، والإشارة إلى الآيات المعلومة التي هي تسع الآيات المختصة بموسى عليه السلام: العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل. والثاني:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كفاتهم إذا ماتوا)، هو من قوله تعالى:(أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً)[المرسلات: 25]، قال: الفاتُ من كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه، وهو اسم ما يكفتُ أي: كافتةً أحياءً وأمواتاً.
قوله: (بصرناه أو عرفناه صحتها)، يعني: يجوزُ أن يكون (أَرَيْنَاهُ) من الرؤية بمعنى الإبصار، وأن يكون من الرؤية بمعنى المعرفة، وعلى التقديرين متعد إلى مفعولين، وعلى الثاني المضاف محذوفٌ، ولا يجوز أن تكون الرؤية بمعنى العلم؛ لئلا يلزم حذفُ المفعول الثالث من الإعلام وهو غير جائز.
قوله: (العصا واليد وفلقُ [البحر و] الحجر)، إلى آخره، وليس في "معالم التنزيل" ذكرُ الحجر ولا نتقِ الجبل، وفيه في روايةٍ عن ابن عباس رضي الله عنه: والعقدة التي كانت بلسانه فحلها، وفي رواية عكرمة: والسنون ونقصٌ من الثمرات، وفي رواية محمد بن كعبٍ: الطمسُ، وأما الحجرُ ونتقُ الجبل فغيرُ مناسبين؛ لأنهما من الآيات التي اختصت ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون.
أن يكون موسى قد أراه آياته وعدّد عليه ما أوتيه غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبىّ صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به، فكذبها جميعا (وَأَبى) أن يقبل شيئا منها. وقيل:
فكذب الآيات وأبى قبول الحق.
(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى)[طه: 57].
يلوح من جيب قوله (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن يكون موسى قد أراه)، والإضافة على هذا بمعنى اللام الاستغراقي، ومعنى (أَرَيْنَاهُ): عرفناه؛ لأنه قدرٌ مشتركٌ بين الإراءة بالبصر بالنسبة إلى الآيات التي أظهرها الله علىي د موسى وبني الإراءة التي هي الإعلام والإخبار بالنسبة إلى ما أوتيه غيره، ولهذا قال: لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به. قال القاضي: (كُلَّهَا) تأكيدٌ لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد على أن المراد بآياتنا: آياتٌ معهودةٌ، هي الآياتُ التسعُ المختصةُ بموسى، وأنه عليه السلام أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات. وقال السجاوندي:(كُلَّهَا) أي: كل أجناس الآيات، إيجادُ المعدوم كإيجاد الضوء من اليد، وإعدام الموجود كإعدام حبال السحرة، وتغيير الموجود كقلب العصا حيةً وإعادتها حيةً.
قوله: (بين ما يشاهد به)، بكسر الهاء، أي: يحاضر به ويريه، قاله نور الدين الحكيم.
قوله: (وقيل: فكذب)، عطفٌ على "فكذبهما جميعاً"، يعني:(أَبَى)، حذف مفعوله إما بواسطة القرينة الظاهرة أو المعنوية، فعلى الأول:"أبى": تتميمٌ، وعلى الثاني: تكميل؛ لأن الحق أعمُّ من المعجزات.
قوله: (يلوحُ من جيب قوله)، الرواية:"جيب" بالجيم والباء الموحدة، ويُروى:"من خيث" بالخاء المعجمة والثاء المثلثة، وهو تصحيفٌ، والصحيح الأول، وقد تضمنت الاستعارة الموشحة بالترشيح، وذلك أن قوله:(لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا) فيه إظهارُ تجلدٍ من اللعين للقوم، وفي ضمنه استشعارُ خوفٍ عظيم، وقوله: " (بِسِحْرِكَ): تعميةٌ وإلباسٌ على
أن فرائصه كانت ترعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام، لعلمه وإيقانه أنه على الحق، وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت وأن مثله لا يخذل ولا يقل ناصره، وأنه غالبه على ملكه لا محالة. وقوله (بِسِحْرِكَ) تعلل وتحير وإلا فكيف يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر.
(فَلَنَاتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه: 58 - 60].
لا يخلو الموعد في قوله (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا. فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله تعالى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَة) ِ مطابق له، لزمك شيئان أن تجعل الزمان مخلفا، وأن يعضل عليك ناصب (مَكَاناَ): وإن جعلته مكانا لقوله تعالى (مَكاناً سُوىً) لزمك «1» . أيضا أن توقع الإخلاف على المكان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمقى والجهلة"؛ لأن هذا الكلام ما صدر عن اللعين إلا بعد ما أيقن وحقق أن ما جاء به ليس من قبيل الباطل الذي هو السحرُ، بل هو من الحق الساطع الغالب على كل باطلٍ ارتكبه، فإبرازه في معرض السحر استشعار للخوف، فشبه بالثوب الساتر على عيوب لابسه مع اطلاع ذي الدرية على عيبه من جيبه.
قوله: (فرائصه)، الجوهري: عن الأصمعي: الفريصةٌ: اللحمةُ بين الكتف والجنب التي لا تزال ترتعد من الدابة.
قوله: (أن تجعل الزمان مخلفاً)، قال ابن الحاجب في "الأمالي": الظاهر أن الموعد: الوعد، لأنه وصف بقوله:(لا نُخْلِفُهُ)، والإخلاف إنما يتعلق بالوعد، يقال: أخلف وعده لا بمكانه ولا بزمانه، ولو جُعل مكاناً وزماناً لوقع الإخلافُ على غير الوعد، وهو بعيدٌ.
وأن لا يطابق قوله (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وقراءة الحسن غير مطابقة له مكانا وزمانا جميعا، لأنه قرأ (يَوْمُ الزِّينَةِ) بالنصب، فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف، أى: مكان موعد، ويجعل الضمير في (نُخْلِفُهُ) للموعد و (مَكاناً) بدل من المكان المحذوف. فإن قلت. فكيف طابقه قوله (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن لا يطابق قوله: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)؛ لأنه يكون حينئذٍ (فَاجْعَل) طلباً لمكان الوعد، فلا يكون تعيين زمان الوعد مطابقاً للسؤال.
قوله: (وقراءة الحسن غير مطابقة له)، أي: للموعد من جهة المكان والزمان، أما المكانُ فظاهر وأما الزمان فلأن زمان الوعد زمانُ التكلم لا زمان الزينة، وإنما يُتوقع إنجازه فيه. قال ابن جني: أما نصب (يَوْمُ الزِّينَةِ) فعلى الظرف، والموعد مصدرٌ، والظرفُ بعده خبرٌ عنه على حذف المضاف، أي: إنجاز موعدنا إياكم في ذلك اليوم. ألا ترى أنه لا يراد: في ذلك اليوم نعدكم، وكيف ذا والوعدُ قد وقع الآن وإنما يتوقع إنجازه في ذلك اليوم؟ وإليه الإشارة بقوله:"فالموعد في قراءة الحسن: مصدرٌ لا غيرُ"؛ لأن التقدير: اجعل بيننا وبينك يوم إنجاز وعد، فقيل: إنجاز وعدكم في يوم الزينة. وقال أبو البقاء: تقديره: موعدكم واقعٌ يوم الزينة.
قوله: (و (مَكَاناً): بدل من المكان المحذوف)، وجاز الإبدال لتغغايرهما بوصف الثاني بـ (سُوًى).
قوله: (فكيف طابقه؟ )، أتى بالفاء إنكاراً، يعني: قررت أنه لا يجوز جعلُ الموعد مكاناً، لما يلزمُ منه عدم المطابقة بينه وبين قوله:(مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)، وحين جعلته مصدراً على تقدير المضاف وقعت فيما فررت منه. وأجاب: أنه كان يلزمُ من الأول محذوران: جعلُ
بد من أن تجعله زمانا، والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا، لأنهم لا بدّ لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه، مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان. وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير. والمعنى: إنجاز وعدكم يوم الزينة. وطباق هذا أيضا من طريق المعنى. ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعدا لا نخلفه. فإن قلت:
فبم ينتصب (مَكَاناَ)؟ قلت: بالمصدر. أو بفعل يدل عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المكان مخلفاً، وعدم المطابقة، ومن الثاني محذورٌ واحدٌ وهو: عدما لمطابقة، فتأول كما أشار إليه وذلك كما يقالُ لمن يقولُ لصاحبه: أين أراك يوم عرفة؟ أي: في عرفات.
وقال صاحب "الانتصاف": ويحتملُ أن يجعل موعدٌ اسم مكانٍ فيطابق مكاناً والزمان بما ذكره ويعود الضمير في (لا نُخْلِفُهُ) على المصدر المفهوم من اسم المكان، إذ حروفه فيه. والموعد إذا كان اسم مكان حاصله مكانُ وعد، وكذا إذا كان اسم زمان حاصله زمانُ وعد، وإذا جاز عودُ الضمير إلى ما دلت عليه قوة الكلام فرجوعه إلى ما هو المنطوق به أولى. قالوا: من صدق كان خيراً له، فأعادوا الضمير على مصدر "صدقٍ" لدلالة الفعل عليه، ويكون على هذين التأويلين جواب موسى من جوامع الكلم، سألوه مكاناً فعلم أن الزمان لابد أن يُسأل عنه فأجاب جواب مفردٍ كافٍ في الجميع.
فإن قيل: المسؤول عنه جُعل ضمناً وهو المكان وصرح بما لم يطلب، وهو الزمان. فالجواب: أن قرينة سؤالهم دلت على المضمن، ما لم يسألوا عنه صرح به، إذ لا قرينة معه.
وقلتُ: في قوله: "يعودُ الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم المكان" نظرٌ؛ لأن قوله: (لا نُخْلِفُهُ) صفةٌ لـ"موعد"، أو المضير فيه لا يرجع إلا إليه قطعاً.
قوله: (بالمصدر)، أي: انتصب (مَكَاناً) بالمصدر. قاله أبو البقاء. وكلامُ صاحب "التقريب" و"الانتصاف" فيه نظرٌ؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل، وغايةُ ما يُقال فيه:
المصدر. فإن قلت: فكيف يطابقه الجواب؟ قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر. وأما على قراءة العامة فعلى تقدير: (وعدكم وعد يوم الزينة). ويجوز على قراءة الحسن أن يكون (مَوْعِدُكُمْ) مبتدأ، بمعنى الوقت. و (ضُحًى) خبره، على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه. وقيل في يوم الزينة: يوم عاشوراء، ويوم النيروز،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن عمله في الظرف من الاتساع. وقال ابن الحاجب: لا يستقيم نصب مكاناً بالوعد وإن كان مصدراً؛ لأنه قد فُصل بينه وبينه بالوصف، فصار مثل قولك: أعجبني ضربٌ حسنٌ زيداً، وهو غير سائغ: لأن المنصوب بالمصدر من تتمته، ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه، فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته. وقال صاحب "الفرائد": إن جعلته مصدراً فالتقديرُ: اجعل لنا وعداً لا نُخلفه، جاء يبين (مَكَاناً سُوًى)، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون (مَكَاناً) مفعولاً ثانياً لـ"اجعل".
قوله: (كيف يطابقه الجواب؟ )، أي: قوله: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) كيف يستقيم جواباً لقوله: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً)، فإن يوم الزينة حُمل على موعدكم؟ وأجاب: أنه على قول الحسن: ظرفٌ مستقرٌ، وعلى المشهورة: يقدر في الخبر مضافٌ بأن يقال: وعدكم وعدُ يوم الزينة.
قوله: (لأنه ضُحى ذلك اليوم بعينه)، أي: يوم الزينة، فـ"يوم الزينة": ظرفٌ، والظرفُ من المخصصات، والمراد من قوله:"على نية التعريف فيه" - أي: في (ضُحىً) - أنه لما وقع خبراً من المجموع لم يلتبس على أحد أنه ضُحى غير ذلك اليوم، فإنه وإن كان نكرةً لفظاً إلا أنه وقع معرفةً معنى ونية، إذ التقدير: موعدكم في يوم الزينة ضُحاه.
قال صاحبُ "التقريب": وعلى هذا في نصب "يوم الزينة" نظرٌ، إلا أن يُجعل صفة
ويوم عيد كان لهم في كل عام، ويوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم. قرئ (نُخْلِفُهُ) بالرفع على الوصف للموعد. وبالجزم على جواب الأمر. وقرئ (سُوىً) و (سوى)، بالكسر والضم، ومنونا وغير منون. ومعناه: منصفا بيننا وبينك عن مجاهد، وهو من الاستواء لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للضحى تقدمت عليه، أي: ضُحى كائناً في ذلك اليوم، وحينئذٍ يُستغنى عن نية التعريف فيه، وقلتُ: لا يجوز أن يكون حالاً من (ضُحىً) لفقد العامل.
قوله: (وقرئ: "سوى" و (سُوىً))، عاصمٌ وابنُ عامرٍ وحمزةُ: بالضم، والباقون: بالكسر، ووقف أبو بكر وحمزة والكسائي:"سوى" بالإمالة، وورشٌ وأبو عمرو: بين بين، والباقون: بالفتح. قال محيي السنة: وهما لغتان، مثلُ: عُدى وعِدَى، قال مُقاتلٌ وقتادة: مكاناً عدلاً بيننا وبينك، ابن عباس: نصفاً يستوي مسافةُ الفريقين إليه قال مجاهدٌ: منتصفاً.
قوله: (لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية)، تعليلٌ لتصحيح قول مجاهد، أي: لما كان أصل (سُوىً) من الاستواء جعله بمعنى: منصفاً؛ لأن المسافة: أي: البعد، لكل فريق من السحرة والمؤمنين إلى ذلك المكان مُستوٍ لا تفاوت فيه. قال الزجاج: منصفاً، أي: مكاناً يكون النصفُ فيما بيننا وبينك.
الراغب: سواءٌ: وسطٌ، ويقال: سواءٌ وسُوى، قال تعالى:(مَكَاناً سُوًى)، أي: يستوي طرفاه، ويُستعملُ ذلك وصفاً وظرفاً، وأصلُ ذلك مصدرٌ، والشيء المساوي كعدلٍ ومعادل وقتلٍ ومقاتل، تقول: سيان زيدٌ وعمرو، والمساواة متعارفة في المثمنات، يقال: هذا الثوب يساوي كذا.
فيها. ومن لم ينون فوجهه أن يجرى الوصل مجرى الوقف. قرئ: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) بالتاء والياء. يريد: وأن تحشر يا فرعون. وأن يحشر اليوم. ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة إما على العادة التي يخاطب بها الملوك، أو خاطب القوم بقوله (مَوْعِدُكُمْ) وجعل (يُحْشَرَ) لفرعون. ومحل (وأَنْ يُحْشَرَ) الرفع أو الجرّ، عطفا على "اليوم" أو "الزينة": وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومن لم يُنون فوجهه أن يُجري الوصل مجرى الوقف)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأنه وقفٌ حقيقةٍ فعدمُ التنوين وقفاً لإجراء الوصل مجرى الوقف، إلا أن يثبت عدم التنوين في الوصل أيضاً.
وقال ابن جني: وهي قراءة الحسن، وتركُ صرفه مُشكل؛ لأنه وصفٌ على "فُعَل" وهو مصروفٌ، يقال: رجلٌ حُطمٌ ودليلٌ ختعٌ ومالٌ لبدٌ، إلا أنه ينبغي أن يُحمل على أنه محمولٌ على الوقف عليه فجاء بترك التنوين، فإن وصل على لك فعلى نحو قولهم: سبسباً وكلكلاً، فيجري في الوصل مجراهُ في الوقف. "دليلٌ خُتعٌ"، أي: ما هو في الدلالة.
قوله: (ومحلُّ (وَأَنْ يُحْشَرَ) الرفع أو الجر عطفاً على "اليوم" أو "الزينة")، قال أبو البقاء:(وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ): معطوفٌ على "الزينة"، أي: ويومُ أن يُحشر الناسُ، فيكونُ في موضع جر، ويجوزُ أن يكون في موضع رفع، أي: موعدكم أن يُحشر الناسُ.
وقال ابن جني: [لكن] في قوله تعالى: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) النظر، فظاهر حاله أنه مجرورٌ، كأنه قيل: موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ضُحى، ويجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على "الموعد"، كأنه قال: إنجاز موعدكم وحشرِ الناس ضُحى في يوم الزينة، فكأنه
وكبت الكافر وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حدّ المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى)[طه: 61].
(لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أى لا تدعوا آياته ومعجزاته سحرا. قرئ (فَيُسْحِتَكُمْ) والسحت لغة أهل الحجاز.
والإسحات: لغة أهل نجد وبني تميم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعل الموعد عبارة عن جميع ما يتجدد في ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر، ثم عطف (وَأَنْ يُحْشَرَ) عليه، فهو على منوال (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة: 98]، ومن رفع فقال:(يَوْمُ الزِّينَةِ)، فإن الموعد إذن زمانٌ، أي: وقتُ وعدكم يومُ الزينة، وعطفُ (وَأَن يُحْشَرَ) يؤكد الرفع؛ لأن "أنْ" لا تكونُ ظرفاً، ألا ترى أن من قال: زيارتك إياي مقدم الحاجٌ، لا تقول: زيارتك إياي أن يقدم الحاج، وذلك أن لف المصدر الصريح أشبه بالظرف من "أنْ" وصلتها التي بمعنى المصدر إذا كان اسماً لحدث، والظرفُ اسمٌ للوقت، والوقتُ يكادُ يكون حدثاً.
قوله: (وكبت الكافر)، الجوهري: الكبتُ الصرفُ والإذلالُ، يقالُ: كبت الله العدو، أي: صرفه وأذله.
قوله: (قُرئ (فَيُسْحِتَكُمْ))، حفصٌ وحمزة والكسائي: بكسر الحاء وضم الياء، والباقون: بفتحها، قال الزجاج: يقال: سحته الله وأسحته: إذا استأصله وأهلكه، قال الفرزدق:
ومنه قول الفرزدق:
إلّا مسحتا أو مجلّف
في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه:
(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) [طه: 62 - 64].
عن ابن عباس: إن نجواهم: إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب لما قال (وَيْلَكُمْ)
…
الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعض زمانٌ يا ابن مروان لم يدع
…
من المال إلا مُسحت أو مجلفُ
لم يدع: لم يستقر، من الدعة، إلا مسحت بالرفع. والأكثر بالنصب، فهذا بناء على قولهم: أسحت فهو مسحتٌ.
الجوهري: المُسحتُ: المهلكُ، والمجلفُ، بالجيم: الذي بقيت منه بقيةٌ، يريد إلا مُسحتاً وهو مجلفٌ، قيل: معنى لم يدع: لم يبق، حيث رفع به مجلفٌ. ومن روى مسحتاً، فهو على معناه، وتمامُ تقريره مضى في قوله تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)[البقرة: 249].
قوله: (لا تزال الرُّكبُ تصطك)، مثلٌ في عقده وعضله.
قوله: (وعن وهب: لما قال: (وَيْلَكُمْ)، قالوا: ما هذا بقول ساحر) مؤذنٌ بأن قوله: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ) كلامٌ مع السحرة، وبه صرح الواحديُّ، وعليه ينطبق قوله:
والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول، ثم قالوا: إن هذان لساحران. فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره، خوفا من غلبتهما. وتثبيطا للناس عن اتباعهما. قرأ أبو عمرو (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص:(إن هذان لساحران)، على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هي الفارقة بين (إن) النافية والمخففة من الثقيلة.
وقرأ أبىّ: (إن ذان إلا ساحران). وقرأ ابن مسعود:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى)، أي: ثُم أتى بجميع ما رأى أن يؤتي به من القوم والسحرة والآلات، فلما حضر موسى للميقات ونظر إلى السحرة وما استعدوا به قال:(وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) فحينئذ تنازع السحرة أمرهم وأسروا النجوى، وقالوا: ما هذا بقول ساحر، ثم اتجه لسائل أن يقول: ما فعل فرعونُ وقومه عند هذا التقاعد والتواني وما قالوا للسحرة؟ أجيب: قالوا: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) إلى قوله: (اسْتَعْلَى).
قوله: (وتجاذبوا أهداب القول)، استعارةٌ، وتجاذبوا ترشيحها، والمجموع كنايةٌ عن أن الكلام ذو شجون. وفيه أن كلامهم كان أقوالاً ملفقةً لا حقيقة لها؛ لأن هدبة الثوب مثل في الرخاوة، يدل عليه قوله:"في تلفيق هذا الكلام وتزويره"، ويروى:"وترويزه"، من الروز، وهو الذوق، يقال: راز العدل، أي: حركه، هل يقدرُ على حمله أم لا؟
قوله: (خوفاً من غلبتهما)، يريد أن نجواهم في السر كان لتلفيق قوله:(إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) يعني: إن صرحنا بالحق نخافُ من غلبتهما علينا بأن يقولا: فاتبعونا إذن. ومن تثبيط الناس أيضاً، فإنهم إذا سمعوا ذلك رغبوا في اتباعهما، فالواجب أن يقول: إن هذين لساحران، فيأمن من ذلك، هذا يقوي رواية من روى "تزويره" بالراء بعد الزاي.
قوله: (قرأ أبو عمرو: "إن هذين")، وفي "التيسير": وقرأ ابنُ كثيرٍ وحفص: (إِنْ هَذَانِ) بإسكان النون والباقون بتشديدها. وقرأ أبو عمرو: "هذين" بالياء، والباقون: بالألف.
(أن هذان ساحران): بفتح (أن) وبغير لام، بدل من (النجوى). وقيل في القراءة المشهورة (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) هي لغة بلحارث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف، كعصا وسعدى، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("أن هذان ساحران" بفتح "أنْ" وبغير لام)، بدلٌ من (النَّجْوَى)، هذا على أن يكون قوله:"أن هذان لساحران" من كلام السحرة كما قال، والظاهر أنهم تشاوروا في السر، فيكون قوله:(قَالُوا) مقحماً توكيداً لأن "أسروا" نوعٌ من القول، وقوله:(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) كلام بعضهم مع بعض، وفي "الموضح": بحذف (قَالُوا) من البين.
قوله: 0 جعلوا الاسم المُثنى نحو الأسماء التي آخرها ألفٌ كعصا)، قال الزجاج: حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو رأسٌ من رؤساء الرواة، أنها لغةٌ لكنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، وينشدون:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى
…
مساغاً لناباه الشجاع لصمما
ويقولون: ضربته بين أذناه، وكذلك روى الكوفيون أنها لغة لبني الحاث بن عب، وقالت النحاة القدماء: إن الضمير فيه مضمر، أي: إن هذان لساحران، وقالوا أيضاً: إن معنى "إنْ": نعم، وينشدون.
ويقلن شيبٌ قد علا
…
ك وقد كبرت فقلتُ إنه
وحكى صاحب "المطلع": أن أعرابياً أتى ابن الزبير يستجديه فلم يعطه شيئاً. فقال: لعن الله ناقةً حملتني إليك، قال ابن الزبير: إن وراكبها، أي: نعم.
وقال ابن الحاجب في "الأمالي": وهذه القراءة مشكلة، وأهرها أن (هذان) مبني لأنه من أسماء الإشارة، فجاء في الرفع والنصب والجر على حالٍ واحدة، وهي لغةٌ واضحةٌ،
وقال بعضهم: "إِنْ" بمعنى نعم. و (ساحِرانِ) خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة تقديره: لهما ساحران. وقد أعجب به أبو إسحاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما يُقويها أن اختلاف الصيغ في اللغة الأخرى ليس إعراباً في التحقيق، لوجود علة البناء من غير معارض؛ لأن العلة في هذا وهؤلاء كونها اسم إشارة. وقال:"إنْ" بمعنى "نعم": شاذ.
قوله: (وقال بعضهم: "إنْ" بمعنى: نعم)، وقد أُعجب به أبو إسحاق، أي: الزجاج، قال بعدما نقل كلام النحويين: هذا جميعُ ما اتجوا به، والذي عندي - والله أعلمُ - وكنتُ عرضته على عالمينا: محمد بن يزيد، يعني: المبرد، وعلى إسماعيل بن إسحاق فقبلاه وذرا أنه أجود ما سمعاه في هذا المعنى: أن تقديره: نعم هذان لهما ساحران، وأن اللام قد وقعت موقعها، أي: دخلت على المبتدأ لا الخبر. وقال النحاة أصل هذا اللام أن تقع في الابتداء ووقوعها في الخبر جائزٌ، وأنشدوا:
أم الحليس لعجوزٌ شهربه
…
ترضى من اللحم بعظم الرقبة
أي: لأم الحُليس عجوزٌ.
وقال أبو عليٍّ في "الإغفال": هذا غيرُ مرضي؛ لأن اللام للتأكيد، ويقبح أن يُذكر للتأكيد ويُحذف نفسُ المؤكد؛ لأن التأكيد إنما يُحتاج إليه فيما خيف لبسه على السامع، فإذا بلغ به الحال التي يستجاز معها حذفه لعلم المخاطب به استغنى لذلك عن التأكيد، ولهذا حمل النحويون قوله:"أمُّ الحُليس لعجوزٌ" على الضرورة، حيث أدخل اللام على الخبر وحقها أن تدخل على المبتدأ، ولو كان للي ذكره وجهٌ ما حملوا هذا على الضرورة بلقدروا فيه ما قدروه في قوله: ويحذفُ نفسُ المؤكد نظراً لأن المؤكد مضمونُ الجملةِ، كما نص
سموا مذهبهم الطريقة المثلى (بِطَريقَتِكمً الْمُثْلى) والسنة الفضلى، وكل حزب بما لديهم فرحون. وقيل: أرادوا أهل طريقتهم المثلى، وهم بنو إسرائيل، لقول موسى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليه المصنف في قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5].
ثم قال أبو علي: فإن قلت: أليسوا قد أجازوا حذف الخبر في نحو:
إن مُحلاً وإن مُرتحلاً
وإذا لم يُمنع الحذفُ في الخبر مع "إنْ" لم يمتنع في المبتدأ مع اللام؟
قلتُ: لا يلزمُ من جواز هذا جوازُ ذاك وإن اجتمعا في التأكيد وتلقي القسم؛ لأن "إنْ" مشبهةٌ بـ"لا" من حيث كانت تعملُ عملها وكانت نقيضتها، وحملُ النقيض على النقيض شائعٌ، وإنما حسُن الحذفُ مع "لا"؛ لأن المنفي في تقدير التكرير لأنه لا يقعُ إلا بعد إثبات مُثبت وبعد إثباته يحسنُ الحذفُ، وكفى بدخول اللام شاهد صدقٍ، ما روي عن أفصح من نطق بالضاد من قوله:"أغبطُ أوليائي عندي، لمؤمنٌ خفيفُ الحاذ". أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، عن أبي أمامة.
قوله: (سموا مذهبهم الطريقة المثلى)، الراغب: الطريقُ: السبيلُ الذي يُطرقُ بالأرجل، قال تعالى:(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)[طه: 77]، وعنه استعير كل مسلكٍ يسلكه الإنسان في فعلٍ، محموداً كان أو مذموماً، قال تعالى:(وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى).
(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) وقيل «الطريقة» اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. يقال: هم طريقة قومهم. ويقال للواحد أيضا: هو طريقة قومه (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) يعضده قوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) وقرئ (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أى أزمعوه واجعلوه مجمعا عليه، حتى لا تختلفوا ولا يتخلف عنه واحد منكم، كالمسألة المجمع عليها. أمروا بأن يأتوا صفا لأنه أهيب في صدور الرائين. وروى أنهم كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل وعصا وقد أقبلوا إقبالة واحدة. وعن أبى عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى، لأن الناس يجتمعون فيه لعيدهم وصلاتهم مصطفين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: الطريقة: اسم لوجوه الناس وأشرافهم)، قال الزجاج: يعني بـ "طريقتكمُ المثلى": جماعتكم الأشراف، والمثلى تأنيثُ الأمثل، والأمثل والمثلى ذو الفضل الذي به يستحق أن يُقال: هذا أمثلُ قومه، والعربُ تقوله للرجل الفاضل: وإنما تأويله هذا الذي ينبغي أن يجعله قومُه قُدوةً ويسلكوا طريقته، والذي عندي أنه أهلُ طريقتكم، كقولهم: هذا طريقةُ قومه، أي: صاحب طريقة قومه.
وقال القاضي: (بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى) أي: بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما، وإعلاء دينهما، لقوله:(أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)[غافر: 26].
قوله: (فاجمعوا كيدكم)، بوصل الألف وفتح الميم، قرأها أبو عمرو، والباقون: بقطع الألف وكسر الميم. قال صاحب "الكشف": من قال: (فَأَجْمِعُوا) بقطع الألف حذف الجار كما حذفها في قوله: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ)[البقرة: 235]، أي: على عقدة النكاح، كقوله:(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ)[يونس: 71]، ومن قال:"فاجمعوا" فوصل لم يحتج إلى حذف الجار لأنه متعد بنفسه.
ووجه صحته أن يقع علما لمصلى بعينه، فأمروا بأن يأتوه. أو يراد. ائتوا مصلى من المصليات (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) اعتراض. يعنى: وقد فاز من غلب.
(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه: 65 - 66].
(أَنْ) مع ما بعده إما منصوب بفعل مضمر. أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف. معناه:
اختر أحد الأمرين، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ووجه صحته)، أي: صحة هذا المجاز والعدول من الحقيقة وإرادة المُصلى بـ (صفاً) في قول فرعون: (ائْتُوا صَفّاً) بعد تقرير المجاز هو أن يقع علماً ويُراد مُصلى من المصليات.
قوله: (إما منصوبٌ بفعلٍ مضمر أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف)، قال أبو البقاء: أي: إما أن تفعل الإلقاء أو أمرنا الإلقاء.
قوله: (وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن)، قال في "الانتصاف": سبق أدبهم في قولهم: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ)، جعلوا الموعد من موسى ثم قالوا:(إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) وألهم الله تعالى موسى عليه السلام أن يجعل الموعد يوم عيدهم ليفتضحوا على رؤوس الأشهاد، وألهمه بأن يبدؤوا ليكون إلقاؤه قذفاً بالحق على الباطل.
وقال القاضي: أمرهم بأن يبدؤوا في الإلقاء إسعافاً إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في جانبهم وتغير النظم إلى وجه أبلغ وهو: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى).
وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم أولا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر. ويستنفدوا أقصى طوقهم ومجهودهم، فإذا فعلوا: أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين. يقال في «إذا» هذه: إذا المفاجأة. والتحقيق فيها أنها (إذا) الكائنة بمعنى الوقت، الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة الجملة ابتدائية لا غير، فتقدير قوله تعالى (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) ففاجأ موسى وقت تخييل سعى حبالهم وعصيهم. وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعى. وقرئ (عِصِيُّهُمْ) بالضم وهو الأصل، والكسر إتباع، ونحوه: دلىّ ودلىّ، وقسىّ وقسىّ. وقرئ «تخيل» على إسناده إلى ضمير الحبال والعصى وإبدال قوله (أَنَّها تَسْعى) من الضمير بدل الاشتمال،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذا تمثيلٌ، والمعنى على مفاجأته)، قال صاحب "التقريب": والتقدير: فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم، وهذا تمثيلٌ وليس عين المدعى؛ لأن وقت في التقدير: مفعولٌ به لـ"فاجأ"، والمدعى أنه ظرفٌ، فالأولى أن يقال: فاجأ موسى حبالهم في وقت تخييلها السعي، وقد نبه في قوله:"والمعنى على هذا". وقلتُ: المراد من قوله: "هذا تمثيلٌ" أن ما ذكره، وهو قوله:"فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم"، واردٌ على سبيل تنظير الآية به، بحسب هذه القاعدة، لكن معنى الآية: على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلةً إليه السعي، بناء على قولهم:"إذا" هذه للمفاجأة، كأن الظرف سد مسد فعله، قال ابن الحاجب: ولا يقع بعد "إذا" المفاجأة إلا المبتدأُ والخبرُ، والعاملُ فيها معنى المفاجأة، وهو عاملٌ لا يظهر، استغنوا عن إظهاره بقوة ما فيها من الدلالة عليه.
قوله: 0 وقرئ: "تخيلُ"، على إسناده إلى ضمير الحبال)، ابن ذكوان، والباقون: بالياء
كقولك: أعجبني زيد كرمه، و (تُخَيلُ) على كون الحبال والعصىّ مخيلة سعيها. و (تَخَيَّل). بمعنى تتخيل. وطريقه طريق (تخيل). و (نُخيل): على أنّ الله تعالى هو المخيل للمحنة والابتلاء. يروى أنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيلت ذلك.
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه: 67 - 69].
إيجاس الخوف: إضمار شيء منه، وكذلك توجس الصوت: تسمع نبأة يسيرة منه «1» منه، وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية، وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله. وقيل: خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فيه تقرير لغلبته وقهره، وتوكيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التحتاني، قال ابن جني: القراءة بالتاء الفوقانية: للحسن والثقفي، (أَنَّهَا تَسْعَى) بدلٌ من الضمير في (يُخَيَّلُ)، وهو عائدٌ إلى الحبال والعصي، كقول: إخوتك يعجبونني أحوالهم. وقوله تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ) فيمن جعل "الأبواب" بدلاً من الضمير في (مُفَتَّحَةً)، وهذا أمثل من أن يعتقد خلوُّ (يُخَيَّلُ) من الضمير.
قال أبو البقاء: (حِبَالُهُمْ): مبتدأ، والخبرُ "إذا"، و (يُخَيَّلُ): حالٌ.
قوله: (نبأة يسيرة)، الجوهري: النباوة: الصوت الخفي.
قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) فيه تقريرٌ لغلبته وقهره، وتوكيدٌ)، يجوز أن يكون قوله:"وتوكيدٌ" عطفاً على قوله: "تقريرٌ لغلبته" على البيان، وقوله:"بالاستئناف وبكلمة التشديد" أي: التحقيق، وهي "إن" إلى آخره تعدادٌ للمؤكدات، ويجوزُ أن يكون "توكيدٌ"
بالاستئناف وبكلمة التشديد وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبلفظ العلوّ وهو الغلبة الظاهرة وبالتفضيل. وقوله (ما فِي يَمِينِكَ) ولم يقل عصاك: جائز أن يكون تصغيرا لها، أى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أى: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة، فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها، فألقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غير الأول فيتعلق قوله: "بالاستئناف" بقوله: "تقريرٌ لغلبته" ويتعلقُ البواقي بقوله: "وتوكيدٌ". أما دلالةُ الاستئناف على تقرير الغلبة والقهر فهي أنه لما قيل له: (لا تَخَفْ)، أي: لا تُبالِ، سأل: لم ذاك والحالُ حالُ استشعار الخوف؟ فأجيب: (إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)، وأما دلالة لام التعريف على تقرير الغلبة فإنها للجنس. وقد دخلت على الخبر فأفادت أن حقيقة العُلو والغلبة مختصةٌ بك لا تتعدى إلى غيرك. وقوله:(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) أمرٌ عُطف على النهي وهو: (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)، وفصل فيه ما كان مجملاً في (أَنْتَ الأَعْلَى) بقوله:(تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا) إلى قوله: 0 آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى).
قوله: (جائزٌ أن يكون تصغيراً لها)، خبرٌ لقوله:(مَا فِي يَمِينِكَ)، فـ"ما" حينئذٍ: موصولةٌ، والصلة تدل على التحقير، أي: ألق الذي اشتمل عليه يمينك من العُويد الخفيف الحقير، وعلى تقير أن يكون تغظيماً لها:"ما" موصوفة أنها منه، والتنكير للتعيم، أي: ألق شيئاً استقر في يمينك، أي: شيئاً عظيماً، وإلى الأول الإشارة بقوله:"الصغير الجرم الذي في يمينك"، وإلى الثاني بقوله:"لا تحتفل" إلى قوله: "فإن في يمينك شيئاً أعظم منها"، قال صاحب "الانتصاف": ويحتملُ وجهاً آخر، وهو أن الله تعالى غنما قال لموسى عليه السلام:(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قيل له: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ) وأظهر له معجزتها فآنسه بأن خاطبه مما خاطبه به وقت ظهور آيتها لينبه على ما فيها من المعجزة القاهرة، ويقوي قلبه.
يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وقرئ (تَلْقَفْ) بالرفع على الاستئناف. أو على الحال، أى:
ألقها متلقفة. وقرئ: (تلقف)، بالتخفيف. (صَنَعُوا) هاهنا بمعنى زوّروا وافتعلوا، كقوله
تعالى (تَلْقَفُ ما يَافِكُونَ)] الأعراف: 117 [. قرئ (كَيْدُ ساحِرٍ) بالرفع والنصب. فمن رفع فعلى أنّ (ما) موصولة. ومن نصب فعلى أنها كافة. وقرئ: (كَيدُ سِحرٍ)، بمعنى: ذى سحر: أو ذوى سحر. أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته. أو بين الكيد، لأنه يكون سحرا وغير سحر، كما تبين المائة بدرهم. ونحوه: علم فقه، وعلم نحو. فإن قلت: لم وحد "ساحر" ولم يجمع؟ قلت: لأنّ القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العدد، فلو جمع، لخيل أنّ المقصود هو العدد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يتلقفها بإذن الله ويمحقها)، الراغب: لقفت الشيء ألقفه وتلقفته: تناولته بالحذق، سواءٌ كان تناوله بالفم أو اليد.
قوله: (وقرئ: "تلقفُ" بالرفع)، ابن عامر: في "المعالم"، وفي "التيسير": ابن ذكوان، والباقون: بالجزم على جواب الأمر.
قوله: (وقرئ: "كيدُ سحرٍ")، حمزة والكسائي: بكسر السين بلا ألف، والباقون: بفتحها وألفٌ بعدها، وإضافة الكيد إلى الفاعل أولى من إضافته إلى المفعول، قال الزجاج: ويجوز: "كيد ساحر"، بنصب الدال. وأما رفعها فعلى أن الذي صنعوه كيدُ ساحر، على خبر "إنّ"، و"ما" اسمٌ. ومن قرأ بالنصب جعل "ما" مانعةً لـ"إن" من العمل، وتسوغُ الفعل أن يكون بعدها، ونصب "كيد ساحر" بـ"صنعوا".
قوله: (لأن القصد
…
إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد)، مضى بيانه في أول مريم عند قوله:(وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) مستوفى.
ألا ترى إلى قوله (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أى هذا الجنس. فإن قلت: فلم نكر أوّلا وعرف ثانيا؟
قلت: إنما نكر من أجل تنكير المضاف، لا من أجل تنكيره في نفسه، كقول العجاج:
في سعى دنيا طالما قد مدّت
وفي حديث عمر رضى الله عنه «لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة. المراد تنكير الأمر، كأنه قيل: إن ما صنعوا كيد سحري. وفي سعى دنيوى. وأمر دنيوى وآخري (حَيْثُ أَتى) كقولهم: حيث سير، وأية سلك، وأينما كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في سعي دنيا طالما قد مُدت)، قبله:
يوم ترى النفوس ما أعدت
…
من نُزلٍ إذا الأمور غبت
ما أعدت، أي: جعلته عُدةً، غبتِ الأمورُ: إذا بلغت أواخرها، "ما" في "طالما": كافةٌ، أو مصدريةٌ، مضى شرحه في الخطبة، مُدت، أي: أمهلت، في جمعها وتهيئة أسبابها.
وإنما نكر "دنيا" لتنكير السعي، إذ لو عرف الدنيا صار السعي معرفة، والمراد تنكيره، المعنى: في سعي دنيوي. وقوله: "في سعي دنيا" ظرفُ "غبت"، يقول: يوم القيامة ترى النفوس ما جعلته عدة، من نُزل يوم القيامة، حتى تبلغ الأمور أواخرها.
قوله: (وفي حديث عُمر رضي الله عنه، النهاية: في حديث عمر رضي الله عنه قال: "إني لأكرهُ أن أرى أحدكم سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة". سبهللاً: أي: فارغاً، يقال: جاء يمشي سبهللاً: إذا جاء وذهب فارغاً في غير شيء. التنكيرُ في "دنيا" و"آخرة" يرجعُ إلى المضاف، وهو العمل، كأنه قال: لا في عمل من أعمال الدنيا، ولا في عمل من أعمال الآخرة.
قوله: ((حَيْثُ أَتَى) كقولهم: حيثُ سير)، الراغب: حيثُ عبارةٌ عن مكان مبهمٌ،
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)[طه: 70].
سبحان الله ما أعجب أمرهم. قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! وروى أنهم لم يرفعوا رؤسهم
حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة.
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى)[طه: 71].
(لَكَبِيرُكُمُ) لعظيمكم، يريد: أنه أسحرهم وأعلاهم درجة في صناعتهم. أو لمعلمكم، من قول أهل مكة للمعلم: أمرنى كبيرى، وقال لي كبيرى: كذا يريدون معلمهم وأستاذهم في القرآن وفي كل شيء. قرئ (فَلَأُقَطِّعَنَّ)(ولأصلبنّ). بالتخفيف. والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأنّ كل واحد من العضوين خالف الآخر، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال. و «من» لابتداء الغاية: لأن القطع مبتدأ وناشئ من مخالفة العضو العضو، لا من وفاقه إياه. ومحل الجار والمجرور النصب على الحال، أى: لأقطعنها مختلفات، لأنها إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يشرحُ بالجملة التي بعده، نحو قوله تعالى:(وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ)، (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ).
قوله: (قد ألقوا حبالهم
…
ثم ألقوا رؤوسهم
…
، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين)، قال في "الانتصاف": في تكرير لفظ الإلقاء والعدول عن قوله: فسجدوا إشعارٌ بلطفه في نقلهم من غاية الكفر إلى غاية الانقياد، ويحصلُ ذلك بتكرير لفظٍ واحدٍ لمعنيين متناقضين، وفيه مناسبةٌ لما قدمه (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ)، (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ).
خالفت بعضها بعضا فقد اتصفت بالاختلاف. شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه، فلذلك قيل (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ). (أَيُّنا) يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله عليه بدليل قوله (آمَنْتُمْ لَهُ) واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى، كقوله تعالى (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)] التوبة: 61 [، وفيه نفاجة «1» باقتداره وقهره، وما ألفه وضرى به: من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به: لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَاتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه: 72 - 76]
(وَالَّذِي فَطَرَنا) عطف على ما جاءنا أو قسم. قرئ: (تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء المُوعي)، بيانٌ لمجاز استعمال "في" موضع "على".
قوله: (بدليل قوله: (آمَنْتُمْ لَهُ))، يعني: دل هذا على أن المراد من قوله: (أَيُّنَا أَشَدُّ) نفسه وموسى عليه السلام؛ لأن معنى (آمَنْتُمْ لَهُ): آمنتم لأجله وبسببه؛ لأنكم خفتُم على أنفسكم أن يعذبكم إن لم تؤمنوا له استهزاء بموسى؛ لأنه لم يُعذب قط.
قوله: (وفيه نفاجةٌ)، النهاية: النفاج: الذي يُمتدح بما ليس فيه، من الانتفاج: الارتفاع، يعني: تعلمون عادتي في العذاب، ولا تشكون في ضعف موسى.
ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف، قاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، كقولك في «صمت يوم الجمعة»:«صيم يوم الجمعة» وروى أن السحرة - يعنى رؤسهم - كانوا اثنين وسبعين: الاثنان من القبط، والسائر من بنى إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر. وروى أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر، لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه (تَزَكَّى) تطهر من أدناس الذنوب. وعن ابن عباس: قال لا إله إلا الله. قيل في هذه الآيات الثلاث: هي حكاية قولهم. وقيل: خبر من الله، لا على وجه الحكاية.
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه: 77 - 79]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن "الحياة" في القراءة المشهورة منتصبةٌ على الظرف)، قال القاضي: المعنى: فاقض ما أنت قاضيه، أي: صانعهُ أو حاكمٌ به (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، أي: إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا، والآخرةُ خيرٌ وأبقى، فهو كالتعليل لما قبله، والتمهيد لما بعده.
قوله: (والسائر من بني إسرائيل)، مؤذنٌ أن "سائراً" من السؤر الباقي، لا بمعنى الجميع، كما مر عن صاحب "النهاية".
قوله: (قيل في هذه الآيات الثلاث)، أي: قيل في شأنها وحقها: من كلام السحرة، وهي حكاية الله قولهم، والآيات: قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) إلى قوله: (جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)، كذا عن القاضي وصاحب "التقريب".
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) فاجعل لهم، من قولهم: ضرب له في ماله سهما. وضرب اللبن: عمله.
اليبس: مصدر وصف به. يقال: يبس يبسا ويبسا «1» . ونحوهما: العدم والعدم. ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس: إذا جف لبنها. وقرئ: (يبسا)، و (يابسا). ولا يخلو اليبس من أن يكون مخففا عن اليبس. أو صفة على فعل. أو جمع يابس، كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيدا، كقوله:
…
ومعى جياعا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "يبسا" و"يابساً")، قال الزجاجُ: فمن قرأ "يابساً" جعلهُ نعتاً للطريق، ومن قرأ "يبساً"، فإنهُ نعتهُ بالمصدر، أي: ذا يبسٍ، يقال: يبس الشيء ييبسُ يبساً ويُبساً ويبساً، ثلاثُ لغاتٍ: بفتح الياء والباء، وبضمها وسكون الباء، وفتحها وسكون الباء.
قوله: (ومعي جياعاً)، تمامه أنشد صاحب "المطلع":
كأن قتود رحلي حين ضمت
…
حوالب غُرزا ومعي جياعا
القتادُ: خشبُ الرحل، والجمعُ أقتادٌ وقتود، الحاليان: عرقان متنفان بالسرة، والغارزُ: الناقةُ التي قل لبنها، والجمع الغرزُ، والغازرُ بتقديم الزاي على الراء: ضدها، من الغزارة، وحوالبُ: خبرُ "كأن"، ومعي: عطفٌ عليه، وغُرزاً، جياعاً: حالان، وقيل: خبرُ "كأن" في البيت الذي يليه، و"حوالب": مفعولُ "ضمت"، أي: شُدت على حوالب ناقتي.
وقلتُ: الأظهرُ أن يُقدر مضافٌ، أي: ذات حوالب، وهو مفعولُ ضمت بفتح الضاد، فحُذف المضافُ على حوالبَ، وأقيم المضافُ إليه مقامه، وغُرزاً: صفة "حوالب"، و"معي" مع صفته: عطفٌ على "حوالب"، وخبرُ "كأن": في البيت الذي يليه، وهو قولُ:"على وحشيةٍ"، شبه حالة قتود رحله حين وُضعت على ناقةٍ موصوفةٍ بالضمور بحالة وضعها على وحشية فقدت ولدها، فحينئذ التشبيه مُركبٌ، فهذه الرواية أصحُّ معنى وإعراباً. أما
جعله لفرط جوعه كجماعة جياع (لا تَخافُ) حال من الضمير في (فَاضْرِبْ) وقرئ: (لا تخف)، على الجواب. وقرأ أبو حيوة (دَرَكاً) بالسكون. والدرك والدرك: اسمان من الإدراك، أى: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. في (وَلا تَخْشى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من حيث المعنى: فلأن غرض الشاعر تشبيهُ ناقته بالوحشية في الضمور والنفور، لا تشبيه القتود بالحوالب، وأما من حيث الإعرابُ: فلأن حوالب ومعى نكرتان، فلا يصح وقوعهما ذا الحال مقدماً، وبعده:
على وحشيةٍ خُذلت خلوج
…
وكان لها طلا طفلٌ فضاعا
فكرت تبتغيه وصادفته
…
على دمه ومصرعه السباعا
والخلوجُ من النوق: التي اختلج عنها ولدُها فقل لذلك لبنُها، قال الأصمعي: إذا تخلفَ الظبيُ عن القطيع قيل: خذله.
قوله: (جعله لفرط جوعه كجماعة جياع)، كذا جعل الطريق، لفرط يبسها، كاليبس، والمعنى: ليس فيها ماءٌ ولا طينٌ ولا ندوة. الانتصاف: أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقاُ يابساً، فكانت لذلك اثنتي عشرة طريقاً، لكل سبط طريقٌ.
قوله: (وقرئ: "لا تخف")، على الجواب: حمزةُ، والباقون: برفعها وألفٌ قبلها. قال الزجاجُ: لا تخافُ، أي: لست تخافُ، ولا تخف، أي: ولا تخف أن يدركك فرعون ولاتخشى الغرق، فعلى هذا: الألفُ للإطلاق.
قوله: (الدرك والدركُ: اسمان من الإدراك)، الراغب: الدركُ كالدرج، لكن الدرج يقال اعتباراً بالصعود، والدرك اعتباراً بالحدور، ومنه درجات الجنة ودركات النار.
إذا قرئ: (لا تخف)، ثلاثة أوجه: أن يستأنف، كأنه قيل وأنت لا تخشى، أى: ومن شأنك أنك آمن لا تخشى، وأن لا تكون الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة، كقوله (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)، (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)] الأحزاب: 10 [وأن يكون مثله قوله:
كأن لم ترى قبلي أسيرا بمانيا
(ما غَشِيَهُمْ) من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولتصور الحدور بالنار سميت هاوية، والدركُ أقصى قعرِ البحر، ويقال للحبل الذي يوصل به حبل آخر ليدرك الماء: درك، ويقالُ لما يلحقُ الإنسان من تبعةٍ: دركٌ، كالدرك في البيع، قال تعالى:(لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى)، أي: تبعةً، وأدرك الصبي: بلغ غاية الصبا، وذلك حين البُلوغ.
قوله: (لا تخشى، أي: ومن شأنك أنك آمنٌ لا تخشى)، أي: أنها جُملةٌ معترضة.
قوله: (كأن لم تري قبلي أسيراً يمانيا)، قبله:
وتضحكُ مني شيخةٌ عبشميةٌ
القائل كان أسيراً يمانياً، فمرت به عجوزٌ من عبد شمس ضحكت منهُ، فقال البيت، وعبشميةٌ: منسوبٌ إلى عبد شمس، كعبدري: منسوبٌ إلى عبد الدار، وأثبت الألف مع الجازم في "لم تر" لضرورة الشعر، قيل: تري، كأنه جاء على الأصل ترى، ثم سكنه بالجازم.
تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أى: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. وقرئ: (فغشاهم من اليم ما غشاهم) والتغشية: التغطية. وفاعل غشاهم: إما الله سبحانه. أو ما غشاهم. أو فرعون، لأنه الذي ورّط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقوله (وَما هَدى) تهكم به في قوله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر: 29].
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) [طه: 80 - 81]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة)، الأساس: ومن المجاز: هو مستقلٌ بنفسه، إذا كان ضابطاً لأمره، وهو لا يستقل بهذا الأمر، أي: لا يُطيقه.
قوله: (ورط جنوده)، الأساس: وقع في ورطة لا يتخلص منها، في بلية، وأورطه شر مورطٍ.
قوله: ((وَمَا هَدَى) تهكم به)، قال في "الانتصاف": التهكم: أن يُؤتي بعبارة والمقصود عكس مقتضاها، كقوله:(إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود: 87]، وأما (وَمَا هَدَى) فهو إخبارٌ عن عدم الهداية. قال في "الانتصاف": الأمرُ كذلك، لكن في العرف في قولك: ما هدى زيدٌ عمراً، إثبات كون زيد مهتدياً عالماً بطريق الهداية، وفرعونُ أضل الضالين، فكيف يُتوهمُ أن يهدي غيره، ولأن (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ) كافٍ في المقصود من عدم الهداية زائداً عليه الإضلال، فإن من لا يهدي قد يكون غير مُضلّ.
وقلتُ: وتوضيح معنى التهكم: أن قوله: (وَمَا هَدَى) من باب التلميح، وهو: أن يُشار في أثناء الكلام إلى قصةٍ أو حالٍ؛ فإن مجيء (وَمَا هَدَى) إشارةٌ إلى ادعاء اللعين الرشاد في قوله: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ)[غافر: 29]، فهو كمن ادعى دعوى وبالغ فيها، فإذا حان وقتُها ولم يأتِ بها قيل له: ما أتيت بما ادعيت، تهكماً.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك آل فرعون. وقيل: هو للذين كانوا منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ الله عليهم بما فعل بآبائهم والوجه هو الأوّل، أى: قلنا يا بنى إسرائيل، وحذف القول كثير في القرآن. وقرئ «أنجيتكم» إلى «رزقتكم» ، وعلى لفظ الوعد والمواعدة. وقرئ (الْأَيْمَنَ) بالجر على الجوار، نحو «جحر ضب خرب» . ذكرهم النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم، وفيما واعد موسى صلوات الله عليه من المناجاة بجانب الطور، وكتب التوراة في الألواح. وإنما عدى المواعدة إليهم لأنها لا بستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. طغيانهم في النعمة: أن يتعدّوا حدود الله فيها بأن يكّفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي: وأن يزووا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها، وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والوجه هو الأول)، إذ النظمُ يستدعيه؛ لأن السابق واللاحق وهو قوله:(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى) فيهم.
قوله: (وقرئ: "أنجيتكم")، أي: بتاءٍ مضمومةٍ: حمزة والكسائي، والباقون: بالنون المفتوحة وألفٍ بعدها.
قوله: (وأن يزووا)، أي: يصرفوا، الجوهري: زوى فلانٌ المال عن ورائه زياً.
قوله: (أن يبطروا فيها ويأشروا)، الجوهري: البطرُ: الأشرُ، وهو شدةُ المرح والفرح والنشاط، وقد بطر بالكسر يبطر بفتح الطاء.
قرئ (فَيَحِلَّ) وعن عبد الله: (لا يحلن)«1» (وَمَنْ يَحْلِلْ) المكسور في معنى الوجوب، من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه. ومنه قوله تعالى (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)] البقرة: 196 [والمضموم في معنى النزول.
وغضب الله عقوباته ولذلك وصف بالنزول (هَوى) هلك. وأصله أن يسقط من جبل فيهلك. قالت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: الأشر: شدة البطر، والأشر أبلغ من البطر، والبطرُ أبلغُ من الفرح، فإن الفرح وإن كان في أغلب أحواله مذموماً كقوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)[القصص: 76]، فقد يُحمد إذا كان على قدر ما يجب، وفي الموضع الذي يجب، وفي الموضع الذي يجب، كما قال تعالى:(فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)[يونس: 58].
قوله: (قرئ: (فَيَحِلَّ))، بالنصب، جواباً للنهي، والفاء عاطفةٌ بتأويل المصدر على مصدر ما قبلها، فيقدر: لا يكن منكم طغيانٌ فحلولُ غضبٍ مني، ونحوه: ائتني فأكرمك، أي: ليكن منك إتيانٌ فإكرامٌ مني، و"أن" مقدرةٌ، وقرأ الكسائي:"فيحلُّ": بضم الحاء، "ومن يحلل": بضم اللام الأولى، والباقون بكسر الحاء واللام.
قوله: (وغضب الله: عقوباته، ولذلك وُصف بالنزول)، الانتصاف: لا يسعه أن يذكر الغضب إلا بالعقوبة؛ لأنه ينفي الإرادة في جملة ما نفاه نم صفات الكمال، وعند أهل السُّنة: يجوز أن تكون الإرادة من صفات الذات، وعاملهم معاملةَ الغضبان لأنه صفةُ فعل، ولا يأبى وصفه بالحلول أن يكون صفة ذات ويكون كقوله صلى الله عليه وسلم:"ينزل ربُّنا إلى سماء الدنيا" بتأويله المعروف، أو عبر عن حلول أثرِ الإرادة بحلول أمرها، كقولك: انظر إلى قدرة الله
هوى من رأس مرقبة
…
ففتّت تحتها كبده
ويقولون: هوت أمّه. أو سقط سقوطا لا نهوض بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: أثر قدرته.
قال المصنف في "المنهاج": وليس لله مثل صفة المريد منا، وهي القصد والميل.
وقال الإمام في "نهاية العقول": القائلون بنفي الإرادة من المعتزلة: أبو الهذيل والنظام والجاحظ والبلخيُّ والخوارزمي، وقد استقصينا القول فيه في أول البقرة عند قوله تعالى:(مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً)[البقرة: 26].
قوله: (هوى من رأس مرقبةٍ)، القائلة: الخنساء. والمرقبة: مكانُ الدبران، مفعلةٍ، من: رقب؛ إذا نظر.
قوله: (فَقُتتَ)، أي: صارت فتاتاً دقاقاً.
قوله: (هوت أمهُ)، الجوهري: يقالُ: لا أم لك، وهو ذم، وربما وُضع موضع المدح، قال كعبُ بن سعدٍ يرثي أخاه:
هوت أمه ما يبعثُ الصبح غادياً
…
وماذا يؤدي الليلُ حين يؤوبُ
أي: أي رجلٍ بعثه الصبح، وأي رجل يؤديه الليلُ، على أن "ما" إبهاميةٌ للتفخيم والتعظيم، أي: حسدت أمه.
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)[طه: 82]
الاهتداء: هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)] فصلت: 30 [وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في «جاءني زيد ثم عمرو» أعنى أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه، لأنها أعلى منها وأفضل.
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) [طه: 83 - 84]
(وَما أَعْجَلَكَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الاهتداءُ هو الاستقامة والثباتُ على الهدى المذكور)، يعني: لما أفاد قوله: (لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً) الهُدى، حُمل قوله:(اهْتَدَى) على الاستقامة عليها، قال الإمامُ: المرادُ الاستمرارُ على تلك الطريقة، إذ المُهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه، ويؤكدهُ قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت: 30]، وكلمةُ التراخي ليست لتباين المرتبتين بل لتباين الوقتين، فكأنه قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح مما قد يتفق لكل أحد، وإنما الصعوبة في المداومة عليها بعد ذلك.
وقلتُ: ومعنى قوله: "وكلمةُ التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين": ان مرتبة الاستقامة والدوام أعلى من مرتبة الإحداث والإبداع. قال:
لكل إلى شأوِ العلى حركاتُ
…
ولكن عزيزٌ في الرجال ثباتُ
أي شيء عجل بك عنهم؟ على سبيل الإنكار، وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب. ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به، بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله تعالى، وزل عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظرا إلى دواعي الحكمة، وعلما بالمصالح المتعلقة بكل وقت، فالمراد بالقوم: النقباء، وليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي شيء عجل بك عنهم؟ على وجه الإنكار)، الراغب: العجلةُ: طلبُ الشيء وتحريه قبل أوانه، وهي من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومةً في عامة القرآن، حتى قيل:"العجلةُ من الشيطان"، وقوله تعالى:(خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[الأنبياء: 37] فيه تنبيهٌ على أنه لا يتعرى من ذلك، وأن ذلك أحدُ القوى التي رُكب عليها، وعلى ذلك قال:(وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)[الإسراء: 11]، وأما قوله:(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84]، فذكر أن عجلته وإن كانت مذمومة فالذي دعا إليها أمرٌ محمودٌ وهو رضى الله.
قوله: (وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب)، إلى قوله:"وزل عنه أنه تعالى ما وقت أفعاله إلا نظراً إلى دواعي الحكمة فيه"، إشعارٌ بأنه عليه السلام ما تقدم القوم تقدم الموعد المضروب أيضاً. وقال الإمام:(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عينه الله تعالى له.
وقلت: يرد هذا التأويل قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)[الأعراف: 142] إلى قوله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا)، قال المصنف:(لِمِيقَاتِنَا): لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا، وإنما المراد بـ"عجلتُ إليك": عجلتُ عن قومي، لا عن المقيات، لقوله تعالى:(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى)، والله أعلم.
لقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح، يأباه قوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) وعن أبى عمرو ويعقوب:(إثرى)، بالكسر وعن عيسى بن عمر:(أثرى) بالضم. وعنه أيضا: (أولا) بالقصر. والأثر أفصح من الأثر. وأما الأثر فمسموع، والمراد فالأفصح كثرة جريانه على ألسنة الفصحاء في فرند السيف «1» مدوّن في الأصول. يقال: إثر السيف وآثره، وهو بمعنى الأثر غريب.
فإن قلت: (وما أَعْجَلَكَ) سؤال عن سبب العجلة فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) كما ترى غير منطبق عليه. قلت: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين)، يريد أن قوله:(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) في الظاهر سؤالٌ عن سبب العجلة، ولما تضمن معنى الإنكار أفاد أيضاً إنكار نفس العجلة؛ لأن نفس العجلة لو لم تكن مُنكرةً لم يكن الحاملُ عليها منكراً، ولهذا قدم عُذر نفس العجلة في الجواب على العُذر على السبب الحامل عليها اهتماماً بشأنه، وإليه الإشارة بقوله: فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط عذره تمهيداً لعلةٍ في نفس ما أنكر عليه، وقال القاضي:(وَمَا أَعْجَلَكَ): سؤالٌ عن سبب العجلة يتضمنُ إنكارها من حيث إنها نقيصةٌ في نفسها، وانضم إليها إعفال القوم وإيهامُ التعظيم عليهم.
وقال صاحب "الفرائد": الواو لمطلق الجمع، والجواب مجموعُ الكلام، فلا يلزم التقدم الذي ذكر، ألا ترى إلى أنه قال:(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)[البقرة: 58]، وقال في موضع آخر:(وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً)[الأعراف: 161]، والقصة واحدةٌ، فظاهر كلامه يقتضي أن يكون موسى عليه السلام رد قوله تعالى:(وَمَا أَعْجَلَكَ) بقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)؛ لأنه قال في معناهُ: ما هذا تقدمٌ يعتدُ به، فلم يكن هذا تعجلاً مني في العادة. والوجه أن يقال: إني خشيت أن مثل هذا التقدم غير معتدٍ به نظراً إلى العادة.
وقلتُ: الأحسنُ أن يقال: إن الجواب هو قوله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، وقوله (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي) كالتوطئة والتمهيد للجواب، يعني: ما كانت عجلتي إلا لرضاك، وأن أكون من السابقين الذي يتقدمون على متابعتهم مسافةً يسيرة يتقدم بمثلها الوفد رئيسهم، فجاء قوله:(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) كالبيان لذلك. ويؤيده ما في "المعالم": أن موسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً حتى يذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسار بهم، ثم عجل نم بينهم شوقاً على ربه وخلفهم وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله تعالى له:(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى)، فقال مجيباً: هم بالقرب مني يأتون على أثري، وعجلتُ إليك لتزداد رضا.
ودل قوله: "لتزداد رضا" على وجود رضا.
فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الذي رُكب في هذا المقام وما سبق في "الأعراف" أن قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية منه عليه السلام غير قصة الميقات للاعتذار لأجل عبادتهم العجل وأنه عليه السلام اختار السبعين في الكرة الثانية، وأنه لم يحضر معه القوم في الكرة الأولى، وما طلب الرؤية إلا لنفسه؟
قلتُ: وجهه أنه تعالى بعد هلاك فرعون واعد بني إسرائيل بقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ) إحضارهم جانب الطور، ثم إنه عليه السلام اختار منهم سبعين فسار بهم، ثم عجل من بينهم إلى الجبل شوقاً إلى ربه فكلمه ربه وطلب الرؤية، وليس فيه أنهم لحقوه وطلبوا الرؤية. والحاصل أنه اختار السبعين مرتين، ففي الثانية كانوا معه. وأما في الأولى فليس في التنزيل ولا في الروايات أنهم حضروا معهُ في
أحدهما: إنكار العجلة في نفسها. والثاني: السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهمّ الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدّم يسير، مثله لا يعتدّ به في العادة ولا يحتفل به. وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ولقائل أن يقول: حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المكالمة وطلب الرؤية، على أنه يجوز أن يُراد بالقوم: جميعُ قومه الذين خلفهم مع هارون، ويفسرُ (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي) بأنهم بالقرب مني ينتظرونني، كما أورده الإمام.
وقلتُ: ويؤيدُ هذا الوجه التعقيبُ بقوله تعالى: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا) بحرف الترتيب، أي: الفاء، قول موسى عليه السلام:(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، كما عطف إبراهيمُ عليه السلام قوله:(مِنْ ذُرِّيَّتِي)[البقرة: 124] على الكاف في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)[البقرة: 124]، ثم التصريح بقوله:(قَوْمُكَ) بعد قوله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) يدل على أنهم هم؛ لأن المُعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، ولأن المفتونين ليسوا السبعين من المتخلفين، ويُحتمل التعجيلُ على أنه عليه السلام ما صبر لانقضاء الميقات المضروب عند القوم، بل حسب الميقات تمامه عند مجيئه إلى الميقات، بدليل اللام في قوله:(لِمِيقَاتِنَا)، أي: لوقت ميقاتنا، ولهذا كان من جواب الله:(فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) يعني: إن فعلت ذاك فإنا قد فتناهم.
وقال صاحب "الانتصاف": والمرادُ بسؤال موسى تعليمُه أدب السفر، وهو أن يتأخر رئيس القوم ليحيط بصره بطائفته، كما علم لوطاً بقوله:(وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ)[الحجر: 65] وموسى إنما أغفل ذلك لعلة طلب الرضى بمسارعته إلى الميعاد الذي يود لو ركب أجنحة الطير.
(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)[طه: 85].
أراد بالقوم المفتونين: الذين خلفهم مع هارون وكانوا ست مائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. فإن قلت: في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين مع أيامها، وقالوا: قد أكملنا العدة، ثم كان أمر العجل بعد ذلك، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)؟ قلت: قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة، بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. أو افترص السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه، وأخذ في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)؟ )، قال صاحب "الفرائد": لو كانت الفاءُ داخلةٌ على "قال" لزم أن يكون عند مقدمه؛ لأن المعنى حينئذ: قال عقيب قول موسى: إنا قد فتنا قومك، لكنها داخلة على ما بعد "قال"، فلا يلزم ذلك، وعلى تقدير التسليم المراد من قوله:(فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) أردنا فتنتهم أو حكمنا بوقوع الفتنة، كقوله تعالى:(وَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ)[الإسراء: 45]، وقوله تعالى:(فَجَاءَهَا بَاسُنَا)[الأعراف: 4]، أي: من بعد انطلاقك، و (مِن): للابتداء، فوجه التوفيق: لا نُسلمُ أن (مِن) للابتداء، بل بعدك ومن بعدك سواءٌ في الاستقبال، فيصح من بعدك ولو بعد عشرين ليلةً، والفاءُ وقد ليستا لتعقيب الفتنة، بل هما للإخبار بالفتنة لأنفسهما.
وقلتُ: مرادُ المصنف من السؤال انه تعالى كيف قال: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا) بلفظ الماضي، والمقتضي المستقبل، يدل عليه جوابه: قد أخبر الله عن الفتنة المرتقبة بلفظ الموجودة الكائنة، أي: الماضي. والمقتضي المستقبل، يدل عليه جوابه: قد أخبر الله عن الفتنة المرتقبة بلفظ الموجودة الكائنة، أي: الماضي. وإنما قال: (فَتَنَّا) لما أن مقدمات الفتنة كانت موجودةً، فجعلها لذلك أنها وُجدت، وإليه الإشارة بقوله:"فكان بدءُ الفتنة موجوداً".
تدبير ذلك. فكان بدء الفتنة موجودا. قرئ "وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ" أى وهو أشدّهم ضلالا: لأنه ضال مضل، وهو منسوب إلى قبيلة من بنى إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم: وقيل: كان من أهل باجرما. وقيل: كان علجا من كرمان، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر.
(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) [طه: 86 - 88].
الأسف: الشديد الغضب. ومنه قوله عليه السلام في موت الفجأة «رحمة المؤمن وأخذة أسف للكافر» وقيل: الحزين. فإن قلت. متى رجع إلى قومه؟ قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من أهل باجرما)، في الحاشية: أنها قريةٌ من قُرى الموصل. وقال الزجاج: الأكثرُ في التفسير أن السامري كان عظيماً من عُظماءِ بني إسرائيل من قبيلةٍ تُعرفُ بالسامرة، وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين.
قوله: (علجا من كرمان)، النهاية: العلجُ: الرجلُ القوي الضخم، والعِلجُ: الرجلُ من كُفار العجم وغيرهم، والأعلاج والعلوجُ: جمعُه.
قوله: (في موت الفجأة: "رحمةٌ للمؤمن")، الحديثُ من رواية رجُل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:"موتُ الفجأة أخذةُ أسفٍ للكافر، ورحمةٌ للمؤمن"،
بعد ما استوفى الأربعين: ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وعدهم الله سبحانه أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل، حكى لنا أنها كانت ألف سورة كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا (الْعَهْدُ) الزمان، يريد: مدّة مفارقته لهم. يقال: طال عهدى بك، أى: طال زماني بسبب مفارقتك. وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل (بِمَلْكِنا) قرئ بالحركات الثلاث، أى: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا وخلينا وراءنا لما أخلفناه، ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده. أى: حملنا أحمالا من حلىّ القبط التي استعرناها منهم. أو أرادوا بالأوزار: أنها آثام وتبعات، لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب. وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي، على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ (فَقَذَفْناها) في نار السامري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي روايةٍ عن عبيدة بن مرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: مرةُ عن عبيدة: "موتُ الفجأة أخذُ أسف"، أخرج الثانية أبو داود، والأولى ذكرها رزينٌ.
النهاية: أي: أخذةُ غضب أو غضبان، يقال: أسف يأسفُ أسفاً فهو أسيف: إذا غضب.
قوله: (فأخلفوا موعده)، أي: ما وعدوه، قال تعالى:(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)، أي: ما وعدتموني من الإقامة على الإيمان، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول.
قوله: ((بِمَلْكِنَا) قرئ بالحركات الثلاث)، بالضم: حمزة والكسائي، وبالفتح: نافعٌ وعاصم، والباقون: بالكسر، فالفتح: مصدرُ ملكت الشيء أملكه ملكاً، والملكُ: ما مُلك، ويستعملُ استعمال المصدر كالرزق، وبالضم: السلطانُ والقدرة، أي: لو ملكنا وقدرنا عليه وخلينا وراءنا.
قوله: (وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي)، أي: ليس له أن يأخذه إلا بإذنه، حتى
التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلىّ. وقرئ (حملنا)، (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) أراهم أنه يلقى حليا في يده مثل ما ألقوا. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل. أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيوانا (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) السامري من الحفرة عجلا خلقه الله من الحلىّ التي سبكتها النار يخور كما تخور العجاجيل. فإن قلت: كيف أثرت تلك التربة في إحياء الموات؟ قلت: أما يصحّ أن يؤثر الله سبحانه روح القدس بهذه الكرامة الخاصة كما آثره بغيرها من الكرامات، وهي أن يباشر فرسه بحافره تربة إذا لاقت تلك التربة جمادا أنشأه الله إن شاء عند مباشرته حيوانا. ألا ترى كيف أنشأ المسيح من غير أب عند نفخه في الدرع. فإن قلت: فلم خلق الله العجل من الحلىّ حتى صار فتنة لبني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو أخذ ماله بطريق الربا حل عند أبي حنيفة، وإن جرى بينه وبين مسلم أسلم هناك، كما يجوز للمسلم المستأمن أخذه من الحربي برضاه.
قوله: (وقرئ: (حُمِّلْنَا))، الحرميان وابن عامر وحفصٌ: بضم الحاء وكسر الميم مشدداً، والباقون: بفتحهما تخفيفاً.
قوله: (حيزوم)، النهاية: في حديث بدرٍ: "أقدم حيزومُ" جاء في التفسير أنه: قال في قوله تعالى: (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)[البقرة: 102]: والسحرُ حيلةٌ وتمويهٌ كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يُحدثُ الله تعالى عند الفرك والنشوز ابتلاءً منه؛ لأن السحر له أثرٌ.
قوله: (فلم خلق الله العجل من الحُلي حتى صار فتنةً؟ )، الانتصاف: قد ثبت أن الله
إسرائيل وضلالا؟ قلت: ليس بأوّل محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين. ومن عجب من خلق العجل، فليكن من خلق إبليس أعجب. والمراد بقوله (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) هو خلق العجل للامتحان، أى: امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال، وأوقعهم فيه حين قال لهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أى: فنسي موسى أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعبدنا بالبحث عن علل أحكامه لاعن علل أفعالهن وحتم ذلك بقوله: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)[الأنبياء: 230]، والزمخشري يُراعي قاعدة رعاية الأصلح.
قوله: ((فَنَسِيَ)، أي: فنسي موسى)، يجوز أن يكون من كلام القوم، والفاء فصيحةٌ، أي: قال بعضهم لبعض: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) الذي كنتم ترومونه منه فالزموا عبادته ولا تطلبوه في الموضع الذي ذهب إليه موسى للطلب، فإن موسى اعتراه النسيانُ فغفل عن ذلك، ودل على المبالغة إتيان اسم الإشارة والمشار إليه بمرأى منهم، كقوله:
هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه
وتكريرُ "إله" وتخصيصُ موسى بالذكر وإتيان الفاء، أي: قد ظهرت لكم إلهيته، فلا تتركوا عبادته، ولم يوفق موسى لذلك، فغفل ونسي، ومثله قول الشاعر:
خولانُ فانكح
أي: هؤلاء القومُ يستحق أن يُنكح منهم لجمال نسائهم ووفور حُسنها، فلا يُغفلُ عن النكاح فيهم، وان يكون من كلام الله، و (وَنَسِيَ) بمعنى ترك، وإليه الإشارة بقوله: أي: ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر
يطلبه هاهنا، وذهب يطلبه عند الطور. أو فنسي السامري: أى ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر.
(أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه: 89 - 91]
(يَرْجِعُ) من رفعه فعلى أنّ "أن" مخففة من الثقيلة. ومن نصب فعلى أنها الناصبة للأفعال (مِنْ قَبْلُ) من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أوّل ما وقعت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((يَرْجِعُ) من رفعه فعلى أن "أنْ" مخففةٌ من الثقيلة) قال الزجاجُ: هذا الاختيارُ، والمعنى: أفلا يرون أنه لايرجع إليهم قولاً، كما قال تعالى:(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ)[الأعراف: 148]، ويجوز أن "لا يرجع" يُنصبُ بـ"أنْ"، والاختيارُ مع "علِمتَ" و"رأيتَ" أن يكون "أن لا يفعلُ" في معنى: قد علمت أنه لا يفعلُ، وكذا قال أبو البقاء في قوله:(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ)[المائدة: 71]: لا يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة مع أفعال الظن والشك، ولا الناصبة للفعل مع "علمتَ"، وما كان في معناها.
قوله: (من قبلِ أن يقول لهم السامري ما قال)، قال الواحدي: ولقد قال لهم هارون من قبل رجوع موسى: يا قوم، إنما ابتليتم بالعجل (وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي) في عبادة الله وأطيعوا أمري في ترك عبادة العجل، (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)، وقيل: هذا أشدُّ ملاءمةً من كلام المصنف، لقوله:(لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى).
عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون عليه السلام بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ)
(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه: 92 - 93].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلتُ: تفسيرُ المصنفِ أدخلُ في المعنى وأولى بالقبول؛ لأن الكلام واردٌ على توبيخ القوم وتقريعهم على الغباوة، وأن دليلي العقل والسمع تعاضدا على بطلان إلهية العجل، وأنهم ما التفتوا إليهما وما رفعوا لهما رأساً، وهذا إنما يستقيم على تقدير المصنف، والنظمُ أيضاً يساعد عليه، وذلك أنه تعالى لما حكى عن السامري أنه حين قال للقوم:(هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) قبلوا منه (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)[البقرة: 93] عقب ذلك بقوله: (أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) الآيات، تنبيهاً على غباوتهم، فأتى بهمزة الإنكار داخلةً على الفاء العاطفة المستدعيتين تقدير فعلٍ يصلُحُ أن يكون معطوفاً عليه لما بعد الفاء، وهو أن يقال: أحرموا العقل الهادي، فلا يتفكرون ولا ينظرون بنظر البصيرة أن هذا المتخذ نم هذه الأجرام لا يصلح للإلهية، أم عموا وصموا فلا يهتدون إلى أن الإله ينبغي أن يكون سامعاً لدعاء عابده، عالماً بأفعاله، دافعاً عنه المضار، مثيباً ومعاقباً، مع أن دليل السمع شاهدٌ ببطلانه، وهو تنبيهُ نبي الله هارون بقوله:(يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ) على سبيل التوكيد والحصر قد سبق على وقوعهم في تلك الفتنة، وأيضاً، في إيثار المضارع في قوله:(أَفَلا يَرَوْنَ)، وعطفِ (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ) عليه للدلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الأفكار عليهم، ويجوز أن تكون الجملة القسمية حالاً من فاعل (يَرَوْنَ) مقررةً لجهة الإشكال، أي:(أَفَلا يَرَوْنَ) والحالُ أن هارون نبههم قبل ذلك ببطلانها، وأما جوابهم، وهو قوله:(قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ) فمن باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم؛ لأنهم قالوه عن قلة مبالاةٍ بالأدلة الظاهرة، كما قال نمرود في جواب الخليل:(أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)[البقرة: 258]، وذكر القاضي الوجهين في "تفسيره".
"لا" مزيدة. والمعنى ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر والمعاصي؟
وهلا قاتلت من كفر بمن آمن؟ ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهدا؟
أو مالك لم تلحقني.
(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَاخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَاسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)[طه: 94].
قرئ (لِحْيَتِي) بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز، كان موسى صلوات الله عليه رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحمية، وعنف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدّو المكاشف قابضا على شعر رأسه - وكان أفرع - وعلى شعر وجهه يجرّه إليه. أى: لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فاستأنيتك أن تكون أنت المتدارك بنفسك، المتلافى برأيك وخشيت عتابك على إطراح ما وصيتنى به من ضم النشر
…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما لك لم تلحقني)، قال محيي السُّنة: أي: ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم، فتكون مفارقتك إياهم زجراً لهم عما أتوه؟ .
قوله: (العدو المكاشف)، الجوهري: كاشفه بالعداوة، أي: بادأه بها، ويقال: لو تكاشفتم ما تدافنتم.
قوله: (وكان أفرع)، أي تام الشعر. الأساس: امرأة طويلةُ الفروع، ولها فرعٌ تطؤه.
قوله: (فاستأنيتكَ)، الجوهري: واستأنى به، أي: انتظر به.
وحفظ الدهماء، ولم يكن لي بد من رقبة وصيتك والعمل على موجبها.
(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) [طه: 95 - 96]
الخطب: مصدر (خطب الأمر إذا طلبه)، فإذا قيل لمن يفعل شيئا: ما خطبك؟ فمعناه:
ما طلبك له؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وحفظ الدهماء)، الجوهري: الدهمُ: العددُ الكثيرُ، يريد بقوله: ضم النشر، أي: المنشور، وحفظ الدهماء، قوله:(وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ)[الأعراف: 142].
قوله: (ما خطبُك؟ )، ما شأنك، فمعناه: ما طلبك له؟ الجوهري: الخطبُ: سببُ الأمر، تقول: ما خطبك؟ الأساس: ومن المجاز: فلانٌ يخطبُ عمل كذا: يطلبه، وما خطبك؟ ما شأنك الذي تخطبه؟ ومنه: هذا خطبٌ جليلِ.
والظاهر أن المراد بما في الآية هذا الأخير؛ لأن هذا السؤال المترتب بالفاء على ما سبق من السؤال عن القوم وعن هارون وجوابهم ما يدل على جلالة الخطب، وعليه النظم؛ لأنه عليه السلام لما وبخ القوم بقوله أولاً:(يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) إلى آخره وأجابوا (مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) أي: بأن ملكنا أمرنا، بل بسبب أن صدر كيت وكيت ورأينا خطباً جليلاً، ثم ثنى إلى أخيه بالمعاتبة وأجاب بما ظهر عجزه من جلالة الخطب، ثم التفت ثالثاً إلى السامري بقوله:(فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)؟ أجاب بما ينبئ عن عظم الشأن حيث قال: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي: علمتُ ما لم تعلموه وفطنتُ ما لم تفطنوا له، كما نص عليه المصنفُ، أي: كان من خطبي أن أُظهر للقوم أني تفوقتُ عليك بالعلم والبصارة، وأنا أحق بالاتباع منك، لكن تذييله الكلام بقوله:(وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) دل على حمقه وأن جوابه من الأسلوب الأحمق وأنطقه الذي أنطق كل شيء به.
قرئ (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بالكسر «4» ، والمعنى: علمت ما لم تعلموه، وفطنت ما لم تفطنوا له. قرأ الحسن (قَبْضَةً) بضم القاف وهي اسم المقبوض، كالغرفة والمضغة. وأما القبضة فالمرة من القبض، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر، كضرب الأمير. وقرأ أيضا:(فقبصت قبصة)، بالصاد المهملة. الضاد: بجميع الكف. والصاد: بأطراف الأصابع. ونحوهما: الخضم، والقضم: الخاء بجميع الفم، والقاف بمقدمه: قرأ ابن مسعود: (من أثر فرس الرسول). فإن قلت: لم سماه الرسول دون جبريل وروح القدس؟ قلت: حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ)، إلى قوله:(فطنت ما لم تفطنوا له)، قال القاضي: وهو أن الرسول الذي جاءك روحانيٌّ محضٌ لا يمس أثره شيئاً إلا أحياه.
قوله: (فقبضت قبضةً)، بالصاد، قال ابن جني: تقارب الألفاظ لتقارب المعاني، وذلك أن الضاد المعجمة لتشيها واستطالة مخرجها جُعلت عبارةً عن الأكثر، وهو القبض بكل اليد، وأن الصاد المهملة لصفائها وضيق محلها وانحصار مخرجها جُعلت عبارةً عن القبض بأطراف الأصابع، ولعلنا لو جمعنا من هذا الضرب لكان أكثر من ألف موضع.
قوله: (ونحوهما: الخضم والقضم)، الجوهري: الخضمُ: هو الأكل بجميع الفم، والقضمُ: الأكلُ بأطرافِ الأسنان، قال الأصمعي: أخبرنا ابن أبي طرفة قال: قدم أعرابيٌّ على ابن عم له بمكة فقال له: إن هذه بلادُ مقضم وليست ببلاد مخضم.
قوله: (لم سماه الرسول)، يعني: السامريُّ كان يعرف جبريل، فلم عدل عن اسمه وسماه الرسول؟ قالوا: تلخيص الجواب أنه عرف منه أنه رسولٌ مبعوثٌ له شأنٌ، ولعله لم يعرف أنه جبريل حين جاء إلى موسى راكباً الحيزوم، فيكون جواباً واحداً، وعليه ظاهرُ كلام صاحبِ "التقريب". وقلتُ: الظاهر أنه جوابان، أحدهما: أن السامري عرف جبريل،
موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إنّ لهذا شأنا، فقبض قبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال: قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعله لم يعرف أنه جبريل.
(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)[طه: 97].
عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة، حم الماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحشي النافر في البرية. ويقال: إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما عدل إلى الرسول عن اسمه ليُصور تلك الحالة البديعة، وهو كونه راكب حيزوم جاء لأمرٍ له شأنٌ غريب، وهو عرف الحال، يدل عليه قوله:(بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)، على ما فسره الإمام: علمتُ أن تُراب فرسِ جبريلَ له خاصيةُ الإحياء، وفي كلام محيي السُّنة أنه إشعارٌ بأنه عرف أنه جبريل عليه السلام. وثانيهما: أنهُ لم يعرف إلا كونه رسولاً مبعوثاً لأمرٍ، فأتى بما عرفه.
قوله: (أوحش من القاتل اللاجيء إلى الحرم)، قال المصنف: عند أبي حنيفة رضي الله عنه: من لزمه القتلُ في الحل فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يُطعمُ ولا يُسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج.
قوله: (باقٍ فيهم ذلك إلى اليوم)، قيل: الصوابُ: النصبُ، روى سيبويه عن بعض العرب: اليومُ يومُ الجمعة، وعلى ذلك قوله:
وقرئ (لا مِساسَ) بوزن (فجار). ونحوه قولهم في الظباء. إذا وردت الماء فلا عباب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم يومٌ باردٌ سمومهُ
…
من جزع اليوم فلا تلومه
"اليوم" إذا كان بمعنى الوقت يُفتح، ورُدَّ بأنه يلزمُ أن يكون للزمان ظرفٌ، ولذلك أولوا اليوم الجمعة، واليوم السبت، من سبتتٍ اليهودُ، أي: قامت بأمرِ سبتها، ومن ثم لم يجز في سائر الأيام، فلا يقال: اليوم الأحد، وأولوا قولهم: اليوم يومُك على غلبتك. ومثلُ هذه التأويلات تبعدُ في "الكتاب"، فإنه اسمٌ معربٌ دخل فيه حرفُ الجر فلا وجه لنصبه.
قوله: ("لا مساس" بوزن "فجارٍ")، قال ابن جني: قرأها أبو حيوة. وأما قراءةُ الجماعة: (لا مِسَاسَ) فواضحةٌ. وفي هذه القراءة نظرٌ، وذلك بأنها كنزال ودراك وحذار، وليس هذا الضرب من الكلام. أعني: ما سُمي به الفعلُ مما يدخل فيه "لا" النافية للنكرة، نحو: لا رجُل عندك، فـ"لا" إذن في قوله:(لا مِسَاسَ) نفيٌ للفعل، كقولك: لا أمسُّك ولا أقربُ منك.
قوله: (فلا عباب)، علمٌ للعبةِ، من: عب الماء: شربه من غير مص، والأبابُ: علمٌ للأبة، من الأب: الطلب، يصفُ الظباء بالصبر عن الماء، أي: إذا وردت الماء فلا تفعل العبَّ، وإذا لم ترد لم تفعل الأب. قال الميداني: يقال: إن الظباء إذا أصابت الماء لم تعب فيه، وإن لم تصبه لم تؤب إليه، أي: لم تتهيأ لطلبه، يقال: أب يؤب أبا: إذا قصد وتهيا. قال: وليس شيءٌ من الوحوش من الظباء والنعام والبقر يطلبُ الماء إلا أن ترى الماء قريباً منه فترده، وإن تباعد عنها لم تطلبه، ولم ترده كما يردُ الحمير، يُضربُ للرجل يُعرضُ عن الشيء استغناء.
وإن فقدته فلا أباب: وهي أعلام للمسة والعبة والأبة، وهي المرة من الأب وهو الطلب (لَنْ تُخْلَفَهُ) أى لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وقرئ (لن تخلفه) وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. قال الأعشى:
أثوى وأقصر ليله ليزوّدا
…
فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
وعن ابن مسعود: (نخلفه)، بالنون، أى: لن يخلفه الله، كأنه حكى قوله عز وجل كما مر في (لِأَهَبَ لَكِ)] مريم: 19 [. (ظَلْتَ) وظلت، وظلت والأصل ظللت، فحذفوا اللام الأولى ونقلوا حركتها إلى الظاء، ومنهم من لم ينقل (لَنُحَرِّقَنَّهُ) و (لنحرقنه) و (لنحرقنه). وفي حرف ابن مسعود:(لنذبحنه)، و (لنحرقنه)، و (لتحرقنه): القراءتان من الإحراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "لن تُخلفهُ")، ابن كثير وأبو عمرو: بكسر اللام، والباقون: بفتحها.
قوله: (أثوى وقصر) البيت، أثوى: أقام، وقيل: أثوى، أي: صار ضيفاً. وقصر ليله: أي: صيره قصيراً ليُزود، وقتيلةَ: اسمُ المحبوبة. يقولُ: صار العاشقُ ضيفاً في الحي ليرى معشوقه، وقصر ليله برجاء الوصال، فمضى الليلُ ووجد الموعد من قتيلة خُلفاً ولم يتمتع بوصالها.
قوله: (كما مر في (لأَهَبَ لَكِ))، قال:" (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أمرني أن أهب لك، أو: هي حكايةٌ عن قول الله".
قوله: (القراءتان من الإحراق)، أي:"لنحرقنه" و"لتحرقنه"، بمعنى.
وذكر أبو علي الفارسي في (لنحرقنه) انه يجوز أن يكون "حرّق" مبالغة في "حرق" إذا برد بالمبرد. وعليه القراءة الثالثة، وهي قراءة على بن أبى طالب رضى الله عنه (لَنَنْسِفَنَّهُ) بكسر السين وضمها، وهذه عقوبة ثالثة وهي إبطال ما افتتن به وفتن، وإهدار سعيه، وهدم مكره (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران: 54].
(إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)[طه: 98].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وذكر أبو علي الفارسي في (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أنه يجوز أن يكون "حرق" مبالغةً في "حرق" إذا بُرد بالمبرد)، وقال الزجاج:(لَنُحَرِّقَنَّهُ) إذا شثدد فالمعنى: نحرقه مرةً بعد مرة. وقرئت: "لنحرقنه"، أي: لنبردنه بالمبرد، يقال: حرقتُ الشيء أحرقه وأحرقُ الشيء، إذا بردته. قال أبو علي: أن من قرأ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) فحملهُ على الحرق بالنار بعيدٌ؛ لأنه لا يحتمل الإحراق. يعني: لم يستعمل حرقته بالنار، لكن أحرقته وحرقته.
قوله: (وعليه القراءة الثالثة)، قال ابن جني: قرأ عليٌّ وابن عباس رضي الله عنهما: لنحرقنه، بفتح النون وضم الراء، يقالُ: حرقتُ الحديد: إذابردته فتحات وتساقط. ومنه قولهم: إنه ليحرقُ علي الأرم أي: يحك أسنانه بعضها ببعضٍ غيظاً علي.
قوله: ((لَنَنسِفَنَّهُ) بكسر السين)، المشهورة، وبضمها: شاذة.
قوله: (وهذه عقوبة ثالثة)، أولاها: الدعاء عليه، ب قوله:(لا مِسَاسَ)، وثانيها:(لَنُحَرِّقَنَّهُ)، قال القاضي: المقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر.
قرأ طلحة: الله الذي لا إله إلا هو الرحمن رب العرش (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وعن مجاهد وقتادة: وسع، ووجهه أن (وَسِعَ) متعدّ إلى مفعول واحد، وهو كل شيء. وأمّا (عِلْماً) فانتصابه على التمييز، وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين، فنصبهما معا على المفعولية لأنّ المميز فاعل في المعنى، كما تقول في «خاف زيد عمرا» خوفت زيدا عمرا، فترد بالنقل ما كان فاعلا مفعولا.
[سورة طه (20): الآيات 99 إلى 101]
(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) [طه: 99 - 101].
الكاف في (كَذلِكَ) منصوب المحل، وهذا موعد من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، أى: مثل ذلك الاقتصاص ونحو ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون، نقصّ عليك من سائر أخبار الأمم وقصصهم وأحوالهم، تكثيرا لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر، وأن هذا الذكر الذي آتيناك يعنى القرآن مشتملا على هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فنصبهما معاً على المفعولية)، قال ابن جني: معناه: خرقَ كل مُصمتٍ بعلمه لأنه بطنُ كل مُخفى ومستبهم، فصار لعلمه فضاءً متسعاً بعد ما كان متلاقياً.
قوله: (تكثيراً لبيناتك)، إلى آخره: بيانٌ لفائدة ذكر الأقاصيص في التنزيل، فقوله:"زيادة لمعجزاتك" تفسيرٌ لقوله: "تكثيراً لبيناتك"؛ لأن القرآن كما دل بنظمه الفائق على الإعجاز دل بذكر الأقاصيص فيها كما هي عليه من غير نقصان ولا زيادة على الإعجاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما سمعها من أحدٍ ولا قرأها في الكتب.
قوله: (ويزداد المستبصر)، وتتأد الحجة، أي: السامعُ إن كان الموافق فيزداد بصيرةً على بصيرة، وإن كان المخالف فيزدادُ الإلزام على الإلزام.
قوله: (وأن هذا الذكر الذي آتيناك)، إلى آخره، تفسيرٌ لقوله: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا
الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار، لذكر عظيم وقرآن كريم، فيه النجاة والسعادة لمن أقبل عليه، ومن أعرض عنه فقد هلك وشقى. يريد بالوزر: العقوبة الثقيلة الباهظة، سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذِكْراً)، وقد أشار فيه إلى وجه منه مع الآية السابقة واللاحقة. أما ربطه بالسابقة فهو أن العطف فيه للتفسير، ولذلك أعاد ذكر الأخبار والأقاصيص فيه واعتبر التفكر والاعتبار، وأما بيانُ التئامه مع الآية الثالثة فهو قوله:"وإن هذا الذكر الذي آتيناك" إلى قوله: "لمن أقبل عليه"، فآذن به أنه مقابلٌ لقوله:(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)، فكأنه قيل: نحو ما قصصنا عليك قصة موسى وفرعون، نقص عليك أخبار الأمم وقصص الأنبياء لتكثير بيناتك ومزيد معجزاتك، من أقبل عليه فاز بالقدح المُعلى، ومن أعرض عنه فقد شقي وتردى.
وأما دلالته على قوله: "وإنهُ لذكرٌ عظيم، وقرآنٌ كريم، فيه النجاةُ والسعادة"، فإن التنكير في (ذِكْراً) وإيثار ضمير الجماعة في (آتَيْنَاكُ)، واختصاص (مِنْ لَدُنَّا) مُنادٍ بلسانٍ طلق: إن المؤتى مما لا يُقادرُ قدرته ولا يكتنه كنهه، كأنه قيل: أعظم بمؤتى موليه عظيمُ الشأن قوي السلطان، وأنه من عنده ومن خزائن لطفه وكرمه.
وفي تخصيص اليوم بالذكر وتكرير الجُمل في التذييل، وهو سائلهم يوم القيامة حِملاً: الإشعارُ بأن الموجب للحمل في الدنيا أمرٌ عظيمٌ وخطبٌ جسيم، وهو الإعراض المؤدي إلى تفويت السعادات والكمالات: الدنيوية والأخروية، وبأن تبعة الحمل في ذلك اليوم مما لا يدخل تحت الوصف، فيجبُ أن يُقدر مثله في مقابله، والمصنفُ اقتصر على لفظ النجاة والسعادة اختصاراً وإيجازاً.
قوله: (لذكرٌ عظيم وقرآنٌ كريم)، من عطف الشيء على نفسه تجريداً، نحو قولهم: مررتُ بالرجل الكريم والنسمة المباركة.
قوله: (الباهظة)، الجوهري: بهظه الحملُ يبهظه بهظاً: إذا أثقله وعجز عنه، وهذا أمر باهظٌ، أي: شاقٌّ.
الذي يفدح الحامل، وبنقض ظهره، ويلقى عليه بهره: أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم. وقرئ: (يحمل).
جمع (خالِدِينَ) على المعنى، لأنّ "من" معلق متناول لغير معرض واحد. وتوحيد الضمير في (أعرض) وما بعده للحمل على اللفظ. ونحوه قوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)] الجن: 23 [. (فِيهِ) أى في ذلك الوزر. أو في احتماله (ساءَ) في حكم (بئس). والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهما يفسره (حِمْلًا) والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه، تقديره: ساء حملا وزرهم، كما حذف في قوله تعالى: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)] ص: 30، 44 [، أيوب هو المخصوص بالمدح. ومنه قوله تعالى (وَساءَتْ مَصِيراً)] النساء: 97، 115 [، أى وساءت مصيرا جهنم. فإن قلت: اللام في (لَهُمْ) ما هي؟ وبم تتعلق؟ قلت: هي للبيان، كما في (هَيْتَ لَكَ)] يوسف: 32 [. فإن قلت. ما أنكرت أن تكون في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يفدحُ الحامل)، الجوهري: فدحه الدينُ: أثقله، وأمرٌ فادحٌ، إذا عالهُ وبهظه.
قوله: (وينقبض ظهره)، الجوهري: وأنقض الحملُ ظهره، أي أثقله، وأصله الصوتُ، والنقيضُ صوتُ المحامل والرحال.
قوله: (ويُلقي عليه بُهره)، بهره بهراً، أي: غلبه، والبهر بالضم: تتابع النفس، وبالفتح: المصدر، يقال: بهره الحملُ بهراً، أي: أوقع عليه البهرة فانبهر، أي: تتابع نفسه.
قوله: (أو لأنها جزاءُ الوزر)، عطفٌ على "تشبيهاً"، فالوزرُ على الأول، بمعنى الثقل، وُضع موضعَ العقوبة على الاستعارة، وعلى الثاني؛ بمعنى الإثم إقامةً للسبب مقام المسبب.
قوله: (جمعُ (خَالِدِينَ) على المعنى)، أي: حملاً على المعنى.
قوله: (هي للبيان، كما في (هَيْتَ لَكَ))، قال في قوله تعالى:(هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)
(ساء) ضمير الوزر؟ قلت: لا يصح أن يكون في (ساء) وحكمه حكم (بئس) ضمير شيء بعينه غير مبهم فإن قلت: فلا يكن (ساء) الذي حكمه حكم (بئس)، وليكن (ساء) الذي منه قوله تعالى (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)] الملك: 27 [، بمعنى أهم وأحزن؟ قلت: كفاك صادّا عنه أن يؤول كلام الله إلى قولك: وأحزن الوزر لهم يوم القيامة حملا، وذلك بعد أن تخرج عن عهدة هذه اللام وعهدة هذا المنصوب.
[(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً* يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً* نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[المؤمنون: 36]: "اللامُ: لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما جاءت اللامُ في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، لبيان المُهيت به"، كأنه لما قيل:(وَسَاءَ) قبل أن يُقال، فأجيب:(لَهُمْ)، فالعامل القولُ المقدر.
قوله: (وأحزن الوزرُ لهم يوم القيامة حملاً)، قال أبو البقاء:(حِمْلاً) تمييزٌ لاسم (سَاءَ)، "وساء" مثلث "بئس"، والتقديرُ: وساء الحِملُ حملاً، ولا ينبغي أن يكون التقدير: وساء الوزرُ؛ لأن المميز ينبغي أن يكون من لفظ اسم "بئس".
قوله: (بعد أن تخرج من عهدة هذه اللام)، لأن "ساء" يتعدى بنفسه، الجوهري: ساء يسوءه سوءاً، بالفتح: نقيضُ سرهُ، قيل: إنما كان صاداً لأنه لا يفهم من هذا التركيب معنى يصح التعبير عنه، مع أن اللام لا وجه له في هذا الموضع، إذ لا يقال: أحزن لهم، بل أحزنهم، المنصوب لايصح أن يكون تمييزاً؛ لأن الضمير إذا كان عائداً إلى الوزر لا يصح أن يميز بالوزر، غير التمييز لا وجه له. وفيه نظرٌ لجواز أن يكون اللام للبيان كما في قوله تعالى:(إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف: 43]، وحملاً: تمييزٌ، أو المعنى: أحزنهم حملُ الوزر وثقله.
أسند النفخ إلى الآمريه فيمن قرأ: (ننفخ)، بالنون. أو لأن الملائكة المقرّبين -وإسرافيل منهم- بالمنزلة التي هم بها من رب العزة، فصح لكرامتهم عليه وقربهم منه أن يسند ما يتولونه إلى ذاته تعالى. وقرئ:(ينفخ)، بلفظ ما لم يسم فاعله. و (ينفخ). و (يحشر)، بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام. وأما (يحشر المجرمون) فلم يقرأ به إلا الحسن.
وقرئ (فِي الصُّورِ) بفتح الواو جمع صورة، و (في الصور): قولان، أحدهما: أنه بمعنى الصور وهذه القراءة تدل عليه. والثاني: أنه القرن. قيل في (الزرقة) قولان، أحدهما: أن الزرقة أبغض شيء من ألوان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فيمن قرأ "ننفخ" بالنون)، أبو عمرو: بالنون مفتوحةً وضم الفاء، والباقون: بالياء مضمومة وفتح الفاء.
قوله: (أو لأن الملائكة)، عطفٌ على محذوف؛ لأن المعنى: أسند النفخ إلى الله تعالى لأنه الآمر به، ولأن المقربين بالمنزلة العظيمة من رب العزة، والحاصلُ أن هذا الإسناد مجازي، أسند النفخ إلى الله تعالى لأنه سببٌ، كما في: بنى الأمير المدينة، أو لأن الملائكة المقربين بمنزلة عظيمة عنده، فيكون فعلهم فعله، كأنه لما قيل: ساء يوم القيامة حملاً، قيل: لمن؟ فقيل: لهم.
قوله: (وإسرافيل منهم)، هو جملةٌ معترضةٌ دخلت بين اسم "إنّ" وخبرها، ولا يجوز أن يكون "إسرافيل" عطفاً على "الملائكة"؛ لأنه لا يبقى لقوله:"منهم" محلٌّ، و"من رب العزة" خبرٌ لقوله:"هم"، و"بها": متعلقٌ بالفعل المقدر في الخبر نحو: مقربون، أو: حالٌ من ضمير الاستقرار في و"بها" وهو الخبر، وهو أيضاً متعلق به، والمعنى: والملائكة المقربون أو المتصلون من رب العزة بالمنزلة التي هم بتلك المنزلة، أي: بمنزلة عظيمة معلومة عند كل أحد، وذلك من إيقاع "هُم" بها صلة للموصول؛ لأن "من" حقها أن تكون معلومة الانتساب عند السامع.
العيون إلى العرب لأنّ الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ولذلك قالوا في صفة العدوّ: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. والثاني: أنّ المراد العمى، لأنّ حدقة من يذهب نور بصره تزراقّ. تخافتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا: إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت، والذاهب وإن طالت مدّته قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت «أطال الله بقاءك»:«كفى بالانتهاء قصرا» وإما لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشدّ تقاولا منهم في قوله تعالى (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ونحوه قوله تعالى (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ)] المؤمنون: 112 - 113 [، وقيل: المراد لبثهم في القبور. ويعضده قوله عز وجل (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أصهب السِّبَالِ)، النهاية: الصهبة مختصةٌ بالشعر وهي حمرةٌ يعلوها سواد.
قوله: (تخافتهم)، التخافت من: خَفت صوته إذا أخفضه.
قوله: (لأن أيام السُّرورِ قصارٌ)، قال:
تمتع بأيامِ السرور فإنها
…
قصارٌ وأيامُ الغموم طوال
قوله: (ويتقالُّ لبثُ أهلها)، أي: يُعد قليلاً. النهاية: وفي الحديث: "كأنهم تقالوها"، أي: استقلوها، أي: عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفاعل من القلة.
قوله: (ويعضده [قوله عز وجل: ] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ))، أي: يعضد إرادة استقصار
ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم: 55]، (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) [الروم: 56].
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه: 105 - 107].
(يَنْسِفُها) يجعلها كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما يذرى الطعام (فَيَذَرُها)«1» أى فيذر مقارّها ومراكزها. أو يجعل الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ)] فاطر: 45 [. فإن قلت: قد فرّقوا بين العوج والعوج، فقالوا: العوج -بالكسر- في المعاني. والعوج بالفتح:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لُبثهم في القبور هذه الآية. وفيه نظرٌ؛ لأنه فسرها في موضعها في آخر الروم بقوله: أرادوا: لُبثُهم في الدنيا أو في القبور، أو ما بين فناء الدنيا إلى البعث. والاستشهاد للوجه الأول - وهو "يستقصرون مدة لُبثِهم في الدنيا بقوله:(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ)[المؤمنون: 112] "- صحيحٌ، لتصريح ذكر الأرض.
قوله: (يجعلها كالرمل)، الراغب: نسفت الريح الشيء: اقتلعته وأزالته، وكذا انتسفته، قال تعالى:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً)[طه: 105]، ونسف البعيرُ الأرض بمقدم رجله، قال تعالى:(ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)، أي: نطرحه فيه طرح النسافة، وهي ما يثور من غبار الأرض، وانتسف لونه، أي: تغير عما كان عليه نُسافُه، كما يقال: اغبر وجهه.
قوله: (العوج- بالكسر-: في المعاني)، قال الزجاج: العوجُ في العصا والجبل: أن لا يكون مستوياً، والأمتُ: أن يغلُظَ مكانٌ ويدقَ مكان، قال القاضي: عوجا بالقياس، وأمتا بالإحساس.
في الأعيان، والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأى المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عزّ وعلا ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك، اللهمّ إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني، فقيل فيه: عوج بالكسر. الأمت: النتوّ اليسير، يقال: مدّ حبله حتى ما فيه أمت.
(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه: 108 - 109].
أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال في قوله (يَوْمَئِذٍ) أى يوم إذ نسفت، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل من يوم القيامة. والمراد: الداعي إلى المحشر. قالوا: هو إسرافيل قائما على صخرة بيت المقدس يدعو الناس، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من الفلاحة)، الأساس: الفلاحةُ: الأكرةُ، جمع أكار؛ لأنهم يفلحون الأرض، أي: يشقونها.
قوله: (بدلاً بعد بدل)، يعني (يَوْمَئِذٍ) بدلٌ من (يَوْمَ يُنْفَخُ) وهو من قوله:(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) في قوله: (وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً)، والعامل ساء، فيكون قوله:(وَيَسْأَلُونَكَ) الآية، وحدها استطراداً، وعلى الأول العاملُ:(يُتْبِعُونَ)(وَيَسْأَلُونَكَ) إلى قصة أدم استطراداً، والأول أوجه لمجيء قوله:(يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ) فيكون بدلاً ثالثاً على الترقي.
قوله: (يدعو الناس فيقبلون من كل أوب)، قال محيي السنة: يقول: أيتها العظام البالية،
لا يعدلون (لا عِوَجَ لَهُ) أى لا يعوجّ له مدعوّ، بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته. أى: خفضت الأصوات من شدة الفزع وخفتت (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) وهو الركز الخفي. ومنه الحروف المهموسة. وقيل: هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت، أى: لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر (مَنْ) يصلح أن يكون مرفوعا ومنصوبا، فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف، أى: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من (أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) والنصب على المفعولية. ومعنى (أذن له)(وَرَضِيَ لَهُ) لأجله. أى: أذن للشافع ورضى قوله لأجله. ونحو هذه اللام اللام في قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)[الأحقاف: 11].
(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)[طه: 110].
أى يعلم ما تقدّمهم من الأحوال وما يستقبلونه، ولا يحيطون بمعلوماته علما.
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)[طه: 111].
المراد بالوجوه وجوه العصاة، وأنهم إذا عاينوا - يوم القيامة - الخيبة والشقوة وسوء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، هلموا إلى عرض الرحمن.
قوله: (لا يعوج له مدعو)، قيل: هو كما يقال: لا عصيان له، أي: لا يعصي، ولا ظلم له، أي: لا يظلم.
قوله: (المراد بالوجوه: وجوه العصاة)، قال القاضي: ظاهره يقتضي العموم، ويجوز أن يُراد بها وجوه المجرمين، فتكون اللام بدل الإضافة، ويؤيده قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ
الحساب، صارت وجوههم عانية، أى ذليلة خاشعة، مثل وجوه العناة وهم الأسارى. ونحوه قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)] الملك: 27 [، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ)] القيامة: 24 [. وقوله تعالى (وَقَدْ خابَ) وما بعده اعتراض، كقولك: خابوا وخسروا. وكلّ من ظلم فهو خائب خاسر.
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)[طه: 112].
الظلم: أن يأخذ من صاحبه فوق حقه. والهضم: أن يكسر من حق أخيه فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظُلْماً)، وهو يحتمل الحال والاستئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم، وكذا عن أبي البقاء.
قوله: (وقوله: (وَقَدْ خَابَ) وما بعده: اعتراضٌ)، يعني: في هذا الكلام معنى التوكيد لما قبله، وكان من الظاهر: وذلت وجوه العصاة وقد خابوا وخسروا، فوضع موضعه ذلك، وفيه رائحةٌ من الاعتزال، والأولى أنه حالٌ من الوجوه ووضع موضع الراجع (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)، كما في قوله:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)[الكهف: 30] أي: لا نُضيع أجرهم.
والمرادُ بالظلم: الشركُ، لقوله تعالى:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، وروى محيي السُّنة، عن ابن عباس: خسر من أشرك بالله، والظلم هو الشرك، ولأنه واقعٌ في مقابلة قوله:(وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، والمراد بالوجوه، الرؤساء والمتكبرون؛ لأن المقام مقام الهيبة ولصوق الذلة بوجوههم أولى:(وَقَدْ خَابَ): مقابلٌ لقوله: (فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)، المعنى: فلا يخاف الخيبة وإليه الإشارة بقوله: فلا يخاف جزاء ظُلم ولا هضم؛ لأنه لم يظلم ولم يهضم، فلا يستقيم حينئذ أن يكون اعتراضاً.
يوفيه له، كصفة المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ويسترجحون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أى: فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم، لأنه لم يظلم ولم يهضم. وقرئ:(فلا يخف) على النهى.
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)[طه: 113].
(وَكَذلِكَ) عطف على (كَذلِكَ نَقُصُّ)] طه: 99 [أى: ومثل ذلك الإنزال، وكما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "فلا يخف")، على النهي: ابن كثير، والباقون:(يَخَافُ) بالرفع، وهذه القراءة توافق ما يُقابله منهما - وهو قوله:(وَقَدْ خَابَ) - من حيث الإخبار، وأبلغُ من القراءة الأولى من حيث الاستمرار، والأولى أبلغ لأنها لا تحتمل التردد في الإخبار، قال الواحدي:"فلا يخف": فليأمن لأنه لم يُفرط فيما وجب عليه، ونهيه عن الخوف أمرٌ بالأمن.
قوله: (وَكَذَلِكَ): عطفٌ على (كَذَلِكَ نَقُصُّ))، إشارةٌ إلى بيان النظم، وأن التكرير للترديد والترجيع إلى ما هو مهتمٌ بشأنه وما سيق الكلام لأجله، ذكره هناك وعلق به مدح القرآن، ومن أقبل عليه ومن أعرض عنه، وأشار إلى أن المقبل مربح مفلح والمعرض خاسرٌ دامر. واستمر على وعيد المعرض ووعد المقبل إلى أن عاد إلى ما له سوق الكلام وهو مدح القرآن، فحرض على التمسك به واستعمال التؤدة والرفق في أخذه، وعهد على العزيمة بأمره وترك النسيان فيه، وضرب حديث آدم مثلاً للنسيان وترك العزيمة. واستوفى حقه، ثم رجع إلى ما هو المقصد في الإيراد حيث قال:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)[طه: 124] إلى أن قال: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)، وأنت إذا تأملت حديث موسى عليه السالم بطوله وجدته متمماً لحديث القرآن وما افتتح به السورة من قوله تعالى:(طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 1 - 2]، وهلُمَّ جرا، إلى آخر السورة، وقوله تعالى: (وَلا
أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة، مكرّرين فيه آيات الوعيد،
ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة. والذكر - كما ذكرنا - يطلق على الطاعة والعبادة. وقرئ: (نحدث) و (تحدث)، بالنون والتاء، أى: تحدث أنت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً) [طه: 131] إلى قوله: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ)؛ لأنه على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً) [الحجر: 87 - 88]، وينصره قوله تعالى:(وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً)[طه: 132]، ولأمر ما صدر عن أمر النبوة ومشكاة الرسالة صلوات الله عليه:"إن الله تعالى قرأ (طه) و (يس) قبل أن يخلُقَ السموات والأرض بألف عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبي لأمةٍ ينزلُ هذا عليها، وطوبى لأجوافٍ تحمل هذا، وطوبى لألسنةٍ تتكلمُ بهذا"، أخرجه الدارمي عن أبي هريرة.
قوله: (الوتيرة)، الجوهري: هي الطريقة، يقال: ما زال على وتيرة واحدة.
قوله: (ليكونوا بحيث يُراد منهم تركُ المعاصي أو فعلُ الخير)، قال في "الانتصاف": الصوابُ: ليكونوا على رجاء التقوى والتذكر، إذ لو أراد اللهُ تقواهم لكان. والعجبُ أن الزمخشري نقل عن سيبويه في أول هذه السورة في:(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، أي: كُونا على رجائكما، ثم كع عنه هاهنا لمعتقده.
قوله: (والذكرُ كما ذكرنا)، أي عند قوله:(وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)[طه: 14]، أي: لتذكرني، فإن ذكري أن أعبد، والذكر يُطلقُ على العبادة والطاعة، أي: مجازاً؛ لأن الطاعة: أثرُ الذكر والتذكير. ومراده من هذا التأويل اعتبارُ المطابقة لتفسيره التقوى بالاجتناب عن
وسكن بعضهم الثاء للتخفيف، كما في:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعاصي ليجمع بين فعل الطاعة وترك المعصية، وفيه إيذانً بأن التقوى قد يُراد منه الاحترازُ عما لا ينبغي كا قررناهُ في فاتحة البقرة، وقال محيي السنة والواحدي:(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، أي: يجتنبون الشرك، (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي: يُجددُ لهم القرآنُ عبرةً وعظةً ليعتبروا ويتعظوا بذكر عقاب الله للأمم.
وقال الإمامُ: وفيه وجهان: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، أي: يصيرون متحرزين عما لا ينبغي أو يحدث لهم القرآن ذكراً يدعوهم إلى الطاعات وفعل ما ينبغي، أو: أنزلنا القرآن ليتقوا، فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يُحدث لهم ذكراً شرفاً وصيتاً حسناً أو كلمة، أو كما في قولك: جالس الحسن وابن سيرين.
وقال القاضي: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي، فتصير التقوى لهم ملكةً، (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) عظةً واعتباراً حين يسمعونها فتثبطهم عن المعاصي: ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم والإحداث إلى القرآن.
وقلتُ: والذي يحضرنا الآن - والله أعلم: أن المعنى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) أي: فصيحاً ناطقاً بالحق ساطعاً تبيانه يحدث لهم التأمل والتفكرُ في آياته وبياناته الواقية الشافية فيُذعنون ويُطيعون (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) العذاب، فقيه لفٌّ من غير ترتيب، فالآية على وزان قوله تعالى:(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، قال المصنف: يتذكرُ، أي: يتأملُ فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق ويخشى أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة.
قوله: (وسكن بعضهم الثاء للتخفيف)، أي: يحدث، قال ابن جني: قرأ بها الحسنُ، وينبغي أن يكون هذا مما يسكن استثقالاً للضمة. وأنشدنا أبو علي لجرير:
فاليوم أشرب غير مستحقب
(فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)[طه: 114].
(فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) استعظام له ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم
…
ونهرُ تيرى ولا تعرفكم العرب
أي: لا تعرفكم.
قوله: (فاليوم أشرب غير مستحقبٍ)، تمامه في "المطلع":
إثماً من الله ولا واغل
مستحقبِ الاثم، أي: محتملٍ، يقال: استحقب الإثم: إذا احتمله واكتسبه، مأخوذٌ من الحقيبة، ووغل يغلُ: إذا دخل على القوم في شربٍ من غير أن يدعى كالوارس في العظام. قبله:
حلت لي الخمرُ وكنتُ امرءاً
…
عن شُربها في شغلٍ شاغل
قائله امرؤ القيس، وكان حلفَ أن لا يشربَ الخمرَ حتى يُقتل بني أسدٍ بأبيه حُجرن فوقع ببعضهم فقتل جماعةً منهم فقال عند ذلك: حلت
…
البيت.
قوله: (ولما يُصرفُ عليه)، عطفٌ على "لهُ"، أي: استعظامٌ لما يُصرفُ عليه عباده. وقوله: يُصرف، بضم الياء وفتح الصاد وكسر الراء المشددة. الأساس: صرفه في أعماله وأموره فيتصرفُ فيها، وتصرفت به الأحوال. وليس فيه ولا في "الصحاح": تصرف عليه، ولعله ضمنه معنى العلو والاستيلاء، أي يجبر الخلق على امتثال أوامره والانتهاء من نواهيه تصريفاً كما ترى الملك الغالب النافذ التصرف في رعيته، وهذا لا يوافق مذهبه.
ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم، وغير ذلك مما يجرى عليه أمر ملكوته ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: وإذا لقنك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذا التقدير إيذانٌ في ترتب حكم الإنزال والتصريف في (أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ) على قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) بالفاء، أمراً عظيماً وخطباً جليلاً، فدل وصفُ الباري بالملك على التصريف القوي في الملك والملكوت على مقتضى مشيئته بالأمر والنهي والوضع والرفع والثواب والعقاب، فكان مناسباً لقوله:(وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ)، ودل وصفه بالحق على البيان والظهور، وعلى الثبات في الصفات الكاملة، فكان مناسباً لقوله:(أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) أي: بينا بُرهانه ساطعاً نُوره لا يحوم الباطلُ حوله، فأعظم بمنزلٍ ومتصرفٍ منزله الحق ومتصرفه الملك، وفيه أيضاً معنى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)، وقوله تعالى:(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)[القيامة: 16 - 17]، يعني: لا تستعجل بالقرآن خوفاً من أن ينفلت منك؛ لأن المصرف قاهرٌ والمبين محق لابد من إمضاء ما أراده (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في صدرك لتحفظه، وإجرائه على لسانك لتدفع الباطل بالحق، وهذه السُّنةُ قائمةٌ في أمتك إلى يوم القيامة (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)، فإن له تحت كل كلمة، بل كل حرفٍ من هذا الكتاب العزيز، أسراراً ورموزاً تتحير فيها الأوهامُ، زادنا الله اطلاعاً على أسرار تنزيله والتوفيق للعمل بما فيه بقدر الوُسع والطاقة. قال صاحب "المطلع": الذي بيده الثواب والعقاب فهو يملكهما، والحق الثابت: ذاته وصفاته الكاملة.
قوله: (ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد)، قلتُ: قد سبق بأن قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) كالرابطة بين الكلامين، وذلك أنه تعالى لما عظم شأنه في إنزال القرآن العربي وتصريف الوعيد فيه بأن أتى بصيغة العظمة والكبرياء في قوله:(أَنزَلْنَا)، (وَصَرَّفْنَا) امتناناً على حبيبه صلوات الله عليه، وبين أن القصد في الإنزال والتصريف: الترغيب والترهيب، وأراد أن يُرشده إلى حُسن تلقيه لهذا المنزل العظيم الشأن، وأن يترك من عادته من العجلة فيه، وشط بين الكلامين قوله:(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)، وعطف عليه (وَلا تَعْجَلْ) على تنزيل الإخباري منزلة الإنشائي؛ لأن فيه إنشاء التعجب معنى،
جبريل ما يوحى إليك من القرآن، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. ونحوه قوله تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)] القيامة: 16 [،
وقيل معناه: لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان. وقرئ: (حتى تقضى إليك وحيه). وقوله تعالى (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) متضمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حين نُبهت على عظمةِ جلالة المنزل وأُرشدت إلى فخامة المنزل، فعظم جناب الملك الحق المتصرف في المُلك والملكوت وأقبل بشراشرك في تحفظ ألفاظ كتابه وتحقق مبانيه، وإذا وعيت فادعُ الله لاستزادة العلم لتدبر حقائقه ومعانيه، وقد سبق وجه نظمه مع قوله:(وَلَقَدْ عَهِدْنَا).
قوله: (ريثما يُسمعك)، الأساس: ما ريثك وما بطأ بك؟ وما قعدتُ لفلانٍ إلا ريثما قال كذا، النهاية: وفي الحديث: "فلم يلبث إلا ريثما"، قلت: أي: إلا قدر ذلك، وقد يُستعملُ بغير (ما)، والمعنى: ارفق على نفسك قدر ما يُسمعُك.
قوله: (مساوقةً لقراءته)، الأساس: فلانٌ في ساقة العسكر: في آخره، جمعُ سائق، وهو يساوقه، وتساوقت الإبل: تتابعت، وهو يسوق الحديث، النهاية: المساوقة: المتابعة. أن بعضها يسوق بعضا.
قوله: (لا تبلغ ما كان منه مجملاً) إلى آخره. هذا منتقض بنزول (مِنْ الْفَجْرِ) بياناً لقوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ)[البقرة: 187]، لأنه صلى الله عليه وسلم بُلغه قبل نزول (مِنْ الْفَجْرِ)، وكذا قوله تعالى:(غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ)[النساء: 95]، نزل بعد تبليغه (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)، ولضعف هذا الوجه ذكر لفظ (قبل).
قوله: (وقرئ: "حتى نقضي")، قال محيي السنة: قرأ يعقوبُ: "نقضي"، بالنون وفتحها وكسر الضاد وفتح الياء، "وحيهُ" بالنصبِ.
للتواضع لله تعالى والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم، أى علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم، فإنّ لك في كل شيء حكمة وعلما.
وقيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)[طه: 115].
يُقال في أوامر الملوك ووصاياهم: تقدّم الملك إلى فلان وأوعز إليه، وعزم عليه، وعهد
إليه. عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)] طه: 113 [والمعنى:
وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عندما عَلِم)، ظرفٌ يتعلقُ بـ"الشكر"، "والشكر لهُ" عطفٌ تفسيريٌ على قوله:"للتواضع لله"؛ لأن التواضع هاهنا عينُ الشكر. كأنه قيل: يا رب إني لا أعلم شيئاً، وإن اتقاري إلى جنابك الأقدس لا يزول، فكما علمتني كيفية ترتيب التعلم، وهو التحفظ بعد التعلم، فلا تقطع هذه النعمة عني في كل ما أنا فيه من الأقوال والفعال.
قوله: (أي: علمتني يا رب)، يعني: أدبتني في باب العلم أدباً جميلاً، وهو التأني عند تلقين المعلم ثُم الإقبالُ عليه بالتحفظ، وهذا ما كنتُ أعلمه، فزدني علماً أي: أدبني تأديباً إلى تأديبِ فإن لك في كل شيء حكمة. فقوله: "ما كان عندي" معترضةٌ.
قوله: (تقدم الملكُ إلى فُلان)، الراغبُ: قدمتُ إليه بكذا: أمرتهُ قبل وقت الحاجة إلى الفعل. أي: قبل أن يدهمه الأمر أو الناس، وعهد فلانٌ إلى فلان: ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه.
قوله: (وأوعز إليه)، الجوهري: أوعزتُ إليه في كذا وكذا، أي: تقدمتُ، وكذلك: وعزتُ إليه توعيزاً، وقد يُخفف. فيقال: وعزتُ إليه وعيزاً.
قوله: (عطفَ اللهُ سبحانه وتعالى قصة آدم عليه السلام على قوله: (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ
أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهى عنه، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون، كأنه يقول: إنّ أساس أمر بنى آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه. فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَعِيدِ))، فإن قلت: أليس هذا مخالفاً لما ذهبت إليه في النظم، وقولك: وضرب حديث آدم مثلاً للنسيان وترك العزيمة، وأنه متصلٌ بقوله:(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)؟ قلت: هيهات! ما أشد التئامه بما أسلفناه من أن تصريف الوعيد لأجل اتقاء العذاب، وأن قوله:(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) متصلٌ بقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا)، وذلك عليه الوعيد لعلهم يخافون العذاب ويجتنبون عنه، كذلك نهيناك عن التعجيل لتلقي التنزيل متأنياً متدبراً بجد وعزيمةٍ، فكأنا عهدنا إليك بذلك لئلا تقع فيما لا ينبغي، كما نهينا آدم عن أكل الشجرة لئلا يشقى (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)، فالضميرُ في قوله: قبل وجودهم لمن قيل في حقهم: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) من قوم محمدٍ صلوات الله عليه، فسبيل حديث العجلة سبيل الاستطراد، وسبيلُ حديث آدم سبيلُ التذييل، وإليه الإشارة بقوله:"إن أساس أمر بني آدم على ذلك".
قوله: (فخالف إلى ما نُهي عنهُ)، هو من قوله تعالى:(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[هود: 88]، قال المصنف: خالفني فلانٌ إلى كذا: إذا قصده وأنت مولٍّ عنه، وتقولُ: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إيه وارداً وأنت صادرٌ.
قوله: (مخالفتهم)، مفعولٌ مطلقٌ، لقوله:"فخالف"، "وتوعد": عطفٌ على "نُهيَ عنهُ". أي: خالف المنهي والمتوعد في قوله: وصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناهُ بالدخول في جملة الظالمين مخالفةً مثل مخالفةِ هؤلاءِ في النهي والوعيد.
وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس، حتى تولد من ذلك النسيان. وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقرئ:(فنسي)، أى: نساه الشيطان. العزم: التصميم والمضىّ على ترك الأكل، وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له.
والوجود: يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه (لَهُ عَزْماً) وأن يكون نقيض العدم كأنه قال:
وعدمنا له عزما.
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى)[طه: 116].
(وإِذْ) منصوب بمضمر، أى: واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة، وطاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده، حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولى العزم والثبات. فإن قلت: إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)] الكهف: 50 [، فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت كان في صحبتهم، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجنى الذي معهم أجدر بأن بتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب، حتى إن لم يقم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لم يُعْنَ بالوصية)، أي: لم يعتد بها الاعتداد الصادق، الجوهري: عُنيت بحاجتك، أعني بها عنايةً، وأنا بها معنيٌّ، والأمرُ: لتُعْنَ بحاجتي بضم التاء وسكون العين.
قوله: (من الاحتراس)، الجوهري: تحرستُ من فلانٍ واحترستُ منه، أي تحفظتُ منه.
قوله: (علية أهلِه)، الجوهري: فلانٌ من علية الناس، وهو جمعُ رجلٍ علي، أي: شريفٍ رفيع، مثل صبي وصبية.
قوله: (وسراتهم)، الجوهري: وهو جمعُ السريِّن لا يُعرفُ جمعُ "فعيلٍ" على "فعلةٍ" غيره. الأساس: هو سريٌّ، من السراة ومن أهل السرو، وهو السخاء والمروءة.
عنف. وقيل له: قد قام فلان وفلان، فمن أنت حتى تترفع عن القيام؟ فإن قلت: فكيف صحّ استثناؤه وهو جنى عن الملائكة؟ قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلا فلانة، لامرأة بين الرجال (أَبى) جملة مستأنفة، كأنه جواب قائل قال: لم لم يسجد. والوجه أن لا يقدّر له مفعول، وهو السجود المدلول عليه بقوله (فَسَجَدُوا) وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط.
(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى)[طه: 117].
(فَلا يُخْرِجَنَّكُما) فلا يكونن سببا لإخراجكما. وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حوّاء بعد إشراكهما في الخروج، لأنّ في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم، كما أنّ في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها. مع المحافظة على الفاصلة. أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك معصوب برأس الرجل وهو راجع إليه. وروى أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه.
(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه: 118 - 119].
قرئ: (وَأَنَّكَ) بالكسر والفتح. ووجه الفتح العطف على (أَلَّا تَجُوعَ). فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وذلك معصوبٌ برأس الرجل)، أي: موكلٌ إليه. الأساس: الأمورُ تعصبُ برأسه. النهاية: سموا السيد المُطاع معصباً؛ لأنه تعصبُ به أمورُ الناس، أي: تُردُّ إليه وترادُ به. قال عتبةُ بن ربيعة: ارجعوا ولا تقاتلوا واعصبوها برأسي، يريد السبة التي تلحقهم بترك الحرب. أي: انسبوها إلي وإن كانت ذميمةً.
قوله: (قرئ: (وَأَنَّكَ) بالكسر والفتح)، بالكسر: ابنُ كثير، وبالفتح: الباقون،
قلت: "إن" لا تدخل على"أن" فلا يُقال: إن أن زيداً منطلق، والواو نائبة عن "إنّ" وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبداً نابة عن "إنْ"، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا ًموضوعاً للتحقيق خاصة كـ"إن" لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إن وأن.
الشبع والرىّ والكسوة والكنّ: هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الزجاج إذا كُسرت فعلى الاستئناف وعطفِ جملةٍ على جملة، وإذا فُتحت فعلى معنى أن لك أن لا تظمأ فتنسقَ بأنك على قوله:(أَلاَّ تَجُوعَ) ويكونُ (أَنَّكَ) في موضع نصب. ويجوزُ أن يكون ف موضع رفع والعطفُ على محل إن واسمها. لأن معنى إن زيداً قائم: زيدٌ قائمٌ، فالمعنى: وذلك أنك لا تظمأ، وقال أبو البقاء: وجاز أن تقع "أن" المفتوحة معمولة لـ"إن" لما فُصلَ بينهما، التقديرُ: إن لك الشبع والري، وقيل: يجوز: إن عندنا أن زيداً منطلق.
قوله: (الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن "إنّ" إنما هي نائبة عن كل عامل)، قال صاحبُ "التقريب": يريدُ أن الواو تنوبُ عن كل عامل، ولم توضع للتحقيق خاصةً، والممتنعُ تلاقي حرفين موضوعين للتحقيق: وقلتُ: يعني أن الواو نابت مناب "إنّ"، لكن بالنظر إليها واعتبار وضعها ليست نصاً في التحقيق مثل "إنّ"، فلا يُهملُ وضعُها الحقيقيُّ.
وقال القاضي: حرفث العطف وإن ناب عن "إنّ"، لكنهُ نابَ من حيث إنهُ عاملٌن لا من حيث إنه حرفُ تحقيق.
وقيل: الواوُ وإن كانت نائبةً إلا أنها ليست في قوة المنوب عنه، فلذلك عومل معها ما لا يُعاملُ معه، كقولك: ليس زيدٌ قائماً ولا قاعداً، ولا يجوزُ أن تقول: ليس لا قاعداً
قوله: (الشبعُ والريُّ والكسوةُ والكِنّ)، أُوردَ على خلاف ما عليه ترتيبُ الآية ليشيرَ
فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى أنه من باب التتميم والاستيعاب، يعني كان من الظاهر أن يُضم الشبعُ والريُّ في قرنٍ واحد، و"الكسوةُ والكِنُّ" في آخر، فخولفَ لينبه على أن المذكور هي الأقطابُ التي يدورُ عليها الكفافُ، يعني إنما ضم الشبع واللبس ليؤذن بعدم استغناء الإنسان عنهما، وأنهما من أصولِ النعم، وجمع الاستلال والري ليُشير إلى أنهما تابعان لهُما ومُكملانِ لمنافعهما، وهذا أدخل في الامتنان من الظاهر، لما في تقديم أصول النعم وجلائلها، وإرداف توابعها ولواحقها: الإعلام باستجلابها لسائر ما يُفتقرُ إليها في الكفاف، كما سبق في تقديم (الرحمن) على (الرحيم). وينصرُ هذا التأويل اختلاف العبارتين في الفقرتين، وهو:(إِنَّ لَكَ) و (وَانُكُ) و (أَلاَّ) و (لَا)، فدلت الأولى على استقرار الإكرام وثبوت الاحترام بتقدير متعلقِ الخبر، وإتيانِ اللام، وكذا في تنسيق المذكورات الأربعة مرتبةً هكذا مُقدماً ما هو الأهمُّ فالأهمّ، ثم في جعلها تفصيلاً لمضمون قوله:(فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) وتكرير لفظةِ (فيها)، وإخراجها في صيغة النفي مُكررةَ الأداء، الإيماءُ إلى التعريض بأحوالِ الدنيا، وأنه لابد من مقاساتها فيها، لأنها خُلقت لذلك، وأن الجنةَ ما خُلقت إلا للتنعيم ولا يتصور فيها غيره، وما ذكره من تصوير ما يُنفر السامع ويحذره حتى يُتحامى بعضٌ من ذلك.
قوله: (استجماعها)، وفي بعض النسخ:"اجتماعها"، هو ثاني مفعولي "ذَكَّرَ"، أي: ذكر اللهُ تعالى آدم استجماع هذه الأشياء له في الجنة، أي: اجتماعها.
المُغرب: استجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه. وهو لازمٌ، وقولهم: استجمع الفرس جرياً. نصبٌ على التمييز، وأما قول الفقهاء: مستجمعاً شرائط الجمعة، فليس بثَبْت.
واللامُ في لنقائضها لضعفِ عملِ النفي بسبب التعريفِ أو الفرعية.
كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التي حذره منها، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)[طه: 120].
فإن قلت: كيف عدى "وسوس" تارة باللام في قوله (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ)] الأعراف: 20 [، وأخرى ب (إلى)
قلت: وسوسة الشيطان كولولة الثكلى «1» ووعوعة الذئب ووقوفة الدجاجة، في أنها حكايات للأصوات وحكمها حكم صوت وأجرس. ومنه: وسوس المبرسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كيف عدى "وسوسَ"؟ )، سؤالٌ عن موقع استعماله مع حرفِ الجرِّ، ووجهِ صحته وتحقيق وضعه، قال الجوهري:(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) يريدُ: إليهما، ولكن العرب تُوصلُ بهذه الحروف كلها الفعل. وأجاب: أن "وسوس" مأخوذٌ من الوسوسة، وهي: حكايةُ صوتٍ وحكمها حم "صوت"، وكذا وكذا، وهو فعلٌ لازمٌ، فإذا عُدي باللام كان لبيان الموسوس له كما في قوله تعالى:(هَيْتَ لَكَ)[يوسف: 23]، وقوله: أجرس لها، واللامُ من صلة الفعل. وأما في الأصوات فللبيان، وإذا عُدي بـ"إلى" ضُمنَ معنى الإنهاء.
المُغرب: الوسوسة: الصوتُ الخفي. يقال: وسوس الرجلُ بلفظ ما سُمي فاعله: إذا تكلم بكلام خفي يكرره، وهو فعلٌ لازمٌ، كولولت المرأة، ووعوع الذئب، ورجلٌ موسوسٌ بالكسر، ولا يقال بالفتح، ولكن موسوسٌ إليه أو له، أي: تُلقى إليه الوسوسةٌ، وقال أبو الليث: الوسوسةُ: حديثُ النفس، وإنما قيل: موسوس لأنه يحدثُ بما في ضميره.
قوله: (وسوس المُبَرْسَمُ)، المُغرب: بُرْسِمَ الرجل، على ما لا يسم فاعله، فهو مبرسمٌ
وهو موسوس بالكسر. والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابى:
وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق
فإذا قلت: وسوس له، فمعناه لأجله، كقوله:
أجرس لها يا ابن أبي كباش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بفتح السين: إذا أخذه البرسامُ، بالكسر، وفي "التهذيب": بالفتح، وهو معربٌ، عن ابن دُريد، وفي "الأسباب والعلامات": هو ورمٌ يحدثُ في الحجاب المعترض بين الكبد والمعدة، فيزولُ العقلُ لاتصالِ هذا الحجاب بحجُبِ الدماغ.
قوله: (وهو موسوسٌ بالكسر، والفتحُ لحن)، قال الحريري في "دُرةِ الغواص": يقولون: باقلاء مُدود، وطعامٌ مسوس، ورجلٌ موسوس، وخبزٌ مُكَرَّجن ومتاعٌ مقارب، يفتحون ما قبل الحرف الأخير من كل كلمة، والصوابُ كسره. ويقالُ في الفعل من المدود: قد داد، وأداد، ودود، وديد.
قوله: (وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق)، تمامُه:
سراً وقد أون تأوين العقق
…
في الزرب لو يمضغ شريا ما بصق
أون البعيرُ: إذا عظُم بطنه من شُرب الماء. والعقق: جمعُ عقوق، وهي الحاملُ. وسوس: صوتُ حكايةً للصوت؛ لأن رؤبة يصفُ قانصاً يُخفي شخصه ويخفتُ صوته حتى إنه لو مضغ حنظلاً ما بصق خوفاً من أن يُحسه الصيدُ فينفر.
الأساس: ومن المجاز: الصائد في زربه وزريبته وهي قترته، شُبهت بزرب البُهم.
قوله: (أجرس لها يا ابن أبي كباش)، تمامه في "المطلع":
ومعنى «وسوس إليه» أنهى إليه الوسوسة، كقولك. حدّث إليه. وأسرّ إليه. أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود، لأن من أكل منها خلد بزعمه، كما قيل لحيزوم: فرس الحياة، لأنّ من باشر أثره حيي (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) دليل على قراءة الحسن بن على وابن عباس رضى الله عنهم:(إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ)] الأعراف: 20 [بالكسر.
(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)[طه: 121]
«طفق يفعل كذا» مثل: جعل يفعل، وأخذ، وأنشأ. وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا، وبينها وبينه مسافة قصيرة هي للشروع في أوّل الأمر. وكاد لمشارفته والدنوّ منه. قرئ (يَخْصِفانِ) للتكثير والتكرير، من خصف النعل وهو أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فما لها الليلة من إنفاش
أجرس لها، أي: أحدُ للإبل لتسمع الحُداء فتسير، وهو مأخوذٌ من الجرس وهو الصوتُ، وجرس الطيرُ: صوتتْ بمناقيرها على شيء تأكله، قوله:"لها"، أي: لأجلها، الإنفاشُ: من: أنفش الغنم: إذا تركها ترعى ليلاً بلا راعٍ، أي: سر بها ولاتتركها الليلة لترعى.
قوله: ((وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) دليلٌ على قراءة الحسن
…
: "إلا أن تكونا ملكين" بالكسر) في الأعراف؛ لأن المُلك غيرُ مطابق للملكين بالفتح، وقلتُ: يجوزُ أن يطابقه من حيث انضمام (لا يَبْلَى) مع الملك؛ لأنه حينئذ كنايةٌ عن الخلود، فهو بمنزلة (أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ) هناك.
يخرز عليها الخصاف، أى: يلزقان الورق بسوآتهما للتستر وهو ورق التين. وقيل كان مدورا فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. وقيل كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. عن ابن عباس: لا شبهة في أنّ آدم لم يمتثل ما رسم الله له، وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا، فكان غيا لا محالة، لأنّ الغى خلاف الرشد، ولكن قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) بهذا الإطلاق وبهذا التصريح، وحيث لم يقل: وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك، مما يعبر به عن الزلات والفرطات: فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر، فضلا أن تجسروا على التورّط في الكبائر. وعن بعضهم (فَغَوى) فبشم «1» من كثرة الأكل، وهذا - وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في «فنى، وبقي» : «فنا، وبقا» وهم بنو طىّ - تفسير خبيث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كان لباسهما الظُّفر)، النهاية: أي: شيءٌ يشبه الظفر في بياضه وصفائه وكثافته.
قوله: (فيه لطفٌ للمُكلفين ومزجرةٌ بليغة)، خبرُ "لكن"، أي: لكن قوله كيت وذيت فيه لطف، يعني: كان من الظاهر أن يُقال في حقه: زل وأخطأ، فجعلهُ عاصياً ثم أوقع الغي مسبباً عنه للتغليظ، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]، يدُلُّ عليه قوله بهذه الغلظة.
قوله: (فَبشِم)، الجوهري: البشمُ: التخمة، يقال: بشمتُ من الطعام، وبشم الفصيلُ من كثرةِ شُربِ اللبَن.
(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)[طه: 122].
فإن قلت: ما معنى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) قلت: ثم قبله بعد التوبة وقرّبه إليه، من جبى إلىّ كذا فاجتبيته. ونظيره: جليت علىّ العروس فاجتليتها. ومنه قوله عز وجل (وَإِذا لَمْ تَاتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها) أى هلا جبيت إليك فاجتبيتها. وأصل الكلمة الجمع. ويقولون: اجتبت الفرس نفسها إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. و (وهَدى) أى وفقه لحفظ التوبة وغيره من أسباب العصمة والتقوى.
(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى)[طه: 123].
لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلى البشر، والسببين اللذين منهما نشؤا وتفرعوا: جعلا كأنهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ) على لفظ الجماعة ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب، وهو في الحقيقة للمسبب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جُبي إليّ كذا فاجتبيتُه)، من قولك: اجتبى الشيء بمعنى جباهُ لنفسه، أي: جمعه، فقوله: هلا جُبيت إليك فأجتبيتها؟ معناه: هلا جُمعت إليك فاجتمعتها افتعالاً من عند نسك؟ فإنهم كانوا يقولون: (إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ)[الفرقان: 4].
قوله: (جُليت عليَّ العروسُ فاجتليتُها)، أي: نظرتُ إليها مجلوةً.
قوله: ((وَهُدًى) أي: وقفه لحفظ التوبة)، فسر الهداية المطلقة لاقترانها بالتوبة بما يناسبها تتميماً، فعلى هذا ينبغي أن يفسر الغواية في قوله:(وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) بما يناسب العصيان من متابعة هو النفس بتسويل الشيطان، لا بالغواية الحقيقية، كقول إخوة يوسف:(إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[يوسف: 8].
قوله: (ونظيره: إسنادهم الفعل إلى السبب، وهو في الحقيقة للمسبب)، نحو: بنى الأميرُ المدينة، وكسى الخليفةُ الكعبة، يعني: خوطب آدمُ وحواءُ بقوله: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)
(هُدىً) كتاب وشريعة. وعن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا قوله (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه حالٌ من الضمير في (اهْبِطَا)، أي: متعادين، عقب بقوله:(فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) على لفظ الجماعة، ولم تحصل منهما العداوة ولا كانا تابعين لأحدٍ من الأنبياء، لكن لما كانا سببي البشري ومنهما نشؤوا، جُعلا كأنهما البشرُ فخوطبا مخاطبتهم، وفي عكسه خطابُ اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بنحو قوله:(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ)[البقرة: 155].
قوله: (وعن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)، ونحوه في "المعالم" عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وعن الشعبي، عن ابن عباس.
وقلتُ: هذا إشارة إلى الترجيع الذي بُنيت هذه السورة الكريمة عليه كما سبق، وإلا فلم خصه بالقرآن هاهنا وتركه في البقرة على العموم والقصة القصةُ؟ حيث قال:(فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى)[البقرة: 38] برسولٍ أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم، بدليل قوله:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)[البقرة: 39] في مقابلة قوله: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)، روينا عن أبي داود عن سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم"، وزاد رزين: واقرؤوا إن شئتم: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، وإنما خص خير الأمة بأنها لا تضل بالدنيا ولا تشقى بالآخرة؛ لأن قصة آدم عليه السلام كانت مصدرةً بقوله:(فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) ومختتمة بقوله: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[طه: 121]، وأنهما
والمعنى أنّ الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه: 124 - 126].
الضنك: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرئ (ضَنْكاً) على (فعلى). ومعنى ذلك: أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة، فيعيش عيشا رافغا كما قال عز وجل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقابلان لقوله: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].
قوله: (الضنك: مصدر)، الراغب:(ضَنكاً) أي: ضيقاً، وقد ضنُكَ عيشه، وامرأةٌ ضناكُ: مكتنزةٌ. والضناك: الزكامُ، والمضنوك: المزكوم.
قوله: (أن مع الدين التسليم)، تأويل المعنى قوله:(ذِكْرَى)[طه: 124] المرادُ به القرآن؛ لأن الدين منه، ويؤيده قوله:(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)[المائدة: 66].
قوله: (فيعيش عيشاً رافعاً)، الجوهري: الرفعُ: السعةُ والخصبُ، يقالُ: رفع عيشه- بالضم- رفاعةً: اتسع فهو عيشٌ رافعٌ ورفيع، أي: واسعٌ طيب.
الراغب: العيشُ: الحياةُ المختصةُ بالحيوان، وهو أخص من الحياة؛ لأن الحياة تقالُ في الحيوان، وفي البارئ وفي الملك، وتشتق منه المعيشة لما يُتعيشُ منه؛ قال تعالى:(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الزخرف: 32]، وقال في أهل الجنة:(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)[القارعة: 7]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا عيش إلا عيشُ الآخرة".
(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)[النحل: 97]، والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوّفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره: قال الله تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ)] البقرة: 61 [، وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)] المائدة: 66 [وقال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)] الأعراف: 96 [، وقال (فَقُلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)] نوح: 11 - 12 [وقال (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)] الجن: 16 [، وعن الحسن: هو الضريع والزقوم في النار. وعن أبى سعيد الخدري: عذاب القبر. وقرئ (وَنَحْشُرُهُ) بالجزم عطفا على محل (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن الحسنِ: هو الضريع)، عطفٌ على قوله:"إن مع الدين التسليم والقناعة" إلى آخره من حيث المعنى، يعني: معنى (مَعِيشَةً ضَنكاً): إما ما يلقاه المعرضُ في الدنيا من الضيق في العيش بسبب الحرص وجمع المال أو الذلة والمسكنة أو قلة الرزق أو الابتلاء بالجدب والقحط، وغما ما يلقاه في الآخرة من أكل الزقوم والضريع، وقال الله:(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)[إبراهيم: 17]، فتلخيصه: المعرضُ عن الدين شأنه في الدنيا كيت وكيت، وعيشه ضنك، وعن الحسن: المُعرِضُ عن الدين شأنه في الآخرة أكلُ الضريع والزقوم، يشهدُ للقول الأول رعاية التقابل، فإن قوله:(فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) مقابلٌ لقوله: (فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) كما سبق.
لأنه جواب الشرط. وقرئ: (ونحشره)، بسكون الهاء على لفظ الوقف، وهذا مثل قوله (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا)] الإسراء: 97 [وكما فسر الزرق بالعمى (كَذلِكَ) أى مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر، وتركتها وعميت عنها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذا مثل قولهم)، (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً) [الإسراء: 97]؛ لأنه من أعمى البصر. وقيل: أعمى عن الحجة لقوله: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا)، والوجه هو الأول لقوله:(لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً).
قوله: (وكما فُسر الزرقُ بالعمى)، يعني: في قوله تعالى: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)[طه: 102]، قال: العمى؛ لأن حدقة من يذهب بنور بصره تزراق.
قوله: (ثم فُسر بأن آياتنا أتتك)، يعني: لما قال القائل: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً) وأجيب بقوله: (كَذَلِكَ) والمشار إليه السابق، أي: كما أنا حشرناك أعمى وكنت بصيراً، مثل ذلك فعلتَ أنت، قال: ما فعلتُ يا ربِّ؟ فقيل: أتتك آياتنا واضحة مستنيرةً، وأنت بصيرٌ صحيحٌ، فعميت عنها. فلما وضع في التنزيل موضع فعميت عنها: فنسيت وضعاً للمسبب موضع السبب؛ لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه، رتب عليه:(وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، ولذلك بدل المصنفُ الواو بالفاء. وأما معنى (َكَذَلِكَ) الثالث فالتذييلُ والتقرير، ولذلك عم المعنى بقوله:(مَنْ أَسْرَفَ) فالمشبهُ في التشبيه الأول فعلُهم، وهو عماهم عن الآيات، والمشبه به حشرهم أعمى، وفي التشبيه الثاني المشبه: فعلُ الحق وهو تركه إياهم على عماهم، والمشبه به: تركهم آيات الله، وفي التشبيه الثالث المشبه به: الجزاء الخاص والمشبه الجزاء العام.
قوله: (أتتك واضحةً مستنيرةً). هذا إذا فسر الآيات بالدلائل الظاهرة والمعجزات
فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)[طه: 127].
لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في الآخرة - ختم آيات الوعيد بقوله (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) كأنه قال: وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشدّ من ضيق العيش المنقضى. أو أراد: ولتركنا إياه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا.
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى)[طه: 128].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الباهرة، ويجوزُ أن تُحمل الآياتُ على آي القرآن، وإتيانُها حفظُها وتعاهدها ليلاً ونهاراً، وقضية النظم يساعدُ؛ فإن قوله تعالى:(فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى)[البقرة: 38]، دالٌّ عليه، لما أن المراد باهلدى، رسول يبعثه، وكتابٌ ينزله كما مر في أول البقرة؛ فقوله:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)، معطوفٌ على قوله:(فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ)، وهو جوابٌ للشرط، فيكون المعنى: ومن أعرض عن هداي، ومن الهُدى الكتابُ المنزل. والإعراضُ عنه: غما بأن لا يقبل رأساً، أو لا يُعمل بهن أو يحفظُ ولا يتعاهدُ فينسى، فيقالُ له: أتتك آياتنا، أي حفظتها ثم نسيتها، وكذلك اليوم تترك من لطفنا ورمتنا، ويؤيده ما روينا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرضت عليَّ أجورُ أمتي، حتى القذاةُ يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت ذنوبُ أمتي، فلم أر ذنباً أعم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجلٌ ثم نسيها". رواه الترمذي، وأبو داود.
قوله: (لما توعد المعرض)، يريد: أن قوله: (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ) إما مؤكدٌ لمعنى قوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ومبينٌ لما قصد به، أو لقوله:(وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى).
فاعل (لمْ يَهْدِ) الجملة بعده يريد: ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه. ونظيره قوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)] الصافات: 79 - 80 [، أى تركنا عليه هذا الكلام. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول، ويدل عليه القراءة بالنون.
وقرئ (يَمْشُونَ) يريد أنّ قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون (فِي مَساكِنِهِمْ) ويعاينون آثار هلاكهم.
(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)[طه: 129].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفاعلُ (أَفَلَمْ يَهْدِ) الجملة)، قال صاحبُ "الكشف": فاعلُ (يَهْدِ) مضمرٌ، والمعنى: أفلم يتبين لهم إهلاكنا؟ ولا يكونُ كم في (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ) فاعلاً ولا مفعولاً؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولكنه منصوبٌ بـ (أَهْلَكْنَا)، فهو مفعولٌ مقدم، أي: وكثيراً من القرى أهلكنا، وإذا كان الضمير في (يَهْدِ) لله أو للرسول، فـ (كَمْ أَهْلَكْنَا) لجملة في تأويل المفعول.
قال المصنف في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)[الأعراف: 100]، إنما عُدي فعل الهداية باللام؛ لأنه بمعنى التبيين. فإذا قرئ بالنون كان المعنى: أولم يهد لهم هذا الشأن؟ كذلك المعنى: أولم يتبين لقريش هذا الشأن، وهو إهلاكنا كثيراً من القرى الخالية والحالُ أنهم يمشون في مساكنهم، والبيان مثل قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)[الروم: 9].
في "اللباب": قال الكوفيون: فاعله: (كَمْ أَهْلَكْنَا)، وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأن الجملة لا تكون فاعلةً، وقالوا: فاعله مضمرٌ يفسره (كَمْ أَهْلَكْنَا) والباء في قول المصنف بمعناه، مثله: كتبتُ بالقلم، أي: فاعلُ (أَوَلَمْ يَهْدِ) هذا بواسطة مضمونه.
الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام: إما مصدر (لازَمَ) وصف به، وإما فعال بمعنى (مفعل)، أى ملزم، كأنه آلة اللزوم لفرط لزومه، كما قالوا: لزاز خصم (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لا يخلو من أن يكون معطوفا على (كَلِمَةٌ) أو على الضمير في (كَانَ) أى لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) [طه: 130].
(بِحَمْدِ رَبِّكَ) في موضع الحال، أى: وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه. والمراد بالتسبيح الصلاة. أو على ظاهره قدم الفعل على الأوقات أوّلا، والأوقات على الفعل آخرا، فكأنه قال: صل لله قبل طلوع الشمس يعنى الفجر، وقبل غروبها يعنى الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هي العدةُ بتأخير جزائهم إلى الآخرة)، قال القاضي: أي: تأخير عذاب هذه الأمة.
قوله: (لزأزُ خصم)، أي: مُلِحٌّ. الأساس: هذا لزازُ الباب؛ لنجافه الذي يُلز به، وإنهُ لزازٌ خصمٌ، ولزاز مالٍ: مصلحٌ له، والنجافُ: العتبةُ.
قوله: (من أن يكون معطوفاً على (كَلِمَةُ)، قال صاحب "الكشف": التقدير: لولا كلمةٌ سبقت من ربك لكان لزاماً وأجلٌ مسمى لكان العذابُ لازماً لهم، فصل بين المعطوف والمعطوفِ عليه بـ"كان" واسمها وخبرها.
وتعمد آناء الليل وأطراف النهار مختصا لهما بصلاتك، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل، لاجتماع القلب وهدو الرجل والخلو بالرب. وقال الله عز وجل (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا)] المزمل: 6 [، وقال (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً)] الزمر: 9 [، ولأنّ الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار، إرادة الاختصاص، كما اختصت في قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)] البقرة: 238 [عند بعض المفسرين. فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وتعمد آناء الليل)، قال صاحب "المطلع": أي: بعض ساعات الليل، واحدها: أني، مثل: رحى، وإني: كمعي، وإني: كنحي.
قوله: (مختصاً لهما بصلاتك)، اعتبر في تقديم الظرف الاختصاص، وقدر "تعمدْ" لقرب معناهُ من قوله تعالى:(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)[البقرة: 40] أي: إياي ارهبوا فارهبون، وأريد بالاختصاص: الاهتمام؛ لأنه ليس المراد: خصص هذين الوقتين بالصلاة دون غيرهما، ويجوز أن يراد الاختصاص، أي: تعمد هذين الوقتين بالفضل وخصص فضيلتهما على سائر الأوقات.
قوله: (وهدوء الرجل)، الجوهري: أتانا فلانٌ هدوءاً، أي: بعد نومه، وبعدما هدأ الناس، أي: ناموا، والرواية:"هدو الزجل" بالزاي والجيم المفتوحة: الصوت.
قوله: (عند بعض المفسرين)، وهو مجاهدٌ، لقوله في قوله تعالى:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى)[البقرة: 238]: الوسطى هي الفجر؛ لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وبيان التشبيه هو أن (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) تناول صلاة الفجر والظهر والعصر، و (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ): صلاة العتمة، ثم جيء بقوله:(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) فعُلِمَ
قلت: ما وجه قوله (وَأَطْرافَ النَّهارِ) على الجمع، وإنما هما طرفان كما قال (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ)] هود: 114 [؟ قلت: الوجه أمن الإلباس، وفي التثنية زيادة بيان. ونظير مجيء الأمرين في الآيتين: مجيئهما في قوله:
ظهراهما مثل ظهور الترسين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منه صلاةُ المغرب وصلاةُ الفجر، على أن صلاة الفجر كررتْ على تلك الوتيرة، أي: على عطفِ الخاص على العام، فقوله:"على التكرار" متعلقٌ بصلاة الفجر بدليل قوله: "كما اختصت" أي: صلاةُ الفجر، لا صلاةُ المغرب والفجر كما ظن.
قوله: (مجيء الأمرين)، أي: التثنية والجمع.
قوله: (ظهراهما مثل ظهور الترسين)، قبله:
ومهمهين فدفدين مرتين
وبعده:
جبتهما بالنعت لا بالنعتين
المهمه: المفازة البعيدة، والرتُ، بسكون الراء: مفازةٌ لا نبت فيها ولا ماء، والفدفدُ: الأرض المستوية. والواوُ بمعنى رُبَّ وجوابُها: جُبتهُما، وظهراهُما: صُلباهما؛ لأن ظهرَ التُّرسِ يأتي بالنعتِ بالفرس، فرس نعتٌ: متناهٍ في الجري؛ لأن النعت: وصفُكَ الشيء بما فيه من الحُسن، هكذا ذكر الخليلُ، وكل شيءٍ جيدٍ بالغٍ فيه فهو نعتٌ. وقيل: المرادُ قطعُها ولم ُنعت لي إلا مرةً واحدةً يصفُ نفسه بالفطانة الخبرة بسلوك المفاوز. وقيل: إنما قال: ظهورُ الترسين، كراهة الجمع بين التثنيتين أحداهما في المضاف وثانيتهما في المضاف إليه، كقوله تعالى:(فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)[التحريم: 4].
وقرئ: (وأطراف النهار)، عطفا على (آناء الليل)، و (لعل) للمخاطب، أى: اذكر الله في هذه الأوقات، طمعا ورجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك. وقرئ:(ترضى)، أى يرضيك ربك.
(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى)[طه: 131].
(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أى نظر عينيك، ومدّ النظر: تطويله، وأن لا يكاد يرده، استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به، وتمنيا أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)] القصص: 79 [، حتى واجههم أو لو العلم والإيمان ب (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)] القصص: 80 [وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأنّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولعل للمخاطب)، أي: الترجي راجعٌ إلى المخاطب، كما أن الشك في قوله تعالى:(أَوْ يَزِيدُونَ)[الصافات: 147] راجعٌ إلى المخاطب لا إلى المتكلم سبحانه وتعالى.
قوله: (وقرئ: "تُرْضَى")، بضم التاء: الكسائي.
الراغبُ: رضي يرضى رضاً فهو مرضي ومرضُوٌّ، ورضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد هو: أن يراه مؤتمراً لأمره ومنتهياً عن نهيه، قال الله تعالى:(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[البينة: 8].
قوله: (باده الشيء)، بادهه: فاجأه، والاسم البداهة والبديهة
من أبصر منها شيئا أحب أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه: قيل (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أى لا تفعل ما أنت معتاد له وضاربه، ولقد شدّد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفرة. ويجوز أن ينتصب حالا من هاء الضمير، والفعل واقع على (مِنْهُمْ) كأنه قال: إلى الذي متعنا به -وهو أصناف- بعضهم وناسا منهم. فإن قلت: علام انتصب (زَهْرَةَ)؟ قلت: على أحد أربعة أوجه: على الذم وهو النصب على الاختصاص. وعلى تضمين (مَتَّعْنا) معنى أعطينا وخوّلنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((أَزْوَاجاً مِنْهُمْ): أصنافاً من الكفرة)، الراغبُ: الزوجُ يقال لكل من القرينتين من الذكر والأنثى، في الحيوانات المتزاوجة وفي غيرها، كالخُف والنعل، ولكل ما يقترنُ بآخر مماثلاً له أو مضادا. قال تعالى:(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)[الصافات: 22]. أي: أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم. وقال تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ)[طه: 131] أي: أشباهاً وأقراناً.
قوله: (ويجوزُ أن ينتصب حالاً من هاء الضمير)، أي: في (بهِ)، وتقديره: وهو أصنافٌ. وقوله: (منهم) على هذا: مفعولٌ به، والعاملُ (مَتَّعْنَا)، و"مِن": للتبعيض، و"ناسا" في الكتاب تفسيرٌ لقوله: بعضهم، المعنى: لاتمدن عينيك إلى أصناف الزخارف التي متعنا بها بعضاً من الكفرة كالملابس الفاخرة والمناكح المؤنقة والمراكب الفائقة والروائح الطيبة، وعلى الأول كان الفعلُ واقعاً على (أَزْوَاجاً) و (مِنْهُمْ): صفةٌ، و"مِن": بيانٌ، أي: لا تُمدنَّ عينيكَ إلى الزخارف التي متعنا بها أصنافاً من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين، قال صاحب "التقريب":(مِنْهُمْ) هو المفعولُ به.
قوله: (وعلى تضمين (مَتَّعْنَا) معنى أعطينا وخولنا)، أي: ملكنا، قال صاحبُ
وكونه مفعولا ثانيا له. وعلى إبداله من محل الجار والمجرور. وعلى إبداله من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"التقريب": فالباء في (بهِ) على هذا: للآلة، أي: إلى المال الذي أعطينا بسببه الكُفار (زَهْرَةَ)، إذ لو كان صلة (مَتَّعْنَا) لزم أن يكون له ثلاثةُ مفاعيل. وقال ابن الحاجب في "الأمالي": الأظهر أن تكون (زَهْرَةَ) منصوباً بفعل مضمرٍ دل عليه الكلام أي: جعلنا لهم أزواجاً، أو آتيناهم؛ لأنه إذا متعهم بها جعلها لهم وآتاها إياهم، وهذا قولُ الزجاج. وقال ابن الحاجب: ويجوزُ أن يكون الفعلُ المقدر: قولنا، أعني: بياناً لـ (مَا) أو للضمير في (به) أو لـ (أَزْوَاجاً) وهو الذي يُسمى نصباً على الاختصاص، وان يكون بدلاً من (أَزْوَاجاً) على حذف المضاف، أي: أهل زهرة الدنيا بدل الكل من الكل على المبالغة، كأنه جعلهم الزهرة على الحقيقة، وجعلهُ بدلاً من (به) ضعيفٌ؛ لأنه لا يقالُ: مررتُ بزيدٍ أخاك، ولأن الإبدال من الضمير العائد إلى الموصول يجعله من باب قولك: زيدٌ رأيتُ غلامه رجلاً صالحاً. وفي جوازها قولانِ، وكذا عند صاحب "التقريب".
قوله: (وعلى إبداله من محل الجار والمجرور)، هذا اختيار صاحب "الكشف"، قال: هو عندي بدلٌ من موضع "ما" في قوله: (إِلَى مَا مَتَّعْنَا)؛ لأن موضع الجار والمجرور نصبٌ، كقوله تعالى:(دِيناً قِيَماً)[الأنعام: 161]، وقوله:(مِلَّةَ أَبِيكُمْ) بعد قوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقوله تعالى: (وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
وقلتُ: أما وجه النصب على الاختصاص والذم فيقتضي تحقير شأنها وازدراء حالها، كقوله تعالى:(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ)[العنكبوت: 64] والمقامُ يأباه؛ لأن المعنى
(أزواجا)، على تقدير ذوى زهرة. فإن قلت: ما معنى الزهرة فيمن حرّك؟ قلت: معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة، كما جاء في الجهرة الجهرة. وقرئ:(أرنا الله جهرة)] النساء: 153 [. وأن تكون جمع زاهر، وصفا لهم بأنهم زاهروا هذه الدنيا، لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون، وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم، بخلاف ما عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن النفوس مجبولةٌ على النزوع إليها راغبة فيها حق رغبتها حتى لا تكاد ترغبُ عنها نفوسُ الأنبياء، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مد العينين إليها، ويعضده ما رويناه عن البخاري ومسلم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا"، قالوا: وما زهرةُ الدنيا يا رسول الله؟ قال: "بركاتُ الأرض".
وعن مسلم والنسائي عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون". ولتوافقه التعليل في قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)، ولاستشعار الخوف بسبب زخرفها وزينتها وبهجتها، ويجوز أن تكون (زَهْرَةَ) بدلاً من (أَزْوَاجاً) على تقدير أن تكون حالاً من هاء الضمير، فلا يحتاج إلى تقدير ذوي.
قوله: (كما جاء في الجهرة: الجهرةُ)، وهي إما: مصدرٌ كالغلبة، وإما جمعُ جاهر، قرأ يعقوب: زهرة، بفتح الهاء، والباقون: بسكونها.
قوله: (وتهلل وجوههم)، الجوهري: تهلل السحاب ببرقه: تلألأ، وتهلل وجه الرجل من فرحه واستهل.
قوله: (وشارتهم)، الشارة: اللباس والهيئة.
المؤمنون والصلحاء: من شحوب الألوان والتقشف في الثياب (لِنَفْتِنَهُمْ) لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب، لوجود الكفران منهم. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه (وَرِزْقُ رَبِّكَ) هو ما ادّخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم. أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوّة. أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال (خَيْرٌ وَأَبْقى) لأن الله لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى رزقا أصلا. وعن عبد الله بن قسيط عن رافع قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى يهودى وقال: «قل له يقول لك رسول الله أقرضنى إلى رجب» فقال: والله لا أقرضته إلا برهن، فقال رسول الله «إنى لأمين في السماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والتقشف)، الجوهري: والتقشفُ: أن يتبلغ بالقوت والمرقع.
قوله: (هو خيرٌ منه)، أي: مما متع به الكافر في نفسه؛ لأنه الخيرُ المحضُ الذي لا يشوبه مما يُكدرهُ في نسه، ولا يلحقه ما يفنيه.
قوله: (أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوة)، هذا الوجهُ أوفقُ لتأليف النظم على ما سبق، وعليه ينطبق قوله:(وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أي: دينُ الإسلام والنبوة من الكتاب والسنة خيرٌ فاشتغل بذلك وتمسك بالحبل المتين، (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)؛ لأن الذي بُعثتَ لأجله هؤلاء الخصال، لا لتكون تاجراً كسُوباً أو حريصاً بجمع الدنيا، فلا تهتم بأمر رزقك فن رزقك مكفيٌّ عندنا، ونحن رازقوك، ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، ففرغ بالك في التبليغ والإنذار والاشتغال بالعبادة والأمر بالمعروف لأهلك وأمتك، والعاقبة -أي: الجنةُ - لأهل التقوى، ولمن اتقى حُطام الدنيا وزينتها، كما جاء عن خير البرية:"ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا".
قوله: (لا أقرضته)، قيل: هو على سبيل الدعاء، كأنه قال: لا كان إقراضي إياه إلا برهن، كما تقول: لا رحمك الله، وأوجه من هذا أن يكون حاكياً لما يقوله بعد إقراضه برهن للمبالغة، هذا الوجه منقول من خطه.
وإنى لأمين في الأرض، احمل إليه درعي الحديد» فنزلت:(ولا تمدّنّ عينيك).
(وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)[طه: 132].
(وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أى وأقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة، فإنّ رزقك مكفىّ من عندنا، ونحن رازقوك ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ففرّغ بالك لأمر الآخرة. وفي معناه قول الناس: من كان في عمل الله كان الله في عمله. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله. وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصابت أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية.
(وَقالُوا لَوْلا يَاتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَ لَمْ تَاتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)[طه: 133].
اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوّة، فقيل لهم: أو لم تأتكم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعنى القرآن، من قبل أنّ القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة، وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كان الله في عمله)، قيل: كان ملائكة الله الموكلون بكفاية الأعمال في تحقيق عمله.
قوله: (خصاصة)، النهاية: الخصاصة: الجوع والضعف، وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء.
قوله: (أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة)، قال القاضي: لأن القرآن مشتمل على زُبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكُلية، مع أن الآتي به أميٌّ لم يرها ولم يتعلم ممن
شهادته على صحة ما فيها، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة. وقرئ:(الصحف). بالتخفيف. ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل.
(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى)[طه: 134]
قرئ (نَذِلَّ وَنَخْزى) على لفظ ما لم يسم فاعله.
(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)[طه: 135].
(كُلٌّ) أى كل واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم. وقرئ: (السواء)، بمعنى الوسط والجيد. أو المستوى والسوء والسوأى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علمها، وفيه إشعارٌ بأن القرآن، كما يدلُّ على نبوته، برهانٌ لما تقدمه من الكتب، من حيثُ إنه مصداقٌ لها وهو معجزٌّ وتلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهدُ على صحتها.
قوله: (ذكر الضمير)، أي: في قوله: (مِنْ قَبْلِهِ)، والظاهر أنه راجعٌ إلى معنى (تَاتِيهِمْ)، أي: قبل مجيء البينة ويؤيده قوله: (لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) لأن مجيء هذه البينة لا يكون إلا مع إرسال الرسول.
قوله: (كل واحدٍ منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) للعاقبة وما يؤول إليه أمره)، فيه معنى المتاركة وأن الإنذار والتذكير بلغ غايته. كقوله تعالى:(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الزخرف: 89].
اعلم أن هذه خاتمةٌ شريفةٌ ناظرةٌ إلى الفاتحة، وهي قوله تعالى:(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 2 - 3]، فإنه تعالى لما أمر حبيبه صلوات الله عليه
والسوي تصغير السوء. وقرئ: (فتمتعوا فسوف تعلمون). قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة (طه) أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار» وقال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا (طه) و (يس)» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالإعراض عن الكفار وعما أوتوا من زهرة الدنيا والإقبال بكليته إلى دين الحق والاشتغال بالعبادة والصبر عليها وبأمر أهله، أي: أمته به رمز إلى ما بُدئ به، أي: اشتغل بالعبادة على مقدار طاقتك وصبرك، وأمُر من ينجعُ فيه تذكيرك ووعظُك. وأما هؤلاء المعاندون الذين ما توانيت في إنذارهم، وألزمت الحجة عليهم، وظهر إفحامهم حيث اقترحوا الآيات (وَقَالُوا لَوْلا يَاتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وأنت قد أتيت بأم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز، يعني: القرآن، فأعرض عنهم واتركهم؛ لأن التذكير إنما ينفع فيمن يخشى، وأوعدهم بقولك:(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى)[طه: 135].
والحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على خير أنبيائه
تمت بحمد الله وحسن توفيقه
سورة الأنبياء
مكية وآياتها اثنتا عشرة ومئة
بسم الله الرحمن الرحيم
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 1].
هذه اللام: لا تخلو من أن تكون صلة ل (اَقَتَرَبَ)، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الأنبياء
مكية، وهي مئة واثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم)، الأصل: اقترب حسابُ الناس، كقوله: أزف رحيلُ الحي. ثم اقترب للناس الحساب، كقوله: أزف للحي الرحيلُ، فقدم المضاف إليه، وعرفا لناس تعريف جنس: ليفيد ضرباً من الإبهام والتبيين، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف؛ لأنه ليس صلة (اقْتَرَبَ) فصار مثل: حسابٌ للناس الحساب، فحذف المفسر
كقولك: «أزف للحي رحيلهم» الأصل: أزف رحيل الحىّ، ثم أزف للحىّ الرحيل، ثم أزف للحىّ رحيلهم. ونحوه ما أورده سيبويه في «باب ما يثنى فيه المستقرّ توكيدا» عليك زيد حريص عليك. وفيك زيد راغب فيك. ومنه قولهم: لا أبا لك: لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من الأوّل. والمراد اقتراب الساعة. (وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب) والعقاب وغير ذلك. ونحوه (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ)[الأنبياء: 97] ..
فإن قلت: كيف وصف بالاقتراب وقد عدّت دون هذا القول أكثر من خمسمائة عام؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لدلالة المفسرِ عليه. ولما كان الحسابُ لا يتعداهم جيء بضمير الناس ليعود إليهم فيحصل تأيدٌ آخرُ نحو: أزف للحي رحيلهم، فعلى هذا: فيك زيدٌ راغبٌ فيك. الأصلُ: زيدٌ راغبٌ في، ثم قدم "فيك" فصار معمولاً لمقدرٍ لإعادة "فيك"، وإليه الإشارةُ بقوله:"وهذا الوجه أغربُ". وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يكون التقدير: اقترب لمجازات الناس حسابهم، فيكون (لِلنَّاسِ) مفعولاً له، كقولك: جئتك للسمن، أي: لحصوله، وقيل: إذا جُعِل اللامُ صلةً كان المقترب له، أي: المدنو منه مذكوراً، وإذا جُعِل تأكيداً للإضافة لم يكن مذكوراص.
قوله: (أزف للحي رحيلُهم) يأزف أزفاً، أي: دنا.
قوله: (المستقر) وهو الظرفُ الذي يقع خبراً محتاجاً إليه، وسُمي مستقراً؛ لتعلقه بفعل الاستقرار، فهو مستقرٌّ فيه، فحذف "فيه" اختصاراً، والظرفُ اللغو: ما كان فضله، ولو حُذف لكان الكلام مستقيماً، الظرفُ في المثال لغوٌ، فسماه مستقراً مجازاً.
قوله: (وقد عدت دون هذا القول أكثر من خمس مئة عام) أي: عدت أزمنة أكثر من خمس مئة عام بعد هذا القول.
قلت: هو مقترب عند الله والدليل عليه قوله عز وجل (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)[الحج: 47] ولأنّ كلّ آت - وإن طالت أوقات استقباله وترقبه - قريب، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأنّ ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقال عليه السلام «بعثت في نسم الساعة» وفي خطبة بعض المتقدّمين:"ولت الدنيا حذاء، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء". وإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بُعثتُ في نسم الساعة)، قيل: بقيته: "إن كادت لتسبقني". النهاية: في الحديث: "بُعثتُ في نسم الساعة"، وهو جمع نسمة، أي: بُعثتُ في ذوي أرواح خلقهم الله قبل اقتراب الساعة، كأنه قال: آخر النشء من بني آدم، النسمةُ: النفس والروح.
الجوهري: "نسم الساعة": حين ابتدأت وأقبلت أوائلها، ونسمُ الريح: أولها حين تُقبل، ويؤيده ما جاء:"بُعثتُ في الساعة فسبقتها كما سبقت هذه لهذه" لإصبعيه: السبابة والوسطى، أخرجه الترمذي عن المستورد.
قوله: (وفي خطبة بعض المتقدمين 9، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": هو عتبة بن غزوان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد كلها، وهو الذي اختط البصرة. وخطبته بعد الحمد لله والثناء عليه: "أما بعدُ، فإن الدنيا قد آذنت بصُرْمٍ وولتْ حذاء، وإنما بقي منها صبابةٌ كصبابة الإناء، وأنتم منقلبون عنها إلى دارٍ لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما
كانت بقية الشيء -وإن كثرت في نفسها- قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ المراد ب"الناس": المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين.
وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحضرتكم" وفيها: "ولقد رأيتُني وأنا سابعُ سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعامٌ إلا ورقُ الشجر حتى تقرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت ببعضها، واتزر سعدٌ ببعضها، فما أصبح منا اليوم واحدٌ إلا وهو أميرٌ على مصرٍ من الأمصار، فإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً، وعند الناس صغيراً". ورواه صاحب "رياض الصالحين" عن مُسلم، عن خالد بن عمير العدوي.
آذنت: أعلمتْ. بصُرْم: بانقطاع وفناء. الصبابةُ، بضم الصاد المهملة: البقية اليسيرة.
النهاية: حذاءَ، بالحاء المهملة، الذال المعجمة مشددة، وبالمد: الخفيفة السريعة، وفي حديث علي رضي الله عنه: بيدٍ حذاء، أي: قصيرةٍ لا تمتد إلى ما تريد.
قوله: (من إطلاقِ اسم الجنس على بعضه للدليل القائم). قد سبق أن تعريف الجنس يحتملُ الكل والبعض، وهو كاللفظ المشترك، مفتقرٌ في تعيين المراد إلى انتهاض القرينة. فـ"الناسُ" في قوله:(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ): للجنس، مُحتملٌ لأن يُراد به الناسُ من لدُنْ آدمَ على تلك المدة، وأن يُراد البعضُ، والقرينة هاهنا لإرادة الثاني قوله:(مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) الآية، وهو المراد من قوله:"هو ما يتلوه من صفات المشركين".
قوله: (وصفهم بالغفلة مع الإعراض)، أي: أوقع (مُعْرِضُونَ) خبراً بعد خبرٍ لضميرِ
لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا.
(ما يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَاتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء: 2 - 3].
قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ: بأنّ الله يجدّد لهم الذكر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"هم"، ألا ترى كيف أوقع "غافلون عن حسابهم" خبر "أنّ" في قوله:"على معنى أنهم غافلون"؟ وقال أبو البقاء والقاضي: ويجوز أيضاً أن يكون الظرفُ حالاً من الضمير في (مُعْرِضُونَ).
قوله: (وإذا قُرعت لهم العصا). أصلُ المثل على ما قاله الميداني: "إن العصا قُرعت لذي الحلم" أولُ من قُرعت له عمرو بن مالك الكناني، يُضربُ لمن إذا نُبه انتبه. مضى بيانه في أول "البقرة".
قوله: (قُرر إعراضُهم) على ما لم يُسم فاعله، عطفٌ على "ما وصفهُم". ولو قرئ معروفاً كان ظاهراص، يعني: جيء بقوله: (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) بغير عاطفٍ مؤكداً للجملة الأولى، مقرراً لها، لما فيه من معنى الإعراض والغفلة، مع تنبيه المنبه وقتاً فوقتاً.
وقتا فوقتاً، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر - التي هي أحق الحق وأجدّ الجدّ - إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. و"الذكر": هو الطائفة النازلة من القرآن.
وقرأ ابن أبى عبلة "مُحْدَثٍ" بالرفع صفة على المحل.
قوله (وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حالان مترادفتان أو متداخلتان. ومن قرأ "لاهِيَةً" بالرفع فالحال واحدة، لأن "لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ" خبر بعد خبر، لقوله (وَهُمْ) واللاهية: من لها عنه إذا ذهل وغفل، يعنى أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلا، وثبتوا على رأس غفلتهم وذهولهم عن التأمّل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حالان مترادفتان)، وهي أن يُجعلا حالين من الضمير في (اسْتَمَعُوهُ)، أو متداخلتان بأن يُجعل (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حالاً من الضمير في (اسْتَمَعُوهُ) و (لاهِيَةً) حالاً من الضمير في (يَلْعَبُونَ).
قوله: (كأنهم لم يفطنوا أصلاً)، يعني: أفاد قوله: (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ) أنهم فطنوا كل ما تجدد لهم من الذكر آية فآية، وسورةٌ فسورة، فطنةً لا مزيد عليها، بدلالة "مِن" الاستغراقية وأداة احصر، وأفاد قوله:(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أنهم ذاهلون غافلون عن ذلك، فنفى آخرُ الكلام ما أثبته أولاً على سبيل التوكيد؛ ليؤذن بأنهم لما لم ينتفعوا بذلك الاستماع والتفطن، حيث استهزؤوا بالذكر، كأنهم لم يفطنوا أصلاً، وثبتوا على رأس غفلتهم، ونحوه قوله تعالى:(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[البقرة: 102]، أكد إثبات العلم أولاً بالقسيمة، ثم نفاهُ نفياً كلياً لعدم جريهم على موجب العلم.
والتبصر بقلوبهم. فإن قلت: (النجوى) وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية، فما معنى قوله (وَأَسَرُّوا)؟ قلت: معناه: وبالغوا في إخفائها. أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون.
أبدل (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من واو (وأسرّوا)، إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو جاء على لغة من قال «أكلونى البراغيث» أو هو منصوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اسمٌ من التناجي). الجوهري: النجوُ: السر بين اثنين، يقال نجوتُه نجوى، أي: ساررته، والاسم: النجوى، وقال الفراء: قد يكون النجي والنجوى اسماً ومصدراً، قال تعالى:(وَإِذْ هُمْ نَجْوَى)[الإسراء: 47] فجعلهم هم النجوى، وإنما النجوى فِعلُهم.
قوله: (بالغوا في إخفائها)، أي: أسروا قول التناجي، تلخيصه: وأسروا السر.
قوله: (أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد)، معناه: وأسروا فعل التناجي، أي: جعلوها في الخلوة، ولا يبعد في الأول أن يعلم تناجيهم، لكن لا يفطن قطعاً ما أسروا به.
قوله: (إشعاراً بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش)؛ لأن في الإبدال فائدة البيان والتوكيد كما سبق في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ)[الفاتحة: 7 - 8] والذي خص هذا الموضع من الفائدة ما ذكره؛ لأنه أبدل المظهر من المضمر وخصه بذكر الظلم للإشعار بقُبح ما أسروا به وأنه الظلمُ الفاحش.
قوله: (أو جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث)، قيل: هي لغة أزدِ شنؤةَ، وفيه شذوذان، أحدهما: تعددُ الفاعل، وثانيهما: جعلُ ضمير اولي العلم لغيره. واعتذر للأولِ أبو عبيدة، وقال عن بعضهم: إن العرب قد يُظهرون عدد القوم في فعلهم إذا بدؤوا بالفعل. قال أبوعمرو الهذلي: أكلوني البراغيث، فجاء بلفظ الجمعِ في الفعل، وأظهر الفاعلين بعده.
المحل على الذم. أو هو مبتدأ خبره (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) قدم عليه: والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو البقاء: الواو حرفٌ للجمع لا اسمٌ. قيل جيء بالواو وهي حرفٌ للدلالة على أن الفاعل جمعٌ، كما يُجاءُ بالتاء للدلالة على أن الفاعل مؤنث. واعتذر للثاني الزجاج، حيث قال لما وُصفت البراغيثُ بالأكل، قيل: أكلوني. قال الشاعر:
تمززتُها والديكُ يدعو صباحه
…
إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا
قوله: (فوضع المظهر موضع المضمر)، هذا يوهم أن "هؤلاء" في تقديره:"وهؤلاء أسروا النجوى" مُضمرٌ وُضع موضع (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وليس بذلك؛ لأنه مثلُ "الذين" على قول من قال: "أولاءِ" موصولةً، إذ الأصلُ: هم أسروا النجوى، لاقتضاء قوله:(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ذلك.
كشف الله تعالى عن معنى قوله: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) بثلاثة أنواع من القبائح، أحدها: أنهم استمعوا الذكر استماع تفطن، لكنهم قرنوا بذلك الاستهزاء. نقل الواحديُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى (إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ): يستمعون القرآن مستهزئين.
وثانيها: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)، قال القاضي:(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يستهزئون لتناهي غفلتهم، وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب؛ جعل (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) علةً لقوله:(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) على تداخل الحالين، والأولى أن يجعل لاهية قلوبهم أمراً مستقلاً عن ترادف الحالين، أنه قيل: يستمعون مستهزئين، كأنهم ما يستمعون؛ لأنهم ما انتفعوا
(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَاتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من (النجوى)، أى: وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق ب"قالوا" مضمرا: اعتقدوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر.
فإن قلت: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه. وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم، ويتجاهدوا في طىّ سرّهم عنهم ما أمكن وأستطيع. ومنه قول الناس «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يسرّوا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه.
(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الأنبياء: 4].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
به؛ ليؤذن به أن استماعهم ذلك لم يكن استماعاً؛ لأنهم ما عملوا بموجبه، بل عكسوا حيث لعبوا، فهم على رأس غفلتهم.
ثالثها: أنهم ما اكتفوا في العناد على هذا المقدار حتى بالغوا في التناجي خُبثاً ودهاءً ليُظهروا للأتباع أن ذلك ليس للعناد، بل لأنه سحرٌ باطل، فهو الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه، وظهر بهذا أن الجواب الثاني للمتصور في النفس قبل الإبراز باللفظ عن قوله:"لم أسروا" وهو قوله: "ويجوز أن يُسروا نجواهم بذلك" ضعيفٌ.
قوله: (وعمل المنصوبة). الجوهري: النصيب: الشركُ المنصوبُ، ويقال: فلانٌ سوى منصوبةً، وهي في الأصل صفةٌ للشبكة أو الحبالة، فجرت مجرى الأسماء كالدابة.
فإن قلت: هلا قيل: يعلم السر لقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)] الأنبياء: 3 [؟ «1» ؟ قلت: القول عام يشمل السرّ والجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ، كما أنّ قوله: يعلم السرّ، آكد من أن يقول: يعلم سرهم. ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (القول عام). الراغب: القول يستعمل على وجه: أظهرها: أن يكون للمُركبِ من الحروف المبرز بالنطق مفرداً كان أو جملةً. الثاني: للمتصور في النفس قبل الإبراز باللفظ فيقال: في نفسي قولٌ لم أظهره، قال تعالى:(وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ)[المجادلة: 8]، فجعل ما في اعتقادهم قولاً. الثالث: للاعتقاد، نحو: فلانٌ يقولُ بقول أبي حنيفة. الرابعُ: للدلالة على الشيء، قال الشاعر:
امتلأ الحوضُ وقال قطني
الخامس: للعناية الصادقة بالشيء نحو: فلانٌ يقول بكذا، والسادس: يستعمل في معنى الحد فيقال: قول الجوهر كذا، وقول العرض كذا أي: حدهما. السابع: للإلهام نحو: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ)[الكهف: 86]، فإن ذلك لم يكن بخطاب فيما رُوي، وقيل في قوله تعالى:(قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[فصلت: 11]: إن ذلك [كان] بتسخير لا بخطاب. وكذا في قوله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً)[الأنبياء: 69].
قوله: (ثم بين ذلك بأنه السميع العليم) يحتملُ أن يراد أن الجملة حالٌ من فاعل (يَعْلَمُ)، والحالُ بيانٌ، أو مُذيلة، وفيها نوعٌ من التأكيد والبيان، لكن قوله:"بأنه السميع العليم لذاته" مذهبه.
وفي "شرح السنة": على العبد أن يعتقد أن الله تعالى عالمٌ له علمن وسميعٌ له سمع،
فإن قلت: فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)] الفرقان: 6 [؟ قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتنّ الكلام افتنانا، وتجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)[البقرة: 255]، (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء: 17]، (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 134]، (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46].
قال في "الانتصاف": (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إثباتُ صفتين لله تعالى، والزمخشري يحرفهما عن مواضعهما، فيكونُ سميعاً بصيراً لذاته، والصفات مشتقاتٌ من المصادر لا تثبتُ إلا بمصادرها، فمن أنكر السمع والعلم فقد تسارع على إنكار السميع العليم، وتحقيقُ هذا يُعلمُ من الكلام، وإنما الزمخشري إذا ادعى أن الآية ظاهرةٌ له بينا خلافه، أو حرف شيئاً عن موضعه نبهنا عليه، وهذه الآية خاصة تعسف فيها، وخالف نصها.
قوله: (ليفتن الكلامُ). الجوهري: الفنُّ: واحدُ الفنون، وهي الأنواع، والأفانينُ: الأساليبُ، وهي أجناسُ الكلام وطرقه. وافتن الرجل في حديثه: إذا جاء بالأفانين.
قال صاحب "الفرائد": ما ذكر يوجب أن يكون البعضُ في الدرجة العليا من البلاغة والفصاح، والبعض نازلا ًعنها، ومنحطاً في الدرجة، هذا لا يجوز. والافتنان إنما يحسنُ إذا كان غير مفضٍ إلى نزول البعض؛ لأنه يُنبئ عن نقصان البعض، بل الافتنان المستحسن: أن يكون الكل في الدرجة العليا ويبدل بعض اللفظ بالبعض باعتبار اقتضاء الموارد والموضع، لا بالنزول من الأعلى إلى الأسفل؛ لأنه يكون اختلافاً وتفاوتاً في البلاغة والفصاحة.
والجواب عن قوله: "بل الافتنان المستحسنُ أن يكون الكل في الدرجة العُليا" أنْ
تلك الآية خلاف أسلوب هذه، من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إن ربى يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال: إن أردت به أن التراكيب بأسرها ينبغي أن تكون مفرغةً في قالب المبالغة، فهو غير مسلم، فكم من تركيب في كلام الله المجيد تجده ابتدائياً ليس فيه رائحة المبالغة، وترى تراكيب فيه بلغت في المبالغة الدرجة القُصيا، وإن أردت أن التركيب في استعماله في مقامه ينبغي أن يكون في الدرجة العليا، فهذا لا ننكره؛ لأن مقامات المقاولة ومقتضيات الأحوال تتغيرُ وبحسبها يتغير اللامُ، فمن مقام يقتضي الخلو عن التأكيد، فإثباته خروجٌ عن مقتضى البلاغة، ومن مقام يستدعي توكيداً ما، فلا يؤتي بالآكد؛ لأن البلاغة هي: إصابة المحز، وتطبيق المفضل، ومراعاةُ وجه النظم، ومن ثم لم يقع التحدي بأقل من سورة.
قوله: (من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى) إلى قوله: (فوضع القول موضع ذلك للمبالغة)، قال صاحب "التقريب": فيه نظرٌ؛ لأن تلخيص كلامه يؤول إلى أن اللام في القول للعهد، وقد تقدم هاهنا معهودٌ دون ثم؛ إذ لو أراد الجنس لم يؤثر تقدم شيء عليه، لكنه حينئذٍ يفوت كونه أوكد، إذ القول المعهود والسرُّ واحد.
وقلت: مغزى كلامه: أن اللام إن جعلته للعهد لم يحصل التأكيدُ. قُلنا: نختارُ الأول. فلا نُسلمُ عدم تأثيره؛ لأن المراد من الثاني العامُّ الذي سيق لقصد الخاص، فيدخل فيه الأول دخولاً أولياً؛ ولذلك كان آكد، فعلى هذا مبنى لامه حيثُ قال:"على أن أسلوب تلك الآية خلافُ أسلوب هذه"، يعني: إيرادُ هذا القول الذي هاهنا مسبوقق بإيراد إخفائهم سرهم
وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو كقوله:(علام الغيوب)(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ)] سبأ: 3 [. وقرئ (قالَ رَبِّي) حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَاتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)[الأنبياء: 5].
أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونجواهم أقصى الغاية لينبههم به على أن إخفاءهم ذلك لا يجديهم شيئاً؛ لأنه تعالى يعلمُ القول، الذي هو الجنسُ الشائعُ للجهر، والهمس والسر وأخفى منه، فيدخل سرهم في هذا العام بالطريق البرهاني كما سبق غير مرةٍ.
وأما سياقُ قوله (أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ)[الفرقان: 6] فعلى ابتداء إثبات صفة العلم من كلام سابق؛ لأن المراد من قوله: (يَعْلَمُ السِّرَّ) ما أسروه في قولهم: (إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان: 4 - 5]؛ لأنهم أيقنوا أن الأمر على خلافه، ولكن قصدوا بذلك إيقاع الشبه في قلوب الناس؛ ولهذا قال: ومن جملته ما تسرونه من الكيد لرسوله مع علمكم أنما تقولونه باطل. فالمراد من السر ما يتضمنه قولهم: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) فقيل: لا يعلمُ ذلك إلا عالمُ الغيب والشهادة، كقوله:(عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)[المائدة: 109](عَالِمَ الْغَيْبِ)[الجن: 26](لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)[سبأ: 3]، فإذن القصدُ في الثاني إجراءُ الوصف على الله عز وجل. وفي الأول تقريرُ ما مر من المعنى السابق والمبالغة فيه.
قوله: (وقرئ: (قَالَ رَبِّي)): أبو عمرو، وحفص، والكسائي.
عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الباطل لجلج) هو من قولهم: الحق أبلج، والباطلُ لجلج. قال الميداني: يعني: أن الحق واضحٌ، يقالُ: صبحٌ أبلج، أي: مشرق، ومنه قوله:
حتى بدت أعناقُ صبح أبلجا
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "أبلج الوجه" أي: مشرقه. "والباطلُ لجلج" أي: ملتبسٌ. قال المبردُ: قولٌ لجلج، أي: يترددُ فيه صاحبه ولا يصيب منه مخرجاً.
ومقصودُ المصنف من هذا الاستشهاد: بيانُ أن إضراب الكفرة عن قولهم: هو سحرٌ، إلى أنه تخاليطُ أحلام، إلى آخره، ليس على النسق السوي، بل هو خبط عشواء، وفعل المتحير من غير تمييز بين مضربٍ عنه ومُضربٍ عنه، يدل عليه قوله بعد ذلك:"ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله لأقوالهم"، يعني: انه تعالى أتى بأقوالهم، ونزلها على سبيل التدرج والترقي ليؤذن بفاسدها وأفسدها، فظهر من هذا أن الإضراب فيا لوجه الأول واقعٌ في لام الكفرة، وانه تعالى حاك إضرابه الواقع في كلامهم. وفي الثاني الإضراب واقعٌ في كلام الله تعالى، وأنه تعالى حكى كلامهم. وفي الوجه الأول إشكالٌ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل: قالوا بل أضغاث أحلام. ويمن أن يقال: إن (قَالُوا) زيادةُ تأكيدٍ لما يتضمن قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ) من القول، يؤيده قوله تعالى:(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ)، فإنه يدل على أنه صدر منهم قولٌ سراً لطول الكلام. وسبق مثله في "يونس" عند قوله:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) إلى قوله: (قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ)[يونس: 59] في وجهٍ.
وأما بيانُ الترقي في الوجه الثاني: فأن يقال: إن نسبتهم القرآن إلى السحر فاسدٌ؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا حقٌ، وذلك باطلٌ، وأنى يُشبه هذا السحر (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) [الطور: 15]؟ ثم إن قولهم: إنه أضغاث أحلام، أي: تخاليطها، أفسد منه؛ لأن تشبهي النظم المعجز الفائق بالسحر أقربُ من ذلك، كقوله:"إن من البيان لسحرا"، لكن أين هذا من التخاليط: إنه (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[هود: 1] ثم قولهم: إنه كلامٌ مفترى من عنده أبعد من ذلك؛ لأنهم لم يحرروا أنفسهم، ولم يدركوا أن قوى البشرية وإن استفرغت طوقها، لا تطيق على الإتيان بمثله:(فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)[هود: 13]؛ ولأن المفترى مبطل، وكلامه باطل، وهذا (لا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].
ثم قولهم: إنه قول شاعر، أبعد وأفسد؛ لأن الشعر: متخيلات ملفقة وتخرصاتٌ مزخرفةٌ تدعو إلى الهوى والشيطان، وهذا يدعو إلى الهدى وطاعة الرحمن:(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)[يس: 69 - 70]، وهذا الوجه أدل على التحير من حيث الحقيقة.
الراغب: (بل): للتدارك، وهو ضربان: ضربٌ يناقض ما بعده ما قبله لكن ربما يقصد لتصحيح الحكم الذي بعده، وإبطال ما قبله، قال تعالى:(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ)[المطففين: 13 - 14]، أي: يس الأمر كما قال، بل جهلٌ، أو يقصد به تصحيح الأول، وإبطال الثاني، كقوله تعالى:(فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) إلى قوله: (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)[الفجر: 15 - 17]، أي: ليس إعطاؤه من الإكرام، ولا منعه من الإهانة، لكن جهلوا وظلموا، حيثُ وضعوا المال في غير موضعه، والضرب الثاني: أن يكون (بل) مبيناً للحكم الأول وزائداً عليه بما بعده، نحو:(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ)، فإنه نبه أنهم يقولون: أضغاثُ أحلام، ويزيدون على ذلك بأن
والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد.
ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد: وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذلك الرابع من الثالث.
صحة التشبيه في قوله (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) من حيث أنه في معنى: كما أتى الأوّلون بالآيات، لأنّ إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول: أرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وبين قولك: أتى محمد بالمعجزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي أتى به مُفترىً، بل يزيدون ويدعون أنه كذاب؛ فإن الشاعر في القرآن عبارةٌ عن الكاذب بالطبع.
قوله: (لا فرق بين أن تقول: أرسل محمدٌ صلى الله عليه وسلمن وبين قولك: أتى محمدٌ بالمعجزة)، قيل: فيه نظرٌ؛ لأن قوله: أرسل محمدٌ، إثباتٌ للرسالة؛ لأنها ثبتت بإرسال الملك، وقوله: أتى بالمعجزة، إظهارٌ للرسالة، وما تثبت به النبوة غير ما تظهر به الرسالة.
قلتُ: ليس مراده من قوله: "لا فرق
…
" أن معنى العبارتين سواءٌ، بل مراده أن مؤدى العبارتين سواءٌ، فإن قولك: أُرسل محمدٌ صلواتُ الله عليه معناه: أنه ادعى الرسالة، وأتى بالمعجزة، فثبتت رسالته، وقولك: أتى محمدٌ بالمعجزة، مؤداه: ادعى الرسالة وأتى بالمعجزة، فيكون رسولاً. والأول كنايةٌ، والثاني تصريحٌ، ومؤداهما واحدٌ، ألا ترى إلى تفسيره لقوله تعالى:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]؟ قولك: يد فلانٍ مبسوطةٌ، بمعنى أنه جواد، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلتُ، يعني: كون أحدهما كنايةً، والآخر صريحاً، والكناية أشرح وأبسط.
فإن قلت: ما فائدة العدول؟ قلتُ: لو قيل: كما أتى الأولون لكان من القصد بمعزل؛
(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء: 6].
(أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا أو خالفوا، فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث.
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[الأنبياء: 7].
أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب، حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، وإنما أحالهم على أولئك لأنهم كانوا يشايعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن قصدهم: فليأتنا بآية مثل ما أتى به المرسلون نحو موسى وعيسى عليهما السلام من قلبِ العصا ثعباناً، وإحياء الموتى، لا كغيرهما من الأنبياء.
قوله: (فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم)، وكان أصلُ الكلام: ما آمنت قبل هؤلاء المشركين أهل قريةٍ أردنا إهلاكها بسبب عنادهم، فهؤلاء أيضاً لا يؤمنون، ثم أدخل همزة الإنكار والاستبعاد؛ لتدل على الإدماج، وأن هؤلاء أعتى من السابقين. فقوله:(مَا آمَنَتْ) متعلقٌ بقوله: (فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ)؛ لأنهم لما طعنوا في القرآن، وأنه معجزةٌ وبالغوا فيه حتى أخذوا من قوله:(أَفَتَاتُونَ السِّحْرَ) إلى أن انتهوا إلى قوله: (فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ) وأرادوا انه ليس من جنس اليد البيضاء، والعصا، وإبراء الأكمه وإحياء الموتى، علم أنهم مُعاندون، فقيل مُسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الإنذار لا يُجدي فيهم بقوله:(مَا آمَنَتْ) الآية.
قوله: (يشايعون المشركين). الجوهري: شيعةُ الرجل: أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه كما يُقال: والاه، والمشايعُ أيضاً: اللاحق.
قال الله تعالى (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً)] آل عمران: 186 [فلا يكاذبونهم فيما هم فيه ردء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَاكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ)[الأنبياء: 8].
(لا يَاكُلُونَ الطَّعامَ) صفة ل (جَسَدَاً)، والمعنى: وما جعلنا الأنبياء عليهم السلام قبله ذوى جسد غير طاعمين. ووحد الجسد لإرادة الجنس، كأنه قال: ذوى ضرب من الأجساد. وهذا ردّ لقولهم (مالِ هذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعامَ)[الفرقان: 7].
فإن قلت: نعم قد ردّ إنكارهم أن يكون الرسول بشرا يأكل ويشرب بما ذكرت.فماذا ردّ من قولهم بقوله (وَما كانُوا خالِدِينَ)؟ قلت: يحتمل أن يقولوا إنه بشر مثلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً)[آل عمران: 186]) استشهدبها على اتفاق كلمتهم على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عطف (من الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على (مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ونبه بصلة الموصول على علة الأذى.
قوله: (ردءٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: عونٌ له، أي: لا يكاذبُ أهلُ الكتاب المشركين، أي: لا يكذبُ في الذي هم [فيه] عونٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا ملائكة، يعني: كانوا متفقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وكيف لا وفي مخالفتها إبطالُ دينهم؟ وقيل [قوله]:"لرسول الله" متعلقٌ بـ"فلا يكاذبونهم"، أي: لأجل الرسول، وفيه نظرٌ؛ لبقاء "ردءٌ" لا متعلق له، وأن المعنى لا يساعد عليه.
قوله: (ذوى ضربٍ من الأجساد)، أي: نوع منها. قال أولاً: لإرادة الجنس، وفسره بالنوع لأن الجسد جنسٌ تحته نوعان من الحيوان والجماد، فالحيوانُ الجنسُ السافل.
قوله: (يحتمل أن يقولوا: إنهُ بشرٌ)، أجاب أن قوله:(وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) ردٌّ لما لزم من
يعيش كما نعيش ويموت كما نموت. أو يقولوا: هلا كان ملكا لا يطعم ويخلد: إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون. أو مسمين حياتهم المتطاولة وبقاءهم الممتدّ خلودا.
(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)[الأنبياء: 9].
(صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) مثل (واختار موسى قومه)[الأعراف: 155]. والأصل "في الوعد": و"من قومه". ومنه:
صدقوهم القتال. وصدقنى سنّ بكره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولهم: إنه بشرٌ مثلنا يعيشُ كما نعيشُ، ويموتُ كما نموتُ، أن النبي يجب أن يكون خالداً كالملك، أو ردٌّ لما صرحوا به من قولهم: هلا كان ملكاً لا يطعم، ويخلد؟
قوله: (صدقني سن بكره)، قال الميداني: البكر: الفتيُّ من الإبل، يقال: صدقته الحديث، وفي الحديث، يُضربُ مثلاً في الصدق. أصله أن رجلاً ساوم رجلاً في بكرٍ، فقال: ما سنه؟ فقال: بازلٌ، ثم نفر البكر فقال صاحبه: هدع هدعْ، وهذه لفظةٌ يسكنُ بها الصغار من الإبل، فلما سمع المشتري هذه الكلمة قال: صدقني سن بكره، ونصب سن على معنى عرفني سنَّ، أو: صدقني خبر سنِّ، ثم حذف، ويُروى بالرفع، فجعل الصدق للسنِّ توسعاً.
الراغب: صدق قد يتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ)[آل عمران: 152]، وصدقته؛ نسبته إلى الصدق، وأصدقته: وجدته صادقاً، وقيل: هما واحدٌ، ويقالان فيهما جميعاً، قال تعالى:(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ)[البقرة: 101]، ويستعمل التصديق في كل ما هو تحقيقٌ. يقال: صدقني فعله وكتابُه، قال الله تعالى:(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ)[البقرة: 89]، والصداقة: صدقُ الاعتقاد في المودة، وذلك مختصٌّ بالإنسان، قال تعالى:(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)[الشعراء: 100 - 101].
(وَمَنْ نَشاءُ) هم المؤمنون ومن في بقائه مصلحة.
(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء: 10].
(ذِكْرُكُمْ) شرفكم وصيتكم، كما قال (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف: 44] أو موعظتكم. أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر، كحسن الجوار، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والسخاء، وما أشبه ذلك.
(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَانا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَاسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((ذْكُرْكُمْ): شرفكم وصيتكم). الأساس: ذكرته ذكراً وذكرى، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55]، ومن المجاز: له ذكرٌ في الناس، أي: صيتٌ وشرف.
قوله: (أو موعظتكم)، قال الزجاج: فيه تذكرةٌ لكم فيما تلقونه من رحمة أو عذاب كما قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ)[عبس: 11].
قوله: (تطلبون بها الثناء الحسن) أي: فيه ما يطلبون به الصيت والشرف، والفرق بين هذا، وبين الوجه الأول هو أن- على الأول - المراد بالكتاب كما هو موجبٌ لصيتكم؛ لأنه منزلٌ بلسانكم ولغتكم، فإذا اشتهر اشتهرتم. وعلى الثاني: إذا عملتم بما فيه حصل لكم مكارمُ الأخلاق فحسن بذلك صيتكم، فذكر "الذكر"، وأراد مكارم الأخلاق الموجبة للثناء الحسن، فيكون من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب أو يكون كناية تلويحية، ويعني: فيه ذكر ما تطلبونه من مكارم الأخلاق فتحروا فيه، واجتهدوا على العمل بما فيه. فإذا عملتم به كنتم أصحاب الأخلاق، فحينئذ ينتشر بذلك صيتكم.
لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) [الأنبياء: 11 - 15].
(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) واردة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم، لأنّ القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم.
وأراد بالقرية: أهلها، ولذلك وصفها بالظلم. وقال (قَوْماً آخَرِينَ) لأن المعنى: أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين. وعن ابن عباس: أنها «حضور» وهي و «سحول» قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب. وفي الحديث «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين» وروى «حضوريين» بعث الله إليهم نبيا فقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم. وروى: أنهم لما أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء، ندموا واعترفوا بالخطإ، وذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومناديةٌ على سخطٍ عظيم)؛ لأنه استعير ما استعمل في الجسم للمعنى، واختير ما هو الأبلغ فيه؛ ليدل على إبادة بليغة.
قوله: (في ثوبين سحوليين)، عن البخاري ومسلم وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفنَ في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كُرسُفٍن ليس فيها قميصٌ ولا عمامة. وفي "الجامع": سحولٌ: قريةٌ من اليمن ينسب إليها الثياب. وقيل: السحولية: المقصورة، كأنها نسبت إلى السحول وهو القصارُ؛ لأنه يسحلها أي: يغسلها. ورُوي بضم السين.
قوله: (يا لثارات). الجوهري: "يا لقتلة فلان". النهاية: ومنه: يا ثارات عثمان! أي:
حين لم ينفعهم الندم. وظاهر الاية على الكثرة. ولعل ابن عباس ذكر «حضور» بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية. فلما علموا شدّة عذابنا وبطشتنا علم حسّ ومشاهدة، لم يشكوا فيها، ركضوا من ديارهم. والركض: ضرب الدابة بالرجل. ومنه قوله تعالى (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب. ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم، فقيل لهم. (لا تَرْكُضُوا) والقول محذوف.
فإن قلت: من القائل؟ قلت يحتمل أن يكون بعض الملائكة أو من ثم من المؤمنين أو يجعلوا خلفاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل. أو يقوله رب العزة ويسمعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا أهل ثاراته، ويا أيها الطالبون بدمه، فحُذف المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مقامه، فيكون قد نادى طالبي الثأر ليعينوه على استيفائه وأخذه، وعلى قول الجوهري: نداءُ القتلة لتعريف الجرم والتقريع وتفظيع الأمر حتى يجتمع لهم عند أخذ الثأر بين القتل وبين تعريف الجرم وقرع أسماعهم به؛ ليصدع به قلوبهم، ويكون أدعى في الإنكاء فيهم، والتشفي منهم.
وإلى تعريف الجرم الإشارة بقوله: "لما نادى منادٍ من السماء ندموا واعترفوا بالخطأ".
قوله: (وظاهر الآية على الكثرة)، يعني: يقتضي قوله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا) أن يجري على العموم، وعلى كثير من القرى.
قوله: (ويجوز أن يشبهوا)، فعلى الأول الركضُ مجازٌ في العدو، ومستعملٌ استعمال المرسن في أنف الإنسان، وعلى الثاني حقيقةٌ، وعلى الثالث استعارة.
قوله: (أو يُجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك)، يعني: أنهم بالغوا في الركض والفرار من العذاب بعد ذلك الإتراف والتنعم بحيثُ من رآهم قال هذا الكلام بلسان الحال.
الراغب: الركضُ: الضربُ بالرجل، فمتى نُسب إلى الراكب فهو إعداءُ مركوبٍ،
ملائكته لينفعهم في دينهم. أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم.
(وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من العيش الرأفة والحال الناعمة. والإتراف: إبطار النعمة وهي الترفة (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) تهكم بهم وتوبيخ، أى: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسئلون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم. وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم: بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟ وكيف نأتى ونذر كعادة المنعمين المخدّمين؟ أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم، ويستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحائب أكفكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نحو: ركضت الفرس، ومتى نُسب إلى الماشي: فوطء الأرض، نحو قوله تعالى:(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ)[ص: 42]، وقال تعالى:(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ)[الأنبياء: 13] فنهوا عن الانهزام. الترفه: التوسعُ في النعمة، يقالُ: أُترفَ فلانٌ فهو مترفٌ، قال تعالى:(وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[المؤمنون: 33].
قوله: (أو يلهمهم ذلك) أي: يُلهم الله تعالى بهذا الكلام نفوس الملائكة، فتحدث الملائكة به فيكون كلاماً نفسياً يخاطبون به الفار الراكضين وليس هناك مخاطبةٌ، وإنما هو شيءٌ يفيد الملائكة في دينهم.
قوله: (ترتبوا في مراتبكم)، أي: تمكنوا فيها، الأساس: رتب فلانٌ رتوبَ الكعب، في المقام الصعب، ورتب في الصلاة: انتصب قائماً.
ويمترون أخلاف معروفكم وأياديكم: إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم، وتوبيخا إلى توبيخ.
(تِلْكَ) إشارة إلى (يا ويلنا)، لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويمترون أخلاف معروكم). الجوهري: مريتُ الناقة مرياً: إذا مسحت ضرعها ليدر، والريح تمري السحاب، تمتريه، أي: تستدره.
الأساس: ومن المجاز: وأخلفت النجومُ والشجر: لم تُمطر ولم تثمر. وناقةٌ مخلفة: ظُنَّ بها حملٌ ثم لم يكن، وهو خالفةُ أهل بيته، أي: فاسدهم وشرهم، ودرت لفلانٍ أخلافُ الدنيا. يمترون: ترشيحٌ لاستعارة أخلاف معروفكم، ويستمطرون: ترشيحٌ لسحائب أكفكم.
اعلم أنه فُسر (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) بوجوه، بناء على أنه مطلقٌ يحتملُ أن يقيد بما يقتضيه المقام بحسب الاستعمال، وأن يُترك على إطلاقه.
قال في "الأساس": سألتُ عنه مسألةً، وسألته حاجةً. وأصبتُ منهُ سُؤلي: طلبتي، فعلٌ بمعنى مفعول.
فقدر في الوجه الأول "عن" حيثُ قال "تسألون غداً عما جرى عليكم"، وأطلق في الثاني حين قال:"حتى يسألكم عبيدكم وحشمُكم ومن تملكون أمره"، فهو إما يجري مجرى اللام، أو يُقدر أشياء مما يليقُ بحالهم لا تُحصى. وبنى الثالث والرابع على أنه من قولهم: سألته حاجةً مما يقتضي مفعولين، فهو إما أنهم شجعانٌ يستنجدهم الناس، ويطلبون منهمُ المعونة، وإليه الإشارة بقوله:"يسألكم الناس المعاون"، أو أسخياء يستجدون من نائلهم، ويستمطرون سحائب أكفهم. المعاونُ: جمعُ المعونة.
قوله: (تهكماً إلى تهكُّم)، أي: منضماً إلى مثله. أوله: يقالُ لهم: ارجعوا إلى ما أُترفتُم فيه حين ولات حين مناص. وثانيه: يقالُ لهم: يسألكم الوافدون ويستمطرون سحائب أكفكم، وهم الجامدون البخلاء.
(دَعْواهُمْ) والدعوى بمعنى الدعوة. قال تعالى (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)[يونس: 10].
فإن قلت: لم سميت دعوى؟ قلت: لأن المولول كأنه يدعو الويل، فيقول تعالى: يا ويل فهذا وقتك. و (تِلْكَ) مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا وكذلك دعواهم. "الحصيد": الزرع المحصود، أى: جعلناهم مثل الحصيد، شبههم به في استنصالهم واصطلامهم «2» كما تقول: جعلناهم رمادا، أى مثل الرماد. والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليها جعل نصبها جميعا على المفعولية. فإن قلت كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد، لأنّ معنى قولك «جعلته حلوا حامضا» جعلته جامعا للطعمين. وكذلك معنى ذلك: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((وَكَذَلِكَ) مرفوعٌ أو منصوبٌ اسماً أو خبراً)، وفيه نظرٌ؛ لأن (تِلْكَ) اسمٌ لفظاً ومعنىً؛ لأن المعنى: لا زالت تلك الدعوى دعواهم، ولأن الاسم المبهم أشدُّ توغلاً في التعريف من المضاف؛ لأنهُ قريبُ من المضمر على أنه مقدم.
قوله: (واصطلامهم) أي: استئصالهم، قاله الجوهري.
قوله: (جامعين لمماثلة الحصيد والخمود) يعني: كما يجتمع الحلو والحامض في معنى واحد، وهو المزُّ، كذا الحصيدُ والخمود؛ لأن النار إذا خمدت فصارت رماداً، كانت كالزرع المحصود المدقوق.
الراغب: قوله: (جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ)[الأنبياء: 15] كنايةٌ عن موتهم، من خمدتِ النارُ: إذا طُفئ لهبُها. وعنه استعير: خمدت الحُمي: سكنتْ. فيكونُ "والخمود"
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء: 16 - 17].
أى: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوّى الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للهو واللعب، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعدّ والمرافق التي لا تحصى. ثم بين أنّ السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالى: هو أن الحكمة صارفة عنه، وإلا فأنا قادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في المتن عطفاً على الحصيد، لا على المماثلة كما ظنَّ؛ لأن قوله:(حَصِيداً خَامِدِينَ) كلاهما مشبهٌ بهما، والمشبه (هم) في قوله:(جَعَلْنَاهُمْ).
قوله: (ونظر لعبادنا)، قال القاضي:(خَلَقْنَاهُمَا) تسبيباً لما ينتظمُ به أمورُ العباد في المعاش والمعاد، فينبغي أن يتسلقوا إلى تحصيل الكمال، ولا يغتروا بزخارفها، فإنها سريعةُ الزوال.
قوله: (هو أن الحكمة صارفةٌ [عنه] وإلا فأنا قادرٌ)، عن بعضهم: هذا بناء على أن الله تعالى عندهم قادرٌ على السفه والظلم، وإن كان لا يفعله. وعند أهل الحق: أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الظلم والسفه، لأن القدرة مصححةٌ للإمكان، والمحالُ لا يدخلُ تحت الإمكان، وقيل: إنه لما قال: (لَوْ أَرَدْنَا) إلى آخره عُلم أن المانع عدمُ الإرادة، فينبغي أن يكون مقدوراً؛ لأنه لا يقال فيما لا يكون مقدوراً: لو أردتُ فعلته، وقيل: هذا منظورٌ فيه؛ لأن تفسير اللهو بالولد أو بالمراة، يأباه؛ لأنه لا يقال: إن اتخاذ الولد أو المرأة لو أراده لفعله؛ لأنه من قبل المستحيل.
وقلتُ: لا يخفى سقوط هذا النظر على من تأمل في كلام الزجاج كما مر، ولا ارتياب بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علماء الأصول ومعتني علم البيان أن حمل اللفظ على المجاز والعدول عن الحقيقة من غير صارفٍ وداعٍ قوي غير جائز، لا سيما إذا انضم معه قرينة إرادة الحقيقة، هو مقتضى المقام؛ وذلك أن مجيء قوله:(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) عقيب قوله: (وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) من باب وضع المُظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق؛ لأن اللهو: ما يُتلهى به ويُلعب، وليس في الكلام السابق رائحةٌ من معنى الولد والمرأة، فلا يُحمل الآتي إلا على ظاهره. وسيجيء الكلام في الولد في مشرع آخر، ولأن قوله تعالى:(إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) على الشرط، أظهرُ من النفي، والذوقُ له أدعى، ولأن تفسير اللهو بالولد والمرأة يخرجُ الكلام عن سنن النظام.
قال الإمامُ: الغرضُ من سوق هذه الآيات تقريرُ نبوة محمدٍ صلوات الله عليه، والرد على منكريه؛ لأنه تعالى أظهر المعجزة عليه، ولو كان غير صادق كان إظهار المعجزة عليه من باب العبث، وإن كان صادقاً يفسدُ ما ذكروه من المطاعن.
وقلتُ: تحريرُ النظم: أنهذه السورة من مفتتحها واردةٌ في أمر النبوة وما يتصل بها، ومن ثم سميت بسورة الأنبياء، ألا ترى كيف بدأ بقوله:(مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)، وثنى بقوله:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ثم ثلث بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ)[الأنبياء: 10] فوبخهم وسفههم وسجل بحرمان عقلهم حيث دفعوا ما فيه شرفهم وعزهم، ثم ربع بقوله:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)[الأنبياء: 16] ليُنبههم عن رقدةِ الجهالة، وأنهم في ارتكابهم العناد كمن يحاول في إبطال الحكمة في خلق السماء والأرض، وهي العبادةُ والمعرفة، قال الله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، وقال:(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191]. قال المصنف: "المعنى: ما خلقته خلقاً باطلاً، بل لداعي حكمةٍ عظيمة، وهو أن يجعلها مساكن المكلفين، وأدلةً لهم على معرفتك،
على اتخاذه إن كنت فاعلا لأنى على كل شيء قدير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك، ولذلك وصل قوله:(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191] به؛ لأنه جزاءُ من عصى ولم يُطع".
وقال في "النجم" في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)[النجم: 31]: "إن الله تعالى إنما خلق العالم، وسوى هذا الملكوت، ليُجازي المحسن من المكلفين والمسيء منهم"، ولا يتم ذلك إلا بإنزال الكتاب، وإرسال الرسول، وإظهار المعجزة على يده، فإذا حصلت هذه المطالب وجبت المتابعة، وإنكارها يؤدي إلى إنكار هذا المطلوب.
ثم علل استحقاق العبادة بقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، أي: هو خالقهم ومالكهم ورازقهم ومتولي أمورهم، فيجب عليهم أن يخصوه بالعبادة، وإن استكبر هؤلاء وعاندوا فله من لا يستكبر ولا يعاند، فهو مستغنٍ عن هؤلاء كقوله تعالى:(وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف: 203]. فلما فرغ من هذا النوع من الكلام رجع إلى توبيخ المعاندين وقال: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً) وساق الحديث إلى ما هو سوق الكلام له من قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، والله أعلم.
قوله: (إن كنتُ فاعلاً)، جعل "إنْ" في قوله:(إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) شرطيةً، قال الزجاجُ: اللهو في لغة حضرموت: الولدُ. وقيل: اللهوُ: المراةُ، وتأويله في اللغة أن الولد لهوُ الدنيا، أي: فلو أردنا أن نتخذ ولداً إذ اللهو يُلهى به، ومعنى:(لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) أي: لاصطفيناه مما نخلُقُ، معناه: ما كنا فاعلين؛ وكذلك جاء في التفسير: ويجوزُ أن يكون للشرط، أي: إن كنا ممن يفعلُ ذلك، ولسنا ممن يفعله. والقول الأول قول المفسرين، والثاني قول النحويين. وهم أجمعون يقولون: إن القول هو الأول ويستجيدونه؛ لأن "إنْ" تكونُ
وقوله (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) كقوله (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا)] القصص: 57 [أى من جهة قدرتنا. وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن. وقيل المرأة.
وقيل (من لدنا)، أى من الملائكة لا من الإنس، ردّا لولادة المسيح وعزير.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)[الأنبياء: 18].
(بَلْ) إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في معنى النفي، إلا أن أكثر ما جاءت مع اللام، تقول: إن كنت لصالحاً، أي: ما كنت إلا صالحاً.
وقال ابن الحاجب: هذا مذهب الكوفيين، وأما البصريون فيقولون: إن اللام الفارقة لا تدخل بعد "إن" النافية. فإذا قلت: إن زيداً لقائم فالمفهوم إثبات القيام، وإذا قلت: إنْ زيدٌ قائمٌ فالمفهومُ نفيُ القيام.
وقال صاحبُ "المطلع": فإن قيل على الثاني: ما معنى تكرار كلمة الشرط؟ قُلنا: دخلت على جواز الوصف به، والأولى على جواز الإيجاد، وكلاهما منفيان.
قوله: (سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب)، هذا التنزيه يفيده صيغةُ الكبرياء والتعظيم، وتكريره مراراً ثمانية وإلى التعظيم الإشارةُ بقوله:"كما تُسوي الجبابرةُ سُقوفهم"، كأنه قيل: أيها الناظرُ المنكرُ، ألا ترى إلى هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، كيف سويناهما؟ وكيف جعلناهما مطارح الافتكار، ومطامح الاعتبار، ومناطاً لمرافق العباد في المعاش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمعاد؛ إذ لا يليقُ بعظمتنا وجلالتنا أن نخلقهما باطلاً؛ فسبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب؛ إذ من شأننا محقُ الباطل ودمغُه، وإليه الإشارة بقوله:(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ).
ثُم اعلمْ أن قوله: "أن الحكمةَ صارفةُ عنه، وإلا فانا قادرٌ على اتخاذه" كلامٌ مبنيٌّ على قاعدة مذهبه، وأما تقريره على مذهب أهل السنة والجماعة فهو أن يقال: له أنيخلق ما يشاء، وإن توهمه المعتزلي قبيحاً وحسناً، وأنه فاعلٌ مختارٌ له أن يختار خلق هذا دون ذلك. فقوله تعالى:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) إخبارٌ عما وُجِدَ، لا عما وجب، وقوله:(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) إيذانٌ بأن له أن يختار خلق هذا دون ذلك، وقد تقرر في البلاغة أن مفعول الإرادة والمشيئة يجب أن لا يُذكر إلا إذا تعلقت به غرابة. ولا شك أن اتخاذ اللهو بالنسبة إلى الله تعالى غريب، كأنه قيل: إن العظمة والكبرياء اقتضيا التنزيه عن اتخاذ اللهو، كما أنهما استدعيا أن لا يُمنع من ذلك وإن خفي على بعض الخلق؛ لأنه فاعلٌ لما يشاء لا يسأل عما يفعلُ وهم يسألون، لكن من شأنه أن يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وأن يتصف بما فيه التعظيم والكبرياء وإن كان الكل منه، (وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي: تنسُبون إيه ما لا يليقُ بجلاله من اتخاذ اللهو واللعب حيثُ تطعنون في رسله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (اللهو: الولدُ
…
، وقيل: المرأة)، في "المطلع": اللهوُ: طلبُ الترويح عن النفس، ثم المرأة تُسمى لهواً وكذا الولد؛ لأن النفس تستروح بكل واحدٍ منهما، والمعنى: امرأة ذات لهو، أو ولدٌ ذو لهو.
الراغب: اللهوُ: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، يقال: لهوت بكذا ولهيتُ عن كذا: اشتغلت عنه بلهو. قال تعالى: (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)[محمد: 36]، ويعبرُ عن كل ما به استمتاعٌ باللهو، قال تعالى:(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً)[الأنبياء: 17]، ومن قال: أراد باللهو:
بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق. واستعار لذلك القذف والدمغ، تصويرا لإبطاله وإهداره ومحقه فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا، قذف به على جرم رخو أجوف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرأة والولد فتخصيصٌ لبعض ما هو من زينة الحياة الدنيا التي جعل لهواً ولعباً.
وقلتُ: ومما يقربُ منه من حيث إرادة التخسيس قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ)[آل عمران: 14] الآية.
قوله: (وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القيح)، قال صاحب "الانتصاف": أراد باستغنائه عن القبيح وجوب رعاية المصالح، وفعل ما ينونه حسناً بعقولهم، فلا يستغني الحكيمُ عن خلقِ الحسن، والحكمة تقتضي الاستغناء عن القبيح، ويقولون: ليس في الإمكان ذلك ولو أمكن لفعله؛ إذ لو تركه لكان إما بخلاً أو عجزاً تعالى الله عنهما، والحق أن الله تعالى مستغنٍ عن الأفعال، وله أن يخلق ما يتوهمه القدري حسناً أو قبيحاً، وليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاتُه.
قوله: (واستعار لذلك القذف والدمغ)، قال صاحب "المفتاح": أصلُ استعمال القذف والدمغ في الجسام، ثم استعير القذفُ لإيراد الحق على الباطل، والدمغُ لإذهاب الباطل، فالمستعارُ منه حسيٌّ، والمستعارُ له عقليٌّ.
قوله: (فجعله كأنه جرمٌ صلبٌ كالصخرة [مثلاً] قُذف به على جرم رخوٍ أجوف)، يعني: بولغ في طرفي الإفراط والتفريط؛ لأن القذف غنما يستعمل في رمي الحجارة، والدمغ
فدمغه، ثم قال (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) به مما لا يجوز عليه وعلى حكمته. وقرئ:"فيدمغه" بالنصب، وهو في ضعف قوله:
سأترك منزلي لبنى تميم
…
وألحق بالحجاز فاستريحا
وقرئ "فيدمغه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يكونُ إلا في الدماغ، وهو جسمٌ رخوٌ مجوف، وقيل: إنما اختير الدماغُ دون سائر البدن؛ لأن الدماغَ مجمعُ الحواسِّ، وهو مقتلٌ، يقال: دمغهُ دمغاً، أي: شجهُ حتى بلغت الشجةُ الدماغ.
قوله: ("فيدمغه" بالنصب، وهو ضعيف)، قال النحاة: لا ينتصب بإضمار "أن" بعد الكلام الموجب، لا يقال: يقومُ زيدٌ فيغضب، إلا في الضرورة، كما في قوله:
سأتركُ منزلي لبني تميمٍ
…
وألحقُ بالحجاز فأستريحا
لأن إضمار "أنْ" إنما يجبُ إذا لم يتسق الكلامُ بإدخال الثاني تحت حُكم الأول فينصب الثاني إظهاراً لإرادة المخالفة. وفي الموجب هما متحدا الحكم، فكأن الشاعر توهم معنى غير الموجب في الأول إما بالتمني أو بالشرط فنصب بعد الفاء. ووجه ضعفه أنه ليس في جواب الستة. والعذر أن فعل المضارع كالتمني والترجي في كونهما مترقبين.
قوله: (وقرئ: "فيدمغه")، أي: بضمتين، في "المطلع": هي كما جاء في الحروف الحلقية من البابين، كطبخ وصبغ.
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 19 - 20].
(وَمَنْ عِنْدَهُ) هم الملائكة. والمراد أنهم مكرمون، منزلون - لكرامتهم عليه - منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه.
فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه) يعني: اختصاصُ لفظ "عند" مع عطفِ الخاص على العام دليلٌ على ذلك، قال الإمام: إنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الانقياد، بيَّنَ في هذه الآية أنه تعالى منزهٌ عن طاعتهم؛ لأنه المالك لجميع المخلوقات؛ ولأن الملائكة مع جلالتهم مطيعون خائفون منه، فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه.
وقلتُ: عنى أن الكلام في أقوام مخصوصين معاندين، وهو حق كما سبق، ومجرد لفظ "عند" لا يدل على المطلوب. وقد جاء (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54 - 55]، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ) [ص: 47]، وغير ذلك، وغاية معنى الترقي والتدرج في الضعف والقوة الدلالة على أنهم لا يفترون في العبادة، وأن أحداً من البشر لا يدرك شأوهم في هذا المعنى، وهذا مما لا نزاع فيه، وإنما النزاع في أمر آخر.
قوله: (الاستحسارُ مبالغةٌ في الحسور)، وذلك أن السين فيه: طلب الحسور، ولا طلب هنا، فدل على المبالغة، فنفيُ الأبلغ لا يفيد نفي الأدونِ فيفيد إثبات التعب مطلقاً، والحالُ أنهم لا يتعبون رأساً، وأجاب أن في بناء المبالغة الإشعار بأن ما هم فيه من الطاعات في غاية من الثقل والتعب وإن كانوا لا يتعبون، نحوه قوله تعالى:(وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)
عنهم أدنى الحسور؟ . قلت في الاستحسار بيان أنّ ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون. أى، تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر.
(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ)[الأنبياء: 21].
هذه "أم" المنقطعة الكائنة بمعنى "بل" والهمزة، قد آذنت بالإضراب عما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[فصلت: 46] في أحد وجهيه، وهو أن الذنب في العظم بحيثُ من نظر إلى العذاب العظيم علم أن الذنب ما هو؛ لأن عظم العقوبة بحسب عظم الجناية، وفيه أنهم أحقاءُ لتلك العبادات الباهظة لأن اختصاصهم بنعمٍ لم ينعم بها على غيرهم يوجبُ ذلك، وفيه رائحةٌ من الاعتزال.
قوله: (الباهظة) أي: المثقلة، يقال: بهظه الحملُ: أثقله.
قوله: (أي: تسبيحهم متصل دائم)، تفسيرٌ لقوله (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) ويجوز أن يكون ذلك بياناً للجملة الأولى، قال الزجاج:(لا يَفْتُرُونَ): لا يشغلهم عن التسبيح رسالةٌ، ومجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا، لا يشغلنا عن النفس شيءٌ، كذلك تسبيحهم دائم.
قوله: (قد آذنت) أي: دل تضمنُ "أمْ" معنى "بَل" على الإضراب عما سبق، كما أعلم تضمنها معنى الهمزة بالإنكار لما بعدها. وأما الإضراب فهو أن الكلام السابق واردٌ في شان طعنهم في النبوات، وما يتصلُ بها على ما سبق، أي: دع هذا النوع من الكلام، وافتح مشرعاً آخر، وهذا دل على أن الأوجه لتفسير اللهو بالولد لما يتلوه من قوله تعالى:(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً).
قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر: هو اتخاذهم (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) الموتى، ولعمري أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات.
فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ وكيف وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى وذلك أنهم كانوا - مع إقرارهم لله عز وجل بأنه خالق السماوات والأرض (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)] لقمان: 25 [وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى - منكرين البعث ويقولون: من يحيى العظام وهي رميم، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثانى القديم، فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟ قلت: الأمر كما ذكرت، ولكنهم بادّعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار، لأنه لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولكنهم بادعائهم لها الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار)، قال الإمام: لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها، ولابد للعبادة من فائدة، وهي الثواب، فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب. وكذلك قال القاضي.
والذي أقولُ - والعلمُ عند الله-: أن سبيل قوله تعالى: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) مع الكلام السابق سبيل قوله تعالى: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)[الروم: 40]؛ ولذلك قُيد بقوله: (مِنْ الأَرْضِ)، وذلك أن معنى قوله تعالى:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) كما مر: إنما خلقناهما لنجعلهما مساكن المكلفين وأدلةً لهم على المعرفة ووجوب الطاعة، والاحتراز عن المعصية، ثم بعد ذلك لابد من البعث والحشر (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) [يونس: 4]، الآية، يعني: ينبغي أن يكون الإله كما وصفناه، وألا لا يستقيم ولا يصح أن يكون إلهاً، ثم نزل من ذلك، وقال: دع ذلك كله، فالذي اتخذوه إلها هل يصح
يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأنّ ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأنّ الإلهية لما صحت صحّ معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. ونحو قوله (مِنَ الْأَرْضِ) قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد: مكياً أو مدنىياً. ومعنى نسبتها إلى الأرض: الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض: لأنّ الآلهة على ضربين: أرضية وسماوية. ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين ربك» ؟ فأشارت إلى السماء، فقال "إنها مؤمنة" لأنه فهم منها أنّ مرادها نفي الآلهة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يُطلق عليه ما يتم به أمر الإلهية، وهو إثابة مطيعها وعقاب عاصيها؟ لأن مصحح المعبودية الحشرُ والنشرُ.
يدل على التنزيل قوله تعالى بعد ذلك: (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) يعني: اترك ذلك، ألهم آلهةُ يقدرون على إثباتها بدليل من السمع والعقل، فـ"هم"- في قوله تعالى:(هُمْ يُنشِرُونَ) -: للدلالة على قوة أمرهم فيما أُسند إليهم، لا على الاختصاص، لما قُلنا: أن لابد للمعبود من الإثابة العقاب. قال محيي السنة: ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإماتة، والإنعام بأبلغ وجوه النعم.
قوله: (وفيه بابٌ من التهكم بهم، والتوبيخ والتجهيل)، يعني: أنهم إذا كانوا غير قادرين على أن يحييوا ويُميتوا ويضروا وينفعوا فبأي عقلٍ يجوزُ أن يتخذوا آلهةً؟
قوله: (ومن ذلك حديثُ الأمة)، وهو ما روى معاويةُ بن الحكم، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ن جاريةً لي كانت ترعى غنماً لي، فجئتها وقد فُقدت شاةٌ من الغنم، فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئبُ، فأسفتُ عليها، وكنتُ من بني آدم فلطمتُ وجهها وعليَّ رقبةٌ، فأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أين الله؟ "، فقالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ "، فقالت: أنت رسول الله صلى الله لعيه وسلم، فقال:"أعتقها". هذا لفظُ مالك، وقد أخرجهُ مسلمٌ
الأرضية التي هي الأصنام، لا إثبات السماء مكانا لله عز وجل. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة، أو تعمل من بعض جواهر الأرض.
فإن قلت: لا بدّ من نكتة في قوله (هُمْ)؟ قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية، كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأبو داود والنسائي من حديث طويل كلهم عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه، إلا مالكاً، فإنه أخرجه عن هلال بن أسامة.
قوله: (كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم)، والنُكتةُ فيه تتميمُ معنى التهكم والمبالغةُ فيه، قال في "الانتصاف": وفيه نظرٌ؛ لأن أداة الحصر مفقودة، وليس من قبيل: صديقي زيدٌ؛ فن المبتدأ في الآية أخص شيء؛ لأنه ضميرٌ. وعندي أن فائدة "هم": الإيذانُ بأنهم لم يتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون، و"هم": استئنافٌ، كأنه قال: أم اتخذوا آلهةً من الأرض مع الله فهم إذن ينشرون، إذ هو لازمُ قولهم، ومما يوضحه دليلُ التمانع الذي اقتبس من نور هذه الآية.
وقلتُ: ليس لصاحب "الانتصاف" أن يشرع معه في البحث عن خواص التراكيب؛ لأنه ليس من رجاله. قال المصنف في "الفرقان": "هذا الفعلُ- أعني (اتَّخَذَ) - يتعدى إلى مفعولٍ واحد كقولك: اتخذ ولياً"، وإلى مفعولين كقولك: اتخذ فُلاناً ولياً"، فهنا إن جُعل متعدياً إلى مفعولين، وأُحلق بباب أفعال القلوب مثلاً، لاستقامة الحمل في الآية، وفي أمثال وفي قوله:(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)[النساء: 125] بأن يقال: (مِنْ الأَرْضِ) صفةٌ لـ (آلِهَةً)، والخبر:(يُنشِرُونَ)، كان (هُمْ) ضمير فصل فيفيد التخصيص، وإن جُعل متعدياً إلى مفعولٍ واحد، وجُعل (مِنْ الأَرْضِ) ثاني مفعوليه، كان (هُمْ يُنشِرُونَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من قبيل: أنا عرفتُ وهو عرفَ، في إفادة معنى التخصيص، ثم الذي عليه السياق الدلالة على قوة أمرهم فيما أُسند إليهم، لا الاختصاص كما سبق. وليتصل دليلُ التمانع به، أي اتخذوه إلها لا يصح أن يُطلق عليه ما يتم به أمر الإلهية، ويسند إليه ذلك على الحقيقة، ثم قيل:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، يعني: لو فُرض ذلك وقُدر كما يُقدرُ المحالاتُ لانقلبت تلك الفائدة- التي ذكرناها في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)؛ لأن ضمير التثنية عائدٌ ليهما- مفسدةً، وذهب كل غله بما خلق. والفائدة أن جعلها مساكن المكلفين، وأدلةً على المعرفة، وجوب الطاعة، والاحتراز عن المعصية؛ ليجزيهم بالثواب والعقاب، قال الله تعالى:(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ)[الزمر: 29]، وإليه أشار المصنفُ بقوله:"لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين" إلى قوله: "وهذا ظاهرٌ"، ولاحتمال الغير قال:"وأما طريقةُ التمانع فللمتكلمين فيها تجاول"، أي: ليس من اقتضاء المقام.
ثم فرع على بيان التوحيد قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) كما فرعَ فيما سبق على النبوة قوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا)؛ ولذلك فسره بقوله: "سبحاننا أن نتخذ الله واللعب".
ثم المطلوبُ في التنزيه إما تنزيهُ ذاته عن جميع ما ينسبُ غليه أهلُ الشرك، فهو المراد من قوله:(فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ) وإما تنزيه ذاته عن جميع ما يتوهمه المتوهمون من نسبة القبائح إليه قياساً على المشاهد، فهو المراد من قوله:(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) يدل عليه قوله: "عادةُ الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم"، يعني: لا يجو أن تُسأل الملوك ما يجوز ان يُسأل عنه غيرهم، ويرد عليهم تهيباً وجلالةً. وهذا المعنى مناسبٌ لقول
وحدهم. وقرأ الحسن "يُنْشِرُونَ" وهما لغتان: أنشر الله الموتى، ونشرها.
(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الأنبياء: 22].
وصفت (آلهة) ب (إلا) كما توصف "بغير"، لو قيل "آلهة غير الله". وإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأنّ «لو» بمنزلة «إن» في أنّ الكلام معه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصنف في قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ): "كما تُسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم"، فسبحان الذي دقت حكمته في كلامه، وعظمت جلالته في مُلكه وملكوته.
قوله: (لأن "لو" بمنزلة "إنْ")، رُوي عن المصنف:"لوْ" بمعنى "إن" الشرطية في أن الغرض محضُ الملازمة. وقال ابن الحاجب: "لوْ" بمنزلة "إنْ" في أن الكلام معه موجب؛ لأن النفي المعنوي لا يجري مجرى الني اللفظين ألا ترى أنك تقولُ: أبي القوم إلا زيداً، بالنصب ليس إلا؟ ولو كان النفي المعنوي كاللفظي لجاز: أتى القوم إلا زيدٌ، وكان المختار، وهاهنا أولى؛ إذ النفيُ في "أتى" محققٌ غير مقدر، وفي "لو" مقدرٌ ما بعدها الإثبات.
وقال صاحب "الكشف": ومما يدل على بطلان القول بالبدل هو أن قولك: ما جاءني في القوم إلا زيدٌ، ونحوه، مما يكون ما بعد "إلا" بدلاً مما قبلها عائدٌ إلى الإثبات، فمعنى: ما جاءني القوم إلا زيدٌ: جاءني زيدٌ، فكذلك هاهنا:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) لو كان بدلاً لكان معناه: لو ان فيهما الله لفسدتا، وهذا فاسدٌ، فثبت أن قوله:(إِلاَّ اللَّهُ) بمنزلة الوصف لآلهة.
وقال المالكي في "شرح التسهيل": ولا يجوز أن يُجعل (اللَّهُ) بدلاً؛ لأن من شرط البدل في الاستثناء صحةُ الاستغناء به عن الأول، وذلك ممتنعُ بعد "لو"، كما يمتنعُ بعد
موجب، والبدل لا يسوّغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله تعالى (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)] هود: 81 [وذلك لأنّ أعم العامّ يصح نفيه ولا يصح إيجابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"إن"؛ لأنهما حرفا شرط، والكلامُ معهما موجبٌ. ولذلك قال سيبويه:"لو قلت: لو كان معنا إلا زيدٌ لهلكنا، لكنت قد أحلتَ"، أي: أتيت بممنوع، فصح قول سيبويه أن "لو" لم تُفرغ العامل من بعدها لما بعد "إلا" كما فُرغ بعد النفي، وإن كان ما تدل عليه من الامتناع شبيهاً بالنفي، ولو كانت بذلك مستحقةً لتفريغ ما يليها من العوامل لكانت مستحقةً لغير ذلك مما يختص بحروف النفي، كزيادة "مِن" في معمول ما يليها وإعماله في "أحد".
قال السيرافي شارحاً لقول سيبويه: "لكنت قد أحلت"؛ لأنه يصير المعنى: لو كان معنا زيدٌ لهلكنا؛ لأن البدل بعد "إلا" موجبٌ، وكذا: لو كان فيهما الله لفسدتا، وهذا فاسدٌ. وحكى ابن السراج أن أبا العباس المبرد قال: لو كان معنا إلا زيدٌ أجودُ كلامٍ وأحسنهُ، وكلام المبرد في "المقتضب" مثلُ كلام سيبويه، وأن التفريغ والبدل بعد "لو" غيرُ جائز. انتهى كلامه.
قوله: (وذلك لأن أعم العام يصح نفيه، ولا يصح إثباته)، قيل: مراده أن الاستثناء من أعم العام في طرف النفي غير ممتنع، وفي طرف الإثبات ممتنع؛ يجوز أن تقول: ما في الدار أحدٌ إلا زيدٌ، ولا يصحٌُّ: كان في الدار إلا زيداً، أي: في الدار جميعُ الأشياء إلا زيدٌ. وقال أبو البقاء: لا يجوز نصبُ "غير" على الاستثناء لوجهين، أحدهما: أنه فاسدٌ في المعنى، وذلك أنك إذا قلت: لو جاءني القومُ إلا زيداً لقتلتهم، كان معناه: أن القتل امتنع لكون زيدٍ مع
والمعنى: لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا. وفيه دلالة على أمرين، أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القوم، فلو نصبت في الآية لكان المعنى: أن فساد السماوات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثباتُ إلهٍ مع الله تعالى، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك؛ لأن المعنى: لو كان فيهما آلهةٌ غير الله لفسدتا. والوجه الثاني: أن (آلِهَةٌ) هنا نكرةٌ، والجمعُ إذا كان نكرةً لم يستثن منه عند جماعةٍ من المحققين؛ لأنه لا عموم له بحيث يدخلُ فيه المستثنى لولا الاستثناء.
وإلى هذا يشير ابن الحاجب بقوله: لو كان معنى قوله: (إِلاَّ اللَّهُ) معنى الاستثناء، لجاز أن يقول: إلا الله بالنصب، ولا يستقيم المعنى؛ لأن الاستثناء إذا سُكتَ عنه دخل ما بعده فيما قبله؛ ألا ترى أنك لا تقولُ: جاءني رجالٌ إلا زيداً؟ فكذلك لا يستقيم أن تقول: لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا.
قوله: (وفيه دلالة على أمرين) إلى آخره وقال صاحب "الفرائد": قوله: "وجوب ألا يكون مدبرهما إلا واحداً"، منظورٌ فيه من وجهين، أحدهما: أن من نفي الجماعة لا يلزم منه نفي الاثنين ولا الواحد، فكيف يلزم من نفي الآلهة وجوب التدبير للواحد؟ والثاني: لا يلزم من هذا التركيب كونه تعالى مدبراً، وإنما يلزم أن يكون منتفياً، كما انتفت الآلهة.
والجواب: أنه لما تقرر أن هذه الآية متصلة بقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) وأن قوله: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) إنكارٌ عليهم، وتسجيلٌ على قلة نظرهم في تلك الدلائل، كان قوله تعالى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) برهاناً على تلك الدعوى، فالرد واردٌ على اتخاذهم الآلهة، فلايعمل بالمفهوم، كما في قوله تعالى:(لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً)[آل عمران: 130]، ولأنه قد سبق أن المراد بالفساد فسادُ أمر المكلفين وعدم تمكنهم منا لعبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لأجلها،
والثاني: أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده، لقوله (إِلَّا اللَّهُ).
فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أنّ الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واستشهدنا بقوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)[الزمر: 29] الآية. ولكونه بُرهاناً على تلك الدعوى، ورداً على المشركين جمع الآلهة ولم يقل: لو كان فيهما إلهٌ، ولزم من إشارة النص على طريقة الإدماج المشار إليه بقوله:"وفيه دلالةٌ على أمرين" التوحيدُ؛ لان هذا الفساد كما يلزمُ من المجموع يلزمُ من الاثنين، ولذلك أورد السؤال:"لِم وجب الأمران وأجاب: "لعلمنا أن الرعية تفسدُ بتدبير الملكين"ن وأما لزوم التدبير من هذا التركيب فمن إيقاع (فِيهِمَا) ظرفاً لـ (آلِهَةً)، على منوال قوله:(هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ)[الزخرف: 84]، وقوله:(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ)[الأنعام: 3]، ولأن اسمه الجامع حاملٌ للمعاني الإلهية كما نقل الأزهري عن أبي الهيثم: لا يكونُ إلها حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعباده خالقاً ورازقاً ومدبراً وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله.
قوله: (حين قُتِلَ عمرو بن سعيد)، وفي "التاريخ الكامل": هو عمرو بن سعيد بن أبي العاص بن أمية الأشدق. وأما عبد الملك فهو ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص. وكانت أمُّ عمرو أم البنين بنتُ الحكم عمة عبد الملك. وكان سبب قتله على ما رواه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوريُّ في "الأخبار الطوال"، أن عبد الملك لما ملك خرج عليه عمرو بن سعيد، ثم اصطلحا على أن يكونا مشتركين في المُلك، وأن يكون اسم الخلافة لعبد الملك، وعمروٌ بعده يلي أمر الخلافة، وكتبا بذلك كتاباً وأشهدا أشراف أهل الشام عليه،
الأشدق: "كان والله أعزّ علىّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول" وهذا ظاهر.
وأمّا طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجاول وطراد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكان روحُ بن زنباع من أخص الناس بعبد الملك، فقال له وقد خلا به: يا أمير المؤمنين، هل من رأيك الوفاءُ بعمرو؟ فقال: ويحك يا ابن زنباع! وهل اجتمع فحلان على هجمةٍ قطُّ إلا قتل أحدهما صاحبه؟ فدخل يماً عمرو على عبد الملك وقد استعد للغدر بهن فأُخذ وذُبح ذبحاً، فأحس أصحابه فتنادوا، وكان عبد الملك قد هيأ خمسين صُرةً، فأمر بها فألقيت إليهم مع رأسه، فترك أصحابه الرأس وأخذوا الصرر وتفرقوا. وفي ذلك يقولُ قائلهم:
غدرتم بعمرو آل مروان ضلةً
…
ومثلكم يبني البيوت على الغدر
وما كان عمرو عاجزاً غير أنه
…
أتته المنايا بغتةً وهو لا يدري
أن بني مروان إذ يقتلونه
…
بُغاثٌ من الطير اجتمعن على صقر
الهجمةُ من الإبل: أولها الأربعون إلى ما زادت.
قوله: (الأشدق). الجوهري: الشدقُ: جانبُ الفم، والجمعُ: الأشداقُ. والشدقُ بالتحريك: سعةُ الشدق، يقال: خطيبٌ أشدقُ، بيِّنُ الشدق. والشولُ: النوقُ التي قل لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعةُ أشهرٍ وثمانية، والواحدةُ: شائلةٌ، وهو جمعٌ على غير قياس.
قوله: (وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد)، ويُروى:"تجاولٌ"، من الجولان، وهو أنسبُ لصنعةِ مراعاة النظير بين التمانع والتجاول والطراد. قال الإمام: قال المتكلمون: القول بوجود إلهين يُفضي إلى المحال؛ لأنا لو فرضنا إلهين، ولابد أن يكون كل واحدٍ منهما قادراً على كل المقدورات، فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريك زيد، والآخر تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محالٌ أو لا يقع مراد ٌواحدٌ منهما وهو محالٌ؛ لأن المانع من وجود مُرادِ كل واحدٍ منهما مرادُ الآخر فلا يمتنعُ مرادُ هذا إلا عند وجود مراد ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالعكس، فلو امتنعا معاً لوُجدا معاً، وذلك محالٌ، أو يقع مرادُ أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محالٌ؛ لأنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر، فالذي وقع مراده يكون قادرا، والآخر عاجزاً، والعجز نقصٌ، وهو على الله تعالى مُحال.
فإن قيل: الفسادُ إنما يلزمُ عند اختلافهما في الإرادة، وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما، بل أقصى ما تدعونه أنه ممكن، فكان الفسادُ ممكناً لا واقعاً، فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد؟
قُلنا: الجواب من وجهين، أحدهما: لعله تعالى أجرى الممكن مُجرى الواقع بناءً على الظاهر، ولعل مراد المصنف من قوله:"وهذا ظاهرٌ" هذا. وثانيهما: أنا لو فرضنا إلهين لكان كل واحدٍ منهما قادرً على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور عن قادرين مستقلين من وجه واحد، وهو محالٌ؛ لأن إسناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحدٍ منهما مستقلاً بالإيجاد فالفعلُ لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيلُ استناده إلى هذا، لكونه حاصلاً منهما جميعاً، فيلزم استغناؤه عنهما، احتياجه إليهما معاً. وهذه الحجةُ قائمةٌ في مسألة التوحيد، فثبت أن القول بوجود إلهين يُفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحدٍ منهما، فلا يقع البتة، فيلزمُ وقوعُ الفساد.
وقال صاحبُ "الانتصاف": دليلُ التمانع الذي يقتبس من نور هذه الآية أن يقال: لو فُرضَ وجودُ إلهين فإما أن يتم لكل واحدٍ منهما القدرة على ما يشاء، أو لا يتم لواحدٍ منهما، أو لأحدهما دون الآخر، وأدقُّ الأقسام إبطالا ًأن يكونا قادرين، فاقتصر في الكتاب العزيز عليه.
ولأنّ هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقرّ.
(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)[الأنبياء: 23].
إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: "وأما طريقةُ التمانع فللمتكلمين فيها تجاولٌ وطراد" جُملةٌ مستطردة دخلت بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لأن قوله: "ولأن هذه الأفعال" معطوفٌ على قوله: "ولعلمنا أن الرعية"، وملزوزٌ به، وبانضمامه معه يتم الجواب قطعاً، والمراد من قوله:"هذه الأفعال" هو خلق السماوات والأرض وما بينهما وما بين يدينا وبحضرتنا من المصنوعات، يدل عليه قوله - فيما مر في تفسير (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ) الآيات-:"أي: ما سوينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق" إلى قوله: "اللهو واللعب"، يعني: أن هذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة محتاجةٌ إلى ذات له الحكمة الفائقة والقدرة الكاملة، والعلمُ النافذ حتى تثبت وتستقر:(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)[فاطر: 41].
قوله: (بتلك الصفات) متعلقٌ بقوله: "المتميزة"، قيل: فيه إشارة إلى مذهبه، وهو أن ذاته تُساوي سائر الذوات في كونه ذاتاً؛ إذ المعنى بالذات: مايصح أن يُعلم ويُخبر عنه، وهو مشتركٌ، ويخالفه الأحوال الأربعة: الحيةُ، والواجبية، والعالمية، والقادرية، وهذا قول أكثر المعتزلة، وأثبت أبو هاشم حالةً خامسةً، وهي علةٌ للأحوال الأربعة مميزةٌ للذات، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: ذاته المقدس تخالف سائر الذوات في كونه ذاتاً، أي: حقيقة لا تماثل غيرهن ويمنعون أن يقال: معنى الذات: ما يصح أن يُعلم ويُجبر عنه؛ لجواز
وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطإ والزلل وأنواع الفساد عليهم - كان ملك الملوك وربّ الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسئل عن أفعاله، مع ما علم واستقرّ في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح.
(وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أى هم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما خلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 24].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يكون هذا المفهوم أمراً عارضاً لما صدق عليه، واشتراكُ العوارض لايستلزمُ اشتراك المروضات وتماثلها، وتحقيق هذه المسألة في الكتب الكلامية.
قوله: (مفعولٌ بدواعي الحكمة). الانتصاف: ما أقبح هذا في حق الله تعالى! فالدواعي والصوارفُ تُستعملُ في أفعال المحدثين. وقوله: "ولا يجوزُ عليه فعلُ القبائح"، لقد نسيت.
وما بالعهد من قدم
حيثُ يجعلُ مع الله شريكاً في خلق الأفعال، وغيرهم أشركوا الملائكة، وهؤلاء أشركوا أنفسهم والجن والحيوانات، نعوذُ بالله تعالى من ذلك.
قوله: (هم مملوكون مُستعبدون خطاؤون) يُشير إلى أن قوله: (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) كنايةٌ عن هذا المعنى؛ لأن من يسألُ عنه: لم فعلتَ؟ لم يكن إلا مقهوراً خطاءً، وبضده إذا لم يُسأل عنه ما فعل.
كرّر (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم، أى: وصفتم الله تعالى بأنّ له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك: إمّا من جهة العقل، وإمّا من جهة الوحى، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأوّلين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوّ إليه، والإشراك به منهى عنه متوعد عليه.
أى (هَذَا) الوحى الوارد في معنى توحيد الله ونفى الشركاء عنه، كما ورد علىّ فقد ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر: أى عظة للذين معى: يعنى أمّته، وذكر للذين من قبلي: يريد أمم الأنبياء عليهم السلام. وقرئ "ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" بالتنوين. و"من" مفعول منصوب بالذكر كقوله (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً)[البلد: 14 - 15] وهو الأصل، والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله:(غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)[الروم: 3].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كرر (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)، أي: قال: "أم اتخذوا آلهةً من الأرض هم ينشرون" ثم عاد إلى هذا القول استفظاعاً لشأنهم، يعني: خلقنا السماء والأرض لداعي المعرفة والعبادة، ثم الجزاء، وهم اتخذوا آلهةً ليس من شأنها ذلك، بل اتخذوا من لم يُنزل فيه سلطاناً، فانظروا إلى هذا الأمر الفظيع.
وقلتُ: وليكون وسيلةً إلى الرجوع إلى ما سبق الكلام له، وهو قوله تعالى:(هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)، ثم قوله:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) الآية، ثم في مجيء هذا، والإضراب بقوله:(بَلْ أَكْثَرُهُمْ) إلى آخر الآية تتميمٌ لذلك الاستفظاع ومبالغةٌ فيه، فقوله:(هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) نفيُ البرهان من جهة الوحي، وقوله:(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) نفيُ البرهان من جهة العقل، وقوله:(فَهُمْ مُعْرِضُونَ) مسببٌ لفقدان دليل العقل، وإليه الإشارة بقوله:"فمن ثم جاء هذا الإعراضُ".
قوله: (متوعدٌ عليه فيه) الضمير في "فيه" راجعٌ إلى قوله: "كتابا"، وقوله:"مدعو "ومنهيٌّ" و"متوعد"، قد تنازعت في الظرف.
وقرئ (مَنْ مَعِيَ) و"مَنْ قَبْلِي" على "من" الإضافية في هذه القراءة. وإدخال الجار على «مع» غريب، والعذر فيه أنه اسم هو ظرف، نحو: قبل، وبعد، وعند، ولدن، وما أشبه ذلك، فدخل عليه «من» كما يدخل على أخواته. وقرئ:"ذكر معى وذكر قبلي". كأنه قيل: بل عندهم ما هو أصل الشرّ والفساد كله وهو الجهل وفقد العلم، وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثم جاء هذا الإعراض، ومن هناك ورد هذا الإنكار. وقرئ «الحق» بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب. والمعنى: أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على "مِن" الإضافية)، قال ابن جني:"هذا ذكرٌ من معي وذكرٌ من قبلي" بالتنوين، وكسرُ الميم من "مِن" هي قراءة يحيى بن يعمُرَ وطلحة بن مُصرف. وهذا أحدُ ما يدل على أن "مع" اسمٌ. حكى صاحبُ "الكتاب" وأبو زيدٍ ذلك عنهم، يقولُ: جئتُ من معهم، أي: من عندهم، فكأنه قال: هذا ذكرُ من عندي ومن قبلي، أي: جئتُ أنا به كما جاء به الأنبياء من قبلي.
قوله: (وقرئ: "الحقُّ" بالرفع)، قال ابن جني: هي قراءة الحسن وابن محيصن. قال ابن جني وصاحب "المرشد": يجوز حينئذ الوقفُ على قوله: (لا يَعْلَمُونَ)، ويُبتدأ "الحق" بمعنى: هو الحقن والوقف التام عند قوله: (مُعْرِضُونَ).
وقُلتُ: فعلى هذا (لا يَعْلَمُونَ) مطلقٌ من قبيل: فلانٌ يعطي ويمنع؛ ولذلك عبر عنه بالجهل. وقوله: "وهو الحقُّ" معترضٌ بين السبب والمسبب لتأكيد هذا الحكم، فإذا وقف على (مُعْرِضُونَ) كان الوقفُ تاماً من حيث المعنى؛ لأن السبب والمسبب كالشيء الواحد. وإذا وقف على (لا يَعْلَمُونَ) كان جائزاً من حيث اللفظ، فقول المصنف:"أن إعراضهم بسبب الجهل"، كلامٌ تامٌ، وقوله:"هو الحقُّ" توكيدٌ له، فهو وزان قوله: هذا عبد الله الحق
إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل. ويجوز أن يكون المنصوب أيضا على هذا المعنى، كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25].
(يوحى) و (نُوحِي): مشهورتان. وهذه الآية مقرّرة لما سبقها من آي التوحيد.
(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 26 - 29].
نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله. نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا الباطلُ، فلا تعلق لقوله:"بسبب الجهل" بقوله: "إعراضهم" ليُجعل الخبر "هوا لحق"، وقول من قال: الحكم بأن إعراضهم بسبب الجهل حقٌّ، يُحملُ على تلخيص المعنى كما مر آنفاً أن قوله: هو الحق معترضٌ لتأكيد الحكم، لا أنه عمد به إلى أن يبين تعلق قوله:"بسبب الجهل" بقوله: "بإعراضهم" كما توهم.
قوله: ("يوحى، و (نُوحِي))، بالنون: حفصٌ وحمزة والكسائي، والباقون: بالياء.
قوله: (وهذه الآية مقررةٌ لما سبقها من آي التوحيد)، وقلت: قد مر مراراً أن السورة نازلةٌ في شأن النبوة وما يتعلق بها، وكلما فرغ من الكلام كرَّ إلى ما سيق له الكلام ليتعلق به نوعٌ آخر، فلما قيل: " (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ) وعلق به منشور التوحيد، وتوقيع (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا)، جُعل ذريعةً وتخلصاً إلى قوله:(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً).
بأنهم عباد والعبودية تنافى الولادة، إلا أنهم (مُكْرَمُونَ) مقرّبون عندي مفضلون على سائر العباد، لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرّ منهم من زعم أنهم أولادى، تعاليت عن ذلك علوا كبيرا. وقرئ "مكرّمون". و"لا يَسْبِقُونَهُ" بالضم، من: سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى: أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله. والمراد: بقولهم، فأنيب اللام مناب الإضافة، أى لا يتقدّمون قوله بقولهم، كما تقول:"سبقت بفرسي فرسه"، وكما أنّ قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنى على أمره: لا يعملون عملا ما لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مَن زعَمَ): مفعولُ "غَرَّ"، و"منهم": بيانُ "مَن"، أو: للتبعيض، وهو مفعولُ "غَرَّ"، و"مَن زعَمَ": بدلٌ منه.
قوله: (مُفضلون على سائر العباد)، قال في "الانتصاف": جعل الزمخشري القرآن تبعاً لرأيه، وليس غرضُنا إلا بيان ذلك خاصة، فإن لفظ (مُكْرَمُونَ) لا يفيدُ إلا إكراماً مطلقاً. أما على كونه مفضلين على سائر العباد، أو على بعضهم فلا.
قوله: (أي: لا يتقدمون قوله بقولهم)، قيل: جعل "تقدم" متعدياً إلى واحدٍ وعداه بالباء إلى اثنين، ولم يوجد ذلك في اللغة، لكن يُجعلُ تركيبه بمنزلة نقله. قلتُ: لعل هذا السائل ما نظر إلى قوله في الحجرات: "قدمَه"، وأقدمه: منقولان بتثقيل الحشو والهمزة، مِن: قدمه: إذا تقدمه في قوله تعالى: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ)[هود: 98]، ونظيرهُ معنى ونقلاً: سلفه وأسلفه
…
"، وأنشد الجوهريُّ للبيد:
فمضى وقدمها
…
البيت، أي: تقدمها.
قوله: (كما تقولُ: سبقتُ بفرسي فرسه)، قال القاضي: أصلُه: لا يسبقُ قولهم قوله، فنسب السبق إليه تعالى وإليهم، وجعل القول محله وقرينته تنبيهاً على استهجان السبق، وتعريضاً بالقائلين على الله ما لم يقُلهُ، ونحوه قال المصنفُ في قوله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يؤمروا به. وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخروا بعين الله، وهو مجازيهم عليه، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم، ويعمرون أوقاتهم. ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم، ثم إنهم مع هذا كله من خشية الله (مُشْفِقُونَ) أى متوقعون من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يدي اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1]: هو تمثيلٌ، وفيه تصويرُ الهُجنةِ والشناعةِ فيما نهُهوا عنهُ من الإقدام على أمرٍ من الأمور دون الاحتذاء على الكتاب والسُّنة.
قوله: (بعين الله)، أي: بمراقبة الله، وهو حالٌ، وقال في طه:(عَلَى عَيْنِي)[طه: 39] أي: أنا أراقبُك كما يُراقبُ الرجلُ الشيء بعينه: إذا اعتنى به.
قوله: (فلإحاطتهم بذلك)، معناه: بسبب إحاطة الملائكة بأن الله تعالى مراقبٌ لأحوالهم كلها، وأنه يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم يضبطون جميع أحوالهم، وبعضُ ذلك الضبط أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فدل هذا الكلام على أن قوله تعالى:(وَلا يَشْفَعُونَ) عطفٌ على محذوفٍ هو مسببٌ عن جملة قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، وأن ذلك المحذوف عامٌّ في جميع ما يجب أن يُراعى ويحفظ من الأحوال، وقوله:(وَلا يَشْفَعُونَ) بعض منها، وإليه الإشارة بقوله "يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم ويعمرون أوقاتهم"، فقوله:(وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) تتميمٌ في غاية الحُسن لضبط أنفسهم، ورعاية أحوالهم كلها سابقها ولاحقها؛ ولذلك قال:"من أمارةٍ ضعيفةٍ كائنون على حذر"، وعن بعضهم، أي: يقولون: لعلنا نقصرُ في عبادة الله، والمؤمنون متوقعون من أمارة قوية لكثرة ذنوبهم. وفيه أن الصغيرة جائزةٌ للتعذيب.
قوله: (للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم)، مذهبه.
أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله"، وبعد أن وصف كرامتهم عليه، وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية.
فاجأ بالوعيد الشديد، وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون، كما قال (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)] الأنعام: 88 [قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد.
(أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء: 30].
قرئ «ألم تر» بغير واو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ورقبة). الأساس: رقبهُ وراقبه: حاذره؛ لأن الخائف يرقُبُ العذاب.
قوله: (كالحلس). النهاية: هو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب، شُبه به للزومه.
قوله: (فاجأ بالوعيد الشديد)، يعني: أتى بما لم يحتسب، وكان من مقتضى الظاهر بعد إجراء كل الصفات الكاملة على الملائكة المقربين أن يُعقب بالوعد العظيم، وبالثواب والتكريم، لكن جيء بقوله:(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ)، أي: من دون الله، وهو وعيدٌ شديد؛ ليؤذن بأن الشرك أمر فظيع، وأنهم مع جلالتهم إن صدر منهم الشركُ، ترتب عليه ذلك العذاب نحو قوله تعالى:(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)[الزمر: 65].
قوله: ("ألم ير" بغير واو)، أي: بعد الهمزة: ابن كثيرٍ، والباقون: بالواو.
و"رَتْقاً" بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول، كالخلق والنقض، أى: كانتا مرتوقتين. فإن قلت: "الرتق" صالح أن يقع موقع "مرتوقتين" لأنه مصدر، فما بال الرتق؟ قلت: هو على تقرير موصوف، أى: كانتا شيئا رتقا. ومعنى ذلك: أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما. أو كانت السماوات متلاصقات، وكذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و"رتقاً" بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول)، قال ابن جني: قراها الحسنُ وعيسى الثقفيُّ، وقد كثُرَ عنهم مجيءُ المصدر على "فعل" ساكن العين، واسمُ المفعولِ منه على "فعلٍ" مفتوحها، فالرتق بفتح التاء هوالمرتوقُ، كالنقض والطرد بمعنى المنقوض والمطرود.
قوله: ("الرتقُ" صالحٌ أن يقع)، تلخيصه: المصدر يصح أن يُراد به التثنية والجمعُ والواحدُ، فما بالُ:"الترقُ" بفتح التاء؛ فإنه اسم مفعول استعمل بمعنى: مرتقوتين. وأجاب: أن السماوات والأرض يقع عليهما اسمُ الشيء، فكأنه قيل: شيئاً رتقاً.
الراغب: الرتق: الضمُّ والالتحامُ خلقةً كان أو صنعةً، قال تعالى:(كَانَتَا رَتْقاً)، أي: منضمتين، والرتقاءُ من الجارية: المنضمة الشفرتين، وفلانٌ راتقٌ وفاتقٌ في كذا أي: هو عاقدٌ وحال.
قوله: (أن السماء كانت لاصقة) ن روى محيي السنة، عن مجاهد والسدى: كانت السماوات مرتقةً طبقةً واحدة، ففتقها فجعلها سبع سماواتٍ، وكذلك الأرضُ.
وقال عكرمةُ وعطيةُ: كانت السماءُ رتقاً لا تُمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. وقال الزجاجُ: ويدل على هذا التفسير قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا
الأرضون لا فرج بينها ففتقها الله وفرّج بينها. وقيل: ففتقناهما بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة، وإنما قيل:(كَانتَاَ) دون "كنّ"، لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض، ونحوه قولهم:"لقاحان سوداوان"، أى: جماعتان، فعل في المضمر نحو ما فعل في المظهر. فإن قلت: متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، وقال القاضي: فعلى هذا المراد بالسماوات: سماءُ الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق، أو: السماوات بأسرها على أن لها مدخلاً ما في الأمطار.
قوله: (مُصمتةً): الأساس: شيءٌ مصمتٌ: لا جوف له، وقُفلٌ مصمتٌ: قد أُبهم إغلاقه.
قوله: (لقاحان سوداوان)، الجوهري: اللقاح بالكسر: الإبل بأعيانها، الواحدة لقوح، وهي الحلوب، وقولهم: لقاحان سوداوان كما قالوا: قطيعان؛ لأنهم يقولون: لقاحٌ واحدةٌ، كما يقولون: قطيع واحدٌ، وإبلٌ واحد.
قوله: (فُعِلَ في المضمر)، أي: في (كَانَتَا)، حيثُ جعل ضمير "السماوات"، وضمير "الأرض"، كل واحدٍ منهما بمنزلة جماعة، كما في المظهر، "أي":"لقاحان".
قوله: (متى رأوهما رتقاً حتى جاء تقريرهم بذلك)، أي: الهمزة في (أَوَلَمْ يَرَ) للتقرير، وتحريرُ السؤال والجواب ما ذكره الإمام، قال: لقائل أن يقول: إن المراد بالرؤية إما النظر وإما العلمُ، والأولُ مشكل؛ لأن القوم ما رأوهما قطُّ، لقوله تعالى:(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)[الكهف: 51]، والثاني كذلك؛ لأن الجسام قابلةٌ للفتق والرتق في أنفسها، فالحكم عليها بالرتق أولاً، وبالفتق ثانياً، لا سبيل إليه إلا بالسمع، والمناظرةُ مع المنكرين للرسالة؟
والجوابُ: أن المراد من الرؤية: العلمُ، ودفعُ السؤال من وجهين، أحدهما: إنا نثبتُ نبوةَ محمدٍ صلواتُ الله وسلامه عليهن ثم نستدل بقوله، ثم نجعله دليلاً على حصوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثانيهما: أن يُحمل الفتقُ والرتقُ على إمكانهما، والعقلُ يدل عليه، لأن الأجسام يصحُّ عليها الاجتماعُ والافتراق، فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً.
ويجوزُ أن يقال: إن أهل الكتاب كانوا عالمين بذلك، وكان بين عبدة الأوثان وبينهم مخالطة، فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قولهم.
وقال صاحب "الفرائد": أما الجواب الأول لصاحب "الكشاف" فمنظورٌ فيه؛ لأنهم كُفار، فكيف يكون لهم اعتقادٌ بما في القرآن لكونه في القرآن؟ فإن قيل: لما كان القرآن معجزةً وجب أن يؤمنوا به ثم يروا ذل. قُلنا المراد من هذا إنكارُ إشراكهم، وأنهم لم يستدلوا به على أنه واحدٌ لا شريك له؛ لأنهم مقرون بأن السماوات والأرض وما يتعلق بهما لم يكن إلا مخلوقاً لله تعالى، وأنه لا يمكن مثلُ ذلك مما جعلوه له شركاء. فكيف يستقيمُ أني قال لهم: لِمَ لمْ تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حقٌّ بما أتى به من الكتاب؛ لتروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، أي: لتعلموا، لأنكم وجدتموه في الكتاب، ثم تعلموا أنه واحدٌ لا شريك له، ولا يتوقفُ العلم بالتوحيد على العلم بالنبي صلى الله عليه ولم، وكما يدل الرتق يدل الفتق مع أن العلم بالفتق ضروريٌّ، وبالرتق استدلالي.
والاعتراضُ على الثاني أن يقال: كما أنه لابد للتباين من مخصص، لابد للتلاصق من مخصص؛ لأنه يمكن أن يكون متلاصقين، كما يمكن أن يكونا متباينين، ووجوب المخصص باعتبار الجواز، فكان لا الطرفين مفتقراً إلى المخصص فقوله:"فلابد للتباين دون التلاصق من مخصص" مع أنه موهم بتخصيص المخصص بالتباين في جواب السائل: "متى رأوهما رُتِقا؟ " منظورٌ فيه. وقلتُ: إذا حُمل على فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات، فالمعنى ظاهرٌ. وإذا حُمل أن السماوات كانت طبقةً واحدة ففتقها الله تعالى وجعلها سبعاً، وكذا الأرض،
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئىّ المشاهد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالمراد من قوله: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا) فليعلموا ذلك، على هذا المعنى حُمل في "التفسير"، وقال في هذا الوجه:(أَفَلا يُؤْمِنُونَ): أفلا يصدقون. تم كلام صاحب "الفرائد".
وقلتُ: ولا ارتياب في بُعد ذلك الاستدلال، فنهم إذا استدلوا بأن القرآن حقٌّ، فأيُّ حاجة إلى العلم بأن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما؛ فإن علم التوحيد والتنزيه فيه أشد سطوعاً من ذلك، فيجوزُ إثبات التوحيد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، لما تقرر في الأصول: أن إثبات للرسالة موقوفٌ على وجود الصانع، لا على وحدته. فنقول: إن هذا الإنكار وقع مع الذين نسبوا الولد إلى الله تعالى، فهم لا ينكرون البتة بأنه سبحانه وتعالى خالقُ السماوات والأرض ومبدعهما ومخترعهما، ألا ترى إلى قوله تعالى في البقرة:(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 116 - 117]، وفي الأنعام:(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ)[الأنعام: 101]؟ فكأنه قيل لهم: كيف تتفوهون بهذه العظيمة، وتغفلون عما أنتم مقرون به وتعتقدونه من أنا أبدعنا هذه الأجرام العظام، واخترعناها ابتداءً، فهلا تتفكرون فتعلمون أن مبدع السماوات والأرض لا يستقيم أن يوصف بالولادة كما سبق في "الأنعام"، فوضع موضع "أبدع السماوات والأرض" قوله تعالى:(أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) مزيداً للتصور، أنه تعالى يصورُ لهم تلك الحالة التي وقعت الخلقةُ والإبداعُ عليها ليكون أردع وأزجر. وإذا كانوا مقرين بأصل الإبداع فأي بُعدٍ في إثبات العلم بذكر الفتق والرتق الذي هو بيان حالة الإبداع وتفصيلهن بل هو آكد؟ ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد قوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، حيث وضع (الَّذِينَ كَفَرُوا) موضع الضمير للإشعار بأن القائلين ستروا الحق، وغطوا على عقولهم بهذا القول الفظيع، والله تعالى أعلم.
(وَجَعَلْنا) لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدّى إلى واحد، فالمعنى: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)] النور: 45 [، أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه، كقوله تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)] الأنبياء: 37 [وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى: صيرنا كل شيء حىّ بسبب من الماء لا بدّ له منه. و «من» هذا نحو «من» في قوله عليه السلام «ما أنا من دد ولا الدد منى» وقرئ: "حيا"، وهو المفعول الثاني. والظرف لغو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فالمعنى: خلقنا من الماء)، يعني: إذا جعل (وَجَعَلْنَا) متعدياً إلى مفعولٍ واحد فهو بمعنى: خلقنا، فـ"مِنْ" إما ابتدائيةٌ أو بيانيةٌ، فعلى أن تكون ابتدائيةً: الجار والمجرورُ متصل بالفعل، و (كُلَّ شَيْءٍ): مفعولٌ به، و (حَيٍّ): صفةٌ للشيء، فالمعنى: أنشأنا كل حيوان من الماء، وهو المراد من قوله:"خلقنا من الماء كل حيوان"، فقدم الجار والمجرور على المنصوب، وعلى الثاني: الجار والمجرورُ حالٌ قُدمت على صاحبها؛ لكونها نكرةً، وأنت تعلمُ أن "مِن" البيانية قد تكونُ تجريدية، نحو: رأيتُ منك أسداً، جُردَ من الماء الحي مبالغةً، كأنه هو، وإليه الإشارة بقوله:"أو كأنما خلقناه من الماء لفرطِ احتياجه إليه"، فأخر الظرف، وإذا جُعِلَ متعدياً إلى مفعولين كان المعنى صيرنا، فـ"مِنْ": إما اتصاليةٌ، أو صلةٌ، فعلى الأول المعنى: كل حيٍّ متصلٌ بالماء وملابسٌ له، كقوله تعالى:(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)[التوبة: 67]، أي: مُشتبكٌ ببعض متصلٌ بالأسباب، وإليه الإشارة بقوله:"بسببٍ من الماء"، أي: مخالطٌ به غير منفك عنه؛ لأن السبب هو: ما تُوصل به إلى المقصود من علم أو آلةٍ أو قدرة، وعلى الثاني الظرف: لغوٌ، فيحتاجُ "جعلنا" إلى مفعولين؛ لأن اللغو: ما يتم الكلام بدونه، وإليه الإشارة بقوله:"حياً"، وهو المفعول الثاني، والظرف لغوٌ.
قوله: (ما أنا من ددٍ، ولا الددُ مني)، النهاية: الددُ: اللهوُ واللعبُ، وهي محذوفةُ اللام، ولا يخلو المحذوفُ من أن يكون ياءً، كقوله: يدٌ في يدي، أو نوناً كقولهم: لدُ في لدن، ومعنى التنكير في الأول: الشياعُ والاستغراق، وأن لا يبقى شيءٌ منه إلا وهو منزهٌ
(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 31 - 32].
أى: كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) وتضطرب. أو لأن تميد بهم، فحذف «لا» واللام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنه صلواتُ الله وسلامه عليهن أي: ما أنا في شيءٍ من اللهو واللعب، والتعريفُ في الثاني: للعهد، أي: ولا ذلك النوع مني، وإنما لم يقل: ولا هو مني لأن الصريح آكد وأبلغ. وقيل: اللامُ للجنس. قال: واختار الزمخشري الأول وقال: ليس يحسنُ أن تكون للجنس؛ لأنه يخرجُ الكلام عن التئامه، والكلام جملتان وفي الموضعين المضافُ محذوف، أي: ما أنا من أهل ددٍ، ولا الددُ من أشغالي. قال أبو عليٍّ: قد جاء: "موالي القوم منهم"، و"الأذُنانِ من الرأس" وقال تعالى:(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)[التوبة: 67]، أي: بعضٌ يُلابس بعضاً ويوالي بعضاً، وليس المعنى على النسل والولادة؛ لأنه قد يكونُ من نسل المنافق مؤمنٌ وبالعكس. وعن بعضهم: أي: ما أنا لعبي ولا الددينوي، كقوله تعالى:(أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ) أي: آلهةً أرضيةً، أي: جعلنا كل رطبٍ مائياً.
قوله: (أي: كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) وتضطرب، أو لأن لا تميد بهم)، الانتصاف: وأولى من هذين الوجهين أن يكون مثل قولك: أعددتُ هذه الخشبة أن يميل الحائط، أي: أعددتها أن أدعم الحائط بها إذا مال، وقدم ذكر الميل عنايةً بأمره، ولأنه السبب في الإدعام، والإدعامُ سببُ إعدادِ الخشبة، فعامل سبب السببِ معاملةَ السبب، فكذا هذا، أي: يُثبتها إذا مادت. المعنى: خلقنا في الأرض رواسي لأن تستقر الأرضُ بها إذا مادت، قال: هذا أقربُ من قول الزمخشري، إذ مكروه الله تعالى محالٌ أن يقع، ولأن المُشاهد خلافُه،
وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس، كما تزاد لذلك في نحو قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهلُ الكِتَابِ)] الحديد: 29 [وهذا مذهب الكوفيين.
الفج: الطريق الواسع. فإن قلت: في الفجاج معنى الوصف، فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً)] نوح: 20 [؟ قلت: لم تقدّم وهي صفة، ولكن جعلت حالا كقوله:
لعزّة موحشا طلل قديم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكم من زلزلة أمادت الأرض، وعلى تقديرنا معناه: أن الله تعالى يُثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وذلك لا ينافي الميد.
قوله: (الفج: الطريق الواسع)، الراغب: الفج: شقةٌ يكتنفها جبلان، قال تعالى:(مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج: 27]، وقال:(فِجَاجاً سُبُلاً)، والفجج: تباعد الركبتين، وهو أفج، من الفجج، ومنه: حافرٌ مفججٌ، وجرحٌ فجٌّ: لم ينضج.
قوله: (لعزة موحشاً طللٌ قديمُ)، تمامه:
عفاه كل أسحم مستديم
مذهب الكوفيين والأخفش أن "طللٌ" فاعلٌ "لعزةَ"، والحالُ مقدمٌ على ذي الحال. ومذهب سيبويه أن ذا الحال هو الضمير المستتر في "لعزةَ"، و"طللٌ" مبتدأ، والتقديرُ: طللٌ قديمٌ حصل لعزة موحشاً، فلا تكون مقدمةً على ذي الحال النكرة، والتمثيل إنما يصح على مذهب الكوفيين والأخفش.
فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: أحدهما: الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة.
والثاني: بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهو بيان لما أبهم ثمة، محفوظا حفظه بالإمساك بقدرته من أن يقع على الأرض ويتزلزل، أو بالشهب عن تسمع الشياطين على سكانه من الملائكة.
(عَنْ آياتِها) أى عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس «2» والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة، وأىّ جهل أعظم من جهل من أعرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما الفرقُ بينهما من جهة المعنى؟ )، أي: بين قوله: (سُبُلاً فِجَاجاً)[نوح: 20] وبين قوله: (فِجَاجاً سُبُلاً)، وخلاصةُ الجواب: أن (سُبُلاً فِجَاجاً): دل على أنه تعالى جعل فيها طرقاً واسعة، ولكن لم يعلم كيفية خلقها، أي: أنها خُلقت ابتداءً كذلك أم غُيرت من حالة إلى حالة، فبين بقوله:(فِجَاجاً سُبُلاً) أنها كانت فجاجاً غير نافذةٍ مانعة لقاصديها من السلوك، ثم جعلت نافذةً مسلكةً امتناناً، كقوله تعالى:(أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا)، وهو المراد من قوله:"فهو بيانٌ لما أبهم ثمةَ"، أي: في تلك الآية.
وقال محيي السُّنة: الفج: الطريق الواسع بين جبلين، و (سُبُلاً): تفسيرٌ للفجاج. معناه ما قال صاحب "المطلع": (سُبُلاً): تفسيرٌ للفجاج، وبيانُ أن تلك الفجاج نافذةٌ مسلوكةٌ، فقد يكون الفج غير نافذ. وقال الزجاجُ: كل مخترق بين جبلين فهو فج. فإن قلت: لم قُدم هاهنا، وأخر هناك؟ قلتُ: تلك الآية واردةٌ لبيان الامتنان على سبيل الإجمال، وهذه لبيان الاعتبار، والبعث على إمعان النظر فيه، وذلك يقتضي التفصيل، ومن ثم عقب قوله:(كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) بهذه، وهذا يُقوي ما ذهبنا إليه في إيثار "الفتقِ" و"الرتْقِ" على "الإبداع" لاقتضاء المقام التفصيل.
عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها، والاعتبار بها، والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو عزت قدرته ولطف علمه.
وقرئ "عن آيتها"، على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس أى: هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية، كالاستضاءة بقمريها، والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها، وهم عن كونها آية بينة على الخالق (مُعْرِضُونَ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذه النصبة)، "النصبةُ": مصدرٌ بمعنى النوع، كالركبة والجلسة، أي: نوعٌ منه عجيبٌ.
قوله: (وقرئ: "عن آيتها" على التوحيد اكتفاءً بالواحدة في الدلالة على الجنس)، يعني: المرادُ بالآية ما يدل على وجود الصانع القادر العليم الحكيم، وذلك كما يحصلُ من مجموع ما وضع في السماء من الشمس والقمر والنجوم ومسايرها وغير ذلك، قد يحصل من واحدةٍ منها. والمرادُ بالإعراض: إنكارُ كونها دالةً على المطلوب، يعني: أنهم متفطنونَ لتلك التفاصيل، ويدركون أوضاعها وينتفعون منها بالمنافع الدنيوية، لكنهم معطلةٌ ينكرون المنفعة العظمى، وهي دلالتها على وجود مُنشئها، وأنه فاعلٌ مختار، ومعبودٌ مستحقٌّ أن يُعبد، فيدخل فيه المنجمون والطبيعيون والمعاندون، وهؤلاء أسوأ حالاً من الأولين، وأما المعنى بالآيات على قراءة الجمع فهو ما وضع فيها من الدلائل والعبر المتكاثرة. والمرادُ بالإعراض: الذهول، وعدم إجالة الفكر، فهم كالأنعام ساهون غافلون، كقوله تعالى:(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[يوسف: 105]، أي: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون، ومن ثم قال:"وأيُّ جهلٍ أعظمُ من جهلِ من لم يذهب وهمه إلى مدبرها والاعتبار بها".
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[الأنبياء: 33].
(كُلٌّ) التنوين فيه عوض من المضاف إليه، أى: كلهم فِي (فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد، وإنما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.
فإن قلت: الجملة ما محلها؟ قلت: محلها النصب على الحال من الشمس والقمر. فإن قلت: كيف استبدّ بهما دون الليل والنهار بنصب الحال عنهما؟ قلت: كما تقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جنسُ الطوالع كل يوم)، ["كل يوم"] متعلقٌ بـ"الطوالع".
قوله: (وهو السبب في جمعهما، بالشموس والأقمار)، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: لما ذكر الشمس والقمر جعل الضمير لكل ما يسبح وهو الكواكب السيارة. وقوله: "وهو السبب في جمعهما" منظورٌ فيه؛ لأن الجمع - باعتبار كل واحد منهما-: اسمُ جنس، وفي صيرورة اسم الجنس جمعاً لا يفتقرُ إلى وجود الجمع، وهذا ظاهرٌ.
قلتُ: في كلامه غموضٌ وإن قال: "هذا ظاهرٌ"، لعل مُراده أن الجمع في الآية ليس كالجمع في المثال؛ لأن الجمع في المثال باعتبار استقلال كل واحدٍ من الشمس والقمر في إرادة الجمعية منه؛ لطلوعه كل يوم وليلةٍ من مشرق، ومنه قوله تعالى:(بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)[المعارج: 40]، وهذا لا يقتضي الجمعية في (يُسَبِّحُونَ) باعتبار أن كل واحدٍ من الشمس والقمر اسمُ جنس، ولذلك غير صاحبُ "التقريب" العبارة حيثُ قال: الضمير للشمس والقمر، والمراد جنس الطوالع، أوالكثرةُ باعتبار كثرة مطالعها؛ ولذلك جُمعا بالشموسِ والأقمار. والوجه الأول من باب التغليبن غُلبَ القمرانِ على سائر السيارة لشرفهما، والثاني من أسلوب المثال المذكور في الكتاب، وأما قولُ المصنفِ:"المرادُ بهما جنسُ الطوالع كل يوم وليلة"، فهو أن ذكرهما لإرادة مطالعهما كل يوم وليلة، يدل عليه قوله: جعلوه متكاثرة لتكاثر مطالعها.
"رأيت زيدا وهندا متبرجة" ونحو ذلك، إذا جئت بصفة يختص بها بعض ما تعلق به العامل. ومنه قوله تعالى في هذه السورة (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً)] الأنبياء: 72 [أو لا محل لها لاستئنافها. فإن قلت: لكل واحد من القمرين فلك على حدة، فكيف قيل: جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم «كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفا» أى كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصارا، ولأنّ الغرض الدلالة على الجنس.
(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 34 - 35].
كانوا يقدّرون أنه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذا كقولهم: كساهُم الأمير حُلةً)، قال صاحب "الفرائد": قولنا: كلهم في دار، مثلاً، يحتملُ وجهين: أن يكونوا مجتمعين في دار، وأن يكون كل واحدٍ منهم في دار على حدة، فلابد هاهنا من قرينة، والأول أسبق إلى الفهم، وهو أنه كونه حقيقةً، ولما كان كل واحدٍ منهما في فلك على حدة ظاهراً عُلم أن المراد هو الثاني.
قوله: (أو كساهم وقلدهم)، قال بعضهم: فالمجاز في الأول في "هم" من كساهم، وفي الثاني في "حُلةً"، كأنه أطلق فرداً وأراد به الجنس، وفي الثاني أراد به الجنس كما في قولهم: تمرةٌ خيرٌ من جرادةٍ.
قوله: (كانوا يقدرون أنه سيموتُ فيشتمون بموته)، إشارةٌ إلى الرجوع إلى ما سيق له الكلامُ في السورة من حديث النبوة، ليتخلص به إلى تقرير مشرع آخر، وذلك أنه تعالى لما أفحم القائلين باتخاذ الولد، وبكتهم بالدليل الإلزامي كما مر، ذكر ما يدل على إفحامهم وهو قوله:(أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)؛ لأن الخصم إذا لم يبق له متشبثٌ في الحجة تمنى هلاك خصمه، قال القاضي: الفاء في (أَفَإِيْنْ مِتَّ) لتعليق الشرط بما قبله، والهمزةُ لإنكاره بعد ما تقرر.
قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت. فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول القائل:
فقل للشّامتين بنا أفيقوا
…
سيلقى الشّامتون كما لقينا
أى نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، وبما يجب فيه الشكر من النعم، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر، وإنما سمى ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار. و (فِتْنَةً) مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.
(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ)[الأنبياء: 36].
الذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد، كقولك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلا عرضةٌ للموت)، الجوهري: جعلتُ فلاناً عرضةً لكذا، أي: نصبته له.
قوله: (فقل للشامتين)، قبله:
إذا ما الدهر جر على أناس
…
كلاكله أناخ بآخرينا
فقُل للشامتين بنا: أفيقوا
…
سلقى الشامتون كما لقينا
الكلاكلُ: جمعُ كلكلة، وهي الصدرُ، يقول: إذا الدهرُ ألقى على أناس كلاكلُه، أي: عصرهم فأهلكهم، أناخ بعدهم على آخرين فيفنيهم، فقُل للشامتين أن ينتهوا ولايشمتوا فسيلقون من حوادث الزمان أكثر ما لقينا؛ لأن الإناخة أصعبُ من جر الكلاكل.
قوله: (أطلقَ ولم يُقيدْ)، وفيه لطيفةٌ، يعني: أن "الذكْرَ" من الألفاظ المطلقةِ كالمشترك يحتاجُ في تقييده بمتعينٍ إلى قرينة، فإذا حصلت القرينةُ ينبغي أن لا يقيدَ، أي: لا يُذكر معهُ
للرجل: "سمعت فلانا يذكرك"، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، وإن كان عدوّا فذمّ.
ومنه قوله تعالى: (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ)[الأنبايء: 60] وقوله: (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) والمعنى أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم وما يجب أن لا تذكر به، من كونهم شفعاء وشهداء. ويسوؤهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخيرُ أو الشر؛ لكون القرينة تكفي في التقييد. فقولهم: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) متضمنٌ لتحقير شأن الآلهة، فالذكرُ متعينٌ للذم، وقوله:(وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) إنكارٌ عليهمُ الإعراض عمن هو موصوفٌ بصفة العظمة، وأن جلائل النعم وعظائم الأفضال ليس إلا منه، فالذكرُ لا يكونُ إلا للمدح، وتخصيصُ ذكرِ "الرحمنِ" كالتتميم لقوله:(وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ)؛ لأنه حالٌ مقررةٌ لجهة الإشكال، وإليه الإشارةُ بقوله: "أنهم عاكفون
…
بهممهم" إلى آخره، إذ المعنى: العجب أنهم بمجامع هممهم يذكرون بالتعظيم ما يجب أن لا يُذكر إلا بالمذمة، الحالُ أنهم معرضون كافرون عن ذكر ما يجب أن يذكر بكل الفضائل، لكونه رماناً له الرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة. وفي تكرير "هم" وتقديم الجار والمجرور على عامله: شأنٌ في الإنكار، وتوبيخٌ عظيمٌ يقتضي أكثر مما قال: "لا يُصدقون به أصلاً".
قوله: (ويسوؤهم أن يذكرها ذاكرٌ بخلاف ذلك)، الانتصاف: وإنما لم يقولوا: أهذا الذي يذكرُ آلهتكم بكل سُوء، استفظاعاً منهم أن يحكوا ما قال من رميها بأنها لا تسمعُ ولا تُبصر ولا تنفعُ ولا تضرُّ، حاشوها من نقل ذمه فرموا إليه بالإشارة، كما يتحاشى المؤمنُ من حكاية كلمةِ الكفر فيومئ إليها، فسبحان من أضلهم فتأدبوا مع الأوثان، وأساؤوا الأدب مع الرحمن! وفي قول المصنف:"أن لا يذكر به من كونهم شُفعاء وشُهداء" إيماءٌ إلى هذا المعنى.
الراغبُ: الذكرُ: تارةً يقالُ ويرادُ به هيئةٌ للنفسِ بها يمكنُ للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه
ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، فهم به كافرون لا يصدّقون به أصلا فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا منك، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل معنى (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) قولهم: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وقولهم (وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَامُرُنا)] الفرقان: 60 [وقيل (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) بما أنزل عليك من القرآن. والجملة في موضع الحال، أى: يتخذونك هزؤا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله.
(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأنبياء: 37 - 38]
كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدم أو لا ذم الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم، كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم. وعن ابن عباس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يُقالُ اعتباراً بإحرازه، والذكرُ اعتباراً باستحضاره، وتارةً يقالُ لحضور الشيء بالقلب والقول، ولذلك قيل: الذكرُ ذكران: ذكرٌ بالقلب، وذكرٌ باللسان، وكل منهما ضربان: ذكرٌ عن نسيانٍ وذكرٌ لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقالُ له: ذكرٌ.
قوله: ((بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ): قولهم: ما نعرفُ الرحمن)، يعني: يرادُ بـ"الذكر": الاسمُ، أي: باسم الرحمن، أي: ما نعرفُ من يُسمى به سوى مُسيلمة.
قوله: (فإنكم مجبولون على ذلك، وهو طبعكم وسجيتكم)، قال القاضي: كأنه خُلق منه لفرط استعجاله، وقلة تأنيه، كقولك: زيدٌ من الكرم، جعل ما طُبع عليه منزلة المطبوع عنه مبالغةً في لزومه له. ومن عجلته: مبادرته إلى الكفر، واستعجاله الوعيد.
رضي الله عنه: أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام، وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم. وروى أنه لما دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل جوفه اشتهى الطعام. وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فأسرع في خلقه قبل مغيبها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه النضر بن الحارث. والظاهر أن المراد الجنس. وقيل «العجل»: الطين، بلغة حمير. وقال شاعرهم:
والنّخل ينبت بين الماء والعجل
والله أعلم بصحته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولم يتبالغ فيه)، أي: لم يتمكن من البلوغ فيه.
قوله: (والظاهر أن المراد الجنسُ)، يعني به القول الأول، وهو قوله:"فقدم أولاً ذم الإنسان"، يدل عيه قوله:"ليس ببدع منكم أن تستعجلوا، فإنكم مجبولون على ذلك". وقوله: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النضر" عطفٌ على قوله: "عن ابن عباس أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام"، على هذين القولين التعريفُ في الإنسان للعهد، وقوله:"قيل: العجلُ: الطين" متفرعٌ على القول بالجنس، فيكونُ القصدُ تحقير شأنه تتميماً لمعنى التهديد في قوله:(سَأُرِيكُمْ آيَاتِي)، أي: لا تستعجلوا أيها المُهانون سأريكم ما تستعجلونه من العذاب، ونظيره في التحقير:(قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)[عبس: 17 - 19].
قوله: (والنخلُ ينبتُ بين الماء والعجل)، أوله في "المعالم":
والنبعُ في الصخرة الصماء منبته
النبعُ: شجرةٌ يُتخذُ منها القسيُّ.
فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) وقوله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا)] الإسراء: 11 [، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. وقرئ: خلق الإنسان.
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَاتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [الأنبياء: 39 - 40].
جواب لَوْ محذوف. و (حِينَ) مفعول به ل (يعلم)، أى: لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدّام، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من وراء وقُدامُ)، صح بالرفع على معنى الغاية، كـ: بعدُ وقبلُ.
قوله: (لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال)، هذا هو جواب "لو" المقدرُ، والمراد بالكفر: ما في قوله: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وبالاستهزاء: قوله: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)؛ لأنه بيانٌ لقوله: (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً) وفي اسم الإشارة معنى التعظيم كما في قوله:
هذا أبو الصقرِ فرداً في محاسنه
ليستقيم الاستهزاءُ، أي: هذا النبيُّ المعظمُ يذكرُ آلهتكم، أي يعبها، قال الواحدي:(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً) ما يتخذونك إلا هُزواً، نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا نبيُّ بني عبد مناف. وبالاستعجال: قوله: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)، وقد أشار
هو الذي هوّنه عندهم. ويجوز أن يكون (يَعْلَمُ) متروكا بلا تعدية، بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. و (حين): منصوب بمضمر، أى حين (لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) يعلمون أنهم كانوا على الباطل وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم، أى: لا يكفونها، بل تفجؤهم فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجة:"مبهوت". ومنه: (فبهت الذي كفر)] البقرة: 258 [، أى: غلب إبراهيم عليه السلام الكافر. وقرأ الأعمش: "يأتيهم
…
فيبهتهم"، على التذكير. والضمير للوعد أو للحين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بهذا إلى وجه توفيق النظم بين الآيات، وذلك أن قوله:(الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تكريرٌ لقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) في (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ)، وهو كما سبق، مُظهرٌ وُضع موضع مضمر، المعنيُّ به القائلون:(اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، فالمعنى: أنهم إنما استحقوا أن يُسموا كفاراً؛ لأنك لما عددت عليهم تلك الآيات الدالة على القدرة الباهرة، والحكمة البالغة، من الآثار: العلوية والسُّفلية، وأدمغت باطلهم وألقمتهم الحجر، أعرضُوا عنها وتمنوا موتك، واستهزؤوا بك وصغروا شأنك. ولما أنذرتهم بالعذاب، وأوعدتهم بنزول الهوان استعجلوه تكذيباً، وذلك لجهلهم؛ لأنهم لو علموا ذلك الوقت الصعب لما ارتكبوا هذا الصعب، ولما أريد أن ينقل من الكفر والاستهزاء أتى بقوله:(خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) تمهيداً؛ ويتخلص منه إليه، وإليه الإشارة بقوله: "فأراد نهيهم عن الاستعجال فقدم أولاً ذم الإنسان
…
ثم نهاهم وزجرهم"،
قوله: (ويجوز أن يكون (يَعْلَمُ) متروكاً): عطفٌ على قوله: " (حِينَ): مفعولٌ به لـ (يَعْلَمُ) "، أي: متروكاً مفعوله: نسياً منسياً، ومن ثم قال:"لو كان معهم علمٌ"، فحينئذ لابد لقوله:(حِينَ) من متعلق، فيقدرُ ما دل عليه (يَعْلَمُ)، والجملة مستأنفةٌ، كأنه لما قيل: لو وُجد منهم علمٌ لما استعجلوا، اتجه لسائل أن يقول: فحين لم يحصل لهم العلمُ الآن فمتى يحصلُ به؟ فقيل: يعلمون حين لا يقدرون أن يدفعوا النار عن أنفسهم.
قوله: (أي: غلب إبراهيمُ الكافر). الراغب: قال الله تعالى: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)
فإن قلت: فإلام يرجع الضمير المؤنث في هذه القراءة؟ قلت: إلى النار أو إلى الوعد، لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها أو على تأويل العدة أو الموعدة. أو إلى الحين، لأنه في معنى الساعة. أو إلى البغتة. وقيل في القراءة الأولى: الضمير للساعة. وقرأ الأعمش: بغتة، بفتح الغين.
(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) تذكير بإنظاره إياهم وإمهاله، وتفسيح وقت التذكر عليهم، أى: لا يمهلون بعد طول الإمهال.
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)[الأنبياء: 41].
سَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[البقرة: 258] أي: دهش وتحيَّر، وقد بهته. وقال الله تعالى:(هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[النور: 16] أي: كذبٌ يُبهتُ سامعه لفظاعته. ويقال: يا للبهيتة، أي: الكذب. وقال: البغتُ: مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب، يقال: بغتَ كذا فهو باغتٌ، قال الشاعر:
إذا بغتت أشياءُ قد كان مثلها
…
قديماً فلا تعتدها بغتاتِ
قوله: (تذكيرٌ بإنظاره إياهم)، أي: يُذكرهم الله تعالى أنهم لا ينظرون الآن هناك ليغتنموا هذه الفرصة.
قوله: (سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوةً)، إشارة إلى ما عليه أساس هذه السورة الكريمة من الكرِّ إلى ذكر النبوة وما يتصلُ بها بعد الشروع في نمطٍ من الكلام، فأتى هاهنا بقوله:(وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) لينصبَّ الكلامُ معه إلى مشرع ذكر الأنبياء عليهم السلام مفصلاً إلى آخر السورة تسلياً
ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا.
(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 42]
(مِنَ الرَّحْمنِ) أى من بأسه وعذابه (بَلْ هُمْ) معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال عنه. والمراد أنه أمر رسوله عليه الصلاة والسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ما فعلوا) فاعل "حاق".
قوله: (والمرادُ أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعلم أن في هذه الآيات إضراباتٍ توجبُ أن يُراعى فيها ما يوجبه من التدرج، والمصنفُ نظر- في تقريره - إلى ذلك المعنى.
قوله: "والمرادُ أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، يريد أنه صلوات الله عليه وسلامه أُمر أولاً بقوله:(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ) أن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، يعني: أنتم تستعجلون العذاب وتقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) تكذيباً واستهزاءً بالبعث، وذلك وقتٌ صعبٌ شديدٌ تحيطُ بكم النارُ من كل جانب، ومجيء ذلك مفروغٌ عنه، فمن يكلؤكم من بأسه ونقمته إن قدر إنزاله الآن؟ ثم أضربَ عن هذا السؤال بقوله:(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) وترقى فيه أي: دعهمُ الآن عن هذا السؤال؛ لأنهم لا يصلحون له لإعراضهم عن ذكر الله فلا يُجدي فيهم، واتركهم حتى إذا ورطوا في الهلاك عرفوا من الكالئ، فحينئذ سلهم سُؤال تقريع: من يكلؤكم؟ كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)، إلى قوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَقِّ) [يونس: 22 - 23]، وهو المراد من قوله:"حتى إذا رُزقوا الكلاءة منه، عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال".
هذا المعنى يُعطيه هذا الإضرابُ تعريضاً، ثم ترقى إلى ما هو أبلغ منه، وقيل:(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا) أي: دع هذا، وسل: متى يُتصور أنهم لم يكونوا تحت كلائنا وحفظنا، وأن أصنامهم متى كانت تحميهم وتمنعهم من الآفات؟ أفلا يعقلون أن ما ليس بقادرٍ على نصر نفسه ومنعها، كيف يمنعُ غيره وينصره؟ وإليه الإشارة بقوله:"ثم أضرب عن ذلك" أي: ذلك السؤال وهو "من يحرسكم"، ثم قال:(بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ) أي: بل ما هم فيه من الحفظ إنما هو من استدراج، فهو إضرابٌ من نفس السؤال، أي: لا تسألهم عن شيء لأنه لا يجديهم، ولا ينفعُ الإنذار فيهم؛ لأنه طال عليهم الأمدُ فقست قلوبهم؛ فإنك قد أبلغت وأديت ما عليك، بقي أن تُعاملهم بالإهلاك على سبيل التدرج بالاستئصال في الدنيا، والنار في العقبى، أغفلوا وعملوا، فلا يرون كيف شرعنا في ذلك، حيث إننا ننقص دار الكفر، ونحذفُ أطرافها بتسليط المسلمين عليها، وإهارهم على أهلها، فينظروا هل يقدرون على دفعه، فهم الغالبون أم المغلوبون؟
فالفاء في (أَفَلا يَرَوْنَ) لعطفِ الجملة على المقدر، وفي (أَفَهُمْ) على المذكور، والهمزة الثانية مكررةٌ مقحمةٌ بين المعطوف والمعطوف عليه، لتأكيد التقرير على سبيل التعكيس، أ]: أفلا ينظرون كيف نغلبهم وننقص من أطراف أرضهم فهم الغالبون أم نحن؟
وإنما خولف في الإضراب الثاني بأن أتى "بأم" المتضمنة للهمزة وبل؛ ليؤذن بالاهتمام، وأن الجملة مستطردةٌ بين الإضرابين بـ"بل".
بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم.
(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ)[الأنبياء: 43].
ثم أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل» وقال (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ) من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا. ثم استأنف فبين أنّ ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد، كيف يمنع غيره وينصره؟
(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَاتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)[الأنبياء: 44].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولما أُريد أن ينتقل من عذاب الاستئصال إلى عذاب النار، وهو قوله:(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ) الآية، وسط بينهما ما هو مهم بشأنه من حديث الوحي، وهو قوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ) توكيداً ليتخلص منه إليه، وإليه الإشارة بقوله:"ولئن مستهم من هذا الذي يُنذرون به أدنى شيء لأذعنوا"، وفيه أن قوله:(مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ) وُضع موضع المضمر.
والذي يدل على أن قوله: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ) متعلقٌ بأحوال القيامة: إيقاعُ قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) حالاً من الضمير في (لَيَقُولُنَّ) بتقديرِ: نحنُ نضعُ، خالياً عن الضمير، على منوالِ: جئتُكَ والشمسُ طالعةٌ.
نقلَ بعضُ الشارحين "للكافيةِ" عن المصنفِ أنه قال في حواشي "المفصل": إن مثل قولك: أتيته وزيدٌ قائمٌ، ليست الحالُ هنا بيان هيئة الفاعل ولا المفعول، ولكنها بيانُ لازم الفاعل أو المفعول، وقد استمر في كلام العرب: العبارةُ عن الملزوم باللازم، فاللازمُ هنا: زمانُ الإتيان، فكأنه بيان ذاتهما، على أن من الجائز أن يكون الحالُ هنا لبيان هيئة الفاعل صريحاً؛ لأن الذي أقيم مقام العائد العمومُ في قوله:(فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)، المعنى: ليقولُنَّ: إن كنا ظالمين، الحالُ أنهم لا يُظلمون شيئاً.
ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالا، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ) الأمد، وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم، وذلك طمع فارغ وأمل كاذب.
(أَفَلا يَرَوْنَ) أَنَّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردّها دار إسلام. فإن قلت: أى فائدة في قوله (نَاتِي الْأَرْضَ)؟ قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها.
(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء: 45 - 46].
قرئ (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ)"ولا تسمع الصم"، بالتاء والياء، أي: لا تسمع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونحدقُ أطرافها)، بفتح النون، وفي أكثر النسخ:"نحذفُ" بالفاء.
الجوهري: حدقوا بالرجل وأحدقوا به: أحاطوا. وقال: حذفته بالعصا، أي: رميته بها، وحذفتُ رأسه بالسيف: إذا ضربته وقطعت منه قطعةً.
قوله: (أي فائدةٍ في قوله: (نَاتِي الأَرْضَ)؟ )، يعني: كان ذلك واقعاً فلم جيء بالمضارع؟
قوله: (غالبةً عليها)، وفي نسخةٍ: بالياء. الأساس: تغالى النبتُ: ارتفع.
قوله: (قرئ: (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ))، ابن عامر:"ولا تُسمعُ" بالتاء الفوقانية مضمومةً وكسر الميم، و"الصُّمَّ": بالنصب، والباقون: بالياء مفتوحةً وفتح الميم، و"الصُمَّ": بالرفع.
أنت الصم، ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ولا يسمع الصم)، من أسمع. فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل (إِذا ما يُنْذَرُونَ)؟ قلت: اللام في "الصم" إشارة إلى هؤلاء المنذرين، كائنة للعهد لا للجنس. والأصل:"ولا يسمعون إذا ما ينذرون"، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا. أى: هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامّ من آيات الإنذار.
(وَلَئِنْ) مَسَّتْهُمْ من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء، لأذعنوا وذلوا، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا. وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه التفاتٌ.
قوله: (وفي المس والنفحة ثلاثُ مبالغات): واحدةٌ في المس، وثنتان في النفحة، وزاد صاحب "المفتاح" فيها التحقير بواسطة التنكير، واعترض عليه صاحب "التلخيص" وقال: خلافُ التعظيم، مستفادٌ من بناء المرة ومن نفس الكلمة.
وقلتُ: لا ارتياب في أن اعتبار التنكير غير اعتبار البناء؛ لأنك إذا أدخلتَ على هذا البناء حرف التعريف أفاد المرة دون التحقير؛ ولذا أكد البناء في قوله تعالى: (نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) بالوحدة لما كان المقصود منه الوحدة لا التحقير، فعُلم أن البناء لا يستلزمُ التحقير بل يحتمله باقتضاء المقام كذلك التنكير، ولما اقتضى المقام المبالغة في التقليل والتحقير كما قال:"ولئن مستهم نفحةٌ من هذا الذي يُنذرون به أدنى شيء لأذعنوا" وجب اعتبارُ ما يؤذن بالتحقير من نفس الكلمة، ومن البناء والتنكير، على أن قول صاحب "الكشاف":"في المس والنفحة ثلاث مبالغات" محتملٌ لأن يكون إحداهن بالتنكير.
لأنّ النفح في معنى القلة والنزارة. يقال: "نفحته الدابة وهو رمح يسير، ونفحه بعطية: رضخه، ولبناء المرة.
(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)[الأنبياء: 47].
وصفت الْمَوازِينَ بالقسط وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط. أو على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: نفح الريحُ ينفح نفحاً، وله نفحةٌ طيبة، أي: هبوبٌ من الخير، وقد يُستعارُ ذلك للشر، قال تعالى:(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ)، ونفحه بالسيف: ضربه، والنفوحُ من النوق: التي يخرج لبنها من غير حلب، وقوسٌ نفوحٌ: بعيدةُ الدفع للسهم.
ونقل في "المطلع" عن المبرد: النفحةُ: الوقعةُ من الشيء التي دون معظمه، يقالُ: نفحهُ بنائلٍ، أي: بشيءٍ يسيرٍ منه، ويقالُ: نفحةٌ بالسيف: للضربة الخفيفة.
الأساس: نفحته الدابةُ: ضربته بحدِّ حافرها.
قوله: (وُصفت الموازينُ بالقسط)، الراغب: القسطُ: هو النصيب بالعدل، كالنصف والنصفة، قال تعالى:(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ)[الرحمن: 9]، والقسط-بالفتح- هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك جور، والإقساطُ: أن يُعطي قسط غيره، وذلك إنصافٌ؛ ولذلك قيل: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل، قال تعالى:(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)[الجن: 15]، وقال:(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الجرات: 9].
حذف المضاف، أى: ذوات القسط. واللام في (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) مثلها في قولك: "جئته لخمس ليال خلون من الشهر". ومنه بيت النابغة:
ترسّمت آيات لها فعرفتها .. لسنّة أعوام وذا العام سابع
وقيل: لأهل يوم القيامة، أى لأجلهم.
فإن قلت: ما المراد بوضع الموازين؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: إرصاد الحساب السوىّ، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرّة، فمثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. والثاني: أنه يضع الموازين الحقيقية ويزن بها الأعمال. عن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان. ويروى: أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشى عليه، ثم أفاق فقال: يا إلهى من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال:"يا داود، إنى إذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ترسمت آياتٍ لها)، البيت، ويُروى: توسمتُ. الترسُم: التأمل في رسم الشيء كالتوسم: التطلبُ في وسمه، يقول: درست آثارُ المحبوبة، وتوسمتها فعرفتها بالوسم لشدة تبدلها وتغيرها، بعد سبعة أعوام مضت عليها.
قوله: (وقيل لأهل يوم القيامة)، قال صاحب "الفرائد": والظاهر أن نحو هذا مفعولٌ له، كقولك: جئتك للسمن واللبن، ثم توسع في الاستعمال، وأجرى ما يُغايره في المعنى مجراه للاختصاص المشترك بينهما، والبيت الذي ذكره ليس بنظيرٍ للآية؛ لأنهُ يصلح أن يُقال: لأجل يوم القيامة، ولا يصلح لأجل ستة أعوام.
وقلت: استشهد به لأحد الوجهين، وقال غيره: معنى جئته لخمس ليالٍ، جعلتَ المجيء مختصاً بخلو خمس ليالٍ، كقوله تعالى:(يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الفجر: 24].
فإن قلت: كيف توزن الأعمال وإنما هي أعراض؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: توزن صحائف الأعمال. والثاني: تجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. وقرئ "مِثْقالَ حَبَّةٍ" على «كان» التامة، كقوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ)] البقرة: 280 [. وقرأ ابن عباس ومجاهد: "أَتَيْنا بِها" وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء. وقرأ حميد:"أثبنا بها"، من الثواب. وفي حرف أبىّ:"جئنا بها". وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة، كقولهم:"ذهبت بعض أصابعه".
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ)[الأنبياء: 48].
أي: آتيناهما (الْفُرْقانَ) وهو التوراة وَأتينا به ضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (آتينا بها)، أي: أحضرناها، قال ابن جني:"آتينا بها" بالمد، ينبغي أن يكون "فاعلنا" لا "أفعلنا"؛ لأنه لو كانت "أفعلنا" لما احتيج إلى الباء، ولقيل: آتيناها، كقوله تعالى:(وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)[الإسراء: 59] ومضارعها: يُؤاتي مؤاتاةً، وأنا مُؤاتٍ وهو مؤاتي.
قوله: (وأتينا به ضياء وذكرا)، أتى بالباء التجريدي، نحو: رأيتُ بك أسداً، ليوقفك أن العطف من باب قولك: مررتُ بالرجل الكريم، والنسمة المباركة، جُرد من الفرقان- وهو التوراة- شيءٌ يُسمى ضياءً وذكراً، وهما نفسُ التوراة ثم عطف عليه، وإليه الإشارةُ بقوله:"أنه في نفسه ضياءٌ وذكرٌ" وسيجيء في أول ص بيانه إن شاء الله. وقال صاحبُ "الكشفِ": أدخل الواو على الضياء وإن كانت صفةً في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظاً، كقوله تعالى:(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
أنه في نفسه ضياء وذكر. أو وآتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: "الفرقان: الفتح"، كقوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ)] الأنفال: 41 [وعن الضحاك: فلق البحر. وعن محمد ابن كعب: المخرج من الشبهات. وقرأ ابن عباس: "ضياء"، بغير واو: وهو حال عن الفرقان. و"الذكر": الموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم. أو الشرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[الأحزاب: 12]، قال سيبويه: مررتُ بزيدٍ وصاحبك، فإذا قلت: مررتُ بزيدٍ فصاحبك، بالفاء: لم يجز كما جاز بالواو؛ لأن الفاء تقتضي التعقيب، وتأخير الاسم عن المعطوف عليه، بخلاف الواو. وأما قولُ القائل:
يا لهف زيابة للحارث الصا
…
بح فالغانم فالآيب
فإنما ذُكر بالفاء وجاد؛ لأنه ليس بصفةٍ على ذلك الحد؛ لأن الألف واللام بمعنى الذين أي: فالذي صبح، فالذي غنم فالذي آب. وأبوا لحسن يُجيز المسألة بالفاء كما يجوز بالواو.
قوله: (أو آتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ)، فعلى هذا لا يُراد بالفرقان التوراةُ، بل ما يفرق بين الحق والباطل.
قوله: (وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: "ضياءً" بغير واو)، قال ابن جني: هو حالٌ، نحو: دفعتُ إليك زيداً محملاً لك، ومسدداً من أمورك، وأصبحتك القرآن دافعاً عنك ومؤنساً لك. وأما في قراءة الجماعة فهو عطفٌ على (الْفُرْقَانَ) على أنه مفعولٌ به على ذلك.
(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)[الأنبياء: 49].
محل (الَّذِينَ) جرّ على الوصفية. أو نصب على المدح. أو رفع عليه.
(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)[الأنبياء: 50].
(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) هو القرآن. وبركته: كثرة منافعه، وغزارة خيره.
(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء: 51 - 54].
"الرشد": الاهتداء لوجوه الصلاح. قال الله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)[النساء: 6] وقرئ: "رشده". والرشد والرشد، كالعدم والعدم. ومعنى إضافته إليه: أنه رشد مثله.
وأنه رشد له شأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومعنى إضافته إليه أنه رشدٌ مثله)، يعني: الإضافة فيه بمعنى اللام والاختصاص، والمعنى: والله لقد آتينا بجلالتنا وعظم شأننا إبراهيم رُشداً يليقُ بمثله وبحال من انتصب للرسالة وخلة الرحمن، ولإرادة هذه الوصفية قال:"رشدٌ مثله" على الكناية، ولو قيل: الرُشد أو ترك الكلام خلواً من القسم وضمير الجماعة، لم يُفخم هذا التفخيم، ثم جاء قوله تعالى:(وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) تذييلاً لهذا المعنى، كما قال:"إنه علم منه أحوالاً بديعة، وأسراراً عجيبة"، إلى قوله: "حتى أهله لمخالته ومخالصته. الراغب: الرشدُ والرشدُ: خلافُ الغي، يستعملُ استعمال الهداية، يقال: رَشَدَ يَرْشَد ورَشِدَ يَرْشَد، قال تعالى:(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً)[النساء: 6]، وبين الرُّشدين، أعين الرشد المؤنس من اليتيم، والرشد الذي أوتي إبراهيم، بونٌ بعيد. وقال بعضهم: الرشد بالفتح أخص من الرشد بالضم، فإن الرشيد يقال في الأمور الدنيوية، والرشد لا يقال إلا في الأمور الأخروية، والراشدُ والرشيدُ يقالُ
(مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى وهارون عليهما السلام. ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالته ومخالصته، وهذا كقولك في خير من الناس:"أنا عالم بفلان". فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيهما، قال تعالى:(أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ)[الحجرات: 7]، (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود: 97].
قوله: ((من قبلُ) من قبل موسى وهارون)، قال الإمامُ: هذا قولُ ابن عباس وابن عمر. وفي "معالم التنزيل": من قَبْلِ البلوغ حين خرج من السربِ. وقال القاضي: من قبل محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه.
قلتُ: والذي يقتضيه النظمُ: الأولُ؛ لما سبق أن السورة أسس مبانيها على ذكر النبوة وما يتصلُ بها من ذكر الوحي، وأن ذكر الأنبياء واردٌ لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من حق الظاهر تقدمُ نوحٍ على إبراهيم، وهو على موسى، صلوات الله وسلامه عليهم، لكن المناسبة استدعت تقدم موسى عليه السلام؛ لأن حاله أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث إيتاء الكتاب، وكثرةُ الدلائل القاهرة، ومقاساةُ الشدة، وثقلُ أعباء النبوة والدعوة، وكثرةُ التوابع والأمة، وأن حال إبراهيم عليه السلام أقربُ إليه من حال نوح عليه السلام، فقد رُوعي في تأخرهم تلك اللطيفة، وهي أن قيل: من قبلُ، ويؤيدُ هذا التأويل قوله تعالى:(وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ)[الأنبياء: 76]، أي: من قبل المذكورين. وفي "المعالم": من قَبْلِ إبراهيم ولُوطٍ عليهما السلام. والله اعلمُ بأسرارِ كلامه.
(إِذْ) إما أن يتعلق ب (آتينا)، أو ب (رشده)، أو بمحذوف، أى: اذكر من أوقات رشده هذا الوقت.
قوله (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) تجاهل لهم وتغاب، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها. لم ينو للعاكفين مفعولا، وأجراه مجرى ما لا يتعدى، كقولك: فاعلون العكوف لها. أو واقفون لها. فإن قلت: هلا قيل: "عليها عاكفون"، كقوله تعالى (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) [الأعراف: 138]؟ قلت: لو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي «على» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((إذْ) إما أن يتعلق بـ (ءآتينَا)، أو بـ (رُشدَهُ)، أو بمحذوفٍ)، والثالثُ أبلغُ من الأول، ولاستدعاء المقام أوفق، وهو من الثاني لاختصاص الوصف به عند إرشاده الناس وقت هذا القول. قال أبو البقاء:(إذْ) ظرفٌ لـ (عَالَمِينَ)، أو لـ (رُشْدَهُ)، أو لـ (ءآتينا)، ويجوز أن يكون بدلاً من موضع (مِنْ قَبْلُ)، أو أن ينتصب بإضمار: أعني أو اذكُرْ.
قوله: (تجاهلٌ لهم وتغابٍ)، الجوهري: تغابي: تغافل، وأنشدوا:
ليس الغبي بسيد في قومه
…
لكن سيد قومه المتغابي
قوله: (لو قصد التعدية لعداه بصلته)، يعني: قد ذكرنا أن اسم الفاعل يجري مجرى اللازم، فال يكون اللام صلته، بل جيء بالجار والمجرور بياناً لمن عكف له، كقوله تعالى:(لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف: 43] في أحد وجهيه. إنما أورد هذا السؤال والجواب؛ لأنه لما قال: "لم ينو للعاكفين مفعولاً"، وقدر "فاعلون العكوف لها، أو واقفون لها" اتجه لسائل أن
ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أنّ عبدة الأصنام منهم.
(أَنْتُمْ) من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به، لأنّ العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع. ونحوه:(اسكن أنت وزوجك الجنة)] البقرة: 35 [، أراد أن المقلدين والمقلدين جميعا، منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، لاستناد الفريقين إلى غير دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالا.
(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ)[الأنبياء: 55].
بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجدّ، فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جدّ وحق، أم لعب وهزل؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: لم قيل: لها، وكان الواجب: عليها؟ وأجاب: أن ذلك ليس للتعدية، بل للبيان؛ إذ لو أراد التعدية لعداه بما يختص به من الجار به. والحاصل أن مقام المبالغة اقتضى أن يترك عاكفون على إطلاقه، سواءٌ كان المتعلقُ مفعولاً بواسطةٍ أو بغير واسطة.
الجوهري: عكفه: أي: حبسه ووقفه، يعكفُ عكفاً، ومنه قوله تعالى:(وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً)[الفتح: 25]، وعكف على الشيء يعكفُ عكوفاً، أي: أقبلَ عليه مواظباً.
قوله: (ومجادلون لأهل الحق)، ضمن "مُجادلون" معنى الدفع؛ ولذلك عُدِّي بـ"عَنْ".
قوله: (هذا الذي جئتنا به أهو جدٌّ وحقٌّ، أم لعبٌ وهزل؟ )، فإن قلت: ما الفرقُ بينَ هذا القول وبينَ قولِ صاحبِ "المفتاح": أجددتَ تعاطي الحقِّ أم أحوالِ الصبا بعدُ على الاستمرار؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: نظر صاحبُ "المفتاح" إلى ما يلي حرف الاستفهام ومعادلتها، فأوقع السؤال على التجدد والاستمرار، ونظر المصنفُ إلى متعلقهما وهو الحقُّ واللعب، وإلى ظاهر الجواب قال:(بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فأوقع السؤال على ما يطابقه، أي: ما جئت إلا بالحق الساطع، وهو الذي لا تُنكرونه أنتم ولا آباؤكم الأقدمون. ويمكن أن يُوجه قولُ صاحب "المفتاح" بأن يُقال: ما جددتُ شيئاً بل جئتُ بما استمر عليه آباؤكم الأولون، وأنتُم لا تُنكرونه إذا تركتم العناد.
وقلت: والذي عليه النظمُ المعجز حملُ "أم" في قوله: (أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ) على المنقطعة لا المتصلة، كما عليه اهرُ كلام هذين البحرين؛ لأن هذا الاستفهام وقع في مقام المقاولة بين خليل الله عليه السلام وبين أعداءِ الله، فإنه عليه السلام لما قال لأبيه وقومه:(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) استجهالاً لهم؛ حيث جاء بما الاستفهامية التي تُستعملُ غالباً بما لا معرفة فيه ولا علم، وضم معه لفظة (هذِهِ) التي تدُل على تحقير شأن المشار إليه في مثل هذا المقام، وجعلها تماثيل صور لا يعتد بها من له مسكةٌ، بالغ في إبطال عبادة تلك التماثيل، وكما نسبها إلى الإفراط في الحقارة، نسبهم إلى الإفراط في العُكوف لها حيثُ قال:(أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) بالضمير المرفوع وبناء الخبر عليه المفيد لتقوي الحكم وتخصيص العكوف بالذكر. ولما لم يكن جوابهم إلا أن قالوا: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) ضللهم وجعلهم منغمسين في الضلال بالجملة القسمية، وقرن آباءهم معهم، وأكد الضمير المرفوع، ووصف الضلال بالمبين، ولما سمعوا منه هذه الغلظة، وشاهدوا هذا الجد، طلبوا منه البرهان، يعني: هب أنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه، فهل معك دليلٌ على ما ادعيت أجئتنا بالحق، ثم أضربوا عن ذلك، وجاءوا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة للتقرير، فأضربوا بـ "بل" عما أثبتوا له، وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت والقطع، وذلك أنهم قطعوا أنه
(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)[الأنبياء: 56].
الضمير في (فَطَرَهُنَّ) للسماوات والأرض. أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم، وأثبت للاحتجاج عليهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاعبٌ وليس بمحقٍّ البتةَ؛ لأن إدخالهم إياه في زُمرة اللاعبين، أي: أنت غريقٌ في اللعب، داخلٌ في زُمرة الذين قُصارى أمرهم في إثبات الدعاوى اللعبُ واللهوُ على سبيل الكناية الإيمائية، دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان. وهذه الكناية توقفك على أن "أمْ" لا يجوز أن تكون متصلة قطعاً، وكذا "بل" في قوله:(بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ).
وهذا الجواب واردٌ على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم بقوله: بل أنا من المحقين وليستُ من اللاعبين، فجاء بقوله:(بَل رَبُّكُمْ) الآية؛ لينبه به على أن إبطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لاحاجة فيه لوضوحه إلى الدليل، ولكن انظروا إلى هذه العظيمة، وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم، ورازقكم ومالك العالمين، والذي فطر ما أنتم لها عاكفون، وتشتغلون بعبادتها دون، فأي باطل أظهر من ذلك؟ وأي ضلال أبين من هذا؟ ثم ذيل الجواب بما هو مقابلٌ لقولهم، وهو قوله:(وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ) من حيث الأسلوب، وهي الكناية، ومن حيث التركيب، وهو بناء الخير على الضمير أي: لست من اللاعبين في الدعاوى، بل أنا من القائمين فيها بالبراهين القاطعة، والحجج الساطعة، كالشاهد الذي تُقطعُ به الدعاوى، وبه يتقوى قول المصنف:"كونُ الضمير للتماثيل أدخلُ في تضليلهم، وأثبتُ للاحتجاج عليهم"، قال القاضي:(قَالَ بَل رَبُّكُمْ): إضرابٌ عن كونه لاعباً بإقامة البرهان على ما ادعاه. وقال: معنى (مِنْ الشَّاهِدِينَ): من المحققين له، والمبرهنين عليه، فإن الشاهد من يحقق الشيء.
وشهادته على ذلك: إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأنى لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.
(وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 58].
قرأ معاذ بن جبل: "بالله". وقرئ: "تولوا"، بمعنى تتولوا. ويقويها قوله (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)] الصافات: 90 [.
فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: إن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (شهادته على ذلك)، أي: شهادةُ إبراهيم على معنى قوله: (بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، ولما كانت الشهادة على خلاف المتعارف، كقوله تعالى:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)[آل عمران: 18] الآية، قال:"شهادته على ذلك، إدلاؤه بالحجة عليه"، أي: توصله بها على ما قال. وفي "المُغرب": أدليتُ الدلو: أرسلتها في البئر، ومنه أدلى بالحجة: أحضرها، وفي التنزيل:(وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)[البقرة: 188]، أي: لا تلقوا أمرها والحكومة فيها. وفلانٌ يدلي إلى الميت بذكر، أي: يتصل.
قوله: (وأبرهن عليه)، "الأساس": حُكي عن الفراء: أبره فلانٌ: جاء بالبرهان، وبرهن مولد، والبرهان: بيانُ الحجة وإيضاحها، من البرهرهة، وهي البيضاء من الجواري.
قوله: (قرأ معاذُ بن جبل: "بالله")، قال الزجاجُ: ولا يصلح التاء في القسم إلا في "الله"، تقول: وحق الله لأفلعن، ولا يجوزُ: تحق الله، والتاء بدلٌ من الواو، ويجوزُ: تالله لأكيدن، وقراءة العامة: بالتاء الفوقانية.
قوله: (وإن التاء فيها زيادة معنى)، وهو التعجب، وذلك أن المقسم عليه بالتاء يجبُ
كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان، خصوصا في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصره دينه ولكن:
إذا الله سنّى عقد شيء تيسّرا
روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه. عن قتادة: قال ذلك سرا من قومه، وروى: سمعه رجل واحد.
(جُذاذاً) قطاعا، من الجذ وهو القطع. وقرئ بالكسر والفتح. وقرئ:"جذذا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يكون نادر الوقوع، فإن الشيء المعجب لا يكثر وقوعه، وألا لم يكن معجباً. ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الله تعالى.
قوله: (إذا الله سنى عقد شيء تيسرا)، أوله:
ولا تيأسا واستغورا الله إنه
ويُروى: "واستعونا الله". وقيل: أوله:
وأعلم علماً ليس بالظن أنه
…
إذا الله سنى عقد شيء تيسرا
سنى الأمر: سهله، وسنى العقدة: حلها، والضمير في أنه: للشأن.
قوله: (وقر بالكسر الفتح)، أي:(جُذَاذاً). الكسائي: بكسر الجيم، والباقون:
جمع "جذيذ"، و"جذذا" جمع جذة. وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) وعن الكلبي (إِلَيْهِ) إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها. أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل.
فإن قلت: إذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأى فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بضمها. روى ابن جني عن أبي حاتم قال: فيها لغاتٌ: "جُذاذٌ" بالضم والفتح والكسر، وأجودها الضمُّ، كالحطام والرفات. وقال الزجاج أبنيةُ كل ما كُسرَ وقُطع وحُطم على فُعال، ومن قال:"جِذاذٌ" بالكسر فقال: هو جمعُ جذيذ، نحو: ثقيل وثقالٍ وخفيفٍ وخفاف، ويجوزُ "جذاذاً" بالفتح على القطاع والحصاد. ويجوزُ "جُذُذاً" بضم الجيم والذال: جمع جذيذ، و"جُذُذ" مثل: جديدٍ وجُدُد، وقال أبو عبيدة:(فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً)، أي: مستأصلين. ولفظ "جُذاذ" يقعُ على الواحد والاثنين والجمع من الذكر والمؤني بمنزلة المصدر.
الراغب: الجذُّ: كسرُ الشيء وتفتيته، ويقالُ لحجارة الذهب المكسورة، ولفُتاتِ الذهب: جُذاذٌ، وما عليه جُذَّةن أي: متقطعٌ من الثياب.
غرضا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم.
(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 59].
أى: أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم، معدود في الظلمة: إمّا لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام، وإمّا لأنهم رأوا إفراطا في حطمها وتماديا في الاستهانة بها.
(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَاتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) [الأنبياء: 60 - 61].
فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد (سَمِعْنا فَتًى) وأى فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى، إلا أن الأوّل وهو (يَذْكُرُهُمْ) لا بد منه لسمع، لأنك لا تقول: سمعت زيدا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: إن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم)، هذا تفسيرٌ لقوله:(مَنْ فَعَلَ) إلى آخره، أوقع (إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ) خبراً للموصولة. قال أبو البقاء:(مَن): يجوز أن يكون بمعنى "الذي"، و (إنهُ) وما بعده: الخبرُ، وأن يكون استفهاماً، و (إنَّهُ): استئناف. فدل إيقاعُ (فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا) صلة للموصول على تحقيق الخبر، أي: هذا الفعل الشنيع الفظيع لا يفعله إلا ظالمٌ، كما قال:"إنهم رأوا إفراطاً في حطمها، وتمادياً في الاستهانة بها"، ودل "أنّ" واللامُ في الخبر على مزيد التأكيد، وإليه الإشارة بقوله:"لشديد الظلم"، ودل اللامُ الاستغراقي في الظالمين على أنه غريقٌ فيه، وإليه الإشارة بقوله:"معدودٌ في الظلمة"، وهذه المبالغات إنما ذهبوا إليها لاعتقادهم أنها آلهةٌ حقيقةً يجب توقيرهم وإعظامهم، وإليه الإشارة بقوله:"إما لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم".
قوله: (لابد منه لسمع)، قال أبو البقاء (يَذْكُرُهُمْ): مفعولٌ ثانٍ لـ (سَمِعْنَا)،
وتسكت، حتى تذكر شيئا مما يسمع. وأمّا الثاني فليس كذلك. فإن قلت:(إِبْراهِيمُ) ما هو؟ قلت: قيل هو خبر مبتدأ محذوف، أو منادى. والصحيح أنه فاعل "يقال"، لأن المراد الاسم لا المسمى (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) في محل الحال، بمعنى معاينا مشاهدا، أى: بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: فما معنى الاستعلاء في "على"؟ قلت: هو وارد على طريق المثل، أى: يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بما سمع منه. وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له. روى أنّ الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه، فأمروا بإحضاره.
(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء: 63].
هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يكونُ ذلك إلا مسموعاً، كقولك: سمعتُ زيداً يقولُ كذا، أي: سمعتُ قول زيد. وعند المصنف: "يقولُ كذا" حالٌ عن المفعول.
قوله: (هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو مُنادى)، والصحيح أنه فاعل (يُقالُ)؛ لأن المراد الاسم لا المسمى، أي: يقالُ له هذا اللفظُ. هذا التعليلُ يؤذن أن في الوجهين الأولين ليس المراد منه الاسم، قال صاحب "الفرائد": قوله: (لَهُ) إما أن يكون بالخطاب، كقولك: قلتُ لزيدٍ إذا خاطبته، فكان منادى، كأنه قيل: يقال له: يا إبراهيم، إذ نودي، أو بالغيبة، كقولك: قلت لزيدٍ، إذا قلت في بابه من غير أن يكون مخاطباً، فكأنه قيل: إذا أُخبر عنهُ يقال: هو إبراهيم، وإذا كان المراد من إبراهيم اللفظ فلابد من اعتبار التسمية في قوله:(يُقَالُ لَهُ) كأنه قيل: يُسمى إبراهيم، ويمكن أن يكون (عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ): حالاً من الفاعل، أي: فأتوا به عارضين على أعينِ الناس، أو ناوين العرض، او مُريدين العرضَ.
أنّ قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه، وإثباته لها على أسلوبٍ تعريضي)، قال صاحب "الفرائد": هذا بعيدٌ؛ لأن ذلك إنما يستقيمُ إذا كان الفعلُ دائراً بين الاثنين، فإذا انتفى من أحدهما ثبت بالآخر بالضرورة، وهاهنا ليس كذلك؛ لأن الكسر لم يكن دائراً بين إبراهيم عليه السلام وبين الصنم الكبير؛ لاحتمال أن يكو كسرها غير إبراهيم. والنظيرُ الذي ذكره لذلك، ليس الفعلُ دائراً بين الاثنين أيضاً؛ لأنه يمكن أن يكون الفعل للثالث، فإن اتفق أن يكون دائراً بينهما كان صحيحاً، إلا أنه لم يطابق لما نحن فيه. والوجه الثاني وهو أن يقال:"غاظته تلك الأصنامُ" إلى قوله: "كما يُسندُ الفعلُ إلى مباشره، يُسندُ إلى الحامل عليه"، أيضاً ضعيفٌ؛ لأن غيظه من عبادة غير الله تعالى، فاستوى فيه الكبير والصغير.
والجوابُ: أنه دل تقديم الفاعل المعنوي في قوله: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) على أن الكلام ليس في الفعل لأنه معلومٌ، بل في الفاعل كما مر في قوله تعالى:(وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)[هود: 91]، ودل قولهم:(سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) وقولهم: (قَالُوا فَاتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ) على أنهم لم يشكوا أن الفاعل هو، فإذن لا يكون قصدهم في قولهم:(أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا) إلا بأن يُقر بأنه هو، فلما رد بقوله:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) تعريضاً، دار الأمر بين الفاعلين.
وقال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يُقال: القضية كما كانت فعلية كانت إمكانية، تقول: زيدٌ كاتبٌ بالإمكان، تريد أنه يمكن الكتابة منه، ولذلك قيل في قوله تعالى:(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)[القصص: 88]: أي: كان قابلاً للهلاك؛ إذا عرفت هذا فنقول: قوله: (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) هذا مرتبطٌ بقوله: (إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)، المعنى: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فاسألوهم إن أمكن هذا الفعلُ من كبيرهم إن كان
وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّىّ لا يحسن الخطّ ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمّىّ أو المخرمش، لأنّ إثباته - والأمر دائر بينكما للعاجز منكما - استهزاء به وإثبات للقادر، ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقول إلى تجويزه مذهبهم، كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم. فإنّ من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه، ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. وقرأ محمد بن السميفع: "فعله كبيرهم"، يعني: فلعله، أى فلعلّ الفاعل كبيرهم.
(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)[الأنبياء: 64].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو وغيره -مما تعبدون من الأصنام- من أهل النطق؛ لأنها إذا كانت من أهل النطق كانت علماء قُدراء.
قوله: (خرمشة)، الجوهري: المخرشُ: خشبةٌ يخط بها الخرازُ.
قوله: (فعلهُ كبيرهم)، في "المطلع": قال أبو العباس: أصلُ لعل: علَّ، زيدت اللامُ للتوكيد، وأنشد:
يا أبتا علَّك أو عساكا
فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة، لا من ظلمتموه حين قلتم: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين.
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ)[الأنبياء: 65].
"نكسته": قلبته فجعلت أسفله أعلاه، و"انتكس": انقلب، أى: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأنّ هؤلاء - مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق - آلهة معبودة، مضارّة منهم. أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه، حين نفوا عنها القدرة على النطق. أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألقمهم الحجر)، كنايةٌ عن الإفحام والإسكات.
قوله: (بمخانقهم)، الجوهري: المخنقةُ - بالكسر-: القلادة.
قوله: (مضارةً منهم)، مفعولٌ له لقوله:"في المجادلة"، وقيل: مفعولٌ مطلقٌ، أو: حالٌ من فاعل "أخذوا".
قوله: (أو قُلبوا على رؤوسهم حقيقةً): عطفٌ على قوله: "وانقلبوا عن تلك الحالة، فاخذوا في المجادلة" وكذلك: "أو انتكسوا عن كونهم مُجادلين لإبراهيم"، فهذه وجوهٌ ثلاثةٌ: الوجهان الأولان واردان على التمثيل، قال القاضي: شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشيء مُستعلياً على أعلاه. تم كلامُه.
أما على الأول فقوله: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) عبارةٌ عن انقلابهم من الفكرة الصالحة إلى الفاسدة، وذلك أنهم لما سمعوا من الخليل كلمة الحق رجعوا إلى أنفسهم، وأصابوا في الفكر، وقال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون بعبادة ما لا ينطقُ ولا ينفعُ ولا يضُر، لا من نسبتم إليه الظلم بقولكم:(مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ)، ثم انقلب رأيهم من الاستقامة إلى التسفل قائلين: هؤلاء معبودةٌ لا شك فيها مع كونها غير ناطقة، ومع أنها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُتضررةٌ بالكسر، وإليه الإشارة بقوله:"وهؤلاء مع تقاصُرِ حالها عن حال الحيوان الناطق معبودةٌ مضارةً منهم"، وهو معنى قوله:(لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، أي: اشتهر عند كل واحدٍ أن هذه الآلهة لا تتحدث، والتاءُ في علمت خطابٌ لكل أحدن ويدل على قولهم:"هؤلاءِ معبودةٌ" قوله: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) لما ادعوه من عبادتهم لها مع كونها غير قادرة.
وأما الثاني فهو عبارة عن انقلابهم من الفكرة الفاسدة إلى الصحيحة، وإليه الإشارةُ بقوله:"انتكسوا عن كونهم مُجادلين لإبراهيم عليه السلام مُجادلين عنه"، أي: أنهم جادلوا إبراهيم عليه السلام أولاً في قولهم: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) ونحوه، ثم انقلبوا فصاروا مُجادلين عنه ذابِّين بقولهم:(لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، فهذا يدل على أنها لا تنطق، ولا تصلح للإلهية، وهذا أوفق لما في الكتاب، فاللامُ في قوله:"مجادلين لإبراهيم" كاللام في مثل: أنا ضاربٌ لزيدٍ، أو أنهم جادلوا قومهم ذابين عن إبراهيم مُجادلين لأجله حين قالوا:(إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ)، لا إبراهيم، ثم انقلبوا عن هذه المجادلة لأجله بقولهم:(لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، فكيف يأمرنا بالسؤال عنها؟ فهذا جدال مع إبراهيم، فقد انقلبوا عن الدفع عنه إلى المجادلة معه؛ إذ المرادُ: لقد علمت أنهم لا ينطقون فكيف تأمرنا بالسؤال عنهم؟ وأشار إليه في تفسير "اللُّباب".
وأما على الثالث فالمعنى: أنهم لما رجعوا إلى أنفسهم، وتفكروا زمانا ًطويلاً، عرفوا الحق فقُلبوا على رؤوسهم لفرط خجلهم قائلين: والله لقد صدق إبراهيمُ فيما قال، وعلمت- أيها المخاطبُ- ما هؤلاء ينطقون، وهو المراد من قوله:"فما أحاروا جواباً إلا ما هو حجةٌ عليهم" لاعترافهم بعدم قدرة آلهتهم على النطق المستلزم لعجزهم. وعلى هذا الوَجه والوَجْهِ الذي قبله: على تقدير أن يكون اللامُ في "إبراهيم" صلةً ينطبقُ قوله: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ)؛ لأنه تذييلٌ لهذا المعنى كما سيجيءُ.
لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وقرئ:"نكسوا"، بالتشديد. و"نكسوا"، على لفظ ما سمى فاعله، أى: نكسوا أنفسهم على رؤسهم. قرأ به رضوان ابن عبد المعبود.
(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 66 - 67]
(أُفٍّ) صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. واللام لبيان المتأفف به. أي: لكم ولآلهتكم هذا التأفف.
(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 68 - 70].
أجمعوا رأيهم - لما غلبوا - بإهلاكه: وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته، كما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وانخزالاً)، الجوهري: انخزل الشيءُ: انطقع. والاختزالُ: الانقطاع.
قوله: (فما أحاروا جواباً)، الجوهري: المحاورةُ: المجاوبةُ، يقال: كلمته فما أحار إليَّ جواباً، وما رجع إلى حويراً ولا حواراً، أي: ما رد جواباً.
قوله: (إلا ما هو حجةٌ عليهم)، هو من أسلوب قوله: ما معه من العقل شيءٌ إلا ما يوجب الحجة عليه، وهو المسمى بالرجوع.
قوله: (واللام لبيان المتأفف به)، وأنشد صاحب "المُطلِع":
أفا وتُفا لمن مودته
…
إن غبتُ عنه سويعةً زالت
قوله: (إلا مناصبته). الجوهري: نصبتُ لفلانِ نصباً: إذا عاديته، وناصبته الحرب مناصبةً.
فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه نمرود. وعن ابن عمر رضى الله عنهما: رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وروى أنهم حين هموا بإحراقه، حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها، فناداها جبريل عليه السلام (قُلنَا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) ويحكى. ما أحرقت منه إلا وثاقه. وقال له جبريل عليه السلام حين رمى به: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالى علمه بحالي. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنما نجا بقوله: "حسبي الله ونعم الوكيل"، وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة، فقال: إنى مقرّب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه -إذ ذاك- ابن ست
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من أعراب العجم، يريدُ الأكراد)، تشبيهاً بالأعرابي من العرب، وهم الذين يسكنون البادية ولايدخلونها إلا لحاجة.
قوله: (إنما نجا بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل)، عن البخاري، عن ابن عباس قال في قوله تعالى:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173]: قالها إبراهيمُ حين أُلقيَ في النار، وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا:(إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ).
قوله: (وأطل عليه)، الجوهري: أي: أشرف.
قوله: (ومعهُ جليسٌ له من الملائكة، فقال: إني مُقربٌ) الفاءُ فصيحة، يعني: بعث
عشرة سنة. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء:«لا يعذب بالنار إلا خالقها» ومن ثم قالوا (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أى إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا، فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار، وإلا فرّطتم في نصرتها. ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها، ولم يألوا جهدا في ذلك. جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله. والمعنى: ذات برد وسلام، فبولغ في ذلك. كأن ذاتها برد وسلام. والمراد: ابردى فيسلم منك إبراهيم.
أو ابردى بردا غير ضارّ. وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها.
فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نمروذُ وأخرج إبراهيم عليه السلام من النار وأحضره عنده فأكرمه وألطفَ له القول فقال: إني مُقربٌ إلى إلهك.
قوله: (ومن ثم قالوا: إن كنتم فاعلين)، تعليلٌ لقوله: واختاروا المعاقبة بالنار؛ لأنها أهولُ، وإنما أفاد هذا المعنى اتحادُ الشرط والجزاء؛ لأن قوله:(إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ) جزاؤه ما دل عليه قوله تعالى: (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا) نحو قوله: من أدرك الصمان فقد أدرك، أي: أدرك مرعاً بالغاً في شأنه، وإليه الإشارة بقوله:"إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراقُ بالنار"، ألا ترى كيف أتى في الشرط من معاني الجزاء، وفي الجزاء عكس؟
قوله: (نصراً مؤزراً). النهاية: مؤزراً، أي: بالغاً شديداً، يقال: أزره وآره: إذا أعانه وأسعده، من الأزر: القوة والشدة.
قوله: (ولم يألوا جُهداً)، الجوهري: ألا يألو، أي: قصر، وفلانٌ لا يألوك نُصحاً، فهو آلٍ. وحكى الكسائي عن العرب: أقبل يضربه لا يأل، يريد يألو، فحذف.
عليه من الحرّ والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرّها ويذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله (عَلى إِبْراهِيمَ) وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوّة والجبروت، فنصره وقوّاه.
(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ)[الأنبياء: 71].
نجيا من العراق إلى الشام. وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويدل عليه قوله: (عَلَى إِبْرَاهِيمَ))، وذلك من وضع المُظهر موضع المضمر، أي: كرامةً لهذا المسمى، قيل: لأنه على الوجه الأول لم يكُن بردُها مخصوصاً بإبراهيم، فلا يكونُ للتخصيص بقوله (عَلَى إِبْرَاهِيمَ) وجهٌ، وفيه بحث.
قوله: (وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به)، تفسيرٌ لقوله تعالى:(وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً)، وهو تذييلٌ للكلام السابق وفيه كيدان، الكيدُ الأول: قولهم: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) لما سبق أنهم ما سألوا ذلك عنه ليُقر بأن كسر الأصنام قد كان، بل ليُقر بأنه منه، فألهمه الله ما يبكتهم به، ويجعلهم خاسرين بقوله:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) إلى آخره، وهو المراد من قوله:"غالبوه بالجدال فغلبه الله تعالى"، والكيدُ الثاني: قولهم بعد ما ألقمهم الحجر: (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ). فأوحى الله تعالى إلى النار أن (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) فجعلهم خاسرين بأن افتضحوا حتى نذر نُمروذُ بأن يُقرب إلى الله تعالى القرابين، وهو المراد من قوله:"وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره"، وقال:"فزعوا إلى القوة والجبروت"، بناءً على قول قبل هذا:"اجمعوا رأيهم لما غُلبوا بإهلاكه"، وهكذا المبطل إذا قُرعت شبهته بالحجة لم يبق له مفزعٌ إلا مناصبته، فالتنكير في (كَيْداً) للنوع، أي: النوع العظيم من الكيد، المطلقُ محمولٌ على المقيد، ولهذا قُيد بالكيدين المذكورين.
وطيب عيش الغنيّ والفقير. وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له: إلى أين؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم. وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وروى أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.
(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ)[الأنبياء: 72].
النافلة: ولد الولد. وقيل: سأل إسحاق فأعطيه، وأعطى يعقوب نافلة، أى: زيادة وفضلا من غير سؤال.
(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)[الأنبياء: 73].
(يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها، وأوّل ذلك أن يهتدى بنفسه، لأنّ الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل (فِعْلَ الْخَيْراتِ) أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات. وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وطيب عيش الغني والفقير)، فإن الغني فيها شاكرٌ، والفقير قانعٌ صابر.
قوله: (وفيه أن من صلح ليكون قُدوةً)، يريدُ أن هذا الكلام واردٌ على سبيل المدح لهؤلاء المذورين، وأدمج فيه معنى مدحهم أولاً بصلاحهم في أنفسهم بقوله:(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) أي: قُدوةً يُقتدى بهم في الخير، ثم بإصلاحهم غيرهم بأمر ربهم بقوله (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) أي: يُرشدون الناس إلى طرق الخير بأمرنا إياهم بذلك، فيلزمُ على هذا أن تكون الهدايةُ محتومةً عليه وهو مأمورٌ به.
قوله: (لأن الانتفاع بهداه أعمُّ)، أي: أشملُ؛ لأن داعي الخير إذا لم يكن مهتدياً ربما فعله سبباً لتقاعس بعضِ الناس.
قوله: (أصله أن تُفعل الخيراتُ)، أي: الأصل في هذا أن يُقال: وأوحينا إليهم أن تفعلَ
(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنبياء: 74 - 75].
(حُكْماً) حكمة وهو ما يجب فعله. أو فصلا بين الخصوم. وقيل: هو النبوّة. و (القرية): سذوم، أى: في أهل رحمتنا. أو في الجنة. ومنه الحديث «هذه رحمتي أرحم بها من أشاء» .
(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنبياء: 76 - 77].
(مِنْ قَبْلُ) من قبل هؤلاء المذكورين.
هو «نصر» الذي مطاوعه «انتصر» وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أى: اجعلهم منتصرين منه. و (الكرب): الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخيراتُ وأن تُقام الصلاةُ، ثم: فعلاً الخيرات؛ لأنه في معنى الأول؛ لأن "أنْ" مع الفعل في تأويل المصدر؛ ولذلك رفع "الخيراتُ" لأنه مصدرُ الفعل المجهول، كذلك البواقي.
قوله: ((حُكماً) حكمة)، وهو ما يجب فعله. والحكمةُ على ما فسره مراراً عبارةٌ عن العلم والعمل، وحملها هاهنا على مجرد العمل لعطف قوله:(وَعِلْماً) عليه.
قوله: (هذه رحمتي أرحم بها من أشاءُ)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل للجنة:"أنتِ رحمتي أرحمُ بك من أشاءُ من عبادي" الحديث.
قوله: (هو "نَصَرَ" الذي مُطاوعُه "انتصر")، أي: عُدِّيَ بـ"مِنْ" كما عُدِّي انتصر بها.
(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَاسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) [الأنبياء: 78 - 80].
أى: واذكرهما. وإذ: بدل منهما. و"النفش": الانتشار بالليل. وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. وقرئ: "لحكمهما". والضمير في (فَفَهَّمْناها) للحكومة أو الفتوى.
وقرئ: "فأفهمناها". حكم داود بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان عليه السلام وهو ابن إحدى عشرة سنة: غير هذا أرفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمنّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأساس: نصره الله على عدوِّه، ومن عدُوِّه (وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، وانتصرت منه. وفي "المُطلع": أي: منعناهُ وحميناهُ منهم بإغراقهم وتخليصه.
قوله: (جمع الضمير؛ لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما)، قال الإمامُ: احتج من قال: أقلُّ الجمع اثنان بقوله: (لِحُكْمِهِمْ) مع أن المراد داود وسُليمان عليهما السلام. وجوابه: أن الحكم كما يُضاف إلى الحاكم قد يُضاف إلى المحكوم عليه، فأضيف إلى المجموع. تَمَّ كلامه.
فإن قلتَ: الحكمُ مصدرٌ فلابدَ في إضافته إلى الضمير من العمل، فلا يجوزُ الجمعُ. قلتُ: يُؤولُ الحكمُ بالقضية، فلا يكونُ من إضافة العامل إلى المعمول، كأنهُ قيل: كُنا شاهدين لتلك الحالة العجيبة، ولماجرى بين أولئك الأقوام من إصابة أحد الحاكمين، وخطأِ الآخر، واستيفاءِ المحكوم لهُ من المحكوم عليه حقه على النهج المستقيم، وهذا المعنى لا يحصلُ من تلك الإضافة، والحاصلُ أنه من باب عموم المجاز.
فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد، ثم يترادّان. فقال: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك.
فإن قلت: أحكما بوحي أم باجتهاد؟ قلت: حكما جميعا بالوحي، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان. وقيل: اجتهدا جميعا، فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب.
فإن قلت: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت: أمّا وجه حكومة داود عليه السلام، فلأن الضرر لما وقع بالغنم فسلمت بجنايتها إلى المجنى عليه، كما قال أبو حنيفة رضى الله عنه في العبد إذا جنى على النفس: يدفعه المولى بذلك أو يفديه. وعند الشافعي رضى الله عنه: يبيعه في ذلك أو يفديه. ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث.
ووجه حكومة سليمان عليه السلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق من يده: أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادّا.
فإن قلت: فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيه ضمانا بالليل أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فسُلمتْ بجنايتها إلى المجني عليه)، قيل: هذا مُقدمٌ على قوله: "فلأن الضرر وقع بالغنم" لأن تسليم الغنم حُكم، وكونُ الضررواقعاً بسبب الغنم علة، والعلةُ متأخرةٌ عن الحكم لفظاً.
سائق أو قائد والشافعي رضى الله عنه يوجب الضمان بالليل. وفي قوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) دليل على أنّ الأصوب كان مع سليمان عليه السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والشافعيُّ يوجبُ الضمان بالليل)، ودليله: أنه صلواتُ الله وسلامه عليه قضى على أهل الماشية حفظها بالليل. روينا عن مالك وأبي داود وابن ماجه، عن حرام بن سعد بن محيصة، أن ناقةً للبراء دخلت حائطاً لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
قوله: (وفي قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) دليل على أن الأصوب كان مع سليمان)، قال الراغب: الفهمُ: هيئةٌ للنفس بها تتحقق معاني ما يحسنُ، يقال: فهمت كذا، وقوله تعالى:(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، وذلك بأن جعل الله تعالى له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك، وإما بأن ألقي في رُوعه، أو بأن أُوحي إليه وخُص به.
ثم قوله: " [دليل] على أنهما جميعاً كانا على الصواب" فيه إشارة إلى أن كل مجتهدٍ مصيبٌ من وجه كونه طالباً للحق، ومخطئ من وجه كونه لم يوافق الحكم عند الله، فقوله تعالى (وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) كالتكميل لما سبق من توهم النقص في شأن نبي الله داود عليه السلام، جيء بها جُبراناً لذلك، يريد ما أورده ابن الأثير عن بعض العلماء: في الآية دليل على أن كل مجتهد في الأحكام الفرعية مُصيب، فإن داود أخطأ الحكم الذي عند الله، وأصابه سليمان، فقال تعالى:(وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً).
وقال القاضي: في الآية دليلٌ على أن خطأ المجتهد لا يقدحُ فيه. وقيل: فيه دليلٌ على
وفي قوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) دليل على أنهما جميعا كانا على الصواب (يُسَبِّحْنَ) حال بمعنى مسبحات. أو استئناف، كأن قائلا قال: كيف سخرهنّ؟ فقال: يسبحن (وَالطَّيْرَ) إمّا معطوف على الجبال، أو مفعول معه. فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان ناطق. روى أنه كان يمرّ بالجبال مسبحا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار. فإن قلت: كيف تنطق الجبال وتسبح؟ قلت. بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى. وجواب آخر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن كل مجتهد مصيبٌ. وهذه مخالفةٌ لقوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، ولولا النقلُ لاحتمل توافقهما، على أن قوله:(فَفَهَّمْنَاهَا) لإظهار ما تفضل عليه في صغره. تم كلامه.
يريد أن الأصل: ففهمناهما، ولما اختص سُليمان عليه السلام بصغر السن، والفهم منه أغربُ، خُص بالذكر.
قوله: (والطير حيوانٌ ناطقٌ)، يعني: أن الجبل صامتٌ والطير ناطقٌ. النهاية: في الحديث: "على رقبته صامت" يعني الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.
الراغب: لا يكاد يُقال النطقُ إلا للإنسان، ولا يُقالُ لغيره إلا على سبيل التبع نحو: النطق والصامت، فيرادُ بالناطق: ماله صوتٌ، وبالصامت: مالا صوت له.
قوله: (كما خلقه في الشجرة)، مذهبه.
وهو أن يسبح من رآها تسير بتسيير الله، فلما حملت على التسبيح وصفت به (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أى قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل: وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك.
اللبوس: اللباس. قال:
البس لكلّ حالة لبوسها
والمراد الدرع. قال قتادة: كانت صفائح فأوّل من سردها وحلقها داود، فجمعت الخفة والتحصين (لِتُحْصِنَكُمْ) قرئ بالنون والياء والتاء، وتخفيف الصاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو أن يُسبح من رآها تسيرُ بتسيير الله تعالى)، يريد أنه من الإسناد المجازي. قال صاحب "الفرائد": هذا الجوابُ يشكلُ لقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)[سبأ: 10]، وتسيير الجبال معه ليس في القرآن، ولا ضرورة في حمل التسبيح على السير.
قوله: (وكنا نفعلُ مثل ذلك بالأنبياء عليهم السلام، يريدُ أن قوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) تذييلٌ للكلام السابق، نحو قوله:(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) إلى قوله: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)[النمل: 34]، ثم متعلقُ (فَاعِلِينَ) إما خاصٌّ فيُقدرُ: على أن يُفعل هذا، أي: ما فعلنا بداود عليه السلام، أو عامٌّ فيقدر: كما نفعلُ مثل ذلك بالأنبياء أي: ما يشبه هذه المعجزة التي آتينا الأنبياء الماضية.
قوله: (البس لكل حالةٍ لبوسها؟ )، تمامه في "المُطلِع":
إما نعيمُها وإما بوسُها
أي: البس لكل حالةٍ ما يصلحُ لها، يعني: أعدد لكلِّ زمانٍ ما يُشاكلُه ويلائمه
قوله: ((لِتُحْصِنَكُمْ) قرئ بالنون والتاء والياء)، بالنون: ابن عامرٍ وأبو بكر،
وتشديدها، فالنون لله عز وجل، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، والياء لداود أو للبوس.
(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) [الأنبياء: 81 - 82].
قرئ: (اَلريحَ). و"الرياح"، بالرفع والنصب فيهما، فالرفع على الابتداء، والنصب على العطف على الجبال.
فإن قلت: وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ: 12] فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم: آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالتاء: حفصٌ، والباقون: بالياء التحتاني، والتشديد: شاذٌ.
قوله: (قرئ: (الرِّيحُ) و"الرياح")، بالإفراد والنصب: سبعة، والبواقي: شواذ.
قوله: (ويحتكم: آية إلى آية)، أي: يحتكم سليمانُ. الأساس: حكمه في ماله فاحتكم فيه وتحكم، ولا تحكم علي. و"آية": نصبٌ خبرُ "كان"، "وان تكون رُخاء" بدلٌ من "الأمرين". ويُروى "آية" و"هُبوبها" مرفوعين على الابتداء والخبر، فعلى هذا خبرُ "كان":"أن تكون"، والوجهُ الأول نظراً إلى المعنى.
وقيل: كانت في وقت رخاء، وفي وقت عاصفا، لهبوبها على حكم إرادته، وقد أحاط علمنا بكل شيء فنجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا.
أى: يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر، ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة، كما قال (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ)] سبأ: 13 [والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه.
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) [الأنبياء: 83 - 84]. أي: ناداه بأنى مسنى الضر. وقرئ: "إنى"، بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه و"الضر" - بالفتح -: الضرر في كل شيء، وبالضم: الضرر في النفس من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: كانت في وقتٍ رُخاءً، وفي وقتٍ عاصفاً)، كما وُصفت عصا موسى تارةً بأنها جانّ، وتارةً بأنها ثُعبانٌ، فإنها في بدء الإلقاء جان، وفي الانتهاء ثُعبان، أو أنها جانٌّ في خفتها، وثعبانٌ في عظم خلقها.
قوله: (والمهن)، الجوهري: المهنة بالفتح: الخدمة، وحكى أبو زيدٍ والكسائي بالكسر، وأنكره الأصمعي، والماهنُ: الخادم.
قوله: (والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره) إلى قوله: (أو يوجد منهم فسادٌ في الجملة فيماهم مسخرون فيه)، إيذانٌ بأن قوله:(وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) تذييلٌ لقوله: (وَمِنْ الشَّيَاطِينِ)، كما كان قوله:(وَكُنَّا فَاعِلِينَ) تذييلاً لقوله: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ)، وقوله:(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) لقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ)(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً)، وكان إثبات العلم مناسباً لقوله:(فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) للجزاء، وإن قدر المصنف:"فنُجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمُنا".
مرض وهزال، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب.
ويحكى أنّ عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين، مشت جرذان بيتي على العصىّ! فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حبا. كان أيوب عليه السلام روميا من ولد إسحاق بن يعقوب عليهم السلام، وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله: كان له سبعة بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم، وخمس مئة فدان «1» يتبعها خمس مائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده - انهدم عليهم البيت فهلكوا - وبذهاب ماله، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. وعن قتادة: ثلاث عشرة سنة. وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولم يُصرح بالمطلوب)، أي: قال: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ولم يقل: ارحم ضُرِّي، ليعم ويشمل ويُشعر بالتعليل، ولذلك استجيب له، ونُكر الضُّرُّ في قوله:(فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي: ضرٍّ عظيمٍ متميزٍ من بين الضُّر، فلو عرفَ لكان عين الضُّر السابق ولم يُعلم تهويلُه.
قوله: (جِرذان بيتي)، الجوهري: الجرذُ: ضربٌ من الفأر، والجمعُ: الجرذانُ بكسر الجيم والذال المعجمة. "على العصي": حالٌ، أي: مشت متكئةً على العصي، وذكر صاحبُ "المثل السائر": أن امرأةً اشتكت بعض ولدِ سعد بن عُبادة قلة الفأرِ في بيتها، فقال: املؤوا بيتها خُبزاً وسمناً ولحماً.
قوله: (لأرُدَّنَّها تثبُ)، مشاكلةٌ، على نحو قول شُريح فيمن شهد عنده: إنك لسبطُ الشهادة، فقال: لأنها لم تجعد عليّ.
قوله: (فدان)، الجوهري: هو آلةُ الثورين للحرث، وهو فعالٌ بالتشديد، وقال أبو عمرو: هي البقر التي تحرث، والجمعُ الفدادينُ مخفف.
مقاتل: سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات، وقالت له امرأته يوما: لو دعوت الله، فقال لها: كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة، فقال: أنا أستحى من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروى أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا.
أى: لرحمتنا العابدين وأنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.
(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنبياء: 85 - 86].
قيل في ذى الكفل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع بن نون، وكأنه سمى بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لو دعوت)، لو: يحتملُ أن تكون بمعنى التمني، وأن تكون للشرط.
قوله: (أو رحمةً منا)، عطفٌ على قوله:"لرحمتنا" أتى باللام أولاً، ثم نزعها ثانياً، والرحمةُ: مفعولُ له؛ ليُؤذن بأن الكلام على الأول: تذييلٌ عامٌ في العابدين، فيدخُلُ فيه أيوبُ دخولاً أولياً، فلابد من تقدير اللام لحصولها قبلُ وبعدُ، وعلى الثاني: تتميمٌ، فتختصُّ الرحمةُ بأيوب عليه السلام، فلم يحتج إلى اللام لحصول المقارنة، و"الرحمةُ" و"الذكرى" في الأول متنازعان في "العابدين"، ولذلك قال أولاً:"لرحمتنا العابدين"، وثانيا:"وأنا نذكرهم" حيثُ أتى بضمير "العابدين".
قوله: (ذو الحظ من الله)، لأن الكفل بالكسر: الحظُّ والنصيبُ. روى محيي السُّنة عن عطاءٍ: أن نبياً من الأنبياءِ أوحى الله تعالى إليه: إني أريدُ قبض رُوحك، فاعرض مُلكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يُصلي بالليل لا يفترُ، ويصومُ بالنهارِ لا يُفطرُ، ويقضي
ويعقوب. إلياس وذو الكفل. عيسى والمسيح. يونس وذو النون. محمد وأحمد: صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87].
(النُّونِ) الحوت، فأضيف إليه. برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلى ببطن الحوت. ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وقرأ أبو شرف: "مغضبا". قرئ: (نقدر). و (نقدّر)، مخففا ومثقلا. و"يقدر"، بالياء بالتخفيف. و"يقدر". و"يقدّر"، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا. وفسرت بالتضييق عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين الناس ولا يغضب، فادفع مُلكك غليه، ففعل شابٌ، فقال: أنا أتكفلُ ذلك، فتكفلَ ووفي به، فشكر الله تعالى له ونبأه فسُمِّي ذا الكِفْل.
قوله: (برم بقومه)، الجوهري: البرمُ بالتحريك: مصدرُ برم به بالكسر: إذا سئمه، وتبرم به مثله، وأبرمه، أي: أمله وأضجره.
قوله: (فراغمهم)، الأساس: وراغم أباه: فارقه على رغم منه وكراهة.
قوله: (وأنفةً لدينه)، الجوهري: أنف من الشيء يأنفُ أنفاً وأنفةً: استنكفَ.
قوله: (قرئ: (نَقْدِرَ)) بالنون مخففاً: الجماعةُ، والبواقي: شواذٌّ.
قوله: (وفُسرتْ بالتضييق عليه)، قال محيي السُّنة: قال عطاءٌ وكثيرٌ من العلماء: لن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُضيقَ عليه بالحبس من قوله تعالى: (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) بالرعد: 26] أي: يُضيقُ، وقال أيضاً: لن يقدر عليه، أي لن يقضي عليه بالعقوبة، قاله مجاهدٌ والضحاكُ والكلبيُّ، وفي روايةٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، يقال: قدر الله الشيء تقديراً، وقدر يقدرُ قدراً بمعنى واحد، قال تعالى:(نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ)[الواقعة: 60]، وفي قراءة مَن خففها دليلٌ على هذا، وعليه قراءةُ عُمر بن عبد العزيز والزُّهري:"لن نُقدرَ" بالتشديد. قال الزجاجُ: أي: ظن أن لن نُقدرَ عليه ما قدرنا من كونه في بطن الحُوت، و"نَقِدرُ" بمعنى: نُقَدِّر. جاء في التفسير، ورُوي عن المصنف أنه قال: تفسيرُ ابن عباس بمعنى القدرة معناه: أن لا نُورد عليه تقديراً يضُرُّه لكونه مُبتلى به، يقول: قدر الله عليه الضراء، وقدر له السراء، كقولك: قضى القاضي على فلانٍ وحكم عليه، وإذا جُعل من القُدرة فسبيله سبيلُ الاستعارة، أي: فعلَ فعْلَ من ظنَّ أنلن نقدر عليه، والاستعارةُ تكونُ في الأسماء والأفعال والحروف، ونظيره سبع الرجل: إذا ذمه، وحقيقته فعل به فعل السبع بالمسبوع من قولهم: شاةٌ مسبوعة.
وقلتُ: مرجعُ كلامه أنه من الاستعارة التبعية التي وقعت على سبيل الاستعارة التمثيلية، يدل عليه قوله:"فكانت حالُه ممثلةً بحال من يظُنُّ أن لن نقدر عليه"، فاستعير الفعلُ هاهنا كما استعير "لعل" في قوله تعالى:(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 21] كما قررهُ صاحبُ "المفتاح".
وقال صاحبُ "الفرائد": لما أمكن حملُه على الحقيقة، وهو أنه من القدر لقوله تعالى:(فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)[الفجر: 16] أي: ضيق، فأيُّ ضرورةٍ في أن يُحملَ على ما ذكر من المجاز، وأما الوهمُ الذي ذكر فمردودٌ من أوجهٍ، أحدها: أن مثل هذا الخاطر والظن من المؤمن بعيدٌ، فكيف من النبي المعصوم؟ لأن ذلك كُفرٌ، وقوله تعالى:(وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)
وبتقدير الله عليه عقوبة. وعن ابن عباس: أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبىّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة، على معنى: أن لن نعمل فيه قدرتنا، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. ومنه قوله تعالى (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)] الأحزاب: 10 [والخطاب للمؤمنين (فِي الظُّلُماتِ) أى في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت، كقوله (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) [البقرة: 17]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[الأحزاب: 10] ليس من الظن الذي يكونُ كفراً. وثانيها: أن ما هجس بالخاطر ولم يستقر ولم يُلتفت إليه لم يكن من باب الظن. وثالثها: مثل هذا الخاطر لم يكن أحدٌ معاتباً به. ورابعها: لما كان هذا الظن حاملاً له على الخروج من بين القوم من الغضب عُلِمَ أنه لم يكن مما ظهر بالوسوسة ولم يُلتفت إليه، ولم يكن مُخلاً بالاعتقاد.
والجوابُ: أن قوله: "والمخففُ يصحُّ أن يُفسر بالقدرة"، بعدما ذكرها بين القوم من الوجوه، تنبيهٌ على التوسع في الكلام، وأن هذا وجهٌ يصار إليه لمن له يدٌ في البيان، لا أنه واجبٌ، وأما بقيةُ السؤال فجوابه سبق في خاتمة سورة يوسف عليه السلام.
قوله: (أي: في الكلمة الشديدة المتكاثفة)، وذلك أنه حُبس في بطن حوتٍ واحد، والجمعُ يدل على التكاثف، وأنشد السيرافي:
وليلٍ يقولُ الناسُ في ظُلماته
…
سواءٌ صحيحات العيون وعورها
وقوله (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)[البقرة: 257] وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه، فحصل في ظلمتى بطني الحوتين وظلمة البحر. أى بأنه (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أو بمعنى «أى». عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم.
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88].
(نُنْجِي) و"ننجي". و"نجي".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والدليل عليه الوجه الثاني: "وقيل: ظلماتُ بطن الحوت والبحر والليل" إلى آخره.
قوله: (ما من مكروب يدعو)، روينا عن أحمد بن حنبل والترمذي، عن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"دعوة ذي النون إذ دعا في بطن الحوت قال: لا إله غلا أنت سبحانك غني كنتُ من الظالمين، ما دعا بها أحدٌ قطُّ إلا استجيب له"، وفي رواية أحمد:"فإنه لم يدعُ بها مسلمٌ ربه في شيء إلا استجاب له".
قوله: ((نُنَجِّي)، و"نُنَجِّي"، و"نُجِّي")، في "المعالم": قرأ عاصمٌ برواية أبي بكر: "نُجِّي" بنونٍ واحدةٍ وتشديد الجيم وتسكين الياء لأنها مكتوبةٌ في المصحف بنونٍ واحدة، وقراءة العامة:(نُنَجِّي) بنونين، من الإنجاء، وإنما كُتب بواحدةٍ؛ لأن الثانية كانت ساكنةً والساكنُ غيرُ ظاهرٍ على اللسان، فحذفت، كما فعلوا في "إلا" حذفوا النون لخفائها. قال الزجاج: كُتبت بنونٍ واحدةٍ لأن النون الثانية تخفى مع الجيم، فأما ما رُويَ عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاصم بنونٍ واحدةٍ فلا وجه لهُ؛ لأن ما لم يُسم فاعلُه لا يكونُ بغير فاعل، وقد قال بعضهم: المعنى: نُجِّي النجاءُ المؤمنين، وهذا خطأٌ بإجماع النحويين، لا يجوزُ "ضُرِبَ زيداً" تريدُ: ضُرِبَ الضربُ زيداً؛ لأنك إذا قلت: "ضُرِبَ زيدٌ" فقد عُلِمَ أن الذي ضربه ضربٌ، ولا فائدة في إضماره وإقامته مقامَ الفاعل، قيل: لأنه لو كان على ما لم يُسمَّ فاعلُه لم يُسكنِ الياءَ، ورفع المؤمنون.
وقال أبو عليٍّ: راوي هذه القراءة عن عاصم غالطٌ، وأنه قرأ (نُنَجِّي) بنونين كما روى حفصٌ عنه، لكن النون الثانية تُخفى مع الجيم، ولايجوزُ تبيينها، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام، ويدل على هذا إسكانه الياء في "نُجِّي"؛ لأن الفعل إذا كان مبنياً للمفعول وكان ماضياً لم يسكنْ آخره، وإسكانُ آخر الماضي إنما يكونُ في قول من قال: رضي رضاً، وليس هذا منه. وأيضاً، الفعلُ المبنيُّ للمفعول ينبغي أن يُسند إلى المفعول كما يُسندُ المبنيُّ للفاعل إلى الفاعل، وإنما يُسند إلى غيره إذا لم يُذكر المفعولُ به.
وقال الشيخ الجعبري: وجهُ تشديد "نُجِّي": أن أصله "نُنْجي" مضارعُ "أنجى"، أُدغمت النونُ في الجيم لتجانسها في الانفتاح والاستفال والجهر والترقيق على حد إجاصٍ وإجانة. وقال أبو عبيد: أصله "نُنَجِّي" مضارع "نَجَّى" ثم أدغم، أو ماضٍ مبنيٌّ للمفعول سُكنتْ ياؤه للتخفيف وأقيم المصدرُ المقدرُ مقامَ الفاعل، أي: نُجَّي النجاءُ، فبقي "المؤمنين" منصوباً على المفعولية. ورُدَّ بمنع الإدغام في المشدد، وبأن المصدر لو وُجد لقُدِّمَ المفعولُ به عليه في النيابة، والمفتوحةُ لا تخففُ. وأجيب على ضعفٍ، لجواز الإدغام في المُشدد على لغة تخفيف المضاعف، وهي روايةأ [ي زيد عن أبي عمرو. ويجوز إقامةُ المصدر مطلقاً مرجوحاً على الكوفية، ومنه قراءة يزيد:"ليُجزي قوماً"، أي: ليُجزي الجزاء قوماً. وقوله:
والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله "فعل" وقال نجى النجاء المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء - فمتعسف بارد التعسف.
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [الأنبياء: 89 - 90].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولو ولدت قفيرة جرو كلبٍ
…
لسُبَّ بذلك الكلبِ الكلابا
ولجواز حملِ الفتحةِ على أختها، ومنهُ قراءةُ الحسن:"وذرُوا ما بقى"، وقوله:
هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ
…
ماضي العزيمة ما في حُكمه جنفُ
ووجه تخفيفه أنه مضارعُ "أنْجَى"، والإخفاءُ أغنى عن الإدغام، وهو المختارُ عملاً بالأفصح السالم من التأويل، خلافاً لأبي عُبيدةَ، إذ لا تمسُّكَ له برسمها واحدة، وإذا صَحّ نقلُها وظهر وجهها فلا نلتفتُ إلى قول جاهلٍ به ومُعانِد فيه، ومن ثم احتاج قارئه إلى ذكاءٍ يبينُ له الحق من الباطل.
وقال الشيخُ موفقُ الدين الكواشيُّ: لا شك أن هذه أقوالُ من غفل عن أثبت أصلٍ أُخذت عنه العربية، وركن إلى أقوالٍ وأشعارٍ نُقلت عمن لا يعتمد عليه لجهله وعدم عدالته. وأيضاً، قولهم: لم يأتِ عن العرب مِثلُها، يُشير إلى أنه أحاط بجميع كلام العرب، وهذا تجرٌ للواسع، وسهوٌ ظاهر، ومن زعم أنه غلطٌ من الراوي، زعم أنه ليس بثقةٍ ولا ضابط، فكانت غير مقطوع بصحتها وقولُ من زعم أنه: متعسفٌ؛ باردٌ بشعٌ وأشنعُ تعسفاً.
سأل ربه أن يرزقه ولدا يرثه ولا يدعه وحيدا بلا وارث، ثم ردّ أمره إلى الله مستسلما فقال (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أى إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالى، فإنك خير وارث. "إصلاح زوجه": أن جعلها صالحة للولادة بعد عقرها. وقيل: تحسين خلقها وكانت سيئة الخلق.
الضمير للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الضميرُ- في (إِنَّهُمْ) - للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام، اعلمْ أنهُ تعالى عقب استجابة دعاءِ زكرياَّ بما يشتملُ على تعليل استجابة دعوة الأنبياء السالفة، أما أولاً فقوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام:(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) فإنه مسبوقٌ بالدعاء من أبيه نوح عليه السلام لقوله تعالى: (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ)، وأما ثانياً فقوله تعالى:(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ) إلى قوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)، وأما ثالثاً فقوله تعالى:(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً) إلى قوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ)، وشرط في التعليل ثلاث شرائط، أحدها: المسارعة في الخيرات؛ لأن الوسيلة مقدمةٌ على الطلب. وثانيها: أن يكون الداعي بين الخوف والرجاء يخافُ تقصيره، كقوله تعالى:(يَحْذَرُ الآخِرَةَ)[الزمر: 9] أي: لا يعتمدُ على عمله؛ لأن العمل بالخواتيم، ويرجو مع ذلك رحمةَ ربه الواسعة، وثالثها: أن يكون مخلصاً لا مُرائياً كما قال إبراهيم: أن يرى الله من العبد الإخلاص والخشوع إذا تخلى معه، إذ ليس الخشوعُ أن تراه يأكل الجشب، ويلبس ويُرائي.
إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها كما يفعل الراغبون في الأمور الجادون. وقرئ "رَغَباً وَرَهَباً" بالإسكان، وهو كقوله تعالى (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9].
(خاشِعِينَ) قال الحسن: ذللا لأمر الله. وعن مجاهد: "الخشوع" الخوف الدائم في القلب. وقيل: متواضعين. وسئل الأعمش فقال: أما إنى سألت إبراهيم فقال: ألا تدرى؟ قلت: أفدنى. قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره وأغلق بابه، فلير الله منه خيرا، لعلك ترى أنه أن يأكل جشنا ويلبس خشنا ويطأطئ رأسه.
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ)[الأنبياء: 91].
(أَحْصَنَتْ فَرْجَها) إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت: (وَلَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فلير الله منه خيراً)، أي: يكونُ على حالةٍ يرى الله منه بها خيراً، على نحو: لا أرينك هاهنا.
قوله: (لعلك ترى)، أي: لعلك تظن أن الخشوع أكل الخشن ولبس المسوح وتطاطُؤ الرأس عند الملأ من الناس، لا، بل الخشوع بأن يُعامل مع الله في الخلوة بالإخلاص.
قوله: (جشباً)، بالجيم والباء الموحدة. الجهري: طعامٌ جشبٌ ومجشوبٌ، أي: غليظٌ خشن، ويقال: هو الذي لا أُدم معهُ.
قوله: ((أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا))، أي: اذكُر التي أحصنت فرجها إحصاناً كُلياً من الحلال والحرام جميعاً، هذه المبالغة يعطيها معنى عطف هذا المذكور على ما قبله من أسماء الأنبياء عليهم السلام، ثم التعبير عن اسمها بهذه الصفة المختصة بها على الكناية.
قال صاحب "المفتاح": إذا اتفق في صفة من الصفات اختصاص بموصوفٍ معينٍ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم: 20]. فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. قال الله تعالى (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)[الحجر: 29] أى: أحييته. وإذا ثبت ذلك كان قوله (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) ظاهر الإشكال، لأنه يدل على إحياء مريم. قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها، أى: أحييناه في جوفها. ونحو ذلك أن يقول الزمار: نفخت في بيت فلان، أى: نفخت في المزمار في بيته. ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.
فإن قلت: هلا قيل آيتين كما قال (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ)[الإسراء: 12]؟ قلت: لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل.
(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 92].
الأمّة: الملة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعارضٍ فيذكُرُها متوصلاً بها إلى ذلك الموصوف، مثل أن تقول: جاء المضيافُ، وتريد زيداً لعارض اختصاص للمضايف بزيد. ثم في الإتيان بالموصولة مع الصلة الدلالة على مزيد تقرير الإحصان، على نحو قوله:(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ)[يوسف: 23]، والإيذانُ بأنها إنما انتظمت في سلك الأنبياء بسبب هذه الخصلة.
قوله: (من جهة رُوحنا، وهو جبريل)، فـ"مِنْ" على هذا: ابتدائية، والإسنادُ مجازيٌّ نحو: بنى الأمير المدينة، والنفخ حقيقةٌ، وعلى أن يُراد بنفخ الروح الإحياء: بيانية، أي: نفخت به ما يحيا به من الروح. وإليه الإشارة: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)[ص: 72]، أي: أحييته، والأسلوب تمثيل، نحو قوله تعالى:(كُنْ فَيَكُونُ)[البقرة: 117].
قوله: (الأمةُ: الملة)، قال صاحب "المُطلِع": الأمةُ: أصلُها القومُ يجتمعون على دينٍ
(وهذِهِ) إشارة إلى ملة الإسلام، أى: إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها، يشار إليها ملة واحدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحد، ثم اتُّسِعَ فيها حتى قيل للدين: أمةٌ، واشتقاقها من أم: قصد، وهي الملةُ المقصودة، قال تعالى:(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)[الزخرف: 23] أي: دينٍ وملة.
قوله: (و (هذه) إشارة إلى ملة الإسلام)، أي: المشارُ إليه ما في الذهنِ كما مضى في قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)[الكهف: 78]، ولما كان معنى الإشارة هاهنا لأجل أكمل التمييز والتعيين، والمشارُ إليه غير محسوس ومعرفٌ تعريف إضافةٍ للاختصاص، قال:"التي يجبُ أن تكونوا عليها"، أي: هذه الملةُ متعينةٌ لكم، فلا مجال للانحراف عنها.
قوله: (يُشارُ إليها ملةً واحدة)، إشارةٌ إلى أن قوله:(أُمَّةً وَاحِدَةً): حالٌ، والعاملُ: اسمُ الإشارة، نحو قوله تعالى:(وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً)[هود: 72]، وفيه إيماءٌ إلى أن عامل الحال غير عاملٍ فيها. قال المالكيُّ في "شرح التسهيل": والأكثرُ أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها؛ لأنها وإياهُ كالصفةِ والموصوفِ ولكنهما كالمميز والمميز عنهُ، وكالخبر والمخبر عنه، ومعلومٌ أن ما يعمل في المميز والمميز قد يكون واحداً وقد يكون غير واحد، وكذا ما يعملُ في الخبر والمُخبر عنه، فكذا الحالُ وصاحبها، ومثالُ اتحاد العامل في الأبواب الثلاثة: طاب زيدٌ نفساً، وإن زيداً قائمٌ، وجاء زيدٌ راكباً، ومثالُ عدم الاتحاد في الثلاثة: لي عشرون درهما، وزيدٌ منطلقٌ، على مذهب سيبويه، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، فـ (أُمَّةً): حالٌ، والعامل فيها: اسم الإشارة، و (أُمَّتُكُمْ): صاحب الحال، والعامل فيها:(َإِنَّ).
وقال ابن جني في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ)[الفتح: 29]: نصب أشداء على الحال، أي: هم معه على هذه الحالة، فتجعلُه حالاً من الضمير في "معه"، ولو جعلته حالاً من (وَالَّذِينَ) كان العامل في الحال غير العامل في صاحبها، كان ذلك جائزاً كقوله تعالى:(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)[البقرة: 91]، وقوله:"يُشار إليها" في الكتاب: حالٌ من الضمير المجرور في "عنها"، وكذا "ملة واحدةً: حالٌ من الضمير المجرور في "يُشارُ إليها".
غير مختلفة (وَأَنَا) إلهكم إله واحد (فَاعْبُدُونِ) ونصب الحسن "أمّتكم" على البدل من (هذه)، ورفع "أمّة" خبرا. وعنه رفعهما جميعا خبرين (لهذه). أو نوى للثاني مبتدأ، والخطاب للناس كافة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (غير مختلفة)، يريد: قوله: (وَاحِدَةً): صفةٌ مؤكدةٌ لمعنى الوحدة في "ملةً" فيوافقه قوله: (أَنَا رَبُّكُمْ)، ولهذا فسره بقوله:"وأنا إلهكم إله واحد"؛ لأن التركيب مثلُ قولك: أنا أخوك، لمن يعرفُ أخاً له ويعرفُك، لكن لا يعرفُ أنك أخوه.
قوله: (وأنا إلهكم إلهٌ واحد)، تفسيرٌ لقوله:(أَنَا رَبُّكُمْ)، وتخصيصه بالتوحيد لاقتضاء المقام، وعطفه على قوله:(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) والفاء في (فَاعْبُدُونِ) لترتب الحكم على الوصف. وأما قضيةُ ترتيب النظم فإن هذه السورة كما مر نازلةٌ في بيان النبوة وما يتعلقُ بها، والمخاطبون: المعاندون من أمة محمدٍ صلوات وسلامه عليه، ولما فرغ من بيان النبوة، وتكريره تقريراً، ومن ذكر الأنبياء مسلياً، عاد إلى خطابهم بقوله:(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي هذه الملة التي كررتها عليكم ملةٌ واحدةٌ أختارها لكم فتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد، وهي التي أدعوكم إليها، لتعضوا عليها بالنواجذ؛ لأن سائر الكتب نازلةٌ في شأنها، والأنبياء كلهم مبعوثون للدعوة إليها، ومتفقةٌ عليها، ثم لما عُلم إصرارهم وعنادهم قيل:(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)، المعنى: الملةُ واحدة، والربُّ واحد، والأنبياءُ متفقون عليها، وهؤلاء البُعداءُ جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعاً كما تتوزعُ الجماعةُ الشيء الواحد.
قوله: (ونصب الحسنُ "أمتكم")، قال ابن جني: ورويت عن أبي عمرو: "أمتكم أمةٌ واحدةٌ" بالرفع، فتكونُ "أمةٌ واحدةٌ" بدلاً من (أُمَّتُكُمْ)، كقولك: زيدٌ أخوك رجلٌ صالحٌ، ولو قرئ أمتكم بالنصب بدلاً وتوضيحاً لـ (هذه)، ورُفع (أُمَّةً وَاحِدَةً) لأنه خبرُ (إنَّ) كان وجهاً جميلاً حسناً.
(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ)[الأنبياء: 93].
والأصل: وتقطعتم، إلا أن الكلام حرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله. والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه، فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأنّ هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو محاسبهم ومجازيهم.
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ)[الأنبياء: 94].
"الكفران": مثل في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً)، ضمن "تقطع" معنى "جعل". وقال أبو البقاء:(أَمْرِهِمْ) أي: في أمرهم، أي: تفرقوا. وقيل: عدى تقطعوا بنفسه؛ لأنه بمعنى قطعوا، أي: فرقوا.
قوله: (فيطير لهذا نصيبٌ)، يقالُ: طار له سهمٌ، أي: أسرع وخف، وأصله من التطير بالسانح والبارح للحظ والنصيب والخيبة والحرمان.
قوله: (تمثيلاً لاختلافهم)، مفعولٌ له لقوله:"ينعي عليهم".
قوله: (الكفران)، مثلٌ في حرمان الثواب، يدلٌّ عليه قوله تعالى:(وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ)[آل عمران: 115]، أي: لن تُحرموا ثوابه ولن تُمنعوه. وإنما قال: هو مثلٌ؛ لأن حقيقة الشُكرِ الثناءُ على المحسن بما أولاكَهُ من المعروف، وهذا في حق الله تعالى محالٌ،
شكور. وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أى نحن كاتبو ذلك السعى ومثبتوه في صحيفة عمله، وما نحن مثبتوه فهو غير ضائع ومثاب عليه صاحبه.
(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء: 95 - 96].
استعير الحرام للممتنع وجوده. ومنه قوله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فشبه معاملته مع من أطاعه، وعمل صالحاً لوجهه، بثناء من قد أحسن إليه غيره وأولاهُ من معروفه، ثم استعمل لجانب المشبه ما كان مستعملاً في المشبه به من لفظ الشكور، وفي عكسه الكفران. "النهاية": وفي أسماء الله تعالى الشكور، وهو الذي يزكو عنده القليلُ من أعمال العباد، فيُضاعفُ لهم الجزاء، وهو من أبنية المبالغة.
قوله: (فهو غير ضائع)، إشارةٌ إلى ملزوم قوله:(وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ)؛ لأنه كنايةٌ عنه.
قوله: (استعير الحرامُ للممتنع وجوده)، أنشد صاحبُ "المطلع" للخنساء:
وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً
…
على شجوه إلا بكيت على عمرو
وإنما جعله استعارةً لأن الحرام اسمٌ لما امتنع تناوله قطعاً بسبب شرعي، فما حكم الله بامتناعه يكونُ كالشيء المحرم على الناس، ومنه الحديث:"حرمتُ الظُّلمَ على نفسي"، أي: تقدستُ عنهُ وتعاليت.
الْكافِرِينَ) [الأعراف: 50] أى منعهما منهم، وأبى أن يكونا لهم. وقرئ:"وحرم"، "وحرم" بالفتح والكسر. "وحرّم""وحرّم".
ومعنى (أَهْلَكْناها) عزمنا على إهلاكها. أو قدرنا إهلاكها. ومعنى "الرجوع": الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة. ومجاز الآية: أن قوما عزم الله على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا وينيبوا، إلى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويقولون:(يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)] الأنبياء: 97 [يعنى: أنهم مطبوع على قلوبهم فلا يزالون على كفرهم ويموتون عليه حتى يروا العذاب.
وقرئ: "إنهم"، بالكسر. وحق هذا أن يتمّ الكلام قبله، فلا بدّ من تقدير محذوف، كأنه قيل: وحرام على قرية أهلكناها ذاك. وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعى المشكور غير المكفور، ثم علل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "وحَرْم"، و"حِرْم" بالفتح والكسر)، أبو بكر وحمزةُ والكسائي: بالكسر وإسكان الراء، والباقون: بفتحهما وألف بعد الراء.
الجوهري: الحرامُ ضد الحلال، وكذلك الحرمُ بالكسر، قال الكسائي: ومعناهُ الواجبُ. وقال ابن جني: قرأ ابن عباس: "حرم" بفتح الحاء وسكون الراء والتنوين، وهو مخففٌ من "حَرِم" على لُغةِ بني تميم كبطرٍ من: بطرٍ، وفخذٍ من: فخذ. وقرأ ابن عباس أيضاً: "حرُم" بضم الراء.
قوله: (ومجاز الآية)، أي: الذي ينبني جوازُ الآية وطريقتها وسياقها عليه وبيانُ تقرير الاستعارة واستعمالُ الحرام في الممتنع وجوده، وذلك أن ما عزم الله تعالى عليه غير متصور أن يكون خلافه، فيمتنعُ وجودُ إنابةِ هؤلاء؛ لأن الله تعالى عزم على إهلاكهم، فلا يرجعون ولا يُنيبون.
فكيف لا يمتنع ذلك. والقراءة بالفتح يصح حملها على هذا؟ أى: لأنهم لا يرجعون ولا صلة على الوجه الأوّل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فكيف لا يمتنع ذلك؟ )، أي: فكيف يحصلُ منهمُ العملُ الصالحُ والسعيُ المشكور؟ لأن الإنكار إذا دخل على المنفي أفاد الثبوت.
قوله: (ولا صلة على الوجه الأول)، على أن يكون (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) مُبتدأ، والخبر:"حرامٌ"، لا أن يكون تعليلاً، ولهذا قدر في الأول "لا" زائدةً وقال:"إن قوماً عزم اللهُ على إهلاكهم غير متصورٍ أن يرجعوا"، وجعل في التعليل غير زائدة، وقال:"ثم عُلل، فقيل: لأنهم لايرجعون". قال ابن الحاجب في "الأمالي": إذا جُعلت (أَنَّهُمْ) مبتدأ، و"حرامٌ": خبرٌ مقدم، وجب تقديمه لما تقرر في النحو من أن الخبر عن "أن" لابد أن يكون مقدماً، فعلى هذا لو جُعلت "لا" نافية يفسدُ المعنى، إذ يصيرُ التقديرُ: انتفاءُ رجوعهم ممتنعٌ، فيؤدي إلى معنى الإثبات، إذ نفيُ النفي إثباتٌ قطعاً. وإن جُعلت "لا" زائدةً استقام، وإذا جُعلت (أَنَّهُمْ) تعليلاً، لا تكونُ زائدةً، و"حرامٌ": خبرُ مبتدأِ مقدَّر وهو ذاك، يعني ما تقدم من العمل الصالح المدلول عليه بقوله:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ)، ويكون (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) تعليلاً لقوله: وذاك حرامٌ، كأنه قيل: لم كان ممتنعاً؟ فقيل: لأنهم لا يرجعون، وقد يُضعفُ هذا الوجهُ بأنه معلومٌ امتناعُ العمل على الهالك، فهو إخبارُ بما قد تحقق وعُلم. ويُجاب عنه بأن المراد امتناعُ دخولهم الجنة؛ وكنى عنه بامتناع العمل الصالح، وهو السببُ، فترك ذكر المسبب وذكر السبب، فأنه قيل: يمتنعُ دخولهم الجنة؛ لامتناع عملهم.
وقال القاضي: معنى (أَهْلَكْنَاهَا): حكمنا بإهلاكها.
وقلتُ: الذي يقتضيه النظمُ أن يكون قوله تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) مجملاً كما قال: "ثم توعدهم بأن هذه الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو محاسبهم ومجازيهم"، وقوله:
فإن قلت: بم تعلقت (حَتَّى) واقعة غاية له، وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة ب"حرام"، وهي غاية له لأنّ امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي (حَتَّى) التي يحكى بعدها الكلام، والكلام المحكىّ: الجملة من الشرط والجزاء، أعنى:«إذا» وما في حيزها.
حذف المضاف إلى (يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ) وهو سدّهما، كما حذف المضاف إلى "القرية" وهو أهلها.
وقيل: (فتحت) كما قيل (أَهْلَكْناها) وقرئ: "آجوج". وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ) الآية تفصيلاً له، على أن يُقدر ما يُقابله لمن يُضادهم في العمل فحذف وأقيم مقامه:(وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) على أن المعنى: وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها العملُ الصالحُ والسعيُ المشكورُ غير المكفور؛ لأنهم لا يرجعون عن الكفر، كما قال نعياً على أولئك الذين تقطعوا أمر دينهم، وتسجيلاً على تصميمهم وعدم ارعوائهم.
قوله: (واقعةً غايةً له)، "واقعةً": حالٌ، والضميرُ في "لهُ" يرجعُ إلى "ما" التي في قوله:"بِمَ".
قوله: (وأية الثلاث هي؟ )، المعنى أن "حتى" ثلاثةُ أقسام: حرفُ جر، وحرفُ عطف، وحرفٌ يبتدأ بما بعدها، فهذه من أية هذه الأقسام؟
قوله: (وقيل: (فُتِحَتْ)، كما قيل:((أَهْلَكْنَاهَا))، أي: أُنثَ باعتبار المذكور، أي: القرية.
قوله: (هما قبيلتان من جنس الإنس)، روى محيي السنة عن الضحاك: هم جيلٌ من الترك. وقال أهل التاريخ: أولادُ نوح عليه السلام ثلاثةٌ: سامٌ، وحامٌ، ويافث. سامٌ
ومأجوج (وَهُمْ) راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر وقيل: هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السدّ. "الحدب": النشز «1» من الأرض. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: "من كل جدث"، وهو القبر، الثاء: حجازية، والفاء: تميمية. وقرئ (يَنْسِلُونَ) بضم السين. و"نسل" و"عسل": أسرع.
(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)[الأنبياء: 97].
و(إِذا) هي "إذا" المفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء، كقوله تعالى (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)] الروم: 36 [فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو العرب والعجم والروم، وحامٌ أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافثُ أبو التُّركِ والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج. ورُوي عن حذيفة مرفوعاً: أن يأجوج أمة، ومأجوج أمة.
قوله: (وقرأ ابن عباس: "من كل جدث")، قال ابن جني: قالوا: أجدثت له جدثاً، ولم يقولوا: أجدفتُ. فهذا يُريك أن الفاء في "جدف" بدلٌ من الثاء في "جدث"، ألا ترى الثاء أذهب في التصرف من الفاء؟ ويجوز أن يكونا أصليين، إلا أن أحدهما أوسعُ تصرفاً من صاحبه كما قالوا: وكدتُ عهده وأكدته، إلا أن الواو أوسعُ تصرفاً، وعليه قالوا: مودة قديمة وكيدة. ولم يقولوا: أكيدةٌ، فهو مذهبٌ مقتاسٌ في أمثاله.
قوله: (فإذا جاءت الفاءُ معها تعاونتا)، قال صاحب "الفرائد": إذا المفاجأة بدلٌ من الفاء في الجواب، فكان هذا جمعاً بين البدل والمُبدل منهُ، ويمكن أن يكون جواب (إِذَا فُتِحَتْ):(يَا وَيْلَنَا)، أي: قالوا: يا ويلنا، وقيل: محذوف، أي: ندموا وعلموا فإذا
بالشرط فيتأكد. ولو قيل: إذا هي شاخصة. أو فهي شاخصة، كان سديدا.
(هِيَ) ضمير مبهم توضحه "الأبصار" وتفسره، كما فسر (الذين ظلموا) و (أسروا) (يا وَيْلَنا) متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا. و"يقولون": في موضع الحال من (الذين كفروا).
(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 98 - 100].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبصارهم شاخصةٌ. وأما على الوجه الأول فالتقدير: إذا فُتحدت يأجوج ومأجوجُ وكان كيت وكيت، ففاجؤوا وقت شخوص أبصارهم قالوا: يا ويلنا. وقال الزجاج: الجوابُ عند البصريين قوله: (يَا وَيْلَنَا) والقول محذوفٌ. وعند بعضهم: (وَاقْتَرِبْ)، والواو مُطرحٌ، وهو لا يجوزُ عند البصريين.
قوله: (هي: ضميرٌ مبهمٌ يوضحه: "الأبصار")، يعني: ضميرُ "هي" عند بعضهم، أي: صورته صورة ضمير، لا أنه الضمير المصطلحُ عليه" لأن الضمير المصطلح عليه معرفة، ولابد له من شيء قبله يعود إليه ولا شيء هنا، فيكونُ على وزان قوله: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء: 3]، قال القاضي: يجوزُ أن يكون الضمير للقصة. وقال أبو البقاء: (فإذا) هي: "إذا" للمفاجأة، وهي مكان، والعاملُ فيها:(شَاخِصَةٌ)، وهي ضمير القصة، و (أَبْصَارُ الَّذِينَ): مبتدأ و (شَاخِصَةٌ): خبره.
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحتمل الأصنام وإبليس وأعوانه، لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ويصدّقه ما روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)
…
الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتهامسون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوه. فقال ابن الزبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم. قال: قد خصمتك ورب الكعبة. أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك". فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ)] الأنبياء: 101 [
…
الآية يعنى عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام.
فإن قلت: لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ وحسرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما تعبدون من دون الله: يحتمل الأصنام)، قال في "البقرة":"ما: عامٌّ في كل شيء، فإذا عُلم فُرِّق بـ (ما) و (مَنْ) ". وقد عُلم هنا بقرينة الخطاب في قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) وفيما سبق (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، والالتفات في قوله:(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أن المخاطبين: المشركون، فإن "ما" محمولةٌ على الأصنام، ومن ثم قدر محيي السنة: إنكم أيها المشركون وما تعبدون من دون الله، يعني الأصنام، حصبُ جهنم. وقال محيي السنة: وزعم جماعةٌ أن المراد من الآية الأًنام، لقوله:(وَمَا تَعْبُدُونَ)، ولو أريد الملائكة والناس لقيل: ومن تعبدون. وهو ضعيفٌ؛ لأن ما: عامةٌ.
حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم. والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب، ولأنهم قدّروا، أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ويستنفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
فإن قلت: إذا عنيت ب"ما تعبدون" الأصنام، فما معنى (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ)؟ قلت: إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن واحد، جاز أن يقال:"لهم زفير"، وإن لم يكن الزافرين إلا هم دون الأصنام للتغليب ولعدم الإلباس.
و"الحصب": المحصوب به، أى: يحصب بهم في النار. والحصب: الرمي. وقرئ بسكون الصاد، وصفا بالمصدر. وقرئ "حطب"، و"حضب"، بالضاد متحركاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (للتغليب)، قال صاحب "الفرائد": لا تغليب هاهنا، والمرادُ من ضمير (وَهُمْ): المخاطبون في قوله: (إِنَّكُمْ)، فالالتفاتُ من الخطاب إلى الغيبة، وقلتُ: لما حكم على جميعهم وأنهم مع أصنامهم حصبُ جهنم، ثم حقق ذلك بأن هذا وعدٌ لابد منه بقوله:(أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) وعطف عليه قوله: (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) توكيداً لشمول الأشخاص والأزمان على سبيل الالتفات، ثم أوقع بني المعطوف والمعطوف عليه قوله تعالى:(لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) اعتراضاً وتجهيلاً للكفرة، واحتجاجاً عليهم، عقبه ببيان أحوال كلهم في جهنم بقوله:(لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ)، وكان مقتضى السياق الشركة أيضاً، لكن امتنع وصفها بالزفير، فوجب المصير إلى التأويل بالتغليب، ويجوز وصفها به ما وصف جهنم بالتغيظ والزفير على الحقيقة.
قوله: (و"الحصبُ": المحصوبُ به)، والمحصوب: النارُ، والمحصوب به: الحطبُ، كما أن المرمي: الهدفُ، والمرميَّ به: السهمُ.
قوله: (وقرئ بسكون الصاد)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن السميفع. وقرأ ابن عباس: "حضبُ" بالضاد مفتوحةً، وبسكونها: كثيرُ عزة، وبالطاء: عليُّ بن أبي طالب وعائشةُ وابن الزبير رضي الله عنهم. والحصبُ بالضاد والصاد: الحطبُ، وفيه ثلاث لغات. حطبٌ، وحضبٌ، وحصبٌ، إنما يقال: حصبٌ إذا ألقي في التنور والموقد، فأما ما لم يُستعمل
وساكنا. وعن ابن مسعود: يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون. ويجوز أن يصمهم الله كما يعميهم.
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ)[الأنبياء: 101].
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 101 - 103].
(الْحُسْنى) الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن: إمّا السعادة، وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلا يقال: حصبٌ. قال أحمد بن يحيى: أصل الحصب: الرميُ، حطباً كان أو غيره، فهذا يؤكد ما ذكرناه، فأما الحضبُ ساكناً بالضاد المعجمة وغير المعجمة فالطرحُ، فهو هنا على إيقاع المصدر موقع اسم المفعول.
قوله: (إما السعادةُ، وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة)، أما السعادةُ فما روينا عن الترمذي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحدٍ أو من نفس منفوسة، إلا قد كُتبت شقيةً أو سعيدة"، الحديث.
وعن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن خلقَ أحدكم يُجمعُ في بطن أمه" إلى قوله: "يُكتبُ رزقه وأجلُه وعملُه وشقيٌّ أو سعيد، ثم يُنفخُ في الروح" الحديث.
وأما البشرى فلقوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى)[يونس: 26]، وقوله تعالى:(تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ).
يُروى أنّ عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) و"الحسيس": الصوت يحس، و"الشهوة": طلب النفس اللذة. وقرئ "لا يَحْزُنُهُمُ" من أحزن. و (الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قيل: النفخة الأخيرة، لقوله تعالى (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)] النمل: 87 [وعن الحسن: الانصراف إلى النار. وعن الضحاك: حين يطبق على النار. وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما التوفيق فلقوله صلواتُ الله عليه: "وأما من كان من أهل السعادة فسيصيرُ لعمل السعادة"، الحديث، أخرجه البخاري ومسلمٌ عن علي رضي الله عنه.
قوله: (يُروى أن علياً رضي الله عنه، يشيرُ إلى معنى ما روينا عن سعيد بن زيدٍ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ، وإني لغنيٌّ أن أقول عليه ما لم يقل، فيسألني عنه غداً إذا لقيته:"أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، عليٌّ في الجنة، والزبيرُ في الجنة، وسعد بن مالكٍ في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"، وسكت عن العاشر، فقالوا: ومن العاشرُ؟ قال: "سعيد بن زيد"، يعني نفسه. أخرجه أبو داود والترمذي أيضاً عن عبد الرحمن بن عوف مثله.
قوله: (يُذبحُ الموتُ على صورة كبش أملح)، الحديثُ من رواية البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتي بالموتِ كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرفون وينظرون، فيقولون: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموتُ": إلى قوله: "فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت"، الحديث.
تستقبلهم (الْمَلائِكَةُ) مهنئين على أبواب الجنة. ويقولون: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم قد حلّ.
(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَانا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)[الأنبياء: 104].
العامل في (يَوْمَ نَطْوِي)(لا يحزنهم). أو (الفزع). أو (تتلقاهم). وقرئ: "تطوى السماء"، على البناء للمفعول "السِّجِلِّ" بوزن العتلّ و"السجل" بلفظ الدلو. وروى فيه الكسر: وهو الصحيفة، أى: كما يطوى الطومار للكتابة، أى: ليكتب فيه، أو: لما يكتب فيه، لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهاية: الأملحُ: الذي بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض.
قوله: (أو (الْفَزَعُ))، أي: العامل في (يَوْمَ نَطْوِي) الفزعُ: فإن قيل: الفزعُ الأكبرُ مصدرٌ موصوف، وهو لا يعمل؟ وأجيب: أنه اتسع في الظرف ما لم يُتسع في غيره.
قوله: ("السُّجُلّ"، بوزن العُتُلِّ)، قال ابن جني: بضم السين والجيم مشددة، قراءة أبي زُرعة، وقرأ الحسنُ: بكسر السين وسُكون الجيم، واختاره أبو عمرو، وقرأ أبوالسمال بفتح السين وسكون الجيم وتخفيف اللام. قال ابن جني: السجلُّ: الكتابُ، وهو كتابُ العهدة ونحوها. وقال قومٌ: هو فارسيٌّ معرب، وأنكر أصحابنا كلهم ذلك. وقيل: هو ملكٌ، وقيل: هو كاتبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مدفوعٌ؛ لأن كُتابه معروفون، وما وُقِفَ على مثلِ هذا الاسم في ذكر أسامي الصحابة. ويُشبهُ عند من قال بهذين القولين أن السجل فاعلٌ في المعنى، وغنما هو مفعولٌ، وهو كطي الكتاب للكتابة، أي: كطي الكتاب لأن يُكتب فيه.
قوله: (أو لما يُكتبُ فيه)، قيل: اللام: متعلقٌ بالطي، إلا أنه إذا كان السجلُّ فاعلاً كانت
المكتوب، ومن جمع فمعناه: للمكتوبات، أى: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة.
وقيل (السِّجِلِّ) ملك يطوى كتب بنى آدم إذا رفعت إليه. وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والكتاب - على هذا - اسم الصحيفة المكتوب فيها.
(أَوَّلَ خَلْقٍ) مفعول "نعيد" الذي يفسره (نُعِيدُهُ) والكاف مكفوفة ب"ما". والمعنى: نعيد أوّل الخلق كما بدأناه، تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء.
فإن قلت: وما أوّل الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم. فإن قلت: ما بال (خَلْقٍ) منكرا؟ قلت: هو كقولك: " هو أوّل رجل جاءني"، تريد أوّل الرجال، ولكنك وحدته ونكرته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاختصاص، وإذا كان مفعولاً كان بمعنى لأجل. وقال أبو البقاء: اللامُ زائدةٌ، كقولك: لا أبا لك. وقيل: هي بمعنى على، وقيل: تتعلقُ بطي. مضى كلامه. فقوله: ليكتب فيه على أن المصدر بمعناه، أو لما يُكتبُ فيه، على أن المصدر بمعنى المفعول.
قوله: (كقول: هو أول رجلٍ جاءني)، يريدُ: أولُ الرجال. اعلم أن (أَوَّلَ) إذا كان مفعولاً به لـ "نُعيدُ" المفسر كما ذكر، فالظاهرُ أن يُضافَ إلى الجمع؛ لا الخلق على هذا التأويل عامٌّ في السماء وغيرها، فإذا نُكر أريد به تفصيلُ الجنس واحداً واحداً، و (كَمَا) على هذا: منصوبٌ على المصدر بـ "نُعيدُ المقدر، ومفعول (بَدَانَا): ضميرُ "أول الخلق"، وإليه الإشارة بقوله: "نعيدُ أول الخلقِ كما بدأناهُ"، ولا كذلك إذا جُعلَ (أَوَّلَ) ظرفاً أو حالاً؛ لأن مفعولَ (بَدَانَا) على هذا: ضميرٌ يرجع إلى "ما" في (كَمَا)، وهي موصولةٌ، وأريدُ به السماء، فيختص الإبداء والإعادة به؛ ولهذا قال: "أول ما خلق"، فلا يحتاج إذن إلى التعميم.
وقال ابن الحاجب: (كَمَا بَدَانَا) يجوزُ أن يكون في موضع نصبٍ على المصدر بـ (نُعِيدُهُ)، كأن الأصل: نُعيدُ أول خلقٍ إعادةً مثل ما بدأناه، وتكونُ "ما": مصدرية،
إرادة تفصيلهم رجلا رجلا، فكذلك معنى (أَوَّلَ خَلْقٍ): أوّل الخلق، بمعنى: أوّل الخلائق، لأن الخلق مصدر لا يجمع. ووجه آخر، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره (نُعِيدُهُ) و"ما" موصولة، أى: نعيد مثل الذي بدأناه نعيده. و"أول خلق": ظرف ل"بدأناه"، أى: أوّل ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى.
(وَعْداً) مصدر مؤكد، لأنّ قوله (نُعِيدُهُ) عدة للإعادة (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أى قادرين على أن نفعل ذلك.
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء: 105].
عن الشعبي رحمة الله عليه: زبور داود عليه السلام، و (الذكر): التوراة. وقيل اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب. و (الذكر): أم الكتاب، يعني اللوح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأن تكون في موضع الحال، كأنه قال: نُعيدُه أول خلقٍ مماثلاً للذي بدأناه، وصح الحالُ؛ لأنه من الضمير في (نُعِيدُهُ)، يعني:"نُعيدُ" المفسر الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى.
قوله: (زبور داود)، خبرُ مبتدأ محذوف، أي: الزبورُ المذكور في الآية: زبورُ داود عليه السلام.
قوله: (وقيل: اسمٌ لجنس ما أُنزل)، كقوله تعالى:(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ)[الشعراء: 196]. نقل محيي السنة عن سعيد بن جبير ومجاهد: أن الزبور: جميع الكتب المنزلة، والذكرُ: أمُّ الكتاب، أي: بعد ما كُتب ذكره في اللوح المحفوظ، ويؤيدها ما رويناه في "صحيح البخاري" عن عمران بن حصين في حديث وفد اليمن: جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك
أي: يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار، كقوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا)] الأعراف: 137 [، (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)] الأعراف: 128 [وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي أرض الجنة. وقيل: الأرض المقدّسة، ترثها أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)[الأنبياء: 106].
الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. و"البلاغ":
الكفاية وما تبلغ به البغية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أول هذا الأمر: ما كان؟ قال صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق الله تعالى السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء".
قوله: (أي: يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكُفار)، روينا عن مسلم وأبي داود والترمذي، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فأريتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغُ ملكها ما زُوي لي منها"، ورواه الإمام أحمد بن حنبل عن شداد بن أوس. قال الإمام: دليلُ هذا القول قوله تعالى: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ)[النور: 55].
قوله: (وعن ابن عباس: هي أرضُ الجنة)، وقال الإمام: يؤيده قوله تعالى: (وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ)[الزمر: 74]، ولأنها الأرضُ التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خُلقت، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعل ىوجه التبع، ولأنها ذُكرت عقيب ذكرِ الإعادة فلا تكونُ غير الجنة.
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)[الأنبياء: 107].
أرسل صلى الله عليه وسلم (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر الله عينا غديقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومن خالف ولم يتبع)، جوابُ سؤال، أي: كيف قال: (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)"والعالمين" - كما تقرر- عامٌّ في جميع المخلوقات، ونرى كثيراً ممن خالفه محرومين من تلك الرحمة؟ فقال: ومن خالف ولم يتبع فإنما أُتي من عند نفسه؟
قوله: (ومثالهُ: أن يُفجر الله تعالى عيناً غديقةً)، وقلتُ: ومثاله في مذهبنا: ما رويناه عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تنبتُ كلأ، فذلك مثلُ من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". أخرجه البخاري ومسلم.
"الأجادبُ" بالجيم والدال المهملة: قال الخطابي: هي الأرضُ التي تُمسكُ الماء فلا يسرعُ فيه النضوب. روى الشيخ الإمام محيي الدين النواوي في "شرح صحيح مسلم"، عن بعضهم: إنما هي أخاذاتٌ، بالخاء والذال المعجمتين، جمعُ إخاذة، وهي الغديرُ. شبه العلم والهدى بسبب الرحمة المهداة صلاوتُ الله وسلامه عليه بالغيث، كما شبه الغيث بالرحمة في قوله:(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)[الأعراف: 57]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكما أن الغيث يحيي البلد الميت بأصناف العشب والكلأ وغيره، كذلك الهدى والعلمُ يحييان القلب الميت، وإنما أوثر الغيث على سائر أسماء المطر ليؤذن بشدة اضطرار الخلقِ إليه حينئذٍ، قال الله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ)[الشورى: 28]، وفي حديث الاستسقاء:"اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً"، أخرجه أبو داود.
وقال التوربشتيُّ: وقد كان الناس قبل المبعثِ وهم على فترة من الرسل قد امتحنوا بموت القلب، ونُضوبِ العلم، حتى أصابهم الله تعالى برحمةٍ من عنده، فأفاض عليهم سجال الوحي السماوي، فأشبهت حالهم حال من توالت عليهم السنون، وأخلفتهم المخايل حتى تداركهم الله بلطفه وأرخت عليهم السماء عزاليها، ثم كان حظُّ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر.
وقلتُ: وقد يتوهم أن الشطر الأول من التمثيل مشتملٌ على تمثيلين مستقلين وليس بذلك، ولكنه تمثيلٌ واحدٌ مركبٌ من أمرين: وذلك أن "أصاب طائفة منها" عطفٌ على "أصاب أرضاً"، ثم قُسمت الأرضُ الأولى بحرف التعقيب في قوله:"فكانت"، وعُطفَ كان على كانت قسمين، فيلزم اشتمال الأرض الأولى على الطائفة الطيبة وعلى الأجادب، ولأن أصل التمثيل مُركبٌ من أمرين، من الهدى والعلم لتغايرهما في الاعتبار، كما ورد:"من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بُعدا"، ويعضده مراعاةُ معنى التقابل بين القرينتين من إثبات إنبات الكلأ وإمساك الماء في أحداهما، ونفيهما في الأخرى على سبيلا لحصر، ثم تعقبهما بالفذلكة المقررة للتفصيل المذكور المنصوص فيها المثلان المشيران إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأرضين لرفع ما عسى أن يتوهم متوهمٌ أزيد منهما، وذلك قوله:"فذلك مثلُ من فقه في دين الله تعالى" إلى آخره.
وكذا يؤيده ما ذكره شارحُ "الصحيح"، وهو: أما قوله: "ورعوا" فهو بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نسخ "مسلم"، ووقع في "البخاري":"وزرعوا"، وكلاهما صحيحٌ. انتهى كلامه؛ لأنه -على الأول- في الكلام لفٌّ ونشر، فإن "رعوا" مناسبٌ لقوله:"أنبتت الكلأ والعشب الكثير"، وقوله:"فشربوا وسقوا"، مناسبٌ لقوله:"أجادب" فيكونُ الضميرُ في نفع الله تعالى بها لقوله أرضاً، ومعنى قوله:"كلاهما صحيحٌ": أن "زرعوا" متعلقٌ بالأول لا بالأجادب، فإنها لا تكفي الشرب والسقي فضلاً عن الزرع، فعلى هذا قد ذُكر في الحديث الطرفان: العالي في الاهتداء، والغالي في الضلال، فعبر عمن قبل هدى الله والعلم بقوله:"من فقه في دين الله"، إلى آخره، وكنى عمن قبل هدى الله والعلم بقوله:"من فقه في دين الله" إلى آخره، وكنى عمن أبى قبولهما بقوله:"لم يرفع بذلك رأساً"، وبقوله:(لم يقبل هدى الله)، وترك الوسط، وهما قسمان، أحدهما: العامل الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسبُ، والثاني: الذي لم ينتفع هو بنفسه ولكن نفع الغير.
ثم تأمل أيها الناظر في الفاءات الست تعجب من حسن مواقعها، فالأولى: تفصيلية، قسمت إحدى الأرضين قسمين، والثانية: سببية؛ لأن القبول سببُ النتيجة، والثالثة: جمعت القسمين في معنى النفع، والرابعة: أتبعت كل واحدٍ منهما بما يناسبه، والخامسة: عكس الأولى حيث عقبت التفصيل بالإجمال؛ لأنها ردت الأقسام الثلاثة إلى التمثيلين. والسادسة: سببيةٌ، أي: فعلم الحق ولم، آذنت بأن الفقيه هو الوارث يجب عليه تكميل الناقصين بعد كماله، ما قال تعالى:(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ)[التوبة: 122]، وفي الحديث إشعارٌ بأن الاستعدادات ليست مكتسبةً، لا كما عليه ظاهرُ كلام المصنف، بل هي مواهبُ ربانية، يختص بها من يشاء، وكمالها أن يفيض الله عز وجل عليها من المشكاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النبوية، فإذا وُجد من يشتغلُ بغير الكتاب والسنة وما والاهما عُلم أن الله تعالى لم يُرد به خيراً فلا يعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي علم وعمل ثم علم، وفاقد أحدهما فاقد هذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله كما يفيدهم بعلمه. ولو أفاد بالعمل فحسبُ لم يحظ منه بطائل، كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرؤ مرعاها، ولو اقتصر على القول لأشبه السقي مجرداً عن الرعي، فيشبه الآخذ بالمستسقي، ولو منعهما معاً كان كأرض ذات ماءٍ وكلأٍ وعُشب، وحماها بعضُ الظلمة عن مستحقيها. قال:
ومن منح الجهال علماً أضاعه
…
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وفي اختصاص الإخاذات: إيماءٌ إلى أن القلب الخالي من الكتاب والسنة كالمصنع الفارغ من الماء، وأن آخذ الحديث ينبغي أن يكون واعياً كالإخاذ، حافظاً للألفاظ الجامعة بين التعريفات المغيرة، ليتمكن من الاستنباطات المتنوعة؛ إذ لو انخرم حرفٌ أو انحرفت كلمةٌ لفاتت الفوائدُ المتكاثرة.
وعن مسروقٍ قال: صحبتُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كإخاذاتٍ؛ لأن قلوبهم كانت واعيةً فصارت أوعيةً للعلوم بما رزقوا من صفاء الفهوم. وأن يكون واقياً لها من الشوائب النفسانية متفادياً من الأعراض الدنيوية كالمصنع الذي يقي الماء عن الكدورات: الداخلة والخارجة، ولهذه الأسرار الغامضة ورد فيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد"، أخرجه الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فيسقي ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين المفجرة في نفسها، نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه، حيث حرمها ما ينفعها. وقيل: كونه رحمة للفجار، من حيث أنّ عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال.
(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[الأنبياء: 108].
إنما لقصر الحكم على شيء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى الدارمي، عن عمران، عن الحسن:"إنما الفقيهُ: الزاهد في الدنيا الراغبُ في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداومُ على عبادة ربه".
هذه خاتمةٌ شريفة، حيثُ ختمت سورةُ الأنبياء عليهم السلام بختام خاتمهم صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. والحمد لله رب العالمين. ونحن نختمُ أيضاً بما رُوي عن أبي صالح قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنادي: "يا أيها الناس، إنما أنا رحمةٌ مهداة". أخرجه الدارمي هكذا مرسلاً، ورُوي موصولاً بذكر أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل في معناه قوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
قوله: (عيناً غديقةً)، الجوهري: غدقت العينُ، بالكسر، أي: غزرت، والغدقُ بالفتح: الماء الكثير، وإنما قال:"محنةً" ليطابق قوله تعالى: (رَحْمَةً).
قوله: ((إنما) لقصر الحكم على شيء)، مثالُه: إنما زيدٌ قائمٌ، وهو فرعٌ لقولك: ما زيدٌ إلا قائمٌ، وهو من تخصيص الموصوف بالصفة، أي: ليس له صفةٌ سوى القيام.
أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأن (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ) مع فاعله، بمنزلة: إنما يقوم زيد. و (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) بمنزلة: إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أن الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية: وفي قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو لقصر الشيء على حُكم)، مثاله: إنما يقوم زيدٌ، وهو فرعُ قولك: ما يقوم إلا زيدٌ، وهو من تخصيص الصفة بالموصوف، أي: صفةُ القيام لا تتعدى عن زيد.
قوله: (وفائدةُ اجتماعهما [الدلالة على] أن الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصورٌ على استئثار الله بالوحدانية)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأداء الحصر إلى مُشكل، وهو أنه لا يُوحي إليه إلا الوحدانية دون غيرها من التكاليف؛ ولأنه لم يذكر الحصر إلا في إنما المكسورة، ولعل المراد أن المقصود الأعظم من الوحي هو الوحدانية، وإنما ألحق بها المفتوحة، إما لأنها بمعنى المكسورة؛ لأن 0 يُوحَى) بمعنى القول، أو لاطراد دليل حصر المكسورة على ما قيل فيها أيضاً.
وقلتُ: أما مزيدُ تقرير الجواب فهو أن الكلام الذي يفيد الحصر لا يؤتى لإفادة العموم غالباً، بل قد يؤتى لرد المنكر فيما وقع النزاع فيه. وهنا الكلام السابق في الرد على المشركين كما قال تعالى:(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)، وكذا اللاحق:(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ)، على أن سائر التكاليف متفرعٌ على أصل التوحيد، مقررٌ له، لقوله تعالى:(وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ)[البينة: 5]، ألا ترى كيف ذم في قوله تعالى:(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)[المسد: 1] شانئ سيد الموحدين وشتم من يشيكُ الشوكة في طريقه؟ ولهذا عقب بهذه السورة سورة التوحيد، والسورتان على وزان (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر: 1] (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر)[الكوثر: 3]، وقوله:(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الكوثر: 2] تعليلٌ لهما، وأمرٌ بالقيام بشكرهما، قُدم قبل تمام الكلام لشدة الاهتمام.
مُسْلِمُونَ) أن الوحي الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد لله، وأن تخلعوا الأنداد. وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع. ويجوز أن يكون المعنى: أن الذي يوحى إلى، فتكون «ما» موصولة.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [الأنبياء: 109 - 111].
"آذن": منقول من "أذن" إذا علم، ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى (فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)] البقرة: 279 [، وقول ابن حلزة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن يخلصوا التوحيد لله تعالى)، وذلك أن قوله تعالى:(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ونحوه إنما يُذكر إذا تقدم أمرٌ أو شأنٌ قُرنَ معه ما يوجبُ الائتمار به أو الترغيب فيه، فيؤتى به للتحريض عليه، والتنبيه على إزاحة الموانع والصوارف عنه، وهاهنا لما بولغ في أمر التوحيد بالحصرين عقبه به إيجاباً للامتثال بإخلاص التوحيد، وإن شئت فانظر إلى قول المصنف في تفسير قوله تعالى:(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)[المائدة: 91] ليتحقق لك ما أردنا إيراده هاهنا.
قوله: (وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع)، يريد أن قوله تعالى:(إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) مع كونه مسبوقاً لإثبات إخلاص التوحيد قد أدمج فيه هذا المعنى. قال الإمام: العلمُ بصحة النبوة لا يتوقف على العلم بكون الإله واحداً، فلا جرم أمكن إثبات الوحدانية بالدلائل السمعية.
آذنتنا ببينها أسماء
والمعنى: أنى بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ اليهم العهد، وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك (عَلى سَواءٍ) أى مستوين في الإعلام به، لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم، وقشر العصا عن لحائها. وما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين عليكم كائن لا محالة، ولا بد من أن يلحقكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (آذنتنا ببينها أسماء)، تمامه:
رُبَّ ثاوٍ يُملُّ منه الثواءُ
الإيذانُ: الإعلامُ، والثويُّ: الإقامةُ. يقولُ: أعلمتنا بمفارقتها إيانا أسماءُ، ورُبَّ مُقيم يُملُّ إقامته، ولم تكن أسماءُ منهم.
قوله: (كرجل بينه وبين أعدائه)، بيانٌ لتقرير المشبه به، وطريقُ مجاز (آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) في الكلام، وأنه استعارةُ تبعيةٌ واقعةٌ على التمثيل.
قوله: (هدنة)، الجوهري: هادنه، أي: صالحه، والاسم منها: الهدنةُ.
قوله: ((عَلَى سَوَاءٍ)) أي: مستوين، يعني أنه: حالٌ، قال أبو البقاء هو حالٌ من الفاعل والمفعول، أي: مستوين في العلم بما أعلمتكم به.
قوله: (وقشر العصا عن لحائها)، قال الميداني: قشرتُ له العصا، يُضربُ في خلوص الوُد: أظهرتُ له ما كان في نفسي، ويقال: أقشر له العصا، أي: كاشفه وأظهر له العداوة.
قوله: (وما توعدونه من غلبة المسلمين عليكم كائنٌ لا محالة)، قال صاحب "الفرائد":
بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدرى متى يكون ذلك لأن الله لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه، والله عالم لا يخفى عليه ما تجاهرون به من كلام الطعانين في الإسلام، و (ما تَكْتُمُونَ) في صدوركم من الإحن والأحقاد للمسلمين، وهو يجازيكم عليه. وما أدرى لعلّ تأخير هذا الموعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون. أو تمتيع لكم (إِلى حِينٍ) ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.
(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)[الأنبياء: 112].
قرئ "قل" و (قالَ)، على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. و (رَبِّ احْكُمْ) على الاكتفاء بالكسرة. و"رب احكم"، على الضم. و"ربى أحكم"، على أفعل التفضيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمكنُ أن يُقال: ما توعدون يشملُ غلبةَ المسلمين وعذاب الآخرة، فيكونُ المرادُ ما يعمهما؛ إذ لا امتناعَ في إرادته، وقلتُ: يأباهُ قوله تعالى: (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ)؛ لأنه بمعنى قشر العصا عن لحائها.
قوله: (علمه)، نصبٌ على المصدر، وأصله: لم يعلمنيهُ علماً، ثم قُدم المصدرُ وأضيف، على نحو:(فَضَرْبَ الرِّقَابِ)[محمد: 4].
قوله: (من الإحن)، الجوهري: يقالُ: في صدره عليَّ إحنة: أي: حقدٌ، والجمعُ: إحن.
قوله: (قرئ: "قُلْ" و (قَالَ))، قال حفصٌ:(قَالَ) بالألف، والباقون: بغير ألف.
قوله: (و"رَبُّ احكُمْ" على الضم)، قال ابن جني: قرأ أبو جعفر: بضم الباء، والألفُ ساقطةٌ، على أنه نداءُ مفردٍ، وهذا ضعيفٌ، أعني حذف حرف النداء مع الاسم الذي يجوز أن يكون وصفاً لأي. ألا تراك لا تقولُ: رجلُ أقبِلْ؛ لأنه يمكنك إن تجعل الرجُلَ وصفاً لأي، فتقولُ: يا أيها الرجلُ، ولهذا ضَعُفَ عندنا قولُ من قال في قوله تعالى:(هَؤُلاءِ بَنَاتِي)
و"ربي أحكم": من الإحكام، أمر باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر. ومعنى (بِالْحَقِّ) لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[الحجر: 71] أنه أراد: يا هؤلاء، حذف حرف النداء من حيثُ إن هؤلاء من أسماء الإشارة، وهو جائزٌ أن يكون وصفاً لـ"أي"، نحو قوله:
ألا يا أيُّهذا المنزلُ الدارسُ
"وربُّ" يجوزُ أن يكون وصفاً لـ"أي"، فتقولُ: يا أيها الربُّ، وأما ما جاء في الأمثال نحو: أصبح ليلُ، وأطرق كرا فإن الأمثال تجري في محمل الضرورة لها مجرى المنظوم.
ورُوي أن هذه القراءة مبنيةٌ على جواز: يا غلامُ في: يا غلامي، وهي لغةٌ حكاها سيبويه، كما قرأ ابن أبي عبلة: يا قوم إنكم ظلمتم. ولو لم يُقدر "رب" مضافاً لزم حذفُ حرفالنداء عما يقع صفة لأي، وهو غير جائز.
قوله: " (ومعنى (بالْحَقُّ): لا تحابهم وشدد عليهم)، قال القاضي: اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المُقتضي استعجال العذاب والتشديد عليهم. قال محيي السنة: كأنه استعجل العذاب لقومه فعُذبوا يوم بدر، نظيره قوله تعالى:(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا)[الأعراف: 89].
كما قال «اشدد وطأتك على مضر» قرئ (تَصِفُونَ) بالتاء والياء. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وخذلهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من قرأ (اقترب للناس حسابهم) حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبىّ ذكر اسمه في القرآن» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اشدد وطأتك على مُضر). النهاية: معناهُ: خُذهم أخذاً شديداً. والوطءُ في الأصل: الدوسُ بالقدم، فسُمي به الغزو والقتل؛ لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه وأهانه.
تمت السورة، والله أعلم
سورة الحج
مكية، غيرست آيات،
وهي: (هذان خصمان)
…
إلى قوله
…
إلى (صراط الحميد) وهي ثمان وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)[الحج: 1].
الزلزلة: شدّة التحريك والإزعاج، وأن يضاعف زليل الأشياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الحج
مكيةٌ، غير ست آيات
وهي (هَذَانِ خَصْمَانِ) إلى قوله: (إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)
وهي ثمانٍ وسبعون آيةً
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وأن يضاعف زليلُ الأشياء)، يقالُ: صَلَّ: إذا تحركَ مرةً، وصلصلَ: إذا تكررت.
عن مقارّها ومراكزها ولا تخلو "السَّاعَةِ" من أن تكون على تقدير الفاعلة لها، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي، فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله. أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)] سبأ: 33 [وهي الزلزلة المذكورة في قوله (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)] الزلزلة: 1 [واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة وعن علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها.
أمر بنى آدم بالتقوى، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن مقارِّها)، متعلقٌ بـ"زليل"، والزليلُ: مصدرٌ كالصَّرير.
قوله: (فعن الحسن: أنها تكونُ يوم القيامة)، ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقولُ الله عز وجل يوم القيامة: يا آدمُ، فيقول: لبيك وسعديك، فيُنادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذُريتك بعثاً إلى النار؟ فقال: يا رب، وما بعثُ النار؟ قال: من كل ألفٍ تسع مئة وتسعةً وتسعين، فحينئذٍ تضعُ الحاملُ حملها، ويشيبُ الوليدُ، وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد".
فإن قلت: كيف يستقيم على هذا قوله: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)؟ قلتُ، والعلمُ عند الله: لعل ذلك تمثيلٌ لبيان شدة الأمر وتفاقمه، كما قال:(وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ). نحو قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)[القلم: 42]، أو أن يكون ذلك عند النفخة الثانية، فإنهم يقومون على ما صُعقوا في النفخة الأولى لقوله تعالى:(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[الزمر: 63]، وينطبقُ على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"يشيبُ الوليدُ" مع قوله تعالى: (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً)[المزمل: 17]، أي: الوليدُ والولدانُ الذين ماتوا على هذه الحالة، وعلى هذا لا يخالف قول علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها، مخالفةً ظاهرة.
صفة، لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوّروها بعقولهم، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى، الذي لا يؤمنهم من تلك الأفزاع إلا أن يتردوا به. وروى أنّ هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بنى المصطلق، فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدرا، وكانوا من بين حزين وباك ومفكر.
(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 2].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يُبقوا على أنفسهم)، أي: يحفظونها. النهاية: يقالُ: أبقيتُ عليه إبقاءً: إذا رحمته وأشفقت عليه، والاسمُ: البُقيا.
قوله: (في غزوة بني المصطلق)، وهُم قومٌ من خُزاعة. قال الإمامُ محمد بن إسماعيل البخاري: هي غزوةُ المُريسيع. وقال ابن إسحاق: وذلك في سنةِ ستٍّ. روى البخاريُّ ومسلمٌ وأبو داود عن عبد الله بن عون: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامُهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية.
(يَوْمَ تَرَوْنَها) منصوب ب (تذهل). والضمير للزلزلة. وقرئ: "تذهل كل مرضعة"، على البناء للمفعول: و"تذهل كل مرضعة" أى: تذهلها الزلزلة. والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة.
فإن قلت: لم قيل (مُرْضِعَةٍ) دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى. والمرضع: التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل: (مرضعة)، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة.
(عَمَّا أَرْضَعَتْ) عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وعن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المرضعةُ: التي هي في حال الإرضاع)، قال الزجاج: و (مُرْضِعَةٍ) جارٍ على المفعل، أي: أرضعتْ، ويقالُ: امرأةٌ مرضعٌ، أي: ذاتُ رضاع أرضعت ولدها أو أرضعت غيره. الانتصاف: والرفقُ أن النسب لا يلاحظُ فيه حدوثُ الصفة المشتق منها، بل مقتضاها أنها موصوفٌ بها، وفي غير النسب يلاحظ حدوث الفعل، وخروج الصفة عليه.
فإذا قلت: مررتُ بامرأةٍ حاملة، يكون معناه: مررت بها في حال كونها حاملةً، وإذا قلت: حامل، بغير تاءٍ، كان معناه: مررتُ بامرأة من شأنها أن تحمل، لا يلزم أن تكون في وقت مرورك بها حاملةً.
قوله: (أو عن الذي أرضعته)، فعبر عن العقلاء بما إرادةً للوصفية، أي: عن مولودها وقُرة عينها، وفلذة كبدها، ونحوها تصويراً لشدة الأمر.
لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام.
قرئ "وَتَرَى" بالضم من أريتك قائما. أو رؤيتك قائما». و"النَّاسَ" منصوب ومرفوع، والنصب ظاهر. ومن رفع جعل "الناس" اسم "ترى"، وأنثه على تأويل الجماعة.
وقرئ: "سكرى". و"بسكرى"، وهو نظير: جوعى وعطشى، في جوعان وعطشان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لغيرِ فطام) و (لغير تمام)، يجوزُ أن يكون اللامُ للتعليل، أي: لايكونُ الذهولُ لأجلِ الفطام، والرضعُ لأجل التمام، بل لأمر غيرهما، وهو ما يلحقها من الدهشة والحيرة، وما يصيبها من تفاقم الأمر، وأن يكون للوقت، نحوُ قولك: جئتُك لثلاثٍ خلونَ من الشهر.
قوله: (قرئ: "وُترى"، بالضم، من: أُريتُك قائماً)، النهاية: رُئي: فعلُ ما لم يُسم فاعله، من "رأيتُ" بمعنى: ظننتُ. انقضى كلامُه، إن كان تُرى مِن: أريتُك قائماً، فمعناهُ: تظنُّ أنت الناس سُكارى، أقيم الضميرُ مقام الفاعل، ونصبُ (النَّاسَ) و (سُكَارَى) على أنهما مفعولان؛ لأن أُريت مُتعدٍّ إلى ثلاثةٍ، وإن كان من: رأيتُك قائماً، فالمعنى: تظنُّ الناس سُكارى، أقيم "الناسُ" مقام الفاعل، ونُصبَ (سُكَارَى) على المفعولية؛ لأن "رأيتُ" متعدٍّ إلى اثنين. وفي نُسخة البخاريين:"رُؤيتُكَ"، وهو مشكلٌ، فإنا ما وجدنا رأيتُ متعدياً إلى ثلاثة.
وقوله: (أو: رُيتُكَ قائماً) مشكلٌ، ولعل المراد من: أريتُكَ قائماً، رأيتُكَ قائماً. أو نقولُ: منصوب، ومرفوعٌ على الثاني، مع أن المرفوع الذي قررهُ في الأول أيضاً جائزٌ. وقوله:"اسمُ (تُرى) "، لعله ذكره كذلك ذهاباً إلى أن "ترى" من دواخل المبتدأ والخبر، قالُه الفاضِلُ نورُ الدين الحكيمُ.
قوله: (وقرئ: "سكْرى"، و"بسكْرَى")، وفي "التيسير": قرأ حمزةُ والكسائي: "سَكْرى"،
و (سكارى) وب"سكارى"، نحو كسالى وعجالى. وعن الأعمش:"سُكرى"، و"بسكرى"، بالضم، وهو غريب.
والمعنى: وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردّهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وقيل وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وما هم بسكرى" بغير ألفٍ فيهما على وزن فعلى، والباقون بالألف على فُعالى. قال ابنُ جني رحمه الله تعالى: وأما "سُكارى" بضم السِّين، فظاهره أن يكون اسماً مفرداً غير مُكسر، كجُمادي وسُماني وسُلامَى. ويجوزُ أن يكون مكسراً مما جاء على فُعال، كالظُّؤارِ والعُراقِ والرُّخال والثُّناءِ والتُّؤام، إلا أنه أنثَ كما أنثَ فعالٌ في نحو: حجارة وعيارة. وأما "سكْرى" كصرعى وجرحى؛ لأن السُّكْرَ علةٌ لحقت عقولهم، كما أن الصرعَ والجُرْحَ علةٌ لحقت أجسامهم. وفعلى في التكسير ما يختص به المبتلون. وقال ابن جني: روينا عن أبي زُرعة أنه قرأها بضم السين الكافُ ساكنةٌ، وهو اسمٌ مفردٌ على فُعلى، كالحُبلى والبُشرى، وبهذا أفتاني أبوعليٍّ وقد سألت عن هذا.
قوله: (وما هُم بسُكارى من الشرابِ)، بعد قوله:"وما هم بسُكارى على التحقيق"
فإن قلت: لم قيل أوّلا: "ترون"، ثم قيل:(وترى)، على الإفراد؟ قلت: لأنّ الرؤية أوّلا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [الحج: 3 - 4].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤذنٌ أن قوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) بيانٌ لإرادة معنى السُّكْرِ من قوله تعالى: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) فإنه إما أن يُراد منه التشبيهُ، كما نقولُ: وترى الناس كالسُّكارى شُبهوا بسُكارى بسبب ما غشيهم من الخوف فبقُوا مسلوبي العقول كالسَّكران، أو أن يُراد الاستعارةُ، كأنه قيل: ترى الناس خائفين، فوضع موضعه سُكارى؛ ولهذا بينه بقوله:"منَ الخَوْف"، وصرح "وما هم بسكارى من الشراب".
الانتصاف: ومن علامات المجاز: صحةُ سلبِه، كما إذا قلت للبليد: حمار! يصحُّ نفيُه، وكذا هاهُنا، نفي السُّكَر الحقيقي بقوله:(وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) مؤكداً بالباء؛ لأن هذا السُّكر أمرٌ لم يُعهد مثله؛ ولكن الاستدراك بقوله: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) تعليلٌ لإثبات السكر المجازي لما نفى عنهم السكر.
قوله: (لأن الرؤية عُلقت أولاً بالزلزلة)، تلخيص الجواب: أن المرئي على الأول: حالةُ الزلزلة، والجمعُ كلهمُ يشاهدونها. وفي الثاني: المرئي: حالةُ تحيُّرِ الناس، فكل واحدٍ لا يشاهد حالة نفسه، بل يشاهد سائر الناس دون نفسه، ولهذا أتى بلفظ السائر؛ لأنه من السؤر، وهو البقية، أو يكون عاماً قصداً إلى تفظيع حال الناس، وأن تلك بلغت من الظهور حتى يمتنع خفاؤها البتة، فلا يختصُّ برؤية راءٍ دون راءِ. قال صاحبُ "الفرائد": يمكنُ أن يكون (َتَرَى) خطاباً للنبي صلى الله عليه سلم، أو يمكنُ أن يُراد بها المخاطبُ، وإنما المرادُ من الأول التهديدُ بالوقوع، ومن الثاني التعجبُ من حالهم.
قيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان جدلا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا. وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم ولا يعضّ فيه بضرس قاطع، وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل (وَيَتَّبِعُ) في ذلك خطوات كُلَّ شَيْطانٍ عات، علم من حاله وظهر وتبين أنه من جعله وليا له لم تثمر له ولايته إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا يعضُّ فيه بضرسٍ قاطع)، النهاية: وفي الحديث: "ولا يعضُّ في العلم بضرسٍ قاطع"، أي: لم يُتقنه، ولم يُحكِم الأمورَ، وفي الحديث أيضاً:"كان ما نشاءُ من ضرسٍ قاطع"، أي: ماضٍ في الأمور نافذِ العزيمة، يقال: فلانٌ ضرسٌ من الأضراس، أي: داهيةٌ.
قوله: (يخبطُ خبط عشواءَ)، النهاية: أي: يخبطُ في الظلام، وهو الذي يمشي في الليل بلا مصباح فيتحير ويضل، وربما تردى في بئرٍ، أو سقط على سبُع، وهو كقولهم: يخبطُ في عمياء: إذا ركب أمراً لجهالةٍ.
قوله: (عُلِمَ من حالِه وظهر وتبينَ)، إلى آخرِه، تفسيرٌ لقوله:(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) فالضميرُ في (عَلَيْهِ): للشيطان، وكذا المنصوب في (تَوَلاَّهُ)، والمرفوعُ لمن، وإنما قال:"عُلمِ من حاله وظهر وتبين" لما أن قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ) وصفٌ آخر لشيطانٍ وتمثيلٌ، كأنه قيل: وجب على الشيطان ولزم عليه إضلالُ من يتولاه، ألا ترى كيف يجتهد في ذلك ويبذل وسعه فيه، ولا يترك من الحيل والنصب شيئاً إلا يفعله؟ وهذا بينٌ ظاهرٌ جليّ،
الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار. وما أرى رؤساء أهل الأهواء والبدع والحشوية المتلقبين بالإمامة في دين الله إلا داخلين تحت كل هذا دخولا أوليا، بل هم أشدّ الشياطين إضلالا وأقطعهم لطريق الحق، حيث دوّنوا الضلال تدوينا ولقنوه أشياعهم تلقينا، وكأنهم ساطوه بلحومهم ودمائهم، وإياهم عنى من قال:
يا ربّ مقفوّ الخطا بين قومه
…
طريق نجاة عندهم مستو نهج
ولو قرءوا في الّلوح ما خطّ فيه من
…
بيان اعوجاج في طريقته عجّوا
اللهم ثبتنا على المعتقد الصحيح الذي رضيته لملائكتك في سمواتك، وأنبيائك في أرضك، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. والكتبة عليه مثل، أى: كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإليه الإشارةُ بقوله: "والكتبةُ عليه مثلٌ، أي: كأنما كُتب إضلالُ من يتولاه عليه، ورُقِمَ به لظهور ذلك في حالهِ".
قوله: (ساطوُهُ بلحومهم)، الجوهري: السوطُ: خلطُ الشيء بعضه ببعض.
النهاية: ومنه حديث عليٍّ مع فاطمة رضي الله عنهما: "مَسُوطٌ لحمُها بدمي، ولحمي بدمها"، أي: ممزوجٌ مخلوط.
قوله: (ويا رُبَّ مقفوٍّ الخُطا) البيت، مقفوٌّ: من قفوتُ الرجل: إذا تبعته. النهج الطريقُ الواضح. عجوا: صاحوا، نحاهُ، بالحاءِ المهملة، عن الصغاني: أي: قصد. يقولُ. رُبَّ رجُلٍ مفيدٍ في قومه، متبوعٍ في حزبه، عندهم أنه على صراطٍ مستقيم، ولو قرؤوا ما في اللوح المحفوظ من ضلالته وغوايته ضجُّوا متضرعين إلى الله تعالى من أن يكونوا مثله.
وقرئ: (أنه، فأنه) بالفتح والكسر، فمن فتح فلأن الأول فاعل (كتب)، والثاني عطف عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((أنَّهُ
…
فأنَّهُ)، بالفتح والكسر)، بالفتح: سبعةٌ، بالكسر: شاذ.
قوله: (فمن فتح فلأن الأول فاعلُ (كُتِبَ)، والثاني: عطف عليه)، قلتُ: هذا موضعٌ صعبٌ من حيث الإعراب، وقد اختلفت آراءُ الأدباء فيه، فالواجب أن نبسُط الكلامَ فيه فضلَ بسط، قال الزجاجُ:(أنَّهُ) في موضع رفع، و (فأَنَّهُ) عطفٌ عليه وموضعُها رفعٌ أيضاً، والفاءُ: الأجودُ فيها أن تكون في معنى الجزاء، وجائزٌ كسرُ "إنّ" مع الفاء، ويكونُ جزاءً لا غيرُ. والتأويلُ: كُتِبَ عليه- أي: على الشيطان- إضلالُ متوليه وهدايته إلى عذاب السعير. وحقيقةُ "أنّ" الثانية أنها مكررةٌ على جهة التأكيد؛ لأن المعنى: كُتِبَ عليه أنهُ من تولاهُ أضلَّه.
وقال أبو عليٍّ رحمه الله تعالى في "الإغفال": إعرابُ هذه الآية مُشكل، وأنا أشرحُه وأبينُ السهو فيه: قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ)، (أنَّهُ): في موضع رفع، وهي ما توصلُ بالجمل، و (مَن) هاهُنا إما أن تكون شرطيةً أو موصولةً، فإن جعلتها شرطيةً فالفاء للجزاء، وإن جعلتها موصولةً فالفاء هي الداخلةُ في خبر المبتدأ المتضمن للشرط، فعلى التقديرين لا تكونُ عاطفةً، ثم "أنه" في قوله:(فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ليس بكلام تام؛ لأنك تقولُ: أنك منطلق، بفتح "أنّ"، فلا يكونُ ما بعده جملةً، فينبغي أن يقدر: فشأنه أنه يضله أو أمره، فثبت أن قول أبي إسحاق الزجاج رحمه الله تعالى:(فأنَّهُ) عطفٌ على (أنَّهُ) خطأٌ.
وقلتُ: والذي ذهب إليه المصنفُ رحمةُ الله تعالى عليه في العطف فنٌّ غريب؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعله معطوفاً على (أنَّهُ) مع ما في حيزها، وما يتصلُ بها على تقدير حذفِ الجزاء. المعنى: كُتِبَ على الشيطان أنهُ من تولاه يُهلكه، فإنه يُضله عن طريق الجنة وثوابها، ويهديه إلى طريق السعير وعذابها، فالفاء مثلها في قوله:(فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)[البقرة: 54] والكلامُ متضمنٌ لأمورٍ مترتبةٍ بعضها على بعض، وهذا أقضى لحق البلاغة مما ذهب إليه أبو علي، وأشرحُ.
ويدلُّ على هذا التقدير قوله في تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ)[التوبة: 63]، قال: ويجوزُ أن يكون (فَأَنَّ لَهُ) معطوفاً يهلك؟ فإن له نار جهنم، فاندفع بهذا قول صاحب "التقريب": وفي عطف (فَأَنَّهُ) على (أَنَّهُ) قبل تمام صلته، وعلى الثاني: تخللُ العطف بين أجزاء الشرطية والعطف قبل التمام. والأولى أن يُقدر بعد الفاء، وهي الجزائيةُ، مبتدأُ أو خبر، أي: فالأمرُ أنه، أو: فحقٌّ أنه، على أنه وافق المصنف في قوله:(أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ) الآية [التوبة: 63]، وقال: جواب الشرط محذوفٌ، وهو: يهلك، و (فَأَنَّ لَهُ): عطفٌ على (أنَّهُ)، أي: ألم يعلموا هذا، فهذا فلا يُلتفتُ إلى مخالفته هاهنا، وأما قوله: يلزمُ تخللُ العطف بين أجزاء الشرطية فهو واردٌ على تقدير الزجاج إذا جعل (فَأَنَّه) مكرراً، وهو أيضاً ضعيفٌ؛ لأنهم عدوا مثل ها التخللِ من المحسنات البديعية. وعن بعض الفضلاء أن الضمير في (َأَنَّهُ) للمُجادل، أي: كُتِبَ على الشيطان أن المجادل من تولاه، (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ): عطف عليه، فلا يلزم المحذوران اللذان ذكرهما صاحب "التقريب". ويدفعه إرادةُ العموم من الآية وتعسفُ هذا المعنى. ويقالُ أيضاً: دل تقديرُ المصنف رحمةُ الله تعالى عليه كأنما كُتبَ إضلالُ من يتولاهُ على أن ما بعد الفاء إما جواب الشرط، أو خبرٌ للمبتدأ المتضمن معنى الشرط، ويأباه قوله: و"الثاني عطفٌ عليه"، لكن تقدير ذلك تحريرُ المعنى وتلخيصه.
ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو، كأنما كتب عليه هذا الكلام، كما تقول: كتبت: إنّ الله هو الغنى الحميد. أو على تقدير: "قيل". أو على أن " كتب" فيه معنى القول.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[الحج: 5].
قرأ الحسن "مِنَ الْبَعْثِ" بالتحريك. ونظيره: الجلب والطرد، في الجلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو على تقدير "قيلَ")، عطفٌ على قوله:"فعلى حكاية المكتوب"، أي: ومن كر فعلى تقدير: وكُتب عليه قيل: إنه من تولاه، أي: كُتِبَ عليه هذا القولُ، و"قيل" هاهنا كما في قوله:(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ) على تقدير: وأُقسمُ بـ (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)[الزخرف: 88]، والضميرُ في "قيله" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقسامُ الله تعالى بـ (وَقِيلِهِ) رفعٌ منه، وتعظيمٌ لدعائه.
النهاية: وفي الحديث: " نهي عن قيل وقال"، وهو في حكاية أقوال الناس. قال القاضي رحمه الله تعالى: وقُرئ: "إنَّهُ" بالكسر في الموضعين على حكاية المكتوب، أو إضمار القول، أو تضمين الكتب معناه.
قوله: ("من البعث" بالتحريك)، في "المطلع": وهو قياسٌ عند الكوفيين فيما جاء من هذا المثال، وعينُه من حروف الحَلْق، كالشعر والنهر، وعند البصريين ليس بقياس، بل هما لُغتان كالحلبِ والحَلَب، والطردِ والطرَد، فيتوقفُ على السماع.
والطرد، كأنه قيل: إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم. و"العلقة": قطعة الدم الجامدة. و"المضغة": اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. و"المخلقة": المسواة الملساء من النقصان والعيب. يقال: خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم:"صخرة خلقاء"، وإذا كانت ملساء، كأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا ولا تناسب بين الماء والتراب وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاما: قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا أدخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فمُزيلُ ريبكم، أن تنظروا في بدء خلقكم)، يريدُ أن قوله:(فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) جزاءٌ لقوله: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ)، وشرط الجزاء أن يكون مسبباً عن الشرط، فلابد هاهنا من التأويل، فيقالُ: كونُكم في ريبٍ من البعث سببٌ حاملٌ للتنيه على النظر المؤدي إلى مزيل الريب، والإشارة إلى طريق الحق والصواب، وهو:(إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) الآية، ولأن الكلام مع المرتابين؛ لأن التعريف في الناس للعهد، والمعهودُ:(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وكان من حق الظاهر: إذا كنتم في ريب، ففُرضَ ريبُهم فيه كما تُفرضُ المحالاتُ بعثاً لهم على النظر، وإرشاداً إلى أن المقام ليس موقعاً للريب ومنة له لوضوح دلائله، وسُطوع براهينه، فهو كقوله تعالى:(وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)[البقرة: 23].
قوله: (وأهونُ في القياس)، أي: عند الناس وتقديرهم، وإلا فإن إرادة الله إذا تعلقت بشيء كان كما قال:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]. فالإبداء والإعادةُ سواءٌ.
وورود الفعل غير معدى إلى المبين: إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ولا يحيط به الوصف وقرأ ابن أبى عبلة: "ليبين لكم. ويقرّ"، بالياء. وقرئ: و"نقرّ". و"نخرجكم"، بالنون والنصب. و"يقرّ"، و"يخرجكم"، و"يقرّ"، و"يخرجكم": بالنصب والرفع. وعن يعقوب: "نقرّ"، بالنون وضم القاف، من قرّ الماء إذا صبه، فالقراءة بالرفع إخبار بأنه يقرّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن يقرّه من ذلك إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الوضع آخر ستة أشهر، أو تسعة، أو سنتين، أو أربع، أو كما شاء وقدّر.
وما لم يشأ إقراره محته الأرحام أو أسقطته. والقراءة بالنصب: تعليل معطوف على تعليل. ومعناه: خلقناكم مدرجين هذا التدريج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وورودُ الفعل غير مُعدى إلى المُبيَّن)، يعني قوله:(لِنُبَيِّنَ) لم يُذكر له مفعولٌ ليعم التقدير، أو أنه يجري مجرى اللازم.
قوله: ("ونُفِرَّ"، و"نُخرجكم"، بالنون والنصب)، وهي شاذةٌ. وقرأ الجماعةُ:"نُقِرُّ" و (نُخْرِجُكُمْ)، بالنون والرفع.
قوله: (مَجَّتْه الأرحامُ)، أي: إذا كان نُطفةً، (أو أسقطته)، أي: إذا كان مُضغةً أو علقة أو غيرهما.
قوله: (تعليلٌ معطوفٌ على تعليل)، أي: لنبين ولنُقرَّ. قال الزجاجُ: (وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ) لا يجوز فيها إلا الرفع، ولايجوز أن يكون معناه: فعلنا لك لنقر في الأرحام؛ لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقر في الأرحام، وإنما ليدلهم على رشدهم وصلاحهم. والمصنفُ فراراً من هذا السؤال قال:"حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكاليف فأكلفهم"، فعلى هذا (لِتَبْلُغُوا) عطفٌ على (نُخْرِجُكُمْ)، وإنما أتى باللام ليؤذن بأن البلوغ هو المقصود الأولى؛ لأنه أوانُ التكليف. وعلى قراءة الرفع:(لِتَبْلُغُوا): عطفٌ على (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).
لغرضين، أحدهما: أن نبين قدرتنا. والثاني: أن نقر في الأرحام من نقرّ، حتى يولدوا وينشؤا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم. ويعضد هذه القراءة قوله (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنفُ: "فإن قلتَ: كيف صح عطفُ (لِتَبْلُغُوا) على (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ولا طباق؟ قلتُ: بل الطباقُ حاصلٌ؛ لأن قوله: (وَنُقِرُّ) قرينٌ للتعليل، ومقارنته له والتباسهُ به ينزلانه منزلةَ نفسه، فهو راجعٌ من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب.
هذا السؤال والجواب في بعض النسخ مثبت في المتن.
قوله: (ويعضد هذه القراءة قوله: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ))، أي: قراءة النصب، وذلك أن قوله:(لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) يدل على التدرج والبلوغ إلى الغاية، فجيء من قوله:(وَنُقِرُّ)، (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ)، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) منسوقاً على نسق التدرج، بخلاف القراءة بالرفع، وقلتُ: القراءةُ بالرفع، وهي التي اجتمع عليها الأئمة، أمتن معنى، وأمكن ترصيفاً؛ لأن قوله:(وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ) إلى آخره عطفٌ على (خَلَقْنَاكُمْ)، فاجتمع مع ذكر تلك الأطوار ذكرُ الزمانين: زمان لُبثِ الجنين في رحم الأم! ِ، وزمان المُكثِ في الدنيا من ابتداء الطفولة إلى البلوغ وإلى انتهاء الشيخوخة والرد إلى أرذل العمر، فلا يكون (لِتَبْلُغُوا) عطفاً على (لِنُبَيِّنَ) كما ذكرَ، بل على (نُخْرِجُكُمْ) كما عليه القراءةُ بالنصب، ويكون قوله:(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) واقعاً في البين اعتراضاً؛ لأن الكلام إلى آخر الآية سيق في الرد على مُنكري البعثِ والاحتجاج عليهم، ولبيان إثبات قُدرته الكاملة، وعلمه الشامل، فلا يختص البيانُ ببعضه دون بعض، لكن لما اشتمل تلك الأطوار السابقة على احتقار المنكر من كونه نطفةً وعلقةً ومُضغةً، أبرز (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) تنبيهاً على اختصامه مع احتقاره، كما قال:(أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)[يس: 77]، وقال: (إِنَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) [المعارج: 39] أي: من نُطفةِ مهين، ويعضده ما روى الواحديُّ عن صاحب النظم رحمة الله تعالى عليهما:(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أن البعث حق؛ لأن الآية نزلت دلالةً على البعث.
وقال الإمامُ: لنُبين لكم أن تغيير النطفة إلى العلقة، ثم إلى المُضغة المخلقة غير المخلقة، إنما هو من الفاعل المختار، أو المعنى: إن كنتم في ريب من البعث فإنا نُخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبين لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزاً عن الإعادة؟ وقال أيضاً: ثم نخرجكم ثم نسهل في تربيتكم وأغذيتكم أموراً لتبلغوا أشدكم، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه، وبين بلوغ الأشُد، ويكون بين الحالتين وسائط. أراد أن معلل (لِتَبْلُغُوا) محذوف، وهو عطفٌ على (نُخْرِجُكُمْ).
وقلتُ: ويمكنُ أن يُقال: إن التقدير: ثم لتبلغوا أشدكم، فعل ما فعل إرادةً للتخصيص، إيذاناً بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال، والإخراج أبدعُها، والرد إلى أرذل العمر أسوأها، فتغيير العبارة لذلك، ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته الأقدس، وحذف المعلل في الثاني، ولم ينسب الثالث إلى ذاته عز وجل، وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة المومى إليه بالأشد، كأنه قيل: ثم نخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلاً، أي: إنشاءً بديعاً غريباً، ما قال:(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[المؤمنون: 14]، ثُم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب، والإنشاء الغريب؛ لأنه أوانُ رسوخ العلم والمعرفة، والتمكن من العمل والطاعة، هو المقصود من الإنشاء بقوله:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، ثم يميتكم، أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلبُ به العلم والقدرة على العمل.
وحده لأن الغرض الدلالة على الجنس. ويحتمل: نخرج كل واحد منكم طفلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونظيرُ هذا تقديراً ومعنى: ما في سورة يوسف، أما تقديراً فقوله تعالى:(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ)[يوسف: 21]، أي: ولنُعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإيحاء والتمكين. وأما معنى فقوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)[يوسف: 22]، فعلى هذا لا يردُ السؤال: كيف صح عطفُ (لِتَبْلُغُوا) على نبين لكم ولا طباق؟ ولم يحتج إلى ذلك الجواب الواهي، على أن عطف (وَنُقِرُّ) بالنصب على (لِنُبَيِّنَ) غيرُ ظاهرٍ كما قال الزجاج.
وقال أبو البقاء: (وَنُقِرُّ) الجمهور: على الضم على الاستئناف؛ إذ ليس المعنى: خلقناكم لنُقر، وقرئ بالنصب على أن يكون معطوفاً في اللفظ، والمعنى مختلفٌ؛ لأن اللام في (لِنُبَيِّنَ) للتعليل، واللامُ المقدرة مع "نُقرّ" للصيرورة.
وقلتُ: ودل العطف بـ"ثُمَّ" على التراخي بحسب الأزمنة، وبحسب المرتبة كنايةٌ. ولما كانت الدلائل الآفاقية مرتبطة بالأنفسية كما قال تعالى:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)[فصلت: 53] ومشتبكة بعضها مع بعض، خصوصاً دلالة إحياء الأرض بعد موتها، وكانت أنموذجاً للبعث والنشر، عطف (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً) على قوله:(فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) وإليه أشار بقوله: "هذه دلالة ثانية على البعث". وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) كالفذلكة للدليلين، وهو بمنزلة قوله:(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) في تلك الآية، وإليه أشار بقوله:"ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم، وإحياء الأرض حاصلٌ بهذا"، والله يقولُ الحقَّ وهو يهدي السبيل، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قوله: (وحده)، أي (طِفْلاً)، قال القاضي:(طِفْلاً): حالٌ أجريت على تأويل: كل واحد، أو للدلالة على الجنس، أو لأنه في الأصل مصدرٌ.
"الأشد": كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسدّة والقتود والأباطيل وغير ذلك، وكأنها شدّة في غير شيء واحد، فبنيت لذلك على لفظ الجمع. وقرئ:"ومنكم من يتوفى"، أى يتوفاه الله (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الهرم والخرف، حتى يعود كهيئته الأولى في أوان طفولته: ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. بين أنه كما قدر على أن يرقيه في درجات الزيادة حتى يبلغه حد التمام، فهو قادر على أن يحطه حتى ينتهى به إلى الحالة السفلى (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أى: ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. وقرأ أبو عمرو:"العمر"، بسكون الميم. "الهامدة": الميتة اليابسة. وهذه دلالة ثانية على البعث، ولظهورها وكونها مشاهدة معاينة، كررها الله في كتابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كالأسدة)، وهو جمعُ "سَدّ" بمعنى العيب كالحاجز. الجوهري: والسد بالفتح: واحدُ الأسدة، هي العيوبُ، مثل العمى والصمم والبكم، جُمع على غير قياس، وكان قياسه: سُدوداً. ومنه قولهم: لا تجعلن بجنبك الأسدةَ: أي: لا تُضيقنَّ صدرك، فتسكُتَ عن الجواب كمن به صممٌ وبكمٌ.
قوله: (والقتودُ) جمع قَتَدٍ، وهي على غير قياس، وجمعه لقياسي في القلة: أقتادٌ، ونظيره في الشذوذ: أسودٌ، جمع أسدٍ في الكثرة، وقال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأنه جمعٌ على غير قياس. قال الجوهري القتدُ: خشبُ الرحل، وجمعه، أقتادٌ وقتود.
قوله: (لم ينشب)، ويروى: لم يلبث، وهو مثل قولهم: ما لبث أن فعل كذا لقوله تعالى: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) بهود: 69].
قوله: (وقرأ أبو عمرو: "العُمْرُ"، بسكون الميم)، أي: في الشاذة.
(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) تحرّكت بالنبات وانتفخت، وقرئ:"ربأت"، أى ارتفعت. و"البهيج": الحسن السارّ للناظر إليه.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) 6 - 7 [
أى: ذلك الذي ذكرنا من خلق بنى آدم وإحياء الأرض، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم واللطائف، حاصل بهذا وهو السبب في حصوله، ولولاه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "ربأت")، قال ابن جني: و"ربأت" بالهمز رُويت عن أبي عمرو بن العلاء، والمشهور: ربت، من: ربا يربو: إذا ذهب في جهاته زائدة، وأما الهمز فمن: ربأتُ القوم: إذا أشرفتَ مكاناً علياً لتحفظهم. وهذا النماء فيه الشخوص والانتصاب لكن إذا وُصف عُلوها دل على أن الزيادة قد شاعت في جميع جهاتها، وهذا مما يُذكر أحدُ أوصاف الشيء فيدل على بقيته.
قوله: (أي: ذلك) إلى قوله: (حاصلٌ بهذا)، "هذا" إشارةٌ إلى قوله تعالى:(بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) الآية، والضميرُ في "وهو أن الله" راجعٌ إلى لفظ "هذا" باعتبار معناه المشار إليه.
قال أبو علي: موضع (ذَلِكَ) رفعٌ على الابتداء، والجارُّ مع المجرور في موضع خبره، ولايجوز غيره. وقلتُ: فيه تلويحٌ من حكاية قوله تعالى: "كنتُ كنزاً مخفياً فخلقتُ الخلقَ لأُعرفَ"، يعني: خلقُ الإنسان من التراب، وتقلبه في الأطوار المختلفة الحالات المتنافية، وإنشاء النبات من الأرض الهامدة، وتصييره كل صنف بهيج رائقٍ مختلفاً ألوانُه،
لم يتصور كونه، وهو بِأَنَّ (اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أى الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بدّ أن يفي بما وعد.
[(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)].
عن ابن عباس أنه أبو جهل بن هشام. وقيل: كرر كما كررت سائر الأقاصيص. وقيل: الأوّل في المقلدين، وهذا في المقلدين. والمراد ب"العلم": العلم الضروري. وب"الهدى": الاستدلال والنظر، لأنه يهدى إلى المعرفة. وبـ"الكتاب المنير":
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما كان ليُظهر أن الله هو الموجود الحي الأزليُّ الدائم، والحكيم العالم بدقائق الأشياء وعظائمها، وأنه القادرُ على ما يرتابون فيه من البعث، على كل ما يدخل تحت القدرة من الممكنات، وإنما كان ذلك لئلا يُخلف وعده من جزاء المحسن والمسيء لإتيان الساعة، وبعث من في القبور، فسبيل (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) من قوله:(وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) سبيلُ قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من قوله تعالى: (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى)، لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل.
قوله: (وقيل: كُرر كما كررت سائر الأقاصيص) عطفٌ على قوله: "عن ابن عباس: أنه أبو جهل"، يعني: أن قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) إما نازلٌ في أبي جهل كما قال ابن عباس، أو نازلٌ في النضر بن الحارث كما ذكر أن قوله:(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) نازلٌ فيه فكُررت قصته كما كررت أقاصيص سائر المعاندين، أو كرر ليناط به ما لم ينط به أولاً، (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) نازلٌ فيه ليكون ذماً للمقلدين، وثانياً قوله:(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ليكون ذماً للمقلدين بفتح اللام.
قوله: (والمرادُ بالعلم العلمُ الضروريُّ)، قال الإمام: المعنى أنه يجادل من غير معرفة
الوحي، أي يجادل بظن وتخمين، لا بأحد هذه الثلاثة. و"ثنى العطف": عبارة عن الكبر والخيلاء، كتصعير الخدّ ولىّ الجيد. وقيل: عن الإعراض عن الذكر. وعن الحسن: "ثانى عطفه"، بفتح العين، أى: مانع تعطفه (لِيُضِلَّ) تعليل للمجادلة. قرئ بضم الياء وفتحها.
فإن قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضروريةٍ ولا نظريةٍ ولا سمعية، والآية دالة على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب المنير حق حسن.
قوله: (وثنى العطف عبارة عن الكبر)، قال صاحب "المطلع": الثني: الليُّ، والعطفُ: الجانب، وهو ما يعطفه الإنسان ويلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء، وهو عبارةُ عن الكبر والخيلاء. قال ابن عباس: متكبراً في نفسه. وقال ابن زيد: معرضاً عما يُدعى إليه كبراً. وهو حالٌ من فاعل يُجادلُ.
قوله: (كتصعير الخد)، الجوهري: الصعرُ: الميلُ في الخدَّ خاصة، وقد صعر خده وصاعر، إذا أماله من الكبر.
الراغب: الصعرُ: ميلٌ في العنق، والتصعير: إمالته عن النظر كبراً، قال تعالى:(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)[لقمان: 18]، وكل صعبٍ يقالُ له: مصعرٌ، الظليمُ أصعر خلقة.
قوله: (ثاني عطفه، بفتح العين)، أي: مانع تعطفه، فهو أيضاً كنايةُ عن الكبرياء والجبروت؛ لأن ذا الجبروت لا تعطف له ولا رحمة، كأنه قيل: من الناس من يجادل في الله متجبراً في نفسه، ولا يعطفُ على أحد.
قوله: (قرئ بضم الياء فتحها)، "ليضل" بالفتح: ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو، والباقون: بالضم.
ما كان غرضه من جداله الضلال عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فكيف علل به؟ وما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلت: لما أدّى جداله إلى الضلال، جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. و"خزيه": ما أصابه يوم بدر من الصغار والقتل، والسبب فيما منى به من خزى الدنيا وعذاب الآخرة: هو ما قدمت يداه، وعدل الله في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين.
[(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ* يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ* يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما كان غرضه في جداله الضلال)، تلخيص السؤال أن قوله:(لِيُضِلَّ) إما أن يتعلق به (يُجَادِلُ) تعليلاً أو (ثَانِيَ عِطْفِهِ)؛ وعلى الأول كيف يستقيم؛ لأن أحداً لا يجادل ليضل؟ وعلى الثاني أنَّى يتسنى؛ لأن الثني للضلال مسبوقُ بوجود الاهتداء؟ وأجاب عن الأول أن اللام مثلها في قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ)[القصص: 8]، وعن الثاني أنه من قبيل (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16] في جعلِ التمكن على الهدى كالحصول عليه.
قوله: (معرضاً له)، من "أعرضً" بمعنى: مكن، أي: ممكناً، من العُرض وهو الجانب. والعرضة: المتعرض للأمر، قال:
فلا تجعلوني عرضة للوائم
قوله: (فيما مُني به)، الأساس: مُني بكذا: بُلي به، وهو ممنوٌّ به.
(عَلى حَرْفٍ) على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر وغنيمه قرّ واطمأن، وإلا فرّ وطار على وجهه.
قالوا: نزلت في أعاريب قدموا المدينة، وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا، وولدت امرأته غلاما سويا، وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في دينى هذا إلا خيرا، واطمأن. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا، وانقلب.
وعن أبى سعيد الخدري أن رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلنى، فقال «إنّ الإسلام لا يقال» فنزلت.
المصاب بالمحنة بترك التسليم لقضاء الله والخروج إلى ما يسخط الله: جامع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وطار على وجهه)، أي: أسرع مستعلياً على وجهه هائماً لا يدري أين يتوجه، وهو كنايةٌ عن الهزيمة، فإن المنهزم مولي ظهره العدو، ويُقبلُ بوجهه الجهة التي يقصدها، لكن هاهنا عبارةٌ عن القلق والاضطراب لوقوعه مقابلاً لقوله:(اطْمَانَ) فعُدل للمبالغة.
قوله: (قالوا: نزلت في أعاريب)، روى البخاري عن ابن عباس، قال:" (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) كان الرجل يقدم على المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته، ولم تنتج خيله، قال: هذا دينٌ سوء".
قوله: (ونتجت فرسه)، الجوهري: نُتجت الناقة- على ما لم يسم فاعله- تنتج نتاجاً، وقد نتجها أهلها نتجاً، وأنتجت الفرسُ: إذا حان نتاجها. الأساس: نُتجت الناقة، وهي منتوجةٌ وأنتجت فهي منتجة: إذا وضعت، وقد نتجت: إذا حملت.
قوله: (مهراً سرياً)، أي: خطيراً كريماً.
على نفسه محنتين، إحداهما: ذهاب ما أصيب به. والثانية: ذهاب ثواب الصابرين، فهو خسران الدارين.
وقرئ: "خاسر الدنيا والآخرة" بالنصب والرفع، فالنصب على الحال، والرفع على الفاعلية. ووضع الظاهر موضع الضمير، وهو وجه حسن. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف.
استعير (الضَّلالُ الْبَعِيدُ) من ضلال من أبعد في التيه ضالا، فطالت وبعدت مسافة ضلالته.
فإن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض. قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعاً، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "خاسر الدنيا والآخرة")، قال ابن جني: هي قراءة مجاهد وحُميد بن قيس، على معنى: انقلب على وجهه خاسراً؛ لأنه على تقديرالانفصال. وقراءة الجماعة: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ)، الجملة بدل من قوله:(انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)، فكأنه قال: إن أصابته فتنةٌ خسر الدنيا والآخرة.
قوله: (ووضع الظاهر موضع الضمير)، لأن في (انقَلَبُ) الضمير المرفوع الراجع إلى "الناس"، فإذا جُعِلَ "خاسر الدنيا" فاعلاً له، وانقلب المستتر بارزاً ظاهراً، فقد آذن بأن من يعبد الله على حرف هو الخاسر الدامر، ففيه تعليلٌ، وإليه الإشارة بقوله:"وهو وجهٌ حسن"، وعلى المشهورة:(خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ)، كالتوضيح والبيان للجملة السابقة وتكرير معنى الخسران والتصوير؛ لأن فائدة البدل التفسيرُ والتوكيد، وعلى أن يكون "خاسرُ": خبر مبتدأ محذوف، تكونُ الجملة واردةً على الذم والشتم، وعلى الال تكون مؤكدة، نحو قوله تعالى:(ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)[التوبة: 25].
به حين يستشفع به، ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يوم القيامة يقولهذا الكافر بدعاءٍ وصُراخ)، يوم القيامة: ظرفٌ ليقول، لا لقال، يريد أن يدعو الثاني بمعنى يقول، وأنشد الزجاج لعنترة قوله:
يدعون عنتر والرماح كأنها
…
أشطان بئرٍ في لبان الأدهم
أي: يقولون: يا عنترةُ، والشطن: الحبل، والأدهم: فرسه. فقوله تعالى: (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفٌ مرفوعٌ بالابتداء، وخبره:(لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)، والهاء في (ضَرُّهُ) و (نَفْعِهِ): ضمير الصنم، والجملة مقول (يَدْعُوا)؛ لأنه بمعنى القول. والمعنى: يقول الكافر في القيامة حين لا يرى للشفاعة أثراً للصنم الذي حاله هذا: لبئس الناصر والشفيع هو، ولبئس المعاشر والمخالط. قال السجاوندي: اللام في (لَمَن) للابتداء، و (وَلَبِئْسَ): خبره، واللام فيه: جوابُ قسم محذوف.
وقال أبو البقاء: (يَدْعُوا) بمعنى: يقول، و (مَن): مبتدأ، و (ضَرُّهُ): مبتدأ، و (َأَقْرَبَ): خبره، والجملة صلة (مَن)، وخبرُ (مَن) محذوف تقديره: إلهٌ أو إلهي، وموضعُ الجملة نصبٌ بالقول. و (وَلَبِئْسَ): مستأنفة؛ لأنه لا يصح دخوله في الحكاية؛ لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم: لبس المولى.
وقال صاحب "الكشاف": قال البصريون: الوجه في الآية أن يكون في (يَدْعُوا): ضميرٌ عائدٌ إلى ذلك، أي: ذلك هو الضلالُ البعيدُ يدعوه، والجملةُ في موضع النصب على الحال، أي: ذلك هو الضلالُ البعيدُ مدعواًّ.
أو كرّر يدعو، كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى. وفي حرف عبد الله: "من ضره"، بغير لام. "المولى": الناصر. و"العشير": الصاحب، كقوله (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف: 38].
[(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ* مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) 14 - 15]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو كرر يدعو)، قال أبو البقاء:(يَدْعُوا) إذا قُدر مكرراً لا يكون له معمول، لا لفظاً ولاتقديراً.
وقلتُ: فعلى هذا (يَدْعُوا) في الموضعين بمعنى: يعبُد، ولهذا قدر في الجملة الثانية معنى العبودية. وقال:"لمن ضرُّه بكونه معبوداً"، فالجملة الاثنية استئنافٌ على بيان الموجب، فنه تعالى لما قبح فعلهم وشنعَ عليهم عبادتهم لما لا ينفع ولا يضر، اتجه لسائل: لماذا هي النقيصة لهم في معبودهم؟ فقيل: (لَمَنْ ضَرُّهُ) إلى آخره. المعنى: من ضره أقربُ من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير، فكيف بما كله ضر ولايوجد فيه نفعٌ البتة.
قوله: (وفي حرف عبد الله: "من ضره" بغير لام)، وهي مؤذنةٌ بأن اللام في (لمَن): زائدةٌ. قال ابن الحاجب: قيل: إن اللام في (لَمَنْ ضَرُّهُ) زائدةٌ، و"من ضرُّه" في موضع نصب مفعول (يَدْعُوا). وليس بشيء؛ لأن اللام المفتوحة لا تُزاد بين الفعل ومفعوله.
وقال الفراءُ: إن اللام مقدمةٌ عن موضعها، والتقدير: يدعو من لضره أقربُ من نفعه. وليس بجيدٍ أيضاً؛ لأن لام الابتداء لا تتقدمُ عن موضعها، وأيضاً ما في صلة الذي لا يتقدمُ عليها.
هذا كلام قد دخله اختصار. والمعنى. إن الله ناصر رسوله في الدنيا والاخرة، فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه، ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصوّر في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذا كلامٌ قد دخله اختصارٌ)، يعني: قوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يستدعي كلاماً يذكرُ فيه أن الله تعالى ينصر رسوله في الدنيا والآخرة. ومنكراً ينكره؛ لأن الضمير في (يَنصُرَهُ) يطلب مرجوعاً إليه، و (لَنْ يَنصُرَهُ) يوجب كلاماً أنكر فيه ما يصلح أن يكون هذا رده، كما سبق أنك تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، وإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً.
وأما بيانُ النظم فإنهُ تعالى لما قسم المعاندين والمخالفين إلى المجادلين ومن لا يثبت على الإسلام، وبالغ في هدم قواعدهم وأساس دينهم، وبين أنهم خسروا الدنيا والآخرة، وأن معبوديهم غير قادرين على دفع خسرانهم ذلك، بل يتضررون بسبب عبادتهم ويعبدون من ضره أقرب من نفعه، ومن يقالُ في حقه: لبئس المولى والعشير، عقبه بذكر أضدادهم ومن أعمالهم علىخلاف أعمالهم، من مولاهم وناصرهم يقالُ في حقه: نعم المولى ونعم النصير، حيث يُدخلهم- لأعمالهم الصالحة- جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وينصرهم في الدنيا والآخرة، وأبرز ذلك إبرازاً يزيدُ في حرة أضدادهم، فإن الإحسان إلى الأضداد مما يزيدُ في غم الضد، وداخلٌ في جملة التنكيل بهم.
قوله: (ويغيظه أنه يظفرُ بمطلوبه)، والضميرُ في "أنه" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى:"أنه لا يظفر بمطلوبه"، فالضمير حينئذٍ للحاسد.
قوله: (الذي يغيظه)، يريد أن "ما" في (مَا يَغِيظُ): موصولةٌ، وجعلها الزجاج مصدرية، أي: هل يُذهبن كيده غيظه، أي على سبيل الاستهزاء. أي: سمى خنق نفسه
وسمي الاختناق قطعا لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. ومنه قيل للبهر: القطع «1» . وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره. أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كيداً تهكماً به؛ لأن وبال الكيد راجعٌ إليهم.
قوله: (وسُمي الاختناقُ قطعاً)، يعني: كنى عن الاختناق بالقطع، فإنه لازمه، تقول العرب: قُطع فلانٌ: إذا اختنق.
قوله: (قيل للبهر: القطع)، البهرُ بالضم: العلةُ التي تمنعُ التنفس.
قوله: (وسُمي فعلُه كيداً)، وهو قوله تعالى:(فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ) الآية.
قوله: (لأنه وضعه موضع الكيد)؛ لأن المراد بالمد والقطع: الكيدُ، فكأنه قيل: من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى لا ينصر رسوله في الدنيا والآخرة فليستقص وُسعه في إزالة ما يغيظه، وهو الكيد نفسه ادعاء، فوضع موضع (فَلْيَمْدُدْ) إلى آخره. وعن بعضهم: لم يقدر على غيره، أي: المناسبة بين ما فعل وبين الكيد هي أن الكائد كيده منتهى فعله وقدرته، كما أن هنا كذلك.
قوله: (أو على سبيل الاستهزاء) أي: سمى خنق نفسه كيداً؛ تهكماً به؛ لأن وبال الكيد راجعٌ إليه. قوله: (والمرادُ: ليس في يده إلا ما ليس بمذهبٍ لما يغيظ)، يعني: حاصلُ الوجهين
وقيل: فليمدد بحبل إلى السماء المظلة. وليصعد عليه فليقطع الوحى أو ينزل عليه. وقيل: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يثبت أمره. فنزلت.
وقد فسر النصر: بالرزق، وقيل: معناه أن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعودُ إلى هذا المعنى، وهو من أسلوب قوله تعالى:(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى)[الدخان: 56]، أي: لوقدروا على كيدٍ لكان هذا الفعلُ، وهذا ليس بكيدٍ، فلا يكون كيدٌ قطُّ.
قوله: (وقيل: فليمدد بحبل إلى السماء)، عطفٌ على قوله:"حتى مد حبلاً إلى سماء بيته فاختنق"، فعلى هذا الكلامُ فيه استعارةٌ تمثيلية، والأمرُ للتعجيز، وعلى الأول: كنايةٌ عن شدة الغيظ، والأمر للإهانة. قال محيي السنة: ليس هذا الأمر على سبيل الحتم؛ لأنهُ لا يمكنه القطعُ النظرُ بعد الاختناق والموت، وهو مثل قولك للحاسد: إن لم ترض هذا فاختنق ومُت غيظاً.
قوله: (كان قومٌ من المسلمين)، والمعنى: من استبطأ نص رالله، وطلب الموعود عاجلاً، فليهلك نفسه بالخنق أو خرورٍ من السماء، فإن لذلك وقتاً لا يجوز إيقاعه إلا فيه.
قوله: (وقد فُسرَ النصرُ بالرزق)، فعلى هذا الكلام تام، فلم يدخله الاختصار، وكذا على الوجه الأخير، والضمير في (يَنْصُرُهُ) لكل أحد، وهو راجعٌ إلى "مَنْ"؛ ولهذا قال:"لا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظن أن الله غير رازقه فليبلغ غاية الجزع".
روى محيي السنة عن مجاهد: النصرُ: الرزق. وقال أبو عبيدة: تقول العربُ: أرضٌ منصورةٌ، أي: ممطورةٌ، وحينئذٍ تكونُ الآية متصلةً بقوله: " (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
ولا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظنّ أن الله غير رازقه وليس به صبر واستسلام، فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يردّه مرزوقا.
[(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)].
أي: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ)(وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي) به الذين يعلم أنهم يؤمنون. أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، أنزله كذلك مبينا.
[(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)].
الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا، فلا يجازيهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حَرْفٍ) فإنها نازلةٌ في أعاريب، وكان أحدهم إذا صح بدنه، ونُتجت فرسه مهراً"، إلى آخره ويكون قوله:(يَدْعُوا) إلى آخر الآيات معترضةً مؤكدةً لمعنى تجهيلهم، وأن الله هوالقابض الباسط وهو الضار النافع وحده.
قوله: (ومثلُ ذلك الإنزال)، يعني: مثل ما تقدم من آيات القرآن المشتملة على البيان التام، أنزلنا القرآن كله، يعني: كل آيات القرآن مبنيات، وقوله:(وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي) تعليلٌ لكون القرآن بياناً، ومعلله محذوفٌ يدل عليه المذكور، والجملة من التعليل والمعلل معطوفةٌ على ما قبلها علىطريقة: أعجبني زيدٌ وكرمُه. ونظيره قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)[الأنعام: 55]. وأما بيانُ النظم فنه تعالى لما ذكر المجادلين من المخالفين، وأراد أن يعم المخالفين كلهم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
…
) الآية، أوقع هذه الآية كالتخلص من وصفهم إلى وصفهم.
قوله: (يحتملُ الفصل بينهم في الأحوال والأماكن)، هذا إعمالٌ للفظ الواحد في معنيين متوافقين إعمال القدر المشترك.
جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن. جعل الصابئون مع النصارى لأنهم نوع منهم. وقيل (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضى بينهم، أى بين المؤمنين والكافرين. وأدخلت (إِنَّ) على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التوكيد.
ونحوه قول جرير:
إنّ الخليفة إنّ الله سربله
…
سربال ملك به ترجى الخواتيم
[(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)].
سميت مطاوعتها له فيما يحدث فيها من أفعاله ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلف في باب الطاعة والانقياد، وهو السجود الذي كل خضوع دونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأُدخلت (إنَّ) على كل واحد من جُزأي الجملة)، قال الزجاج: خبرُ "إنّ" الأولى في الآية جملة الكلام مع "إنّ" الثانية. وقد زعم قومٌ أن قولك: "إن زيداً إنه قائمٌ" رديءٌ، وأن هذه الآية إنما صلُحت في "الذي"، ولا فرق بين "الذي" غيره في باب "إنّ"، إن قلت: إن زيداً إنه قائمٌ، كان جيداً، ومثله قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله
…
سربال مُلكٍ به تُزجى الخواتيم
وليس بين البصريين خلافٌ في أن "إن" تدخلُ على كل ابتداء وخبر، تقول: إن زيداً هو قائمٌ، وإن زيداً أنه قام.
الإزجاء: السوق، والمراد بالخواتيم: المُلك.
قوله: (تشبيهاً لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلفِ في باب الطاعة)، هذا بيانٌ لتمهيد
فإن قلت: فما تصنع بقوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) وبما فيه من الاعتراضين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستعارة؛ لأنها نوعٌ من المجاز الذي العلاقة فيه التشبيه، يعني: استعار السجود المتعارف وهو وضعُ الجبهة على الأرض خُضعاناً للباري لمطاوعة الأشياء له فيما يحدث فيها من أفعاله لعلاقة الحصول على وفق إرادته، وجريان مشيئةٍ من غير امتناع منها، كقوله تعالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]، كل نوع من أنواعه المختلفة، سواءٌ كانت حقيقةً أم مجازاً مُراداً منهذا العام دفعةً واحدة.
قوله: (فإن قلت: فما تصنعُ بقوله: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)؟ )، يعني: هذا يرد تأويلك السجود من وجهين:
أحدهما: أن هذا المعنى شامل للجماد والحيوان والمطيع والعاصي، فأي فائدة في ذكر (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)؟
وثانيهما: أن إسناد السجود إلى المذكورات يوجبُ أن شيئاً منها لا يخرجُ عن هذا الحكم، ومفهوم قوله تعالى:(وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ) يخرجُ البعض نمه فيلزمُ التناقض.
وأما جوابه: "لا أنظم "كثيراً" من المفردات"، يعني: لا أجعلُ العطف من باب عطفِ المفرد على المفرد، بل أجعله منباب عطف الجملة، وأضمرُ عاملاً آخر، وأفسرُ السجود الأول بالمطاوعة والانقياد، والثاني بالمتعارف، هو الطاعة والعبادةن ليكون من باب عطف الخاص على العام من حيث الفعل والفاعل تشريفاً لعباده الصالحين فليدفع هذا السؤال، لا ان عموم المجاز يقتضي ذلك. فلا يردُ أيضاً ما أوردهُ صاحب "الفرائد"، وقال: إن اللفظ الواحد لا يصلح استعماله على معنيين مختلفين منظورٌ فيه، ولا شك أن قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)[الأحزاب: 56] أن الصلاة مستعملةٌ على معنيين مختلفين في حالة واحدة لما قررنا أن المانع عطفُ (وَكَثِيرٌ) على (مِنَ)، فيجوز أن تُحمل الصلاةُ عليه - صلواتُ الله وسلامه عليه- للاعتناء بشأنه، وإظهار شرفه
أحدهما: أنّ السجود على المعنى الذي فسرته به، لا يسجده بعض الناس دون بعض. والثاني: أنّ السجود قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة؟ قلت: لا أنظم كثيرا في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل، وإنما أرفعه بفعل مضمر يدل عليه قوله (يَسْجُدُ) أى ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة.
ولم أقل: أفسر (يسجد) الذي هو ظاهر بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء، لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين، أو أرفعه على الابتداء والخبر محذوف وهو "مثاب"، لأنّ خبر مقابله يدل عليه، وهو قوله (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ويجوز أن يجعل (مِنَ النَّاسِ) خبرا له، أى: من الناس الذين هم الناس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونبوته، أمره صلوات الله وسلامه عليه على عموم المجاز، فتكون مستعملةً على حقيقته مختلفتين في حالة واحدة؛ لأنه لا صارف.
قوله: (ولم أقل: أفسرُ (يَسْجُدُ))، "أفسرُ"، بدلٌ من "أقلْ"، أو عطفُ بيان، أي: لم أرفع "كثير" بالفعل المذكور، ولم أفسرِ الفعل المذكور بمعنى المطاوعة والعبادة معاً.
قوله: (ويجوز أن يُجعل (مِنْ النَّاسِ) خبراً له)، أي: لـ"كثير"، وهو نكرةٌ صرفة. قال صاحب "التقريب": مصححه التنوين نحوُ: "شرٌّ أهر ذا ناب".
وقلت: المعنى: كثيرٌ له فضلٌ واعتدادٌ لا يخفى على كل أحدٍ وهم المؤمنون الكاملون؛ لكونه مقابلاً لقوله: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)، ويجوز أن يكون المصحح وقوعه مقابلاً لمن يضاده، فيكون كتعريف غير إذا وقع بين الضدين، أو يكون على منوال قول الشاعر:
على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون. ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف كثير على كثير، ثم يخبر عنهم ب (حقّ عليهم العذاب)، كأنه قيل: وكثير وكثير من الناس حق عليهم العذاب، وقرئ:"حق"، بالضم. وقرئ:"حقا"، أى حقّ عليهم العذاب حقا. ومن أهانه الله - بأن كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه - فقد بقي مهانا «1» ، لن تجد له مكرما. وقرئ:"مكرم"، بفتح الراء بمعنى الإكرام. (إنه يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيومٌ علينا ويومٌ لنا
…
ويومٌ نساءُ ويومٌ نسرُّ
أي: من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، يعني: يحملُ التعريفُ في الناس على الحقيقة والجنس، فإن الجنس إذا أطلق على بعضه اعتبر الكمال فيه؛ ولهذا قال:"وهم الصالحون المتقون".
قوله: (ومن أهانه الله)، والتلاوة (يُهِنْ اللَّهُ) مؤذن بأن إيثار المضارع في الآية للاستمرار لا لمطلق الإخبار.
قوله: (ولا يشاءُ من ذلك إلا ما يقتضيه عملُ العاملين)، يعني: إن كان العاملُ مؤمناً يشاء الثواب، وإن كان بخلافه فالعقاب بناء على أن المشيئة تابعة لأعمال العباد كما هو معتقده، لكن النظم يقتضي خلافه؛ لأن قوله:(وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) تذييلٌ لقوله: (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ) الآية، يعني: ألا تتعجب من حال المخالفين، فإن الكائنات مطوعةٌ لله خاضعةٌ لجلاله، وكثيرٌ من عباده الصالحين ساجدون له مطيعون أمره منتهون عن نواهيه، وهؤلاء الكفرة الين حق عليهم العذاب كيف خرجا من هذه الكرامة (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)؟ وما ذلك إلا أن المشيئة تعلقت بإهانتهم.
[(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)].
الخصم: صفة وصف بها الفوج أو الفريق، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان وقوله (هذانِ) للفظ. و (اخْتَصَمُوا) للمعنى، كقوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا) [محمد: 16] ولو قيل: "هؤلاء خصمان". أو "اختصما": جاز. يراد المؤمنون والكافرون. قال ابن عباس:
رجع إلى أهل الأديان الستة (فِي رَبِّهِمْ) أى في دينه وصفاته. وروى أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أحق بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، فهذه خصومتهم في ربهم (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) هو فصل الخصومة المعنىّ بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج: 17] وفي رواية عن الكسائي: "خصمان"،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الخصم صفةٌ وصف بها الفوج)، الجوهري: الخصم يستوي فيه الجمع والمؤنث؛ لأنه في الأصل مصدرٌ، ومن العرب من يثنيه ويجمعه. وقال المصنف: الخصمُ: الخصماء، يقع على الجمع والواحد، فثناه على تأويل: فريقان خصمان، وقيل: الخصم: اسم جمع كالركب، فثناه على تأويل الفرقتين أو الجماعتين.
قوله: ((فَالَّذِينَ كَفَرُوا)، هو فصل الخصومة المعنيُّ بقله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، هذا الكلام مبنيٌّ على تفسير ابن عباس رضي الله عنه: هذان خصمان رجع إلى أهل الأديان الستةن يعني: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، فعلى هذا، في الكلام تقسيمٌ وجمعٌ وتفريق، فالتقسيمُ:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، والجمع:(إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) إلى قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)، والتفريق: قوله: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ورُوعي فيه معنى قوله
بالكسر، وقرئ:"قطعت" بالتخفيف، كأنّ الله تعالى يقدّر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة. ويجوز أن تظاهر على كل واحدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)[الفاتحة: 7]؛ لأنه حين ذكر فريق الكفار وما أسند جزاءهم إلى الله تعالى، وحين ذكر جزاء المؤمنين أتى باسمه الجامع، وصدر الجملة بـ"إنّ"، وفصلها للاستئناف؛ ليكون أدل على التفخيم والتعظيم، وذيل الكلام بقوله:(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ).
وأما توسيط قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ) الآية، فللتفريع على اختلاف الكفرة، واستبعاده مع وجود هذه الآيات الصارفة، والخطاب بقوله:(أَلَمْ تَرَ) لكل أحدٍ لعظمه، يعني: أن الرب واحد، وكل شيء مطيعٌ له ومنقاد، وليست الخصومة والاختلاف إلا بمحض مشيئة الله وإرادته.
ويؤيدُ ما ذكرنا قول الزجاج: "إن الله يدخل الذين آمنوا: أحد الخصمين"، ومن التقسيم مع الجمع قول حسان:
قومٌ إذا حاربوا ضروا عدوهم
…
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
شجيةٌ تلك منهم غير محدثةٍ
…
أن الخلائق فاعلم شرها البدع
قوله: (ويجوزُ أن تُاهر على كل واحد)، النهاية: وفي الحديث: "أنه صلى الله عليه وسلم ظاهر بين درعين يوم أحد"، أي: جمع ولبس إحداهما فوق الأخرى، وكأنه من التظاهر والتعاون والتساعد، ومنه حديث علي:"أنه بارز يوم بدرٍ وظاهر"، أي: نصر وأعان.
منهم تلك النيران كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. ونحوه (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ)] إبراهيم: 50 [. (الْحَمِيمُ) الماء الحار. عن ابن عباس رضى الله عنه: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها (يُصْهَرُ) يذاب. وعن الحسن بتشديد الهاء للمبالغة، أى: إذا صبّ الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر، فيذيب أحشاءهم وأمعاءهم كما يذيب جلودهم، وهو أبلغ من قوله (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)] محمد: 15 [و"المقامع": السياط. في الحديث: «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها» ، وقرأ الأعمش:"ردوا فيها". والإعادة والرد لا يكون إلا بعد الخروج، فالمعنى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما أقلوها)، النهاية: وفي حديث العباس: "فحثا في ثوبه، ثم ذهب يُقله، فلم يستطع". يقال: أقل الشيء يُقله، واستقله يستقله: إذا رفعه وحمله. وإنما قال المصنف رحمة الله تعالى عليه: "ما أقلوها"، ولم يقل: ما رفعوها؛ ليؤذن بأنهم استقلوا قواهم لرفعها.
قوله: (أن يخرجوا منها من غم فخرجوا) ولابد من هذا التقدير؛ لأنه تعالى جعل إرادة الخروج سبباً للإعادة، وإنما السبب نفسُ الخروجن وفائدةُ الحذف الإشعارُ بسرعة تعلق الإرادة بالإعادة، وأنه حين تعلقت إرادتهم بالخروج حصل وترتب عليه الإعارة، كأن إرادة الخروج نفس الخروج، فأعيدوا بلا مكث، ومن ثم حسن تأويل الحسن الخروج بكونهم في أعلى النار، والإعادة بالهوي إليها، ومن الأسلوب قوله تعالى:(واللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً)[نوح: 17]، قال الزجاج: أراد الله إنباتكم فنبتم نباتاً. قيل: فائدته: التنبيه على سرعة نفاذ قدرة الله تعالى فيم أراد كونه، كأن إنبات الله نفس النبات.
فيها. ومعنى الخروج: ما يروى عن الحسن أنّ النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا وَقيل لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) والحريق: الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك. [سورة الحج (22): الآيات 23 إلى 25](إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25))
(يُحَلَّوْنَ) عن ابن عباس: من حليت المرأة فهي حال «2» (وَلُؤْلُؤاً) بالنصب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو البقاء: و (مِنْ غَمٍّ) بدلٌ بإعادة الخافض بدل الاشتمال، وقيل: الأولى: لابتداء الغاية، الثانية: بمعنى: من اجل. وقيل الغم هنا: تغطية العذاب لهم، والأخذُ بكظمهم؛ لأن ما هم فيه أعظم من الحزن. وقال صاحب "الكشف":(مِنْ غَمٍّ): بدلٌ من (مِنْهَا)، والغم هاهنا: مصدرُ غممتُ الشيء، أي: غطيتُه، أي: كلما أرادوا أن يخرجوا مما يغمهم من العذاب أعيدوا فيها، ويقال لهم: ذوقوا.
قوله: (سبعين خريفاً)، قال التوربشتي: كان العرب يؤرخون أعوامهم بالخريف؛ لأنه كان أوان جُذاذهم وقطافهم وإدراك غلاتهم، وكان الأمر على ذلك حتى أرخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة الهجرة.
قوله: ((وَلُؤْلُؤاً) بالنصب): عاصمٌ ونافع، والباقون: بالجر، وأبو بكرٍ يقلبُ الهمزة الثانية واواً، والبواقي شواذ.
على: "ويؤتون لؤلؤا"، كقوله:"وحورا عينا". و"لؤلوا" بقلب الهمزة الثانية واوا. و"لوليا"، بقلبهما واوين، ثم بقلب الثانية ياء كأدل. و"لول" كأدل فيمن جرّ. و"لولؤ". و"ليليا"، بقلبهما ياءين، عن ابن عباس: وهداهم الله وألهمهم أن يقولوا "الحمد لله الذي صدقنا وعده"، وهداهم إلى طريق الجنة. يقال: فلان يحسن إلى الفقراء وينعش المضطهدين، لا يراد حال ولا استقبال، وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه والنعشة في جميع أزمنته وأوقاته. ومنه قوله تعالى (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أى الصدود منهم مستمرّ دائم (لِلنَّاسِ) أى الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد وتانئ وطارئ ومكي وآفاقى. وقد استشهد به أصحاب أبى حنيفة قائلين: إنّ المراد بالمسجد الحرام: مكة، على امتناع جواز بيع دور مكة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويُنعشُ المضطهدين)، الجوهري: نعشه الله ينعشه نعشاً: رفعه، وضهدتُّه فهو مضهودٌ ومضطهدٌ، أي: مقهورٌ ومضطر.
قوله: (أي: الصدود منهم مستمر دائم)، وهو من عطف المستقبل على الماضي، يعني: أن صدودهم كان دائماً مستمراً لا مترقباً، وكذلك قول: فلانٌ يحسنُ إلى الفقراء، في مقام المدح؛ لأنك لا تريد به الإخبار بأنه سيفعله في الزمان الآتي، بل تردي أن ذلك دأبه عادته التي نشأ عليها.
قوله: (تانئ وطارئ)، أي: بالهمزة: الجوهري: تنأتُ بالبلد تُنوءاً: إذا قطنته، التانئُ من ذلك، هم تُناءُ البلد. والاسم: التناءةُ. وطرأتُ على القوم أطرأ طروءاً: إذا طلعت عليهم من بلد آخر.
قوله: (وآفاقي)، قال المصنف: المسموعُ منالعرب: أفقي وأفقي، وهو القياس والاستعمال؛ لأنالنسبة إلى الواحد، واستعمال الفقهاء آفاقي، وهو صحيح؛ لأنه أريد به الخارجي، أي: الخارج من المواقيت، فكان بمنزلة النصاري حيث أريدت القبيلة.
قوله: (وقد استشهد به أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله
…
على امتناع جواز بيع دور مكة)، قال الإمامُ: وفي المسألة قولان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما: أن أرض مكة لا تُملك، وأنها لو مُلكت لم يستو فيه العاكف والباد، فلما استويا عُلم أن سبيله سبيلُ المساجد، فعلى هذا المراد بالمسجد الحرام: الحرمُ كله، كما يدل عليه قوله تعالى:(مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)[الإسراء: 1]، وقوله:(الْعَاكِفُ فِيهِ)؛ لأنه المقيم، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل، وهذا قول ابن عباس في بعض الروايات، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، ومذهب أبي حنيفة في إحدى الروايتين، ومذهب هؤلاء ان كراء دور مكة وبيعها حرام.
وثانيهما: أنها تُملك، والمراد بقوله تعالى:(سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي) الاستواء في العبادة، أي: ليس للمقيم أن يمنع البادي من العبادة فيه وبالعكس. ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلىية ساعةٍ من ليلٍ او نهار"، هذا قول الحسن ومجاهدٍ والشافعي، ورواية الحسن عن أبي حنيفة.
وقال الزجاج سواءٌ في تفضيله وإقامة المناسك العاكف بالحرم والنازع إليه.
وقال محيي السنة: ومعنى التسوية: هوالتسوية في تعظيم الكعبة، وفي فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف فيه.
وقلتُ - والله أعلم-: والمقامُ لا يقتضي غير ذلك، وبيانه: أنه تعالى لما ذم المشركين، وبين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سوء صنيعهم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أتى بقوله: (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) عاطفاً عليه وهو مضارعٌ، ونوعٌ من أنواع الكفر، فدل الاستقبال على أن الصد عادتهم ودأبهم كما مر آنفاً، ودل عطف النوع على الجنس على تمادي هذا الكفر - وهو الصد- الغاية، حتى خرج من ذلك الجنس على منوال قوله:(ومَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ)[البقرة: 98] ثم عقب بقوله تعالى: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي) عاطفاً على (سَبِيلِ اللَّهِ) على منوال العطف السابق تتميماً ومبالغةً، يعني: ما كفاهم إعراضهم عن العبادة، حتى بلغ أن منعوا الغير عنها، وتمادى ذلك المنعُ إلى أن بلغ على الموضع الذي عظمناه وحرمناه لغير عبادتنا، ولا يختص به أحدٌ دون أحد، سواءٌ في ذلك قُطانه وقُصادُه، ويعضده تذييل الكلام بقوله:(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)؛ لأن الصاد مائلٌ عن الحق، ملحدٌ واضعٌ للشيء في غير موضعه، وإليه الإشارة بقوله:"وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك"، فأين في الكلام مجالُ بيع الدور وتمليكها، اللهم إلا أن يقال: إن دلالة الآية على ذلك بالإدماج وإشارة النص، ومن ثم لما حاور الإمام الشافعي إسحاق عارض دليله بمثله، وهو قوله تعالى:(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)[الحج: 40] وأتى بحديث عُمر رضي الله عنه، سكت إسحاقُ، والمصنفُ أيضاً لم يزد على ذلك، وما اشتغل بالجواب لما عرف المقام.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)[الإسراء: 1] بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم فضعيفُ، لما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن مالك بن صعصعة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أُسري به قال: "بينما أنا في الحطيم- وربماقال: في الحجر مضطجعاً، ومنهم من قال: بين النائم واليقظان- إذ أتاني
وإجارتها. وعند الشافعي: لا يمتنع ذلك. وقد حاور إسحاق بن راهويه فاحتجّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آتٍ"، الحديث. وفي حديث آخر، عن البخاري ومسلم والنسائي، عن أنسٍ قال: ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة. الحديث. وقولهم: الإقامة لا تكون إلا خارج المسجد فضعيفٌ أيضاً؛ لأن الظاهر من لفظ العاكف أنه الملازم للمسجد، والمعتكفُ فيه.
قوله: (وقد حاور إسحق بن راهويه)، في "جامع الأصول": هو أبو يعقوب إسحاقُ بن إبراهيم التميميُّ الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، بالراء وفتح الهاء والواو وسكون الياء وكسر الهاء، أحد أركان المسلمين، وعَلَمٌ من أعلام الدين، وممن جمع بين الحديث والفقه، والإتقان الحفظ والورع.
وقال الإمامُ: وقد جرت مناظرةٌ بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة، وكان إسحاقُ لا يرخصُ في كراء دور مكة، فاحتج الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى:(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ)[الحج: 40] فأضيف الديارُ إلى مالكيها، وهو المراد من قول المصنف:"أنسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها؟ "، وقال الشافعي: قال رسول الله يوم فتح مكة: "من أغلق بابه فهو آمنٌ"، وقال صلى الله عليه وسلم:"هل ترك لنا عقيلٌ من ربع"، وقد اشترى عمر رضي الله عنه دار السجن، أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها؟
بقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)[الحج: 40]، [الحشر: 8] وقال أنسب الديار إلى مالكيها، أو غير مالكيها؟ واشترى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه دار السجن من مالكيه أو غير مالكيه؟ (سَواءً) بالنصب: قراءة حفص. والباقون على الرفع. ووجه النصب أنه ثانى مفعولي (جعلناه)، أى: جعلناه مستويا الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وفي القراءة بالرفع. الجملة مفعول ثان. "الإلحاد": العدول عن القصد، وأصله إلحاد الحافر. وقوله (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفتان. ومفعول (يُرِدْ) متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال: ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) يعنى أنّ الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده. وقيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته وعن سعيد بن جبير: الاحتكار. وعن عطاء: قول الرجل في المبايعة «لا والله، وبلى والله» وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان، أحدهما: في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له، فقال، كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل:"لا والله، وبلى والله". وقرئ: "يرد"، بفتح الياء من الورود. ومعناه: من أتى فيه بإلحاد ظالما. وعن الحسن: ومن يرد إلحاده بظلم، أراد: إلحادا فيه، فأضافه على الاتساع في الظرف، كـ"مكر الليل". ومعناه: من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال إسحاق: فلما علمتُ أن الحجة قد لزمتني تركتُ قولي.
قوله: (إلحادُ الحافر)، أي: حافرُ القبر. الجوهري: اللحدُ بالتسكين: الشقُّ في جانب القبر.
قوله: (فُسطاطانِ)، الفسطاطُ: السُّرادقُ، وقيل: الفسطاط: ضربٌ من الأبنية.
يرد أن يلحد فيه ظالما. وخبر "إن" محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك. عن ابن مسعود: الهمة في الحرم تكتب ذنبا.
(وَإِذْ بَوَّانا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) 26 [
واذكر حين جعلنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) مباءة، أى: مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة. رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها الخجوج: كنست ما حوله، فبناه على أسه القديم. و"أن" هي المفسرة. فإن قلت: كيف يكون النهى عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: تعبدنا إبراهيم قلنا له: (لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأصنام والأوثان «1» والأقذار أن تطرح حوله. وقرئ: "يشرك"، بالياء على الغيبة.
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) 27 [
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) ناد فيهم. وقرأ ابن محيصن: "وآذن". والنداء بالحج: أن يقول: حجوا، أو عليكم بالحج. وروى أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يقال له: الخجوج)، بفتح الخاء المعجمة، وبالجيمين. الجوهري: ريحٌ خجُوجٌ: تلتوي في هبوبها. الأصمعي: الخجوجُ من الرياح: الشديدة المرة.
قوله: (تعبدنا إبراهيم)، الأساس: تعبدني فلانٌ واعتبدني: صيرني كالعبد له، أي في التكليف بالأمر والنهي.
حجوا بيت ربكم. وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع «3» (رِجالًا) مشاة جمع راجل، كقائم وقيام. وقرئ:"رجالا"، بضم الراء مخفف الجيم ومثقله، و"رجالي" كعجالى عن ابن عباس.
(وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) حال معطوفة على حال، كأنه قال: رجالا وركبانا (يَاتِينَ) صفة ل (كل ضامر)، لأنه في معنى الجمع. وقرئ:"يأتون"، صفة للرجال والركبان. و"العميق": البعيد، وقرأ ابن مسعود:"معيق". يقال: بئر بعيدة العمق والمعق.
[(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ)].
نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. وعن أبى حنيفة رحمه الله: أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حجّ فضل الحج على العبادات كلها، لما شاهد من تلك الخصائص.
وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ورُجالى)، وهو جمعُ رجلانَ، كسكران وسُكارى، وهو بمعنى الراجل، قال كُثيرُ عزة:
على إذا لاقيتها في سلامةٍ
…
زيارة بيت الله رجلان حافيا
قوله: (نكر المنافع)، يعني: دل التنكيرُ فيها على تفخيم المنافع وتكثيرها بحيثُ لا توجد في غيرها. وعن بعض العارفين: هي سُبحاتُ البادية وزلفاتها: الليليةُ والنهارية.
لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلى فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه، وقد حسن الكلام تحسينا بينا: أن جمع بين قوله (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ)، وقوله:(عَلى ما رَزَقَهُمْ) ولو قيل: لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام، لم تر شيئا من ذلك الحسن والروعة.
"الأيام المعلومات":
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا)، تعليلٌ لصحة الكناية، والانتقال من اللازم إلى الملزوم، فإن الشرط فيها أن تكون الملازمة مساويةً إما في نفس الأمر أو بالادعاء والعرف، وليست الكناية في مجرد قوله تعالى:(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) بل مع قوله: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)؛ لأن "على" متعلقٌ بالفعل، كأنه قيل: وانحروا بهيمة الأنعام مسمين الله تعالى.
قوله: (وفيه تنبيهٌ)، أي: في العدول من النحر والذبح إلى ذكر اسم الله إدماجٌ وإشارةٌ إلى أن الغرض الأصلي في العبادات ذكرُ اسم الله.
قوله: (وقد حسن الكلام تحسيناً بيناً أن جمع)، يعني: جمع بين ذكر الرازق والمرزوق على طريقة التعليل. وذلك أن رتب ذكر اسم الله على الوصف المناسب، هو كونه رزقاً منه، ويؤيده قوله تعالى:(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)، فإنه تصريحٌ في المقصود، ومع هذه النكتة الجليلة رُوعي فيه معنى الإجمال والتفصيل.
قوله: (الحُسْن والروعة)، الأساس: رُعُته وروعتُه، وارتعتُ منه وأصابته روعةُ الفراق، ووقع ذلك في روعي أي: في خلدي، ومن المجاز: فرسٌ رائع، يروع الرائي بجماله، وكلامٌ رائع.
قوله: (الأيام المعلومات)، المطلع: قيل لها: معلوماتٌ للحرص على علمها بحسابها؛
أيام العشر عند أبى حنيفة، وهو قول الحسن وقتادة. وعند صاحبيه: أيام النحر.
"البهيمة": مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام: وهي الإبل والبقر والضأن والمعز. الأمر بالأكل منها أمر إباحة، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم ومن استعمال التواضع. ومن ثمة استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث. وعن ابن مسعود أنه بعث بهدى وقال فيه: إذا نحرته فكل وتصدّق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن وقت الحج في آخرها، وكثرةُ ذكر الله تعالى فيها بالتلبية والتكبير، وقيل لأيام النحر: معلوماتٌ؛ لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدلُ على التسمية على نحرها، ونحر الهدايا يكونُ في هذه الأيام قاله الزجاج.
قوله: (أيام العشر)، أي: أيام الليالي العشر.
قوله: (ومن ثم استحبالفقهاء ان يأكل الموسع من أضحيته)، قال مُحيي السُّنة: اتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً يجوز للمُهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطع، واختلفوا في الهدي الواجب مثل دم التمتع والقران، والواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، فذهب قومٌ إلى أنه لا يجوز، وبه قال الشافعي. وقال ابن عمر: لا يأكل من جزاء الصيد والنذور، ويأكل مما سوى ذلك، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالكٌ: يأكلُ من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور. وعند أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران، ولا يأكل من واجب سواهما.
وابعث منه إلى عتبة، يعنى ابنه. وفي الحديث:«كلوا وادخروا وائتجروا» .
(الْبائِسَ) الذي أصابه بؤس أى شدة: و (الْفَقِيرَ) الذي أضعفه الإعسار.
[(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)] 29 [.
"قضاء التفث": قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، و"التفث": الوسخ، فالمراد قضاء إزالة التفث. وقرئ:"وليوفوا"، بتشديد الفاء (نُذُورَهُمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وادخروا وائتجروا)، ورُوي:"واتجروا". النهاية: وفي حديث الأضاحي: "كلُوا وادخروا وائتجرا" أي: تصدقوا طالبين الأجر بذلك، ولا يجوزُ فيه "اتجروا" بالإدغام؛ لأن الهمزة لا تُدغمُ في التاء، وإنما هو من الأجر لا من التجارة، وقد أجار الهرويُّ في "كتابهِ"، واستشهد عليه بقوله في الحديث: إن رجلاً دخل المسجد وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فقال: "من يتجر فيقوم ويُصلي معه؟ "، والرواية إنما هي:"يأتجرُ"، وإن صح فيها:"يتجرُ"، فيكون من التجارة لا من الأجر، كأنه بصلاته معه قد حصل لنفسه تجارةً، أي مكسباً.
قوله: (والْفَقِيرَ) الذي اضعفه الإعسارُ)، الأساس: فلانٌ فقيرٌ أصابته النواقر، وعملت فيه الفواقر، أي: الدواهي التي تكسرُ فقار ظهره.
مواجب حجهم، أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم (وَلْيَطَّوَّفُوا) طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، ويقع به تمام التحلل. وقيل: طواف الصدر، وهو طواف الوداع (الْعَتِيقِ) القديم، لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن. وعن قتادة: أعتق من الجبابرة، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله. وعن مجاهد: لم يملك قط. وعنه: أعتق من الغرق. وقيل: بيت كريم، من قولهم: عتاق الخيل والطير.
فإن قلت: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع. قلت: ما قصد التسلط على البيت، وإنما تحصن به ابن الزبير، فاحتال لإخراجه ثم بناه. ولما قصد التسلط عليه أبرهة، فعل به ما فعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو ما عسى ينذُرونه من أعمال البر)، فالنذرُ على هذا حقيقةٌ، وعلى الأول مجازٌ. الأساس: ومن المجاز: أعطيتُ الرجل نذر جرحه، أي: أرشه؛ لأنه مما نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أوجبه ما يوجب الرجلُ على نفسه، ولذلك قال:"مواجب حجهم".
قوله: (بيتٌ كريم)، أي: العتيق، بمعنى الكريم، الراغب: كل شيء شرُفض في بابه؛ فإنه يوصفُ بالكرم. وقال بعضهم: الكرمُ بالحرية، إلاأن الحرية قد تُقالُ في المحاسن الصغيرة؛ الكرمُ لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة، قال الل تعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13] فعُلِمَ أن الكرم أبلغُ من العتاقة.
الجوهري: العتقُ: الكرم، والعتقُ: الجمال، والعتقُ: الحرية، وكذلك العتاقُ- بالفتح- والعتاقة.
قوله: (وإنما تحصن به ابن الزبير)، قال أبو حنيفة الدينوريُّ في "الأخبار الطوال": سار الحجاجُ من الطائف حتى دخل مكة، ونصب المنجنيق على أبي قُبيس، وتحصن منه ابن
[(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [.
(ذلِكَ) خبر مبتدإ محذوف، أى: الأمر والشأن ذلك، كما يقدّم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الزُّبير في المسجد، فجعلوا يرمون أهل المسجد، واشتد على ابن الزبير وأصحابه الحصارُ وجعل أهل الشام يدخلون المسجد، فيشتد عليهم ابن الزبير، فيخرجهم، فأحدقوا به من كل جانب، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه رحمه الله. فأمر به الحجاج فصلب، وأقام الحجاج بمكة حتى قضى الناس الحج؛ وأمر بالكعبة فنُقضت، وأعاد بناءها، وهو هذا البناء القائم اليوم، وقصة إبراهيم ستجيءُ، إن شاء الله تعالى.
قوله: (قال: هذا، وقد كان كذا)، يريدُ أن "ذلك" هاهنا نحو "هذا" في قوله تعالى:(هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)[ص: 55] وأنهُ من فصل الخطاب، وهاهنا لما ذكر نُبذاً من مناسك الحج وكان حديثاً في بيان التوصية في حُرمات الحج، وتعظيم شعائر الله، ناسب أن يذكر سائر المحرمات استطراداً، فقدم من أمهات الخبائث ما يستتبع سائرها من الشرك، وقول الزور، وجعل التخلص إلى ذكرهما ما كانوا يعظمونها من النسائك والقرابين تشبيهاً لها بالمعبود بالحق، فقال:(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) ثُم قصد إلى تحقير شأنها بأن جرد من الأصنام مثل الرجس، وأدخل عبادتها في جنس قول الزور، ومثل لعبادتها تمثيلاً عجيباً وتصويراً غريباً حيث قال: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
و"الحرمة": ما لا يحل هتكه. وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج. وعن زيد بن أسلم: "الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أى فالتعظيم خير له. ومعنى التعظيم: العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها.
المتلوّ لا يستثنى من الأنعام، ولكن المعنى (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) آية تحريمه، وذلك قوله في سورة المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)] المائدة: 3 [والمعنى: أنّ الله قد أحل لكم الأنعام كلها إلا ما استثناه في كتابه، فحافظوا على حدوده، وإياكم أن تحرموا مما أحل شيئا، كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك، وأن تحلوا مما حرم الله، كاحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك.
لما حث على تعظيم حرماته وأحمد من يعظمها أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)، ولما أراد أن يكِرَّ إلى ما بُدئ به من حديث المناسك أعاد بفصل الخطاب فقال:"ذلك ومن يعظم شعائر الله فنها من تقوى القلوب".
قوله: (المتلو لا يُستثنى من الأنعام)، يعني: ظاهرُ قوله: (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) مستثنى من قوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) وليس المتلو من جنس الأنعام، فلا يصحُّ الاستثناء، لكن التقدير:"إلا ما يتلى عليكم" آية تحريمه" آية تحريمه، والمتلو في تحريم الأشياء المحرمة في سورة المائدة هو قوله:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الآية [المائدة: 3].
قوله: (لما حث على تعظيم حرماته، وأحمد من يعظمها، أتبعه الأمر باجتناب الأوثان)، إشارةٌ إلى أن قوله:(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) محمولٌ على أحد الوجهين السابقين، وهو العموم المشار إليه بقوله:"فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه"، ليدخُل فيه
الزور، لأن توحيد الله ونفى الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطوا. وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد، وذلك أنّ الشرك من باب الزور لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة، فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا شيئا منه لتماديه في القبح والسماجة. وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعنى: أنكم كما تنفرون بطباعكم عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحرماتُ التي تتعلق بالحج دخولاً أولياً، وأن قوله تعالى:(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) وقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) تعريضٌ وإيماءٌ إلى بيان النوعين من قبائح المشركين، أحدهما: تحريمهم السوائب والحام والوصيلة، وتحليل الميتة والدم وغيرهما. وثانيهما: عكوفهم على عبادة الأوثان، فأتى بهما تخصيصاً بعد تعميم ليؤذن بأنهما من أعظم أنواع المحرمات، ثم ضم مع عبادة الأوثان قول الزور، ولم يعطف عليه، بل أعاد الفعل؛ ليكون مستقلاً في الاجتناب عنهُ، وما اكتفي بذلك، بل جعل التعريف للجنس؛ ليكون من باب عطفِ العامِّ على الخاص.
قوله: (في قرانٍ واحد)، أي: أدخلهما في حُكم الأمر بالاجتناب عنهما، ورُوعي فيه تأخيرُ العامِّ عن الخاص، على عكس قوله تعالى:(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) تناول بظاهره كل ما تنفر عنه النفس والطبيعة من القاذورات، وحين بينه بقوله:(مِنْ الأَوْثَانِ) عُلم منه تشبيه الأوثان به، كقوله تعالى:(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)[البقرة: 187]، ولما قال:(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ)[المائدة: 90] فُهم منه التشبيه؛ لعدم صحة الحمل، فكأنه قيل: هي كالرجس، كقولك: زيدٌ أسدٌ، لكن الأول من التشبيه الواقع على طريق التجريد، فجُرد من الرجس شيءٌ يسمى وثناً، وهو هو، والجهة الجامعة: تنفيرُ النفس،
الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)] المائدة: 90 [جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب (مِنَ الْأَوْثانِ) بيان للرجس وتمييز له، كقولك: عندي عشرون من الدراهم، لأنّ الرجس مبهم يتناول غير شيء، كأنه قيل: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والزور من الزور والازورار وهو الانحراف، كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه. وقيل "قَوْلَ الزُّورِ" قولهم: (هذا حلال وهذا حرام)] النحل: 116 [، وما أشبه ذلك من افترائهم. وقيل: شهادة الزور. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائما واستقبل الناس بوجهه وقال «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» «1» وتلا هذه الاية. وقيل: الكذب والبهتان. وقيل: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك". يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإليه الإشارة بقوله: "كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء".
قوله: (جعل العلةَ في اجتنابه أنه رجس)، يعني: جمع الأشياء في معنى الرجس، ثم رتب على ذلك بالفاء قوله:(فَاجْتَنِبُوهُ) ترتُّباً للحكم على الوصف المناسب.
قوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى الصبح، فلما سلم")، الحديث من رواية الإمام أحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن أيمن بن خريم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: "يا أيها الناس، عدلت شهادة الزُّور إشراكاً بالله" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ).
قوله: (يجوزُ في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق)، فالمركبُ يجوزُ أن يكونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عقلياً بأخذِ الزُّبدةِ والخلاصة من المجموع، وأن يكون تمثيلياً بأن تشبهَ الحالةُ المنتزعةُ بمثلها المقدرة.
الانتصاف: تقديرُ كونه مفرقاً تشبيهٌ للمشرك بالهاوي من السماء إن كان من ردة، كمثل من علا السماء ذاهباً ثم أهبط بارتداده. وإن كان مشركاً أصلياًّ، فقد عُدَّ تمكنهُ منَ الإيمان وعدولُه عنه بمنزلةِ الصاعد ثم الهابط، كقوله تعالى:(يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[البقرة: 257]، ولم يدخلوا في النور بل كانوا متمكنين منه، وفي قول الزمخشري:"الأهواءُ التي تتوزعُ أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة" نظرٌ؛ لأنه رجع بهما إلى أمرٍ واحد؛ إذ الأفكارٌ من نتائج وسوسة الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، والذي يتضح في التشبيهين غير ذلك. فالكافرون قسمان، أحدهما: مُذبذبٌ شاكٌّ ليس بمصمم، وهذا مشبهٌ بمن اختطفه الطيرُ فلا يتولى طائرٌ منه على مزعةٍ إلا انتهبها منه آخرُ، كذا المُذبذبُ متى لاح له خيالٌ اتبعه، وترك ما كان عليه. والآخر مصممٌ لا يرجع، وهو فرحٌ بضلاله، فهو مشبهٌ باستقرار من ألقته الريح في وادٍ فاستقر فيه.
وقال القاضي: (أوْ) للتخيير، كما في قوله:(أَوْ كَصَيِّبٍ)[البقرة: 19]، أو للتنويع، فن من المشركين من لا خلاص له أصلاً، ومنهم من يمكنُ خلاصه بالتوبة ولكن على بُعد.
وقلتُ: الذي عليه ظاهرُ كلام الله المجيد أن (أوْ) للتخيير، وهُو المختارُ عند المصنفِ رحمه الله تعالى؛ لأن المشبه هو المشرك، والمشبه به من خر من السماء، ثم هذا الشخصُ المخرور منها بين حالين: إما أن تخطفه الطيرُ، أو تهوي به الريح، فإن (أَوْ تَهْوِي بِهِ) عطفٌ على (فَتَخْطَفُهُ)، وهو عطفٌ على (خَرَّ). قال أبو البقاء:(خَرَّ) بمعنى: يخرُّ؛ ولذلك عطف عليه (فَتَخْطَفُهُ).
فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلتُ: في إيثار المضارع إشعارٌ باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهد المخاطب تعجيباً له.
واعلم أن تشبيه الأفكار المتوزعة بخطف الطير مأخوذٌ من قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)[الزمر: 29]. قال المصنف: "فهو متحيرٌ في أمره، قد تشعبت الهمومُ قلبه، وتوزعت أفكاره، لا يدري أيهم يُرضي؟ ".
وأن تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية إلى مكان سحيق مأخوذٌ من قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً)[مريم: 83]. قال: "تُغريهم على المعاصي، وتهيجهم لها، فتؤديهم إلى التمادي في الغي، والإفراط في العناد، والتصميم على الكفر، وإلى الضلال البعيد"، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:(فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ). وإذا حُمِلَ (أوْ) على التخيير يُمكن أن يُحمل على المعنيين كما قال في قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ)[البقرة: 19]: "معناه: أن كيفية قصة المنافين مشبهةٌ بكيفيتي هاتين القصتين، وأن القصتين سواءٌ في استقلال كل واحدةٍ منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتَ فأنت مُصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك". ولهذا عطف في المفرق قوله: "والشيطان الذي يطوح"، بالواو على "الأهواء التي تتوزع" ليؤذن به أن (أَوْ تَهْوِي) عطفٌ على (فَتَخْطَفُهُ)، والمجموعُ تشبيهٌ واحد، وعطف في المركب قوله:"أو عصفت به الريحُ" على قوله: "خر من السماء فاختطفه الطير" بـ"أوْ" ليشير به إلى أن قوله: (أَوْ تَهْوِي) عطفٌ على قوله: (خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ)، والمجموع تشبيهان؛ لأن المركب يكفي في أخذ الزبدة من كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه، بخلاف المُفرقِ فإنهُ كلما كانت المفردات أكثر كان التشبيه أحسن، وفي القبول أدخل.
فتفرق مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح «3» البعيدة. وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوّح به في وادى الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة. وقرئ:"فتخطفه". بكسر الخاء والطاء. وبكسر التاء مع كسرهما، وهي قراءة الحسن. وأصلها: تختطفه. وقرئ: "الرياح".
[(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)].
تعظيم الشعائر - وهي الهدايا، لأنها من معالم الحج -: أن يختارها عظام الأجرام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فتفرقَ مُزعاً)، الجوهري: التمزيعُ التفريق، والمزعة بالضم والسكون: قطعةُ لحم.
قوله: (يطرحُ)، الجوهري: طاح يطوحُ: هلك.
قوله: (وقرئ: "فتخطفه")، يعني: بالفتحات، أصله: فتخطتفه، نُقلت حركةُ التاء إلى الخاء، وأدغمت في الطاء.
قوله: (وبكسر الخاء والطاء)، أصله: تختطفه أيضاً، حُذفت حركةُ التاء، ثم أدغمت في الطاء، وحُركت الخاء والتاء بالكسر لالتقاء الساكنين، وأُتبعتِ الطاءُ الخاء.
قوله: (وبكسر التاء مع كسرهما)، أي: مع كسر الخاء والطاء، وجهُ هذا مثل الوجه الثاني إلا أنه كسر التاء أيضاً، فلذلك جعل المصنفُ الثاني والثالث كالوجه الواحد، وقال:"أصلُهما" يريدُ أصل الثاني والثالث.
قوله: (تعظيمُ الشعائر)، هو مبتدأ، والخبرُ:"أن يختارها عظام الأجرام"، وقوله: "وهي
حسانا سماناً غالية الأتمان، ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يغالون في ثلاث - ويكرهون المكاس فيهنّ -: الهدى، والأضحية، والرقبة. وروى ابن عمر عن أبيه رضى الله عنهما أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاث مائة دينار، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا.
فنهاه عن ذلك وقال: «بل أهدها» وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة بدنة، فيها جمل لأبى جهل في أنفه برّة من ذهب. وكان ابن عمر رضي الله عنه يسوق البدن مجللة بالقباطى «3» فيتصدّق بلحومها وبجلالها «4» ، ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أى فإن تعظيمها من أفعال ذوى تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى "مَنْ" ليرتبط به،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهدايا تفسيرٌ للشعائر"، وقوله: "لأنها من معالم الحج" تعليلٌ لتسمية الهدايا بالشعائر، ويؤيد تفسير الشعائر بالهدايا في هذا المقام قوله تعالى في آخر الآية التالية: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)؛ ولهذا نقل قول من فسر الشعائر: بالمناسك كلها، وردهُ بهذه العلة حيثُ قال: "و (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يأباه".
قوله: (بُرة)، البُرةُ: حلقةٌ من صُفرٍ تُجعلُ في أنفِ البعير.
قوله: (مجللةً بالقباطي)، النهاية: القُبطيةُ: الثوبُ من ثياب مصر رقيقةٌ بيضاء، كأنه منسوبٌ إلى قبط، وهم أهل مصر، وضم القاف من تغيير النسب، وهذا في الثياب، وأما في الناس فقبطيٌّ بالكسر.
قوله: (ويعتقد)، بالنصب، عطفٌ على "أن يختارها".
قوله: (ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها؛ لأنه لابد من راجع
…
إلى"مَن")، أي: لابد من رابطة تربط الجزاء مع الشرط. قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأنه إنما يُحتاجُ إلى المضمرات إذا جُعل من للتبعيض، فإن جُعلت للابتداء لم يُحتج إلى إضمار "أفعال"، ولا "ذوي"؛ إذ المعنى: فإن تعظيمها ناشئٌ من تقوى القلوب.
وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت، ظهر أثرها في سائر الأعضاء. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها. و (ثُمَّ) للتراخي في الوقت، فاستعيرت للتراخي في الأحوال. والمعنى: أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وإنما يعتدّ الله بالمنافع الدينية، قال سبحانه (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)] الأنفال: 67 [وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع: (مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ) أى وجوب نحرها. أو وقت وجوب نحرها في الحرم منتهية إلى البيت، كقوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)] المائدة: 95 [والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، لأن الحرم هو حريم البيت. ومثل هذا في الاتساع قولك:"بلغنا البلد"، وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده. وقيل: المراد ب"الشعائر": المناسك كلها، و (مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يأباه.
[(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) 34 - 35].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلتُ: فعلى هذا لابد من جعل اللام بدلاً من المضاف إليه للربط، كما أن الراجع من تقدير المصنف ما دل عليه عمومُ ذوي القلوب، قال أبو البقاء: والعائدٌ على من محذوفٌ، أي: فإن تعظيمها منه، أو من تقوى القلوب منهم، ويُخرجُ على قول الكوفيين أن يكون التقديرُ: من تقوى قلوبهم، والألف واللامُ بدلٌ من الضمير.
قوله: (وإنما ذُكرت القلوبُ؛ لأنها مراكزُ التقوى)، يعني: أُطلقتِ القلوبُ على الجملة كلها إطلاقاً للبعض على الكل؛ لأن التقوى لا تختصُّ بالقلب، فإن لكل عُضو تقوى، ولكونه رئيس الأعضاء وأِرفها صح هذا المجازُ لقوله تعالى:(فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)[البقرة: 283].
شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له: أى يذبحوا لوجهه على وجه التقرّب، وجعل العلة في ذلك أيذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك: وقرئ (مَنْسَكاً) بفتح السين وكسرها، وهو مصدر بمعنى النسك، والمكسور يكون بمعنى الموضع (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أى أخلصوا له الذكر خاصة، واجعلوه لوجهه سالما، أى: خالصا لا تشوبوه بإشراك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (مَنْسَكاً) بفتح السين وكسرها)، حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بالفتح.
قوله: (أي: أخلصوا له الذكر خاصة)، فـ"أخلِصُوا": تفسيرٌ لقوله: (أَسْلِمُوا)، وقوله:"خاصةً" تأكيدٌ له وتأويل لتقديم الجار والمجرور على عامله، وإنما قيد (أَسْلِمُوا) وهو مطلقٌ بأخلصوا الذكر؛ لأن قوله: أسلموا مترتبٌ على قوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ)، فالفاء في (فَلَهُ أَسْلِمُوا) الفاء في (فَاسْتَبَقُوا) في قوله تعالى:(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) إلى قوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[المائدة: 48]، وفي قوله تعالى:(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة: 148]، قال المصنف:"لكل أمةٍ قبلةٌ تتوجه إليها منكم ومن غيركم، فاستبقوا أنتم الخيرات، واستبقوا إليها غيركم من أمرِ القبلة وغيرها".
وهاهنا لما كانت الجملةُ الأولى- أعني قوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) - متضمنةً لمعنى الإخلاص؛ لأن المقصود الأولى من الذبح ذكرُ اسم الله، ولا ارتياب أن الذكر لا يكونُ معتداً به إذا كان مشوباً بشيء من الرياء، ولذلك قال:"أي: يذبحوا لوجهه على وجه التقرب" جعل قوله: (فَلَهُ أَسْلِمُوا) المفيد للإخلاص منطوقاً ومفهوماً مسبباً عنها، ولما أُريد مزيدُ الحض، والبعثُ على الأمر أوقع قوله:(فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) في البين تمهيداً للثاني، وجعله مسبباً عن السابق، وسبباً للاحق، المصنفُ ما ذكر هذا التمهيد
"المخبتون": المتواضعون الخاشعون، من الخبت وهو المطمئن من الأرض. وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقرأ الحسن "وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ" بالنصب على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود:"والمقيمين الصلاة"، على الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واكتفى بذكرِ السابق واللاحق، فكأنهُ قيل: شرع لكل أمةٍ من الأمم: السابقة والحاضرة منكم ومن غيركم أن ينحروا النسيكة خالصاً لوجه الله تعالى، وتُخلصوا له الذكر، وإذا كان كذلك فأنتم- أيتها العصابةُ من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم -أحرى بذلك؛ لأن إلهكم إلهٌ واحدٌ فأخلصوا له الذكر خاصة، واجعلوه لوجهه سالماً خالصاً لا تشوبوه بإشراكٍ كما قال:"فاستبقوا أنتم الخيرات، واستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيرها"، وفيه تعريضٌ بالمشركين.
قوله: (وقرأ الحسنُ: "المقيمي الصلاة"، بالنصب على تقدير النون)، قال ابن جني: وهي قراءةُ إسحاق، ورُويت عن أبي عمرو. أراد "المقيمين" فحذف النون تخفيفاً، لا لتعاقبها الإضافةُ، وشبه ذلك بـ"الذين" في قوله:
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم
…
هم القومُ كل القوم يا أم خالد
حذف النون تخفيفاً لطول الاسم، وأما الإضافة فساقطةٌ هنا، وعليه قول الأخطل:
أبني كُليب إن عمي اللذا
…
قتلا الملك وفككا الأغلالا
ونحوه بيتُ "الكتاب":
الحافظو عورةَ العشيرة لا
…
يأتيهم من ورائهم نطفُ
بنصبِ "العورة".
[(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 36].
"الْبُدْنَ" جمع بدنة، سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل حين قال:«البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» ، فجعل البقر في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النطفُ: التلطُّخُ بالعيب، ونطفانُ الماء: سيلانُه.
وقال الزجاجُ: (الْمُقِيمِي الصَّلاةِ) القراءة بالخفض، وإسقاط النون على الإضافة، ويجوز "المقيمين الصلاة" إلا أنه خلافُ المصحف، قيل هو مثلُ قوله:
هم الآمرون الخير والفاعلون
…
إذا ما خشُوا من مفظع الأمر جانبا
قوله: (ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل)، تعليلٌ لما يردُ عقيبه، والجملةُ معطوفةٌ على قوله:"سُميت لعظم بدنها وهي الإبلُ"، المعنى: البدنة في اللغة مضوعة للإبل خاصة، ولأجل أن الشارع صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل صارت البدنةُ جنساً متناولاً للنوعين: الإبل والبقر. روينا عن مسلم ومالكٍ والترمذي وأبي داود والنسائي، عن جابرٍ، قال:"كنا نتمتعُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبحُ البقرة عن سبعة"، وفي رواية:"قد خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج، فأمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعةٍ منا في بدنة"، وفي أخرى لأبي داود قال: قال صلى الله عليه وسلم: "البقرةُ عن سبعة، والجزورُ عن سبعة".
حكم الإبل، صارت البدنة في الشريعة متناولة للجنسين عند أبى حنيفة وأصحابه، وإلا فالبدن هي الإبل وعليه تدل الآية، وقرأ الحسن:"والبدن"، بضمتين، ك"ثمر" في جمع "ثمرة". وابن أبى إسحاق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف. وقرئ بالنصب والرفع كقوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ)] يس: 39 [. (مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أى من أعلام الشريعة التي شرعها الله. وإضافتها إلى اسمه: تعظيم لها (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) كقوله (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) ومن شأن الحاج أن يحرص على شيء فيه خير ومنافع بشهادة الله.
عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير، فاشترى بها بدنة، فقيل له في ذلك، فقال:"سمعت ربى يقول (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) " وعن ابن عباس: دنيا وآخرة. وعن إبراهيم: من احتاج إلى ظهرها ركب، ومن احتاج إلى لبنها شرب. وذكر اسم الله: أن يقول عند النحر: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: "ولا يلزمُ من مشاركة البقر لها في إجزائها عن سبعةٍ تناولُ اسم البدنة لها شرعاً".
قوله: (وعليه تدلُّ الآيةُ)، أي: على أن المراد بالبُدن الإبلُ، لأن قوله تعالى:(مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) وقوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) وقوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) من خصائص نحر الإبل لا البقر.
قوله: (اللهم منك وإليك)، الحديث من رواية الترمذي وأبي داود، عن جابر رضي الله عنه قال: ذبح النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال:"إني وجهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) [الأنعام: 162] الآية، اللهم منك ولك، اللهم عن محمدٍ وأمته، بسم الله والله أكبر"، ثم ذبحَ.
(صَوافَّ) قائمات قد صففن أيديهنّ وأرجلهنّ. وقرئ: "صوافن"، من صفون الفرس، وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه، لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث. وقرئ:"صوافي"، أي: خوالص لوجه الله. وعن عمرو بن عبيد: "صوافنا"، بالتنوين عوضا من حرف الإطلاق عند الوقف. وعن بعضهم:"صوافي" نحو مثل العرب. "أعط القوس باريها"، بسكون الياء.
و"جوب الجنوب": وقوعها على الأرض، من وجب الحائط وجبة إذا سقط. ووجبت الشمس جبة: غربت. والمعنى: فإذا وجبت جنوبها وسكنت نسائسها حل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منك: أي: عطاؤك وصادرٌ منك، وإليك: أي: تقرُباً إليك.
قوله: (وقرئ: صوافن)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن مسعودٍ وأبي عمرو وابن عباس، وقرأ: صوافي: أبو موسى الأشعري والحسن.
قوله: (أعطِ القوس باريها)، قال الميداني: أي: استعنْ على عملك بأهل المعرفة اولحذقِ فيه ويُنشدُ:
يا باري القوس برياً لست تُحسنُها
…
لا تفسدنها وأعط القوس باريها
قوله: (نسائسها)، الجوهري: النسيسُ: بقيةُ الروح، ومنه قول الشاعر:
فقد أودى إذا بُلِغَ النسيسُ
لكم الأكل منها والإطعام (الْقانِعَ) السائل، من قنعت إليه وكنعت: إذا خضعت له وسألته قنوعا (وَالْمُعْتَرَّ) المعترض بغير سؤال، أو "القانع" الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال، من قنعت قنعا وقناعة.
و"المعتر": المعترض بسؤال. وقرأ الحسن: و"المعترى". وعرّه وعراه واعتراه واعتره: بمعنى.
وقرأ أبو رجاء: "القنع"، وهو الراضي لا غير. يقال: قنع فهو قنع وقانع.
منّ الله على عباده واستحمد إليهم بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا، يأخذونها منقادة للأخذ طيعة فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها، ثم يطعنون في لباتها. ولولا تسخير الله لم
تطق، ولم نكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوّة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة.
[(لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) 37].
أي: لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى: لن يرضى المضحون والمقرّبون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حل ما قرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (واستحمد إليهم). الأساس: واستحمد الله على خلقه بإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، يعني: أن الله تعالى من على عباده بقوله: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ) وطلب منهم أن يشكروه بسبب تسخيره لهم ذلك البُدن العظيم تسخيراً مثل ذلك التسخير العجيب الشأن الذي عرفوهُ وعلموه، ونبه عليه بقوله:(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) الآية. قال أبو البقاء: (كَذَلِكَ) الكافُ: نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: سخرناها تسخيراً مثل ما ذكرنا.
به، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع. فإذا لم يراعوا ذلك، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم. وقرئ:(لن تنال الله. ولكن تناله): بالتاء والياء. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك، فنزلت.
كرّر تذكير النعمة بالتسخير ثم قال: لتشكروا الله على هدايته إياكم لأعلام دينه ومناسك حجه، بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر، وعدى تعديته.
[(إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) 38].
خص المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم، كما قال (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) [غافر: 51]، وقال:(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)[الصافات: 172] قال: (وَأُخْرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ
…
وَلَكِنْ يَنَالُهُ) بالياء والتاء)، بالياء التحتاني: السبعةُ، والتاءُ: شاذة.
قوله: (كرر تذكير النعمة)، يعني: قال قبل هذا: "كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون" ثم كرَّ إلى هذا المعنى بقوله: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) بأن ضمن التكبير معنى الشكر، وعداهُ بـ"على"، وإنما حسُن تسميةُ الشكر بالتكبير؛ لأن التكبير على هداية الله تعالى المكلف لأعلام الدين ومناسك الحج: هو النداء على الجميل بسبب إحسانه، وليس معنى الشكر اللساني إلا هذا، فوضع التكبير هاهنا موضع الشكر كوضع (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) - في قوله تعالى:(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)[الحج: 28]- موضع "ينحروا"؛ للإيذان بأن المقصود الأولي من شرعية الأحكام التوحيدُ، وذكرُ الله تعالى وحده وتشييده، وأن رأس الشكر هو الذكرُ باللسان.
تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف: 13] وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم: وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها. ومن قرأ (يُدافِعُ) فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه، لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ.
[(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) 39 - 41].
(أُذِنَ) و (يُقاتَلُونَ) قرئا على لفظ المبنى للفاعل والمفعول جميعاً: والمعنى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم)، يعني: أن الله تعالى إنما ينصرُ المؤمنين؛ لما أنه يبغض أضدادهم، فإن قلت: أليس هذا كقول القائل: إنما أحبكَ لبُغضِ فلان، ويؤدي هذا إلى أنه لولا بُغض فلانٍ لما أحببتك؟ قلت: لا، لأن المعنى: إن الله تعالى ينصرُ الذين آمنوا بالله ورسوله لأنهم لم يخونوا الله ورسوله، ولا يخونوا أماناتهم، ويشكرون نعم الله ولا يغمطونها؛ وكذلك لا يحب من هو على خلاف ما هم عليه من الخيانة والكُفران ويدفعُ شرهم عنهم.
قوله: (ويغمطونها)، النهاية: الغمط، الاستهانةُ والاستحقار، وهو مثلُ الغمص.
قوله: (ومن قرأ: (يُدَافِعُ))، كلهم سوى ابن كثير وأبي عمرو.
قوله: ((أُذِنَ) و (يُقَاتَلُونَ) قُرئا على لفظ المبنى للفاعل)، نافعٌ وعاصمٌ وأبو عمرو:
أذن لهم في القتال، فحذف المأذون فيه لدلالة (يقاتلون) عليه.
(بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أى بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم:"اصبروا فإنى لم أومر بالقتال"، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. والأخبار بكونه قادرا على نصرهم عدة منه بالنصر واردة على سنن كلام الجبابرة، وما مرّ من دفعه عن الذين آمنوا مؤذن بمثل هذه العدة أيضا. (أَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(أُذِنَ لِلَّذِينَ) بضم الهمزة، والباقون: بفتحها. نافعٌ وابن عامر وحفصٌ: (يُقَاتَلُونَ) بفتح التاء، والباقون: بكسرها.
قوله: (وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً)، في هذا إشعارٌ بأن قوله:(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا) وما بعدها متصلٌ بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، والآيات الواردة في بيان شعائر الحج ومناسكه تفصيلٌ وتوضيحٌ لقوله:(الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) على سبيل الاستطراد مزيداً لتهجين فعلهم وتصوير قُبحهم؛ لأنه كلما ازداد ما صُدَّ عنه تعظيماً يزدادُ قبحُ الصدِّ والمنعُ، وبه يتقوى مذهب الشافعي وهو أن المراد بالتسوية في قوله:(سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) التسوية في أعمال الحج ومناسكه.
قوله: (عدةٌ منه بالنصر، واردةٌ على سنن كلام الجبابرة)، أي: عدةٌ منه بالنصر جازمةٌ قاطعةٌ؛ لأنه من ديدنهم وأوضاع أمرهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها أن يقولوا: عسى ولعل، ونحوهما من الكلمات، أو يُخيلوا إخالةً أو يُظفر منهم
يَقُولُوا) في محل الجرّ على الإبدال من (حَقٍّ) أى بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ)] المائدة: 59 [.
"دفع الله بعض الناس ببعض": إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعا، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالرمزة، فإذا عُثرَ على شيءٍ من ذلك لم يبق للطالب ما عندهم شكٌ في النجاح والفوز بالمطلوب، قاله في أول البقرة، فعلى هذا أصلُ الكلام: قاتلوا الذين ظلموكم وإني أنصركم البتة، فعدل إلى لفظ العظمة والكبرياء بقوله:(أُذِنَ) لما عُلم أن الآذن في مثل هذا الخطاب من هو؟ وقيل في جانب المظلوم: (لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) كأنه لا يريدُ المخاطبين، يعني: لمن هذا شأنه وعادتُه، ثم قيل:(إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) إن شاء نصرهم، وعسى أن يفعله، ولا يُعدمُ من كرمه ولطفه ذلك، وعلى هذا قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)؛ لعدم التصريح وإخراج الكلام على التعريض وإليه الإشارة بقوله: "وما مر من دفعه عن الذين آمنا يؤذن بمثل هذه العدة".
قوله: (ومثله: (هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ)، [المائدة: 59] يريدُ أنه من باب قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلولٌ من قراع الكتائب
قوله: (أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، عطف على قوله:"لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة"، فعلى الأول: المرادُ بالمشركين: العمومُ، كما أن المراد بالمسلمين في قوله:"وتسليطهُ المسلمين" للتعميم.
المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين. وقرئ: "دفاع". و"لهدمت": بالتخفيف. وسميت الكنيسة «صلاة» لأنه يصلى فيها. وقيل: هي كلمة معرّبة، أصلها بالعبرانية: صلوثا (مَنْ يَنْصُرُهُ) أى ينصر دينه وأولياءه: هو إخبار من الله عز وجل بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضى الله عنهم إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين. وعن عثمان رضى الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء. يريد: أنّ الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين، لأنّ الله لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "دفاعُ")، قرأها نافعٌ وابن كثير.
قوله: (يريد أن الله أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا)، وذلك أن قوله تعالى:(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) الآية بدلٌ من (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)، وهو من قوله:(لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ)، وكان ذلك وارداً على سنن الوعد للمهاجرين الذين أُخرجا من ديارهم بغير حق بما سيكون من نصرهم على من ظلمهم، فيكون تمكنهم في الأرض الذي هو سبب تمدحهم بقوله:(أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ) ثناء قبل بلاء، وأما إتيانُ "إنْ" الشرطية في قوله:(إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) فمن قبيل عسى ولعل من أمثال الجبابرة في المواعيد كما مر آنفاً، الله أعلم.
قوله: (فيه دليلٌ على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم)، يعني: أدمج هذا المعنى في إبدال (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) بقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ) الآية. قال الإمامُ: إن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم في الأرض فإنهم يأتون بالأمور الأربعة؛ وهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد ثبت ذلك في الأئمة الأربعة. فإذا ثبت ذلك، وجب أن يكونوا على الحق، ولا يجوزُ حملُ الآية على أمير المؤمنين عليٍّ وحده كرم الله وجهه؛ لأن الآية دالةٌ على الجمع.
يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين، لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وعن الحسن: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل (الَّذِينَ) منصوب بدل من قوله (من ينصره). والظاهر أنه مجرور، تابع (للذين أخرجوا)(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أى مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم.
[(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ* وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)].
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له: لست بأوحدى في التكذيب، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم، وكفاك بهم أسوة.
فإن قلت: لم قيل (وَكُذِّبَ مُوسى) ولم يقل: "قوم موسى"؟ قلت: لأنّ موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والطُّلقاء)، النهاية: همُ الذين خلَّى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهُ: طليقٌ، فعيلٌ بمعنى مفعول، وهو الأسيرُ إذا أطلق سبيله، ومنه الحديث:"الطلقاءُ من قريش، والعتقاءُ من ثقيف"، ميز القُرشيَّ حيث هو أكرم من ثقيفٍ.
قوله: (وكُذِّبَ موسى أيضاً مع وضوح آياته)، يريد أنه تعالى ما نظم موسى عليه السلام في سلك ما تقدم من ذكر الأنبياء عليهم السلام وتكذيبه من بل كرر له الفعل وأتى
النكير: بمعنى الإنكار والتغيير، حيث أبدلهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا.
[(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) 45].
كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو «عرش» و"الخاوي": الساقط، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل.
وقوله (عَلى عُرُوشِها) لا يخلو من أن يتعلق ب (خاوية)، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أى خرّت سقوفها على الأرض، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
به مجهولاً؛ ليؤذن باستقلاله وعظم شأنه، والمقصود حصول تكذيب مثله مع جلالته فكيف بمن دونه؟
قوله: (النكيرُ: بمعنى الإنكار والتغيير)، الأساس: وقد نكرالأمر نكارةً: صار منكراً، ونكرتُه فتنكر: غيرته، وتنكر لي فلانٌ: لقيني لقاء بشعاً، وعن أبي سفيان: أن محمداً لم يُناكر أحداً إلا كانت معه الأهوالُ، وأصابهم من الدهر نكراءُ: شدة.
قوله: (أو أنها ساقطة أو خاليةٌ مع بقاء عروشها وسلامتها)، قال صاحب "التقريب": وفي سلامتها على تفسيرها بساقطةٍ نظرٌ، فلعل لفظة الساقطة سهوٌ من الناسخ وتفسرُ بخالية لا غيرُ، والمرادُ: سقوط الجدران عليها.
وقلتُ: لا يرد إذا عرف وجه التقسيم؛ لأن بناء التقسيم على أن "الخاوي" بمعنى الساقط، أو بمعنى الخالي، و (عَلَى عُرُوشِهَا) إما ظرفٌ لغوٌ أو مستقرٌ، فقوله:"أو خاليةٌ مع بقاء عروشها" عطفٌ على "ساقطةٌ على سقوفها"، وقوله:"أو أنها ساقطة" عطفٌ على"أنها ساقطةٌ على سقوفها" أيضاً، المعنى: لا يخلو (عَلَى عُرُوشِهَا) من أن يتعلق
أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قيل: هي خالية، وهي على عروشها أى قائمة مطلة على عروشها، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة.
فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب أعنى (وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بـ (خَاوِيَةٌ)، أو يكون خبراً بعد خبر، وعلى الأول لا تخلو (خَاوِيَةٌ) من أن تكون بمعنى ساقطة، أو خالية، وعلى أن تكون بمعنى ساقطةٍ لا يخلو: إما أن يُعتبر فيه معنى الاستعلاء، فهو المراد من قوله:"خرت سُقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف"، أو أن تُجعل خاليةٌ، أي: ساقطة كناية عن مطلق الخراب كما كنى بقوله: (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ)[الأعراف: 149] عن الندم مُطلقاً، وهو المرادُ من قوله:"أو أنها ساقطةٌ"، فعلى هذا "عروشُها" متعلقٌ بها تعلق الخالية، كأنه قيل: وهي خربةٌ مع عروشها، وعلى الثاني أن يكون خبراً بعد خبر:(خَاوِيَةٌ) إما بمعنى: ساقطةٌ أو خالية، فاعتبر معنى الثاني بقوله:"كأنه قيل: هي خاليةٌ وهي على عروشها" دون الأول لما عُلمَ من قوله: "خرتْ سُقوفُها على الأرض" هذا المعنى، فاندفع بقولنا:"أو خاليةٌ مع بقاء عروشها" عطفٌ على "ساقطةٌ على سقوفها" النظرُ الذي أورده صاحبُ "التقريب".
قال القاضي: والجملةُ - أي: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) - معطوفةٌ على (أَهْلَكْنَاهَا) لا على (وَهِيَ ظَالِمَةٌ)؛ فإنها حالٌ، والإهلاكُ ليس حال خرابها فلا محل لها إن نصبت (فَكَأَيِّنْ) بمقدرٍ يفسره (أَهْلَكْنَاهَا)، وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفعُ، وكذا عن أبي البقاء.
قوله: (مُطلةٌ على عروشها)، بالطاء غير المعجمة، وهي مُعدى بـ "على"، أي: أوفى عليه بطلله، أي: شخصه. و"أظل" بالظاء المعجمة مُعدى بنفسه. وفي الحديث: "قد أظلكُم شهرٌ عظيم".
قلت: الأولى في محل النصب على الحال، والثانية لا محلّ لها لأنها معطوفة على (أهلكناها)، وهذا الفعل ليس له محل. قرأ الحسن:"معطلة"، من أعطله بمعنى عطله. ومعنى المعطلة: أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء، إلا أنها عطلت، أى: تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. و"المشيد": المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى: كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة "معطلة" عليه. وفي هذا دليل على أنّ (عَلى عُرُوشِها) بمعنى «مع» أوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذا الفعل ليس له محل)، قال بعضهم: لأنه استئنافٌ تقديره: أهلكنا كثيراً من القُرى أهلكناها إضماراً على شريطة التفسير، هذا إذا كان "كأين" منصوبَ المحل، فأما إذا كان مرفوع المحل على الابتداء، فـ (أَهْلَكْنَاهَا) في محل الجر، لأنها صفة (قَرْيَةٍ)، وهذه الجملة أيضاً؛ لأنها معطوفةٌ على تلك، كما ذكر في المتن.
قوله: (و"المشيد": المجصصُ أو المرفوعُ البُنيان)، قال الزجاجُ: أكثر ما جاء في (مُشَيَّدَ) في التفسير: مجصص، والشيد: الجص، والكلسُ أيضاً: شيد، وقيل: مشيد: محصنٌ مرتفعٌ في سُمكه، والمشيد: إذا قيل: مجصصٌ فهو مرتفعٌ في قدره وإن لم يرتفع في سمكه، وأصلُ الشيد: الجصُّ والنورةُ، وكل ما بُني بهما أو بأحدهما فهو مشيد. يعني: إذا قيل للبناء المرتفع: مشيد، كان كنايةً.
قوله: (وفي هذا دليلٌ على أن (عَلَى عُرُوشِهَا) بمعنى "مع" أوجهُ)، يعني: تفسيرنا قوله: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) خالية مع بقاء عروشها وسلامتها أولى من تفسيرنا أنها ساقطةٌ؛ ليناسب قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)؛ لأن المراد: أخليناه عن ساكنيه
روي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به. ونجاهم الله من العذاب، وهي بحضر موت. وإنما سميت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات، وثمة بلدة عند البئر اسمها «حاضوراء» بناها قوم صالح، وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس، وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل الله إليهم حنظلة ابن صفوان نبيا فقتلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرّب قصورهم.
[(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) 46].
يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر، ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا. وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ "فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ" بالياء، أي: يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحى (فَإِنَّها) الضمير ضمير الشأن والقصة، يجيء مذكرا ومؤنثا وفي قراءة ابن مسعود:"فإنه". ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره (الْأَبْصارُ) وفي (تعمى) ضمير راجع إليه. والمعنى: أنّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنها باقيةٌ. قال أبو البقاء: (وَبِئْرٍ) معطوفة على (قَرْيَةٍ).
قوله: (حضرموت) المغرب: هي بلدةٌ صغيرةٌ في شرقي عدن.
قوله: (وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك، ولكن لم يعتبروا)، معنى: الفاء في (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) يقتضي معطوفاً عليه وهو إما الكلام السابق، والهمزةُ دخلت بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار، أي: كأين من قرية أهكلناها فهي ظالمةٌ فلم يسيروا في الأرض فيعتبروا. وإليه الإشارة بقوله: "ولن لم يعتبروا فجُعلوا كأن لم يسافروا"، أو الفاءُ عطفٌ على مُقدر، والهمزةُ على أصلها في صدر الكلام، أي: أتقاعدوا في الأرض فلم يسيروا فيها ليعتبروا.
أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإنما العمى بقلوبهم. أولا يعتدّ بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب.
فإن قلت: أى فائدة في ذكر الصدور؟ قلت: الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول:"ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك"، فقولك «الذي بين فكيك» تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا منى، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.
[(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) 47 - 48].
أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل أو الآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به؟ كأنهم يجوّزون الفوت، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (احتاج هذا التصوير على زيادة تعيين، وفضل تعريف)، قال الزجاجُ: جرى هذا على التوكيد كما في قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)[آل عمران: 167]، وقوله تعالى:(وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)[الأنعام: 38]، وقلتُ: التوكيدُ في (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) لتقرير معنى الحقيقة، وأن المراد بالطير: المتعارفُ، وفي (تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) لتقرير معنى المجاز، وأن العمى مكانه القلبُ البتة، وإليه الإشارة بقوله:"فلما أريد إثباتُ ما هو خلافُ المعتقد، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين".
قوله: (وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخُلفُ)، أي: إنما يجوزُ الفوتُ على من
والله عز وعلا لا يخلف الميعاد وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين، وهو سبحانه حليم لا يعجل، ومن حلمه ووقاره واستقصاره المدد الطوال أنّ يوما واحدا عنده كألف سنة «1» عندكم. وقيل: معناه كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم، لأنّ أيام الشدائد مستطالة. أو كأن ذلك اليوم الواحد لشدّة عذابه كألف سنة من سنى العذاب. وقيل: ولن يخلف الله وعده في النظرة والإمهال. وقرئ: (تعدون)، بالتاء والياء، ثم قال: وكم من أهل قرية كانوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون في ميعاده الخلف، ومنه قولهم: إنما يعجلُ من يخشى الفوت.
قوله: (ومن حِلمه ووقاره)، الانتصاف: الوقارُ يفهم منه لغةً: سكون الأعضاء وطمأنينتها عند المزعجات، ولا يجوز إطلاقه على الله كالأناة التؤدة، وأما قوله تعالى:(مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً)[نوح: 13] فهو مفسرٌ بالعظمة، فليس من هذا.
وقلتُ: وهذا مبنيٌ على أن أسماء الله توقيفيةٌ، وأنه لا يجوز أن يُستعمل الوقار إلا في العظمة؛ لما ورد، وإلا فلا يجوز ذلك أيضاً.
قوله: (أن يوماً واحداً عنده كألف سنة عندكم)، يعني: قوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) إما محمولٌ على القصر، وهو إنما يكون بالنسبة إلى الله تعالى، وهو المراد من قوله:"إن يوماً واحداً عنده كألف سنة عندكم"، فالمدة الطويلة عنده قصيرةٌ؛ لأنه لا يعجل كما تعجلون أو على الطول، وإنما يعجل من يخشى الفوت، وهو بالنسبة إلى العبد، فإن أيام الشدائد مستطالةٌ، فاليومُ القصيرُ عنده طويل، وهو المراد من قوله:"يوم واحدٌ من أيام عذابه كألف سنةٍ عندكم".
قوله: (وقرئ: (تَعُدُّونَ)، بالياء والتاء"، بالياء التحتاني: ابن كثير وحمزةُ الكسائي، والباقون: بالتاء.
مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إلىّ وإلى حكمى.
فإن قلت: لم كانت الأولى معطوفة بالفاء، وهذه بالواو؟ قلت: الأولى وقعت بدلا عن قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) وأمّا هذه فحكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعنى قوله (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الأولى وقعت بدلاً عن قوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين)، قال صاحب "الفرائد": أراد أن مجموع قوله: (فَكَأَيِّنْ) إلى آخره حكمه حكم (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) في أنه كان متعقباً لما تقدمه حتى لو لم يكن قوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) صلح أن يكون هذا في مكانه.
وقلتُ: الفرقُ بينهما أن قوله: (فَكَأَيِّنْ)، إلى آخره، متعقبٌ بجملة ما تقدمه؛ لأن إهلاك الجماعة المذكورين من قوله:(نُوحٍ وَعَادٌ) إلى قوله: (وَكُذِّبَ مُوسَى) إهلاك كثير، فمعنى "كأين إلى آخره من لوازم ما تقدم فكان متعقباً له، فوجب أن يكون بالفاء بخلاف قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا) إلى آخره؛ لأن ما قبله لم يستلزمه، فيجب أن يكون بالواو، وليفيد اجتماعهما في الحصول. تم كلامُ صاحب "الفرائد".
وقلتُ: "ثم" في قوله: (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) في الآية السابقة لعطفِ (أَخَذْتُهُمْ) على (أَمْلَيْتُ)، وكلاهما مسببان عن تكذيب القوم الرسل، والفاء في (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) للعقيب لا غير، فإنه عقب قوله:(أَخَذْتُهُمْ) بما يُستحضر للسامع مما يتعجب له من الاستفهام عن حال تلك الأخذة، وهو أيضاً منهم، فعقب بقوله:(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية ليكشفه كشفاً تاماً، أو يبدل منه إيضاحاً كما قال، وأما قوله:(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) بالواو فمنسوقةٌ على قوله: (لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ)، وقوله تعالى:(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ)، والمعنى: كيف يستعجلونك بالعذاب والحالُ أنه لابد أن يصيبهم ما وعد
[(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)].
يقال: سعيت في أمر فلان، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه. وعاجزه: سابقه، لأنّ كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ربُّك، وإن ذلك عن قريب، أو أن الموعود شديدٌ مُرُّ المذاق، وأن سنة الله في الإنظار ثم الاستئصال جاريةٌ في الأمم الخالية، فماذا يستعجلُ منها المجرمون؟
هذا، وإن المصنف رحمه الله تعالى ما ذهب إلى الحال، بل إلى العطف على إنكار العلم بوجود الجمل الأربع وحصولها، أي: أخبر عن استعجالهم العذاب، وعن أن الله تعالى لا يُخلفُ وعده، وعن أنه حليمٌ لا يعجل، وعن أن لهم أسوة بالأمم السالفة الظالمة إذا لم يعتبروا بها، ثم استدعى الإنكار من السامع على من يجمع في علمه ذلك كله، وإليه الإشارة بقوله:"كأنهم يجوزون الفوت" إلى آخره، ويجوز أن يكون (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) معترضاً بين الحال وعاملها.
قوله: (وعاجزه: سابقه)، الأساس: طلبته فأعجز وعاجز: إذا سبق فلم يُدرك.
الراغب: عجزُ الإنسان: مؤخره، وبه شبه مؤخر غيره، قال تعالى:(كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ)[القمر: 20]، والعجز أصله: التأخر عن الشيء، وحصوله عند عجزِ الأمر، أي: مؤخره كما ذُكر في الدبر، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة، قال تعالى:(أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ)، وأعجزت فلاناً، وعجزتُه، وعاجزتُه، قال تعالى:(وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)[العنكبوت: 22]، (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) [سبأ: 5]، وقرئ:"معجزين"، فـ (مُعَاجِزِينَ). قبل: معناه: ظاهرين، ومُقدرين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم حسبوا أن لا بعث ولا نُشور، فيكون ثوابٌ وعقابٌ، وهذا في قوله:(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا)[العنكبوت: 4]، ومعجزين: ينسبون من تبع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العجز، وذلك نحو: جهلتُه، وقيل: يعني: مثبطين، أي: مثبطين الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله
واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه. والمعنى: سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها، حيث سموها: سحرا وشعرا وأساطير، ومن تثبيط الناس
عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم.
فإن قلت: كأن القياس أن يقال: إنما أنا لكم بشير ونذير، لذكر الفريقين بعده. قلت: الحديث مسوق إلى المشركين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[الأعراف: 45] والعجوزُ سُميت لعجزها عن كثير من الأمور.
قوله: (سابقين)، هو حال من فاعل (سَعَوْا) في معناها، على أن (مُعَاجِزِينَ): مُغالبينَ معاندين؛ لأن المغالبة حينئذٍ للمبالغة، ولهذا قال:"سموها سحراً وشعراً وأساطير، وثبطوا الناس عنها"، وقوله:"أو مُسابقين" على معناها: ظانين مقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم، فالمبالغة على حقيقتها. قال محي السُّنة: قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: معجزين، بالتشديد، أي: مثبطين الناس عن الإيمان، والباقون: معاجزين بالألف، أي: معاندين مشاقين. وقال قتادة: ظانين مقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نُشور ولا جنة ولا نار. وقيل: معاجزين، يريد كل واحدٍ أن يُظهر عجز صاحبه.
قوله: (كان القياس أن يُقال: إنما أنا لكم بشيرٌ ونذير)، لأن قوله: يا أيها الناسُ، شاملٌ للمشركين والمؤمنين، على أنه فصل بقوله:(فَالَّذِينَ آمَنُوا)، (وَالَّذِينَ سَعَوْا) ليبشر المؤمنين، ويُنذر الكافرين.
قوله: (الحديث مسوقٌ إلى المشركين)، وذلك أنه تعالى لما قال:(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) وبين كيفية ظُلمهم بقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)، وبقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ)، وبقوله:(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) أمر نبيه صلواتُ الله عليه بأنْ يُنذرهم العذاب بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) إلزاماً للحجة، وإزاحةً للعلة، ثُم شرع في مقاتلتهم، ولما كان الإحسان إلى المؤمنين مما يغمهم ويغيظهم، كان داخلاً - بهذا الاعتبار - في معنى التخويف والإنذار.
وقلتُ: ويمكنُ أن يقال- والله أعلم-: إن الآية واردةٌ لبيان ما يترتبُ على الإنذار من انتفاع من قبله، وهلاك من رده، فكأنه قيل: أنذر يا محمدُ هؤلاء الكفرة وبالغ فيه، فمن قبل منك وآمن فله الثواب، ومن دام على ما كان في إبطالٍ ما جئت به وسعى فيه فقد أديتَ حقك فقاتلهم ليُعذبهم الله تعالى في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالجحيم، فلا يكونُ ذكرُ المؤمنين لاغتمامهم. ويعضد هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن مثلي ومثلُ ما بعثني الله به كمثل رجلٍ أتى قومه فقال يا قوم، إني رأيتُ الجيش بعيني، وأنا النذيرُ العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفةٌ من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفةٌ منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثلُ من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق".
وقريبٌ من هذا المعنى ما ذكره الإمام وقال: نه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده ما يكون منهم من استعجال العذاب على سبيل التهكم، وأردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم؛ لأن المنذر إنما يكون منذراً إذا قرن الوعد بالوعيد.
وقلتُ: ويؤيد هذا التقرير قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) يعني: ينبغي لك أن تعزم على الإنذار وتديمه، ولا يلحقك فتورٌ لا من قبل شياطين الإنس،
و (يا أيها الناس): نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ووصفوا بالاستعجال. وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا.
[(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)].
(مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قيل فكم الرسول منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» «1» . والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبىّ غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهم المشركون، من تكذيبهم واستهزائهم، ولا من قبل شياطين الجن وإلقائهم الوسوسة إليك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
النهاية: "أنا النذير العُريان"، خص العُريان؛ لأنه أغربُ وأشنعُ عند المبصر، وذلك أن ربيئة القوم وعينهم يكون على مكان عال، فإذا رأى العدو قد أقبل نزع ثوبه وألاح به لينذر قومه، ويبقى عرياناً.
قوله: (مئة ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفاً)، روينا في مسند الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، عن أبي أمامة، قال أبو ذر: قلتُ: يا رسول اله، كم وفاءُ عدة الأنبياء عليهم السلام؟ قال:"مئة ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفاً، الرسلُ من ذلك ثلاث مئة وخمسة عشر جما غفيراً".
قوله: (أن الرسول من الأنبياء عليهم السلام: من جمع إلى المعجزات الكتاب
…
والنبي
…
: من لم يُنزل عليه كتابٌ)، قال الإمامُ: الأولى أن من جاءه الملك ظاهراً، أو أمره بدعوة الخلقِ
والسبب في نزول هذه الآية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهو رسولٌ، ومن رأى في النوم أو أخبره رسولٌ بأنه نبيٌّ فإنه نبيّ، لما يلزمُ من ذلك القول: إن إسحاق ويعقوب وأيوب ويونس وهارون وسليمان عليهم السلام لم يكونوا رسلاً. وقال القاضي: الرسول: من بعثه الله بشريعةٍ مجددة، يدعو الناس إليها، والنبي يعمه، وهو: من بعثه الله لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام، فهو نبيٌّ.
قوله: (والسببُ في نزول هذه الآية) إلى آخره، قال القاضي: وهو مردودٌ عند المحققين، وإن صح فابتلاؤه ليتيمز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه. وقال الإمام الداعي إلى الله: هذه الرواية باطلةٌ موضوعة، ويدلُّ عليه الكتابُ والسنةُ والمعقول. أما الكتابُ فقوله تعالى:(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)[الحاقة: 44 - 46]، وقوله:(َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3 - 4]، فلو أنه صلى الله عليه وسلم قرأ عقيبها: تلك الغرانيق العُلى، لكان قد ظهر الخلفُ في الحال، وهذا لا يقوله مسلمٌ، وقوله تعالى:(كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)[الفرقان: 32] وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى)[الأعلى: 6].
وأما السنة فما رُوي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة قال: إنها من وضع الزنادقة، وصنف فيه كتاباً. وقال الإمامُ أبو بكرٍ البيهقيُّ: هذه القصة غيرُ ثابتةٍ من جهة النقل، ثم أخذ يتكلمُ في أن رُواة هذه القصة مطعونون، وقد روى البخاري في "صحيحه":"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة (وَالنَّجْمِ) وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنسُ"، وليس فيه حديث الغرانيق. ورُوي هذا الحديث من طُرقٍ كثيرةٍ وليس فيها حديث الغرانيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلتُ: روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والدارمي والنسائي، عن ابن عباس وابن مسعود، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ (وَالنَّجْمِ) فسجد فيها وسجد من كان معه، غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو ترابٍ فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا".
وروى البخاري أيضاً والترمذي، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وتتبعتُ "جامع الأصول" أجمع، وأكثر "مسند الإمام أحمد"، وما عثرتُ على هذه الرواية من شيء. وأما محيي السنة فقد رواه في "المعالم" من غير طريق المحدثين، والله تعالى أعلم.
روى الشيخ محيي الدين في "شرح صحيح مسلم" عن القاضي عياض: أنه قال: ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب سجدة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين في "النجم" هو ما جرى على لسانه صلى الله لعيه وسلم من الثناء على الأصنام: فباطلٌ لا يصح فيه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل؛ لأن مدح إله غير الله كفرٌ، ولا يصحُّ نسبةُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقوله إلى الشيطان على لسانه، إذ لا يصحُّ تسليطُ الشيطان على ذلك.
وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب "قصص الأتقياء": الصواب: أن قوله تلك الغرانيق العُلى، من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأرقاء الدين؛ ليرتابُوا في صحة الدين القويم، وحضرةُ الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية، والله أعلم.
وأما المعقولُ فكثيرةٌ، منها: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان ولبطل قوله: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)[المائدة: 67]، فإن الزيادة في الوحي كالنقصان فيه، وقولُ من قال: إنه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان قومه أدخل هذه الكلمة من نفسه ثُم رجع عنها: مردودٌ لا يرغبُ فيه مسلمٌ، لما يلزمُ من الخيانة في الوحي، والعياذُ بالله تعالى منها. ومن قال: إنه سهوٌ وسبقٌ للسان، أيضاً كذلك، لزوال الوثوق، ولأن الساهي لا يقعُ منه مثلُ هذه الألفاظ المسموعة المطابقةٍ لألفاظ السورة. وقول القائل: إنه تكلمَ الشيطانُ بذلك، أيضاً مردودٌ؛ لاحتمال أمثاله في سائر كلامه، ولقوله تعالى:(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل: 99]. وإذا بطل هذا فنقول: التمني جاء على وجهين، أحدهما: تمني القلب، قال أبو مسلم: التمني: التقديرُ، وتمني: تفعل، من: منيتُ، ومني لك: قدر لك. وثانيهما: القراءة، قال تعالى:(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ)[البقرة: 78]، ولأن الأمي لا يعلمُ القرآن من المصحف، وإنما يعلمه قراءةً، قال حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلةٍ
…
وآخرها لاقى حمام المقادر
وهذا أيضاً فيه معنى التقدير، فإن التالي مقدرٌ للحروف يذكرها شيئاً فشيئاً. وإذا قُلنا: إن التمني بمعنى القراءة، فمعنى الآية: قرأ ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ويشتبه القارئ، دون ما رواه، وهذا هو الظاهر، لقوله:(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، وإذا قُلنا: إنه بمعنى تمني القلبِ، فالمرادُ: إذا أراد فعلاً تقرباً إلى الله تعالى ألقى
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به: تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمرّ به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «والنجم»] النجم: 1 [وهو في نادى قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)] النجم: 20 [: (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) التي تمناها، أى: وسوس إليه بما شيعها به، فسبق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيطانُ في فكره ما يخالفه فيرجعُ إلى الله تعالى في ذلك فيرفعُ اللهُ تعالى ذلك الغلط وتلك الوسوسة عن القلب، قال الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف: 201]، وقال تعالى:(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)[الأعراف: 200]، وقال تعالى:(وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)[البقرة: 214]، وقال تعالى:(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ)[يوسف: 110]. وروى صاحب "المطلع" عن جمهور مشايخه ما يقرب من هذه الكلمات كلها إلى آخرها.
وقال السجاوندي: كل نبي يتمنى إيمان قومه فيُلقي الشيطانُ في أمنيته بما يوسوس إلى النبي بالخطرات المزعجة عند تباطؤ القوم عن الإيمان، أو تأخر نصر الله، وإن ثبت تلك الغرانيق العُلى، منها الشفاعةُ ترتجى، على أنه خرج مخرج الكلام على زعمهم، أو على الإنكار.
قوله: (بما شيعها به)، أي: بالذي شيع الشيطان الأمنية به، أي: أتبعها به. يقال: حياكم الله وأشاعكم السلام، أي: جعله صاحباً وتابعاً، والباءُ: باء الآلة. الراغب: التمني تقدير شيء في النفس، وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن لا عن رؤية وبناء على أصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين وظن صار الكذبُ له أملك، فأكثر التمني تصورُ ما لا حقيقة له، قال تعالى:(أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى)[النجم: 24]، والأمنيةُ: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء. ولما كان الكذبُ: تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ، صار
لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لترتجى. وروى:"الغرانقة"، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه. وقيل: نبهه جبريل عليه السلام. أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء، زاد المنافقون به شكا وظلمة، والمؤمنون نورا وإيقانا. والمعنى: أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت، مكن الله الشيطان ليلقى في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك، إرادة امتحان من حولهم، والله سبحانه له أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التمني كالمبدأ للكذب فصح أن يُعبر عن الكذب بالتمني، وعلى ذلك ما رُوي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال:"ما تغنيتُ ولا تمنيتُ منذ أسلمتُ"، وقوله تعالى:(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ)[البقرة: 78] قال مجاهدٌ رضي الله عنه: معناه: إلا كذباً. وقال غيره: إلا تلاوة مجردة عن المعرفة من حيث إن التلاوة بلا معرفة معنى تجري عند صاحبها مجرى أمنيةٍ تمنتها النفسُ على التخمين، وقوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي: في تلاوته.
وقد تقدم أن التمني كما يكون عن تخمين وظن، فقد يكونُ عن رؤية وبناءٍ على أصل، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يبادر إلى ما نزل به الروح الأمين على قلبه حتى قيل له:(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)[طه: 114]، سمى تلاوته على ذلك تمنياً، ونبه أن للشيطان على مثله تسلطاً في أمنيته، وذلك من حيث بين أن العجلة من الشيطان.
قوله: (تلك الغرانيقُ)، النهاية: الغرانيقُ هاهنا الأصنام، وهي في الأصل: الذكور من طير الماء، واحدها غرنوقٌ وغرنيقٌ، وسمي به لبياضه، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع.
يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن، ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. وقيل "تَمَنَّى": قرأ. وأنشد:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
…
تمنّى داود الزّبور على رسل
و"أمنيته": قراءته. وقيل: "تلك الغرانيق": إشارة إلى الملائكة، أى: هم الشفعاء لا الأصنام (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى يذهب به ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ) أى يثبتها.
[(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)].
والذين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون والشاكون (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المشركون المكذبون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يريد: وإن هؤلاء المنافقين والمشركين. وأصله: "وإنهم"، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على رسلِ)، النهاية: كان في كلامه ترسيلٌ، أي: ترتيلٌ، يقالُ: ترسل الرجلُ في كلامه ومشيه، إذا لم يعجل، ومنه حديث عمر رضي الله عنه:"إذا أذنت فترسل"، أي: تأنَّ ولا تعجل.
قوله: (وأصله: "وإنهم"، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاءً عليهم بالظلم)، أي: إن المنافقين بتلك الفتنة واضعون الشيء في غير موضعه، وهم فيه في شقاق بعيد، وكذلك (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، أصله: وإن الله لهاديهم، فقوبل
(أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أى ليعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء: هو الحق من ربك والحكمة (وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) إِلى أن يتأوّلوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة والقوانين الممهدة، حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ولا تزلّ أقدامهم. وقرئ:"لهاد الذين آمنوا"، بالتنوين.
[(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَاتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)].
الضمير في (مِرْيَةٍ مِنْهُ) للقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. "اليوم العقيم": يوم بدر، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الظَّالِمِينَ) بـ (الَّذِينَ آمَنُوا)، وقوله:(لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) بقوله: (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
قوله: (الضمير في (مِرْيَةٍ مِنْهُ) للقرآن، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون لـ (مَا يُلْقِي)، وقوله:(الَّذِينَ كَفَرُوا) وُضع موضع المضمر، أي: لا يزالون في مريةٍ وهم الشاكون الذين في قولهم مرضٌ، بدليل قوله تعالى:(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون والشاكون.
قوله: (وإنما وُصف يوم الحرب بالعقيم)، إلى آخره، علل تفسير وصف اليوم بالعقيم على وجوه.
أحدها: أنه على الإسناد المجازي، أسند العقيم إلى اليوم، لكونه صفته، على نحو قوله تعالى:(يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً)[المزمل: 17]. أصله: يجعلُ الله الولدانَ في ذلك اليوم شيباً، فالمعنى: يومٌ يعقم الله النساء فيه، أي: يصرن ثكلى، فأسند "العقيم" إلى "اليوم" مبالغةً، كقولك: نهاره صائم، وليله قائم، ولما أن العقيم بمعنى ثكلى في هذا الوجه قيل:"كأنهن عقمٌ".
وثانيها: أنه من باب الاستعارة المكنية، فالمستعارُ له اليومُ، والمستعارُ منه المرأة، والجامعُ: فقدانُ النتيجة، وكما أن المرأة إذا فقدتِ الولدَ وُصفت بالعقم، أي: الثكل، كذلك اليوم إذا فُقِدَ فيه المحاربونَ يوصفُ بالعُقْم كأنهُ أمُّهم، ومثلُه قولهم: ابنُ اليوم، وأبناءُ
يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز. وقيل:
هو الذي لا خير فيه. يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا. وقيل: لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة عليهم السلام فيه. وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الزمان، وأبناءُ الحرب، والاستعارةُ واقعةٌ في اليوم بأن شبه اليوم بالمرأة في فقدان، مشتملةً تشبيهاً بليغاً، ثم توهم أن اليوم هي المرأة على سبيل التخييل، ثم أطلق اليوم الذي هو اسم المشبه، وأريد به اليوم المتخيل، والقرينة نسبةٌ العقيم إليه.
وثالثها: أنه من التبعية، فالمستعارُ منه ما في المرأة من الصفة التي تمنعُ من الحمل، والمستعارُ له ما في اليوم من عدما لخير، فشبه عدم الخير بمنع الحمل، ثم سرى من المصدر إلى الصفة المشبهة، كقول قوم شعيب عليه السلام:(إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود: 87]، فالاستعارةُ واقعةٌ في العقيم.
ورابعها: أن يُكنى بمجموع قوله: (يَوْمٍ عَقِيمٍ) عن شدته وفظاعته، كما يُقال: إن النساء بمثله عقيمٌ.
قال الحماسيُّ:
عقم النساءُ أن يلدن بمثله
…
إن النساء بمثله لعقيمُ
والضميرُ في "لا مثل له" و"أمره": للعذاب، وفي "فيه": لليوم.
الضحاك أنه يوم القيامة، وأن المراد بالساعة مقدّماته. ويجوز أن يراد بالساعة وبيوم عقيم: يوم القيامة، وكأنه قيل: حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها، فوضع (يَوْمٍ عَقِيمٍ) موضع الضمير.
[(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) 56 - 57].
فإن قلت: التنوين في (يَوْمَئِذٍ) عن أى جملة ينوب؟ قلت: تقديره: الملك يوم يؤمنون. أو يوم تزول مريتهم، لقوله (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ).
[(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) 58 - 59].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لقوله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمْ السَّاعَةُ)، يعني: دل على تقدير "يؤمنون" تارةً، وأخرى "تزول مريتهم": هذه الآية؛ لأن الصلة مشتملةٌ على الكفر وعلى المرية، فإذا جُعل المُغيا ما دل عليه الأول، قُدرَ "يؤمنون"، وإذا جُعل ما دل عليه الثاني قُدر:"تزولُ مريتهم".
قال القاضي: التنوين في (يَوْمَئِذٍ) ينوبُ عن الجملة التي دلت عليه الغاية، والضميرُ في (يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) يعُمُّ المؤمنين والكافرين؛ لتفصيله بقوله تعالى:(فَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية، وإدخالُ الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيهٌ على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضلٌ من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسببٌ من أعمالهم، ولذلك قال:(لَهُمْ عَذَابٌ) ولم يقل: فأولئك في عذابٍ، كما قال:(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
ما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد، وأن يعطى من مات منهم مثل ما يعطى من قتل تفضلا منه وإحسانا. والله عليهم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم.
(حَلِيمٌ) عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه. روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم قالوا: يا نبى الله، هؤلاء قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
[(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) 60].
تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث إنه سبب وذاك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تسميةُ الابتداء بالجزاء)، المراد بالابتداء قوله:(عُوقِبَ بِهِ)، وبالتسمية: تسميته عقاباً؛ لأن ابتداء الفعل لا يسمى عقاباً؛ لأن العقاب من العقب، وهو أن يعقب الفعل الأول، ونحوه قولهم: كما تدين تُدان، كما تُجازي تُجازَى، أي: كما تفعلُ تُجازي.
قال الزجاجُ: الأولُ لم يكن عقوبةً، وإنما العقوبةُ: الجزاءُ، ولكنه سُمي عقوبةً؛ لأن الفعل الذي هو عقوبةٌ كان جزاء، فسمى الأول الذي جُوزي به عقوبةً؛ لاستواء الفعلين في جنس المكروه، كقوله تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)[الشورى: 40]، فالأول سيئة، والمجازاةُ عليها حسنةٌ، إلا أنها سميت سيئةً بأنها وقعت إساءة بالمفعول به؛ لأنه فعل به ما يسوؤه.
فإن قلت: كيف طابق ذكر "العفوّ الغفور" هذا الموضع؟ قلت: المعاقب مبعوث من جهة الله عز وجل على الإخلال بالعقاب، والعفو عن الجاني - على طريق التنزيه لا التحريم - ومندوب إليه، ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وملك سبيل التنزيه، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب، ولم ينظر في قوله تعالى (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)] الشورى: 40 [، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)] التقوى: 237 [، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43].
(فإنّ الله لعفو غفور)، أى: لا يلومه على ترك ما بعثه عليه، وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه. ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي، ويعرّض مع ذلك بما كان أولى به من العفو، ويلوّح به بذكر هاتين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المعاقِبُ مبعوثٌ)، بكسر القاف، أي: موصى بالعفو. الأساس: بعثهُ على الأمر، وتواصوا بالخير، وتباعثوا عليه، يعني: حمله الله تعالى على العفو، وندبه إليه، فحين ترك المندوب إليه كأنه مذنبٌ، لكنه تعالى لا يأخذه به؛ لأنه عفوٌّ غفور.
قوله: (فـ (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ))، جوابٌ لقوله:"فحين لم يؤثر ذلك"، وهذا يؤذنُ أن قوله:(إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) خبرُ "من عاقب"، وفي الكلام تقديمٌ وتأخير، أي: من عاقب بمثل ما عوقب به إن الله لعفوٌ غفور، أي: لا يلومه على ترك الأفضل، ثم إذا بُغي عليه أي: على المظلوم المعاقب في الكرة الثانية لينصرفه الله على الظالم.
قوله: (من إخلاله)، قيل: هو بيان "ما بعثه"، وقيل: هو متعلقٌ بـ"الثانية"؛ أي: أنه أخل بالعفو كرتين، فهذه الكرةُ هي الكرةُ الثانيةُ من إخلاله بالعفو، وليس بشيء، وقيل: هو متعلقٌ بقوله: لعفوٌ، أي: لعفوٌّ من إخلاله: ويجوزُ أن يكون بياناً لقوله: "ترك ما بعثه عليه" أي: لا يلومه على إخلاله بالعفو.
قوله: (ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي، ويُعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو)، أي: يكون (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ) متصلاً بقوله: (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) على بيان
الصفتين. أو دلّ بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة. لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه.
[(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) 61].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموجب، وعلى هذا (لَيَنصُرَنَّهُ): خبرُ "مَنْ" كما قاله أبو البقاء وصاحبُ "الكشف"؛ فإنه تعالى لما قال: (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ)، اتجه لسائل أن يسأل: لماذا ينصره؟ قال: لأن الله لعفو غفور، وكان من الظاهر أن يقال: إن الله ينصر المظلومين، فعرض بهاتين الصفتين على سبيلا لكناية التلويحية؛ لأنه أشار إلى المطلوب من بُعد، يعني: أنه تعالى مع كمال قدرته وغلبة سلطانه لما كان متصفاً بهذين الوصفين، كان من الواجب على المعاقب مع عجزه التخلقُ بأخلاق الله تعالى من العفو عن الجاني، وإليه الإشارة بقوله:"يلوح به بذكر هاتين الصفتين".
قوله: (أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادرٌ)، هذا أيضاً، على أن يكون (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ) تعليلاً للموعد بالنصرة، كأنه قيل: لينصرنه الله؛ لأنه قادرٌ على النصرة فيعاقبُ الظالم. قال الإمام: نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن قتالهم، لحرمة الشهر، فأبوا فقاتلوهم فثبت المسلمون فنُصروا، فوقع في أنفسهم من القتال في الشهر الحرام، فأنزل الله الآية. فعلى هذا لا يردُ سؤالُ كيفية المطابقة، ويكونُ أوفق لتأليف النظم، وذلك أن لفظة (ذَلِكَ) فصلُ الخطاب، وقوله:(ومن عاقب) شروعٌ في قصةٍ أخرى لأولئك السادة بعد قوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا).
(ذلِكَ) أي: ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة أنه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجرى فيهما على أيدى عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه (سَمِيعٌ) لما يقولون (بَصِيرٌ) بما يفعلون.
فإن قلت: ما معنى إيلاج أحد الملوين في الآخر؟ قلت: تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك نيبوبة الشمس. وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها، كما يضيء السرب بالسراج ويظلم بفقده. وقيل: هو زيادته في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.
[(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) 62].
وقرئ (يَدْعُونَ) بالتاء والياء. وقرأ اليماني. "وأن ما يدعون"، بلفظ المبني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو بسبب أنه خالقُ الليل والنهار ومصرفهما)، فعلى الأول: الآيةُ عبارةٌ عن القدرة الكاملة، فحين عقب معنى النصرة صلُحت أن تكون علةً لحصولها، وعلى الثاني: عبارةٌ عن العلم الشامل، ولما عقب معنى البغي أوقعت علةً للانتصار من الظالم للمظلوم، ألا ترى كيف جمع الخلقَ مع التصريفِ ليستلزم العلم فيُراد به إثباتُ الانتصار، وإليه الإشارة بقوله:"لا يخفى عليه من الغبي والإنصاف". وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) على الأول: من باب التكميل، وعلى الثاني: من التتميم.
قوله: (الملوين)، الجوهري: الملوان: الليلُ والنهار، والواحد ملا مقصورٌ. والسربُ: بيتٌ في الأرض.
قوله: (قرئ: (يَدْعُونَ) بالياء والتاء)، بالتاء الفوقاني: نافعٌ وابن كثيرٍ وابن عامر، والباقون: بالياء.
للمفعول، والواو راجعة إلى «ما» لأنه في معنى الآلهة، أى: ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجرى فيهما وإدراك كل قول وفعل، بسبب أنه الله الحق الثابت إلهيته، وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا.
[(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) 63 - 64].
قرئ "مُخْضَرَّةً" أى ذات خضر، على مفعلة، كمبقلة ومسبعة. فإن قلت: هلا قيل: "فأصبحت"؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم علىّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت: فرحت وغدوت، لم يقع ذلك الموقع.
فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لو نُصب لأعطى ما هو عكسُ الغرض)، قال صاحب "التقريب": هو مثلُ قولك: ألم أكرمكَ فتشكُر، رفعه يثبت الشكر، ونصبه ينفيه؛ لأن النصب بتقدير "أنْ"، وهو علم الاستقبال فيجعله مترقباً، والرفعُ جزمٌ بإخباره. تلخيصه: أن الرفع جزمٌ بإثباته، والنصبُ ليس جزماً بإثباته، لا أنه جزم بنفيه. وفيه نظرٌ؛ لأن نفي الشكر من كونه جواباً للاستفهام؛ لأن المعنى: إن رأيت إنعامي شكرتُه.
وقال صاحبُ "الفرائد": لا وجه لما ذكره صاحب "الكشاف"، ولا يلزم المعنى الذي ذكر، بل يلزمُ من نصبه أن يكون مشاركاً لقوله:(أَلَمْ تَرَ) تابعاً له، ولم يكن تابعاً لـ (أَنزَلَ) ويكون مع ناصبه مصدراً معطوفاً على المصدر الذي تضمنه (أَلَمْ تَرَ) وهو الرؤية، والتقديرُ: ألم يكن لك رؤيةُ إنزال الماء من السماء فإصباح الأرضٍ مخضرةً، وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غيرُ مرادٍ من الآية، بل المرادُ أن يكون إصباحُ الأرض مخضرةً بإنزال الماء، فيكون حصول اخضرار الأرض تابعاً للإنزال.
وقلتُ: وينصره قول أبي البقاء: إنما رُفع-أي: (فَتُصْبِحُ) وإن كان قبله لفظُ الاستفهام لأمرين، أحدهما: أنه استفهامٌ بمعنى الخبر، أي: قد رأيت، فلا يكون له جوابٌ، والثاني: أن ما بعد الفاء ينتصب إذا كان المستفهم عنه سبباً له، ورؤيته لإنزال الماء لا توجبُ اخضرار الأرض، إنما يجب عن الماء.
وروى الزجاج عن سيبويه القراءة بالرفع لا غير، قال: سألت الخليل عن هذا فقال: هذا واجبٌ، ومعناه التنبيه، كأنه قال: ألم تسمعْ إنزالَ الماءِ من السماء ماءً، فكان كذا وكذا.
وقلتُ: فعلى هذا يمكن توجيه النصب بأن يقال: إن إيثار المستقبل في (فَتُصْبِحُ) لاستحضار تلك الحالة البديعة، وهي حياة الأرض الدالة على القدرة الباهرة، قال الله تعالى:(فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[الحج: 5]، وقال تعالى:(وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)[ق: 7 - 8]، كأنه قيل: تنبه لإنزالنا الماء لتتعجب منه على هذه الحالة البديعة والقدرة الباهرة، فيكون لك تبصرة وذكرى للإنابة والخضوع، وأن الله يبعث من في القبور، ومن ثم ذُيل بقوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، وجيء بقوله تعالى:(وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) تتميماً لإرادة الإنابة، فيكون (فَتُصْبِحُ) بمعنى: تتعجبُ من إصباحها.
لأنّ معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك:"ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر": إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
(لَطِيفٌ) واصل علمه أو فضله إلى كل شيء (خَبِيرٌ) بمصالح الخلق ومنافعهم.
[(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) 65 - 66].
(ما فِي الْأَرْضِ) من البهائم مذللة للركوب في البر، ومن المراكب جارية في البحر، وغير ذلك من سائر المسخرات. وقرئ "وَالْفُلْكَ" بالرفع على الابتداء (أَنْ تَقَعَ) كراهة أن تقع (إِلَّا) بمشيئته.
(أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا ترابا، ونطفة، وعلقة، ومضغة (لَكَفُورٌ) لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم.
[(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) 67].
هو نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى: لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك. أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في الدين وهم جهال لا علم عندهم وهم كفار خزاعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هو نهيٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو من باب قولك: لا أرينك هاهنا، قال ابن جني: معناهُ: لا تكن هناك فأراك، فالنهيُ في اللفظ لنفسه، أي: فاثبُت على نفسك وصحة دينك،
روي أن بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؛ يعنون الميتة.
وقال الزجاج: هو نهى له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، كما تقول: لا يضاربنك فلان، أي: لا تضاربه. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين.
(فِي الْأَمْرِ) في أمر الدين. وقيل: في أمر النسائك، وقرئ:"فلا ينزعنك"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا تلتفتْ إلى فساد أقوالهم، حتى إذا رأوك كذلك أمسكوا عنك، ولا يُنازعُنَّك، فلفظ النهي لهم، ومعناه له صلوات الله عليه.
هذا إذا أجريت المفاعلة على واحدٍ مبالغةً.
قوله: (وقال الزجاج)، والمذكور في كتابه: المعنى: أنه نهيٌ له صلواتُ الله عليه عن منازعتهم، كما تقولُ: لا يخاصمنك فلانٌ في هذا أبداً، وهذا جائزٌ في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين؛ لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا قلت: لا يجادلنك فلانٌ، فهو بمنزلة: لا تجادلنه، ولا يجوزُ هذا في قولك: لايضربنك فلانٌ، وأنت تريدُ: لا تضربه، ولكن لو قلت: لا يضاربنك فلانٌ، لكان كقولك: لا تُضاربنَّ فلاناً.
وقلتُ: الفرقُ بين التفسيرين هو أن الأول نهيٌ عن الكينونة على وصفٍ يكونُ سبباً لمنازعتهم، وهذا نهيٌ عن المنازعة نفسها، وكلاهما كنايتان.
قوله: (وقرئ: "فلا ينزعُنك")، قال ابن جني: وهي قراءةُ لاحق بن حُميد، ظاهره: فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم، فيكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره، نحو قوله تعالى:(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)[الروم: 60] فاثبت على دينك ولا يمل بك هواك إلى دين غيرك.
أي اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه. والمراد: زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله ولدينه. ومنه قوله (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ)] القصص: 87 [، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)] الأنعام: 14 [، ] يونس: 105 [، ] القصص: 87 [، (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ)] القصص: 86 [. وهيهات أن ترتع همة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ذلك الحمى، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج والإلهاب.
وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه، أى: غلبته، أى: لا يغلبنك في المنازعة.
فإن قلت: لم جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت من هذه؟ قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أنزعُه)، قال في "فاعلتُه ففعلتُه"، يقالُ: أفعلُه" إنما يُضمُّ إذا لم يكن عينُه أو لامُه حرفَ حلق، فإنه يتركُ على ما عليه الاستعمال. قيل: فيه نظرٌ؛ لأن المختار الضمُّ عند الأكثرين، وهذا المذكورُ منقولٌ عن الكسائي، وقد رده العلماء.
قال سيبويه: وليس في كل شيء يكونُ هذا، أي: باب المغالبة، ألا ترى أنك لا تقول: نازعني فنزعته، استثنى عنه بغلبته في "المفصل".
قوله: (هذه الآية)، وهي قوله تعالى:(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ)[الحج: 67]، ونظيرتها:(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)[الحج: 34]، وهو معطوفٌ على قوله تعالى:(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، ومن تتمة الكلام مع المؤمنين، أي: الأمر ذلك، المطلوبُ تعظيمُ شعائر الله وتقوى القلوب، وليس هذا مما يختص بكم، إذ كلُّ أمةٍ مخصوصٌ بنُسكٍ وعبادة، وهذه الآيةُ تقدمةُ نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ما يوجب منازعةَ القوم وتسليةٌ له، وتعظيمٌ لأمره، حيثُ جعلَ أمرهُ نُسكاً وديناً، يعني: شأنك وشأنُ أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهمُ
لأنّ تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الاى الواردة في أمر النسائك، فعطفت على أخواتها. وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.
[(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ)].
أي: وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع، فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين.
[(اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)].
(اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) خطاب من الله للمؤمنين والكافرين، أى: يفصل بينكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاةُ والسلامُ تركُ المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى النزاع، وملازمةُ الدعوة إلى التوحيد، أو: لكل أمةٍ من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقاً ودينا هم ناسكوه، فلا يُنازعنك هؤلاء المجادلةُ، سمى دأبهم نُسكاً لإيجابهم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه، تهكماً بهم، ومسلاةً لرسول الله صلى الله لعيه وسلم مما كان يلقى منهم.
وأما اتصاله بما سبق من الآيات، فإن قوله تعالى:(وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) يُوجب القلع عن إنذار القوم، والإياس منهم ومتاركتهم، والآيات المتخللةُ كالتأكيد لمعنى التسلية، فجيء بقوله تعالى:(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ) تحريضاً له صلوات الله عليه على التأسي بالأنبياء السابقة في مُتاركة القوم، والإمساك عن مجادلتهم بعد اليأس من إيمانهم، وينصره قوله تعالى:(اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فالربط على طريقة الاستئناف، وهو أقوى من الربط اللفظي، والذي يدور عليه قطبُ هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعاندتهم، والنعي عليهم بشدة شكيمتهم. ألا ترى كيف افتتحها بقوله:(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) وكررها وجعلها أصلاً للمعنى المهتم به، وكلما شرع في أمر كرَّ إليه تثبيتاً لقلبِ الرسول صلات الله عليه، ومسلاةً لصدره، فلا يقالُ إذن:"وأما هذه فواقعةٌ مع أباعد عن معناها".
بالثواب والعقاب ومسلاة للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم، وكيف يخفى عليه ما يعملون، ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض، وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه.
والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه (يَسِيرٌ) لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم.
[(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) 71].
وَيَعْبُدُونَ ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحى والسمع، ولا ألجأهم إليها علم ضروري، ولا حملهم عليها دليل عقلى (وَمَا) للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوّب مذهبهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومسلاةٌ)، هي مفعلةٌ من: سلوتُ عنه وسليتُ عنه. الجوهري: هو في سلوةٍ من العيش، أي: رغد.
قوله: (ومعلومٌ عند العلماء بالله أنه يعلمُ كل ما يحدث في السماوات والأرض)، واللام في "العلماءِ" للجنسِ، أي العلماء الكاملون، تعريضاً بالفلسفي، لكن قوله:"عالمُ بالذات" اعتزالٌ.
قوله: (ولا ألجأهم غليها علمٌ ضروريٌ، ولا حملهم عليها دليلٌ عقلي)، هذا معنى قوله:(مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)؛ لأن العلم بعد الدليل السمعي إما ضروريٌّ أو استدلالي، وفي اختصاص الدليل السمعي بالسلطان والتنزيل، والنوعين الأخيرين بالعلم دليلٌ واضحٌ على ذي بصيرةٍ نافذةٍ أن الدليل السمعيَّ هو الحجةُ القاطعة، وله القهر والغلبةُ، وعند ظهوره تضمحلُّ الآراءُ وتتلاشى الأقيسةُ، ومن عكس ضل الطريق، وحُرم التوفيق، وبقي متزلزلاً في ورطات الشُّبَه، وإن شئت فجربِ التنكير في (سُلْطَاناً) وفي (عِلْمٌ)، وقسمهما على قول الشاعر:
[(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 72].
(الْمُنْكَرَ) الفظيع من التجهم والبسور «2» . أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام. وقرئ "يعرف". و"المنكر".
والسطو: الوثب والبطش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
له حاجبٌ في كلِّ أمرٍ يشينُه
…
وليس له عن طالب العُرف حاجبُ
لتعلم الفرق.
ثم انظُرْ إلى معنى التتميم والتنزُّلِ في قوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) إذ المعنى: ليس لهم دليلٌ قاطعٌ على صحة ما هم فيه، ولا لهم أيضاً ما يصح عند الضرورة أن يُتمسك به، ولا لهم ذو شوكةٍ يقهر الناس بالتعدي والظُّلم الصرفِ على عبادة ما يدعون، ألا ترى إلى إقامة الظاهر في قوله:(لِلظَّالِمِينَ) كيف طابق المفصل لترى الدقائق التي تتحيرُ فيها العقولُ؟ والله يقولُ الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (من التهجم)، الجوهري: رجلٌ جهمُ الوجه أي: كالحُه، تقولُ منه: جهمتُ الرجُل وتجهمتُه، إذا كلحتَ في وجهه، وبسر الرجُلُ في وجهه بسُوراً أي: كلح. يقال: عبس وبسر.
قوله: (وقرئ: "يُعرَفُ" و"المنكر")، أي: مبنياًّ للمفعول، وهو ظاهرٌ.
وقرئ "النَّارُ" بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، كأنّ قائلا قال: ما هو؟ فقيل: النار، أى: هو النار. وبالنصب على الاختصاص. وبالجرّ على البدل من (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم. أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم.
(وَعَدَهَا اللَّهُ) استئناف كلام. ويحتمل أن تكون "النَّارُ" مبتدأ و (وَعَدَهَا) خبرا، وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار «قد» .
[(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) 73].
فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل، فكيف سماه مثلا؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب: "مثلاً"، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "النارُ" بالرَّفْع")، أي: في المشهورة، والنصبُ الجرُّ: شاذتان.
قوله: (بإضمار "قد")، متعلقٌ بقوله:"وأن تكون حالاً عنها". وقوله: "إذا نصبتها وجررتها" اعترض بين المتعلِّقِ والمتعلَّق، فالنصبُ على الاختصاص، والجرُّ على البدل من (بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ).
قوله: (تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة)، قال المصنف: المثلُ بمعنى المِثْل، تقولُ: زيدٌ مثلُ عمروٍ ومثله ومثيله، كما تقول: شبهه وشبهه وشبيهه، ثم قالوا على سبيل الاستعارة لجملةٍ من الكلام مستغربةٍ مستفصحةٍ متلقاةٍ بالرضا والقبول، أهل للتسيير والإرسال:
قرئ (تَدْعُونَ) بالتاء والياء، ويدعون: مبنيا للمفعول.
(لَنْ) أخت «لا» في نفى المستقبل، إلا أن «لن» تنفيه نفيا مؤكدا، وتأكيده هاهنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مثل؛ لأنهم جعلوا مضربها مثلاً لموردها، ثُم استعاروا هذا المستعار للقصةِ أو الحالةِ المستغربة لتماثلهما في الغرابة.
وقال القاضي: أو جُعل لله مثلٌ، أي: مثلٌ في استحقاق العبادة فاستمعوا له استماع تدبرٍ وتفكر. وقال صاحب "التيسير": جُعل لي مثلٌ، أي: شبهٌ، أي: جعل الكفارُ فاسمعوا حال ما شبهوه لي، لتقفوا على جهلهم.
وقال صاحب "الفرائد": المثلُ في الاصطلاح: شبيهٌ سائر، أي: كثيرٌ استعماله، والمراد من ذكره أن ما نحن له بمنزلة ما قيل فيه هذا القول، فإن صح ما ذكره صاحب "التيسير" وجب حملُ المثل على الحقيقة لا على المجاز.
وقلتُ: في جعل (ضُرِبَ) بمعنى: جُعِل هذا له، عدولٌ عن الظاهر، وخرمٌ للنظم الفائق؛ فإن قوله تعالى:(ضُرِبَ مَثَلٌ) مُجملٌ بُيِّنَ بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) وقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) تقريرٌ لما يُراد من الإبهام والتبيين، من توخى التفطن لما يُتلى بعد المجمل، وتطلب إلقاء الذهن، ويؤيده تصدرُ الآية بقوله:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، وتذييل المثل بقوله تعالى:(مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)، وتعليله بقوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). ولعمري، إن هذا التذييل يُنادي على من يدعي معرفة الله تعالى بمقياس عقله بالضلال البعيد، ويتلُو عليه:(فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)[الحج: 31].
قوله: (قرئ: (تَدْعُونَ) بالتاء والياء)، بالتاء الفوقاني: السبعةُ.
قوله: ("لن" أختُ "لا"، في نفي المستقبل، إلا أن "لن" تنفيه نفياً مؤكداً، وتأكيده هاهنا
الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم، كأنه قال: محال أن يخلقوا.
فإن قلت: ما محل (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قال: مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه حيث وصفوا بالإلهية - التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها - صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا.
وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا.
وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف، لأن الذباب حيوان، وهو جماد، وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدلالة على أن خلقَ الذباب منهم مستحيلٌ منافٍ لأحوالهم). قال صاحب "الفرائد": النفيُ المؤكدُ لا يدل على الامتناع لأنه لا يستلزمه، فيكون لازماً، واللازم لا يدل على الملزوم، ولكن يحتمله، ولما كان محتملاً له حُمل عليه لقرينة سوق الكلام؛ لأنه إن أمكن ذلك منهم لا يحصلُ الاستبعادُ المطلوبُ والمبالغةُ في تجهيلهم، واستركاك عقولهم؛ لأنهم مع اجتماعهم وتعاونهم لا يقدرون على أقلِّ ما خلقه الله تعالى وأذله وأحقره، وأدل من ذلك على عجزهم، وانتفاء قُدرتهم، أن هذا الحقير الذليل لو اختطف منهم شيئاً لم يقدروا على استخلاصه ولو اجتمعوا له.
وقلتُ: ها هوا لحق، إلا أن مقصود المصنف من إثبات الاستحالة تقريرُ مذهبه ومُدعاهُ في قوله تعالى:(لَنْ تَرَانِي)[الأعراف: 143]، وقد استشهد بهذه الآية على مطلوبه في ذلك المقام.
قوله: (وجدت الطالب أضعف)، أي: التماثيلُ أضعفُ من الذباب، وإنما قيل لها:
غالب وذاك مغلوب. وعن ابن عباس: أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.
] (ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) 74 [.
(ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أى ما عرفوه حق معرفته، حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها، ولا يؤهلوه للعبادة، ولا يتخذوه شريكا له: إن الله قادر غالب، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به؟
] (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) 75 - 76 [.
هذا ردّ لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطالبُ؛ لأنها طالبةٌ لما اختطفه الذبابُ منهم، فاللامُ في الطالب والمطلوب: للعهد التقديري، وهو معنى السين في (لا يَسْتَنقِذُوهُ).
قوله: (هذا ردُّ ما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر)، يعني: لما أبطل القول بالاشتراك ليثبت التوحيد، عقبه بإثبات الرسالة، فرد طعنهم في أن يكون الرسول من البشر، ويمكن أن يقال: إن الآيات نظيرُ قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ)[فاطر: 13 - 14] بولغ في وصف آلهتهم بالضعف وسُلب عنهم دفعُ المضرة مدى غاياته، ثم وُصف إله الحق بالقوة والعز، وإيصالالنفع إلى عابديه أقصى نهاياته؛ لأن منتهى مال المخلوقين أن يخصهم الله بكرامة الرسالة، فالآية الثانية مبينةٌ أو مقررةٌ بقوله تعالى:(مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) فوضع اسمه الأعظم الجامع لأسمائه الحسنى موضع الضمير تقريراً للقوة الكاملة والعزة القاهرة، أو هو بمنزلة اسم الإشارة المؤذِن بأن ما بعده جديرٌ
ضربين: ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه تعالى درّاك للمدركات، عالم بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، لا تخفى عليه منهم خافية. وإليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات، لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله.
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)].
للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات. وفي هذه السورة دلالات على ذلك، فمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمن قبله لاتصافه بتلك الصفات الفائقة، وفي قوله:"والذي هو بهذه الصفات لا يُسألُ عما يفعلُ، وليس لأحدٍ أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره" إيماءٌ إلى هذا المعنى، وبعد ما عم الخطاب بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ونبههم في ذلك المثل على أن تلك الآلهة لا تضر ولا تنفع وإنما النافع والضار هو الله تعالى، وهو الذي يستحق أن يُعبد ويستعان به، خص الخطاب بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) الآية تحقيقاً للعبودية.
قوله: (ثم ذكر أنه تعالى دراكٌ للمدركات)، يعني: لما ذكر أنه تعالى اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس علل ذلك بقوله: (أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
قوله: (ما مضى منها وما غبر)، الجوهري: غبر الشيء يغبرُ: بقي، والغابرُ: الباقي، والغابرُ: الماضي، وهو من الأضداد.
قوله: (للذكر شأنٌ ليس لغيره من الطاعات)، والمراد بالذكر: ما يُحتاجُ إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كالأقاصيص والوعد والوعيد، كذا فُسرَ في (ص). ولما كان إطلاقُ الذكر على الصلاة أبين من سائر الطاعات، قال:"الصلاة التي هي ذكرٌ خالص"، وهو المرادُ
ثم دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص، ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج والغزو، ثم عمّ بالحث على سائر الخيرات. وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وقيل: معنى (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله. وعن ابن عباس في قوله (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) صلة الأرحام ومكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه، غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم.
وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: "نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما" وعن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: "فضلت سورة الحج بسجدتين". وبذلك احتج الشافعي رضي الله عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، والصوم الحج والغزو دونها في معنى الذكر، ثنى بذكرها، وهو المراد من قوله:(وَاعْبُدُوا)، ثم أتى بما يشتملُ على جميع ما يُحتاجُ إليه في الدين من الخيرات آخراً، وهو المرادُ من قوله تعالى:(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ)، فهو كالترقي والتدرج من الأخص إلى الأعم.
قوله: (وقيل: معنى (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ): اقصدوا برُكوعكم وسجودكم وجه الله تعالى)، هو كقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)[النساء: 136].
قوله: (وعن عُقبة بن عامرٍ)، الحديث رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، وكذا الترمذيٌّ، وروى أبو داود وابن ماجه، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدةً في القرآن، منها ثلاثٌ في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان.
فرأى سجدتين في سورة الحج. وأبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة، لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.
[(وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)].
(وَجاهِدُوا) أمر بالغزو أو بمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع من بعض غزواته فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» .
(فِي اللَّهِ) أى في ذات الله ومن أجله. يقال: هو حق عالم، وجدّ عالم، أي: عالم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين، ثم قال: إن هذه السورة فُضِّلت بسجدتين.
قوله: (قرن السجود بالركوع فدل ذلك على أنها سجدةُ صلاةٍ لا سجدةُ تلاوة)، وقلتُ: لا شك أن الروع الذي هو: وضع الكفين على الركبتين مع الانحناء، لا يوجد إلا في الصلاة، ولا يراد به هاهنا الركوعُ الفذ، فيُحملُ على الصلاة مجازاً، وأما السجود الذي هو: وضعُ الجبهة على الأرض لله تعالى على سبيل التعظيم فهو غير مختص بالصلاة، فحمل الألو على الصلاة، والثاني على الحقيقة، لعموم الفائدة؛ أولى، ولأن العدول إلى المجاز من غير صارفٍ أو اعتبار نكتةٍ غير جائز، والمقارنة غير موجبةٍ لذلك، والأحاديث التي رويناها عن الأئمة موافقةٌ لمذهب الشافعي، فوجب المصير إليه.
حقا وجدا. ومنه (حَقَّ جِهادِهِ). فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس: حق الجهاد فيه. أو حق جهادكم فيه، كما قال (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ)؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله، صحت إضافته إليه. ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
ويوما شهدناه سليما وعامرا
(اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ولنصرته (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومنه: (حَقَّ جِهَادِهِ))، قال القاضي: معنى (حَقَّ جِهَادِهِ) جهاداً فيه حقاً خالصاً لوجهه، فعُكس وأضيف الحقُّ إلى الجهاد مبالغةً. يعني: أصلُ المعنى: وجاهدوا في الله جهاداً حقاً، فهو يفيد أن هناك جهاداً واجباً، والمطلوب منهم الإتيان به، فإذا عُكس وأضيف الصفةُ إلى الموصوف بعد الإضافة إلى الله تعالى أفاد إثبات جهادٍ مختص بالله تعالى، والمطلوب القيام بموجبه وشرائطه على وجه التام والكمال بقدر الوسع والطاقة. قال المصنف في قوله تعالى:(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[آل عمران، 102]: (حَقَّ تُقَاتِهِ) واجب تقواه: ما يحق منها، وهو القيام بالواجب، واجتنابُ المحارم، يريدُ: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاً". وفي قوله: "عالمٌ جداً" إيماءٌ إلى هذا المعنى أي: هو عالمٌ مبالغٌ في العلم جداً، ولا يترك من الجهد المستطاع منه شيئاً. فقوله: "أي: عالمٌ حقاً وجداً" تأويلٌ باعتبار المبالغة والتوكيد.
قوله: (ويوم شهدناهُ سليماً وعامراً)، تمامه:
قليلٌ سوى الطعن النهال نوافله
النهالُ: الرماحُ الأسلُ: الناهل؛ أي: تروى منه الرماحُ العطاش، نهل؛ أي: شرب، وهوالشرب الأول، نوافلٌ: فاعل قليل.
فتح باب التوبة للمجرمين، وفسح بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفسح بأنواع الرخص)، قال القاضي:(مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: ضيق بتكليف ما يشتدُّ القيامُ به عليكم، إشارةً إلى أنه لا مانع لهم ولا عذر لهم في تركه، أو على الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم لقوله:"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"، وقيل: ذلك بأن لهم من كل ذنبٍ مخرجاً، بأن رخص لهم في المضايق، وفتح باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه، والأروش والديات في حقوق العبادات.
وقلت- والله أعلم-: قد أسلفنا أن في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) ترقياً من الأخص إلى الأعم، والآية جامعةٌ لأنواع العبادات، فيكونُ عطف قوله:(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) عليها إرشاداً إلى السلوك والعروج إلى مقامات العارفين، والتحري للتخلص من الركون إلى الغير، وفي تعقيب قوله:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) إزاحةٌ للموانع من طلب الكمال، كما قال القاضي: لا مانع لهم عنه ولا عُذر لهم في تركه، يؤيده قوله تعالى:(هُوَ اجْتَبَاكُمْ)، وقوله:(هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا)، يعني: أن الله تعالى اصطفاكم، وهو مدحكم قديماً وحديثاً، وجعلكم في العقبى شهداء على الناس، وإليه ينتهي توليكم، فلا تحبوا سفساف الأمور وقد هيأ لكم معاليها، وخصكم لنفسه تعالى، وهو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.
فقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) استئنافٌ لبيان علة الأمر بالاجتهاد. روى السلميُّ عن ابن عطاءٍ: الاجتبائية أورثت المجاهدة، لا المجاهدة أورثت الاجتبائية، وكذا قوله
ونحوه قوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185] وأمّة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة المرحومة الموسومة بذلك في الكتب المتقدمة.
نصب الملة بمضمون ما تقدّمها. كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أو على الاختصاص، أى: أعنى بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد.
فإن قلت: لم يكن إِبْراهِيمَ أبا للأمّة كلها. قلت: هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته، لأنّ أمة الرسول في حكم أولاده.
(هُوَ) يرجع إلى الله تعالى: وقيل: إلى إبراهيم. ويشهد للقول الأوّل قراءة أبىّ بن كعب: "الله سماكم".
(مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) أى من قبل القرآن في سائر الكتب وفي القرآن، أى: فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أنه قد بلغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأنّ الرسل قد بلغتهم. وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) علةٌ لرفع الحرج عن هذه الأمة المرحومة كما ورد: "بعثتُ بالحنيفية السهلة السمحة"، وقال ابن عطاء: زينكم بزينة الخواص قبل أن أوجدكم، فقد سبق لكم من الله تعالى الخصوصية في الأزل.
قوله: (وقيل: إلى إبراهيم عليه السلام يدلُّ عليه قوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)[البقرة: 128].
قوله: (وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه) يريد: أن في تعقيب قوله تعالى:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحج أعطى من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) بالفاء على قوله: و (هُوَ اجْتَبَاكُمْ)، وقوله:(هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) سالفاً وآنفاً، لتختص شهادة الرسول عليكم، وتكونوا شهداء على الناس، إشعاراً بالعلية؛ لأن الأوصاف مناسبةٌ للحكم. هذا يدل على ترجيح القول بأن الضمير راجعٌ إلى الله تعالى. قال الإمامُ: إنه تعالى سماهم بهذا الاسم لهذا الغرض. المعنى: أنه تعالى بين في سائر الكتب المتقدمة، وفي القرآن أيضاً، فضلكم، وسماكم بهذا الاسم لأجلِ الشهادة المذكورة.
وقلتُ: ثم العلة والمعلول علةٌ للحكم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله كما مر، وقوله:(هُوَ مَوْلاكُمْ) كالتتميم لقرينتيه، وهما:(هُوَ اجْتَبَاكُمْ) و (هُوَ سَمَّاكُمْ)، أو يقالُ: في جعل الموجب: (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ): الدلالة على أن كونه تعالى مولى لنا يقتضي أمراً وراء ما ذُكر من الاجتباء والتسمية بالمسلمين، وهو تحقيق أمر العبودية، وصلاحية مقام الزلفى من الله تعالى: ومن ثم شرف الله تعالى حبيبه ليلة المعراج بتشريف العبودية وتحقيقها.
وهذه خاتمة شريفةٌ خُتمت بها السورة بحمد الله.
والله سبحانه وتعالى أعلمُ بالصواب
سورة المؤمنين
مكية، وهي مائة وتسع عشرة آية.
وثمان عشرة عند الكوفيين
بسم الله الرحمن الرحيم
[(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة المؤمنين
مكيةٌ، وهي مئةٌ وتسع عشرة آية
وثماني عشرة عند الكوفيين
بسم الله الرحمن الرحيم
رُوي عن المصنف: أنه قال: يجوز أن يكون (قَدْ أَفْلَحَ) جواب قسم محذوف، كقوله تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[الشمس: 9] في وقوعه جواب قسم. وفي بعض النسخ مكتوبٌ في المتن، وكذا عن صاحب "التقريب". وقيل: فيه نظرٌ؛ لأنه قال هناك: جوابُ القسم محذوفٌ تقديره: ليُدمْدِ مَنّ الله عليهم. وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[الشمس: 9] فكلامٌ تابعٌ لقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)[الشمس: 8] على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في
"قَدْ" نقيضة «لما» هي تثبت المتوقع و «لما» تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والفلاح: الظفر بالمراد. وقيل: البقاء في الخير. و (أَفْلَحَ) دخل في الفلاح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيء، وقلتُ: قد ذكرنا هناك أن الزجاج ذهب إلى أنه جواب القسم على تقدير اللام، والنظم يساعد عليه، وهو أبعدُ تعسفاً.
قوله: (وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم)، قال في قوله:(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[آل عمران: 101]، من يعتصم بالله فقد حصل له الهدى لا محالة، كما تقول: إذا جئت فلاناً، فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصلن فهو يخبر عنه حاصلاً، وإليه أشار بقوله:"فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه". فإن قلت: إن قد لتوقع مدخوله، فيفيد أن حصول الفلاح كان متوقعاً، وأما البشارة كانت متوقعة فلا. المفلحُ: هو الفائز بالبغية، والمؤمنون وإن فازوا بالهدى عاجلاً بالأعمال الصالحة الظفر على أعداء الدين لكن الفوز الحقيقي الذي هو الفلاح لا يثبت إلا في الآخرة، كما قال تعالى:(أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[البقرة: 5]، فكانوا متوقعين البشارة من جانب الله بذلك. فقيل لهم:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
قوله: (والفلاح: الظفرُ)، الراغب: قولهم في الأذان: حي على الفلاح، أي: على الظفر الذي جعله الله تعالى لنا بالصلاة.
قوله: (وقيل: البقاءُ في الخير)، قال الفراء قد هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين،
كأبشر: دخل في البشارة. ويقال: أفلحه: أصاره إلى الفلاح. وعليه قراءة طلحة بن مصرف: (أفلح)، على البناء للمفعول. وعنه:(أفلحوا)، على: أكلونى البراغيث. أو على الإبهام والتفسير. وعنه: (أفلح)، بضمة بغير واو، اجتزاء بها عنها، كقوله:
فلو أنّ الاطبّا كان حولي
فإن قلت: ما المؤمن؟ قلت: هو في اللغة المصدق. وأما في الشريعة فقد اختلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويجوزُ أن تكون تقريباً للماضي من الحال، ويكونُ المعنى في الآية: أن الفلاح قد حصل، وأنهم عليه في الحال.
قوله: (وعليه قراءةُ طلحة بن مُصرف: "أفُلِحَ" على البناء للمفعول)، قال الزجاجُ: معناه: قد أصيروا إلى الفلاح.
قوله: 0 فلو أن الأطبا كانُ حولي)، تمامُه في "المطلع":
وكان مع الأطباء الأساةُ
الأطِبا: على القصر للضرورة. أراد: كانوا حولي، فاكتفى بالضمة عن الواو. والآسي: الطبيبُ، والجمعُ أساةٌ، مثل: رام ورُماة.
قوله: (ما المؤمن؟ )، قيل: إنما لم يقُل: من المؤمنُ؟ لأن السؤال وقع عن الصفة. فإذا قلت: ما زيدٌ؟ فجوابه: فقيهٌ أو متكلم. والظاهر أن "ما": عامةٌ، والسؤال عن مفهوم المؤمن وموقع استعماله يدُلُّ عليه، قوله: إنهُ "في اللغة كذا، وفي الشريعة كذا، وإنهُ صفةُ مدح يستحقها البرُّ، ولا يستحقها الفاسق. الانتصاف: الأولُ مذهبُ الأشعرية، الثاني للمعتزلة، ولو لم يبنوا عليه أن الفاسق يُخلدُ في النار لكان البحث لفظياً، ونُقلَ عن عمرو بن
فيه على قولين، أحدهما: أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن. والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البرّ التقىّ دون الفاسق الشقىّ!
الخشوع في الصلاة: خشية القلب وإلباد البصر - عن قتادة: وهو إلزامه موضع السجود. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصلى رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء، أو يحدّث نفسه بشأن من شأن الدنيا. وقيل: هو جمع الهمة لها، والإعراض عما سواها. ومن الخشوع: أن يستعمل الآداب، فيتوقى كفّ الثوب، والعبث بجسده وثيابه، والالتفات، والتمطي، والتثاؤب، والتغميض،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عُبيدٍ وطبقتِه: أن الإيمان التصديقُ بالقلب وجميع فرائض الدين فعلاً وتركاً، وعن أبي الهذيل: أنه جميعُ فرائض الدين ونوافله. وحجتنا: أن الإيمان في اللغة: مجردُ التصديق. والأصل عدمُ النقل لقوله تعالى: (لِسَاناً عَرَبِيّاً)[الأحقاف: 12].
وقلتُ: قد روينا عن محيي السُّنةِ في "شرح السنة": أن العمال داخلةٌ في مسمى الإيمان، وأنه مذهبُ السلف الصالح رحمهم الله، عليه التعويل.
قوله: (وإلباد البصر)، يقال: ألبد بالمكان: إذا أقام به، النهاية: إلبادُ البصر: إلزامُه موضع السجود من الأرض.
قوله: (فيتوقى كف الثوب)، النهاية: في الحديث: "أُمرتُ أن لا أكف شعراً ولا ثوباً". يعني: في الصلاة، هو يحتملُ أن يكون بمعنى المنع، أي: لا أمنعها من الاسترسال حال السجود ليقعا على الأرض، وأن يكون بمعنى الجمع، أي: لا أجمعهما ولا أضمهما.
قوله: (والتمطي)، النهاية: في الحديث: "إذا مشت أمتي المطيطاء"، هي بالمد والقصر:
وتغطية الفم، والسدل، والفرقعة، والتشبيك، والاختصار، وتقليب الحصى. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال «لو خشع قلبه خشعت جوارحه «2»» ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهمّ زوجني الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت! تخطب وأنت تعبث. فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأنّ الصلاة دائرة بين المصلى والمصلى له، فالمصلى هو المنتفع بها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشيةٌ فيها تبخترٌ ومدُّ اليدين، يقالُ: مطوتُ ومططتُ بمعنى: مددتُ، وهنا المراد مد اليدين مع الظهر. والسدلُ: أن يلتحف ثوبه، ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد، وهو كذلك. وكانت اليهودُ تفعله، وهذا مطردٌ في القميص وغيره من الثياب. وقيل: أن يضع وسط الإزار على رأسه ويُرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعله على كتفيه.
وفرقعةُ الأصابع: غمزها حتى يُسمع لمفاصلها صوتٌ. وفي حديث مجاهد: كره أن يُفرقع الرجل أصابعه في الصلاة. الاختصار: قيل: هو من المخصرة، وهو: أن يأخذ بيده عصا يتكئ عليها، وقيل: أن يقرأ من آخر السورة آية أو آيتين، ولا يقرأ السورة بتمامها. كلها في "النهاية".
الفائق: الاختصارُ: وضعُ اليد على الخاصرة. وفي الحديث: "الاختصارُ في الصلاة راحةُ أهل النار"، لا أن لهل النار راحةً، لقوله تعالى:(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)[الزخرف: 75].
وحده وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته: وأمّا المصلى له، فغنىّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
[(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)].
اللغو: ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطراحه، يعنى أنّ بهم من الجدّ ما شغلهم عن الهزل.
لما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف.
[(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) 4].
الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى، فالعين: القدر الذي يخرجه المزكي من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ليجمع لهم الفعل والترك)، قال القاضي: أقام الإعراض مقام الترك؛ ليدُل على بُعدهم عنه رأساً مباشرةً، وتسبباً وميلاً، فإن أًله أن يكون في عرض غير عرضه، هو أبلغ أيضاً من الذين لا يلهون لجعل الجملة اسميةً، وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم، وتقديم الصلة.
قوله: (الزكاة اسم مشتركٌ بين عينٍ ومعنى)، الراغب: أصلُ الزكاة: النموُّ الحاصلُ من بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية، يقال: زكا الزرع يزكو، إذا حصل منه نموٌّ وبركةٌ، ومنه الزكاة يخرجها الإنسان إلى الفقراء، لما فيها من رجاء البركة، أو لتزكية النفس، أي: تنميتها بالخيرات والبركات، أو لهما جميعاً، فإن الخيرين موجودان فيها، وقرن الله تعالى الزكاة بالصلاة وقال:(أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)[البقرة: 110] وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة. وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره وذلك يُنسب تارةً إلى
النصاب إلى الفقير والمعنى: فعل المزكى الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله، فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب:
فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل: وللمزكى: فاعل التزكية. وعلى هذا الكلام كله والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث: من فاعل هذا؟ فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق. ولم تمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون، لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبد؛ لاكتسابه، كقوله تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله تعالى: (لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)، وقوله تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[الشمس: 9]، وتارةً إلى الله تعالى، لكونه فاعلاً لذلك في الحقيقة، نحو:(بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)[النساء: 49]، وتارةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكونه واسطةً نحو (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103] وتارةً إلى العباد التي هي آلة نحو (وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً)[مريم: 13].
قوله: (فيقالُ لك: فاعله الله أو بعض الخلق)، الانتصاف: يقولُ السني: الفاعل هو الله وحده، وإذا سُئل بصفةٍ مشتقةٍ من الفعل على طريقة اسم الفاعل من القائم أو القاعد، أجاب بأنه: الذي خلق الله الفعل على يده كزيدٍ وعمرو.
قوله: (ولم تمتنع الزكاةُ الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون)، أي: اللفظُ غيرُ مانع تعليق الزكاة، الذي هوا لعين، بفاعلون؛ لأن الواضع إنما وضع صيغ الأفعال لنسبة صدورها عن الفاعل، وأما أن ذلك الفاعل موجدٌ بالحقيقة أو غير موجد، فليس بداخل في مفهوم الفعل، وإنما يعرفُ بدليل خارجي، وإليه الإشارة بقوله:"ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها". فقوله: "لخروجها" تعليلٌ لقوله: "لم يمتنع"، أي: لم تمتنع الزكاة الدالة على العين عند أهل اللغة بأن يتعلق بها الفاعلون لأجل هذا الصارف، وهو خروجها من صحة أن الخلق غير قادرين على إيجاد العين، بل القادر هو الله تعالى، فإن ذلك من الدلائل العقلية،
لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها. وقد أنشد لأمية ابن أبى الصلت:
المطعمون الطّعام في السّنة الـ
…
أزمة والفاعلون للزّكوات
ويجوز أن يراد بالزكاة: العين، ويقدّر مضاف محذوف وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصحّ، لأنها فيه مجموعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما تقول: أنبت الربيع البقل، فإن الفاعل عند اللغوي هو الربيع، إذ هو مرتفعٌ به؛ لأنه لا يُنظرُ إلى أن الربيع لا يصح منه هذا الفعل حقيقةً؛ لأن ذلك من وظيفة الموحدِ المعتقد.
قوله: (المطعمون الطعام)، البيت، الأزمة: السنةُ القحطُ، يقال: أزم علينا الدهر، أي: اشتد.
قوله: (لأنها فيه مجموعةٌ)، أي: لفظ الزكاة في البيت مجموعةٌ، والمصدرُ لا يجمع في الأغلب، وقد جُمع في قوله تعالى:(وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ)[الأحزاب: 10]. وقلتُ: يُعلمُ من مفهوم قوله: "وحملُ البيت على هذا أصح" أن حمل الآية على الفعل أصح. قال السجاوندي: لما كانت الزكاة توجب زكاء المال، كان لفظ الفعل أليق به من لفظ الأداء، كأنه قيل: لأجل زكاء المال يفعلون ما يفعلون، فالمؤدى يصير زكاةً بفعل المزكي. وفي (فَاعِلُونَ) إشارةٌ إلى المداومة ما ليس في الأداء، تقول: هذا فعله، أي: شأنه ودأبه وعادته، وهذا يشعر بأن حمل الزكاة على المعنى أولى من غيره.
الراغب: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، المعنيان واحد، وليس قوله:(لِلزَّكَاةِ) مفعولاً له لقوله: (فَاعِلُونَ) بل اللامُ للقصد والعلة.
وقال صاحب "الكشف": معنى الآية: الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، فليس المراد من هذا الكلام: أنهم يؤدون الزكاة؛ لأنه لا يقال: فعلتُ الزكاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنت تريدُ: أديتُ زكاة المال، وإنما الزكاة: الطهارة، كما قال تعالى في كتابه:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[الأعلى: 14 - 15]، و (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، أي من طهرها، وأبداً ينبغي لك أن تفسر القرآن بعضه ببعض ما أمكنك، فوجب أخذ التفسير من آية نظيرة تلك الآية التي تفسرها، ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى:(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)[الرعد: 11]، أن المعنى: للرسول صلى الله عليه وسلم معقباتٌ، أي: الملائكة من أمر الله، يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، كذا فسره النخعي، قالوا في هذا: إنه فصل بين الصفة والموصوف، وقدم ظرف الصفة على الصفة، فنظرنا في ذلك فإذا إبراهيم النخعي أخذ هذا التفسير من قوله تعالى:(إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)[الجن: 27]، والرصدُ: الملائكة، هو المعقبات يحفظون النبي عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: فهب أنكم قلتم: فما وجه قوله عز وجل: (وَدَعْ أَذَاهُمْ)[الأحزاب: 48]؟ وهل يقال في معنى لا تؤذه: دع أذاه؟ قلنا: ليس معنى (وَدَعْ أَذَاهُمْ)[الأحزاب: 48]: لا تؤذهم، وإنما المعنى: دع الخوف من أذاهم وتوكل على الله، أي: لا تخف منهم ولا من أذاهم، فحذف المفعول والحرف الجار الذي في صلة المصدر، كما حذف الجار من قوله:(يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)[آل عمران: 175] أي: يخوفكم بأوليائه، وقال تعالى:(لِيُنذِرَ بَاساً شَدِيداً)[الكهف: 2]، أي: لينذركم ببأس شديد. وقلتُ: قوله: ينبغي لك أن تفسر القرآن بعضه ببعض، كلامٌ حسنٌ، لكن مع مراعاة المقام، وترتيب النظام؛ فإنه تعالى لما ذكر الصلاة عقبها بذكر شقيقتها وقرينتها، وهي الزكاة، كما قال تعالى:(أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ونحوها، والوجه ما ذكره المصنف أولاً.
وأما قوله: لا يقالُ: فعلتُ الزكاة وأنت تريدُ: أديتُ زكاة المال. فتحكم لم لا يجوز أن يراد المبالغةُ فيه؟ ألا ترى إلى قول الحماسي:
وإن هي أعطتك الليان فإنها
…
لغيرك من خلانها ستلين
[(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) 5 - 7].
(عَلى أَزْواجِهِمْ) في موضع الحال، أى الأوّالين على أزواجهم. أو قوّامين عليهنّ، من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلّف عليها فلان. ونظيره: كان زياد على البصرة، أى: واليا عليها. ومنه قولهم: فلانة تحت فلان. ومن ثم سميت المرأة فراشا. والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في حال تزوّجهم أو تسريهم، أو تعلق (عَلى) بمحذوف يدل عليه (غَيْرُ مَلُومِينَ) كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم، أى: يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه. أو تجعله صلة لحافظين، من قولك: احفظ علىّ عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي، كما ضمن قولهم: نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول المرزوقي فيه: وإن هي غرتك باللين ومنحتك المحبة منحاً بالغاً. مع أن تنظيره بالآيتين بعيدٌ؛ لأنهما ليسا من هذا القبيل في شيء، وقوله تعالى:(وَدَعْ أَذَاهُمْ)[الأحزاب: 48] معناه غير ما ذكره، فانظر إلى مقامه لتعرفه.
قوله: (على تضمينه معنى النفي)، رُوي أنه قول المبرد، أي: تضمين (حَافِظُونَ)، فإن معنى احفظ على عنان فرسي: ارقبني، ولا تغفل عني. وجاء في بعض التفاسير: الحفظ في الأصل، ضبطُ الشيء في النفس. وهو ضد النسيان، ولما كان في ضبط الشيء المنعُ من الذهاب قيل لمن لا يضيع الشيء ضبطاً: الحافظ، والحافظُ: المانع. "المُغرب": الحفظُ: خلافُ النسيان، وقد يُجعل عبارةً عن الصون وترك الابتذال، يقالُ: فلانٌ يحفظُ نفسه ولسانه، أي: لا يبتذله فيما لا يعنيه.
والظاهر أن المجموع من العامل ومعموله في معنى المانعون، أو غير مبتذلين، ألا ترى كيف جعل "نشدتك الله" في معنى: ما طلبتُ، وكذلك معنى "احفظ علي عنان فرسي": لا تغفل عني، ومنه قولُ الراغب: الحافظون فروجهم إلا على أزواجهم كنايةً عن العقد، أي:
فإن قلت هلا قيل: من ملكت؟ قلت: لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجرى مجرى غير العقلاء وهم الإناث، ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع قوله: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ)، وفيه تنبيه على خسة الشهوة، ولولا بقاء النسل لما أبيحت ونحوه في الاعتبار قوله تعالى:(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ)[البقرة: 249] أي فلم يطيعوه إلا قليلٌ منهم.
وقال أبو البقاء: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) في موضع نصب بـ (حَافِظُونَ) على المعنى أي: صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم.
وقال صاحب "الفرائد": الذي ألجأه إلى التطويل استعمال "على" في قوله: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ)، ويمكن أن يقال: تقديره: لفروجهم حافظون في كل حال إلا في حال وقوعهم على أزواجهم.
الراغب: الحفظ تارةً يقال لهيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، وتارة لضبط الشيء في النفس ويضاده النسيان، وتارة لاستعمال تلك القوة، ويقال: حفظت كذا حفظاً ثم يستعمل في كل تفقد وتعهد ورعاية، قال تعالى:(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) [الأحزاب: 35] كناية عن العفة: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)[النساء: 34]، أي: يحفظن عهد الأزواج عند غيبتهم بسبب أن الله يحفظهن أن يطلع عليهن، (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) [ق: 4]، أي: حافظ لأعمالهم، ومعناه: محفوظٌ لا يضيع.
قوله: (ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث)، المطلع: أجيرين مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن وعلمهن وامتهانهن في خساس الأمور وأنها تُباع وتشترى كسائر الحيوانات. وقال القاضي: وإفرادُ قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) بعد تعميم قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) لأن المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطراً.
جعل المستثنى حدا أوجب الوقوف عنده، ثم قال: فمن أحدث ابتغاء وراء هذا الحدّ مع فسحته واتساعه، وهو إباحة أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شئت (فَأُولئِكَ هُمُ) الكاملون في العدوان المتناهون فيه. فإن قلت: هل فيه دليل على تحريم المتعة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جعل المستثنى حداً أوجب الوقوف عنده)، أي: بالغ في الفسحة والاتساع حيث أضاف الأزواج إليهم، هي ما عهد من قوله:(فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)[النساء: 3] الآية، وإليه الإشارة بقوله:"وهو إباحة أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شئت"، كأنه قيل: ومن طلب الفسحة أوسع من هذا الذي انتهى غايته فهو المتناهي في العدوان والكامل فيه. دل على الكمال: التعريف في (الْعَادُونَ) فإنه للجنس، وعلى التسجيل: دلالةُ (أُوْلَئِكَ) فإنه دل على أن ما قبله جديرٌ بما بعده لما بين من الفسحة والاتساع.
قوله: (على تحريم المتعة)، النهاية: هو النكاح إلى أجل معين، وهو من التمتع بالشيء: الانتفاع به، يقال: تمتعتُ به أتمتعُ تمتعاً، والاسمُ: المتعةُ ينتفع بها إلى أمدٍ معلوم. وقد كان مباحاً في أول الإسلام ثم حُرم، وهو الآن جائزٌ عند الشيعة.
وأما قول المصنف: "إذا صح النكاح"، فالمراد: إذا صح النكاحُ، المؤجل فلا يحرمُ، وحين لم يصح بالدلائل الدالة لم يصح بجزم.
قال الإمام: رُوي عن القاسم بن محمدٍ أن الآية تدل على تحريم المتعة. وتقريرهُ أنها ليست زوجةً له، فوجب أن لا تحل له، إنما قلنا: إنها ليست زوجةً لأنهما لا يتوارثان بالإجماع، ولو كانت زوجةً له لحصل التوارث، لقوله تعالى:(وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) بالنساء: 12]، فوجب أن لا تحل له لقوله تعالى:(إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ).
وقلتُ: ولا ارتياب أن هذه الصفات جاريةٌ في معرض المدح، وتعظيم أمر المؤمنين،
قلت: لا، لأنّ المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحّ النكاح.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8))
وقرئ: "لأمانتهم". سمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا. ومنه قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)] النساء: 58 [وقال (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)] الأنفال: 27 [. وإنما تؤدّى العيون لا المعاني، ويخان المؤتمن عليه، لا الأمانة في نفسها. والراعي: القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعى الغنم وراعى الرعية. ويقال: من راعى هذا الشيء؟ أى متوليه وصاحبه: ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق، والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلو شأنهم عن أن يتعرضوا للغو المباح، فضلاً عما يزري بمروءتهم، فإن أحداً من ذوي المروءات لا يرضى أن يُفعل ذلك بمحارمه، فيكف يرضى بمحارم غيره من المؤمنين؟
قوله: (وقرئ: "لأمانتهم")، ابن كثير، والباقون: على الجمع. قال القاضي: الإفراد غما لأنها في الأصل مصدرٌ أو لأمن الإلباس.
قوله: (سمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة)، يعني: حكم الله تعالى بقوله: (لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) بالرعاية، فينبغي أن يُراد بالأمانة العهد عينان لا مصدران؛ لأن الراعي هو: القائم على الشيء بحفظٍ وإصلاح، لا على المعنى، ومنه قوله- في (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58]-: "وإنما تُؤدي العيون لا المعاني"، وقوله:" (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) [الأنفال: 27] وإنما يُخان المؤتمن عليه، لا المصدر".
قوله: (ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا)، وهو عطفٌ على قوله:
[(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)].
وقرئ (عَلى صَلَواتِهِمْ). فإن قلت: كيف كرّر ذكر الصلاة أوّلا وآخرا؟ قلت: هما ذكران مختلفان فليس بتكرير: .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"سُمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة"، فإذاً المرادُ من الأمانة والعهد المصدر، وهو جنسٌ يتناول كل ما يطلق عليه الأمانة أو العهد. ولهذا قال:"من جهة الله عز وجل، ومن جهة الخلق". ويؤيد هذا التفسير قراءة الأكثر: (لأَمَانَاتِهِمْ)، قال مكي بن أبي طالب:"أماناتهم": مصدرٌ، وحقه أن لا يُجمع؛ لدلالته على القليل والكثير من جنسه، لكن لما اختلفت أنواعُ الأمانة لوقوعها على الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من العبادات، وكذلك حق العباد جاز جمعها؛ لأنها لاختلاف أنواعها شابهت المفعول به، فجمعت كما يجمع المفعول به، وقد أجمعوا على الجمع في قوله تعالى:(أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء: 58]، وقد قرأ ابن كثير بالتوحيد في (قَدْ أَفْلَحَ)، ودليله إجماعهم على التوحيد في (وَعَهْدِهِمْ)، وهو مصدرٌ مثلها. فعلى هذا يُجعل قوله:(رَاعُونَ) استعارة للاهتمام بشأنها، والمحافظة عليها من أن يخان وينكث، قال الشاعر:
أخٌ طاهرُ الاخلاق حلوٌ كأنه
…
جنى النحل ممزوج بماء غمام
يزيد على الأيام صفو مودةٍ
…
وشدة إخلاص ورعي ذمام
قوله: (وقرئ: "على صلاتهم")، حمزة والكسائي، والباقون: بالجمع. قال القاضي: ولفظُ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرير، ولذلك جمعه أكثر القراء.
وصفوا أوّلا بالخشوع في صلاتهم، وآخرا بالمحافظة عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها، ويؤدّوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتمّ به أوصافها. وأيضا فقد وحدت أوّلا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أىّ صلاة كانت، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها: وهي الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة، والعيدين والجنازة، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، وصلاة الضحى، والتهجد وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل.
[(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) 10 - 11].
أى (أُولئِكَ) الجامعون لهذه الأوصاف (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن يسموا ورّاثا دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) فجاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم، وآخراً بالمحافظة عليها)، يعني: آخراً الأوصاف وتعدادها لمدح المؤمنين على الأصالة وذكر الصلاة تابعٌ لها، وُصفوا أولاً بالخشوع فيها، وآخراً بالمحافظة عليها، ومن ثم أتى بالموصولة ليدل على الذات، وجُعلت الأوصافُ صلة ليدل على علية استئهال بشارة الفلاح عاجلاً، وإيراث الفردوس آجلاً، نعم، فيه تعظيم شأنها على سبيل الإدماج، وإشارة النص حيث ابتدئ بذكرها، وانتهى إليها، على أن التكرير غير لازم؛ لأن إرادة الجنس غير إرادة الاستغراق، وإليه الإشارة بقوله:"وأيضاً فقد وُحدت أولاً، وجُمعت آخراً"، وخلاصته أن التكرير لإرادة تعليق كل مرة ما لم يعلق به أخرى، والفاء في "فقد وُحدت" كالفاء في قوله:"هما ذكران مختلفان فليس بتكرير".
قوله: (أي: (أُوْلَئِكَ) الجامعون لهذه الأوصاف (هُمْ الْوَارِثُونَ) الأحقاء بأن يسموا وراثاً دون من عداهم)، أما معنى الجمع فمن توسيط العاطف بين الصفات المتوالية. وأما
بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر. ومعنى الإرث: ما مرّ في سورة مريم. أنث الفردوس على تأويل الجنة، وهو: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روى أنّ الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الأذفر. وفي رواية: ولبنة من مسكٍ .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استحقاقُ تسميتهم بالوراثِ فلما سبق أن أولئك يوجب أن ما بعده جديرٌ بما قبله لاكتسابهم تلك الصفات الجارية عليهم. قال القاضي: الوراثة مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم وإن كان بمقتضى وعده مبالغةً فيه.
وأما معنى الحصر فمن تعريف الخبر، وتوسيط ضمير الفصل، وفي تتميم ذلك بتعقيب التفصيل للإجمال بإبدال (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) من (الْوَارِثُونَ) شأنٌ لا يكتنه كنهه، كما في قوله تعالى:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 6 - 7].
قوله: (ما مر في سورة مريم)، يعني في قوله تعالى:(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)[مريم: 6]، بل في قوله تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)[مريم: 40] أي: هم الذين ورثوا أرض الجنة، أي: ملكوها كما يملك الوراث حقوقهم. قال الزجاج: خوطب الناس بما يتعارفون؛ لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له.
قوله: (وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر)، قال الزجاج: الفردوس: أصله رومي، وهو البستان، وكذلك جاء في التفسير، وقد قيل: إن الفردوس تعرفها العرب، وتسمى الموضع الذي فيه كرم: فردوساً.
قوله: 0 لبنةً من ذهب ولبنةً من فضة)، قال الزجاج: روينا عن أحمد بن حنبل في كتابه
مذرّى وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان.
[(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَاناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)].
السلالة: الخلاصة، لأنها تسلّ من بين الكدر، و «فعالة» بناء للقلة كالقلامة والقمامة. وعن الحسن: ماء بين ظهراني الطين. فإن قلت: ما الفرق بين (مِن) و (مِنَ)؟ قلت: الأوّل للابتداء، والثاني للبيان، كقوله (مِنَ الْأَوْثانِ). فإن قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"كتاب التفسير": أن الله تعالى بني جنة الفردوس لبنة من ذهب، ولبنةً من فضة، وجعل جبالها المسك الأذفر.
قله: (مُذري)، الجوهري: ذررتُ الحب والملح والدواء أذره ذراً: فرقته، ومنه الذريرة.
قوله: (لأنها تُسلُّ من بين الكدر)، في "المطلع": السلالة: ما يسل من الشيء ويستخرج. قال صاحب "الديوان": فعالةٌ: اسم لما بقي بعد المصدر، فالسلالة: ما بقي بعد السل، كالنخالة والبراية لما بقي بعد النخل والبري، وفيها دلالةٌ على القلة، فإذا قبضت على الطين بكفك فخرج من بين أصابعك حره وخالصه فهو سلالة.
وقال أبو البقاء: (مِنْ طِينٍ) صفة (سُلالَةٍ)، ويجوز أن يتعلق (مِنْ) بـ (سُلالَةٍ) بمعنى: مسلولة، ويمكن أن يُحمل قول الحسن: ماءٌ بين ظهراني الطين، على هذا.
ما معنى: جَعَلْنا الإنسان نطفة؟ قلت: معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة. القرار: المستقرّ، والمراد الرحم. وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها، كقولك. طريق سائر. أو بمكانتها في نفسها، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. قرئ:(عظما فكسونا العظم)، و (عظاما فكسونا العظام)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما معنى: جعلنا الإنسان نطفةً)، يعني: كيف قال أولا: (خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ) ثم قال: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً)؟ وأجاب: أن التعريف في "الإنسان" للجنس، فكأنه قيل: خلقنا جوهر ما يقال له: الإنسان ابتداء من طين، ثم صيرنا بعد ذلك جوهره من نطفة، قال القاضي: يجو أن يكون على حذف المضاف، أي: ثم جعلنا نسله، أي: خلقنا أصل الإنسان من سلالة، وهو آدم، ثم جعلنا نسله، أي: أولاده، من نطفةٍ.
قوله: (وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر)، يريد أن قوله:(مَكِينٍ) صفةٌ للنطفة في الأصل، وقد أجري على مكانها ومستقرها، وهو الرحم، إما على الإسناد المجازي نحو: طريقٌ سائرٌ، للمبالغة، أو وُصف الرحم بالمكين، ليؤذن بأن النطفة مكنت بحيث هي في رحم مكين غير منفصل مع ثقل الحمل، أو مُكنت في مكين غير ماجة لها، كأنها أحرزت في حرز حصين، وعلى هذا هو: نكايةٌ، أي: جعلناه نطفةً محروزة.
قوله: (قرئ: "عظماً")، أبو بكر وابن عامر، وكذا:"فكسونا العظم"، والباقون:(َعِظَاماً). قال ابن جني: قرأ "عظما" واحداً، (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ) جماعةً: السلميُّ، وقتادة، والأعرج. وقرأ (َعِظَاماً) جماعةً، "فكسونا العظم" واحداً: مجاهدٌ. أما من وحد فإنه ذهب إلى لفظ إفراد الإنسان والنطفة والعلقة، ومن جمع فنه أراد بأن هذا أمرٌ عام في جميع الناس، وقد شاع عنهم إيقاع المفرد في موضع الجماعة، قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
و (عظما فكسونا العظام)، و (عظاما فكسونا العظم). وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس، لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة (خَلْقاً آخَرَ) أى خلقا مباينا للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره - بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه - عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح: وقد احتجّ به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده قال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ، لأنه خلق آخر سوى البيضة (فَتَبارَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الطفيل:
في حلقكم عظمٌ وقد شجينا
ومن قدم الإفراد نظر إلى اللفظ الذي هو إنسانٌ، وسلالة، ونطفة، ثم عقب بالجماعة لأنها هي الغرض، ومن عكس بادر إليها؛ إذ كانت هي المقصودة، ثم عاد فعامل المفرد بمثله.
والأول أجرى على قوانينهم، ألا ترى أنك تقول: من قام وقعدوا إخوانك، لانصرافه عن اللفظ إلى المعنى وضعف: من قاموا وقعد إخوتك؛ لأنك قد انتحيت بالجمع على المعنى، وانصرفت عن اللفظ، فمعاودة اللفظ بعد الانصراف عنه تراجعٌ وانتكاثٌ فاعرفه وابن عليه فإنه كثيرٌ جداً.
قوله: (وقد احتج به أبو نيفة فيمن غصب بيضةً فأفرخت عنده، قال: يضمن البيضة، ولا يرد الفرخ لأنه خلقٌ آخر)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأن تضمينه الفرخ؛ لكونه جُزءاً من المغصوب، لا لكونه عينه أو مسمى باسمه. وقال الإمام: قالوا: في الآية
اللَّهُ) فتعالى أمره في قدرته وعلمه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أى: أحسن المقدّرين تقديرا، فترك ذكر المميز لدلالة (الخالقين) عليه. ونحوه: طرح المأذون فيه في قوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ)] الحج: 39 [؛ لدلالة الصلة.
وروى عن عمر رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله (خلقا آخر)، قال:
(فتبارك الله أحسن الخالقين).
وروي أنّ عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اكتب هكذا نزلت» فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبىّ يوحى إلىّ، فلحق بمكة كافرا، ثم أسلم يوم الفتح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دلالةٌ على بطلان قول النظام: إن الإنسان هو الروح، لا البدن، فإنه تعالى بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات. وعلى بطلان قول الفلاسفة: إن الإنسان شيءٌ لا ينقسم، وإنه ليس بجسم.
قوله: (أحسن المقدرين تقديرا)، يريد أن "الخَلْقَ" هاهنا بمعنى: التقدير، كقوله تعالى:(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)[المائدة: 110]، أي: تقدر لما سبق من الأطوار المتباينة، قيل: وقوله: "تقديراً" تمييزٌ وليس بتأكيد؛ لأن أفعل التفضيل إنما ينصب النكرات على التمييز خاصة، كقولهم: هذا أكثر منه شيئاً.
قوله: (فترك ذكرُ المميز)، كأنه قيل: أحسن الخالقين خالقاً، قال في الحاشية: نظيره: قوله: "إن الله جميلٌ يحب الجمال"، المعنى: جميلٌ فعله محذوف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً فاستكن.
قوله: (إن كان محمدٌ نبياً يُوحى إليه فأنا نبيٌّ يوحى إليَّ)، القياس فاسدٌ من وجهين،
[(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)].
قرأ ابن أبى عبلة وابن محيصن: (لمائتون). والفرق بين الميت والمائت: أنّ الميت كالحي صفة ثابتة. وأمّا المائت، فيدل على الحدوث. تقول: زيد مائت الآن، ومائت غدا، كقولك يموت. ونحوهما: ضيق وضائق، في قوله تعالى (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)] هود: 12 [. جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه: دليلين أيضا على اقتدار عظيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما: اتفاقُ ذلك المقدار سيما إذا تكلم بديهاً يكون من قبيل: رميةٌ من غير رام، فلا يلتفت إليه، وثانيهما: أن التحدي إنما وقع بأقصر سورة.
قوله: (جعل الإماتة .. والبعث
…
دليلين أيضاً على اقتدار عظيم)، أما الإشارةُ إلى كون الإماتة دالة على اقتدار عظيم فما في (ثُمَّ) من معنى التراخي في الرتبة، وتأكيدها بقوله:(بَعْدِ ذَلِكَ)، يعني: من أنشأ إنشاءً لطيفاً، وأبدع تركيباً عجيباً، لا يتسهل عليه إعدامه، وتفكيكُ أجزائه، لكن الله سبحانه وتعالى لعظم قدرته، وأن الموجودات لا يتوقف حصولها على شيء إذا تعلقت إرادته بها، كما قال:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]، يفكك ذلك التركيب العجيب الدائر بين تلك الأطوار المتباينة التي تخرق العقول، ويعدم ذلك الإنشاء الغريب الذي من شاهده اضطر إلى قوله:(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، ثم ينشئه النشأة الأخرى أبدع ما يكون للاتصال إلى أقصى نهايات المطالب وأما دلالة البعث على الاقتدار العظيم فظاهرة.
فإن قلت: أمر الإعادة مما وقع عليه الإنكار من الجم الغفير، فكان قميناً بالتوكيدات، بخلاف الموت، فإن وقوعه من الضروريات، فلم جيء بـ"إن" واللام وبالاسم، لا سيما بالصفة المشبهة فيما ليس فيه الإنكارُ من وجه، وأتى فيما فيه الخلافُ بـ"إنّ" وحدها؟ قلتُ: قد مر أن الكلام في بيان إبداع تلك الخلقة العجيبة الشأن وتقلبها في تلا لأطوار التي تخرق الأوهام والأفكار منها، وفي الإيذان بأن له طوراً آخر هو غايةُ كماله، ولذلك خُلقَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكُلفَ تلك التكاليف التي ذُكرت في الآيات السابقة، ومن ثم عقبها بها وبينها برزخ الموت ولابد من قطعه للوصول إليه، وكان ذلك التوكيد راجعاً إلى هذا المعنى، ومن ثم كرر (إِنَّكُمْ) ونقل من الغيبة إلى الخطاب، يعني: أن ماهيتك وحقيقتك أيها المخلوق العجيبُ الشأن، تفنى وتُعدمُ، ثم إنها بعينها من الأجزاء المتفرقة، والعظام البالية، والجلود الممزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب، تبعث وتنشر ليوم الجزاء؛ لإثابة المحسن وعقاب المسيء، فالقرينة الثانية لم تحتج إلى التوكيد افتقار الأولى؛ لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجعٌ إليها، وقالوا: إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة، فكأنهم نُزلوا منزلة المنكرين لذلك، وأخلى الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها.
وقلتُ: هذا كلامٌ حسنٌ لو ساعد عليه النظم الفائق وتكرير حرف التراخي المؤذن بتفاوت المراتب والأطوار من لدن قوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) إلى قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ). وأما دلالةُ معنى التوكيد الذي يعطيه "إن" في القرينتين، فكدلالته في قول المؤمن الموحد:(رَبَّنَا آمَنَّا)[آل عمران: 63]، (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا) [آل عمران: 193]، وفي قول المنافق:(إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)[البقرة: 14]، وقد استقصينا القول فيه في أول البقرة، ومحالٌ تصور التمادي في الغفلة من قوله تعالى:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[الزمر: 30]، والمخاطب حبيب الله صلوات الله وسلامه عليه، بل هو بشارة ووعدٌ له، وتهديدٌ ووعيدٌ لمخالفيه.
وروينا عن مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسولالهل صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه"، والموت قبل لقائه. وفي رواية للبخاري من طريق همام عن قتادة، فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت، بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيءٌ أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموتُ بُشر بعذاب الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى وعقوبته، فليس شيءٌ أكره إليه مما أمامه"، الحديث. فإذا كانت محبةُ الله منوطةً به، ولقاء الله متوقفاً عليه، فهو إذن مطلوبٌ ضروري.
وروى الإمام في "تفسيره": أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لملك الموت وقد جاءه لقبض رُوحه: هل رأيت خليلاً يُميتُ خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله؟ فقال: يا ملك الموت، الآن فاقبض.
الراغبُ: الموتُ: أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم الأبدي، والكمال السرمدي، وهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلالاً، فهو في الحقيقة انتقالٌ من منزل أدنى إلى منزل أعلى، ولم يكرهه إلا أحد رجلين: رجلٌ لا يؤمن بالآخرة، وآخر يؤمنُ، ولكن يخاف ذنبه، وأما المؤمن الصالح فالموت ذريعةٌ له إلى السعادة الكبرى؛ لأنه بابٌ من أبواب الجنة منه يتوصلُ إليها، ولو لم يكن لم تكن الجنة، فإذن لا يكون شيءٌ أحب إليه من تمنيه، قال الله تعالى:(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 94]، ولهذا مَنّ الله تعالى على عباده بقوله تعالى:(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ)[الملك: 1 - 2]، وقدم الموت على الحياة. وإنما مَنّ به؛ لأنه نعمةٌ؛ لأن السبب الذي يُتوصلُ به إلى النعمة نعمةٌ، وعلى ذلك قوله تعالى:(ثُمَّ أَنشَانَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 14 - 16] فنبه تعالى وتقدس أن هذه التغييرات حُسنٌ، ثم نقض هذه البُنية لإعادتها على وجهٍ أشرف وأحسن، وعلى هذا رُوي: "الدنيا سجنُ المؤمن
بعد الإنشاء والاختراع. فإن قلت: فإذا لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث. قلت: ليس في ذكر الحياتين نفى الثالثة وهي حياة القبر، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلا على أن الثلث ليس عندك. وأيضا فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء والإماتة والإعادة، والمطوى ذكرها من جنس الإعادة.
[(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) 17].
الطرائق: السماوات، لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل، وكل شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجنةُ الكافر"، ولما مات داودُ الطائي سُمع هاتفٌ يهتفُ: أُطلق داودُ من السجن. هذا خلاصةُ كلامه من "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين"، والله تعالى أعلم.
قوله: (والمطوي ذكرها من جنس الإعادة)، وقلت: قد مر أن الكلام واردٌ في الإنشاء والإعادة، وذكرُ الموت تابعٌ لذكرها، وليس في بيان إثبات حياة القبر.
قوله: (لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل)، النهاية: طارق النعل: إذا صيرها طاقاً وق طاق، وركب بعضها فوق بعض. اولتشبيه هاهنا واقعٌ في مجرد تصييرها طاقاً فوق طاق، دون اللصوق. روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ وأصحابه قال: "هل تدرون ما فوقكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها الرقيعُ، سقفٌ محفوظٌ وموجٌ مكفوف"، قال:"هل تدرون مابينكم وبينها؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "سماءان بُعدُ ما بينهما خمسُ مئة سنة". ثم قال كذلك حتى عد سبع سموات، وما بن كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال:"هل تدرون ما فوق ذلك؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "وإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بُعْدُ السماءين". الحديث.
فوقه مثله فهو طريقة: أو لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم: وقيل: الأفلاك، لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها: أراد بالخلق السماوات، كأنه قال: خلقناها فوقهم (وَما كُنَّا) عنها (غافِلِينَ) وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا: أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها، وينفعهم بأنواع منافعها، وما كان غافلا عنهم وما يصلحهم.
[(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) 18].
(بِقَدَرٍ) بتقدير يسلمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم. (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) كقوله (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)] الزمر: 21 [وقيل: جعلناه ثابتا في الأرض. وقيل: إنها خمسة أنهار: سيحون نهر الهند. وجيحون: نهر بلخ، ودجلة والفرات: نهرا العراق. والنيل: نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة، فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم. وكما قدر على إنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته. وقوله (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل. والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان باقتدار المذهب، وأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: الأفلاك)، أي: وقيل: الطرائقُ: الأفلاك، والفرقُ أن المظلة إذا اعتُبرت فيها الأطباقُ، أو طرقُ الملائكة، سميت سماوات، وإذا نُظر إلى الكواكب ومسائرها، سُميت أفلاكاً، لقوله تعالى:(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[الأنبياء: 33].
قوله: (أو أراد به الناس)، عطفٌ على قوله:"أراد بالخلق السماوات"، يعني:"الخَلْقُ": إما مُظهرٌ أقيم مقام الضمير؛ للإشعار بأنه تعالى خلق السماوات عن حكمة، وأنها محفوظةٌ بحفظه وإمساكه. وإما مصدرٌ بمعنى مخلوق؛ للإشعار بفضيلة الإنسان، وأن هذه المخلوقات العظام أُوجدت لمنافعه ديناً ودنيا امتناناً عليهم، وعلى التقديرين يلزمُ تعظيمُ ما يُرادُ منه.
قوله: (على وجه من وجوه الذهاب به)، وذلك أن التنكير فيه يدلُّ على تفخيم شأن
لا يتعايا عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد، من قوله:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَاتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)] الملك: 30 [. فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذهاب، أي: ذهابٌ لا يكتنهُ كنهه ولا يقادر قدره، بحيثُ إن تُصورَ أن ينقلب الماءُ إلى ضده، لجاز ذلك، كقوله تعالى:(يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)[الدخان: 10].
قال المصنف: إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالجدب، فأصابهمُ الجهدُ، وكان يرى الرجل بين السماء والأرض الدخان. ومنه قولُ المعري:
القاتل المحل إذ تبدو السماء لنا
…
كأنها من نجيع الجدب في أزر
وهو المراد من قوله: فهو قادرٌ على رفعه وإزالته"، وهذه المبالغة يقتضيها مقامُ الإيعاد العظيم؛ لأن الآية مسوقةٌ بعد تعداد نعمتي الأنفس والآفاق، واستجلاب الشكر لها، والتحذير من كُفرانها، ولذلك أكد الجملة بأنواع من المؤكدات، حيثُ جيء بها اسميةً مصدرةً بأن مؤكدةً باللام، وقدم المعمول على العامل، وأتى بصيغة الكبرياء والعظمة وهي ضمير الجماعة، وبالجارة الدالة على الاستصحاب، أي: يأخذ الله معه ويمسكه عنده، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، ولما تضمنت الآية هذه الاعتبارات قال: "هو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى: (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً)[الملك: 30] "، لأن غور الماء بنفسه ليس كإذهاب الله تعالى إياه وأنها خليةٌ عن المؤكدات، وأنها مسندٌ فيها الغور إلى الماء المضاف إليهم، ومقيد بأصبح، وهو للانتقال هنا، وليس تنكيرُ غوراً كتنكير ذهاب؛ لأنه للجنس، وهو ما يعلمه كل أحدٍ أن الغور ما هو، وهذا للنوع كما مر.
ولم أقل: إن الشرط فيها يدلُّ على الفرض والتقدير، لويس في هذه، لأن كلتا الجملتين واردةٌ للإيعاد، فلا وقوع إذن، نعم، دلالةُ هذه على تقدير وقوعها أبلغ.
قوله: (لا يتعايا عليه شيء)، الجوهري: أعيا عليه الأمرُ، وتعيا وتعايا: بمعنى، وعييتُ بأمري: إذا لم تهتد لوجهه، وأعياني.
[(فَأَنْشَانا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَاكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) 19 - 20].
خصّ هذه الأنواع الثلاثة، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: بأنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا، رطبا وعنبا، وتمرا وزبيبا. والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. ويجوز أن يكون قوله (وَمِنْها تَاكُلُونَ) من قولهم: يأكل فلان من حرفة يحترفها، ومن ضيعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها: يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم، منها ترتزقون وتتعيشون (وَشَجَرَةً) عطف على (جنات). وقرئت مرفوعة على الابتداء، أى: ومما أنشئ لكم شجرة طُورِ سَيْناءَ وطور سينين، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مُضافٍ ومضافٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يأكل فلانٌ من حرفةٍ يحترفُها)، فـ"مِن" - على هذا-: ابتدائيةٌ، والمفعولُ محذوف، ولهذا قال: إنها جهتُه التي منها يحصل رزقه، وعلى الأول: تبعيضيةٌ، وهو المفعولُ به، وإليه الإشارةُ بقوله:"إنه فاكهةٌ يتفكه بها، وطعامٌ يؤكل، وذلك بحسب المتنعمين والمتقنعين بالقوت". في المطلع: من هذه: للتبعيض، لأن ما يسقطُ منها غير يانع يفسد غيرُ مأكول، ولأن بعض أجزاء الفواكه يصلح لبني آدم، وبعضها للداوب.
قوله: (طعمتُه)، الجوهري: الطعمةُ بالضم: المأكلةُ، يقالُ: جعلت هذه الضيعة طُعمةً لفلان، والطعمةُ أيضاً: وجه المكسب، يقالُ: فلانٌ عفيفُ الطعمة وخبيثُ الطعمة، إذا كان رديء الكسب. أبو عبيدة: فلانٌ حسنُ الطعمة، بالكسر.
المُغرب: الطعمةُ بالضم: الرزقُ، يقال: جعل السلطانُ ناحية كذا طُعمةً لفلان.
إليه، كامرئ القيس، وكبعل بك، فيمن أضاف. فمن كسر سين "سيناء" فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء. ومن فتح فلم يصرف، لأنّ الألف للتأنيث كصحراء. وقيل: هو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام. وقرأ الأعمش: (سينا) على القصر (بِالدُّهْنِ) في موضع الحال، أى: تنبت وفيها الدهن. وقرئ: (تنبت). وفيه وجهان، أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير:
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم
…
قطينا لهم حتّي إذا أنبت البقل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فمن كسر سين "سيناء")، ابن عامر وحمزةُ وعاصمٌ الكسائي. والباقون: فتحوها.
قوله: (كعلباء)، الجوهري: هو عصبُ العنق. والحرباء: أكبر من العظاءة شيئاً، يستقبل الشمس ويدور معها كيف ما دارت ويتلونُ ألواناً نحو الشمس، وهو ذكرُ أم حُبينٍ، والجمعُ الحرابيُّ، والأنثى حرباءُ.
قوله: (وقر: "تُنبتُ")، ابن كثير وأبو عمرو.
قوله: (رأيت ذوي الحاجات)، البيت، رأيت: على الخطاب، تصحيح الصغاني. ذوو الحاجات: الفقراء والمساكين. قطيناً، أي: مقيماً، جمع قاطن، والقطينُ: الخدمُ والأتباع. يقولُ: رأيت ذوي الحاجات مقيمين حول بيوتهم؛ لقضاء حوائجهم، حتى إذا نبت البقلُ وظهر الخصبُ، فينتجعون وينفضون من حولها.
والثاني: أنّ مفعوله محذوف، أى: تنبت زيتونها وفيه الزيت. وقرئ: (تنبت)، بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم (تنبت). وقرأ ابن مسعود:(تخرج الدهن وصبغ الآكلين). وغيره: (تخرج بالدهن): وفي حرف أبىّ: (تثمر بالدهن). وعن بعضهم: (تنبت بالدهان). وقرأ الأعمش: (وصبغا) وقرئ و (صباغ). ونحوهما: دبغ ودباغ. والصبغ: الغمس للائتدام. وقيل: هي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان، ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) [النور: 35].
[(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَاكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) 21 - 22].
قرئ: (تسقيكم)، بتاء مفتوحة، أى: تسقيكم الأنعام (وَمِنْها تَاكُلُونَ) أى تتعلق بها منافع من الركوب والحمل وغير ذلك، كما تتعلق بما لا يؤكل لحمه من البغال والحمير والخيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الحريري: قيلَ في جواز الجمع بين حرفي التعدية في قراءة ضم التاء عدةُ أقوال، والأحسنُ إنما زيدت الباءُ لأن إنباتها الدُّهن بعد إنبات الثمر الذي يخرجُ الدُّهنُ منه، فلما كان الفعلُ في المعنى قد تعلق بمفعولينَ يكونان في حالٍ بعد حال وهُما الثمرةُ والدُّهنُ احتيج إلى تقويته في التعدي بالباء.
قوله: ("تُنبتُ" بضم التاءِ وفتح الباء)، قال ابنُ جِنِّي: وهي قراءةُ الزُّهريِّ والحسنِ والأعرج. أي: يُنبتُ الماءُ شجرة، ونحن نعلمُ أن الدُّهنَ لا ينبتُ الشجرة وإنما ينبتها الماءُ، وكذلك أيضاً قراءةُ عبد الله:"تخرجُ الدُّهنَ"، أي: تخرجُ من الأرضِ ودهنُها فيها.
قوله: (تنبتُ بالدهان)، الجوهري: الدهانُ: جمعُ دُهن، يقال: دهنته بالدهان.
وفيها منفعة زائدة، وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها، والقصد بالأنعام إلى الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة، وقرنها بالفلك - التي هي السفائن - لأنها سفائن البرّ. قال ذو الرمة:
سفينة برّ تحت خدّى زمامها
يريد صيدحه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفيها منفعةٌ زائدةٌ، وهي الكلُ الذي هو انتفاعٌ بذواتها)، يعني: عطفَ قوله: (وَمِنْهَا تَاكُلُونَ) على قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ) وقدم الظرف على عامله، ليُشعرِ بالأولِ الاشتراك بسائر الحيوانات التي تُناسبها في المنافع، وبالثاني اختصاصها بمنفعةٍ زائدة، وكذا عطف قوله:(وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)؛ ليؤذن بأن المراد من قوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) الإبلُ لا غير، فحينئذٍ نظمُ الآيات قريبٌ من نظم قوله تعالى:(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)[الغاشية: 17] الآية. فإن قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) إلى قوله تعالى: (وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ) تفصيلٌ لقوله تعالى: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية: 19 - 29]، وقوله:(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) إلى قوله تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) تفصيلٌ لقوله تعالى: (إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)[الغاشية: 17]، وإنما دخل الجبالُ، وإن لم يُنص عليها في التنزيل، لأن قوله تعالى:(فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ) يدل عليها، وإليه الإشارة بقوله:"فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض".
قوله: (سفينةُ برٍّ)، في المطلع:
ألا خيلت ميٌّ وقد نام صحبتي
…
فما نفر التهويم إلا سلامُها
طروقاً وجلبُ الرحلِ مشدودةٌ به
…
سفينةُ بر تحت خدي زمامها
صيدح: علمُ ناقةِ ذي الرُّمة. خيلت: أي: أرت خيالها، وصحبتي: فاعلُ نام. نفره
[(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ* إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)].
(غَيْرُهُ) بالرفع على المحل، وبالجرّ على اللفظ، والجملة استئناف تجرى مجرى التعليل للأمر بالعبادة (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم، وشكر نعمته التي لا تحصونها واجب عليكم، ثم تذهبوا فتعبدوا غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء (أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنفره: بمعنى. والتهويمُ: أولُ النوم. طروقاً: يقال: ناقةٌ طروقة الفحل التي قد بلغت أن يضربها الفحلُ، وهو مفعولُ "خيلت". جِلبُ الرحل بالجيم المكسورة: عيدانُه.
قوله: (وبالجر على اللفظ)، أي: قرئ: "غيرهِ" بالجر حملاً على اللفظ، قرأها الكسائي وحده.
قوله: (والجملة استئناف)، أي:(مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، وذلك أنه لما قال:(يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي: خُصوهُ بالعبادة قالوا: لم تأمرُ بعبادته وحده؟ قال: لأنه (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فدل اختصاص الجواب على اختصاص ما بُني له الكلامُ، وأن مقام الخطاب مع المشركين استدعى الاختصاص. قال القاضي:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً) إلى آخر القصص: مسوقٌ لبيانِ كفرانِ الناسِ ما عدد عليهم من النعم المتلاحقة، وما حاقهم من زوالها. وقد يجيء الكلامُ في بيان النظم عند قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)[المؤمنون: 57] إن شاء الله تعالى.
يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ)] يونس: 78 [. (بِهذا) إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلهم به من الحث على عبادة الله، أى: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعى -وهو بشر- أنه رسول الله، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوّة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر: وقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا) يدل على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة. أو تكذبوا في ذلك لانهماكهم في الغى، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عنّ لهم، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب. ألا تراهم: كيف جننوه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا وأوزنهم قولا؟ ! . والجنة: الجنون أو الجنّ، أى: به جنّ يخبلونه (حَتَّى حِينٍ) أى احتملوه واصبروا عليه إلى زمان، حتى ينجلي أمره عن عاقبة، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه.
[(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) 26 - 30].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألا تراهم كيف جننوه)، بيانٌ لقوله:"أو تُكذبوا في ذلك" يعني: قوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) تكذيبٌ وعنادٌ؛ لانهماكهم في الغي، ألا ترى كيف عقبوهُ بقولهم:(إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) والحالُ أنهم قد علموا أنه أعقلُ الناس؟
قوله: (يُخبلونه)، الجوهري: الخبلُ بالتسكين: الفسادُ، الخبلُ بالتحريك: الجِنّ، يقال: به خبلٌ، أي شيءٌ من أهل الأرض.
في نصرته إهلاكهم، فكأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم إياى، أو انصرني بدل ما كذبوني، كما تقول: هذا بذاك، أى بدل ذاك ومكانه. والمعنى: أبدلنى من غمّ تكذيبهم، سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)] الأعراف: 59 [. (بِأَعْيُنِنا) بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظا يكلئونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في نُصرته إهلاكهم)، يعني:"انصُرني": مجازٌ عن إهلاكهم؛ لأن في نُصرته إهلاكهم، إطلاقاً لاسم السبب على المسبب.
قوله: (أبدلني من غم تكذيبهم، سلوة النُّصرة)، أي:"انصُرني" متضمنٌ لمعنى: أبدلني، باستعانة الباء، ولهذا أوقع النصرة مفعولاً به مع حذف المضاف.
قوله: (أو انصُرني بإنجاز ما وعدتهم)، فعلى هذا متعلقُ "انصُرني" محذوفٌ، والباءُ سببيةٌ، كما في الوجه الأول. قال صاحب "الفرائد": يكفي أن يقال: انصرني بنزول العذاب عليهم بسبب تكذيبهم إياي.
قوله: (وهو ما كذبوه فيه)، يعني: دل إضافة (كَذَّبُوهُ) على تكذيب معهود كذبوه، وهو ما عُلم في سورة الأعراف من قوله:(فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)[الأعراف: 64] عندما قال عليه السلام: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الأعراف: 59] إلى آخرها، وعُلمَ من هذا البيان أن الفاء في قوله تعالى:(فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فاءٌ فصيحةٌ، أي: فكذبوه فقال: (رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) فأوحينا إليه: (أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) إلى قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) فامتثل مقتضى ما أوحيناه فأنجيناه والذين معه.
قوله: ((بِأَعْيُنِنَا) بحفظنا وكلاءتنا)، يعني: استعير لهذه الكلمة تلك الكلمة؛ ليؤذن بأنه عليه السلام كان بحفظ من الله وكلاءةٍ، بحيث يقدرُ منه أنه تعالى جرد من نفسه المقدسة المبرأة: عن كل ما لا يليق بجلالته جماعةً حفاظاً يكلؤونه بعيونهم، كما تقول: كان معك من زيدٍ أسدٌ.
يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة (وَوَحْيِنا) أى نأمرك كيف تصنع ونعلمك. روى أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر. روى أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب. وقيل: كان تنور آدم عليه السلام، وكان من حجارة، فصار إلى نوح. واختلف في مكانه، فعن الشعبي: في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد. وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة. وقيل بالهند. وعن ابن عباس رضى الله عنه: التنور وجه الأرض. وعن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أى أعلاه. وعن على رضى الله عنه: فار التنور: طلع الفجر. وقيل: معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر. وقيل: هو مثل، كقولهم: حمى الوطيس. والقول هو الأوّل. يقال: سلك فيه: دخله. وسلك غيره، وأسلكه. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جؤجؤ الطائر)، الجوهري: جؤجؤ الطائر والسفينة: صدورهما، الجميع: الجآجئ.
قوله: (فار التنور: طلع الفجر)، كأنه قيل: فار التنور من الأرض، وطلع الفجرُ من السماء، فيكون قوله:"وقيل: معناه" تفسيراً لقول عليٍّ رضي الله عنه.
المُغرب: التنورُ: مصدرُ نور بالفجر: إذا صلاها في التنوير. وقيل: أصله: ونورٌ، قُلبت الواو تاء كما في تراثٍ وتخمة. الأساس: أنار السراج ونوره، وتنور النار: تبصرها وقصدها.
قوله: (هو مثلٌ، كقولهم: حمي الوطيس)، النهاية: الوطيس: التنورُ. هو كنايةٌ عن شدة الأمر، واضطرام الحرب. ويقالُ: أول من قالها النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد البأس يوم حُنين.
حتّى إذا أسلكوهم في قتائده
(مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) من كل أمّتى زوجين، وهما أمة الذكر وأمّة الأنثى، كالجمال والنوق، والحصن والرماك (اثْنَيْنِ) واحدين مزدوجين، كالجمل والناقة، والحصان والرمكة: روى أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض. وقرئ: (من كل)، بالتنوين، أى: من كل أمّة زوجين. و (اثنين): تأكيد وزيادة بيان.
جيء ب"على" مع سبق الضارّ، كما جيء باللام مع سبق النافع. قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى)] الأنبياء: 101 [، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ)] الصافات: 171 [ونحوه قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)] البقرة: 286 [وقول عمر رضى الله عنه: ليتها كانت كفافا، لا علىّ ولا لي. فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ)، تمامه:
شلاً كما تطردُ الجمالةُ السُّردا
قيل: البيتُ لعبد منافٍ الهذلي، قتائدة - بضم القاف، والتاء المثناة من فوق-: ثنيةٌ معروفة. والشلُّ: الطردُ، أي: يشلون شلاً، والجمالُ: صاحبُ الجمل والجمالةُ. وناقةٌ شرودةٌ: سائرةٌ في البلاد. يصفُ جيشاً هزموهم وطردوهم حتى أسلوهم في هذه الثنية، كما تطرد الجمالة النوق الشُّرد النافرة. قيل: هذا البيت آخر القصيدة، فلا جواب لقوله: إذا أسلكوهم. وقيل: قوله: شلا، جوابٌ. أي: حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلاً، فاكتفى بالمصدر عن الفعل.
قوله: (والرماك)، الجوهري: الرمكة: الأنثى من البراذين، والجمعُ رِماك.
قوله: (ليتها كانت كفافاً، لا عليّ ولا ليا)، النهاية: وفي حديث عمر رضي الله عنه:
قلت: لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالا، ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين. ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهى عنه، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم، كقوله عز وجل (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)] الأنعام: 45 [، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها، منزلا يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته، وهو قوله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). فإن قلت: هلا قيل: فقولوا، لقوله (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) لأنه في معنى: فإذا استويتم؟ قلت: لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبىّ. وقرئ: (منزلا)، بمعنى إنزالا، أو موضع إنزال، كقوله: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه)] الحج: 59 [. "إِنَّ" هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى، وإن الشأن والقصة كُنَّا َمُبْتَلِينَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وددت أني سلمتُ من الخلافة كفافاً، لا علي ولا لي". الكفافُ: هو الذي يفضلُ عن الشيء، ويكون بقدر الحاجة. والنصبُ على أنه حالٌ، وقيل: أراد به مكفوفاً عني شرُها.
قوله: (وأن رُتبة تلك المخاطبة)، عطفٌ على سبيل البيان على قوله:"بفضل النبوة".
قوله: (وقرئ: (مُنْزَلاً))، أبو بكرٍ:"منزلاً" بفتح الميم وكسر الزاي، والباقون: بضم الميم وفتح الزاي.
أى مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد. أي: مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر، كقوله تعالى:(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر: 15].
[(ثُمَّ أَنْشَانا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) 31 - 32].
(قَرْناً آخَرِينَ) هم عاد قوم هود: عن ابن عباس رضى الله عنهما. وتشهد له حكاية الله تعالى قول هود: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)] الأعراف: 69 [، ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. فإن قلت: حق "أرسل" أن يعدى ب"إلى"، كأخواته التي هي: وجه، وأنفذ، وبعث. فما باله عدّى في القرآن ب"إلى" تارة، وب"في" أخرى، كقوله: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ)] الرعد: 30 [، (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ)] سبأ: 34 [. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا) أى في عاد. وفي موضع آخر (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً)] الأعراف: 65 [؟ قلت: لم يعدّ ب"في" كما عدّى ب"إلى"، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمّة أو القرية جعلت موضعا للإرسال، كما قال رؤبة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ببلاءٍ عظيم وعقابٍ شديد)، دل على ذلك صيغةُ التعظيم في قوله:(وَإِنْ كُنَّا)، ودل "إنْ" المخففة واللامُ على إيجاب إيقاع البلاء.
قوله: (كقوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، قال:"الضمير في (تَرَكْنَاهَا) للسفينة، أو للفعلة، أي: جعلناها آية يعتبرُ بها".
قوله: (هم عادٌ قومُ هود)، أي: ضميرُ "هم" في قوله: (مِنْ بَعْدِهِمْ) لعادٍ قوم هُود. قال القاضي: هم عادٌ، أو ثمودُ، والرسول هو هودٌ أو صالحٌ عليهما السلام.
قوله: (ولم يُجعل صلةً مثله، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال، يعني: ليست "في" للتعدية مثل "إلى"، لكن: رفٌ له، اقتطع "أرسلنا" من صلته، وجُعل مطلقاً،
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام
وقد جاء «بعث» على ذلك في قوله (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)] الفرقان: 51 [. (أَنِ) مفسرة بـ"أرسلنا"، أى: قلنا لهم على لسان الرسول (اعْبُدُوا اللَّهَ).
[(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَاكُلُ مِمَّا تَاكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) 33 - 34].
فإن قلت: ذكر مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم عُدي بـ "في" مبالغةً، كقوله:(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)[الأحقاف: 15] اقتُطع (ذُرِّيَّتِي) من كونه مفعولاً به، وذُهب به إلى كونه ظرفاً لـ"أصلح"، أي: اجعل ذُريتي موضعاً للصلاح.
قوله: (أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام)، تمامه من "المطلع":
طباً فقيهاً بذوات الإبلام
أصعب الجملُ: إذا لم يُكرب ولم يُذلل، فهو مصعبٌ، وهو الفحل، وبه سُمي الرجلُ مصعباً لسؤدده.
ذو إقحام، أي: يقحمُ في الأمور، ويدخلُ فيها بغير تلبثٍ ولا روية، والطبُّ: الحاذقُ، يقالُ: اعمل فيها عمل من طب لمن حب. والإبلامُ: مصدرُ أبلمتِ الناقةُ: إذا ورم حياؤها من شدة شهوة الفحل.
واو: (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ)[الأعراف: 66]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ))، هو في سورة الأعراف [66]. وقوله:(قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) في سورة هود [53]، وفي نسخةٍ قالوا:(مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا)[هود: 27]. وخلاصةُ الجواب: أن المقصود بيانُ الفرق بين القولين، ولا يتفاوتُ ذلك أية آيةٍ سلكت، وذلك بأن القطع لبعث السامع على موضع السؤال، فإذا أُجيب بما أجابوه يحصلُ عنده الفرق بين الكلامين من الحق والباطل، وعليه العطفُ، ولهذا قال:"وشتان ما هما"، وذلك أن السامع البليغ إذا سمع الكلامين المتصلين بالواو، لابد أن يتحرى للجهة الجامعة، فهاهنا يعلمُ أن الجهة هي التضاد، قالوا: جواب المصنف لا طائل تحته؛ لأن بين كلام هود عليه السلام وأجوبة القوم في هذه المواضع اختلافاً كثيراً، وكان الجواب أن يسأل عن كل ذلك فما بال الواو؟ وأيضاً، عليه أن يجيب عن سؤاله بموقع الواو هنا وإخلائه هناك، لا عن الخاصية، فإنها معلومةٌ عند علماء البيان.
قلتُ: يمكن أن يقال: إن هوداً مكث بين القوم أزمنةً متطاولة، وله معهم مقالات، ومجادلات في مقامات شتى، وذلك يوجب اختلاف العبارات، فإن لكل قوم مقالاً، فكان كلامه في سورة هود أبسط من هذين الموضعين؛ لأنه قد أهر فيه النصيحة التامة، وضم مع الأمر بالعبادة الأمر بالاستغفار والتوبة، وعدهم بذلك البركات والخيرات، وكان ذلك مظنة لبعث السامع وتحركه على السؤال، فما كان جواب القوم عنه بعد تلك النصيحة البالغة. أما في الأعراف وإن لم يبسط ذلك البسط، لكن ذكر فيه اسم هود بعد التوطئة بقوله:(أَخَاهُمْ)، فدل على إضمار النصح، بل أهم وأبلغث من ذلك؛ فإن الأخوة مئنةق لكل حدب ومرحمة، ألا ترى كيف من الله تعالى على قريش بقوله:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]، بخلافه هاهنا، بل طوى اسمه أيضاً، والقوم ما التفتوا إليه، وإلى كلامه، وما أجابوا، بل كانت تلك المقالة دمدمةً فيما بينهم. والله تعالى أعلمُ بأسرار كلامه.
وقال القاضي: لعله ذكره بالواو؛ لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول، بخلاف قول قوم نوح، وحيث استؤنف به فعلى تقدير سؤال.
(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ)[هود: 53]، وهاهنا مع الواو، فأي فرق بينهما؟ قلت: الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال قومه؟ فقيل له: قالوا كيت وكيت. وأما الذي مع الواو، فعطف لما قالوه على ما قاله. ومعناه: أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل، وشتان ما هما (بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، كقولك: يا حبذا جوار مكة: أى جوار الله في مكة.
حذف الضمير، والمعنى: من مشروبكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وشتان ما هما)، الجوهري: شتان ما عمرو وأخوه، أي: بعُدَ ما بينهما. الأصمعي: لا يقال: شتان ما بينهما. وشتان مصروفٌ عن شتُتَ، والفتحة التي في النون هي الفتحة التي كانت في التاء، لتدل على أنه مصروفٌ عن الفعل الماضي، وكذلك سرعان ووشكان: مصروفٌ عن سرُع ووشك. وقال ابن جني: شتان: اسمُ "افترق"، كما أن هيهات: اسمُ "بعُدَ"، وأفٍّ: اسمُ "اتضجرُ".
قوله: (جوار مكة، أي: جوار الله في مكة)، وهذا أيضاً مجاز؛ لأن الجوار يستدعي من يكون في جواره، لكنه تعالى لما أضاف البيت إلى نفسه، فمن أقام فيه فكأنه في جوار الله فقيل: جار الله.
النهاية: وفي الحديث: "أنه كان يُجاورُ في العشر الأواخر من رمضان"، أي: يعتكفُ. وهي مفاعلةٌ من الجوار. فأما المجاور بمكة المدينة: فيرادُ بها المقامُ مطلقاً غير ملتزم بشرائط الاعتكاف الشرعي.
أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه (إِذاً) واقع في جزاء الشرط، وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أى: تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم.
[(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) 35 - 38].
ثني (أَنَّكُمْ) للتوكيد، وحسن ذلك لفصل ما بين الأوّل والثاني بالظرف. و (مخرجون):
خبر عن الأول. أو جعل (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبتدأ، و (إِذا مِتُّمْ) خبرا، على معنى: إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن (إنكم)، أو رفع (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) بفعل هو جزاء للشرط، كأنه قيل:
إذا متم وقع إخراجكم، ثم أوقعت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو حُذف منه، لدلالة ما قبله عليه)، يريد أن "ما" في (مِمَّا تَشْرَبُونَ) موصولةٌ، ولابد من الراجع، فحُذف؛ لأن المراد: مما يشربونه، أو يشربون منه؛ لدلالة قوله:(مِمَّا تَاكُلُونَ مِنْهُ).
قوله: (ثُنيَ (أَنَّكُمْ) للتوكيد)، قال الزجاج: أما (أَنَّكُمْ) الأولى لموضعها نصبٌ على معنى: أبعدكم بأنكم إذا متم، والثانية كالأولى ذُكرت توكيداً، والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم، فلما بعُدَ ما بين "أنّ" الأولى والثانية بالظرف أعيد (أَنَّكُمْ)، كقوله تعالى:(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ)[التوبة: 63]، المعنى: فله نارُ جهنم، هذا مذهبُ سيبويه.
قوله: (ثم أخبر بالجملة عن (أَنَّكُمْ))، يعني:(أَنَّكُمْ) الثانية تُجعلُ مبتدأ، وخبره:(إِذَا مِتُّمْ)، والجملةُ خبرُ المبتدأ الأول.
الجملة الشرطية خبرا عن (إنكم). وفي قراءة ابن مسعود: (أيعدكم إذا متم).
قرئ (هَيْهاتَ) بالفتح والكسر والضم، كلها بتنوين وبلا تنوين، وبالسكون على لفظ الوقف فإن قلت:"ما توعدون" هو المستبعد، ومن حقه أن يرتفع ب"هيهات"، كما ارتفع في قوله: .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: (هَيْهَاتَ) بالفتح والكسر والضم)، قال ابن جني: بكسر التاء غير منونةٍ: قراءةُ أبي جعفر والثقفي. وبالتنوين: عيسى بن عمر. وبالضم منونةً: أبو حيوة؛ وغير منون: عيسى الهمدانيُّ ورويت عن أبي عمرو. أما الفتحُ، وهو قراءةُ العامة، فعلى أنه واحدٌ، وهو اسمٌ سُمي به الفعل في الخبر، وهو اسم "بَعُدَ"، كما أن "شتان" سُمي به "افترق"، ومن كسر التاء منوناً وغير منونٍ فهُو جمعُ "هيهات".
وقال الزجاجُ: هو جمعُ هيهة وإن لم يُنطق به، مثل عرفة، جمعُه: عرفات، وإنما كُسَرِ في الجمع؛ لأن بناء الفتح في الجمع كسر، نحو: رأيتُ الهنداتِ.
وقال ابن جني: ومن نونَ ذهب إلى التنكير، أي: بُعداً بُعْداً. ومن لم يُنون ذهب إلى التعريف، أي: البعد البُعدَ. ومن فتح وقف بالهاء؛ كهاء أرطاة، ومن قال:"هيهاة" يكتبها بالهاء؛ لأن أكثر القُراء قالوا: هيهات بالفتح، والفتحُ يدلُّ على الإفراد، والإفرادُ بالهاء كعلقاة. ومن رفع وقال: هيهاةُ فقد أخلصها اسماً للفعل. وقال الزجاج: أما التنوين والفتح فلا أعلمُ أحداً قرأ بها.
فهيهات هيهات العقيق وأهله
فما هذه اللام؟ قلت قال الزجاج في "تفسيره": البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون فيمن نوّن، فنزله منزلة المصدر. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما جاءت اللام في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23] لبيان المهيت به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فهيهات هيهات العقيقُ وأهلهُ)، تمامه في "المطلع":
وهيهات خلٌّ بالعقيق نواصله
قوله: (قال الزجاج في "تفسيره")، قال فيه: من فتحها وموضعها الرفعُ، وتأويلها: البعد لما تُوعدون، فلأنها بمنزلة الأصوات وليت مشتقة من فعل فبُنيت. فأما من نون جعلها نكرةً، ويكونُ المعنى: بعُد لما تُوعدون، وهو مثلُ: سلامٌ عليكم.
قال صاحب "التقريب": وفي بناء "هيهات" ولم يقع موقع "بَعُدَ" نظرٌ.
وقال أبو البقاء: قولُ من قال: "هيهات" بمعنى البُعْدِ، يكون موضعه مبتدأ، و (لِمَا تُوعَدُونَ) الخبرُ، وهو ضعيف.
قوله: (اللام لبيان المستبعد ما هو)، قال القاضي: كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل: فما له هذا الاستبعاد؟ قالوا: لما تُوعدون.
قال صاحب "التقريب": فعلى هذا في فاعل "هيهات" نظرٌ. وقال ابن جني: ولا يجوز أن يكون (لِمَا تُوعَدُونَ) فاعل "هيهاتَ"؛ لأن حرف الجر لا يكون فاعلاً، ولم يجز اعتقادُ زيادة اللام أيضاً، وإنما يُزادُ الغرضُ بزيادتها فيه تمكين الإضافة، قال: يا بؤس للحرب،
هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه. وأصله إن الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ثم وضع (هِيَ) موضع "الحياة"، لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها. ومنه: هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت. والمعنى: لا حياة إلا هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويا بؤس للجهل. وإذا لم يكن بُدٌّ من فاعل، ولم يكن الظاهر فاعلاً، ففيها ضمير فاعل لا محالة هذا جوابٌ عن النظر.
قوله: (هي النفس ماحملتها تتحملُ)، تمامه:
وللدهر أيامٌ تجورُ وتعدلُ
قال صاحبُ "الفرائد": ما ذكر ليس لما نحنُ له؛ لأنه يصح أن يُقال: الحياةُ حياتنا الدنيا، ولا يصح: النفسُ النفسُ ما حملتها تتحملُ، والنفس الثانية: خبرٌ للنفس الأولى، وكذا القول في: هي العرب، فلا يصح أن تكون الثانية مبينة للأولى فيهما، فلابد من اعتبار شيء يرجع إليه الضمير، والذي تقدم لفظ الحياة في قوله:(وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وقلت: استشهاده لمجرد البيان؛ لأن الضمير في قوله: هي النفسُ ما حملتها تتحملُ، وكذلك في قوله: وهي العرب تقول: ضمير القصة، الجملة مفسرةٌ، نحو:(هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الإخلاص: 1]، أي: القصة هذه، وهي أن النفس ما حملتها تتحملُ، وأن العرب تقولُ ما شاءت، على أن من الفصيح أن يُقال: النفسُ النفسُ ماحملتها تتحملُ، والعرب العرب تقول ماشاءت، على طريقة:
أنا أبو النجم وشعري شعري
وتكونُ الجملة الثانية مبينةً للأولى، كما سبق في قوله تعالى:(إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)[المائدة: 109] إذا انتصب (عَلاَّمُ) على المدح، وأما قوله: "الضمير راجعٌ إلى لفظ الحياة
الحياة لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى "الحياة" الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت «لا» التي نفت ما بعدها نفى الجنس (نَمُوتُ وَنَحْيا) أى يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن ويأتى قرن آخر، ثم قالوا: ما هود إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه له، وفيما يعدنا من البعث، وما نحن بمصدّقين.
[(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 39 - 41].
(قَلِيلٍ) صفة للزمان، كقديم وحديث، في قولك: ما رأيته قديما ولا حديثا. وفي معناه:
عن قريب. و «ما» توكيد قلة المدّة وقصرها (الصَّيْحَةُ) صيحة جبريل عليه السلام: صاح عليهم فدمّرهم (بِالْحَقِّ) بالوجوب، لأنهم قد استوجبوا الهلاك. أو بالعدل من الله، من قولك: فلان يقضى بالحق إذا كان عادلا في قضاياه: شبههم في دمارهم بالغثاء: وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان، .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله تعالى: (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) " فبعيدٌ جداً؛ لأن تلك الحياة واقعةٌ في كلام الله تعالى، وهذه في أثناء كلام القوم؛ لأنه تعالى يحكي كلامهم من قوله:(مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلى قوله: (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ).
قوله: ((قَلِيل) صفةٌ للزمان)، أي: عن زمان قليل.
المطلع: أي: عن قريب من الزمان، يعني عند الموت أو عند نزول العذاب. وقال أبو البقاء:"و"عن" يتعلق بـ (لَيُصْبِحُنَّ)، ولم يمنع اللام ذلك، كما منعتها لامُ الابتداء. وأجازوا: زيداً لأضربن، لأن اللام للتوكيد، ومثله قوله تعالى:(بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)[الروم: 8]، وقيل: اللامُ تمنعُ من التقديم، إلا في الظروف؛ فإنه يُتسعُ فيها.
ومنه قوله تعالى (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى)] الأعلى: 5 [وقد جاء مشدّدا في قول امرئ القيس:
من السّيل والغثّاء فلكة مغزل
بعدا، وسحقا، ودفراً ونحوها، مصادر موضوعة مواضع أفعالها، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها. ومعنى "فَبُعْداً": بعدوا، أى: هلكوا يقال: بعد بعدا وبعدا، نحو رشد رشدا ورشدا. و (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بيان لمن دعى عليه بالبعد، نحو:(هَيْتَ لَكَ)] يوسف: 23 [. و (لِما تُوعَدُونَ)] المؤمنون: 36 [.
[(ثُمَّ أَنْشَانا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَاخِرُونَ) 42 - 43].
(قُرُوناً) قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بنى إسرائيل (أَجَلَها) الوقت الذي حدّ لهلاكها وكتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى))، قال:"دريناً أسودَ"، والدرينُ: ما اسود من المرعى.
قوله: (من السيل والغُثاء فلكةُ مغزل)، أوله:
كأن ذُرى رأس المجيمر غُدوةً
المجيمرُ: جبل في بلاد بني تميم بكسر الميم الثاني شبه استدارةَ هذه الأكمة بما أحاط بها من غُثاءِ السيل باستدارة فلكةِ مغزلٍ، وإحاطتها بالمغزل.
ورُوي "فُلكةُ": بضم الفاءِ، وكسرها وفتحها.
قوله: (ودفرا)، الجوهري: الدفرُ: النتن خاصةً. يقال دفراً له، أي: نتناً، ومنهُ قيل للدُّنيا: أمُّ دفرٍ.
[(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) 4].
(تَتْرا) فعلى: الألف للتأنيث، لأنّ الرسل جماعة. وقرئ:(تترى)، بالتنوين، والتاء بدل من الواو، كما في: تولج، وتيقور، أى: متواترين واحدا بعد واحد، من الوتر وهو الفرد: أضاف الرسل إليه وإلى أممهم (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ)] المائدة: 32 [(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)] الأعراف: 101 [لأنّ الإضافة تكون بالملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا (فَأَتْبَعْنا) الأمم أو القرون (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك (وَجَعَلْناهُمْ) أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. الأحاديث: تكون اسم جمع للحديث. ومنه: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتكون جمعا للأحدوثة: التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة. وهي: ما يتحدّث به الناس تلهيا وتعجبا، وهو المراد هاهنا.
(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) 45 - 46 [.
فإن قلت: ما المراد بالسلطان المبين؟ قلت: يجوز أن تراد العصا، لأنها كانت أمّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "تترى" بالتنوين)، ابن كثير وأبو عمرو.
قوله: (في: تولج وتيقور)، الجوهري: التولج: كناسُ الوحش الذي يلجُ فيه. قال سيبويه: التاءُ مبدلةٌ من الواو، وهو فوعلٌ؛ لأنك لا تكادُ تجدُ في الكلام تفعلٌ اسماً، وفوعلٌ كثير، والتيفور: الوقارُ، وأصله: ويقُور، قُلبت الواو تاءً.
آيات موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى: من انقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وكونها حارسا، وشمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلوا ورشاء. جعلت كأنها ليست بعضها لما استبدت به من الفضل، فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)] البقرة: 98 [ويجوز أن تراد الآيات أنفسها، أى: هي آيات وحجة بينة (عالِينَ) متكبرين (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ)] القصص: 4 [، (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ)] القصص: 83 [؛ أو متطاولين على الناس قاهرين بالبغي والظلم.
(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)) 47 - 48 [
البشر يكون واحدا وجمعا: (بَشَراً سَوِيًّا)] مريم: 17 [، (لِبَشَرَيْنِ)، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ)] مريم: 26 [و «مثل» و «غير» يوصف بهما: الاثنان، والجمع، والمذكر والمؤنث؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أفكتهُ السحرةُ)، الأساس: أفكه عن رأيه: صرفه. النهاية: وفي الحديث: "لقد أُفِكَ قومٌ كذبوك"، أي: صرفوا عن الحق ومنعوا منه، يقال: أفكهُ يأفكه: إذا صرفه عن الشيء فقلبه.
قوله: (ويجوزُ أن تُراد الآياتُ أنفسها)، أي: يرادُ بالسلطان نفسُ الآيات، فالعطفُ من باب قولك:"مررتُ بالرجل الكريم والنسمة المباركة، جرد من نفس الآيات سلطانٌ مبين، وعُطِفَ عليها مبالغةً وهو هي".
قوله: (و"مثلٌ" و"غيرٌ" يوصف بهما الاثنان والجمع)، قال أبو البقاء: إنما لم يُثَنّ (مِثْلَنَا)، وإن كنا موصوفه مثنى؛ لأنه في حُكم المصدر، وقد جاءت تثنيته، وجمعه، في
(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ)] النساء: 140 [، (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)] الطلاق: 12 [ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ)] الأعراف: 194 [. (وَقَوْمُهُما) يعنى بنى إسرائيل، كأنهم يعبدوننا خضوعا وتذللا. أو لأنه كان يدعى الإلهية فادعى للناس العبادة، وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)) 49 [
(مُوسَى الْكِتابَ) أى قوم موسى التوراة (لَعَلَّهُمْ) يعملون بشرائعها ومواعظها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ)[آل عمران: 13]. وقوله: (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد: 38]، وقيل: إنما وحد؛ لأن المراد المماثلة في البشرية، وليس المرادُ الكمية.
قال القاضي: هذه القصصُ كما ترى تشهدُ بأن قصارى شبه المنكرين للنبوة، قياسُ حال الأنبياء على أحوالهم؛ لما بينهم من المماثلة في الحقيقة، وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمل؛ فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإدراكات، لكنها متباينة الأقدام فيهما، وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم التفكر برادةٍ، يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التعلم والتفكر في أكثر الأشياء، وأغلب الأحوال، فيدركون ما لا يدرك غيرهم، ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم، وإليه أشار بقوله تعالى:(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)[الكهف: 11]
قوله: ((مُوسَى الْكِتَابَ)، أي: قوم موسى)، فلذا جمع الضمير في (لَعَلَّهُمْ)، وأعيد ذكرُ موسى عليه السلام؛ ليناط به ذكرُ الكتاب، وكونه مبعوثاً إلى بني إسرائيل كما ذكر في الآية السابقة، وقرن به الآيات والسلطان وكونه مبعوثاً إلى فرعون وملئه.
كما قال: (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ)] يونس: 83 [يريد آل فرعون، وكما يقولون: هاشم، وثقيف، وتميم، ويراد قومهم. ولا يجوز أن يرجع الضمير في (لَعَلَّهُمْ) إلى فرعون وملئه، لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى)] القصص: 43 [.
] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)) [
فإن قلت: لو قيل آيتين هل كان يكون له وجه؟ قلت: نعم، لأنّ مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقى إليها، وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر، فكان آية من غير وجه، واللفظ محتمل للتثنية على تقدير وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ آية وَأُمَّهُ آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. الربوة والرباوة في رائهما الحركات. وقرئ:(ربوة) و (رباوة)، بالضم. و (رباوة) بالكسر وهي الأرض المرتفعة. قيل: هي إيليا أرض بيت المقدس، ........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يريد آل فرعون)، بدليل جمع الضمير في (وَمَلَئِهِمْ) [يونس: 83]، وإلا فالظاهر: وملئه، وكذلك هاهنا: قال: موسى، وأريد قومُ موسى.
قوله: (لو قيل: آيتين، هل كان يكون له وجهٌ)، "يكون": يجوز أن تكون مزيدة، وأن تكون خبر "كان" والاسمُ: ما دل عليه "قيل". هذا السؤال مؤذنٌ بأن الوجه ما ذكر في الأنبياء.
فإن قُلت: هلا قيل: آيتين، كما قال:(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ)[الإسراء: 12]؟ قلتُ: لأن حالهما بمجموعهما آيةٌ واحدةٌ، وهي ولادتها إياه من غير فحل.
قوله: (الربوة والرباوة: في رائهما الحركات)، بفتح الراء، وسكون الباء، وفتح الواو: ابن عامرٍ وعاصمٌ، والباقون: هكذا إلا بضم الراء. والرباوةُ بالضم والكسر: شاذة.
وأنها كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا: عن كعب. وقيل: دمشق وغوطتها.
وعن الحسن: فلسطين والرملة، وعن أبى هريرة: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين، فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقيل: مصر. والقرار: المستقرّ من أرض مستوية منبسطة. وعن قتادة: ذات ثمار وماء. يعنى أنه لأجل الثمار: يستقرّ فيها ساكنوها. والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، نحو: ركبه، إذا ضربه بركبته. ووجه من جعله فعيلا: أنه نفاع بظهوره وجريه، من الماعون: وهو المنفعة.
[(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) 51].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإنها كبدُ الأرض)، الأساس: ومن المجاز: وداره كبدُ نجد: وسطه، وكذلك وسط كل شيء، وبلغ كبد السماء، وتكبدت الشمسُ: توسطت السماء.
قوله: (دمشقُ وغوطتها)، الجوهري: الغوطة بالضم: موضعٌ بالشام كثيرُ الماء والشجر.
قوله: (ووجه من جعله فعيلاً: أنه نفاعٌ)، قال الزجاج: يجوز أنيكون فعيلاً من المعن، مشتقاً من الماعون، وهذا بعيدٌ؛ لأن المعن في اللغة: الشيء القليل، والماعونُ هو الزكاة، وهو فاعولٌ من المعن، وإنما سُميت الزكاةُ بالشيء القليل؛ لأنه يؤخذُ من المال ربعُ عُشره، فهو قليلٌ من كثير.
والمصنفُ جعلهُ من الماعون الذي يتعاوره الناس في العادة من الفأس والقدر ونحوهما.
الجوهري: الماعون: اسمٌ جامعٌ لمنافع البيت، ويُسمى الماء أيضاً ماعوناً، وعن أبي عبيدة: الماعون في الجاهلية: كل منفعةٍ وعطية، وفي الإسلام: الطاعةُ والزكاة.
هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة. وإنما المعنى: الإعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه نودي لذلك «1» ووصى به، ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه. والمراد بالطيبات: ما حل وطاب. وقيل: طيبات الرزق حلال وصاف وقوام، فالحلال: الذي لا يعصى الله فيه، والصافي: الذي لا ينسى الله فيه، والقوام: ما يمسك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة؟ )، الانتصاف: هذه نفحةٌ اعتزالية، فمذهبنا أن الله تعالى في الزل متكلمٌ آمرٌ ناه، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين، بل الخطاب أزلاً على تقدير وجود المخاطبين. والمعتزلة أنكروا قدم الكلام، فحملوا الآية على خلاف ظاهرها، وما ذكروه جار في جميع الأوامر العامة للأمة.
وقال القاضي: الخطابُ لجميع الأنبياء عليهم السلام على معنى أن كلا منهم خوطب في زمانه، فيدخل تحته عيسى عليه السلام دخولاً أولياً، أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيهاً على أن تهيئة أسباب التنعيم لم تكن له خاصة، وأن إباحة الطيبات للأنبياء عليهم السلام شرعٌ قديم، واحتجاجاً على الرهبانية في رفض الطيبات، أو حكاية لما ذُكر لعيسى عليه السلام ومريم وإيوائهما إلى الربوة، ليقتديا بالرسل في تناول ما رُزقا. وقيل النداء له، ولفظ الجمع للتعظيم.
قوله: (ويُعمل عليه)، ضمن "يُعمل" معنى المواظبة، أي: يواظب عليه في العمل.
قوله: (والمراد بالطيبات: ما حل وطاب)، قال القاضي: والطيباتُ: ما يُستلذُّ من المباحات.
النفس ويحفظ العقل. أو أريد ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه. ويشهد له مجيئه على عقب قوله (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)] المؤمنون: 50 [ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة، فذكر على سبيل الحكاية، أى: آويناهما وقلنا لهما هذا، أى: أعلمناهما أنّ الرسل كلهم خوطبوا بهذا، فكلا مما رزقنا كما واعملا صالحا اقتداء بالرسل.
[(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) 52].
قرئ: (وإنّ)، بالكسر على الاستئناف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا))، أي: آويناهما إلى ربوة ذات قرار ٍومعين، أي: ذات ثمارٍ ومآكل، وقلنا لهما: فكلا مما رزقناكما، واعملا صالحاً، ففيه أيضاً أن هذا الإعلام لعيسى ومريم عليهما السلام فذُكر على سبيل الحكاية، وهو أولى من أن يكون إعلاماً ابتداءً، وفيه أن قول قتادة رضي الله عنه: إن المراد بذات قرارٍ ومعين: ذاتُ ثمارٍ وماء، أرجحُ. وكذا قول من قال: إن المراد بالربوة: هي دمشقُ، أظهرُ، لاجتماعهما فيها.
قوله: (ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم عليهما السلام إلى الربوة)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ إذ لي المقول لهما: يا أيها الرسل؛ لأنه لإنشاء النداء، فلعله أراد: أعلمناهما معناه الخبري، وهو خطاب الرسل عليهم السلام لدلالة الإنشاء عليه.
قلتُ: بل أراد أن هذا الكلام كما أنه في الظاهر خطابٌ لجميع الرسل قاطبةً على معنى أنك لا منهم خوطب به في زمانه، ويدخل فيه عيسى دخولاً أولياً، وفي المعنى إعلامٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فكذلك يجوز أن يكون بعينه إعلاماً لعيسى عليه السلام ليقتدي بالرسل في تناول ما رزق، فذكر على سبيل الحكاية.
قوله: (قرئ: (وإِنَّ)، بالكسر)، الكوفيون:"إن هذه" بكسر الهمزة، والباقون:
و (أنّ) بمعنى و (أنّ)، وأن مخففة من الثقيلة، و (أُمَّتُكُمْ) مرفوعة معها.
] (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) 35 [
وقرئ (زُبُراً) جمع زبور، أى: كتبا مختلفة، يعنى: جعلوا دينهم أديانا، و (زبرا) قطعا:
استعيرت من زبر الفضة والحديد، و (زبرا): مخففة الباء، كرسل في رسل، أى: كلّ فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئنّ النفس، معتقد أنه على الحق.
(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) 54 [
الغمرة. الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم. أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بفتحها. وخفف ابن عامرٍ النون، وشددها الباقون.
قوله: (و"أنّ" بمعنى: ولأنّ)، قال الزجاجُ: المعنى: ولأن هذه أمتكم أمةً واحدةً، وأنا ربكم فاتقون، أي: فاتقون لهذا.
قوله: (و (أُمَّتُكُمْ) مرفوعةٌ معها)، المطلع: أي: مع القراءات على خير"إنّ"، وقيل:"مرفوعةٌ معها"، أي: مع المخففة، وهذا أولى. قال أبو البقاء:(أُمَّتُكُمْ) الرفع على أنه خبرُ "إنّ"، والنصبُ على أنه بدلٌ أو عطفُ بيان، و (أُمَّةً) بالنصب: حالٌ، وبالرفع: بدلٌ من (أُمَّتُكُمْ) أو: خبر مبتدأ. فعلى هذا في المخففة: (أُمَّتُكُمْ): إما خبر، وإما بدلٌ، وعلى التقديرين: لا يجوز سوى الرفع، بخلافه في المثقلة.
قوله: (أو شبهوا باللاعبين)، يريد أن قوله:(فِي غَمْرَتِهِمْ) استعارةٌ، شبه جهلهم
كأنّني ضارب في غمرة لعب
وعن علي رضي الله عنه: في غمراتهم (حَتَّى حِينٍ) إلى أن يقتلوا أو يموتوا.
] (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)) [
سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره. وقرئ:(يمدّهم). و (يسارع)، و (يسرع)، بالياء، والفاعل الله سبحانه وتعالى. ويجوز في:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بغمرةِ الماء إذا وقع فيها الشخص، فلا يدري كيف يتخلص منها، والجامع الوقوع في ورطة الهلاك، ثم كثر استعمالها في هذا المعنى حتى صار كالمثل السائر في الشهرة. أو قوله:(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) تمثيلٌ، شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب، والجامعُ: تضييع السعي بعد الكدح في العمل، ها الوجه موافقٌ لما قبله، هو قوله:(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
قوله: (كأنني ضاربٌ في غمرةٍ لعبُ)، أوله في "المطلع":
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه
يطبيني: دعاني، وطباه يطبوه ويطبيه: دعاه. الضاربُ: السابحُ في الماء، وأصلُ الضرب: الإسراعُ في الأرض. والغمرةُ من الماء: ما غطاك إذا وقفت فيه. يقول: تدعوني ليالي اللهو فأتبعه، كأنني سابحٌ في غمرةٍ من الماء لعبٌ فيه. وروايةُ "المطلع": لغبُ، بالغين المعجمة، وهو من اللغوب. ويُروى "اللهو": بالرفع، فالجملة مضافٌ إليها لقوله: ليالي.
قوله: (وقرئ: "يمدهم"، و"يُسارعُ"، و"يُسرعُ" بالياء)، قال ابن جني: قرأ الحُرُّ
(يسارع)، و (يسرع): أن يتضمن ضمير الممدّ به. و (يسارع)، مبنيا للمفعول. والمعنى: أنّ هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، وفيما لهم فيه نفع وإكرام، ومعاجلة بالثواب قبل وقته. ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين. (وبَلْ) استدراك لقوله (أَيَحْسَبُونَ) يعنى: بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك: أهو استدراج، أم مسارعة في الخير؟ فإن قلت: أين الراجع من خبر أنّ إلى اسمها إذا لم يستكنّ فيه ضميره؟
قلت: هو محذوف تقديره: نسارع به، ويسارع به، ويسارع الله به، كقوله (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)] لقمان: 17 [
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النحوي: "نُسرع"، وعبد الرحمن بن أبي بكرة:"يُسارع لهم"، و"يُسارعُ": بضم الياء وكسر الراء وفتحها. وقراءة الجماعة: (نُسَارِعُ) بالنون والألف. وقال: على هذه القراءات إلا على قراءة عبد الرحمن: "يسارع"، بكسر الراء، فيه ضميرٌ محذوفٌ، أي: نُسارع لهم به، أو يسارع لهم به، أو: نُسرع لهم به، فحذف للعلم بهن كما في قولهم: السمن منوان بدرهم. وأما قراءة "يُسارع" بكسر الراء، فلا حاجة به إلى تقدير حذف الضمير؛ لأن في الفعل ضميراً يعود على (ما) في قوله:(أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ)، ولم يذكُر ابن جني في قراءة "يُسرع" تضمين الضمير.
وقال القاضي: (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ): بيانٌ لـ"ما"، وليس خبراً له، فإنه غير مُعابٍ عليه، وإنما المُعابُ عليه اعتقادهم أن ذلك خيرٌ لهم، فخبره:(نُسَارِعُ لَهُمْ).
أي إن ذلك منه، وذلك لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس.
] (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) 57 - 61 [
(يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما أعطوا، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة:
(يأتون ما أتوا)، أى يفعلون ما فعلوا. وعنها أنها قالت: قلت يا رسول الله، هو الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله تعالى عنها: "يأتون ما أتوا")، روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن عائشة: أن عبيد بن عمير سألها عن قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يقرؤها: أيؤتون أو يأتون؟ فقالت: أيهما أحب إليك؟ قال: "الذين يأتون ما أتوا" أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها، قالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت.
قال الزجاج: ومن قرأ (يُؤْتُونَ مَا آتَوا) فإن معناه يعطون ما أعطوا وهم يخافون أن لا يتقبل منهم. ومن قرأ "يأتون ما أتوا" أي: يعملون من الخيرات ما عملوا وقلوبهم خائفة.
وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "هو الذي يزني ويسرق؟ " إلى آخره، فرواه الترمذي وابن ماجه مع تغيير يسير في اللفظ. وهو محمول على التشديد لئلا يتكل الظالم لنفسه، وهو وجه التوافق بين الحديثين.
يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: "لا يا ابنة الصدّيق، ولكن هو الذي يصلى ويصوم ويتصدّق، وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه"«1» (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يحتمل معنيين، أحدهما: أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام، كما قال (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ)] آل عمران: 148 [، (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] العنكبوت: 27 [لأنهم إذا سورع بها لهم، فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة، لأن فيه إثبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة)، وهي:(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: ليس فيما أوتي الكافرون من أموال وبنين مُسارعةٌ في الخيرات، فإن ذلك استدراجٌ، بل ما أوتي المؤمنون هو مسارعةٌ في الخيرات، وهم المختصون بأن ينالوا الخيرات قبل الآخرة، حيث عجلت لهم في الدنيا. ولأن (أُوْلَئِكَ) يستدعي أن من قبله جديرٌ بما بعده، لاكتسابه تلك الفضائل، وهذا لا يستقيم إلا على هذا الوجه.
وأما قضية النظم - والله تعالى أعلم-: فإن هذه السورة قُطبُ معناها دائرٌ على وصف أمةِ الدعوة أجمع، السابقين منهم، والمقتصدين والظالمين لأنفسهم، ثم الغافلين من الكافرين المعاندين منهم. فهذه خمسة أصناف، فلما صدر السورة بالصنف الأول واستوفى مدحهم، وأراد أن يشرع في وصف سائرهم أتى بدليلي الأنفس والآفاق تنبيهاً وإيقاظاً للساهين، وبقصص الأنبياء السالفة والأمم الخالية تخويفاً واعتباراً للغافلين، ثم قال:(وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) إلى قوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)، ألا ترى كيف نعى عليهم غفلتهم بقوله تعالى:(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) وجعله تخلصاً إلى ذكر ما للمؤمنين أجمعين من السبق والمسارعة في الخيرات، فذكر فريقي المؤمنين: المقتصد منهم وهو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) والظالم منهم، وهو قوله تعالى:(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، ويجوز الحمل على هذا؛ لأن الظالم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو: من لا يشرك بالله عز وجل، ويخافُ الرجوع، وهو مع ذلك يرتكب المناهي، ولأن الأصل أن تكون الخشية لقوم، والوجل لآخرين، ولأن التقسيم حاصلٌ كما سبق فلابد من اعتبار
ما نفي عن الكفار للمؤمنين. وقرئ: (يسرعون في الخيرات)(لَها سابِقُونَ) أى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها. أو إياها سابقون، أي: ينالونها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا القسم، وعليه قول عبيد بن عمير لعائشة رضي الله عنها: الذي يأتون ما أتوا أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها، وإنما يكون كذلك إذا دلت على الرجاء التام، وأن المراد منهم العاصون، ويكون مجيء قوله تعالى:(أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) كالفذلكة لما للفرق الثلاث من الفضل والكرامة والخير على وزان قوله تعالى في فاطر: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)[فاطر: 32 - 33] بعد ذكر الفرق الثلاث.
وقوله: (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ)، كالتذييل لاستيعاب الأعمال كلها، واستيفاء جزائها، على منوال قوله تعالى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه)[الزلزلة: 7 - 8]، ولهذا نفى الظلم بقوله:(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) هذا على تقدير قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما على قراءة العامة فالآيات تنزيلٌ على قسم المقتصد، ويُفهم الظالم لنفسه من مفهوم قوله تعالى:(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ) كما نزلها المصنفُ على السابق: (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ) على المقتصد في قوله: "ولدينا كتابٌ فيه عملُ السابق والمقتصد، ولا نظلمُ أحداً من عمله، ولا نحطه دون درجته".
وأقول: عملُ الظالم لنفسه أيضاً؛ لأن الكتاب جامعٌ للأعمال كلها وثوابها وإن كان مثقال ذرة، وإخراجُ البعض تحكم. وهو أيضاً للتخلص من ذكر الفرق الثلاث إلى ذكر المعاندة من هذه الأمة؛ ولهذا قال:(بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي: قلوبُ المعاندة، ثم أخذ في وصفهم إلى أن ختم السورة، فبدأ بالعالي، وختم بالعالي، وافتتح بقد أفلح المؤمنون، واختتم بلا يُفلحُ الكافرون. والله يقولُ الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (أو: إياها سابقون)، فعلى هذا اللام لضعف عمل اسم الفاعل، نحو: ضاربٌ لزيد. وعلى الأول: اللامُ بمعنى: لأجل، و"السابقون": إما مُجرى مجرى اللازم، فلا يُقدرُ
قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. ويجوز أن يكون (لَها سابِقُونَ) خبرا بعد خبر. ومعنى (وَهُمْ لَها) كمعنى قوله:
أنت لها أحمد من بين البشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفعوله، وإليه الإشارة بقوله:"أي: فاعلون السبق لأجلها"، أو يُقدرُ له مفعولٌ، وهو المراد من قوله:"أو سابقون الناس لأجلها".
قوله: (أنت لها أحمدُ من بين البشر)، أوله:
داهية الدهر، وصماءُ الغبر
ويُروى:
أنت لها منذرُ من بين البشر
الشعرُ للأعشى الحرمازي يخاطبُ المنذر بن عمرو الكندي أبا النعمان، هكذا رواه الجوهري. ومن روى: أحمدُ، كما في المتن، أراد النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في (لهَا) للنبوة، والحرمازيُّ أدرك النبوة وله صحبة، أي: أنت للنبوة يا أحمد، هكذا وجدته في "شرح الأبيات"، وهذا الأعشى ليس له ذكرٌ في "الجامع"، ولا في "الاستيعاب".
الصماءُ: الداهية، وفتنةٌ صماءُ: شديدةٌ. يقال صمي صمام، أي: اشتدي يا فتنةُ، من الصمم: وهو انسدادُ الثلم، يقال: هذا حين أبي الفريقان إلا القتال، وداهيةُ الغبر، بالتحريك: هي العظيمة.
الراغب: داهية الغبر: إما من: غبر الشيء، أي: وقع في الغبار، كأنها تُغبرُ الإنسان،
[(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)) [
يعنى أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من حدّ الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وما عملوه من الأعمال فغير ضائع عنده، بل هو مثبت لديه في كتاب، يريد اللوح، أو صحيفة الأعمال ناطق بالحق لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل، لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد. أو أراد: إن الله لا يكلف إلا الوسع، فإن لم يبلغ المكلف أن يكون على صفة هؤلاء السابقين بعد أن يستفرغ وسعه ويبذل طاقته فلا عليه، ولدينا كتاب فيه عمل السابق والمقتصد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو من الغبر: البقيةُ، أي: داهيةٌ باقية، أو من غبره اللونُ، كقولهم: داهيةٌ زباء، أو من غبرة اللبن فكأنها هي الداهية التي وإن انقضت بقي لها أثر، أو من قولهم: عرق غبرٌ، أي: ينبض مرة بعد أخرى، وقد غبر العرق.
قوله: (يعني أن هذا الذي وصف به الصالحين)، إلى قوله:"وكذل كل ما كلفه عباده" إشارةٌ إلى أن قوله تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الآية كالتذييل للآيات السابقة، والتأكيد لمضمونها، وإنما خصه بالصالحين؛ لأن مذهبه أن العاصين خارجون من المذكور. لكن قوله:(وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ) مؤذن بأنهم داخلون فيه؛ فإن المذكور من قبل الخشية، والإيمان، ونفي الشرك والوجلُ مع العصيان كما مر، ولا ارتياب أن أعمال المعاندين على عكس ذلك. ودل قوله تعالى:(هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) أنهم غيرُ عاملين لغيرها.
قوله: (أو أراد أن الله تعالى لا يكلف)، عطفٌ على قوله:"يعني: أن هذا الذي"، فعلى هذا لا يكون تأكيداً، بل استطرداً وبياناً لحكم غير المذكورين من المقتصدين، ولهذا قال:"ولدينا كتابٌ فيه عملُ السابق والمقتصد".
ولا نظلم أحدا من حقه ولا نحطه دون درجته. بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها (مِنْ هذا) أى مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) متجاوزة متخطية لذلك، أى: لما وصف به المؤمنون (هُمْ لَها) معتادون وبها ضارون، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب.
] (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ* لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ* قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ* مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) [.
و(حتى) هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام: الجملة الشرطية، والعذاب: قتلهم يوم بدر. أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف «1» » فابتلاهم الله بالقحط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ) متجاوزة متخطيةٌ لذلك)، يشير إلى أن معنى (دُونِ) في الآية: التجاوزُ والتخطي عن حد أعمال المؤمنين.
قوله: (لا يُفطمُون)، يقال: فلانٌ غير مفطوم من كذا، أي: هو مجبولٌ عليه، وهو معنى قوله تعالى:(هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، وفيه التأكيد من جهة بناء (عَامِلُونَ) على (هُمْ)، وأن اللام بمعنى لأجل على معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"اعملوا، كل ميسرٌ لما خُلق له"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الله أعلمُ بما كانوا عاملين".
قوله: (والكلامُ: الجملة الشرطية)، قال القاضي: جواب الشرط: (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي: فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة، ويجوز أن يكون الجواب:(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ)، فإنه مقدرٌ بالقول، أي: قيل لهم: لا تجأروا.
حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ «2» والأولاد. الجؤار: الصراخ باستغاثة قال:
جئّار ساعات النّيام لربّه
أى يقال لهم حينئذ (لا تَجْأَرُوا) فإن الجؤار غير نافع لكم (مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا تغاثون ولا تمنعون منا أو من جهتنا، لا يلحقكم نصر ومغوثة. قالوا: الضمير في (بِهِ) للبيت العتيق أو للحرم، كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، وأنه لم تكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به. ويجوز أن يرجع إلى (آياتي)، إلا أنه ذكر لأنها في معنى كتابي. ومعنى استكبارهم بالقرآن: تكذيبهم به استكبارا. ضمن (مستكبرين) معنى مكذبين، فعدّى تعديته. أو يحدث لكم استماعه استكبارا وعتوّا، فأنتم مستكبرون بسببه. أو تتعلق الباء ب (سامرا)، أى: تستمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامّة سمرهم ذكر القرآن وتسميته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جئارُ ساعات التيام لربه)، أي: يصرخُ يدعو ربه بالليل والناس نيامٌ. الأساس: جأر الداعي إلى الله: ضج ورفع صوته، وبات له جؤارٌ، وهو جئار بالليل.
قوله: (ولا تمنعون منا أو من جهتنا)، يعني:"مِنْ" إما صلةٌ، و (تُنْصَرُونَ) من: نصر الذي مطاوعه: انتصر. قال المصنف: سمعت قول بعضهم: اللهم انصرهم منه، أي: اجعلهم منتصرين منه. وهو المراد من قوله: "ولا يمنعون منا"، أو ابتدائي، و (يُنْصَرُونَ) مِن: نُصر، ولهذا قال:"أو من جهتنا". قال القاضي: (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ) تعليلٌ للنهي، أي: لا تجأروا، فإنه لا ينفعكم، إذ لا تُمنعون منا، أو لا يلحقكم نصرٌ ومعونةٌ من جهتنا.
سحرا وشعرا وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو ب (تهجرون). والسامر: نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وقرئ: (سمرا) و (سمارا). و (تهجرون) و (تهجرون)، من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر - بالضم -: الفحش، ومن هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذى. والهجر -: بالفتح الهذيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو بـ (تَهْجُرُونَ))، أي: يتعلق الباء بـ (تَهْجُرُونَ). المطلع: يهجرون القرآن ويرفضونه، فلا يلتفتون إليه ولا ينقادون له، وصفوا بهجرانه كما وصفوا بالنكوص عنه.
قوله: (والسامر نحو الحاضر)، قال الزجاج والسامر: الجماعةُ الذين يتحدثون ليلاً، وإنما سُما سمارا من السمر، والسمرُ: ظل القمر، وكذلك السمرة مشتقة من هذا. وفي "المطلع": سُمي ظلُّ القمر السمر لأنه يُسمرُ به.
قوله: (وقرئ: "سُمراً"، و"سُمارا"، و"تُهجرون"، و"تُهْجرون")، نافعٌ:"تُهْجرون": بضم التاء وكسر الجيم، والباقون: بفتح التاء وضم الجيم. وقال ابن جني: قرأ ابن مسعودٍ وابن عباس وعكرمة: "سُمرا يهجرون".
قوله: (والهجر بالضم: الفحش)، الراغب: الهجرُ: الكلامُ المهجور، لقبحه، هجر فلانٌ: إذا أتى بهجرٍ من الكلام عن قصد. وأهجر المريض: إذا أتى بذل من غير قصد، ورماه بهاجرات فمه أي: بفضائح كلامه. وقولهم: فلانٌ هجيراه كذا: إذا أولع بذكره، وهدى به هذيان المريض، ولا يكاد يستعمل الهجير إلا في العادة الذميمة والهجير والهاجر: الساعة التي يثمتنع فيها من السير للحر، كأنها هجرت الناس وهُجرت لذلك.
[(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَاتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)) [
(الْقَوْلَ) القرآن، يقول: أفلم يتدبروه ليعلموا أنه الحق المبين فيصدّقوا به وبمن جاء به، بل أجاءَهُمْ (ما لَمْ يَاتِ آباءَهُمُ) فلذلك أنكروه واستبدعوه، كقوله:(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ)] يس: 6 [أو ليخافوا .......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بل أجاءهم)، يعني:"أم" منقطعة، والهمزة فيه: للتقرير.
قوله: (أو ليخافوا)، عطفٌ على قوله:"ليعلموا"، فالتقدير: أغفلوا فلم يتدبروا القرآن ليخافوا الإنذار فيه بل أجاءهم الأمن ما لم يأت آبائهم، يعني: أن آباءهم إنما خافوا وآمنوا به وبكتبه من جهة الوحي أو الإلهام الصادق، فأمنوا من العذاب، فحالُ هؤلاء بخلاف حال آبائهم الأقدمين. والمراد بالآباء حينئذ من ذكر أساميهم إلى آخره.
فإن قلت: من أين جاء الخلاف بين التفسيرين لقوله: (مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ)؟ قلتُ: من حيث التعليلُ، فإنه لما علل التدبير بالعلم أضرب عنه بإثبات الجهل الموروث من الآباء الجهلة، ولما علله بالخوف أضرب عنه بإثبات المن الذي على خلاف المعهود من أهل الحق مثل آبائهم المهتدين؛ لأن الأمن من العذاب لا يحصل إلا للمهتدي، قال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82]، وفيه ضربٌ من التهكم.
والوجه الأول أوفق لتأليف النظم؛ لأن قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) إضرابٌ على سبيل الترقي، وكذلك قوله:(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) فإنه لما أثبت لهم الجهل الموروث أضرب عن ذلك بإثبات الجهل المكتسب، وهو عدم جريهم بموجب العلم فإن الهمزة في أم للسؤال مُجرى للمعلوم مساق غيره تجهيلاً، أو للتوبيخ. قال محيي السنة رحمة الله تعالى عليه:
عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ وآباؤهم: إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما، ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم ابن مرّ. فإنهم كانوا على الإسلام، وما شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» وروي في أنّ ضبة كان مسلما، وكان على شرطة سليمان بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) واردٌ على سبيل التوبيخ على الإعراض. ثم أضرب عنه بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي: هاهنا ما هو أعظمُ من ذلك كله، وهو إثباتُ الجنون، مع العلم بأنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً.
فإن قلت: ما وجهُ ما رواه الواحدي عن ابن عباس قوله تعالى: (مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ) أليس قد أرسلنا نوحاً وإبراهيم والنبيين إلى قومهم؟ فكذل بعثنا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى قومه؟
قلتُ: على هذا يقدر مدخول الهمزة في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) ما دل عليه قوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ)، على أن يكون الضمير للقرآن، أي: استكبروا، أفلم يتدبروا القرآن أم جاءهم ببدع، وبما لم يأت به أنبياؤهم الأقدمون؟ ثم قيل: بل ألم يعرفوا رسولهم فلذلك أنكروه وانكروا ما أُنزل إليه، كقوله تعالى:(لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف: 31]، والظاهر أن "أمْ" حينئذٍ متصلةٌ؛ لأن التقدير: استكبرا فلم يتدبروا، أم استبدعوا فلم يتفكروا، وقال في (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) إضرابٌ عن الجملة، لا عن مدخولِ "أم" وحده، هذا هو التحقيق فليتدبر.
قوله: (وكان على شرطة سليمان)، قيل: هي: اسم جمع، وجمعها: شُرط. الجوهري:
داود (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) محمدا وصحة نسبه، وحلوله في سطة هاشم، وأمانته، وصدقه، وشهامته، وعقله، واتسامه بأنه خير فتيان قريش، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد، كفى برغائها مناديا.
الجنة: الجنون وكانوا يعلمون أنه بريء منها وأنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم، ولم يوافق ما نشأوا عليه، وسيط بلحومهم «1» ودمائهم من اتباع الباطل، ولم يجدوا له مردّا ولا مدفعا لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم، فأخلدوا إلى البهت وعوّلوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر. فإن قلت: قوله (وَأَكْثَرُهُمْ) فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق.
قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرط بالتحريك: العلامةُ، الأصمعي: ومنه سُمي الشرط؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامةً يعرفون بها، الواحد شرطة، وشُرطي.
قوله: (في سطة هاشم)، الأساس: ومن المجاز هو وسط قومه ووسط فيهم وسطةٌ وقومٌ وسطٌ وأوساطٌ: خيارٌ.
قوله: (كفى برغائها منادياً)، الجوهري: الرغاءُ: صوت ذوات الخف، ويقالُ في المثل: كفى برعائها منادياً، أي: إن رغاء بعيره يقوم مقام ندائه في التعرض للضيافة والقرى. وقال الميداني: يُضربُ لمن يقف بباب الرجل، فيقال: أرسل من يستأذن لك، فيقول: كفى بعلمه توقفي ببابه مستأذناً لي، أي: قد علم بمكاني، فلو أراد أذن لي.
قوله: (وسيط بلحومهم)، السوط: خلط الشيء بعضه ببعض.
قوله: (كان فيهم من يترك الإيمان به أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه)، الانتصاف: قولُ
صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبي طالب. فإن قلت: يزعم بعض الناس أنّ أبا طالب صحّ إسلامه. قلت: يا سبحان الله، كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس رضى الله عنهما، ويخفى إسلام أبى طالب!
] (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)) [
دل بهذا على عظم شأن الحق، وأنّ السماوات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الزمخشري: من يتركُ الإيمان لأجل آبائه لم يكن كارهاً غير صحيح، فمن أحب شيئاً كره ضده، فلما أبو االبقاء على كفرهم، كرهوا الانتقال عنه، واستجره الكلام إلى تحقيق موت أبي طالب، أي: في حال كونه غير كاره للإيمان.
وقلتُ: من امتنع عن الإسلام بمجرد التقليد لا يكون إلا مُحباً له في نفسه، غير كاره إياه، ومبغضاً لضده، وهو الكفرُ.
وقال صاحب "الانتصاف": والأحسن أن يعود الضمير في (وَأَكْثَرُهُمْ) على الجنس بجملته، كقوله تعالى:(وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 8]، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]، لقوله:(بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ)، وقد جاء به للناس كافةً، ويحتمل أن يُراد بالأكثر: الكلُّ، كما حمل القليل على النفي. وقلتُ: هذا أقرب، والأول مردودٌ؛ لما يلزم منه الاختلاف في الضمائر، وأيضاً، الأسلوب الذي ذهب إليه تذييلٌ، فلابد من إقامة المظهر فيه مقام المضمر، وهو أن يُراد بالأكثر الكل.
قوله: (يا سبحان الله)، "سبحان الله": كلمةُ تنزيه، ثم استعمل في التعجب، كأنه قيل: يا عجباً.
قوام. أو أراد أنّ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا، لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة: أنّ الحق هو الله. ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها ولكان شيطانا، ولما قدر أن يمسك السماوات والأرض (بِذِكْرِهِمْ) أى بالكتاب الذي هو ذكرهم، أى: وعظهم أو وصيتهم وفخرهم: أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون: (لو أنّ عندنا ذكرا من الأوّلين لكنا عباد الله المخلصين)] الصافات: 168 - 169 [. وقرئ: بذكراهم.
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) 72 [
قرئ: (خراجا فخراج). و (خرجا فخرج). و (خرجا فخراج): وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك، وإلى كل عامل من أجرته وجعله. وقيل: الخرج: ما تبرعت به. والخراج: ما لزمك أداؤه.
والوجه أنّ الخرج أخص من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ:(خرجا فخراج ربك)، يعنى: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولو كان الله إلها)، إلى آخره، من الإلحاد الذي يحترزُ أن ينطق به المسلم.
قوله: (قرئ: "خراجاً فخراج")، حمزةُ والسائي:"خراجاً"، والباقون: بغير ألف. ابن عامر: "فخرج ربك"، بإسكان الراء من غير ألف، والباقون: بفتحها وبألف.
قوله: (وخرج الكردةُ)، روي عن المصنف: الكردة: جمعها: الكرد، وهو من وضع الكرد، والعرب لا تعرفها، وهي قطعةٌ من الأرض المزروعة، ولا تُعرفُ هذه اللغة في الأصول.
قوله: (ولذلك حسنت قراءة من قرأ (خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ))، قال صاحب "الفرائد":
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74))
قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سرّه وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المفهوم من قوله أن الخرج يدل على القليل من إعطاء الخلق، وأن الخراج على الكثير من إعطاء الخالق، فكيف يكون الخرج أخص من الخراج؟ والمعنى: أينون أنك طامعٌ في أموالهم فيما تدعوهم إليه، فخراج ربك، أي: ما يعطيك ربك على طاعتك له في الدعاء إليه، خيرٌ لك من عرض الدنيا.
وقلتُ: مرادُ المصنف من لفظ"أخص": الأقل تناولاً مطلقاً، لا الخاص الذي يقابل العام؛ لقوله:"زيادة اللف لزيادة المعنى". قال القاضي: الخرجُ: بإزاء الدخل، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك، والخراجُ غالبٌ في الضريبة على الأرض، ففيه إشعارٌ بالكثرة واللزوم، فيكون أبلغ، ولذلك عبر به عن إعطاء الله تعالى إياه، كأنه قال: أم تسألهم أجراً على أداء الرسالة (فَخَرَاجُ رَبِّكَ)، أي: رزقه في الدنيا، أو ثوابه في الآخرة (خَيْرٌ) لسعته ودوامه.
قوله: (قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجلٌ معروفٌ أمره)، إلى آخره، اعلم أن هذه الآيات مطابقةٌ للحديث المشهور المخرج في "الصحيحين" للإمام محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج رحمهما الله، عن أبي سفيان قبل إسلامه حين أرسل إليه هرقل وسأله عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنهما اشتملا على أمهات المسائل المعتبرة في أمر النبوة:
أولها: الواجب أن يكون الرسول ذا نسب، فدل عليه بقوله تعالى: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ
ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)، أي: لم يعرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم، يوافقه قول هرقل لترجمانه: قل له: إني سألتك عن نسبه فيمك، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها.
وثانيها: أن يكون صاحب شهامة ورجاحة عقل، بريئاً من الجنون وما ينافي الحق والصدق، وهو الزورُ، والكذب، فدل عليه بقوله:(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ)، وقال هرقل: سألتك: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقلتُ: أعرفُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس فيكذب على الله عز وجل.
وثالثها: أن لا يسأل فيما يرومه عاجلاً للأمر، فدل عليه بقوله تعالى:(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ)، وقال هرقل: سألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلتُ: لو كان من آبائه من ملكٍ قلتُ: رجلٌ يطلبُ ملك أبيه.
ورابعها: أن يكون ما يدعو إليه في نفسه حقاً هادياً إلى الطريق المستقيم، فدل عليه بقوله:(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال هرقل: سألتك: بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم بأن تعبدوا الله تعالى، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. ثم قال هرقل بعد ذلك: فإن كان ما تقول حقاً فسيملكُ موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أنني أعلمُ أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ألا ترى كيف أذعن للحق بما سمع من الأمارات؟
قوله: (وأنه لم يُعرض له)، تقول العربُ: عرض لفلان: إذا جُن، بمعنى عرضت له الجن. النهاية: في حديث خديجة رضي الله عنها: "أخاف أن يكون عُرض له"، أي: عرض له الجن، أو أصابه منهم.
قوله: (ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام)، عطفٌ على قوله:"وأنه لم يُعرض له"، المراد منه قوله تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ)، وقوله:"ولم يجعل ذلك سُلماً"، المقصود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً)، وترك ما يدل على قوله:(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ)، والحاصل أنه تعالى أورد هذه الحجج على منوالٍ أبرز معها الداء المكنون في ضمائرهم، أي: أن تلك الدعوة كانت على اللين والرفق، وإرخاء العنان مع الخصم، وعدم المواجهة، يدل عليه قوله تعالى:(وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) حيث جيء بـ"لوْ" على الفرض في موضع القطع على منوال (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)[محمد: 22] ليبعثهم على الفكر في حال أنفسهم وما هم عليه من ركوب باطلهم وأهوائهم، وتلك الأهواء والأدواء على وجوه.
أولها: التقليد وعدم التدبر والفكرة، فدل عليه بقوله تعالى:(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ)، وإليه الإشارة بقوله:"وهو إخلالهم بالتدبر واستهتارهم بدين الآباء الضُّلال".
وثانيها: تعللهم بأنه مجنونٌ بعد ظهور الحق، وإليه يشير بقوله:(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ).
وثالثها: كراهتهم للحق، هو المراد من قوله تعالى:(وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ). قال القاضي رحمة الله تعالى عليه: لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم، فلذلك أنكروه.
ورابعها: إعراضهم عما فيه حظهم، وهو المعني بقوله:(بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ).
واعلم أنه ظهر من هذا البيان أن قوله: (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) جملةٌ معترضةٌ بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) و (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ)، وأن الوجه الثاني في تفسير الحق، وهو أن يُراد به الحق الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، هو الوجهُ. والوجه الثالث، وهو أن يُراد به الله منها بعيدٌ ناب عن اقتضاء المقام، وأن قوله:"لما كان إلها ولكان شيطاناً" هفوةٌ فاحشةٌ، وإلحادٌ في أسمائه عز وجل والعياذ بالله تعالى منها. وأما
الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر، يحتمل أنّ هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة (لَناكِبُونَ) أى عادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو قوله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وأن كل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب.
لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه الأول، وهو أن يُراد جنسُ الحق ليدخل الحق الذي السياق عليه، فهو أيضاً وجهٌ، وكان هذا أوجه، وبالاعتراض أليق. وحملُ الوجه الثاني على الاستطراد لقوله:(بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أنسبُ.
قوله: (واستهتارهم)، الجوهري: فلانٌ مستهترٌ بالشراب، أي: مولعٌ به لا يبالي ما قيل فيه.
قوله: (يحتملُ أن هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة)، يريدُ أن الآية مقابلةٌ لقوله تعالى:(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وأن الأصل: وإنهم عن الصراط لناكبون، فأقيم المظهر مقام المضمر؛ ليؤذن بأن منكر الحشر ناكبٌ عن الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام، وأن مبنى دين الإسلام على الإيمان باليوم الآخر.
قوله: (وأن كل من لا يؤمن بالآخرة): عطفٌ على قوله: "أن هؤلاء"ن فعلى هذا لا يكون من إقامة المظهر مقام المضمر، بل الجملة تذييلٌ، فيدخل هؤلاء دخولاً أولياً في هذا المقام.
قوله: (أكلوا العلهز)، النهاية: هو شيءٌ يتخذونه في المجاعة، يخلطون الدم بأوبار
له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى. فقال قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع.
] (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)) [
والمعنى: لو كشف الله عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أوّلا بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشدّ من الأسر والقتل وهو أطم العذاب، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم وأشدّهم شكيمة في العناد يستعطفك. أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإبل، ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. وقيل: هو شيء ينبت ببلاد بني سُليم، له أصلٌ كأصل البردي.
قوله: (هذا الإبلاسُ)، نحوه قوله تعالى:(أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الأنعام: 44] أي: متحيرون آيسون واجمون. والتملقُ: قول أبي سفيان: أنشدتك الله والرحم إلى آخره.
قوله: (يسترحمونه)، جملةٌ مستأنقةٌ؛ بيان، أو حالٌ مؤكدة، والعامل: اسم الإشارة.
قوله: (أو محناهم بكل محنة)، عطفٌ على قوله:"أخذناهم أولاً بالسيوف"، يعني:
لين مقادة وهم كذلك، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، كقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)] الروم: 12 [، (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)] الزخرف: 75 [. والإبلاس: اليأس من كل خير. وقيل: السكوت مع التحير. فإن قلت: ما وزن استكان؟ قلت: استفعل من الكون، أى: انتقل من كون إلى كون، كما قيل: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال. ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هؤلاء القوم قد اعتادوا اللجاج، وليس هذا الجوع بأول عذاب، حتى إذا كشفناه عنهم تضرعوا استكانوا، ألا ترى كيف أخذناهم بالسيوف يوم بدر، أو محناهم بكل محنةٍ فما استكانوا؟ وإليه الإشارة بقوله:"واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم".
قوله: (لين مقادةٍ)، مستعارٌ لسهولة تأتي الحق، من قولهم: هو يقود الخيل ويقتادها. الأساس: قاد الفرس بمقاودها، وهو حبلٌ يُشد في العنق للقياد. ومن المجاز: فلانٌ سلسُ القياد؛ يتابعك على هواك.
قوله: (ويجوز أن يكون افتعل من السكون)، الانتصاف: كونه استفعل من الكون أحسنُ من هذا، فإنه غير فصيح، و"بمُنتزاحِ" للضرورة. وأما تنظيره بقوله:"كما قيل: استحال: إذا انتقل" وهمٌ؛ فإن "استكان" عنده أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول، كاستجمر استنوق، وأما "استحال" فثلاثيه من: حال يحول، أفاد معنى الحول من غير نقلٍ إلى استفعل، فاستفعل فيه بمعنى فعل. ومعنى الآية: فما انتقلوا من كون التحير إلى كون الخضوع؛ لدلالة المقام عليه. وكان جدي امتُحن ببغداد عند الناصر، فسُئل عنها فقال هو مشتقٌّ من قول العرب: كنتُ لك إذا خضعت، هي لغةٌ هذلية، وقد نقلها أبو عبيد في "الغريب"، وهو أحسنُ محاملِ الآية، ويكون استفعل بمعنى فعل مثل: قرّ
كما جاء: "بمنتزاح".
فإن قلت: هلا قيل: وما تضرعوا. أو: فما يستكينون؟ قلت: لأنّ المعنى: محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة. وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. وقرئ: (فتحنا).
] (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80))]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واستقر، وعلا واستعلى، وحال واستحال. وسُئلت: لم لا تجعله - على هذا- من استفعل للمبالغة، استحسر واستعصم. فقلتُ: المعنى: يأباه؛ لأن المقصود وصفهم بغاية القسوة، فلو جعلتها للمبالغة لم يُفد ذلك؛ لأن نفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى، فيكون ذماً بأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها، وهم لم يتلمظوا بشيء منها، فكيف ينفي عنهم نهايتها؟
وقال صاحب "الإنصاف": له محملٌ صحيحٌ، وهو التنبيه على أن ذلك العذاب مقتض لغاية الاستكانة، وقد ورد هذا السؤال في قوله:(وَلا يَسْتَحْسِرُونَ)[الأنبياء: 19]، وهي للمبالغة، وأجاب الزمخشري رحمه الله تعالى بما ذكرته.
قوله: (كما جاء: "بمُنْتَزَاح")، الجوهري: أنت بمنتزحٍ من كذا، أي: ببعدٍ منه. قال ابن هرمة يرثي ابنه:
فأنت من الغوائل حين تُرمى
…
ومن ذم الرجال بمنتزاح
إلا أنه أشبع فتحة الزاي، فتولدت الألفُ.
قوله: (هلا قيل: وما تضرعوا، أو: فما يستكينون؟ )، أي: لمَ لمْ تُراع الموافقةُ بين
إنما خصّ السمع والأبصار والأفئدة، لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها. ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات الله وأفعاله، ثم ينظروا ويستدلوا بقلوبهم. ومن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، كما قال الله تعالى (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذ كانوا يجحدون بآيات الله)] الأحقاف: 26 [، ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك، أى: تشكرون شكرا قليلا، و (ما) مزيدة للتأكيد بمعنى حقا (ذَرَأَكُمْ) خلقكم وبثكم بالتناسل (وَإِلَيْهِ) تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى هو مختص به وهو متوليه، ولا يقدر على تصريفهما غيره. وقرئ: يعقلون، بالياء عن أبى عمرو.
] (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)) [
أى: قال أهل مكة كما قال الكفار قبلهم. الأساطير: جمع أسطار: جمع سطر. قال رؤبة:
إنّى وأسطار سطرن سطرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعطوف والمعطوف عليه في كونهما ماضيين أو مضارعين؟ وأجاب: أن (اسْتَكَانُوا) على ظاهره؛ لأنه مرتبٌ على قولهم: (أَخَذْنَاهُمْ). وأما يتضرعون فعدولٌ عن الظاهر، لتوخي الاستمرار على عدم التضرع والدوام عليه، وإليه الإشارة بقوله:"وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا"، أي: يتضرعوا.
قوله: (جمع أسطارٍ؛ جمع سطر)، كسبٍ وأسباب. قاله الجوهري.
قوله: (وإني وأسطارٍ سُطرنَ سطرا)، تمامه في "المطلع":
لقائل: يا نصرُ نصراً نصرا
وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له. وجمع (أسطورة) أوفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الواو في "وأسطارٍ": واو القسم، أي: وحق كتبٍ مسطورة، كقوله:(وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)[الطيور: 2] ن والتركيب مثل: يا زيدُ زيد زيداً، فالرفع على اللفظ، والنصب على المحلن ويجز أن يكون النصر الأخير منصوباً على المصدر، كأنه قال: انصرني نصراً. قال الشارح: "نصر" الأول ظاهرٌ. والثالث: مصدرٌ، وأما الوسط ففيه ثلاثة أوجه، أدها: الضم غير منن بدلٌ من الأول. وثانيها: مضمومٌ منون، عطفُ بيانٍ جار مجرى الصفة حملاً على اللفظ، نحو: يازيدُ الظريف: وثالثها: النصب على محل المنادي، كرر للتوكيد، وقيل: على الإغراء، وقيل: الثاني على العطف، والثالث على الإغراء.
قوله: (وجمع "أسطورةٍ" أوفق)، رُوي عن المصنف: أن هذا البناء لما يُتلهى به، كالأضحوكة، والأحدوثة، والأعجوبة، فيكون أنسب بهذا المقام، وأن الأصل عدم جمع الجمع.
الراغب: السطر والسطر: الصف من الكتابة، ومن الشجر المغروس، ومنا لقوم الوقوف، وسطر فلانٌ كذا: كتب سطراً سطراً. وجمعُ السطر: أسطرٌ، وسطور. وجمعُ أسطر: أسطارٌ، كقول الشاعر: وأسطارٍ سطرن سطراً. وأما قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) فقد قال المبرد: هي جمع أسطورة، نحو أرجوحة وأراجيح، وأثفيةٌ وأثافي، وأحدوثة وأحاديث. وقوله تعالى:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)[النحل: 24]؛ أي: شيءٌ اكتتبوه كذباً وميناً فيما زعموا، نحو قوله تعالى:(اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)[الفرقان: 5]، وقوله تعالى:(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)[الغاشية: 22]، فإنه يقال: سيطر على كذا وتسيطر: إذا قام عليه قيام سطر، يقول: لست عليهم بحافظ وقائم، واستعمال مسيطر هنا كاستعمال القائم في قوله تعالى:(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)[الرعد: 33]، وقيل: معناه: لست عليهم بحفيظ، فيكون المسيطر كالكاتب في قوله تعالى:(وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)[الزخرف: 80].
[(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)) [
أى أجيبونى عما استعلمتكم منه «1» إن كان عندكم فيه علم، وفيه استهانة بهم وتجويز لفرط جهالتهم بالديانات: أن يجهلوا مثل هذا الظاهر البين. وقرئ: (تذكرون)، بحذف التاء الثانية «2» ومعناه: أفلا تتذكرون فتعلموا أنّ من فطر الأرض ومن فيها اختراعا، كان قادرا على إعادة الخلق، وكان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (تَذَكَّرُونَ) بحذف التاء الثانية)، حفصٌ وحمزةُ والكسائي.
قوله: (أفلا تذكرون فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها اختراعاً، كان قادراً على إعادة الخلق، وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية)، مؤذنٌ باتصال قله:(قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً) بقوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) بواسطة قوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا)، والكلام يستدعي مزيد بسط.
واعلم أن كلا من المقالات الثلاث المذيلة بقوله: (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)، (أَفَلا تَتَّقُونَ)، (فَأَنَّا تُسْحَرُونَ) جاء لإثبات ما أنكروه من أن لا حشر ولا بعث، ولتصديق ما كذبوه من وعد الرسل بمجيء الساعة في قوله تعالى حكاية عنهم:(قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) ولتقدمه دلائل التنزيه، ونفي الشرك، وإثبات العلم الشامل في قوله:(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) وقوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، وكان قوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) تخلصاً إلى الدلائل؛ لأن معناه: بل أتيناهم بالحق من التوحيد، والوعد بالنشور، وإنهم لكاذبون حيث أنكروا ذلك، وفي التذييلات الثلاث من الأدنى إلى الأغلظ في التعريض، وأنها من الأمور المسلمة، لقوله:(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ).
أما قوله: (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فمعناه: إنكم تعلمون علم يقينٍ أن الأرض وما فيها ملكه، وهو فطرها اختراعاً، أفلا تذكرون أن من كان قادراً على ذلك كان قادراً على إعادة الخلق، كما قال تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)[الروم: 27]؟ أي: عندكم وفي تقديركم، وكان حقيقاً بأن لا ينسبوا إليه الولد، وأن لا يشركوا به بعض خلقه، ويتنبهوا على أنه عالمٌ بالأشياء كلها.
وقوله: (أَفَلا تَتَّقُونَ) أبلغُ من الأول وأزجر، يعني: أنكم بعد ما تيقنتم بالدلائل الدالة، ثم ذكرتم بالوحي أن الأمر كذلك، لم لا تمتنعون عما أنتم عليه، ولا تمسكون عن الإنكار، أفلا تتقون، فتخافون عقابه؛ لأن من غفل ربما عُذر. وقوله تعالى:(فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أبلغ منها في التعيير والتقريع، يعني: أنكم مع ذلك كله معاندون مكابرون، كأنكم ما عرفتم ذلك ولا نبهتهم عليه، فلا شك أنكم مسحورون مسلوبو العقول، متبعو الهوى والشيطان.
الراغب: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي: من أين يأتيكم ما يغلب على عقولكم فيخيل الباطل إليها حقا، والقبيح عندها حسناً، أمن علمكم بأن الله تعالى مالك الأرض ومن فيها، أم من علمكم بأنه رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، أم من علمكم بأن له الملك الأغلب، والعز الأبلغ، وأنه يمنعُ منه، ويحمي عن عقابه ولا يحمى منه، وليس في شيء من ذلك ما يرى الفاسد والمعوج قويماً، فبهذا الذي خُتمت به الثالثة ما يتمم معناه بخواتم ما قبله وكل في مكانه اللائق به.
قرئ: الأوّل، باللام لا غير. والأخيران باللام، وهو هكذا في مصاحف أهل الحرمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: وفي الآيات الدلالة على أن إنكار الحشر والبعث أمرٌ عظيم وخطبٌ جليل، وأن منكره معطل مبطلٌ للذات والصفات؛ لتوقف الملك، أعني: الأرض والسماوات والعرش وملكوت كل شيء، على ذلك، واستتباعه العلم بالتنزيه والتوحيد والعلم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (قرئ الأول باللام لا غير، والآخران باللام)، أبو عمرو:"سيقولون الله" في الحرفين الأخيرين: بالألف وضم الهاء، والباقون: بغير ألف، وكسر اللام وجر الهاء، ولا خلاف في الحرف الأول.
قال الزجاج: لو قيل: من صاحب هذه الدار؟ فأجبت: زيدٌ، لكان جواباً على لفظ السؤال. ولو قلت: لزيد، لجاز أيضاً؛ لأن معنى "من صاحب هذا الدار": لمن هذه الدار؟ وأنشد صاحب "المطلع":
إذا قيل من رب القيان بموقفٍ
…
وربُّ الجياد الجرد؟ قيل: لخالد
وقال الزجاج: لو قرئ الأول بغير اللام على المعنى لكان جيداً، ولكن لم يُقرأ به، وأنشد:
فقال السائلون لمن حفرتم
…
فقال المخبرون لهم: وزير
وكان من الظاهر أن يقال: لوزيرهم. وأنشد الفراء قبله:
وأعلمُ أنني سأكون رمساً
…
إذا سار النواجع لا أسيرُ
والكوفة والشام، وبغير اللام وهو هكذا في مصاحف أهل البصرة، فباللام على المعنى، لأن قولك من ربه، ولمن هو في معنى واحد، وبغير اللام على اللفظ. ويجوز قراءة الأوّل بغير لام، ولكنها لم تثبت في الرواية (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافونه فلا تشركوا به وتعصوا رسله. أجرت فلانا على فلان: إذا أغثته منه ومنعته، يعنى: وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا (تُسْحَرُونَ) تخدعون عن توحيده وطاعته. والخادع: هو الشيطان والهوى.
] (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) 90 - 92 [
وقرئ: (أتيتهم) و (أتيتهم)، بالفتح والضم (بِالْحَقِّ) بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حيث يدعون له ولدا ومعه شريكا (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) لا نفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبدّ به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزا من ملك الآخرين، ولغلب بعضهم بعضا كما ترون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والنواجعُ: الذين يخرجون إلى البادية لطلب الكلأ، يقال: رجلٌ ناجعٌ، وقومٌ ناجعةٌ ثم نواجع.
قوله: ((تُسْحَرُونَ): تُخدعون)، جعل خداع الشيطان والهواء كالسحر في سلب العقول.
قوله: ((بِالْحَقِّ) بأن نسبة الولد إليه محال)، قال القاضي: بل أتيناهم بالحق من التوحيد والوعد والنشور، (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) حيثُ أنكروا ذلك.
حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك وللتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء. فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله (لذهب) جزاء وجوابا ولم يتقدّمه شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره: ولو كان معه آلهة. وإنما حذف لدلالة قوله: (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) عليه. وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين (عَمَّا يَصِفُونَ) من الأنداد والأولاد (عالِمِ الْغَيْبِ) بالجرّ صفة لله. وبالرفع: خبر مبتدإ محذوف.
] (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ* رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) [
"ما" والنون: مؤكدتان، أى: إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة (فَلا تَجْعَلْنِي) قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم. عن الحسن: أخبره الله أن له في أمته نقمة ولم يخبره أفى حياته أم بعد موته، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلت: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارا للعبودية وتواضعا لربه، وإخباتا له. واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك، وما أحسن قول الحسن في قول أبى بكر الصديق رضى الله عنهما «وليتكم ولست بخيركم: كان يعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أخبره الله تعالى أن له في أمته نقمةً، ولم يخبره: أفي حياته أم بعد موته؟ فأمره أن يدعو بهذا الدعاء)، وفي الحديث:"إذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غير مفتون"، أخرجه أحمد بن حنبلٍ في "مسنده"، والترمذي في "سُننه"، عن ابن عباس.
نفسه. وقرئ: (إما ترئنهم)، بالهمز مكان تريني، كما قرئ:(فإما ترئن)] مريم: 26 [، و (لترؤن الجحيم)] التكاثر: 6 [. وهي ضعيفة. وقوله (رَبِّ) مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء، حث على فضل تضرع وجؤار. كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه واستعجالهم له لذلك، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم، فما وجه هذا الإنكار؟
] (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) [
هو أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل، كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة.
والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه: كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. وهذه قضية قوله (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وعن ابن عباس: ....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي ضعيفة)، قال المصنف: ربما حملتهم فصاحتهم على أن يهمزوا ما ليس بمهموز، فقالوا لبأت بالحج. وتحقيقه أن الهمز يواخي حروف اللين في أن بعضها ينقلبُ إلى بعض.
قوله: (وهذه قضية قوله: (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))، يعني: كل هذه التقادير من الصفح عن الإساءة، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، وبذل الاستطاعة فيه، يعطيه خاصية هذا التركيب ما ذكر الزمخشري يقتضي المفاضلة بين الحسنة والسيئة، ولا اشتراك بينهما، والمراد أن الحسنة في باب الحسنات أزيدُ من السيئة في باب السيئات، فتجيء الحسنة فيما هو أعم، كقولك: العسل أحلى من الخل، أي: هو في أصناف الحلاوة أجودُ من الخل في أصناف الحامضة، لا لاشتراك بينهما، ويحكي أن أشعب قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان،
هي شهادة أن لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك. وعن مجاهد: السلام: يسلم عليه إذا لقيه. وعن الحسن: الإغضاء والصفح. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة لأنّ المداراة محثوث عليها ما لم تؤدّ إلى ثلم دين وإزراء بمروءة (بِما يَصِفُونَ) بما يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها. أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم، والله أعلم بذلك منك وأقدر على جزائهم.
] (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فما زال يعلو وأستفِلُ حتى استوينا، أي: بلغ كل واحدٍ منا الغاية. وقال: وتحتمل الآية وجهاً آخر من التفضيل، وهو المفاضلةبين الحسنات؛ فإنها قد تدفع بصفح وإغضاء، وقد تدفع بإحسان، وقد يبلغ فيه غاية الاستطاعة، فهذه أنواعٌ كلها دفع، وبعضها أحسن، فأمر بأخذ الأحسن منها في دفع السيئة.
وقلت: المصنف لم يرد إلا هذا؛ لأنه قال في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[فصلت: 34]، يعني: أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسناتٌ فادفع بها السيئة التي تردُ عليك من بعض أعدائك، وقال: أو وضع التي هي أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة؛ لأن من دفع بالحسنى هان الدفع بما دونها.
قوله: (هي شهادة أن لا إله إلا الله، والسيئةُ: الشركُ)، أي: اقلع باطلهم بحقك، استأصل شركهم بتوحيدك، قال تعالى:(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ)[الأنبياء: 18]، فعلى هذا الآية ثابتةٌ غير منسوخةٍ أصلاً.
قوله: (لأن المداراة)، المداراةُ: غير مهموز، من الدري: وهو الختلُ، والمهموزُ من الدرء: وهو الدفعُ.
الهمز: النخس. والهمزات: جمع المرّة منه. ومنه: مهماز الرائض. والمعنى أنّ الشياطين يحثون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها، كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي. ونحو الهمز الأزّ في قوله تعالى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)] مريم: 83 [أمر بالتعوّذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه، المكرّر لندائه، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا ويحوموا حوله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة: عند النزع.
] (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [.
(حَتَّى) يتعلق (بيصفون)، أى: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقف. والآية فاصلة بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مهمازُ الرائض)، الجوهري: المهمازُ: حديدةٌ تكون في مؤخر خُف الرائض.
قوله: (من أن يحضروه أصلاً)، أي: أعوذ بك رب أن يحضرون، أي: يحوموا حولي فضلاً عن نسخاتهم، ووساوسهم؛ لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إلا للشر، فيجب أن يحترز من حضوره بالتعوذ، وهذا ما ذكره صاحب "المطلع"، وفيه إيذانٌ بأن "يحضرون" مقطوعٌ عن متعلقه بمنزلة اللازم، فاستعاذ من حضوره مطلقاً، يدل عليه قوله:"عند تلاوة القرآن أو عند النزاع"، فإن هذين الوجهين مقيدان.
الراغب: الحضر: خلاف البدو، والحضارة بكسر الحاء وفتحها: الكون بالحضر، ثم جُعل ذلك اسماً لشهادة مكان أو إنسان أو غيره، قال تعالى:(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)، وذلك من باب الكناية، أي: تحضرني الجن، وكُني عن المجنون وعمن حضره الموت بالمحتضر.
على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم، مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم. أو على قوله:(وإنهم لكاذبون)] المؤمنون: 90 [. خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم، كقوله: فإن شئت حرّمت النّساء سواكم
وقوله:
ألا فارحمونى يا إله محمّد
إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر، أدركته الحسرة على ما فرّط فيه من الإيمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم)، يعني:(حَتَّى) مع ما يتصلُ بها غاية قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على قوله: (يَصِفُونَ)، ومضمونه: دارهم ما داموا في قيد الحياة، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ويستزلك من المداراة واللم. فاستعذ بالله، واستعن به. هذا ينصر قول من قال: إن قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) محكمةٌ، كما قال:"لأن المداراة محثوث عليها".
قوله: (أو على قوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، يريد (حَتَّى) يتعلق بـ (يَصِفُونَ) أو مردودٌ على قوله:(بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وفي نسخة:"أو بقوله": أي: لا يزالون على تكذيبهم (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، والوجه هو الأول كما شرحناه.
قوله: (خطاب الله بلفظ الجمع)، أي:(ارْجِعُونِ)، وفي نسخة:"خاطب الله"، كقوله:
فإن شئت حرمتُ النساء سواكم
…
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
النقاخ: الماء البارد، والبرد: النوم.
قوله: (ألا فارحموني يا إله محمدٍ)، تمامه:
والعمل الصالح فيه، فسأل ربه الرجعة وقال (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) في الإيمان الذي تركته، والمعنى:
لعلى آتى بما تركته من الإيمان، وأعمل فيه صالحا، كما تقول: لعلى أبنى على أس، تريد:
أسس أسا وأبنى عليه. وقيل: (فيما تركت) من المال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى الله. وأمّا الكافر فيقول: (رب ارجعون)» (كَلَّا) ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد. والمراد بالكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض، وهي قوله:(لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ). (هُوَ قائِلُها) لا محالة، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم. أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) والضمير للجماعة، أى: أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وليس المعنى: أنهم يرجعون يوم البعث،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن لم أكن أهلاً فأنت له أهل
قوله: (لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل صالحاً فيه)، هو كقوله تعالى:(اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وقولك للمحدث: صل.
قوله: (أو هو قائلها وحده) عطفٌ على قوله: "هو قائلها لا محالة لا يخليها"، وذلك أن التركيب من باب أنا عارفٌ، فإذا اعتبر أن (هُوَ) مبتدأ ابتداءً، و (قَائِلُهَا) الخبرُ، فهو من باب: تقوي الحكم، وإليه الإشارة بقله:"هو قائلها لا محالة لا يخليها"، وإذا اعتبر أنه من باب تقديم الفاعل المعنوي، ويفيد التخصيص، قيل: هو قالها وحده لا يجاب إليها، ولا تُسمعُ منه، ونحوه: إذا كلمك صاحبك بما لا جدوى تحته، فتجيبه وتقول: اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة فتكلم واستمع، يعني: إنها مما لا يُسمع منك ولا يستحق الجواب.
قوله: (وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث)، يريد أن "إلى" لانتهاء الغاية، فإذا قيل:
وإنما هو إقناط كلى لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)) [
(الصور) بفتح الواو، عن الحسن. و (الصور) - بالكسر والفتح - عن أبى رزين. وهذا دليل لمن فسر "الصور" بجمع الصورة، ونفى الأنساب: يحتمل أنّ التقاطع يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين، ولا يكون التواصل بينهم والتألف إلا بالأعمال، فتلغوا الأنساب وتبطل، وأنه لا يعتدّ بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب، إذ يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. وعن ابن مسعود: (ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من ورائهم حائلٌ بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، يفهم الغاية فيلزم الرجوعُ بعده.
وتحرير المعنى: أن (كلاً) للردع، فيقف عليها ويبتدئ من قوله:(إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، أي: ارتدع من هذا الكلام؛ إنها كلمةٌ هو قائلها لا يجاب إليها، ولا يُسمع منه، فلا رجوع؛ لأن ذلك أمرٌ قد حيل بينه وبينه؛ لأن أمامه حائلاً بينه وبين الرجعة إلى يوم القيامة وإذا كان أمامه هذا الحائل فأين الرجوع؟ وهو المراد من قوله:"وإنما هو إقناطٌ كليِّ"، ونحوه في التقييد بالمحال للمبالغة: قوله تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى)[الدخان: 56]، يعني: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها، فإنهم يذوقونها، يعني: أنهم لا يموتون البتة.
قوله: (وهذا دليلٌ لمن فسر "الصور" بجمع الصورة)، أي: قراءة الحسن وأبي رزين. قال الزجاج: قال كثيرٌ من أهل اللغة: الصور: جمع صورة، والذي جاء في التفسير: جمع صورة: صورٌ، وكذا في قوله:(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)[غافر: 74]، ولم يقرأ أحدٌ:"صوركم". وأيضاً، لو كان جمع "صورة" لقال: ثم نُفخ فيها أخرى؛ لأنك تقول: هذه صورٌ، ولا تقول: هذا صورٌ، إلا على ضعف.
يساءلون)، بإدغام التاء في السين. فإن قلت: قد ناقض هذا ونحو قوله (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً)] المعارج: 10 [قوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)] الصافات: 27 [] الطور: 25 [وقوله (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ)] يونس: 45 [فكيف التوفيق بينهما؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها، وفي بعضها لا يفطنون لذلك لشدّة الهول والفزع. والثاني: أنّ التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا.
[(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ)].
عن ابن عباس: الموازين: جمع موزون؟ وهي الموزونات من الأعمال: أى الصالحات، التي لها وزن وقدر عند الله، من قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من (خسروا أنفسهم)، ولا محلّ للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محلّ لها. أو خبر بعد خبر لأولئك.
أو خبر مبتدإ محذوف (تَلْفَحُ) تسفع. وقال الزجاج: اللفح والنفح واحد، إلا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا. والكلوح: أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قد ناقض هذا)، الانتصاف: يجب الأدب في إيراد الأسئلة على الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولو أورد هذا السؤال رجلٌ على عمر رضي الله عنه كذا لأوجع ظهره بالدرة.
قوله: (وهي الموزونات من الأعمال)، هذا أحد وجهي ما ذكره في الأعراف عند قوله:(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)[الأعراف: 8]، والوجه الآخر: الموازين: ما يوزن به حسناتهم. هذا هو الحق الذي لا محيد عنه لأهل الحق عنه، وقد حققناه هناك بالأحاديث الصحية.
قوله: ((تَلْفَحُ) تسفعُ)، يقالُ: سفعته النارُ، أي: أحرقته. الراغب: يقال لفحته
تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان، كما ترى الرءوس المشوية. وعن مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس أخرج من التنور فغشى عليه ثلاثة أيام ولياليهنّ. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته وقرئ:(كلحون).
] (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)) [
(غَلَبَتْ عَلَيْنا) ملكتنا، من قولك: غلبني فلان على كذا، إذا أخذه منك وامتلكه. والشقاوة سوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم. قرئ (شِقْوَتُنا) و (شقاوتنا) بفتح الشين وكسرها فيهما (اخْسَؤُا فِيها) ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه. (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشمس والسموم، قال تعالى:(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ)[المؤمنون: 104]، وعنه استعير لفحته بالسيف.
قوله: (قال: تشويه النار فتقلص)، الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده"، والترمذي، عن أبي سعيد.
قوله: ((شِقْوَتُنَا) و"شقاوتنا")، حمزة والكسائي:"شقاوتنا" بالألف مع فتح الشين والقاف، والباقون: بكسر الشين وإسكان القاف. قال الزجاج: والمعنى واحدٌ.
العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف. قيل: هو آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس: إنّ لهم ست دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا)] السجدة: 12 [فيجابون: (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)] السجدة: 12 [، فينادون ألفا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ)] غافر: 11 [، فيجابون: (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ)] غافر: 12 [، فينادون ألفا: (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)] الزخرف: 77 [، ، فيجابون: (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)] الزخرف: 77 [: فينادون ألفا: (رَبَّنا أَخِّرْنا)] إبراهيم: 44 [، فيجابون: (أَوَ لَمْ تَكُونُوا)] إبراهيم: 44 [، فينادون ألفا: (أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] فاطر: 37 [، فيجابون: (أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ)] فاطر: 37 [، فينادون ألفا: (رَبِّ ارْجِعُونِ)] المؤمنون: 99 [، فيجابون: (اخْسَؤُا فِيها)] المؤمنون: 108 [.
[(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ)].
في حرف أبىّ: (أنه كان فريق)، بالفتح، بمعنى: لأنه. السخري - بالضم والكسر -: مصدر سخر كالسخر، إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل، كما قيل الخصوصية في الخصوص. وعن الكسائي والفراء: أنّ المكسور من الهزء، والمضموم من السخرة والعبودية، أى: تسخروهم واستعبدوهم، والأوّل مذهب الخليل وسيبويه. قيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("السخري" بالضم والكسر)، نافعٌ وحمزةُ والكسائيُّ: بالضمن والباقون: بالكسر.
قوله: (والأول مذهبُ الخليل وسيبويه)، قال الزجاج: بالضم والكسر جيد، وقيل: ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وما كان من جهة التسخير فهو بالضم، وكلاهما عند
هم الصحابة وقيل أهل الصفة خاصة. ومعناه: اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذِكْرِي) فتركتموه، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيبويه والخليل واحدٌ، واكسر لاتباع الكسر أحسنُ. وقال الواحدي: يقال: سخر منه وبه سخرية وسخرياً: إذا هزيء به، ومن السخرة التي بمعنى العبودية:"سُخريا" بالضم لا غير، ومن ثم اتفقوا على الضم في الزخرف؛ لأنه منا لسخرة، وعلى القراءتين جميعاً: هو مصدرٌ وُصف به، ولذلك أُفرد.
قوله: ((حَتَّى أَنسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذكري))، يعني:(حتى) مع ما يتصل بها: غايةٌ لقوله: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً)، فلابد من تأويله بما يستقيم أن يكون هذا غايةً له، فيقال: تشاغلتم بهم ساخرين حتى جعلتموهم بسبب تشاغلكم بهم بصفة السخرية سبباً لنسيانكم ذكر الله، فظهر أن إسناد النسيان إلى الأولياء مجازي، والفاء في قوله:"فتركتموه" مؤذنة بأن الترك مسببٌ عما قبله، وقوله:(وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) تذييل.
وقوله: "فتخافوني في أوليائي"، مسببٌ عن قوله:"أن تذكروني"، والمراد بالأولياء (عِبَادِي) في قوله تعالى:(إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ)، وإنما دعاه إلى تفسير "فتركتموه" بقوله:"تركتم أن تذكروني فتخافوني" أن قوله: (حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي) متضمنٌ للتخويف، لوروده توبيخاً للقوم، وأنه إنما جرهم إلى السخرية بأولياء الله ترك الذكر المؤدي إلى عدم الخوف من الله تعالى، وما يكشف عن هذا المعنى إلا النظم، وبيانه أن قوله:(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً) مرتبٌ على قوله: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا)،
تركتم أن تذكروني فتخافونى في أوليائى. وقرئ (أَنَّهُمْ) بالفتح، فالكسر استئناف، أى: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء. وبالفتح على أنه مفعول (جزيتهم)، كقولك: جزيتهم فوزهم.
] (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)) [
(قالَ) في مصاحف أهل الكوفة. و (قل): في مصاحف أهل الحرمين والبصرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو تعليلٌ لقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)، يعني: إنما خسأناكم كالكلب؛ لأن فريقاً من أوليائي وخُلص عبادي لما ذكروا الله تعالى واستغفروه ودعوا الله بالرحمة، اتخذتموهم سخرياً، وامتدت تلك السخرية، وما انقطع خيط أسبابها حتى نسيتم ذكر الله بالكلية، وذكر خوفه وعقابه، وما تركتم ذلك إلا استهزاء بأولئك السادة، فهذا جزاؤكم، ثم ذكر لهم ما يريد في خسأهم وحسرتهم من جزاء أعدائهم بقوله تعالى:(إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ).
قوله: (وقرئ: (أَنَّهُمْ)، بالفتح والكسر)، حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بفتحها.
قوله: ((قَالَ) في مصاحف أهل الكوفة، و"قل": في مصاحف أهل الحرمين)، ابن كثير وحمزة والكسائي:"قل" بغير ألف، والباقون:(قال) بالألف. وإنما كان في "قُلْ" ضمير الملك أو بعض الرؤساء؛ لأنه أمر بإنشاء القول، فلا يصح أن يكون الآمر هو القائل. وأما (قال) فهو إخبارٌ، فيصح أن يكون القائل الله عز وجل، أو الملائكة عليهم السلامُ
والشام، ففي (قالَ) ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، وفي «قل» ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار.
استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مرّ عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور، وأيام السرور قصار، أو لأنّ المنقضى في حكم ما لم يكن، وصدقهم الله في مقالهم لسنى لبثهم في الدنيا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ فَسْئَلِ الْعادِّينَ والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم، لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدّها، فسل من فيه أن يعدّ، ومن يقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وقرئ: (العادين)، بالتخفيف، أى: الظلمة، فإنهم يقولون كما نقول. وقرئ:(العاديين)، أى: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرونها، فكيف بمن دونهم؟ وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.
[(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بأن يكونوا مأمورين بأن يسألوا عن الكفرة، ويقولوا: كم لبثتم؟ فالباء في "بسؤالهم" متعلقٌ بالمأمور، و"مِنْ" في "من الملائكة": بيان المأمور بالسؤال.
قوله: (وقرئ: "فسل العادين")، ابن كثير والكسائي.
قوله: (وما فينا أن نعدها)، أي: ما نطيق عدها، كقول المريض: ما في أن أقوم، أو: ما في وسعنا أن نعده، فسل من في وسعه عده.
(عَبَثاً) حال، أي: عابثين، كقوله (لاعِبِينَ) [الأنبياء: 16] أو مفعول له، أى: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي: أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي، ثم نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) ويجوز أن يكون معطوفا على (عَبَثاً) أى: للعبث، ولترككم غير مرجوعين. وقرئ (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء (الْحَقُّ) الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه. وصف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "ترجعون" بفتح التاء) وكسر الجيم: حمزة والكسائي، والباقون: بضم التاء.
قوله: ((الحَقُّ) الذي يحق له المُلك)، (الحَقُّ) صفةٌ لـ (المَلِكُ)، واللام للجنس، والصفة مميزة؛ ولهذا علله بقوله:"لأن كل شيء منه وإليه"، يعني: أن مالكاً غيره ما يملكه من الله تعالى بدأ، وإليه يعود في العاقبة، فيكون هو الملك الواجب ملكه. قال القاضي:(المَلِكُ): الذي يحق له الملك مطلقاً؛ فإن من عداه مملوكٌ بالذات، مالكٌ بالعرض من وجه دون وجه، وفي حال دون حال. تم كلامه.
ويرجع معنى هذا التفسير إلى أن (الحق) بمعنى الواجب؛ ولذلك قال في التفسير الثاني: "أو الثابت الذي لا يزول"، التفسير الأول أبلغ وأوفق لتلاؤم الكلام، وأخذ بعضه بحجزة بعض؛ وذلك أن الفاء في قوله:(فَتَعَالَى اللَّهُ) مستدعية لما يربط به ما بعده بما قبله، وذلك أنه تعالى لما أنكر حُسبان منكري الحشر، وزعمهم أن لا حساب ولا عقاب، ولا رجوع ولا ثواب، وأنه تعالى خلقهم سُدى، نزه ذاته الأقدس عما يؤدي إلى ذلك الحسبان من العبث في الخلق، وعظم سلطانه، يعني: كيف يليق بمن هو الملك على الإطلاق وأنه
العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، كما يقال: بيت كريم، إذا كان ساكنوه كراما. وقرئ. (الكريم)، بالرفع. ونحوه:(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)] البروج: 15 [. (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) كقوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)] آل عمران: 151 [وهي صفة لازمة، نحو قوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام: 38] جيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منفردٌ في الإلهية، وأنه رب العرش الكريم، أن يكون في فعله عبث؟ ثم بين أن هذا القول لايقوله إلا من يدعو مع الله إلها آخر لا برهان له، فالآيات قريبة من الآيات السابقة، هي قوله:(أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً)[المؤمنون: 82] إلى آخرها.
وانظر إلى هذا الخطاب العظيم الذي لو نزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ثم اقطع على المتسمين بالإسلام من الذين في قلوبهم زيغٌ بالكفر الصريح، حيث يشتغلون بالفضول من العلوم مما يؤديهم إلى تكذيب الله. روينا عن البخاري النسائي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته".
قوله: (أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين)، يعني أنه كناية، كقول الشنفري:
يبيت بمنجاةٍ من اللوم بيتها
…
إذا ما بيوتٌ بالملامة حلت
والوجه الأول: من الاستعارة المكنية، كان العشر في نفسه كريم، وأن الرحمة والخير والبركة تصدر عنه. ويجوز أن يكون إسناداً مجازياً. قال القاضي: العرش الكريم: الذي يحيط بالأجرام، وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام.
قوله: (صفة لازمة)، أي: مؤكدةٌ، نحوه قولك: أمس الدابر لا يعود. ومن ثم استشهد
بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان «2» . ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه، فالله مثيبه. وقرئ: أنه لا يفلح بفتح الهمزة. ومعناه: حسابه عدم الفلاح، والأصل: حسابه أنه لا يفلح هو، فوضع (الكافرون) موضع الضمير، لأنّ (مَنْ يَدْعُ) في معنى الجمع، وكذلك (حِسابُهُ
…
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) في معنى «حسابهم أنه لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)[الأنعام: 38]، وليس بصفةٍ مخصصةٍ ليمتاز بها عن الآلهة التي يجوز أن يقوم عليها برهانٌ.
قوله: (اعتراضاً بين الشرط والجزاء)، وذلك أن معنى:(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ومن يشرك بالله فالله يتولى عقابه، فإذا لا أحد أقل حيلةً منه، فحينئذٍ يحسن أن يكون قوله:(لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) توكيداً لمضمون الشرط والجزاء، وعكسه من أحسن إلى زيد فالله مثيبه، فإذاً لا أحد أحق بالإحسان منه.
قوله: (وكذلك (حسابه
…
إنه لا يفلح))، يعني: كما أن (وَمَنْ يَدْعُ) مفردُ اللفظ مجموع المعنى، فكذلك (حِسَابُهُ) مفرد اللفظ مجموع المعنى، والمشبه والمشبه به تعليلٌ لوضع (الْكَافِرُونَ) موضع الضمير المفرد، وإنما وجب الجمع؛ لأن الآية تذييلٌ للآيات الواردة في حق المعاندين المصرين. وأما الضمير في (إنهُ): فللشأن. وتلخيصه: أن من أشرك بالله وأصر عليه فإن عاقبته وخيمةٌ، ولا نجاح له البتة. هو تسليةٌ للرسول صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثم قال ابن جني: معناه: أن حسابه يؤخر إلى أن يقلى ربه، فيُحاسب حينئذ. وذلك أنه لا تنفع فيه الموعظة، ولا التذكير في الدنيا، فيؤخر حسابه إلى أن يحاسب عند ربه، لعدم انتفاعه.
وقلت: إنما وضع (الْكَافِرُونَ) موضع الضمير المفرد بعد الإفراد في حسابه؛ للإشعار بأن عدم الفرح معللٌ بالكفر، أو لرعاية التوافق في الفواصل، وليتطابق أول السورة
يفلحون». جعل فاتحة السورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وأورد في خاتمتها (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت.
وروى: أنّ أوّل سورة (قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش، من عمل بثلاث آيات من أوّلها، واتعظ بأربع آيات من آخرها: فقد نجا وأفلح وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عنده دوىّ كدوىّ النحل، فمكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يده وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وآخرها، كما قال: وافتتح بـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)، وأورد في خاتمتها:(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ). وكل هذه الرموز يعضده النظم الذي أشرنا إليه في أثناء السورة، ألا ترى كيف أمر حبيبه صلوات الله وسلامه عليه بعد أن سلاه عن إسلام من لا ينجع دعاؤه فيه، بأن يطلب الغفران والرحمة في دعائه لنفسه ولمتبعيه، ورمز فيه إلى متاركة مخالفيه بقوله تعالى:(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)؟
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي)، الحديث، رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، والترمذي في "سننه"، عن عمر رضي الله عنه.
قوله: (وآثرنا ولا تؤثر علينا)، النهاية: آثر يؤثر إيثاراً: إذا أعطى، يقال: يستأثر عليكم،
وارض عنا وأرضنا» ثم قال «لقد أنزلت علىّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة» ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: يُفضل عليكم غيركم في نصيبه. في حديث عمر رضي الله تعالى عنه: والله ما استأثر بها عليكم، ولا آخذها دونكم.
تمت، والحمد لله رب العالمين