الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النور
مدنية، وهي ثنتان وستون آية، وقيل: أربعٌ وستون
بسم الله الرحمن الرحيم
[{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1]
{سُورَةٌ} خبر مبتدأ محذوف. و {أَنْزَلْنَاهَا} صفة. أو هي مبتدأٌ موصوفٌ والخبر محذوف، أي: فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها. وقرئ بالنصب على: زيداً ضربته، ولا محل لـ {أَنْزَلْنَاهَا} ، لأنها مفسرةٌ للمضمر، فكانت في حكمه. أو على: دونك سورة، أو: اتل سورة، و {أَنْزَلْنَاهَا} صفة. ومعنى "فرضناها": فرضنا أحكامها التي فيها.
وأصل الفرض: القطع، أي: جعلناها واجبةً مقطوعاً بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة النور
مدنية، وهي ثنتان وستون آية، وقيل: أربعٌ وستون
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وقرئ بالنصب)، قال ابن جني: هي قراءة أم الدرداء، وعيسى الثقفي، ورويت عن عمر بن عبد العزيز.
قوله: (أي: جعلناها واجبةُ)، الراغب: الفرض: قطع الشيء الصلب والتأثير فيه،
والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده: أو: لأن فيها فراض شتى، وإنك تقول: فرضت الفريضة، وفرضت الفرائض. أو: لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كقطع الحديد، والفرض كالإيجاب، لكن الإيجاب يقال اعتباراً بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه. قال تعالى:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} ، أي: أوجبنا العمل بها. ومنه يقال لما ألزم الحاكم من النفقة: فرض. وكل موضع ورد فيه: فرض الله عليه، ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه. وما ورد من: فرض الله له، فهو في أن لا يحظره على نفسه، نحو قوله:{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 37] وقوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] أي: سميتم لهن مهرًا، وأوجبتم على أنفسكم بذلك، وعلى هذا يقال: فرض له في العطاء، وبهذا النظر، ومن هذا الغرض قيل للعطية: فرضٌ، وللدين: فرضٌ، قال تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: من عين على نفسه إقامة الحج، وإضافة فرض الحج إلى الإنسان دلالةٌ على أنه غير معين الوقت.
وقال الإمام: {وَفَرَضْنَاهَا} : فرضنا ما بين فيها، وإنما قال ذلك، لأن أكثر ما في هذه السورة من باب الأحكام والحدود.
وقلت: فقوله: {وَفَرَضْنَاهَا} بمنزلة براعة الاستهلال، لأن قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا .... } إلى آخر السورة من الأحكام كالتفصيل، ونحوه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] على ما سبق بيانه.
قوله: (والتشديد للمبالغة)، أي: من شدد {وَفَرَضْنَاهَا} وهو ابن كثير وأبو عمرو، فللمبالغة في الإيجاب.
{تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وتخفيها. رفعهما على الابتداء، والخبر محذوفٌ عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض عليكم.
[{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2]
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} أي: جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر: {فَاجْلِدُوا} ، وإنما دخلت الفاء، لكون الألف واللام بمعنى "الذي"، وتضمينه معنى الشرط، تقديره: التي زنت، والذي زنى فاجلدوهما، كما تقول: من زنى فاجلدوه، وكقوله:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4]. وقرئ بالنصب على إضمار فعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وتخفيفها)، بالتخفيف: حفصٌ وحمزة والكسائي، والباقون: بالتشديد.
قوله: (وقرئ بالنصب)، قال ابن جني: وهي قراءة عيسى الثقفي، وهو منصوبٌ بمضمر، أي: اجلدوا الزانية، وتفسيرها:{فَاجْلِدُوا} وجاز دخول الفاء، لأنه في موضع أمر، ومآل معناه إلى الشرط، ولا يجوز: زيدًا فضربته، لأنه خبر.
وقال الزجاج: وزعم الخليل وسيبويه أن النصب المختار، وزعم غيرهما من البصريين والكوفيين أن المختار الرفع، وكذا عندي، لأن الرفع كالإجماع في القراءة، وهو أقوى في العربية، لأن معناه: من زنى فاجلدوه، على الابتداء، ويؤيده قوله تعالى:{وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا} [النساء: 16]، وإنما اختار الخليل وسيبويه النصب، لأنه أمرٌ، والأمر بالفعل أولى. وقد مر فيه الكلام مستقصى في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
يفسره الظاهر، وهو أحسن من (سورةً أنزلناها)، لأجل الأمر. وقرئ:(والزان) بلا ياء. والجلد: ضرب الجلد، يقال: جلده، كقولك: ظهره وبطنه ورأسه. فإن قلت: أهذا حكم جميع الزنية والزواني، أم حكم بعضهم؟ قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإن المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبي حنيفة ست: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزويج بنكاحٍ صحيح، والدخول، إذا فقدت واحدةٌ منها فلا إحصان.
وعند الشافعي: الإسلام ليس بشرط، لما روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين. وحجة أبي حنيفة: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أشرك بالله فيس بمحصن" فإن قلت: اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزنية والزواني، لأن قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} عام في الجميع، يتناول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وشرائط الإحصان)، عن بعضهم: أحصن الرجل: تزوج فهو محصنٌ، وهو أحد ما جاء على "أفعل" فهو "مفعل". وأحصنت المرأة: عفت، وحصنها زوجها، فهي محصنةٌ ومحصنة، قال ثعلبٌ: كل امرأة عفيفة محصنةٌ ومحصنةٌ، وكل امرأة متزوجة محصنةٌ بالفتح لا غير.
قوله: (رجم يهوديين)، الحديث مشهورٌ مخرجٌ في "الصحيحين".
قال القاضي: لا يعارضه "من أشرك بالله فليس بمحصن"، إذ المراد المحصن: الذي يقتص له من المسلم.
قوله: (اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزنية والزواني)، أي: اللفظ عامٌ، كيف يذهب على أنه حكم من ليس بمحصن؟ وتوجيه الجواب: أنا لا نسلم أنه عامٌ، بل هو
المحصن وغير المحصن. قلت: الزانية والزاني يدلان على الجنسين المنافقين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة، والجنسية قائمةٌ في الكل والبعض جميعاً، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وقرئ:(ولا يأخذكم) بالياء، و (رأفةٌ) بفتح الهمزة، و (رآفة) على: فعالة. والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده، وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً في ذلك، حيث قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مطلق، فإن لام الجنس إذا دخلت على مفهوم دل دلالةً مطلقةً شائعةً في جنسه، فيصح حمله على البعض وعلى الكل، فإذا انتهضت قرينةٌ تعين المراد منها كاللفظ المشترك، فإن إرادة أخد مفهوميه إنما تتعين عند قيام القرينة، وقرينة تقييد هذا المطلق آية الرجم، وهي:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" إلى آخرها، وفيه بحث، لأنه لا مانع عندهم أن تجري الآية على العامٌ المخصص على ما سبق في البقرة عند قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وروى عن المصنف أنه قال: الألف واللام في الصفات عند المازني ومن تبعه كالمبرد وغيره بمنزلتهما في الأسماء للتعريف، وعند سيبويه هما بمعنى: الذي، والصفة بمعنى الفعل.
قوله: ("رأفةٌ" بفتح الهمزة)، ابن كثير، والباقون: بإسكانها. و"رأفةٌ" على: فعالة شاذةٌ. قال الزجاج: و"رآفةٌ" مثل السآمة والكآبة، وفعالةٌ من أسماء المصادر.
قوله: (والهوادة)، الجوهري: هي الصلح والميل: وقيل: الهوادة: أن لا يجد في الأمر.
"لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه. وقيل: لا تترحموا عليهما حتى تعطلوا الحدود، أو حتى لا توجعوهما ضرباً. وفي الحديث:"يؤتي بوال نقص من الحد سوطاً، فيقول: رحمةٌ لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به إلى النار. ويؤتي بمن زاد سوطاً، فيقول: لينتهوا عن معاصيك. فيؤمر به إلى النار"، وعن أبي هريرة: إقامة حد بأرض خيرٌ لأهلها من مطر أربعين ليلة. وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لو سرقت فاطمة)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، عن عائشة قالت: إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ إلى قوله: وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد- عليهما السلام سرقت لقطعت يدها.
قوله: (وقيل: لا تترحموا عليهما)، هذا تفسيرٌ آخر لقوله تعالى:{وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ} ، والفرق أن على الأول تحريضٌ على إقامة الحد نفسه، والثاني على إقامته مع الإيجاع فيه، يدل على الأول قوله:"ولا يأخذكم اللين في استيفاء حدود الله تعالى"، وعلى الثاني: قوله: "أو حتى لا توجعوهما ضرباً".
قوله: (إقامة حد بأرض)، عن ابن ماجه، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إقامة حد من حدود اله خيرٌ من مطر أربعين ليلةٌ في بلاد الله عز وجل".
وعن ابن ماجه والنسائي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدٌ يعمل به في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً"، وفي رواية النسائي:"ثلاثين صباحاً".
عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب. والرجل يجلد قائماً على مجرده ليس عليه إلا إزاره، ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً، مفرقاً على الأعضاء كلها، لا يستثنى منها إلا ثلاثاً: الوجه، والرأس، والفرج. وفي لفظ الجلد: إشارةٌ إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الأم إلى اللم. والمرأة تجلد قاعدةً، ولا ينزع من ثيابها إلى الحشو والفرو، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن الجلد حد غير المحصن بلا تغريب. وما احتج به الشافعي رحمه الله على وجوب التغريب من قوله صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام"، وما يروي عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفا، منسوخٌ عنده وعند أصحابه بالآية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على مجرده)، أي: ظاهر بشرته عارياً. الجوهري: يقال: فلانٌ حسن الجردة والمجرد، كقولك: حسن العرية والمعري، وهما بمعنى واحد.
قوله: (لا مبرحاً)، النهاية: ضربٌ غير مبرح: غير شاق.
قوله: (وفي لفظ الجلد: إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم)، وهو المعنى بالإدماج عند علماء البيان، وإشارة النص في الأصول.
قوله: (البكر بالبكر جلد مئة)، عن مسلم والترمذي وأبي داود، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة ورجمٌ". هذه رواية مسلم، والمعنى: زنى البكر بالبكر حده جلد مئة، أو: حد زنى البكر بالبكر جلد مئة.
وفي قوله: "وما يروي عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفوا، منسوخ"، بحثٌ، لأن إجماع الصحابة متأخرٌ عن نزول الآية، فكيف يكون منسوخاً بها؟ وفي هذا الإجماع دلالةٌ على أن الآية غير ناسخةٍ للسنة، وهذه الزيادة ليست بناسخةٍ للآية عند الشافعية خلافاً للحنفية. وروينا عن الترمذي عن ابن عمر، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وإن أبا بكرٍ ضرب وغرب، وإن عمر ضرب وغرب.
أو محمولٌ على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحر واحد، وله في العبد ثلاثة أقاويل: يغرب سنةً كالحر، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة، ولا يغرب، كما قال أبو حنيفة.
وبهذه الآية نسخ الحبس، والأذى في قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15]، وقوله:{فَآَذُوهُمَا} [النساء: 16]. قيل: تسميته عذاباً دليلٌ على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذاباً، لأنه يمنع من المعاودة، كما سمي نكالاً.
الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثةٌ أو أربعة، وهي صفةٌ غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعةٌ إلى أربعين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو محمول على وجه التعزير والتأديب لا على الوجوب)، بناءً على أن الزيادة على النص نسخ، وأنه لا ينسخ الكتاب بخبر الواحد. قال القاضي: ليس في الآية ما يدفع حديث التغريب لينسخ أحدهما بالآخر.
قوله: (أن يسمى عذاباً، لأنه يمنع من المعاودة)، الأساس: يقال: أعذب عن الشيء واستعذب: إذا امتنع، ويقال: أعذبوا عن الآمال أشد الإعذاب، فإن الآمال تورث الغفلة، وتعقب الحسرة.
قوله: (الجماعة الحافة)، الراغب: الطائفة من الناس: جماعةٌ منهم، ومن الشيء: القطعة منه، قال بعضهم: قد يقع على واحد فصاعداً، وعلى ذلك قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، والطائفة إذا أريد بها الجمع: فجمع طائف، وإذا أريد بها الواحد فيصح أن يكون جمعًا وكني به عن الواحد وكني به عن الواحد، ويصح أن يجعل كراوية وعلامة. والخلود بالنار يؤذن بوضع الحديث.
رجلاً من المصدقين بالله. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثةٌ فصاعداً. وعن عكرمة: رجلان فصاعداً. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس، لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحد، والصحيح أن هذه الكبيرة من أمهات الكبائر، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله:{وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، وقال:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الناس، اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال، ثلاثٌ في الدنيا، وثلاثٌ في الآخرة: فأما اللاتي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللاتي في الآخرة: فيوجب السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار"، ولذلك وفى الله فيه عقد المئة بكماله، بخلاف حد القذف وشرب الخمر، وشرع فيه القتلة الهولة، وهي الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه، وأمر بشهادة الطائفة للتشهير، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين، لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، ويشهد له قول ابن عباس: إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله.
[{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 3].
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الهولة)، عن بعضهم: إدخال التاء في الهولة على تأويل الوصفية كقولهم: الجبة الحتفة، والمرأة الكلبة، على تأويل الهائلة والقائلة والسليطة.
قوله: (الزنى والتقحب)، الراغب: الزنى: وطء المرأة من غير عقد شرعي. ويقصر، وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة. وزنأ في الجبل زنأ وزنوءاً، والزناء: الحاقن بوله،
من النساء واللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو في مشركة، أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين، ونكاح المؤمن الممدوح عند اله الزانية ورغبته فيها وانخراطه فيها في سلك الفسقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونهي الرجل أن يصلي وهو زناء. وقيل: الزنى: سفح الماء في محل محرم، يمد ويقصر، والقصر لغة الحجاز، والمد لغة نجد.
الأساس: يسمى أهل اليمن المرأة القحبة، ويقولون: لا تثق بقول القحبة، ولا تغتر بطول الصحبة. وقاحبت المرأة: وقحبت وتقحبت.
وقوله: (ونكاح المؤمن)، إلى آخره، هو معنى قوله:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، وهو عطفٌ على قوله:"الفاسق الخبيث" إلى آخره. اعلم أن قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} يصح أن يحمل على الخبر المحض، وعلى معنى النهي، كما نص عليه في آخر كلامه، فإذا حمل على الخبر يكون معنى الحرمة في قوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} التنزيه، ويسمى حرامًا للتغليظ والتشديد، وإليه الإشارة بقوله:"لما فيه من التشبه بالفساق"، والمعنى: أن من شأن الفاسق الخبيث وعادته ذلك، فعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة، ويتصون عنها كما ذكره، فعلى هذا: الظاهر أن قوله: "وقد أجازه ابن عباس رضي الله عنهما"، وقوله:"أنه سئل عن ذلك، فقال: أوله سفاح وآخره نكاح" مبني على هذا الوجه، والآية غير منسوخة. وإذا حمل على النهي فيكون قوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} على ظاهره مؤكدًا لمعنى النهي، ويكون قوله:"وقيل: كان بالمدينة موسراتٌ من بغايا المشركين" إلى آخره، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: "إن الرجل إذا زنى
المتسمين بالزنى: محرمٌ عليه محظور، لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة، وأنواع المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فيكف بمزواجة الزواني والقحاب؟ ! وقد نبه على ذلك بقوله:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]. وقيل: كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهن،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بامرأة، ليس له أن يتزوجها" مبنيين على هذا، والآية منسوخة. قال القاضي: وإنما حرم ذلك على المؤمنين، لأنه تشبيهٌ بالفساق، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغةً، وقيل: النفي بمعنى النهي، وقد قرئ به، والحرمة على ظاهرها، والحكم مخصوصٌ بالسبب الذي ورد فيه، وهو نكاح الموسرات من بغايا المشركين، أو منسوخٌ بقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فإنه يتناول المسافحات.
قوله: (لسوء القالة فيه)، الراغب: القالة: كل قول فيه طعنٌ وغميزة وقال: بعضهم: القال والقالة: ما ينتشر من القول، قال الخليل: يوضع القال موضع القائل، فيقال: أنا قال كذا، أي: قائله.
قوله: (وقد نبه على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} ، يعني: إذا كان الصالحون من الأرقاء والمماليك موصى في حقهم التزوج بسبب الصلاح، فالحرائر أولى بالتوصية أن يحترزن عن نكاح الفاسقين، والأحرار عن الفواسق، لأن السبب في شرعية النكاح التحصن في الدين، وحفظ الصلاح، والتكاثر من الصلحاء، فعلى هذا قوله تعالى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] تأكيدٌ للآية وموافقةٌ لها، ولهذا كانت الآية على هذا الوجه غير منسوخة.
فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وعن عائشة رضي الله عنها: أن الرجل إذا زنى بامرأة: ليس له أن يتزوجها، لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانياً. وقد أجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن ذلك، فقال:"أوله سفاحٌ وآخره نكاح، والحرام لا يحرم الحلال"، وقيل: المراد بالنكاح الوطء. وليس بقول، لأمرين: أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلا في معنى العقد. والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك: الزاني لا يزنى إلا بزانية، والزانية لا يزني بها إلا زان. وقيل: كان نكاح الزانية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سفاح)، النهاية: السفاح: الزنى، مأخوذٌ من سفحت الماء: إذا صببته، وأراد به أن المرأة تسافح رجلاً مدةً ثم يتزوجها، وهو مكروهٌ عند بعض الصحابة، وعن بعضهم: المرأة مسافحٌ بها ومسفوحٌ فيها، فتسميتها مسافحة مجازٌ، كالزانية من: زنأت الجبل، إذا علوت.
الانتصاف: كره مالكٌ نكاح المشهورين بالفاحشة، ونقل بعض أصحابه إجماع المذاهب أن للمرأة أو لوليها فسخ نكاح الفاسق.
قوله: (أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلا في معنى العقد)، قال الزجاج: لا يعرف شيءٌ من ذكر النكاح في كتاب الله إلا على معنى التزويج، قال الله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} [النور: 32]، {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49].
قوله: (وأداؤه إلى قولك: الزاني لا يزني إلا بزانية)، قال صاحب "التقريب": وليس فساده لأنه بيانٌ للواضحات، بل لأنه غير مسلم، إذ قد يزني الزاني بغير الزانية لعلم أحدهما بالزنى، والآخر جاهلٌ به، يظن الحل، وقال القاضي: لأنه يؤول المعنى إلى نهي الزاني عن الزنى إلا بزانية، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد.
محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ، والناسخ قوله:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقيل: الإجماع، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب. فإن قلت: أي فرقٍ بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى: صفة الزاني بكونه غير راغبٍ في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: الإجماع)، أي: الناسخ الإجماع، وعن بضعهم: فيه نظرٌ، لأن النسخ لا يجوز إلا زمان ورود النص، وإذا وافق النبي صلى الله عليه وسلم أهل الاجتهاد في حكم كان ذلك نصاً لا إجماعًا.
قوله: (أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ )، يعني معنى قوله:{وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} ، يعود إلى قوله:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} ، لأن إسناد النكاح في الجملتين إلى الزاني. وأجاب بأن المسند إليه هو الذي يستدعي أن يحكم عليه، فهو في الحقيقة الموصوف، والخبر كالصفة تابعٌ له، ومن ثم سمى ابن جني المبتدأ رب الجملة، فيرجع معنى الجملة الأول إلى أن الزاني هو الذي يجتهد في تحصيل الفاجرة، ويرغب عن نكاح العفائف، ومعنى الثانية إلى أن الزانية حكمها أن لا يرغب فيها إلا عقابل الزنية، فيكون الذم راجعًا إليها بالأصالة، كما رجع إلى الزاني في الأولى بالأصالة، وإن استتبع كلٌ منهما ذم الآخر، ولو لم يذكر الثانية لم يعلم ذلك.
الانتصاف: ليس ما ذكره الزمخشري موضحًا لتطابق الجملتين، وإيضاحه: أن الأقسام أربعة: الزاني لا يرغب إلا في زانية، والزانية لا ترغب إلا في زان، والعفيف لا يرغب إلا في عفيفة، والعفيفة لا ترغب إلا في عفيف، فذكر منها قسمان دالان على القسمين المسكوت عنهما، فالقسم الأول دالٌ على قرينه، وهو انحصار رغبة العفيف في العفيفة. والقسم الثاني: يفهم منه الرابع وهو انحصار رغبة العفيفة في العفيف، وعبر عن الزنية بما لا ينفك عن الزنى، فذكر الأعفاء بسلب نقائصهم، وأسند النكاح في القسمين المذكورين إلى الذكور، بخلاف قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} جعل كل واحد منهما زانياً، وقدم الزانية في الكلام
العفائف، ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: كيف قدمت الزانية على الزاني أولاً، ثم قدم عليها ثانياً؟ قلت: سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل، ولم تومض له، ولم تمكنه لم يطمع، ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك: بدئ بذكرها. وأما الثانية فمسوقةٌ لذكر النكاح، والرجل أصلٌ فيه، لأنه هو الراغب والخاطب، ومنه يبدأ الطلب. وعن عمرو بن عبيد:(لا ينكح) بالجزم على النهي. والمرفوع أيضاً فيه معنى النهي، ولكن أبلغ وآكد، كما أن "رحمك الله" و"يرحمك": أبلغ من "ليرحمك" ويجوز أن يكون خبراً محضاً، على معنى: أن عادتهم جاريةٌ على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها. وقرئ:(وحرم) بفتح الحاء.
[{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4 - 5].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول، لأن الأصل في الزنى المرأة لما يبدو من إطماعها، والثاني في النكاح، إذ المعتبر فيه الرجل، وهم البادون بالخطبة. ولما كان الغرض تنفير الإعفاء من الزنى قربنه بالشرك. تم كلامه. وليس بطائلٍ، لأن قوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} متضمنٌ لمعنى القسمين المقدرين.
قوله: (ولم تومض له)، الجوهري: أومضت المرأة: إذا سارقت النظر من: "ومض البرق وميضًا": إذا لمع لمعاناً خفيفاً.
قوله: (كما أن "رحمك الله" و "يرحمك": أبلغ)، وهم يسلكون هذه الطريقة للتفاؤل، كأنهم أسعفوا بمطلوبهم، فهم يخبرون عنه.
قوله: (ويجوز أن يكون خبرًا محضًا)، عطفٌ على قوله:"والمرفوع أيضًا فيه معنى النهي".
القذف يكون بالزنى وبغيره، والذي دل على أن المراد قذفهن بالزنى شيئان، أحدهما: ذكر المحصنات عقيب الزواني. والثاني: اشتراط أربعة شهداء، لأن القذف بغير الزنى يكفي فيه شاهدان، والقذف بالزنى: أن يقول الحر العاقل البالغ لمحصنة: يا زانية، أو لمحصن: يا زاني، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، يا ولد الزنى، لست لأبيك، لست لرشدة. والقذف بغير الزنى أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا يهودي، يا مجوسي، يا فاسق، يا خبيث، يا ماض بظر أمه، فعليه التعزير، ولا يبلغ به أدنى حد العبيد، وهو أربعون، بل ينقص منه. وقال أبو سيف: يجوز أن يبلغ به تسعةٌ وسبعون. وقال: للإمام أن يعزر إلى المئة. وشروط إحصان القذف خمسة: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والعفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لست لرشدة)، النهاية: يقال: هذا ولد رشدة: إذا كان لنكاح صحيح، كما يقال في ضده: ولد زنية، بالكسر.
قوله: (يا يهودي، يا مجوسي)، فيه أن هذا ليس موجباً للتكفير، لأنه قال: فعليه التعزير، وفي "الروضة": قال المتولي: ولو قال المسلم: يا كافر، بلا تأويل: كفر، لأنه سمى الإسلام كفرًا. وفيها: ولو قيل للمسلم: يا يهودي أو: يا مجوسي، فقال: لبيك: كفر.
قوله: (يا ماص بظر أمه)، النهاية: في الحديث: امصص ببظر اللات. البظر، بفتح الباء: الهنة التي تقطعها الخافضة من فرج المرأة عند الختان. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم. وعن بعضهم: مصصت الماء: شرب منه رشفًا، وفي الحديث:"مصوا الماء، ولا تعبوا عبًا، فإن الكباد من العب". وقولهم للرجل: يا مصان، وللمرأة: يا مصانة: شتم.
وقرئ: (بأربعة شهداء) بالتنوين. و (شهداء) صفة. فإن كنت: كيف يشهدون: مجتمعين أو متفرقين؟ قلت: الواجب عند أبي حنيفة وأصحابه أن يحضروا في مجلسي واحد، وإن جاؤوا متفرقين: كانوا قذفة، . وعند الشافعي: يجوز أن يحضروا متفرقين. فإن قلت: هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحداً منهم؟ قلت: يجوز عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي. فإن قلت: كيف يجلد القاذف؟ قلت: كما جلد الزاني، إلا أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو. والقاذفة أيضًا كالزانية. وأشد الضرب: ضرب التعزيز، ثم ضرب الزنى، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "بأربعة شهداء" بالتنوين)، قال ابن جني: هي قراءة عبد الله بن مسلم ابن يسار وأبي زرعة، وهذا حسنٌ في معناه، وذلك أن أسماء العدد من الثلاثة إلى العشرة لا تضاف إلى الأوصاف، لا يقال: عندي ثلاثة طريقين، إلا إذا أقيمت الصفة مقام الموصوف، وهذا هو الوجه في قراءة الجماعة {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} بالإضافة، فإنهم استعملوا الشهداء استعمال الأسماء.
قوله: (وأشد الضرب: ضرب التعزير)، النهاية: وأصل التعزير: المنع والرد، ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون الحد: تعزيرٌ، لأنه لا يمنع الجاني أن يعاود الذنب. وقيل: وفي كتاب سلالة "التفريد": أشد الضرب التعزير، ثم حد الزنى، ثم حد الشرب، ثم حد القذف، فإن التعزير نقص من العدد، وزيد في وصفه. وحد الزنى منصوصٌ في تغليظه، قال تعالى:{وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ} ، وحد الشرب متيقنٌ، بخلاف القذف، فيكون أبلغ، ولذلك لا يجرد في حد القذف، لأن سببه غير متقين.
وقال الإمام: قيل: أشد الضرب في الحدود ضرب الزنى، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف. وقال القاضي: إنما كان ضرب القاذف أخف، لضعف سببه، واحتمال
قالوا: لأن سبب عقوبته محتملٌ للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانةً للأعراض وردعاً عن هتكها. فإن قلت: فإذا لم يكن المقذوف محصناً؟ قلت: يعزر القاذف ولا يحد، إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به، فلا حد ولا تعزير. رد شهادة القاذف معلق عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاء الحد، فإذا شهد قبل الحد أو قبل تمام استيفائه: قبلت شهادته، فإذا استوفى: لم يقبل شهادته أبداً وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعي: يتعلق رد شهادته بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن يرجع عنه: عاد مقبول الشهادة. وكلاهما متمسكٌ بالآية، فأبو حنيفة رحمه الله جعل جزاء الشرط- الذي هو الرمي- الجلد، ورد الشهادة عقيب الجلد على التأبيد، فكانوا مردودي الشهادة عنده في أيدهم، وهو مدة حياتهم، وجعل قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} كلاماً مستأنفاً غير داخل في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدق ما قال، ولذلك نقص عدده.
قوله: (صيانةً للأعراض)، العرض: النفس، صنت عرضي أي: نفسي، وفلانٌ نقي العرض، إذا كان بريئاً عما يقرف ويعاب به. وقيل: العرض: الحسب من مكارم [أخلاق] الرجل.
قوله: (أبداً)، الأبد: اسمٌ لزمانٍ طويلٍ انتهى أو لم ينته، يقال: أبدٌ أبيدٌ، كقولهم: دهرٌ داهر وساعةٌ سوعاء، أي: طويلة.
قوله: (كلاماً مستأنفاً)، أي: مبتدأ، كما قال ابن الحاجب في "شرح المفصل" في قوله تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} على معنى التشريك بينهما في عامل واحد، كأنك عطفت خبراً على خبر، أو على الابتداء بجملة معربةٍ إعراب نفسها غير مشتركٍ بينها وبين ما قبلها في عاملٍ واحد،
انقضاء الجملة الشرطية. و {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناءٌ من الفاسقين، ويدل عليه قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} والشافعي رحمه الله جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً، غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفاً، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف، وجعل الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية. وحق المستثنى عنده أن يكون مجروراً بدلاً من "هم" في {لَهُمْ} ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً، لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها: أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إلى أخره: عطفٌ على الجملة الشرطية بتمامها، للإعلام بأن الجملة الأولى مشتملةٌ على حكم الرامين عند الناس في ظاهر الشرع، والثانية على حكمهم عند الله تعالى، ويدل على أن الثانية كذلك قوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، لأن هذه الفاصلة لا تليق بحال قبول الشهادة وردها، ويمكن أن يجاب بأن الفاصلة متعلقةٌ بمجموع الكلام، وأن قوله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملةٌ معترضةٌ دخلت بين المستثنى والمستثنى منه مؤكدةٌ لمعنى ما اعترض فيه، والمناسبة حاصلةٌ على أن التعذيب نوعان: تعذيب إيلام، وتعذيب تشوير، فإذا قبلت توبة القاذف وسمعت شهادته، كأنه غفر له ورحم عيه وأنقذ من عذاب التشوير.
قوله: (والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها: أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاءً للشرط)، وبيانه ما قرره الإمام، وتلخيصه على وجهين: أحدهما: أن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناءٌ مذكورٌ عقيب جمل منسوقةٍ بحرف النسق، وهي:{فَاجْلِدُوهُمْ} ، {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، فهي في حكم واحد، فلم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضٍ أولى من بعض، فوجب عوده إليها بأسرها. ونظيره قول أبي حنيفة رضي الله عنه في قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6]، فإن فاء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعقيب ما دخلت على غسل الوجه فقط، بل على المجموع من حيث إن الواو للجمع المطلق لا للترتيب، فإن قيل: إن الواو كما تكون للجمع فقد تكون للاستئناف، فقوله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملةٌ خبريةٌ، والجملتان السابقتان طلبية، ولا يجوز عطف الخبرية على الطلبية، فالواو: للاستئناف، بخلافه في آية الوضوء؟
الجواب: إذا انتهض الجامع القوي لا يمنع الاختلاف من العطف، أي: من قذف المحصنات فاجلدوهم، وردوا شهادتهم، وفسقوهم، أي: اجمعوا لهم هذه الثلاث إلا الذين تابوا عن القذف، وأصلحوا فإن الله تعالى يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. وإنما خولف في الثالثة بالخبرية، لأنه أبلغ وألزم، ولذلك جئ بها معرفة الخبر متوسطة بضمير الفصل. وثانيهما: أن مجيء: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عقيب قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} يدل على أن العلة في عدم قبول الشهادة كونهم فاسقين، لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعرٌ بالعلية، وإذا ثبت أن العلة لرد الشهادة كونهم فاسقين، فعند زوال الفسق زالت العلة، فوجب أن يزول الحكم.
فإن قيل: إن الاستثناء لو رجع إلى الكل لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد، وهذا باطلٌ بالإجماع؟ وأجاب الإمام: أن ترك العمل فيه لدليل الإجماع، فلم يترك في الباقي.
وقال القاضي: الاستثناء راجعٌ إلى الحكم، وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور، ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل، لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد، أو الاستحلال.
وقلت: لأن الغفران إنما يكون في حقوق الله تعالى، وحد القذف من حقوق العباد، ثم المختار من الوجهين الثاني، لأن قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملةٌ معترضةٌ بين المستثنى
كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم، أي: فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمستثنى منه لتوكيد مضمون الجملة وكالتعليل لها. والواو للاستئناف لا محيد عنه، لورودها على التأكيد، وتعريف الخبر بلام الجنس المؤذن بكمال هذا المعنى فيهم، وتوسط ضمير الفصل المقيد للحصر. وكل هذا ينافي العطف، مع أن الجملتين السابقتين إنشائيتان، ولذلك جعل الإمام الشافعي الاستثناء متعلقًا به:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} كما قال.
وقال ابن الحاجب في "الأمالي": رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها ليس بمستقيم، أما الجلد فلم يرجع إليه بالاتفاق، وأما قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، فإنما جيء به لتقرير تعليل منع الشهادة، فلم يبق إلا قوله:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} .
وينصر هذا القول فعل عمر رضي الله تعالى عنه، وإجماع فقهاء التابعين على ما روينا في "صحيح البخاري": جلد عمر رضي الله عنه عنه أبا بكرة وشبل ابن معبد ونافعًا بقذف المغيرة، ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وأجازه عبد الله بن عتبة، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، وطاووس، ومجاهدٌ والشعبي، وعكرمة، والزهري، ومحارب، وشريح، ومعاوية بن قرة.
قال بعض الناس: لا تجوز شهادة القاذف وإن تاب، ثم قال: لا يجوز نكاحٌ بغير شاهدين، وإن تزوج بشهادة محدودين: جاز. وإن تزوج بشهادة عبدين: لم يجز، وأجاز شهادة المحدود والعبد والأمة لرؤية هلال رمضان.
فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. فإن قلت: الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبي حنيفة! كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام! قلت: المسلمون لا يعبؤون بسبب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يحلقه بقذف مسلم مثله، فشدد على القاذف من المسلمين، ردعاً وكفًأ عن إلحاق الشنار. فإن قلت: هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حد القاذف؟ قلت: لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحد، والمقذوف مندوبٌ إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحد. ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ، ويقول له: أعرض عن هذا ودعه لوجه الله، قبل ثبات الحد، فإذا ثبت لم يكن لواحدٍ منهما أن يعفو، لأنه خالص حق الله، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال. فإن قلت: هل يورث الحد؟ قلت: .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المسلمون لا يعبؤون بسبب الكفار) إلى آخره، قال: صاحب "الفراند": أبو حنيفة لا يحتاج إلى هذا الجواب الضعيف، والكافر إنما قبلت شهادته بعد الإسلام، لأن هذه الشهادة غير شهادة الكفر، لأنها مستفادٌة من الإسلام، فلم تدخل تحت الرد، ويدل عليه أن شهادته مقبولةٌ بعد الإسلام على المسلم والذمي، وتلك الشهادة غير مقبولةٍ على المسلم، ولو كان كما قال، وهو عدم لحوق الشين، لوجب أن لا يحد، لعدم اعتبار قذفه.
قوله: (والشنار)، النهاية: الشنار: العيب والعار. وقيل: هو العيب الذي فيه عارٌ، من: شنر عليه، أي: عابه وطعن فيه.
قوله: (لأنه خالص حق الله تعالى)، عن بضعهم: حد القذف مما اجتمع فيه الحقان، وحق الله تعالى غالبٌ أو حق العبد غالبٌ على قول بعض أصحابنا، ولم يقل أحدٌ بما قاله المصنف عرف في أصول الفقه.
عند أبي حنيفة: لا يورث، لقوله صلى الله عليه وسلم:"الحد لا يورث"، ويورث عند الشافعي، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحد: سقط وقيل: نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت حين تاب مما قال في عائشة رضي الله عنهما.
[{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 6 - 9].
قاذف امرأته إذا كان مسلماً حرًا عاقلاً بالغًا، غير محدود في القذف، والمرأة بهذه الصفة مع العفة: صح اللعان بينهما إذا قذفهما بصريح الزنى، وهو أن يقول لها: يا زانية، أو: زنيت، أو: رأيتك تزنين. وإذا كان الزوج عبداً، أو محدوداً في قذف، والمرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عند أبي حنيفة: لا يورث
…
، ويورث عند الشافعي)، قال الإمام: قال مالكٌ والشافعي: حد القذف يورث، فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد والعفو ثبت لوارثيه الحد، وكذا لو أنشأ القذف بعد موت المقذوف، وعند أبي حنيفة: لا يورث.
حجة الشافعي أن حد القذف الآدمي، لأنه يسقط بعفوه، ولا يستوفي إلا بطلبه، ويحلف المدعى عليه إذا أنكر، وقال أبو حنيفة: لو كان موروثاً لكان للزوج والزوجة نصيبٌ فيه، وليس كذلك، لأنه حقٌ ليس من قبيل المال، فلا يورث كالمضاربة والوكالة. والجواب: أن الأصح عند الشافعي أنه يرثه جميع الورثة كالمال، وفيه وجهٌ أنه لا يرثه الزوج والزوجة، لأن المقصود من الحد دفع العار، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة، لأن الزوجية تنقطع بالموت.
محصنة: حد، كما في قذف الأجنبيات، وما لم ترافعه إلى الإمام لم يجب اللعان. واللعان: أن يبدأ الرجل فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، ويقول في الخامسة: إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى. وتقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى. وعند الشافعي رحمه الله: يقام الرجل قائماً حتى يشهد، والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعدٌ حتى تشهد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه ويقول له: إن أخاف إن لم تكن صادقاً أن تبوء بلعنة الله. وقال: اللعان بمكة بين المقام والبيت، وبالمدينة على المنبر، وببيت المقدس في مسجده، ولعان المشرك في الكنيسة وحيث يعظم، وإذا لم يكن له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام، لقول تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، ثم يفرق القاضي بينهما، ولا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريقه عند أبي حنيفة وأصحابه، إلا عند زفر، فإن الفرقة تقع باللعان. وعن عثمان البتي: لا فرقة أصلاً. وعند الشافعي رحمه الله: تقع بلعان الزوج. وتكون هذه الفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبي حنيفة ومحمد، ولا يتأبد حكمها، فإذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحد: جاز أن يتزوجها. وعند أبي يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي: هي فرقةٌ بغير طلاقٍ توجب تحريمها مؤبداً، ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه. وروى: أن آية القذف لما نزلت قرأها رسول اله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن عثمان البتي)، قيل: هو خليفة الحسن البصري، وكتب أبو حنيفة كتاب "الرسالة" من تصنيفه إليه، والبتي: بائع البيت، وهو الكساء الغليظ.
قوله: (روي: أن آية القذف لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، في هذه الرواية تخليطٌ، لأن حديث عاصم بن عدي رواه البخاري ومسلمٌ والنسائي عن ابن عباسٍ من غير هذا
عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك، إن وجد رجلٌ مع امرأته رجلاً فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته أبداً وفسق وفسق، وإن ضربه بالسيف قتل، وإن سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى! اللهم افتح. وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر، فقال: ما وراءك؟ قال: شرٌ، وجدت على بطن امرأتي خولة- وهي بنت عاصم- شريك بن سحماء، فقال هذا والله سؤالي، ما أسرع ما ابتليت به! فرجعا، فأخبر عاصمٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم خولة، فقالت: لا أدري، ألغيرةٍ أدركته، أم بخلاً على الطعام! وكان شريكٌ نزيلهم، وقال هلال: لقد رأيته على بطنها. فنزلت، ولا عن بينهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله وقولها: أن لعنة الله عليه إن غضب الله عليها: "آمين"، وقال القوم: آمين، وقال لها:"إن كنت ألممت بذنب فاعترفي به، فالرجم أهون عليك من غضب الله، إن غضبه هو النار". وقال: "تحينوا بها الولادة، فإن جاءت به أصهيب أثيبج يضرب إلى السواد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه. وروى مسلمٌ وأبو داود، عن ابن مسعودٍ معنى أول هذا الحديث كما أورده، وليس فيه ذكر الأسامي.
وأما قصة هلال بن أمية وشريك بن سحماء فقد رواها مسلمٌ والنسائي، وليس في أوله ذكر عاصم وغيره. وعلى الجملة، معنى هذا الحديث مرويٌ برواياتٍ شتى، وأحاديث متفرقة. ومن أراد تحقيقه فعليه بـ "جامع الأصول".
قوله: (تحينوا بها)، الحين: الوقت، أي: اطلبوا وقتها. والأصيهب: هذا الذي يعلو لونه صهبةٌ، وهي الشقرة، وهي تصغير أصهب. والأثيبج: تصغير الأثبج، وهو الناتئ
فهو لشريك، وإن جاءت به أوراق جعداً جمالياً خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به". قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله لشريك، فقال صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". وقرئ: (ولم تكن) بالتاء، لأن الشهداء جماعة، أو لأنهم في معنى الأنفس التي هي بدل. ووجه من قرأ (أربع) أن ينتصب، لأنه في حكم المصدر، والعامل فيه المصدر الذي هو {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ، وهي مبتدأٌ محذوف الخبر، تقديره: فواجبٌ شهادة أحدهم أربع شهادات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثبج: أي: ما بين الكتفين والكاهل، وقد جاء رجلٌ أثبج عظيم الجوف. والأورق: الأسمر، والورقة: السمرة، الجمالي: الضخم الأعضاء التام الأوصال، يقال: ناقةٌ جماليةٌ: مشبهةٌ بالجمل عظمًا وبدانةً. وخدلج الساقين: العظيم الممتلئ الساق. كلها في "النهاية". وقال صاحب "الجامع": وإنما جاء بهذه الألفاظ مصغرةً لكونها صفةً للمولود.
قوله: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، أي: لولا الإيمان الذي في اللعان، وفي رواية مسلم والنسائي، عن أنسٍ:"لولا ما سبق فيها من كتاب الله لكان لي ولها شأنٌ"، ورواية البخاري وأبي داود:"لولا ما مضى من كتاب الله".
قوله: (وهي: مبتدأ)، أي:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ، والخبر المقدر: واجب، و (أربع شهادات): في حكم المصدر، والتقدير: فواجبٌ شهادة أحدهم أربع شهادات، والجملة خبر {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. قال صاحب "الكشف": من نصب فالتقدير: فالواجب أن يشهد أحدهم أربع شهادات، فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، ومن رفع فقال:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} ، فقد أخبر بالمرفوع عن المبتدأ، فيتحقق إذن تعلق الباء من قوله:{بِاللَّهِ} بما يليه، وهو {شَهَادَاتٍ} ، ولا يجوز حينئذٍ تعليقها بقوله:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ، لأنه أخبر عن المبتدأ، ولا يجوز بعد الإخبار عنه أن يتعلق به شيءٌ، ومن نصب فالجار يتعلق بالثاني على مذهب سيبويه، وبالأول على مذهب الفراء.
وقرئ: (أن لعنة الله)، و:(أن غضب الله) على تخفيف (أن) ورفع ما بعدها. وقرئ: (أن غضب الله) على فعل الغضب.
وقرئ بنصب الخامستين، على معنى: ويشهد الخامسة. فإن قلت: لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت: تغليظاً عليها، لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها، ولذلك كانت مقدمةً في آية الجلد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقري: "أن لعنة الله")، قرأن نافعٌ:"أن لعنة الله"، و"أن غضب الله"، بتخفيف النون فيهما ورفع التاء وكسر الضاد، من: غضب، ورفع {اللهُ}. والباقون: بتشديد النون ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء.
وقوله: (على فعل الغضب)، يريد أنه قرئ:"غضب"، على الفعل الماضي، ورفع {اللهُ} ، لموافقة الرواية صورة خط الإمام، وأما "لعنة الله عليه" فإن كانت صورتها صورة الفعل، لكن لتكرر الضمير في "عليه"، وعدم مساعدتها الرواية ما قرئ بالفعل، وبهذا ظهر صحة قول الكواشي: السبعة: ما صح سنده، ووافق لفظه خط الإمام.
وقوله: (وقرئ بنصب الخامستين)، حفصٌ:{وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} بنصب التاء، والباقون: برفعها.
قوله: (بخلابتها)، أي خداعها. كما قال "والمرأة هي المادة التي منها نشأت الخيانة، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له لم يطمع". النهاية: وفي الحديث "لا خلابة"، أي: لا خداع، وفيه: أن بيع المحفلات خلابةٌ، وفي أمثالهم: إذا لم تغلب فاخلب.
ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخولة: "فالرجم أهون عليك من غضب الله".
[{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} 10].
الفضل: التفضل. وجواب "لولا" متروك، وتركه دالٌ على أمرٍ عظيم لا يكتنه، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من منطوقٍ به.
[{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 11].
الإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويشهد لذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه لخولة)، يعني الذي يدل على أن التغليظ متوجهٌ إلى المرأة دون الرجل تخصيصه صلوات الله عليه بهذا القول إياها دون الرجل عند الملاعنة.
قوله: (وجواب "لولا" متروكٌ، وتركه دالٌ على أمرٍ عظيم)، أي: لفضحكم، أو: لعاجلكم بالعقوبة، أو: لترككم حيارى في أمر الزواني حتى لا تعلموا كيف الخلاص، كما تحير عاصمٌ، وقال: اللهم افتح، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} عطفٌ على {فَضْلُ اللَّهِ} . هذه الآية كالتذييل لما سبق، بمعنى: من فضله ورحمته أنه بين لكم حكم اللعان، ومن كونه توابًا إذا حصلت التوبة قبل الرفع إلى الإمام، يتوب عليكم، ويستره عليكم، ومن حكمته أنه يلعن القاذف الكاذب، ويغضب على الزواني بأن يأمر بالرجم والجلد في المحصن وغيره، لأنه يعلم عاقبة الأمور كلها، ويضع كل شيءٍ في موضعه.
قوله: (هو البهتان)، البهت: الأخذ بالفجاءة، بهته بهتاً وبهتانًا، إذا قال عليه ما لم يفعل. والبهيتة: بمعنى الافتراء، ومنه قول المفترى عليه: يا للبهتية بالكسر، على حذف المدعو.
يفجأك. وأصله: الأفك، وهو القلب، لأنه قولٌ مأفوك عن وجهه. والمراد: ما أفك به على عائشة رضي الله عنها. والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العصابة. واعصوا صبوا: اجتمعوا، وهم عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. وقرئ:{كِبْرَهُ} بالضم والكسر، وهو عظمة. والذي تولاه: عبد الله، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهازه الفرص، وطلبه سبيلاً إلى الغميزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الأفك، وهو القلب)، النهاية: يقال: أفكه يأفكه إفكًا: إذا صرفه عن الشيء فقلبه. ومنه: ائتفكت البلدة بأهلها، أي: انقلبت، فهي مؤتفكة.
قوله: (وقرئ: {كِبْرَهُ} بالضم والكسر)، قال ابن جني:"كبره" بالضم قراءة أبي رجاءٍ وحميدٍ ويعقوب وغيرهم، أي: عظمه، ومن كسره أراد: وزره وإثمه. وقال الزجاج: فمن قرأ {كِبْرَهُ} بالكسر فمعناه: من تولى الإثم في ذلك، ومن قرأ "كبره" بالضم أراد: معظمه.
قوله: (لإمعانه)، الجوهري: أمعن الفرس: تباعد في عدوه، وأمعن فلانٌ بحقي: ذهب به. وأمعنت الأرض: رويت.
قوله: (وانتهازه الفرص)، والفرصة في الأصل: نوبة الماء، تفارص القوم: تناوبوا في السقي، ثم عمت حتى استعملت في كل نوبة.
قوله: (إلى الغميزة)، أي: الطعن. الجوهري: ليس في فلان غميزةٌ، أي: مطعن. الراغب: أصل الغمزة: الإشارة بالجفن أو اليد طلبًا إلى ما فيه معابٌ، ومنه قيل: ما في فلانٍ غميزةٌ، أي: نقيصةٌ يشار بها إليها، وجمعها غمائز. قال تعالى:{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المصطفين: 30]، وأصله من: غمزت الكبش، إذا لمسته هل به طرقٌ، نحو: غبطته.
أي: يصيب كل خائض في حديث الإفك من تلك العصبة نصيبه من الإثم على مقدار خوضه، والعذاب العظيم لبعد الله، لأن معظم الشر كان منه. يحكي: أن صفوان مر بهودجها عليه وهو في ملأٍ من قومه، فقال: من هذه؟ فقالوا: عائشة، فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجلٍ حتى أصبحت ثم جاء يقودها! .
والخطاب في قوله: {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لمن ساءه ذلك من المؤمنين، وخاصةً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يحكى: أن صفوان مر بهودجها عليه)، وكان في حديثه على ما روته عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزاةٍ غزاها وأنا معه أحمل في هودجي، فلما رجعنا ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني، فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه، وكنت جاريةً حديثة السن، خفيفة اللحم، وساروا، فوجدت عقدي، وجئت منازلهم وليس بها منهم داع، فتيممت منزلي، فغلبت عيناي فنمت، وكان صفوان بن معطل السلمي قد عرس من وراء الجيش الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأدلج وأصبح عند المنزل، فرأى سواد إنسانٍ فرآني فعرفني، وكان رآني فعرفني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه فخمرت بجلبابي، والله ما كلمني بكلمةٍ سوى الاسترجاع، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها، فركبتها، فانطلق يقودني حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول. هذا مختصرٌ من حديث الإفك على ما رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي.
قوله: (وخاصة)، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة وصفوان في هذا الخطاب دخولًا أوليًا، غذ خوطب بذلك من ساءه وخصوا بذلك خاصةً، أي: خصوصاً، وخاصةً: مصدرٌ، كالخالية والعافية والخالصة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعائشة، وصفوان بن المعطل. ومعنى كونه خيراً لهم: أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم، لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنةً ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة أيةً كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيمٌ لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسليةٌ له، وتنزيهٌ لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهيرٌ لأهل البيت، وتهويلٌ لمن تكلم في ذلك، أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطافٍ للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكامٌ وآدابٌ لا تخفى على متأملها.
[{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} 12].
{بِأَنْفُسِهِمْ} أي: بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، وذلك نحو ما يروى: أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءًا؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خيرٌ مني، وصفوان خيرٌ منك. فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: بالذين منهم)، "من" في {مِنْهُمْ}: اتصاليةٌ، كقوله تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67].
قوله: (هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرًا وقلتم؟ ) يعني: أصل الكلام هذا، لأن المخاطبين من بحضرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وقلت: الأصل أيضًا: وظننتم بها، أي: بأم المؤمنين رضي الله عنها خيرًا، فلم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن المضمر إلى المظهر، ومن المفرد إلى الجماعة؟ وخلاصة الجواب: أن في العدول من الخطاب إلى الغيبة توبيخ المخاطبين ومعاتبةً شديدةً وإبعادًا من مقام الزلفى، أي: كيف سمعوا ما لا ينبغي الإصغاء إليه، فضلًا عن أن يتفوهوا به؟ وفي العدول من المضمر إلى المظهر: الدلالة على أن صفة الإيمان جامعةٌ لهم، فينبغي لمن اشترك فيها أن لا يسمع فيمن شاركه فيها قول عائب، ولا طعن طاعن، لأن عيب أخيه عيبه، والطعن فيه طعنٌ فيه.
ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبلغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالةً على أن الاشتراك فيه مقتضٍ أن لا يصدق مؤمنٌ على أخيه ولا مؤمنةٌ على أختها قول غائبٍ ولا طاعن. وفيه تنبيهٌ على أن حق المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه، أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير:{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات!
[{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَاتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 13]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"كونوا إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره". وعن البخاري وأحمد ابن حنبل، عن أبي موسى، قال:"المؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا". ولهذا فسر قوله: {بِأَنْفُسِهِمْ} : بالمؤمنين والمؤمنات، وفي العدول من المفرد إلى الجماعة وسلوك طريق الكناية الإشعار بتعظيم شأنها، ورفعة منزلتها.
وفيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين، وأزواجه أمهاتهم، واستعظامه يرجع إلى استعظامهم، والقالة فيه كالقالة في أنفسهم، ثم في انضمام لفظ الظن معه إدماجٌ وتنبيهٌ على أنه إذا سمع المؤمن في أخيه المؤمن ما يشينه يتبادر إلى بناء الأمر على الظن الراجح بأن الأصل براءة ساحة المؤمن عن كل شنارٍ وعيب، ولا يبني على الشك فيه. هذا ما يختص بالباطن. وأما بالظاهر، فيصرح بالقول الدال على الشهادة له بالخير، وتنزيهه عن كل سوء، ولا يتلعثم في الكلام، ويقول بملء فيه: هذا إفكٌ مبين، ومن ثم قال:"هذا من الأدب الحسن".
جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها، والذين رموا عائشة لم تكن لهم بينةٌ على قولهم، فقامت عليهم الحجة، وكانوا {عِنْدَ اللَّهِ} - أي: في حكمه وشريعته- كاذبين. وهذا توبيخٌ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاجٌ عليهم بما هو ظاهرٌ مكشوف في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: في حكمه وشريعته كاذبين)، قال:"في حكمه وشريعته"، دون "علمه"، ليؤذن بأنه تعالى إذا أحاط بوقوع الزنى علمًا، ولم يأت القاذف بالشهداء يحكم بمقتضى الشهود، دون العلم، ولهذا قال صلوات الله وسلامه عليه في حديث شريك بن سحماء بعد ما رأى الولد مشابهًا للزاني:"لولا كتاب الله عز وجل لكان لي ولها شأن".
فإن قلت: إنما اختلف الناس في أن الخبر الكاذب هل هو: ما لا يطابق الواقع، أو هو: ما لا يطابق اعتقاد المخبر، وهو أمرٌ ثالث؟ قلت: مطابقة الواقع على هذا إما مطابقة نفس الأمر، أو مطابقة حكم الشارع، لأن الشارع يقطع الحكم على الظاهر كما ورد: نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
قوله: (وهذا توبيخٌ وتعنيفٌ للذين سمعوا الإفك)، "لولا" هاهنا فيها معنى التعنيف، لكون مدخولها ماضيًا، أي: لم ما وجد إتيان الشهداء، وهلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم بالشهداء؟ يعني لم وقع التقصير منكم أيها السامعون في طلب البينة في الحال، وحين لم يقيموها: لم ما أسرعتم في تكذيبهم وتنكيلهم في الحال، وتركتم الشنعاء حتى فشت؟
وقوله: (وهذا توبيخٌ وتعنيفٌ للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه)، وذلك أن معنى {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}: لم توقفتم في الرد على الرامين وتكذيبهم، فهلا جاءوكم حين قذفوا بالبينة وحققوا قولهم بإقامة الشهداء الذين يثبت بهم أمثال هذه الدعاوى؟ فإذ
الشرع، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبة حبيب الله؟ !
[{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} 14 - 15].
{لَوْلَا} الأولى للتحضيض، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى: ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. يقال: أفاض في الحديث، واندفع، وهضب، وخاض. {إِذْ} ظرفٌ لـ "مسكم"، أو لـ {أَفَضْتُمْ}. {تَلَقَّوْنَهُ}: يأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه، ومنه قوله تعالى:{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يأتوا بهم، قامت عليهم الحجة، فلم توقفتم في تكذيبهم وأبطأتم في القول بأن هذا إفكٌ مبين؟ وكذلك معنى قوله:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} ، لأن في تقديم الظرف على عامله توبيخًا على التواني في الرد، يعني: كان الواجب عليكم عند سماعكم بالإفك ثم حينئذٍ أن لا تتوقفوا عن ظن الخير، وعن تكذيب الرامين، والقول بأن هذا إفكٌ مبين، فلم توانيتم فيه؟
قوله: (من عرض نساء المؤمنين)، يقال: فلانٌ من عرض العشيرة، أي: شقها، لا من صميمها، وأصل العرض: الجانب. الأساس: واستعرض الخوارج الناس: إذا خرجوا لا يبالون من قتلوا.
قوله: ({لَوْلَا} الأولى للتحضيض)، يعني في قوله:{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} ، و {لَوْلَا جَاءُوا} ، وإنما جعلهما واحدًا وهما شيئان، لأن مفهومها واحدٌ، ولأن الآية الثاني المصدرة بـ "لولا" كالتقرير للأولى، يدل عليه قوله في جواب "هلا قيل: لولا إذ سمعتموه": "ليبالغ في التوبيخ".
وقرئ على الأصل: (تتلقونه)، و (إتلقونه) بإدغام الذال في التاء، و (تلقونه) من: لقيه، بمعنى: لقفه، و (تلقونه) من إلقائه بعضهم على بعض، و (تلقونه) و (تألقونه) من الولق والألق، وهو الكذب، و (تلقونه) محكية عن عائشة رضي الله عنها.
وعن سفيان: سمعت أمي تقرأ: (إذ تثقفونه)، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله ابن مسعود. فإن قلت: ما معنى قوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} ، والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت: معناه: أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولًا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ على الأصل: "تتلقونه")، قال ابن جني: قراءة عائشة وابن عباس وابن يعمر: "إذ تلقونه"، وقرأ ابن السميفع:"إذ تلقونه"، وقرأ الجماعة:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} ، وروى عن ابن عيينة أنه قال: سمعت أمي تقرأ: "إذ تثقفونه"، قال: وكان أبوها يقرأ كما يقرأ عبد الله. وقال: معنى "إذ تلقونه": تسرعون فيه وتخفون إليه، وأصله: تلقون فيه أو إليه، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل. وأما "تلقونه" فمعناه: تلقونه من أفواهكم، وأما "تثقفونه" فمن: ثقفت الشيء: إذا طلبته وأدركته، أي: تتصيدون الكلام في ذلك من هنا ومن هنا.
روى عن المصنف أنه قال: تألقونه، أصله من الولق، وهو السرعة، من قولهم: ناقةٌ ولقى أي: سريعةٌ، ومنه الأولق: للمجنون، لأن العقل من باب السكون والتماسك، والجنون من باب التسرع والتهافت.
وروينا عن البخاري، عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تقرأ:"إذ تلقونه بألسنتكم"، وتقول: الولق: الكذب، وقال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها، لأنه نزل فيها، وقال ابن الأنباري: هو من: ولق الحديث، أي: أنشأه.
قوله: (وهذا الإفك ليس إلا قولًا يجري على ألسنتكم)، الانتصاف: أو يكون قوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} توبيخًا، كقولك: أتقول ذلك بملء فيك؟ فإن القائل ربما رمز أو
به في القلب، كقوله تعالى:{يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، أي: تحسبونه صغيرةً وهو عند الله كبيرةٌ موجبة. وعن بعضهم: أنه جزع عند الموت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عرض، وربما تشدق جازمًا كالعالم، وقد قيل هذا في قوله:{بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118]. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: فائدة ذكر {بِأَفْوَاهِكُمْ} أن لا يظن أنهم قالوا ذلك بالقلب، لأن القول يطلق على غير الصادر من الأفواه {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقول الشاعر:
وإن أتاه خليلٌ يوم مسألةٍ
…
يقول: لا غائبٌ مالي ولا حرم
وقال:
وإن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ولأن الذكر باللسان أشنع وأقبح من الذكر بالقلب، لأن الذكر باللسان لا يمكن بدون الذكر بالقلب، والذكر بالقلب يمكن بدونه، فيكون الإثم مضاعفًا.
وقلت: النظم مع المصنف، لأنه تعالى يعد على المؤمنين ما جرى منهم في حديث الإفك من تهاونهم فيه، وتغميضهم في ذلك، الأمر العظيم، كما سبق في قوله:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} ، {لَوْلَا جَاءُو} ، فلما فرغ من ذكر الرامين حتى بلغ ذلك الأمر أنفسكم إذ كنتم تأخذون تلك العظيمة منهم، وتلقونه بألسنتكم من غير أن تحققوا هل يجوز ذلك أم لا؟ وحتى كنتم تقولونه أيضًا بأفواهكم من غير رؤيةٍ وفكر، وكنتم تحسبون أنه من قبيل الأراجيف والخرافات لا تبالون فيه وهو عند الله عظيم.
قوله: (كبيرةٌ موجبة)، أي: للنار، وقيل: للخلود فيها، سواءٌ بين الشرك والكبيرة بناءً على مذهبه.
فقيل له، فقال: أخاف ذنباً لم يكن مني على بالٍ وهو عند الله عظيم. وفي كلام بعضهم: لا تقولن لشيء من سيئاتك: حقير، فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام، وعلق مس العذاب العظيم بها، أحدها: تلقي الإفك بألسنتهم، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع وانتشر، فلم يبق بيتٌ ولا نادٍ إلا طار فيه. والثاني: التكلم بما لا علم لهم به. والثالث: استصغارهم لذلك، وهو عظيمةٌ من العظائم.
[{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 16].
فإن قلت: كيف جاز الفصل بين {لَوْلَا} و {قُلْتُمْ} ؟ قلت: للظروف شأنٌ، وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها، لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها. فإن قلت: فأي في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلًا؟ قلت: الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قلت: فما معنى {يَكُونُ} ، والكلام بدونه متلئبٌ لو قيل: ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت: ما معناه معنى: ينبغي، ويصح، أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا، و: ما يصح لنا. ونحوه: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نقير)، نقير النواة: نقرتها، وفتيلها: الخيط الذي في النقرة، وقطميرها: الجلدة الرقيقة اللاصقة بها.
قوله: (كيف جاز الفصل بين {لَوْلَا} و {قُلْتُمْ} ؟ ، يعني: كان من حلق الظاهر أن يقال: لولا قلتم إذ سمعتموه، أي: هلا قلتم: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا إذ سمعتموه؟
قوله: (أن يتفادوا)، الجوهري: تفادى الرجل من كذا: إذا تحاماه وانزوى عنه.
قوله: (متلئب)، أي: مستقيم. الجوهري: اتلأب الأمر اتلئبابًا: استقام.
[المائدة: 116]. و {سُبْحَانَكَ} للتعجب من عظم الأمر. فإن قلتك: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرةً. فإن قلت: كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرةً كامرأة نوحٍ ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرةً؟ قلت: لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم، فيجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم، ولم يكن الكفر عندهم مما ينفر، وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات.
[{يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 17 - 18].
أي: كراهة {أَنْ تَعُودُوا} ، أو: في أن تعودوا، من قولك وعظت فلاناً في كذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات)، المغرب: الكشخان بالشين المثلثة والخاء المعجمة: الديوث الذي لا غيرة له، وكشخه وكشخته: شتمته. وفي حاشية "الصحاح" بخط ابن الحبيب: قال الخليل: الكشخان ليس من كلام العرب، بل معربٌ، ويقال للشاتم: لا تكشخ فلانًا.
الانتصاف: لم أعلم كلامًا أبرد من هذا، وكيف يخفى مثله على ذي لب.
قوله: (أو: في أن تعودوا)، يعني:{أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} يقتضي الزجر والمنع، كأنه قيل: يذكركم الله ويخوفكم في شأن العود إلى مثله.
قال أبو البقاء: حذف حر الجر حملا على معنى يعظكم، أي: يزجركم عن العود،
فتركه. وأبدهم: ما داموا أحياءً مكلفين. و {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فيه تهييجٌ لهم ليتعظوا، وتذكيرٌ بما يوجب ترك العود، وهو اتصافهم بالإيمان الصاد عن كل مقبح.
ويبين الله لكم الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع، ويعلمكم من الآداب الجميلة، ويعظكم به من المواعظ الشافية، والله عالمٌ بكل شيء، فاعلٌ لما يفعله بدواعي الحكمة.
[{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 19].
المعنى: يشيعون الفاحشة عن قصدٍ إلى الإشاعة، وإرادةٍ ومحبةٍ لها. وعذاب الدنيا: الحد، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحساناً ومسطحاً، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربةً بالسيف، وكف بصره. وقيل: هو المراد بقوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور: 11]. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما في القلوب من الأسرار والضمائر {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} يعني: أنه قدم علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبه عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال: عاده، وعاد له، وعاد إليه، وعاد فيه بمعنى. وعاد له في هذه الآية هو إعادة الحالة الأولى نحو: عاد إليه وفيه.
وقد يكون العدو: ابتداء الشروع في الشيء، قال تعالى:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89] أي: نشرع فيه ابتداءً.
قوله: (وتذكيرٌ بما يوجب ترك العود)، يريد أن قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تتميمٌ لقوله تعالى: {يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} ، إما للزجر تهييجًا، وإما للتحريض على الاتعاظ تعليلًا، نحوه سيجيء في قوله:{إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي} في الممتحنة: [1]، وهو من الشرط الذي لا يضمر له الجزاء لتحققه.
قوله: (وقيل: هو المراد بقوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} ، يعني: التعريف في {الَّذِينَ
[{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 20]
وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب، حاذفاً جواب {لَوْلَا} كما حذفه ثمة.
وفي هذا التكرير مع حذف الجواب مبالغةٌ عظيمة، وكذلك في التواب والرؤوف والرحيم.
[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَامُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 21]
الفحشاء والفاحشة: ما أفرط قبحه. قال أبو ذؤيب:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} للعهد، والمعهود قوله تعالى:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} ، قال:"والذي تولاه عبد الله، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدل عليه قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} ، وهو الذي مات منافقًا.
قوله: (وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب) إلى قوله: (وكذلك في التواب والرؤوف والرحيم) يريد: أنه تعالى جعل هذا المعنى أولًا خاتمةً لأحكام الزاني والرامي والملاعن، ثم أتى به في حديث الإفك للإيذان بأنهما سيان في استيجاب سخط الله ونكاله ولعنه، وجعل الفاصلة هنالك {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10] وهاهنا {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تنبيهًا على أن هذا أعظم من ذلك، وأن هذا مما لا يرفع بالتوبة، لكن بمحض رحمته ورأفته، ولهذا كرر {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ} في حديث الإفك مرارًا ثلاثًا، وكما جعل ذلك خاتمةً لتلك الآيات جعله مفتتحًا لهذه العظيمة. ويمكن أن يحمل قول ابن عباسٍ على هذا المعنى، وهو: من أذنب ذنبًا، ثم تاب منه قبل وتوبته، إلا من خاض في أم عائشة رضي الله تعالى عنها.
ضرائر حرميٍّ تفاحش غارها
أي: أفرطت غيرتها.
والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه. وقرئ: (خطوات) بفتح الطاء وسكونها. و (زكى) بالتشديد، والضمير لله عز وجل. ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة، لما طهر منكم أحدٌ آخر الدهر من دنس إثم الإفك، {وَلَكِنَّ اللَّهَ} يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها، وهو {سَمِيعٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بضمائرهم وإخلاصهم.
[{وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 22]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ضرائر حرميٍّ تفاحش غارها)، أوله في "المطلع":
لهن نشيجٌ بالنشيل كأنها
يصف قدورًا وصوت غليانها باللحم. نشج نشيجًا: إذا بكى حتى يسمع لذلك صوتٌ، ونشج القدر: إذا على حتى يسمع لذلك صوت. ونشل اللحم من القدر: انتزاعه منها، والنشيل: لحمٌ يطبخ بلا توابل، والحرمي: المنسوب إلى الحرم، وهو من التغييرات في النسبة، كما يقال: بضريٌ وبصري. تفاحش غارها، أي: أفرطت غيرتها، وإنما خصت بها لأن أهل الحرم دأبهم الرحيل والتجارات، فإذا قدموا بالتحف والطرف يتخاصمن عليها ويتغايرن.
قوله: (والمنكر: ما تنكره النفوس)، أي: النفوس الشريفة القدسية الطاهرة من أوضار الذنوب وأوساخ الآثام، وإلا فالنفس الأمارة بالسوء مائلةٌ إلى الشهوات، وإلى ما يدعوه الشيطان من اللذات.
قوله: (الممحصة)، الجوهري: محصت الذهب بالنار: إذا خلصته مما يشوبه.
وهو من: ائتلى، إذا حلف، افتعال من الألية. وقيل: من قولهم: ما ألوت جهداً، إذا لم تدخر منه شيئاً. ويشهد للأول قراءة الحسن:(ولا يتأل). والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا على المستحقين للإحسان. أو: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجنايةٍ اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم.
نزلت في شأن مسطح، وكان ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان فقيراً من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكرٍ ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط آلي أن لا ينفق عليه. وكفي به داعياً إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسيء. ويروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على أبي بكر، فال: بلى أحب أن يغفر الله لي. ورجع إلى مسطح نفقته، وقال: والله لا أنزعها أبداً. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: (أن تؤتوا) بالتاء على الالتفات، ويعضده قوله:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} .
[{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 23].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نزلت في شأن مسطح)، حديث الإفك أورده بتمامه البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: قال أبو بكرٍ رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثه لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد ما قال لعائشة، فأنزل الله تعالى:{وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} الحديث.
قوله: (وكان ابن خالة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وكان فقيرًا من فقراء المهاجرين)، أراد أن الواو العاطفة بين الصفات، يعني في قوله:{أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} الواردة في شأن مسطح، للدلالة على أن هذا الموصوف جامعٌ لها، قال القاضي: يجوز أن تكون الصفات لموصفاتٍ أقيمت مقام الصفات، فيكون أبلغ في تعليل المقصود.
{الْغَافِلَاتِ} : السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء، ولا مكر، لأنهن لم يجربن الأمور، ولم يرزن الأحوال، فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات. قال:
وقد لهوت بطفلةٍ ميالةٍ
…
بلهاء تطلعني على أسراها
وكذلك البله من الرجال في قوله عليه الصلاة والسلام: "أكثر أهل الجنة البله".
[{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} 24 - 25].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولٌه: (ولقد لهوت بطفلة) البيت، لهوت: لعبت. والطفلة بفتح الطاء: جاريةٌ ناعمة ميالة، ويقال: غصنٌ ميال. البلهاء: التي لا مكر فيها ولا دهاء.
قوله: (أكثر أهل الجنة البله)، النهاية: هو جمع الأبلة، وهو الغافل عن الشر، المطبوع على الخير، وقيل: هم الذي غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس، لأنهم أغفلوا أمر دنياهم، فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا نفوسهم بها، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة. وأما الأبله الذي لا عقل له فغير مرادٍ في الحديث.
وقلت: لأن المقام مقام مدح، فينبغي أن يأول بما ينبئ عن المدح، وكذلك الغافلات، ولذلك أطنب المصنف فيها. ومنه: ما روينا عن أبي داود والترمذي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن غرٌ كريم، والفاجر خبٌ لئيم".
وقرئ: (يشهد) بالياء. و {الْحَقَّ} بالنصب: صفةٌ للدين، وهو الجزاء، وبالرفع، صفةٌ لله. ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيءٍ في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرقٍ مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحدٍ منها كافٍ في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} ، فأوجز في ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "يشهد" بالياء)، التحتاني: حمزة والكسائي، والباقون بالتاء.
قوله: (ولو فليت القرآن)، الجوهري: فليت الشعر، إذا تدبرته واستخرجت معانيه وغريبه، عن ابن السكيت.
قوله: (فأوجز في ذلك)، أي: في المذكور من معنى قوله: "جعل الله القذفة معلونين إلى آخره".
قوله: (فأوجز)، عطفٌ على "جعل" على طريقة {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 53]، يعني: أشبع الكلام حيث لم يترك من النكال والإهانة واللعن في الدارين والعذاب الأليم، وشهادة الجوارح، والتهديد والوعيد بتوفية الجزاء إلا أتى به، وبالغ فيه وأوجز، حيث جاء بالمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، لأن من أراد أن يقرر المعاني التي تعطيها هذه الألفاظ، ويستوفي حقها من البيان، أطال وأطنب، وفصل وأجمل، حيث
وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظا عة، وما ذاك إلا لأمر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، حتى سئل عن هذه الآيات، فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. وهذه منه مبالغةٌ لأمر الإفك. ولقد برأ الله تعالى أربعةً بأربعة: برأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30]، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك! وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم، وخيرة الأولين والآخرين، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم، وتقدم قدمه، وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوقع {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} إجمالًا لما سبق، وأكد وكرر من حيث إن البدل، وهو قوله:{يَوْمَئِذٍ} بدل تكريرٍ للمبدل وتوكيدٌ له، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين إلا ما هو دونه في الفظاعة، وهو قوله:{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} . ويجوز أن يراد وجاء بالمذكور.
قوله: (وهذا منه مبالغةٌ وتعظيم)، يعني: أن قوله: توبة من خاض في أمر أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها غير مقبولة، من باب التغليظ والمبالغة، وعليه مفهوم:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآيات، أي: أنها من باب التغليظ والمبالغة، نحو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ
…
} [آل عمران: 97]، وإليه أشار بقوله:"لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضي الله عنها".
وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه. فإن قلت: إن كانت عائشة هي المرادة، فكيف قيل:{الْمُحْصَنَاتُ} [النور: 23]؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يخصص بأن من قذفهن فهذا الوعيد لا حقٌ به، وإذا أردن وعائشة كبراهن منزلةً وقربةً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت المرادة أولًا. والثاني: أنها أم المؤمنين، فجمعت إرادةً لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان، كما قال:
قدني من نصر الخبيبين قدي
أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه، وكان أعداؤه يكنونه بخبيبٍ ابنه، وكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في نفي التهمة عن حجابه)، "حجابه" أيضًا: كنايةٌ، تعظيمًا لجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم لله دره، ما أحسن نظره وما أدق فكره، وما أشد حرصه في تعظيم جانب سيد البشر، وخيرة الأولين والآخرين.
قوله: (وأن يخصصن)، عطفٌ على قوله:"أن يراد بالمحصنات" على البيان والتفسير، يعني: تخصيص العام بأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى: من قذفهن فهذا الوعيد لا حقٌ به، دون سائر النساء، لشرفهن وعلو مرتبتهن. ولما جعل المخصص الشرف، وكانت عائشة كبراهن منزلةً، كانت المرادة أولًا. والحاصل: أن عائشة رضي الله عنها هي المرادة بالمحصنات لكن بمزيتين.
قوله: (قدني من نصر الخبيبين قدي)، تمامه:
ليس الإمام بالشحيح الملحد
قدني: أي: حسبي. الملحد: أي: الذي ألحد في الحرام، أي: أقام الحرب فيه.
مضعوفاً، وكنيته المشهورة أبو بكر، إلا أن هذا في الاسم وذاك في الصفة. فإن قلت: ما معنى قوله: {هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} ؟ قلت: معناه: ذو الحق البين، أي: العادل الظاهر العادل، الذي لا ظلم في حكمه. والمحق الذي لا يوصف بباطل. ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء، ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه.
[{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 26].
أي: {الْخَبِيثَاتُ} من xxxx، تقال أو تعد {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال والنساء، {وَالْخَبِيثُونَ} منهم يتعرضون {لِلْخَبِيثَاتِ} من القول.
وكذلك الطيبات والطيبون و {أُولَئِكَ} إشارةٌ على الطيبين، وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكد. وهو كلامٌ جارٍ مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قولٍ لا يطابق حالها في النزاهة والطيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مضعوفًا)، الجوهري: الضعف خلاف القوة، وأضعفت الشيء فهو مضعوف على غير قياس، وقيل: مضعوفًا: مصحوبًا بالضعف ومضروبًا به كما يقال: رجلٌ مركوبٌ أي مضروبٌ بالركبة.
قوله: (أي: العادل الظاهر xxxx)، قال القاضي: أي: الثابت بذاته، الظاهر ألوهيته، لا يشاركه في ذلك غيره، ولا يقدر في الثواب والعقاب سواه.
والمصنف قيد المطلق الذي: {الْحَقُّ} بالعدل، لاقتضاء مقام الجزاء إياه، بقرينة قوله تعالى:{يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، وجعل {الْمُبِينُ} وصفًا مؤكدًا لقوله:{الْحَقَّ} ، فقال:"الظاهر العدل"، وجنح إلى مذهبه، والقاضي بنى الكلام على القهارية، وأنه فاعلٌ لما يشاء، لا راد لحكمه، فتركه على الإطلاق.
ويجوز أن يكون {أُولَئِكَ} ، إشارةً إلى أهل البيت، وأنهم مبرؤون مما يقول أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يكون {أُولَئِكَ} إشارةً إلى أهل البيت)، عطفٌ على قوله:"أولئك: إشارةٌ إلى الطيبين"، وما ينبئ عن إرادة أهل البيت قوله:{الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} ، والآية- على الأول- عامةٌ تذييل للكلام السابق، والمراد بالطيبين: كل من لم يلوث جيبه بدنس الآثام، وبالخبيثين: xxxx، وبالطيبات والخبيثات: المقالات الموصوفة بها.
ولما كان الكلام مسوقًا xxxx ساحة أم المؤمنين دخلت فيها دخولًا أوليًا، ومن ثم قال:"وهو كلامٌ جارٍ مجرى المثل لعائشة رضي الله عنها" وجعل قوله: "جارٍ مجرى المثل" وروده مورد المثل في كونه يستحق أن يضار به، ويضرب في كل ما يصلح هذا المعنى فيه، لأن المثل قول سائر، ممثلٌ مضربه بمورده، هكذا ينبغي أن يتصور معنى المثل هنا، لا كما توهم.
وأورد على المصنف أن لفظ المثل هاهنا ليس بجيد، ولفظ المورد: أن المثل في هذا الكلام مقحمٌ منحى مؤهمٌ، وحقه أن ينفي ولا يكتب. وأجيب: بأن المورد غفل عن قول علماء المعاني: مثلك لا يبخل، بمعنى: أنت لا تبخل، وليس مثلٌ، وعن قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] بل الحق أن لفظ المثل ليس بزائد، والمراد به ما ذكرناه: المثل لعائشة رضي الله تعالى عنها.
فإن قلت: "الخبيثات" و"الطيبات" صفاتٌ لموصوفات، أما المقالات أو الذوات، فلم خصتا في الوجه الأول بالمقالات وفي الثاني بالنساء؟ قلت: إن {أُولَئِكَ} لما كان إشارةً إلى أهل البيت وفيهم الرجال والنساء، أوجب حملها على الذوات، وقد علم مما سبق من الآيات أن التبري مم هو. وأما {أُولَئِكَ} على الوجه الأول لما كان مشارًا إلى الطيبين مطلقًا وقد حمل على أولئك قوله:{مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ، أوجب حمل "الخبيثات" و" الطيبات" على المقالات، ليعلم أن قوله:{مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ} أي شيءٍ هو، إذ الآية حينئذٍ مستقلةٌ في الدلالة.
الانتصاف: وعلى الوجه الثاني يكون تفصيلًا لما أجمل في قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا
الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات: النساء، أي: الخبائث يتزوجن الخباث، والخباث الخبائث. وكذلك أهل الطيب. وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله:{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَّا زَانٍ} [النور: 3]، فصرحت الآية بالأقسام الأربعة وزيادة، وهي شهادتها على أن عائشة زوجة أطيب الطيبين، فلا تكون إلا طاهرةً طيبة. ويقوي الثاني أيضًا وعدهم بالمغفرة والرزق الكريم، وهو الموعود به في قوله تعالى:{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31].
قوله: (وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله)، أي: في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31]، يعني: كما أريد بالرزق الكريم هنالك البشارة بالجنة، لقوله تعالى:{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} بدليل قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، كذلك ينبغي أن يكون هاهنا، لأن الآيتين مثلان، وكما أن الرزق الكريم هناك مسبوقٌ بآيتنا أجرها مرتين، كذلك هاهنا مسبوقٌ بقوله:{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} ، وكما أن آتينا الأجر هناك مسببٌ عن قنوتهن، كذلك هنا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} مسبب عن كونها مبرأة عما قيل فيها، وليس ذلك إلا لقنوتها وطهارتها، وكما أن تلك الآية في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك هذه في شان حبيبته وصفيته، فالكلام مبنيٌ على حمل المطلق على المقيد.
وجدت بخط مولاي وشيخي الإمام المغفور [له] بهاء الدين تغمده الله بغفرانه: أن ابن عباس دخل على عائشة رضي الله عنهما، في مرضها الذي ماتت فيه، فبكت، وقالت: أخاف ما أقدم عليه، فقال ابن عباسٍ: لا تخافي فو الذي أنزل الكتاب على محمدٍ صلوات الله عليه وسلامه، لا تقدمين إلا على مغفرةٍ ورزقٍ كريم. فقالت: رحمك الله، أهذا شيءٌ أنبأك به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل هو شيءٌ نبأنيه كتاب الله عز وجل، قالت: فاتل علي، فتلا:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} إلى قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، فخرج من عندها،
وعن عائشة رضي الله عنها: لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكراً، وما تزوج بكراً غيري، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقته، ولقد نزل عذري من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصيح عليها، فقال: وما لها؟ قالوا: غشي عليها فرحًا بما تلوت. ويؤيده ما روينا عن ابن أبي ملكية، قال: استأذن ابن عباسٍ على عائشة رضي الله تعالى عنها قبيل موتها وهي مغلوبةٌ، قالت: أخشى أن يثنى علي، فقيل: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وجوه المسلمين، قالت: إيذانوا له، فقال: كيف تجدينك؟ قالت: بخيرٍ إن اتقيت، قال: فأنت بخيرٍ إن شاء الله تعالى، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكح بكرًا غيرك، ونزل عذرك من السماء. أخرجه البخاري.
قوله: (لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي)، روينا في "صحيح البخاري" عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنهم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أريتم في المنام مرتين، إذ رجلٌ يحملك في سرقةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتك فاكشفها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه". وفي روايةٍ أخرى: "رأيت الملك يحملك".
النهاية: "سرقة من حرير": قطعةٍ من جيد الحرير.
قوله: (ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن عائشة:"فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري"، وفي أخرى" (ودفن في بيتي".
قوله: (لينزل عليه وأنا معه في لحافه)، عن البخاري ومسلم والترمذي، عن عائشة: أن فاطمة رضي الله تعالى عنها كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "لا تؤذيني في عائشة، فإن
السماء، ولقد خلقت طيبةً عند طيب، ولقد وعدت مغفرةً ورزقاً كريماً.
[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 27].
{تَسْتَانِسُوا} فيه وجهان أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم، كقوله:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]، وهذا من باب الكناية والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن.
والثاني: أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من آنس الشيء، إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً. والمعنى: حتى تستعلموا وتستكشفوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحي لم يأتني، وأنا في ثوب امرأةٍ إلا عائشة".
قوله: (ولقد خلقت طيبةً عند طيب)، "خلقت" بالقاف، أي: طيبها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم الطيب، أو مات إلى قوله:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}
ويروي بالفاء بتشديد اللام، أي: تركت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في الحجرة طيبةً.
قوله: (ولقد وعدت مغفرةً ورزقًا كريمًا)، ليس هذا من التسعة، بل هي الكرامة الموعود بها لها رضي الله تعالى عنها، وقولها:"ولقد أعطيت تسعًا" هي الكرامة المعجلة في الدنيا.
الحال: هل يراد دخولكم أم لا. ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحداً. و: استأنست فلم أر أحداً، أي: تعرفت واستعلمت. ومنه بيت النابغة:
. .... على مستأنسٍ وحد
ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثم إنسان.
وعن أبي أيوب الأنصاري قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: "يتكلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على مستأنسٍ وحد). تمامه في "المطلع":
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
…
بذي الجليل على مستأنسٍ وحد
قال الأصمعي: زال النهار، أي انتصف، وبنا، بمعنى: علينا، الجليل: شجرٌ له خوصٌ مثل خوص النخل، وذا الجليل: موضعٌ فيه ذلك الشجر، والمستأنس: الذي يرفع رأسه هل يرى شبحًا أو شخصًا. حد: منفرد، يقال: وحدٌ ووحدٌ مثل فردٌ وفرد. وقيل: المستأنس: الذي يخاف الأنيس، شبه جمله بحمار وحش مر سريعًا خائفًا مما رآه.
الانتصاف: ويجوز على بعدٍ، يكون معنى الآية: حتى تعلموا أن فيها إنسانًا، استفعل من الأنس، والأول أظهر، وعدل على المجاز تأديبًا للمخاطبين ببيان ثمرة الاستئذان من ميل النفوس، والتنفير عن xxxx بتقدير عدم الاستئذان.
قوله: (وعن أبي أيوب الأنصاري) الحديث رواه ابن ماجه عنه. وأما حديث أبي موسى فرواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي سعيدٍ. هذا الذي ذكره المصنف مختصرٌ منه، ومفهوم الحديث يمكن أن ينزل في الوجوه كلها على البدل.
قوله: (ما الاستئناس)، أي ما المسنون في باب الاستئناس شرعًا، لقول جبريل عليه
الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة، يتنحنح، يؤذن أهل البيت". والتسليم: أن يقول: السلام عليكم، أَأَدخل؟ ثلاث مرات، فإن أدن له وإلا رجع.
وعن أبي موسى الأشعري: أنه أتى باب عمر، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثاً ثم رجع، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الاستئذان ثلاثاً".
واستأذن رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أأَلج؟ فقال صلى الله عليه وسلم يقال لها: روضة: "قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السلام عليكم، أأدخل"، فسمعها الرجل، فقالها، فقال:"ادخل". وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً، وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ واحد، فصد الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل، وكم من بابٍ من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة، قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك، إذ رعف عليك الباب بواحدٍ من غي استئذانٍ ولا تحيةٍ من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أين الأذن الواعية؟ !
وفي قراءة عبد الله: (حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا). وعن ابن عباسٍ وسعيد بن جبير: إنما هو (حتى تستأذنوا)، فأخطأ الكاتب. ولا يعول على هذه الرواية. وفي قراءة أبي:(حتى تستأذنوا). {ذَلِكُمْ} الاستئذان والتسليم {خَيْرٌ لَكُمْ} من تحية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ أي: ما الذي يؤمن به؟
قوله: (رعف عليك الباب بواحد)، الأساس: يقال: رعف فلانٌ بين يدي القوم، واسترعف: تقدم، ومن المجاز: بينا نحن نذكرك رعف بك الباب. وما في الكتاب متضمنٌ بمعنى: سبق وغلب. أي: غلب الباب تقدمًا، يقال: رعف عليك، أي: سبق، مستعارٌ من رعاف الدم، ورواعف الخيل: سوابقها، ورواعف الدمع: بوادره.
الجاهلية والدمور، وهو الدخول بغير إذن، واشتقاقه من الدمار، وهو الهلاك، كأن صاحبه دامر، لعظم ما ارتكب. وفي الحديث:"من سبقت عينه استئذانه فقد دمر".
وروي: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم. أأستأذن على أمي؟ قال: "نعم"، قال: إنها ليس لها خادمٌ غير، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال:"أتحب أن تراها عريانةً؟ " قال الرجل: لا. قال: "فاستأذن". {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: أنزل عليكم، أو: قيل لكم هذا، إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان.
[{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 28].
يحتمل {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} من الآذنين {فَلَا تَدْخُلُوهَا} واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم. ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجةٌ فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها، وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنا شرع لئلا يوقف على الأحوال التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من سبقت عينه استئذانه فقد دمر)، النهاية:"من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد دمر"، وفي روايةٍ:"من سبق طرفه استئذانه فقد دمر عليهم"، أي: هجم ودخل بغير إذن، وهو الدمار: الهلاك لأنه هجومٌ بما يكره. والمعنى: أن إساءة المطلع مثل إساءة الدامر.
قوله: (أأستأذن على أمي؟ )، الحديث، أخرجه مالكٌ عن عطاء بن يسار.
قوله: (ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحدًا من أهلها)، هذا الوجه أخص من الأول من وجهين، أحدهما: قوله: "أحدًا من أهلها"، وثانيهما:"ولكم فيها حاجةٌ".
يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلابد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب. {فَارْجِعُوا} أي: لا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين، لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة ومرتاضين بالآداب الحسنة. وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهية، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها: من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد رحمه الله، ما قرعت باباً على عالمٍ قط. وكفى بقصة بني أسدٍ زاجرةً وما نزل فيها من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]. فإن قلت: هل يصح أن يكون xxxx: وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا ولا تدخلوا مع كراهتهم؟ قلت: بعد أن جزم النهي عن الدخول مع فقد الإذن وحده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هل يصح أن يكون المعنى: وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا ولا تدخلوا)، السؤال متوجهٌ على تفسيره قوله:{فَارْجِعُوا} بمعنى "لا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب"، على أن الأمر بمعنى النهي لدلالة قوله:"وإذا نهي عن ذلك" ليطابق قوله: {لَا تَدْخُلُوا} . يعني: قد علم من ذلك التفسير أن الأمر محمولٌ على النهي، للمطابقة، فهل يصح إجراءه على ظاهره وأن يقال: وأمرتم بالرجوع فارجعوا، أي: فامتثلوا؟ وأجاب: أن نعم، لأن قوله:{فَارْجِعُوا} مذكورٌ بعد قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} ، ولا يلتبس أن المراد بالرجوع النهي عن الدخول لاسيما قيام القرينة معه، وهو فقد الإذن، فيكون الأمر بالرجوع بعد النهي عن الدخول من باب قوله تعالى. {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85].
قوله: (فقد الإذن وحده)، قالوا:"وحده" منصوبٌ على الظرفية عند الكوفيين، وعلى المصدر عند البصريين. في كل حالٍ إذا قلت: رأيته وحده، فكأنك قلت: أو حدته برؤيتي
من أهل الدار حاضرين وغائبين، لم تبق شبهةٌ في كونه منهيًا عنه مع انضمام الأمر بالرجوع إلى فقد الإذن. فإن قلت: فإذا عرض أمرٌ في دار، من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر يجب إنكاره؟ قلت: ذلك مستثنًى بالدليل.
أي: الرجوع أطيب لكم وأطهر، لما فيه من سلامة الصدور والبعد من الريبة، أو: أنفع وأنمى خيراً. ثم أوعد المخاطبين بذلك بأنه عالمٌ بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه.
[{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} 29].
استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها: ما ليس بمسكونٍ يمنها، وذلك نحو: الفنادق- وهي الخانات- والربط وحوانيت البياعين. والمتاع: المنفعة، كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع. ويروى: أن أبا بكرٍ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله تعالى قد أنزل عليك آيةً في الاستئذان، وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت. وقيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إيحادًا، فوضعت وحده مكانه، أي لم أر غيره. وقال أبو العباس: يحتمل أيضًا أن يكون الرجل منفرداً في نفسه، كأنك قلت رأيته منفردًا، ثم وضعت وحده موضعه.
قوله: (فإذا عرض أمر) إلى أخره، جوابه محذوفٌ، أي: فما حكمه؟
قوله: (مستثنى بالدليل)، ولو: الضرورات تبيح المحظورات، وفي كلام الفقهاء: مواضع الضرورة مستثناةٌ من قواعد الشرع.
قوله: (وأنمى خيرًا)، أنمى أرفع، لميت الشيء على الشيء. رفعته عليه، ونميت الحديث إلى فلانٍ: أسندته ورفعته xxxx
الخربات يتبرز فيها. والمتاع: التبرز. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيدٌ للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.
[{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} 30].
{مِنْ} للتبعيض، والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل. وجوز الأخفش أن تكون مزيدةً، وأباه سيبويه. فإن قلت: كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفروج؟ قلت: دلالةً على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وأسوقهن وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضان، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين! وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجوز الأخفش أن تكون مزيدةً، وأباه سيبويه)، لأن "مِنْ" عنده تزاد في النفي خاصةً لتأكيده وعمومه، ولذلك جاز: ما جاءني من أحد، وما من رجلٍ عندي، لإفادة تأكيد التعميم فيما تدخل عليه، ولم يجز: ما من زيدٍ قائمٌ، ولا: ما زيدٌ من قائم، لتعذر معنى العموم فيهما، وعن الأخفش: زيادته تأكيدٌ في الإيجاب، واستشهد بقوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4]، ووجهه: أنه جاء: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، فإن لم يحمل على الزيادة جاء التناقض، وليس بمستقيم، لكونه محتملًا أيضًا غير ما ذكر كما مضى في موضعه.
قوله: (وكفاك فرقًا أن أبيح النظر)، يريد: أن الحكم يقع بالأصالة على المستثنى منه، ثم إذا أخرج منه شيءٌ يكون ذلك الأمر ضروريًا، لأنه على خلاف الأصل، فإذًا الأصل
ويجوز أن يراد: مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء. وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حفظ الفرج لئلا يشارك البهائم، ورفع اللوم عن لأمرٍ عارضي، وهو بقاء النسل، قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6]، ولا كذلك النظر، فإن العيون خلقت للنظر وندبت إليه، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، والمنع منه للضرورة، والوقوع في الفتنة، ولذلك نزلت آية الحجاب بعد الإباحة.
قوله: (ويجوز أن يراد: مع حفظها)، جوابٌ آخر عن السؤال، وفاعل "أن يراد" قوله:"حفظها على الإبداء" أي: يجوز أن يراد من الآية حفظ الفروج عن الإبداء، مع حفظها عن الإفضاء إلى الزنى، أي: كما يجب أن تحفظ الفروج عن الإفضاء إلى ما لا يحل، يجب أن تحفظ عن إبدائها للنظر إليها. كأنه قيل: قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم عن الإفضاء إلى ما لا يحل من الزنى، والإبداء إلى ما لا يحل من النظر إليها، وذلك من إيقاع الحفظ عليها مطلقًا، فدل على حفظها ما أمكن، والنظم يساعد هذا التأويل، لأن الكلام السابق حديثٌ في الاستئذان، وجل الغرض منه المحافظة على إبداء ما يفضي إلى ما لا يحل، وكذلك اللاحق، وهو قوله تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} عطفٌ بالنهي عن إبداء مواقع الزين من الجسد على الأمر بإغضاء البصر تأكيدًا، ولما كان النهي عن إبداء الزين كنايةً عن إبداء مواقعها المفضي إلى ما لا يحل، كذلك كان النهي عن إبداء الفروج المؤدي إلى ما لا يحل كنايةً عن النهي عن الزنى. فإذًا النهي واردٌ على غض البصر عن الفروج لئلا يؤدي إلى ما لا يحل.
وهو موافق لما قال الإمام: الظاهر العموم، وفي سائر ما حرم من الزنى والمس والنظر، على أنه لو أريد حظر النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الزنى، كقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23].
ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى، إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. ثم أخبر أنه {خَبِيرٌ} بأحوالهم، أفعالهم، وكيف يجيلون أبصارهم، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذرٍ في كل حركةٍ وسكون.
[{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 31].
النساء مأموراتٌ- أيضًا- بغض الأبصار، ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضت بصرها رأساً، ولا تنظر من المرأة إلا مثل ذلك.
وغضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها وأحسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: المراد غض البصر عن الأجنبية، والأجنبية يحل النظر إلى بعضها كما ذكر. وأما الفرج فلا طريق إلى الحل أصلاً بالنسبة إلى الأجنبية، فلا وجه لدخول "من" فيه.
وقال القاضي: يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ولما كان المستثنى كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه، وقيد الغض بحرف التبعيض.
ومنه حديث ابن أم مكتوم، عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فدخل علينا، فقال:"احتجبا"، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ ". فإن قلت: لم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأن النظر يريد الزنى ورائد الفجور xxxx فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. الزينة: ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهراً منها، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب: فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفي منها، كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط: فلا تبديه إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومنه حديث ابن أم مكتوم)، الحديث، رواه الترمذي، وأبو داود مع تغيير يسيرٍ فيه.
قوله: (عن أم سلمة)، بيان الحديث ابن أم مكتوم، لا أنه يروى عنها.
قوله: (لأن النظر بريد الزنى ورائد الفجور)، أخذه من قول الخماسي.
وكنت إذا أرسلت xxxx رائداً
…
لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ
…
عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
قوله: (الفتخة)، الفتخة- بالتحريك-: حلقةٌ من فضةٍ لا فص فيها، فإذا كان فيها فصٌ فهو الخاتم، والدملوج: المعضد، وكذلك الدملج. والإكليل: شبه عصابةٍ مزينٌ بالجواهر، ويسمى التاج إكليلاً، والوشاح بنسج من أديم عريضاً، ويرضع بالجواهر، وتشده المرأة بين عاتقها وكشحيها.
لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها: للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر، لأن هذه الزين واقعةٌ على مواضع الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي: الذراع، والساق، والعضد، والعنق، والرأس، والصدر، والأذن، فنهي عن إبداء الزين نفسها، ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها، لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرمل: ما تشده المرأة في شعرها. كلها من "الصحاح"، وقيل: الوشاح: قلادةٌ طويلةٌ تضع المرأة وسطها على عنقها ثم تخالف بين طرفيها على صدرها حتى تكون كهيئة لام ألف، ثم تديره على حقويها.
قوله: (بدليل)، تعليلٌ، وهو قوله:"لملابستها"، أي: النظر إنما لا يحل إلى الزين، لملابستها تلك المواضع، يدل عليه جواز النظر إليها غير ملابسةٍ لها.
وقوله: "كان النظر إلى المواضع"، جواب "إذا".
وقوله: "لا مقال في حله"، خبر "أن"، والشرط والجزاء خبر "أن" الأولى، تقريره يشرع بأن هذه العبارة من باب الكناية، على نحو قول الشاعر:
تبيت بمنجاةٍ من اللوم بيتها
…
إذا ما بيوتٌ حلت
وقولهم: فلانٌ طاهر الحبيب نقي الذيل.
وقال صاحب "الفرائد": هو من باب إطلاق اسم الحال على المحل، فالمراد بالزينة: مواقعها، فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة النص، لا بدلالتها كما ذهب إليه، وعبارة النص أقوى من دلالته. اعلم أن عبارة النص كما حددها البزدوي: هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له، ودلالة النص: هو ما ثبت بمعنى النص لغةً لا اجتهاداً واستنباطاً، كقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 22]، لأنها معلومٌ بظاهرها وبمعناها، فلا يحتاج إلى إخراج معناه بالاجتهاد.
إليها غير ملابسةٍ لها لا مقال ف يحله، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهداً على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها، ويتقين الله في الكشف عنها. فإن قلت: ما تقول في القراميل، هل يحل نظر هؤلاء إليها؟ قلت: نعم. فإن قلت: أليس موقعها الظهر ولا يحل لهم النظر إلى ظهرها وبطنها؟ وربما ورد الشعر فوقعت القراميل على ما يحاذي ما تحت السرة! قلت: الأمر كما قلت ولكن أمر القراميل خلاف أمر سائر الحلي، لأنه لا يقع إلا فوق اللباس، ويجوز النظر إلى الثوب الواقع على الظهر والبطن للأجانب فضلًا عن هؤلاء، إلا إذا كانت يصف لرقته، فلا يحل النظر إليه، فلا يحل النظر إلى القراميل واقعةً عليه. فإن قلت: ما المراد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومال صاحب "الفرائد" إلى المجاز دون الكناية، وإلى أن اللفظ كلما كان أسهل متناولاً كان أقوى دلالةً، كما عليه الأصوليون، وذهب عنه إلى أن مال نفي الحال لإرادة نفي المحل إلى الكناية، وإثبات المقصود بطريق البرهان، ألا ترى كيف بالغ في قوله:"كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر، ثابت القدم في الحرمة".
وأيضاً، إن الكناية لا تنافي الحقيقة، فيجوز أن يراد النهي عن إبداء ما يتزين به نفسه أيضاً محترزاً عن كسر قلوب الفقراء، بخلاف المجاز، ولهذا قال صاحب "الانتصاف": قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} يحقق أن إبداء الزينة مقصودٌ بالنهي. وأيضاً، لو أريد المحل دون الحال كما عليه إرادة المجاز للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين الظاهر، وهذا باطلٌ، لأن كل بدن الحرة عورةٌ لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة، كالمعالجة وتحمل الشهادة، وإن كان هذا المعنى لا يساعد عليه قوله:"لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة؟ ".
قوله: (ورد الشعر)، عن بعضهم ورد الشعر: طال، يقال: فلانٌ وارد الأرنبة: إذا كان فيها طول. الأرنبة: طرف الأنف.
بموقع الزينة؟ ذلك العضو كله. أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربه، والغمرة في حديه، والكف والقدم موقعاً الخاتم و xxxx والخضاب بالحناء. فإن قلت لم xxxx مطلقاً في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن xxxx فيه حرج، فإن المرأة لا xxxx من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المتنبي في الطرقات، وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن، وهذا معنى قوله:{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، يعني: إلا ما رجت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور، وإنما xxxx في الزينة الخفية أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطر، إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما فسرت مواقع xxxx)، الذراع، والساق xxxx.
قوله: (الوجه)، وهو مبتدأ، و"موقع الكحل في عينيه" جملةٌ من مبتدأ وخبر للمبتدأ الأول، والضمير في "عينيه" عائدٌ على الوجه، و"الخضاب" بالكسر، على أن المضاف محذوفٌ تقديره: الوجه موقع الخضاب xxxx في حاجبه وشاربيه، والوجه من موقع الغمرة في خديه.
قوله: (والغمرة)، بضم العين وسكون الميم: طلاءٌ من الورس، وقد غمرت المرأة وجهها تغميراً، أي: طلبت، وجهها ليصفو لونها في "الصحاح".
قوله: (أولئك المذكورين). هو مرفوعٌ بقوله: "سومح"، و" الزينة الخفية": ظرفٌ لقوله: "سومح".
قوله: (من الحاجة المضطرة)، قالوا: هو اسم فاعل، كقولهم: المغتاب- فض الله فمه- أكل لحم المغتاب، وبشرب دمه.
الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. كانت جيوبهن واسعةً تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفةٌ، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها. ويجوز أن يراد بالجيوب: الصدور تسميةً بما يليها ويلابسها. ومنها قولهم: ناصح الجيب، وقولك: ضربت بخمارها على جيبها، كقولك: ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليه. وعن عائشة: ما رأيت نساء خيرًا من نساء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ناصح الجيب)، xxxx: النصح لغة: الخلوص، يقال: نصحته ونصحت له وعرفاً: هي الكلمة المعبر بها عن جملة إرادة الخبر للمنصوح له، فقوله:"ناصح الجيب" كناية عن xxxx xxxx xxxx مما يكدره من الغل والغش والحقد ونحوها. ومعنى xxxx والبلقين معانقهن العريضات الصفقات على صدورهن ليسترن بذلك صدورهن وما حولها من الشعور والأعناق يدل عليه قول ابن عباسٍ: تغطي بذلك شعرها وترائبها، وصدورها وسوالفها، وهي أعلى العنق، وإنما أمرن به، لأن جيوبهن كانت متسعة، ودل على الشمول والإحاطة قوله تعالى:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} ، لأنه كقوله تعالى:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61].
قوله: (وعن عائشة) الحديث، من رواية البخاري وأبي داود، عنها: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} الآية، شققن أكنف مروطهن فاختمرن بها.
النهاية: xxxx من صول، وربما كان من خز أو غيره، والمرخل: الذي قد نقش فيه تصاوير الرجال.
الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدةٍ منهن إلى مرطها المرحل فصدعت منه صدعةً، فاختمرن، فأصبحن على رؤوسهن الغربان. وقرئ:(جيوبهن) بكسر الجيم لأجل الياء، وكذلك {بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27]. قيل في {نِسَائِهِنَّ} : هن المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابة.
عن ابن عباس: والظاهر أنه عني بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهن من الحرائر والإماء والنساء، كلهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض. وقيل:{مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} : هم الذكور والإناث جميعاً.
وعن عائشة: أنها أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر. وعن سعيد بن المسيب مثله، ثم رجع وقال: لا تغرنكم آية النور، فإن المراد بها الإماء.
وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها، خصيًا كان أو فحلًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "جيوبهن")، قرأ نافعٌ وعاصمٌ وأبو عمروٍ وهشام:{جُيُوبِهِنَّ} بضم الجيم، والباقون: بكسرها.
قوله: (وكذلك "بيوتاً غير بيوتكم")، قال الزجاج: من ضم فعلى أصل الجمع، بيتٌ وبيوت، مثل قلبٍ وقلوب، ومن كسر فللياء التي بعدها، وذلك عند البصريين رديءٌ جداً، لأنه ليس في الكلام "فعولٌ" بكسر الفاء، والقراءة شاذة.
قوله: (وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي)، ذكر محيي السنة في "المعالم": عبد المرأة محرمٌ لها، فيجوز له، إذا كان عفيفاً، النظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة، كالمحارم، وهو ظاهر القرآن. وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة رضي الله
وعن ميسون بنت بحدلٍ الكلابية: أن معاوية دخل عليها ومعه خصي، فتقنعت منه، فقال: هو خصي. فقالت: يا معاوية، أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله؟ وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحدٍ من السلف إمساكهم.
فإن قلت: روي: أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصيٌ فقبله. قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديثٌ مكشوف، فإن صح فلعله قبله ليعتقه، أو لسببٍ من الأسباب.
الإربة: الحاجة. قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بلةٌ لا يعرفون شيئاً من أمرهن. أو شيوخٌ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، أو بهم عنانة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى عنهما، وروى ثابتٌ عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبدٍ قد وهبه لها، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوبٌ إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذ غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال:"إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوك وغلامك". ورواه أبو داود في "سننه"
قوله: (تعم به البلوى)، الجوهري: البلية والبلوى والبلاء واحد.
الأساس: وقد بلى بكذا، وابتلى به، وأصابته بلوى، والعبارة كنايةٌ عن أمرٍ له خطر، لأن المراد إذا التبس به البلاء تحاماه الناس وهابوه فتتوفر الدواعي في الاهتمام به للاحتراز عنه، أي: لا يقبل في أمرٍ يهتم بشأنه إلا حديثٌ مشهور.
قوله: (أو بهم عنانة)، الجوهري: رجلٌ عنين: لا يريد النساء، بين العنينية، وامرأةٌ عنينة: ٌ لا تشتهي الرجال. وهو فعيلٌ بمعنى مفعول، وعنن الرجل عن امرأته: إذا حكم القاضي عليه بذلك، والاسم منه العنة، ولم يذكر الجوهري عنانة. وفي حاشية "الصحاح"
وقرئ: {غَيرَ} بالنصب على الاستثناء أو الحال، والجر على الوصفية.
وضع الواحد موضع الجمع، لأنه يفيد الجنس، ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بخط ابن حبيب: الصواب: العنين للذي لا ينتشر ذكره. وفي "المغرب": العنة على زعمهم: اسمٌ من العنين، وهو الذي لا يقدر على إتيان النساء من عن: إذا حبس في العنة، وهي حظيرة الإبل، أو من: عن: إذا عرض، لأنه يعن يميناً وشمالاً ولا يقصده، ولم أعثر عليها إلا في "الصحاح". وفي "البصائر" xxxx حيان التوحيدي: فلانٌ عنينٌ بين التعنين، ولا تقل: بين العنة، كما يقول الفقهاء، فإنه كمٌ مرذول.
ووجدت بخط مولاي بهاء الدين: روي عن المصنف، أنه كتب في الحواشي: ذكر أبو حيان في كتاب"البصائر" عنينٌ بين التعنين والعنينة والعنينية، والعنانة والعنة كذبٌ على العرب، وأولادها بالاستعمال: العناد ولا يغرنك قول الفقهاء: بين العنة، فإنهم إنما يقولون ذلك لقة عنايتهم بلغة نبيهم.
قوله: (وقرئ: {غَيرَ} بالنصب) أبو بكرٍ وابن عامر، والباقون: بالجر.
قال الزجاج: أما {غَيرَ} فصفةٌ لـ {التَّابِعِينَ} ، لأن {التَّابِعِينَ} هنا ليس بمقصود به إلى قوم بأعيانهم، xxxx لكل تابع غير أولي إربة.
وأما نصبها فعلى الاستثناء، أي لا يبدين زينتهن إلا للتابعين إلا أولي الإربة فلا يبدين زينتهن لهم. وإما على الحال، أي أو التابعين غير مريدين النساء، أي: في هذه الحال.
قوله: (وضع الواحد) أي: xxxx {أَوِ الطِّفْلِ} .
قوله: (ويبين ما بعده)، أي: xxxx {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
ونحوه {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5].
{لَمْ يَظْهَرُوا} : إما من ظهر على الشيء، إذا اطلع عليه، أي: لا يعرفون ما الغورة، ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر على فلان، إذا قوي عليه، وظهر على القرآن: أخذه وأطاقه، أن لم يبلغوا أو أن القدرة على الوطء. وقرئ:(عورات) وهي لغة xxxx . فإن قلت: لم لم يذكر الله الأعمام والأحوال؟ قلت: سئل الشعبي عن ذلك، فقال: لئلا يصفها xxxx عند ابنه، والخال كذلك.
ومعناه: أن سائر القرابات بشترك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناءهما. فإذا رآها الأب xxxx وصفها لابنه وليس بمحرم. فيداني تصوره لها بالوصف نظره إليها. وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر. كانت المرأة تضرب الأرض برجلها، ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى، لتعلم أنها ذات طحالين.
وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعدما نهين عن إظهار الحي، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ. أوامر الله ونواهيه في كل بابٍ لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها إن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصيرٍ يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعاً xxxx والاستغفار، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "عورات")، في المطلع، "عوراتٌ" بالتحريك، لأنه الأصل في جمع "فعلة" بالسكون، إذا كان اسماً، والشكوك في الجمع لمكان حرف العلة.
قوله: (أن سائر القرابات يشترك الأب والابن في المحرمية)، يعني: كل من له قرابةٌ كابنه وأبوه يشترك معه في القرابة كالأخ، فإنه لما كان محرماً، فابنه أيضاً محرمٌ، وأبوه كذلك، والأب، وابنه وأبوه إلا العم والخال، فإنهما لم يشتركا مع ابنيهما في المحرمية.
وعن ابن عباس: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. فإن قلت: قد صحت التوبة بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله، فما معنى هذه التوبة؟ قلت: أراد بها ما يقوله العلماء: إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه، يلزمه كلما تذكره أن يجدد عنه التوبة، لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه وقرئ:(أيه المؤمنون) بضم الهاء، ووجهه: أنها كانت مفتوحةً، لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف، لالتقاء الساكنين، أتعبت حركتها حركة ما قبلها.
[{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 32]
الأيام واليتامى: أصلهما: أيائم ويتائم، فقلبا، والأيم: للرجل والمرأة، وقد آم وآمت وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "أيه المؤمنون")، قرأها ابن عامر، وفي الزخرف:"أيه الساحر"، وفي الرحمن:(أيه الثقلان) بضم الهاء في الوصل في الثلاثة، والباقون: بفتحها. ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن: "أيها" بالألف، ووقف الباقون بغير ألف.
قال أبو علي: وهذا لا يتجه، لأن آخر الاسم الهاء هاهنا، لأنه آخر الكلمة، لجاز ضم الميم في اللهم، لأنه آخرها. والعذر ما ذكره المصنف:"أنها كانت مفتوحةً" إلى آخره، وعن بعضهم: أنها تكتب في ثلاثة مواضع من التنزيل بلا ألف.
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي
…
وإن كنت أفتى منكم- أتأيم
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم"، والمراد: أنكحوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاٌ من غلمانكم وجواريكم.
وقرئ: (من عبيدكم). وهذا الأمر للندب، لما علم من أن النكاح أمرٌ مندوب إليه، وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك، وعند أصحاب الظواهر: النكاح واجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإن تنكحي أنكح)، البيت. أفتى: أفعل من الفتى، أي: أقرب إلى الشباب، و"أتأيم": جزاء الشرط، "وإن كنت أفتى منكم": جملةٌ معترضةٌ. يقول: أوافقك في حالتي التزوج والتأيم، وإن كنت أفتى منك.
قوله: (من العيمة والغيمة)، النهاية: العيمة بالعين المهملة: شدة شهوة اللبن، وقد عام يعام ويعيم عيماً. والغيمة بالغين المعجمة: شدة العطش.
و"الكزم" بالزاي والتحريك: شدة الأكل، والمصدر ساكنٌ، وقيل: هو البخل، من قولهم: هو أكزم البنان، أي: قصيرها، كما يقال: جعد الكف، وقيل: هو أن يريد الرجل المعروف ولا يقدر على الشيء. والقرم: شدة شهوة اللحم حتى لا يصبر عنه.
قوله: (وهذا الأمر للندب)، قال القاضي: لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسبة المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع، بعد الزجر عنه مبالغةً فيه، أمر بالنكاح الحافظ له، والخطاب للأولياء والسادة. وفيه دليلٌ على وجوب تزويج المولية والمملوك، وذلك عند طلبهما، وإشعارٌ بأن المرأة والعبد لا يستبدان به، إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى.
ومما يدل على كونه مندوباً إليه: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب فطرتي فليستن بسنتي، وهي النكاح"، وعنه:"من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليسا منا"، وعنه:"إنا نوج أحدكم عج شيطانه: يا ويله، عصم ابن آدم مني ثلثي دينه"، وعنه: "يا عياض، لا تزوجن عجوزاً ولا عاقراً، فإني مكاثر والأحاديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار كثيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: ويمكن أن يقرر بأن الأمر هاهنا للوجوب، فإنه تعالى لما نهى المؤمنين من الرجال والنساء عما يوقعهم في السفاح من إرسال النظر الذي هو رائد القلب، وأمرهم بغض الأبصار على المبالغة ولم xxxx من تفصيل ذلك إلا وأطنت فيه، أقبل على الأولياء والسادة بالأمر بالنكاح خوف xxxx والفساد، وأزال المانع وأزاح العلة، وهو خوف الفقر، يعني: إن كان المانع ذلك فالله واسع فهو يغنيهم من فضله إن شاء عليهم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فانكحوا أنتم ولا xxxx ثم وجه الخطاب إلى الطالبين وأمرهم بالاستعفاف، يعني: لا تلحوا أنتم أيضاً على xxxx بالطلب وأنتم فقراء محاويج، بل اطلبوا من أنفسكم العفة، واحملوها على العفاف حتى xxxx الله من فضله، ثم حض إرشاد العبيد والإماء بما هو أصلح لأمورهما من الاستقلال بأنفسهما ثم التزوج بقوله:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} الآية، وسيجيء عن قريبٍ من سلام لصاحب "الانتصاف" ما يشد بعضد هذا البيان، فنعم ما قال المصنف وما أحسن ما رتب هذه الأمور.
قوله: (من أحب فطرتي)، أي xxxx عليه النهاية: في حديث حذيفة: "على غرير فطرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم "، أراد دين الإسلام xxxx هو منسوبٌ إليه.
قوله: (من كان له ما يتزوج فلم يتزوج فليس منا)، الانتصاف: هذا يدل على الوجوب، كقوله:"من غشنا فليس منا"، "ومن شهر السلاح فليس منا".
وربما كان واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى على أمتي مئةٌ وثمانون سنةً فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال"، وفي الحديث:"يأتي على الناس زمانٌ لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة". فإن قلت: لم حص الصالحين؟ قلت: ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين من الأرقاء لهم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأود في الأثرة والمودة، فكانوا مظنةً للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم، وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك. أو أريد بالصلاح: القيام بحقوق النكاح. ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسيةٍ في هذا الموعد ونظائره، وهي مشيئته، ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في الأثرة)، الأساس هو أثيري: الذي أوثره وأقدمه، وله عندي أثرة.
قوله: (شريطة الله)، الأساس: شرط عليه كذا واشترط، وهذا شريطتي، وقد تشرط فلانٌ في عمله تنوق وتكلف شروطاً ما هي عليه.
قوله: (ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسيةٍ في هذا الموعد)، يعني: في قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، وفي نظائره نحو قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3 - 4]، والآيتان وإن كانتا مطلقتين في الظاهر لكنهما مقيدتان بالشريطة، أي: بمشيئة الله تعالى عز وجل، فلذلك قد يتخلف الغنى عن التقوى، وعن النكاح في بعض الصور. والحاصل أن الآيتين وإن كانتا مطلقتين في الوعد، لكنهما محمولتان على المقيد، وهو: إما دليل العقل فكما ذكره: "ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة، وما كان مصلحةً"، وإما دليل النص فكقوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]، ومن نسى الشريطة، أي: القيد إذا سمع ظاهر الآيتين انتصب معترضاً إذا كان فقيراً وما استغنى، يقول: ما بالي اتقيت، أو تزوجت فما استغنيت، وإذا كان غنياً وافتقر يقول: ما بالي افتقرت؟ هذا تقرير كلام
ونحوه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، وقد جاءت الشريطة منصوصةً في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصنف، لكن الآية ليست بمطلقة، بل هي مقيدةٌ بقوله:{عَلِيمُ} كما قال: "ولكنه عليمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر".
قال صاحب "الانتصاف": شرط المصلحة على قاعدته، فحجر واسعاً من رحمة الله تعالى، واحتجاجه عليه لا له، فإن الآية شرط فيها المشيئة لا المصلحة.
وهاهنا نكتةٌ، وذلك أنا رأينا من يتزوج فلا يحصل له الغنى، ووعد الله تعالى صدقٌ فلابد من شرطٍ مضمر، فهم يضمرون المصلحة، ونحن نضمر المشيئة، فمن لم يغنه الله تعالى بعد تزوجه فهو ممن لم يشأ غناه. فإن قيل: فكذلك العزب، فإن غناهم معلقٌ بالمشيئة، وليس هذا كإضمار المشيئة في الغفران للعاصي، فإن الغفران شريطة التوحيد، وله ارتباطٌ بالمشيئة، فإذا تاب غير الموحد لا يغفر له حتماً، والموحد مقيدٌ بالمشيئة، وهاهنا لا يقال: غير الناكح لا يغنيه الله.
فجوابه: أنه قد تكرر في الطباع المساكنة إلى الأسباب أن العيال سببٌ في الفقر، وعدمه سبب توفر المال، فأريد قطع هذا التوهم المتمكن بأن الله تعالى قد ينمي المال مع كثرة العيال التي هي في الوهم سببٌ لقلة المال، وقد يحصل الإقلال مع العزوبة، والواقع يشهد له، فدل على أن ذلك الارتباط الوهمي باطلٌ، وأن الغنى والفقر بفعل الله مسبب الأسباب، ولا يقف إلا على المشيئة، فإذا علم الناكح أن النكاح لا يؤثر في الإقتار لم يمنعه من الشروع فيه، ومعنى الآية حينئذٍ: أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله، فعبر عن النفي كونه مانعاً من الغنى بوجوده معه. ومنه:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] ظاهره أمرٌ بالانتشار عند انقضاء الصلاة، فالمراد تحقيق زوال المانع، وأن الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار، فعبر عن نفي الانتشار بما يقتضي تقاضي الانتشار مبالغة.
مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]، ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضاً بعزبٍ كان غنياً فأفقره النكاح، وبفاسقٍ تاب واتقى الله وكان له شيءٌ ففني وأصبح مسكيناً.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوا الرزق بالنكاح". وشكا إليه رجلٌ الحاجة، فقال "عليك بالباءة"، وعن عمر رضي الله عنه: عجبٌ لمن لا يطلب الغنى بالباءة!
ولقد كان عندنا رجلٌ رازح الحال، ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته، فقال: كنت في أول أمري على ما علمت، وذلك قبل أن أرزق ولداً، فلما رزقت بكر ولدي تراخيت عن الفقر، فلما ولد لي الثاني زدت خيراً، فلما تتاموا ثلاثة صب الله على الخير صباً، فأصبحت إلى ما ترى. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} أي: غنىٌ ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق، ولكنه {عَلِيمٌ} يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (رازح الحال)، الأساس: بعيرٌ رازحٌ: ألقى نفسه من الإعياء. وقيل: هو الشديد الهزال وبه حراكٌ، ومن المجاز: رزحت حاله، وله حالٌ رازحة.
قوله: (بكر ولدي)، أي: أوله، ما هذا الأمر منك ببكرٍ ولا بثني، أي: لا بأولٍ ولا ثان. وحاجةٌ بكرٌ هو أول حاجةٍ رفعت. "تتاموا ثلاثةً" مبالغةٌ في التمام، رجلٌ تميمٌ، وامرأةٌ تامة الخلق: وثيقاه، واجتمعوا فتتاموا عشرةً، وجعلته لك تماً، أي: بتمامه، كل ذلك من "الأساس".
قوله: (لا يرزؤه إغناء الخلائق)، الأساس: ما رزأته شيئاً مرزئةً ورزأً: ما نقصته، وفعل كذا من غير مرزئة، أي: غير نقصانٍ وضرر.
قوله: (ولكنه {عَليِمُ} يبسط الرزق لمن يشاء)، هذا الاستدراك يؤذن بأن قوله:{عَليِمُ} تكميل لقوله: {وَاسِعُ} ، كقوله:
حليمٌ إذا ما الحلم زين أهله
…
مع الحلم في عين العدو مهيب
[{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 33].
{وَلْيَسْتَعْفِفِ} : وليجتهد في العفة وظلف النفس، كأن المستعف طالبٌ من نفسه العفاف وحاملها عليه. {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي: استطاعة تزوج.
ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به من المال.
{حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} ترجيةً للمستعفين وتقدمة وعدٍ بالتفضل عليهم بالغنى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وظلف النفس)، الأساس: ظلف نفسه: كفها عما لا يحل. قال ربيعة بن مقروم:
وظلفت نفسي من لئيم المأكل
قوله: (كان المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه)، أي: جرد من نفسه شخصاً غيره، وطلب منه العفاف.
قوله: (أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال)، ومعنى هذين الوجهين قريبٌ من معنى الوجهين في {طَوْلًا} في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]، في الشافعية فسرته بالزيادة في المال، والحنفية بعدم ملك فراش الحرة.
يؤيد هذا الوجه قوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، فالنكاح على هذا على زنة "فعال" للآلة: المطلع: هو مثل الهوام والحزام: اسمٌ لما يقام ويحزم به.
ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً اسم في استعفافهم، وربطاً على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فصله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء، وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولًا بما يعصم من الفتنة ويبعد من مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} وقوعٌ على الابتداء، أو منصوبٌ بفعل مضمر يفسر، {فَكَاتِبُوهُمْ}. كقولك: زيداً xxxx، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة، وأن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ليكون انتظار ذلك أن تأميله] لطفاً لهم في استعفافهم)، يعني في إيقاع الغنى غايةً للأمر بالاستعفاف فائدتا xxxx إحداهما: ليوطن المستعفف نفسه على الإمساك على الإمساك عن النكاح ولا يستعجل قبل xxxx لئلا يورط، فيما يفضحه من كثرة العيال وقلة المال، فتكون الترجية لطفاً له. وثانيهما أنه تعلل لما رتب الأمر بالاستعفاف على قوله:{يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} آذن أن فضله أولى الإعفاء، لأن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعرٌ بالعلية، وكأنه قيل: استعفوا إلى أن يغنيكم الله من فضله، ففي كلامه لف xxxx، لأن قوله: استعفوا إلى أن يغنيكم الله من فضله، ففي كلامه لف xxxx، لأن قوله:"ليكون انتظار ذلك وتأميله" متعلل بقوله: "ترجيةً للمستعفين".
وقوله: (وليظهر بذلك)، xxxx تقدمة وعدٍ بالفضل،
قوله: (وعزفها عن الطموح) النهاية: وفي حديث حارثة "عزفت نفسي عن الدنيا"، أي: xxxx وكرهتها، ويروى:"عرفت نفسي" بضم التاء، أي: منعتها وصرفتها، وطمح بصره إليه، أي. امتد وعلا، ومنه طمحت عيناه إلى السماء.
ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو: كتبت عليك الوفاء بالمال، وكتبت على العتق. ويجوز عند أبي حنيفة رحمه الله حالًا ومؤجلًا، ومنجماً وغير منجم، لأن الله عز وجل لم يذكر التنجيم، وقياساً على سائر العقود. وعند الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا مؤجلاً منجماً، ولا يجوز عنده بنجمٍ واحد، لأن العبد لا يملك شيئاً، فعقده حالًا منعٌ من حصول الغرض، لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلاً. ويجوز عقده على مالٍ قليل وكثير، وعلى خدمةٍ معلومة، وعلى عملٍ معلوم مؤقت، مثل: حفر بئرٍ في مكانٍ بعينه معلومة الطول والعرض، وبناء دارٍ قد أراه آجرها وجصها وما تبنى به. وإن كاتبه على قيمته: لم يجز. فإن أداها: عتق، وإن كاتبه على وصيف: جاز، لقلة الجهالة، ووجب الوسط. وليس له أن يطأ المكاتبة. وإذا أدى عتق، وكان ولاؤه لمولاه، لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له. وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء. وعن الحسن: ليس ذلك بعزم، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب.
وعن عمر رضي الله عنه: هي عزمةٌ من عزمات الله. وعن ابن سيرين مثله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياساً على سائر العقود)، قال القاضي: واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالة ضعيفٌ، لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها، كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل.
قوله: (على وصيف)، الجوهري: الوصيف: الخادم، غلاماً كان أو جاريةً. يقال: وصف الغلام: إذا بلغ الخدمة، فهو وصيف بين الوصافة.
قوله: (وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء)، قال القاضي: لأن الكتابة معاوضةٌ تتضمن الإرفاق، فلا تجب كغيرها.
وهو مذهب داود. {خَيْرًا} : قدرةً على أداء ما يفارقون عليه. وقيل: أمانةً وتكسباً. وعن سلمان أن مملوكاً له ابتغى أن يكاتبه، فقال: أعندك مالٌ؟ قال: لا، قال: أفتأمرني أن آكل غسالة أيدي الناس! {وَآَتُوهُمْ} أمرٌ للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، كقوله:{وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]، عند أبي حنيفة وأصحابه. فإن قلت: ل يحل لمولاه إذا كان غنياً أن يأخذ ما تصدق به عليه؟ قلت: نعم، وكذلك إذا لم تف الصدقة بجميع البدل وعجز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو مذهب داود)، هو داو بن علي الأصفهاني، وهو الذي يرجح الاستصحاب على القياس وهو من أصحاب الظواهر.
قوله: {خَيْرًا} : قدرةً على أداء ما يفارقون عليه)، وفي الحاشية: صادرته، وفارقته على مال، أي: صدر هذا وتفارقا عليه. والأظهر أن التقدير على أداء ما تقع الفرقة عليه من مالٍ أو خدمةٍ عمل.
الأساس: ومن المجاز: وقفته على مفارق الحديث، أي: على وجوهه الواضحة.
قوله: (قلت: نعم، وكذلك إذا لم تفق الصدقة)، إلى آخره، قيل: عند الشافعي رضي الله عنه أنه إذا رق المكاتب، أو أعتق من غير جهة الكتابة، غرم المدفوع إليه، إلا أن يتلف المال قبل العتق، وإنما وجب الرد إذا لم يعتق المكاتب لو عتق من غير جهة الكتابة، لأنه علم من طريق التبين أن ما صرف إلى المكاتب لم يقع الموقع حينئذ، إذ لم يترتب عليه الغرض المطلوب، وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح. وكذا إلحاقه بحديث بريرة، فإنه لم يحدث هنالك ما يظهر به بطلان صرف الصدقة إلى من صرفت إليه.
عن أداء الباقي، طاب للمولى ما أخذه، لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة، ولكن بسبب عقد المكاتبة، كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها أو هبت له، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة:"هو لها صدقةٌ ولنا هدية". وعند الشافعي رضي الله عنه: هو إيجابٌ على الموالي أن يحطوا لهم من مال الكتابة، وإن لم يفعلوا أجبروا. وعن علي رضي الله عنه: يحط له الربع. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يرضخ له من كتابته شيئاً، وعن عمر رضي الله عنه: أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية، وهو أول عبدٍ كوتب في الإسلام، فأتاه بأول نجم، فدفعه إليه عمر وقال: استعن به على مكاتبتك. فقال: لو أخرته إلى آخر نجم. قال: أخاف أن لا أدرك ذلك. وهذا عند أبي حنيفة على وجه الندب، وقال: إنه عقد معاوضة، فلا يجبر على الحطيطة، كالبيع. وقيل: معنى {وَآَتُوهُمْ} : أسلفوهم. وقيل: أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا. وهذا كله مستحب. وروي: أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوكٌ يقال له: الصبيح، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى، فنزلت.
كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في حديث بريرة)، وحديثها على رواه البخاري ومسلمٌ ومالكٌ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تصدق على بريرة بلحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو لها صدقةٌ ولنا هدية" وفي أخرى لمسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلحم بقرٍ فقيل: هذا ما تصدق به على بريرة، فقال:"هو لها صدقةٌ ولنا هدية".
قوله: (يساعين على مواليهن)، النهاية: المساعاة: الزنى، وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر، لأنهن كن يسعين لمواليهن فيكسبن بضرائب كانت عليهن، يقال: ساعت الأمة: إذا فجرت، وساعاها فلانٌ: إذا فجر بها، وهو مفاعلةٌ من السعي، فأبطل الإسلام ذلك، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها.
قوله: (وكان لعبد الله بن أبي)، الحديث من رواية مسلم وأبي داود، عن جابر، أن جاريةً
النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة، وفي الحديث:"ليقل أحدكم: فتاي وفتاتي، ولا يقل: عبدي وأمتي". والبغاء: مصدر البغي. فإن قلت: لم أقحم قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} ؟ قلت: لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وآمر الطيعة المواتية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها أميمة، كان يريدهما على الزنى، فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} الآية.
قوله: (وفي الحديث: "ليقل أحدكم: فتاي")، روى الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي هريرة:"لا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي، ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي فتاتي غلامي".
قوله: (لم أقحم قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}؟ )، يريد أن النهي عن إكراههن مطلق، فلم قيده بقوله:{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} ؟ وذلك يوهم أن النهي عن الإكراه ينتفي إذا لم توجد إرادة التحصن وهو ليس بمراد، وهذا مبنيٌ على أن المعلق بلفظ {إِنْ} على الشيء، يعدم عندهم عدم المعلق به بشهادة إجماع إهل اللغة أن كلمة {إِنْ} للشرط، والشرط هو ما ينتفي الحكم عند انتفائه. وأجاب أن الإكراه إنما يتصور إذا أردن التحصن، وإذا أردن البغاء، فلا إكراه إذن، على أن كلمة {إِنْ} الدالة على الشك وخلو الجزم مؤذنةٌ بأنهن كن راغباتٍ في الزنى.
الانتصاف: لم يذكر جواباً شافياً، وعندي أنه للإيقاظ، لأن السامع ينبغي أنه يحترز من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجرٌ شرعيٌ، إشعاراً بأن أمته خيرٌ منه، ولولا هذا لما قوي الزاجر النفسي، وقلت: ويقوي هذا التأويل التعريض في قراءة ابن عباس: لهن غفورٌ رحيم.
للبغاء لا يسمى مكرهاً، ولا أمره إكراهاً. وكلمة {إِنَّ} وإيثارها على "إذا" إيذانٌ بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبةٍ وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر.
{غَفُورٌ رَحِيمٌ} لهم، أو: لهن، أو: لهم ولهن، إن تابوا وأصلحوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الإمام: ومن الناس من ذكر فيه جواباً آخر وهو: أن في الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق، ولما كان الغالب في حال الشقاق قال:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وكذا قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، والقصر لا يختص بحال الخوف، لكن أجراه على سبيل الغالب.
قوله: (لهم، أو لهن، أو: لهم ولهن)، يريد أن {غَفُورٌ رَحِيمٌ} مطلقٌ، والقرينة الدالة على التقييد {وَلَاتُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ، فيجوز أن يقيد بالمكرهين إذا تابوا وبالمكرهات، أو بكليهما جميعاً، وقلت: يجوز أن يتركا على إطلاقهما فيدخلوا فيه دخولًا أولياً، قال القاضي: الثاني أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعودٍ: من بعد إكراههن لهن غفورٌ رحيمٌ، ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمةٍ فلا حاجة إلى المغفرة، لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات، ولذلك حرم على المكره القتل ووجب عليه القصاص.
وقلت: فعلى هذا: في قوله: فإن الله من بعد إكراههن لهن" وعيدٌ شديد، وتهديدٌ عظيمٌ للمكره، وذلك الغفران والرحمة تعريضٌ، ويؤيد إيراد الجزاء على سنن الإخبار، والإطناب بذكر {مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} يعني انتبهوا أيها المكرهون، أنهن مع كونهن مكرهاتٍ بنحو القتل وإتلاف العضو، يؤاخذن على ما أكرهن لولا أن الله غفورٌ رحيمٌ فيتجاوز عنهن، فكيف
وفي قراءة ابن عباس: (لهن غفورٌ رحيم).
فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن، لأن المكرهة على الزنى بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة. قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة- من إكراهٍ بقتل، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو، من ضربٍ عنيفٍ أو غيره- حتى تسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة.
[{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 34].
(مبينات): هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الكلام والحدود. ويجوز أن يكون الأصل مبيناً فيها فاتسع في الظرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمن يكرههن؟ مثله قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 172].
قوله: (وفي قراءة ابن عباس: "لهن غفورٌ رحيم")، قال ابن جني: وقرأها سعيد بن جبير، وقال:"لَهُنَّ": متعلق بـ "غفور"، لأنه أدنى إليها، ولأن "فعولاً" أقعد في التعدي من فعيل. ويجوز أن يتعلق بـ "رحيم"، لأجل حرف الجر إذا قدر خبراً بعد خبر، ولم يقدر صفةً لـ "غفور"، لامتناع تقدم الصفة على موصوفها، والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله، وليس الخبر كذلك، وأيضاً، يحسن في الخبر، لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة، ولأن المغفرة مسببةٌ عنها، فكأنها مقدمةٌ معنى وإن تأخرت لفظاً. هذا تخليص كلام ابن جني.
قوله: (فاتسع في الظرف)، أي: أجري مجرى المفعول به، كقوله: ويومٍ شهدناه، أي: آياتٍ مبينات فيها الأحكام والحدود.
وقرئ بالكسر، أي: بينت هي الأحكام والحدود، جعل الفعل لها على المجاز، أو من: بين، بمعنى: تبين، ومنه المثل: قد بين الصبح لذي عينين. {وَمَثَلًا مِنَ} أمثال من (قبلكم)، أي: قصةً عجيبةً من قصصهم، كقصة يوسف ومريم، يعني: قصة عائشة رضي الله عنها.
{وَمَوْعِظَةً} : ما وعظ به في الآيات والمثل، من نحو قوله:{وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 12]، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 16]، {يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17].
[{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 35].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ بالكسر)، ابن عامرٍ وحمزة وحفصٌ والكسائي في الموضعين هنا وفي "الطلاق"، والباقون: بالفتح.
قوله: (جعل الفعل لها على المجاز)، كقوله:
إذا ردعا في القدر من يستعيرها؟
قوله: (قد بين الصبح لذي عينين)، قال الميداني:"بين" هاهنا بمعنى: تبين، يضرب للأمر الذي يظهر كل الظهور.
قوله: (ما وعظ به في الآيات والمثل)، يريد أن قصة عائشة رضي الله عنها مثل قصة
نظير قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} و {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} : قولك: زيدٌ كرمٌ وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده. والمعنى: ذو نور السماوات، وصاحب نور السماوات، ونور السماوات والأرض الحق، شبهه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوسف ومريم في أنهما بما قرفا، فكانا بريئين منه، وكانت أيضاً موعظةً للمؤمنين في قوله تعالى:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} لما أدمج فيها ذلك الأدب الحسن، وفيها قوله تعالى:{يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} وأكثرها مواعظ وسائر آيات السور من نحو: {وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، وقوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ، وقوله:{لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ، وغير ذلك، وهذه الآية عامةٌ لكن يدخل فيها هذه المعاني دخولاً أولياً.
قوله: (نظير قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} و {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} : قولك: زيدٌ كرمٌ وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، يريد: أن نسبة ارتباط هذه الجمل بعضها مع بعض، كنسبة ارتباط الجملتين في المثال، وكذا حمل الخبر على المبتدأ في الآية كحمله في المثال. فإن قلت: المثال ذو جملتين، والآية ذات جمل ثلاث؟ قلت: إذا جعل قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى أخرها يتصل به مبيناً لما سبق، فإن البيان والمبين متحدان في الاعتبار، ثم استؤنف بقوله:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} لينطبق عليه المثال، فإن قوله: ينعش الناس بكرمه مثل قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} ، وحين لم يفتقر كرمٌ وجودٌ إلى البيان تركه.
قوله: (ينعش الناس بكرمه)، أي: يرفعهم ويصلح حالهم. وأصله: من نعشة العاثر، وفي بعض الأدعية المأثورة: يا ناعش الضعيف، يا مغيث اللهيف، ويا منتهي رغبة الوضيع والشريف.
قوله: (ونور السماوات والأرض الحق)، أي: المراد بالنور: الحق، يدل عليه قوله:"شبهه بالنور"، أي: شبه الحق بالنور، والمراد بالحق: كونهما دليلين على وجود فاطرهما، وعظمة مبدعهما، وكمال قدرة منشئهما، قال الله تعالى:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] أي: ما خلقته إلا حقاً. ويؤيده قوله:
بالنور في ظهوره وبيانه، كقوله:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]: أي: من الباطل إلى الحق.
وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضئ له السماوات والأرض. وإما أن يراد أهل السماوات والأرض، وأنهم يستضيئون به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"شبهه بالنور في ظهوره وبيانه"، أي: جعله مبيناً ودليلاً على وحدانيته، ومآل المعنى: الله جاعلهما دليلين على وحدانيته، كما نقل عن بعضهم: الله مدلول السماوات والأرض. ولما احتاج الاستدلال بهما إلى الذهن الثاقب، والفكر الصائب الذي لا يلويه الباطل يميناً وشمالاً، جعل المشبه به في كوةٍ، ليؤذن أن المستضيء به إنما ينتفع إذا انتصب محاذياً له قبلاً إياه، وكذلك المستدل ينبغي أن يكون على الصراط المستقيم، كقوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وإليه الإشارة بقوله:"ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً".
فإن قلت: تفسيره لقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بقوله: "للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته" غير مطابقٍ لقوله: "إن المصباح إذا كان في مكانٍ متضايقٍ كالمشكاة، كان أضوأ له، وأجمع لنوره"، بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والواجب الموافقة بين ما يجتمع فيه المشبه والمشبه به من المعنى؟ قلت: إنما يكون كذلك أن لو كان وجه الشبه سعة الإشراق وفشوه، وإنا الوجه فرط الضياء وقوة الإنارة. والحاصل أن شبه نور الله الفاشي في قوة ظهوره بالنور المستفاد من المصباح الذي هو في المشكاة، والمراد بالفشو والانتشار: كثرة الدلائل وظهور آثار وحدانيته في الملكوت.
قوله: (وإما أن يراد أهل السماوات والأرض)، وهو ينظر إلى تأويل ابن عباس على ما رواه محيي السنة عنه: الله هادي أهل السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون. وقال الإمام: الله هادي أهل السماوات والأرض، قول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن عباس والأكثرين. وقال أيضاً: القول بأن المراد بالنور: الهدى هو المختار، لأنه مطابقٌ لما قبله، وهو قوله:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} . وأقول- والعلم عند الله-: إن هذه الآية مما خاض فيها العارفون والنحارير من العلماء، وبلغت أقوالهم مبلغاً عظيماً، وكلٌ تكلم على مقدار بضاعته، وجاء بما في وسعه وطاقته {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60].
هذا، وإن من جبلة من أفنى عمره في تحصيل صناعةٍ أن تتحرك أريحيته إذا ما لاحت له من تلك الصناعة لمعهٌ، ومما تصديت له، وأفنيت فيه صالح عمري معرفة الفصاحتين، ومراعاة الموافقة بين الطلبتين، أعني المقام والكلام، وكثيراً ما كانت تصدم القريحة معاني هذه الآية إذا حاولت لاقتداح زندها، وانتشاق زبدها مع ما يندبني إليه أخص إخواني في الدين وأخلص أخداني في طلب اليقين، ولما اعتقدت أن التجاسر على كلام الله المجيد، والتجاسر له والتشمير للخوض فيه، مع قلة البضاعة، من أعظم ما يلزم المرء من الغرامة، كنت أقدم رجلاً وأوخر أخرى إلى أن وافق لتحريك القلم شدة الغرام، فاضطرت إلى إبراز هذه الصبابة من تلك الضبابة، فإن صادفها الحق فهو المرام، وإلا فإني أستغفر الله على ما بدا مني أولاً وآخراً.
أقول: الواجب على مقتني صناعة البلاغة تعيين المقام، وتحرير الكلام، لتنقيح المرام. وتحرير ما نحن فيه: أن نبين أولاً أن النور ما هو؟ وما يقتضيه المقام من التأويل، فإذا تعين ذلك ينظر بعد ذلك في حقيقة هذا التشبيه، فإنه من أي قبيلٍ هو؟ أمن المركب العقلي أو الوهمي، أو الحسي، أم من المفرق الحسي أو العقلي، وعلى تقدير كونه مفرقاً فالمشبهات المقدرة ما هي؟ وما التي يجب تصحيحها حتى تقابل بالمذكورات؟ وتنصيصها من أعظم الشؤون، والتقصي من ذلك لا يستتب إلا بعون الله تعالى وتوفيقه، وإلا بلطفه وتسديده. فالكلام مرتبٌ على مطلبين:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطلب الأول: في الكشف عن حقيقة هذه النور:
والقول الجامع فيه ما أورده القاضي في "تفسيره" واختصره من كلام الإمامين: حجة الإسلام، والإمام فخر الدين، ولخصه: النور في الأصل: كيفيةٌ تدركها الباصرة أولًا، وبوساطتها تدرك سائر المبصرات ثانياً، كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، ويوافقه تفسير أهل اللغة: النور: الضياء. وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيدٌ كرمٌ أي: ذو كرم، أو على تجوز، وهو على وجوهٍ:
أ- منور السموات والأرض، لأن الله تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء.
ب- مدبرهما، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم، لأنهم يهتدون به في الأمور.
ج- موجدهما، فإن النور ظاهرٌ بذاته، مظهرٌ لغيره، وأصل الظهور هو الوجود، كما أن أصل الخفاء هو العدم، والله تعالى موجودٌ بذاته، موجدٌ لما عداها.
د- الذي به يدرك، أو يدرك أهلها، ومن ثم أطلق النور على الباصرة لتعلقها به، أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ثم على البصيرة، لأنها أقوى إدراكاً، فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل، ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها، وهي إذن من سبب يفيضها عليه، وهو الله تعالى، أو بتوسط من الملائكة والأنبياء. ويقرب منه قول ابن عباس: هادي من فيهما، فهم يهتدون بنوره.
وقلت: قول ابن عباس من واد، وهذا من واد، فإن لو حبر الأمة من وادي طور سيناء، وهذا من وادٍ يهيم فيه ابن سيناء، فإن معنى قوله: الله هادي العالمين ومبين ما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يهتدون به ويتخلصون من ظلمات الكفر والضلالات وورطات الزيغ والجهالات بوحي ينزله، ونبي يبعثه.
وقد تقرر أن التأويل الذي عليه التعويل ما ساعد عليه النظم. وروينا عن محيي السنة في "المعالم" أنه قال: التأويل صرف الآية إلى معنى محتملٍ موافقٍ لما قبلها ولما بعدها غير مخالفٍ للكتاب والسنة، من طريق الاستنباط.
وعلى مقتضى هذه القضية وجب النظر في هذه الآية إلى السباق والسياق، أما السباق فكما قال الإمام: هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ، وبيانه أنها جاءت رابطةً لقصة براءة ساحة حجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما بقوله:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، كما فسره المصنف، وتخلصاً منها إليه، وقد كرر هذا المعنى في هذه السورة الكريمة مراراً ترجيعاً إلى ما هو مهتمٌ به وتخلصاً إلى ما ينبغي أن يشرع فيه. منها: قوله تعالى في فاتحة السورة: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . ومن ثم جاء في هذا المقام مفصولاً استئنافاً على بيان الموجب، امتناناً على المنزل عليهم، كأنه قيل: إنما أنزل الله إليكم هذه الآيات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتقين، لأنه هادي أهل السموات وأهل الأرض بإنزال الآيات البيانات والكتاب المنير المشتمل على ما تأتون به وتذرون، ففيه مع الامتنان تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث استشهد لبراءة حجابه بمثل هذه الآية الكريمة الجامعة، وفي جعل تلك الآية تخلصاً لهذه، وإنها من الجوامع المحتوية على الأمهات، فإن قوله:{مُبَيِّنَاتٍ} يشتمل على جميع ما يستحق أن يبين من أصول الدين وفروعه.
وقوله: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا} منبئٌ عن أحوال سائر الأمم الخالية، والرسل الماضية، {وَمَوْعِظَةً} منبئةً عن جميع الآيات المنذرات والمبشرات. واختصاص المتقين، لأنهم الجامعون بين ما يجب أن يؤتى به، ويتحرز منه، دلالةٌ بينةٌ على صحته ما ذهبنا إليه. ثم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الانتقال من ضمير التعظيم إلى اسم الذات والحضرة الجامعة خطبٌ جليل وخطرٌ خطير وإيذانٌ بأن تلك الهداية أيضاً جامعةٌ لما يناط به أمور الدين من بعثة الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك. وأما السياق فإن قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} جاء مفصولاً للاستئناف، وبيان أن الله يختص بتلك الهداية من يشاء من خواص حضرته، وأن قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} ، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} جاء مقابلاً لهذه الآيات، والمعنى: أن أعمالهم الصالحة التي لم تكن مقتبسةً من مشكاة النبوة ضائعةٌ، ألا ترى كيف أوقع قوله:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} تنبيهاً على أن الكافر كان فاقد ذلك النور عند عمله؟ " وقال محيي السنة: أراد بالظلمات: أعمال الكفار، وبالبحر اللجي: قلبه، وبالمموج يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب: الطبع والرين على قلبه.
وقلت: قوله: " {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} مقابلٌ لقوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}، ولهذا ختمها بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. وعن الإمام: قال الأصحاب: إنه تعالى لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهايةٍ من الجلاء والظهور عقبها بأن قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبها بقوله: "{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مظهراً أن المراد بالنور: الهاية بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، شبهها في ظهورها في نفسها والبيان والجلاء، وفي كونها مبيناً لغيرها مما يناط به أمر الدين بالنور، لأنه ظاهرٌ في نفسه، مظهرٌ لغيره.
والمطلب الثاني: في الكشف عن حقيقة التمثيل.
قال القاضي: وقد ذكر في معنى التمثيل وجوهٌ:
أ- تمثيلٌ للهدى الذي دل عليه الآيات البينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنه من الهدى بالمشكاة المنعوتة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ب- تشبيه الهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح.
ج- تمثيلٌ لما نور الله به قلب المؤمن- من المعارف والعلوم- بنور المشكاة المنبث فيها مصباحها، ويؤيده قراءة أبي:"مثل نور المؤمن".
د- تمثيل ما منح الله به عباده من القوى الدراكة الخمس المترتبة التي ينوط بها المعاش والمعاد، وهي: الحساسة التي تدرك المحسوسات والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعاقلة التي تدرك بها الحقائق الكلية، والمفكرة التي تؤلف المعقولات لتنتج منها علم ما لا يعلم، والقوة القدسية التي تنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء، المعنية بقوله:{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] بالأشياء المذكورة في الآية، وهي المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت، فإن الحساسة كالمشكاة، لأن محلها كالكوى، ووجها إلى الظاهر، ولا تدرك ما وراءها، وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب، وضبطها للأنوار العقلية، وإنارتها بما يشتمل عليها من المعقولات. والعاقلة كالمصباح، لإضاءتها بالإدراكات الكلية، والمعارف الإلهية.
والمفكرة كالشجرة المباركة، لتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها. والزيتونة المثمرة للزيت الذي هو مادة المصابيح، التي لا تكون شرقيةً ولا غربيةً، لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفةً في القبيلين، منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت، فإنها لضيائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكرٍ ولا تعليم.
وقلت: الوجه الأول: من التشبيه المركب العقلي، لأن الوجه مأخوذٌ من الزبدة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والخلاصة، ولهذا قال في جلاء مدلولها: وإليه ميل المصنف في الوجه الأول، حيث قال:"ونور السموات والأرض الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه"، وقال أيضاً:"صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة"، فجعل الوجه الإضاءة، ألا ترى كيف اعتبر الزبدة بقوله:"هذا الذي شبهت به الحق نورٌ متضاعفٌ" إلى آخره؟
والوجه الثاني: من المركب الوهمي، حيث تصور في المشبه الحالة المنتزعة من المشبه به، وهي قوله: من حيث إنه محفوفٌ بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم.
والوجه الثالث: من التشبيه المفرق الذي يتكلف فيه للمشبه أشياء متعددةٌ مناسبةٌ لما في المشبهات بها، لكنه مبنيٌ على أصول الحكماء، والمقام ينبو عنه كما ترى.
والوجه الرابع الذي عليه قراءة أبي أقرب، وللمقصود أدعى، ولكن يفتقر إلى فضل تقرير، وذلك أنه لما تقرر في المطلب الأول أن المراد بالنور: الهداية بوحي ينزله ورسولٍ يبعثه، فالواجب أن لا يتجاوز عن حديث الوحي والموحى إليه، فالمشبهات المناسبة صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبه، واللطيفة الربانية فيه والقرآن نفسه وما يتأثر منه القلب عند استمداده، فهذه مراتب خمسٌ مفيضةٌ ومستفيضةٌ على ترتيب فيض الله على العباد، ومن أراد الوصول فهذه السبيل، وإلا فـ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وأما التفصيل فإنه شبه صدره صلوات الله عليه بالمشكاة، لأنه كالكوى ذو وجهين فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير، ومن آخر يقتبس ذلك النور المقتبس على الخلق، وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين: مرةً في صباه وأخرى عند إسرائه، قال الله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، هذا تشبيهٌ صحيحٌ قد اشتهر عند جماعةٍ من المفسرين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى محيي السنة عن كعب: هذا مثلٌ ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: المشكاة: صدره، والزجاجة: قلبه، والمصباح فيه: النبوة، توقد من شجرةٍ مباركةٍ هي شجرة النبوة.
وروى الإمام عن بعضهم: أن المشكاة: صدر محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه، والزجاجة: قلبه، والمصباح: ما في قلبه من الدين.
وفي "حقائق السلمي" عن أبي سعيد الخراز: المشكاة: جوف محمدٍ، والزجاجة: قلبه، والمصباح: النور الذي فيه. ومنه خطبة "المصابيح": من مصابيح خرجت عن مشكاة التقوى. وشبه قلبه صلوات الله عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشراقه، وخلوصه من كدورة الهوى، ولوث النفس الأمارة، وانعكاس نور اللطيفة إليه. وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب.
روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعةٌ: قلبٌ أجرد، فيه مثل السراج يزهر". وفيه: "أما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره". الحديث، وأورده شيخنا الإسلام أبو حفصٍ السهر وردي قدس الله تعالى سره في "العوارف" مستشهداً لما سنح له في المعنى الروح والقلب والنفس:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهذا المعنى سماه الله تعالى سراجاً في قوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]، أي: سراجاً يستضاء به في ظلمات الجهالة ويقتبس من نوره أنوار البصائر، وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها، وتشعب فروعها، وتأديها إلى ثمراتٍ لا نهاية لها. قال الله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24 - 25] الآية. وروى محيي السنة عن الحسن وابن زيد: الشجرة المباركة شجرة الوحي، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ}: تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ وقيل: هي شجرة النبوة. وقال صاحب "إنسان العين": الشجرة: القرآن لا كذبٌ ولا هزء، يكاد يطرب السامع نظمه قبل فهمه، وشبه ما يستمده نور قلبه صلوات الله عليه وسلامه من القرآن وابتداء تقويه منه بالزيت الصافي، قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فكما جعله سبب توقده منه في قوله:{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} جعل ضوءه مستفاداً من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ، والمعنى ما ذكر في "إنسان العين": يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم به، وفيه مسحةٌ من معنى قوله:
رق الزجاج ورقت الخمر
…
فتشابها وتشاكل الأمر
فكانها خمرٌ ولا قدحٌ
…
وكأنها قدحٌ ولا خمر
ومنه وصفت بكونها لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ، قال الحسن: ليست هذه من أشجار الدنيا، ولو كانت في الدنيا لكانت شرقيةً أو غربيةً، وإنما هو مثلٌ ضربه الله لنوره. رواه محيي السنة. أو نأخذ في مشرع آخر، وهو أن يشبه القرآن بالمصباح على ما سبق، ونفسه الزكية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطاهرة صلوات الله على صاحبها بالشجرة لكونها ثابتةً من أرض الدين، متشعبةً فروعها إلى سماء الإيمان، متدليةً أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان، وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] غير مائلةٍ إلى طرفي الإفراط والتفريط، ألا ترى إلى قول الحسن: جعل الله الدين بين لاءين ولا تطغوا ولا تركنوا، وذلك معنى قوله تعالى:{لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} . ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة، وقبول تلك الأنوار بالزيت الصافي، لوفور قوة استعدادها للاستضاءة، وهي الدهنية القابلة للاشتعال، ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح، وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان، يكاد زيت استعداه صلوات الله وسلامه عليه، لصفائه وذكائه، يضيء ولو لم يمسه نور القرآن. روى محيي السنة، عن محمد بن كعبٍ القرظي: تكاد محاسن محمدٍ صلوات الله عليه تظهر للناس من قبل أن أوحي إليه. قال ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ
…
كانت بداهته تنبيك عن خبر
وفيه: أن قلبه المطهر يشرق من نور القرآن، ومشكاة صدره تهدي الناس إلى السبيل السوي بواسطة استقامة نفسه الزكية على الصراط المستقيم وتهيئتها لقبول تلك الأنوار، وفيه مسحةٌ من معنى قوله:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وفي "حقائق السلمي": مثل نوره في [قلب] عبده المخلص [كمشكاة]، والمشكاة: القلب، والمصباح: النور الذي قذف فيه، والمعرفة تضيء في قلب العارف بنور التوفيق في مصباح النور، توقد من شجرةٍ مباركةٍ تضيء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنه على آداب ظاهره، وحسن معاملته، زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية، جوهرةٍ صافيةٍ لا لها حظٌ في الدنيا ولا في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآخرة، لاختصاصها بموالاة العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار. قال الواسطي: نفسٌ خلقها الله فسماها شجرةً مباركةً وقال: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} لا دنيويةٍ ولا أخروية، جذبها إلى قربه، وأكرمها بضيائه، يكاد ضياء روحها يتوقد ولو لم يسمع كتاباً ولم يدعه نبيٌ. وقال الجنيد: لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ: لا هي مائلةٌ إلى الدنيا ولا راغبةٌ في الآخرة، ولكنها فانية الحظ من الأكوان. وقلت: وعند هذا نمسك عنان القلم وننادي بلسان الاضطرار: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] فإن قلت: لم زعمت أن التشبيه من المفرق؟ قلت: التكرير فيه يستدعي ذلك، لأنها من باب الترديد، وهو: تكرير المعنى لتعليق الزائد عليه تقريراً واعتناءً، قال:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
…
لو مسها حجرٌ مسته سراء
فقيل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ} ثم قيل: {مَثَلُ نُورِهِ} ، وقيل:{كَمِشْكَاةٍ} ثم قيل: {فِيهَا} أي: في المشكاة: وقيل: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} ثم أعيد المصباح، وقيل:{فِي زُجَاجَةٍ} ثم أعيد الزجاجة، وشبهت بالكوكب الدري لينبه به على كمال إشراق اللطيفة، يعني: إذا بلغ إشراق الزجاجة المستفيضة إلى هذه الغاية فما ظنك بالمصباح المفيضة ونورها؟ وكذا {زَيْتُونَةٍ} : تكريرٌ لمعنى الشجرة لإناطة {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} بها. قال أبو البقاء: {زَيْتُونَةٍ} بدلٌ من {شَجَرَةٍ} .
و{يَكَادُ زَيْتُهَا} : تكريرٌ مع البيان لما أجمل من معنى الزيت في قوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} . وأما النور المتضاعف في قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فنور صدره صلى الله عليه وسلم،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونور قلبه، ونور اللطيفة ونور القرن، وهذا التكرير والتقرير والمتممات توقفك على استقلال كل مرتبةٍ في معنى الإضاءة والاستضاءة، وأن التشبيه من باب التفريق، لا من باب أخذ الزبدة ولا التمثيل، وإلا فالظاهر أن يقال: مثل نوره كمصباح في زجاجةٍ في مشكاة، وإنما لم يقل: كمشكاةٍ فيها زجاجةٌ فيها مصباح على الترتيب السابق، فإن الكوة حاويةٌ للزجاجة وهي المصباح، ليلوح به إلى أن المطلوب المصباح، وأن الزجاجة تابعةٌ، وأن المقصود من القلب ذلك النور المقذوف فيه ولولاه لكان مضغةً لا يعبأ بها، ومن ثم جعل فاقدة فاقد القلب في قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، ولاحتجاب ذلك الهدى بهذه الحجب النورانية، ولكل منها ظهرٌ وبطنٌ، وحدٌ ومطلعٌ قلما يهتدي إليه إلا من اتبع رضوانه سبل السلام ليهديه إلى صراطٍ مستقيم، وفي قوله:{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} الإشعار بأن هذه تقريباتٌ وتلويحاتٌ بحسب الاستعدادات، وأن بيان نوره الحقيقي لا يسعه نطاق التحرير، لكن الله بعلمه الواسع يعلم حقيقته والله بكل شيء عليم.
وما أحسن طباق هذا التأويل مع قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]، فقوله:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} كقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} الآية، لكونهما للامتنان على المنزل إليهم، والتنبيه على عظم شأن هذه النعمة لتتلقى بالشكر الواجب.
وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} كقوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
وأما قوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية، فعطفٌ على سبيل التفسير على قوله:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} ، وفي إيقاع {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} مفعولاً
{مَثَلُ نُورِهِ} أي: صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة، وهي الكوة في الجدار غير النافذة {فِيهَا مِصْبَاحٌ}: سراجٌ ضخمٌ ثاقب {فِي زُجَاجَةٍ} أراد قنديلاً من زجاج شاميٍّ أزهر. شبهه في زهرته بأحد الدراري من الكواكب، وهي المشاهير، كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيلٍ ونحوها. {يُوقَدُ} هذا المصباح {مِنْ شَجَرَةٍ} أي: ابتداء ثقوبه من شجرة الزيتون، يعني: رويت ذبالته بزيتها. {مُبَارَكَةٍ} : كثيرة المنافع. أو: لأنها نبتت في الأرض التي بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها: أي: هذه الأرض، حيث دفن فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به، فإنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليهدي، وجعله موصولاً، صلته {اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} وجعل {سُبُلَ السَّلَامِ} مفعولاً فيه، و {سُبُلَ السَّلَامِ} هي المشكاة، والزجاجة والمصباح والشجرة أسرارٌ أدناها الإشعار بأن السالك لا ينفعه سلوكه إذا لم يخلص فيه، ولم يتبع رضوان الله تعالى، ولما أن متابعة الرضوان، وسلوك سبل السلام سببٌ لهداية الله إياه، أوقعه مفعولاً ليؤذن أن شكر تلك النعمة الخطيرة لا يحصل إلا بمتابعةٍ رضوان الله في سلوك سبل السلام، وأن شكره استزادةٌ لنعمةٍ أخرى أجل منها، ولتقييد تلك الهداية المطلقة، أعني:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} ، بهذه الهداية المفسرة المعللة، ويقيد الرضوان وسبل السلام المطلقتان بتلك الاستقامة المقيدة بالمجازاة لمشكاة الأنوار، فظهر بهذا التقرير الموافقة بين قوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] وقوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيل)، ولم يذكر بقية السيارة، وهي: زحل وعطاردٌ والشمس والقمر، وذكر سهيلاً على انه ليس منها، لأنه أراد الكواكب المشهورة عند العرب، وإليه الإشارة بقوله:"وهي المشاهير"، وسهيلٌ من الأسماء التي جاءت مصغرةً كالثريا والكعيب والكميت.
مصحةٌ من الباسور". {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أي: منبتها الشام. وأجود الزيتون: زيتون الشام. وقيل: لا في مضحًى ولا مقنأة، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها. قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لا خير في شجرةٍ في مقنأة، ولا نباتٍ في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحًى". وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً، فهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مصحةٌ من الباسور)، النهاية: وفي الحديث: "الصوم مصحةٌ"، يروى بكسر الصاد وفتحها، وهي مفعلةٌ من الصحة: العافية. الجوهري: الباسور، بالسين والصد جميعاً: علةٌ تحدث في مآق العين يسقي فلا ينقطع، وقد تحدث أيضاً في حوالي المقعدة.
قوله: (ولا مقنأة)، المقنأة: المكان الذي لا تطلع عليه الشمس. النهاية: وفي حديث شريك: أنه جلس في مقنوءةٍ له، أي: موضع لا تطلع عليه الشمس، وهي المقنأة أيضاً، وقيل: هما مهموزان.
قوله: (وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط)، في "المطلع": هذا كما يقال: فلانٌ لا مقيمٌ ولا مسافر، إذا كان يقيم ويسافر، يريد أنه ليس بمنفردٍ بإقامةٍ ولا سفر، قال الفرزدق:
بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم
…
ولم تكثر القتلى به حين سلت
يعني: شاموا سيوفهم، وأكثروا بها القتلى. هذا القول اختيار الزجاج.
شرقية وغربية. ثم وصف الزيت بالصفاء والوبيص، وأنه لتلألؤه {يَكَادُ} يضيء من غير نار. {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي: هذا الذي شبهت به الحق نورٌ متضاعفٌ قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم يبق مما يقوي النور ويزيده إشراقاً ويمده بإضاءةٍ بقيةٌ، وذلك أن المصباح إذا كان في مكانٍ متضايق- كالمكشاة- كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبث فيه، وينتشر، والقنديل أعون شيءٍ على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفاؤه. {يَهْدِي اللَّهُ} لهذا النور الثاقب {مَنْ يَشَاءُ} من عباده، أي: يوفق لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله والإنصاف من نفسه، ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً. ومن لم يتدبر فهو كالأعمى الذي سواءٌ عليه جنح الليل الدامس، وضحوة النهار الشامس. وعن علي رضي الله عنه:(النور نور السماوات والأرض)، أي: نشر فيها الحق وبثه فأضاءت بنوره، أو: نور قلوب أهلها به. وعن أبي بن كعب: (مثل نور من آمن به). وقرئ: {زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} بالفتح والكسر، و {دُرِّيٌّ} منسوبٌ إلى الدر، أي: أبيض متلألئ. و (دُرِّيّءٌ) بوزن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: {زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} بالفتح والكسر)، قال بان جني: قرأ نصر بن عاصم بفتح الزاي فيهما، وفيها ثلاث لغاتٍ: بالفتح والضم والكسر.
قوله: (و {دُرِّيٌّ})، أبو عمرو والكسائي: بكسر الدال والمد والهمزة، وأبو بكرٍ وحمزة: بضم الدال والهمز، والباقون: بضم الدال وتشديد الياء من غير همز. قال ابن جني: قرأ قتادة والضحاك: "دري" مخففةً، وسعيد بن مسيبٍ وغيره:"دُرِّيّء" مفتوحة الدال مشددة الراء مهموزةً، وهذه الأخيرة قراءةٌ غريبةٌ، وذلك أن "فعيلاً" بالفتح وتشديد العين عزيزٌ، وإنما حكى منه السكينة، بفتح السين وتشديد الكاف، حكاها أبو زيد.
وقال الزجاج: والنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في "دُرِّيّء"، لأنه ليس في كلام
سكيت، يدرأ الظلام بضوئه، و (دُرِّيءٌ) كمريق، و (دُرِّيءٌ) كالسكينة، عن أبي زيد، و (توقد) بمعنى: تتوقد، والفعل للزجاجة، و {يُوقَدُ} ، و (توقد) بالتخفيف، و (يوقد)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العرب شيءٌ على "فعيل" بضم الفاء وتشديد العين، ولكن الكسر جيدٌ بالهمز على وزن "فعيل" من النجوم الدراري التي تدور، أي: ينحط ويسير متدافعاً، وجاز أن يكون دري بغير همز مخففاً، ولا يجوز أن يضم الدال ويهمز، لأنه ليس في الكلام فعيلٌ. روي عن أبي عبيدٍ أنه قال: أنا أرى له وجهاً، وهو أنه "دروءً" على "فعول" من: درأت، كسبوح، استثقل الضمات، فرد بعضها إلى الكسر كـ {عِتِيًّا} .
وفي "اللباب" و "فعيلٌ" غريبٌ ليس له نظيرٌ إلا مريقٌ والعلية، لأنه من: علا يعلو وكذلك السرية عند بعضهم، حكاها أبو علي. وقال الزجاج: مثال {دُرِّيٌّ} : فعليٌ، منسوبٌ إلى الدر، من فتح الدال فقال:"دريٌ" كان له أن يهمز ولا يهمز، فمن همز أخذه من: درأ الكواكب يدرأ: إذا تدافع منقضاً، ومن كسر فإنما أصله الهمز فخفف وبقيت كسرة الدال على أصلها.
قوله: (كمريق)، وهو حب العصفر والقرطم بالضم والكسر.
الأساس: ثوب متمرق مصبوغٌ بالمريق، وهو العصفر. وأنشد في السكينة:
تظنينني أقبل سكينةً
…
هيهات لا أقبل غير العتاق
قوله: (و"توقد" بمعنى: تتوقد)، ابن كثيرٍ وأبو عمرو:"توقد"، بالتاء الفوقانية، وفتح الواو والدال والقاف مشدداً، وأبو بكرٍ وحمزة والكسائي: بالتاء مضمومةً وإسكان الواو وضم الدال مخففاً. والباقون: كذلك إلا أنهم قرؤوا بالياء.
بالتشديد، و (يوقد) بفتح الياء وحذف التاء، لاجتماع حرفين زائدين، وهو غريب، و (يمسسه) بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي، والضمير فاصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و"يوقد" بفتح الياء وحذف التاء)، قال ابن جني: قرأها السلمي والحسن وقتادة وغيرهم. وهي مشكلةٌ، لأن أصله: يتوقد، فحذف التاء لاجتماع حرفين زائدين في أول الفعل، والقياس في هذا إذا كانا مثلين نحو: تفكرون وتذكرون، فكره اجتماع مثلين زائدين، فحذف الثاني للخفة، وليس في "يتوقد" مثلان، لكنه شبه حرف مضارعةٍ بمثله، يعني الياء بالتاء لكونهما زائدتين، كما شبهت التاء والنون في تعد، ونعد بالياء في يعد فحذفت الواو معهما كما حذفت في يعد، ونحوٌ من هذا قراءة {نُجِّ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103]، وهو يريد {نُنْجِ} فحذفت النون الثانية، وإن كانت أصليةً، شبهها لاجتماع المثلين بالزائدة، فشبه هاهنا أصلٌ بزائدٍ لاتفاق اللفظين، كما شبه هنا حرف مضارعةٍ بحرف مضارعةٍ لا للاتفاق، بل لأنهما جميعاً زائدتان.
قوله: (و"يمسسه" بالياء)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن عباس، وإنما حسن للفصل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وإذا جاز في قوله تعالى:{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] مع علامة التأنيث فيها فهو مع النار أمثل.
وأما قولهم: نعم المرأة فإنما جاز وإن كان التأنيث حقيقياً، ولا فصل من قبل إرادة الجنس، لأنها فاعل نعم، والأجناس على الشياع والتنكير، وإذا أضمر الفاعل في فعله وهو مؤنثٌ لم لم يحسن تذكير فعله حسنه إذا كان مظهراً، فإن قولك: قام هندٌ أعذرُ من قولك: هندٌ قام، من قبل أن الفعل منصبغٌ بالفاعل المضمر فيه أشد من انصباغه به إذا كان مظهراً، لأن أصل وضع الفعل: على التذكير.
فإذا قلت: هندٌ قام، فالتذكير الآتي مخالفٌ للتأنيث السابق، فالنفس تعافه بأول استماعه، وقولك: قام هندٌ، فالنفس تقبل التذكير أو استماعه إلى أن يأتي التأنيث.
[{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 36 - 38].
{فِي بُيُوتٍ} : متعلقٌ بما قبله، أي كمشكاةٍ في بعض بيوت الله، وهي المساجد، كأنه قيل: مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، أو بما بعده، وهو {يُسَبِّحُ} ، أي: يسبح له رجالٌ في بيوت. وفيها تكرير، كقولك: زيدٌ في الدار جالسٌ فيها، أو بمحذوف، كقوله:{فِي تِسْعِ آَيَاتٍ} [النمل: 27]، أي: سبحوا في بيوت. والمراد ب الإذن: الأمر. ورفعها: بناؤها، كقوله:{بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28]، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} [البقرة: 127]. وعن ابن عباس: هي المساجد، أمر الله أن تبني. أو: تعظيمها والرفع من قدرها. وعن الحسن: ما أمر الله أن ترفع بالبناء، ولكن بالتعظيم.
و{يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أوفق له، وهو عامً في كل ذكر. وعن ابن عباس: وأن يتلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({فِي بُيُوتٍ}: متعلقٌ بما قبله، أي: كمشكاةٍ في بعض بيوت الله)، فإذن زيد في التشبيه تصوير بيوتٍ مخصوصة، فزيد في تفصيله، وهو على المفرق يزاد على الصدور المنشرحة المشبهة بالمشكاة الأبدان الزكية الطاهرة من أوضار الذنوب، النقية من الأدناس البشرية، كأبدان الأنبياء والأولياء المشبهة بالبيوت التي أذن الله أن ترفع. قال القاضي: ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة، إذ المراد بها ما له هذا الوصف بلا اعتبار وحدةٍ ولا كثرة.
قوله: (أو تعظيمها)، عطفٌ على "بناؤها".
قوله: (و {{يُذْكَرَ فِيهَا [اسْمُهُ]} أوفق له، وهو عامٌ في كذل ذكر)، أي: أوفق للتعظيم
فيها كتابه. وقرئ: (يسبح) على البناء للمفعول، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني:{لَهُ} {فِيهَا} {بِالْغُدُوِّ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من رفع البناء، قال القاضي:{وَيُذْكَرَ فِيهَا} عامٌ فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله، والمباحثة في أحكامه، و {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} ، أي: يصلون".
قوله: (وقرئ: "يسبح" على البناء للمفعول)، ابن عامرٍ وأبو بكر، والباقون: على البناء للفاعل.
قوله: (ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني:{لَهُ} {فِيهَا} {بِالْغُدُوِّ} ، فحينئذٍ يجيء الكلام فيما يتصل بالفعل جزءاً وما ينفصل عنه فضلةٌ، ويتفرغ عليه معنى الاهتمام فيما قدم وأخر ومعنى الإسناد المجازي، فالوجوه ثلاثةٌ، والاعتبارات تسعةٌ، أحدها: أن تجعل الباء في {بِالْغُدُوِّ} مزيدةً، ويسند الفعل إلى أوقات الغدو والآصال على الإسناد المجازي، لأن الله في الحقيقة هو المسبح، ولكن المسبحين لاهتمامهم بالتسبيح، وأن أوقاتهم مستغرقةٌ فيه، لا يفترون آناء الليل وأطراف النهار، كما قال:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} ، كأنها مسبحة. ويؤيده قوله:"على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحةً، والمراد ربها". ومنه قولك: زيدٌ نهاره صائم، وليله قائم، لكثرة صيامه بالنهار، وقيامه بالليل، فالتقديم إذن في الفضلات، لأن الأصل تقديم المسند إليها عليها، وتقديم المفعول فيه على المفعول له، لأن الغايات سابقةٌ في القصد، لاحقةٌ في الوجود، فقدم {لَهُ} لإرادة مزيد الاختصاص، كأنه قيل: يسبح أوقاته لأجله، وكرامةً لوجهه الكريم، لا لشيءٍ آخر.
ويفيد تقديم ظرف المكان على الزمان- على أن الفعل أشد اتصالاً بالزمان لكونه جزأه- شدة العناية بإيثار تلك الأمكنة التي رفعت لذكر الله تعالى وتسبيحه. فهذه اعتباراتٌ أربعةٌ: اعتبار الإسناد، وتقديم المفعول له على المفعول فيه، وعلى ما أقيم مقام الفاعل، وتقديم ظرف المكان على الزمان.
و {رِجَالٌ} : مرفوعٌ بما دل عليه {يُسَبِّحُ} ، وهو يسبح له، و:(تسبح) بالتاء وكسر الباء. وعن أبي جعفر بالتاء وفتح الباء، ووجهها: أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة، والمراد ربها، كصيد عليه يومان، والمراد وحشهما. والآصال: جمع أصل، وهو العشي. والمعنى: بأوقات الغدو، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثانيها: أن تجعل اللام في {لَهُ} مزيدةً ويسند الفعل إلى الله تعالى بالحقيقة، فالتقديم حينئذٍ في الظرفين على ما سبق، اعتباران: اعتبار الإسناد الحقيقي، وتقديم ظرف المكان على الزمان.
وثالثهما: أن تجعل "في" في {فِيهَا} مزيدةً ويسند الفعل إلى ضمير البيوت على المجازي، وفي ذلك أن المسبحين لشدة عنايتهم بالعكوف في بيوت الله وملازمتهم لها للذكر فيها، واختصاص الصلاة بها كما قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} ، كأن البيوت مسبحةٌ، والمراد ربها، واللام في {لَهُ} بمعنى: لأجل، وتقديمه على ما سبق لمزيد الاختصاص، وأن إكرام الديار لساكنها، فالاعتبارات ثلاثة. والله تعالى أعلم.
قوله: (و {رِجَالٌ} : مرفوعٌ بما دل عليه {يُسَبِّحُ} ، قال الزجاج: المعنى على أنه لما قال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} قيل: من يسبح؟ فقيل: يسبح له رجال.
قوله: (كصيد عليه يومان)، قيل: الضمير للفرس، وقيل: للمركوب، واليومان: مصيدٌ فيهما، والأوقات مسبحٌ فيها، فهو من قبيل الاتساع في الظروف، كقوله:
ويومٍ شهدناه سليماً وعامراً
قوله: (والمعنى: بأوقات الغدو)، قال القاضي: و"الغدو" مصدرٌ أطلق للوقت، ولذلك حسن اقترانه بـ "الآصال".
بالغدوات. وقرئ: (والإيصال)، وهو الدخول في الأصيل. يقال: آصل، كأظهر وأعتم. التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح، فإما أن يريد: لا يشغلهم نوعٌ من هذه الصناعة، ثم خص البيع، لأنه في الإلهاء أدخل، من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعةٌ رابحة- وهي طلبته الكلية من صناعته- ألهته ما لا يلهيه شرى شيءٍ يتوقع فيه الربح في الوقت الثاني، لأن هذا يقينٌ وذلك مظنون، وإما أن يسمى الشرى تجارةً، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع، كما تقول: رزق فلانٌ تجارةً رابحة، إذا اتجه له بيعٌ صالح أو شرى. وقيل: التجارة لأهل الجلب، تجر فلانٌ في كذا: إذا جلبه. التاء في "إقامة" عوضٌ من العين الساقطة للإعلال، والأصل: إقوام: فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض، فأسقطت، ونحوه:
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم خص البيع)، أي: التجارة، جنسٌ تحته أنواعٌ من الشرى والبيع وغيرهما، فخص البيع بالذكر، كما خص جبريل في قوله تعالى:{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]. وقوله: "وهي طلبته الكلية من صناعته" اعتراضٌ بين إ ذا وجوابه.
قوله: (وقيل: التجارة لأهل الجلب)، لمن يجلب الأمتعة من بلدٍ إلى بلدٍ للبيع.
الأساس: جلب الشيء واجتلبه، والجلب مرزوقٌ، واشتر من الجلب، فعلى هذا: لا حاجة إلى ذكر الشرى، فإنه إنما يجلب للبيع لا للشرى.
قوله: (التاء في "إقامة" عوض)، قال الزجاج: أصلها: أقومت الصلاة إقوماً، ولكن قلبت الواو ألفاً، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما، لالتقاء الساكنين، فبقي أقمت الصلاة إقاماً، وأدخلت الهاء عوضاً من المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة.
قوله: (وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا)، صدره:
وتقلب القلوب والأبصار: إما أن تتقلب وتتغير في أنفسها، وهو أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص، كقوله:{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]، وإما أن تتقلب أحوالها وتتغير فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً لا تبصر. {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي: أحسن جزاء أعمالهم، كقوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26]، والمعنى: يسبحون ويخافون، ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب تفضلاً. وكذلك معنى قوله:{الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: المثوبة الحسنى وزيادة عليها من التفضل.
وعطاء الله عز وجل: إما تفضل، وإما ثواب، وإما عوض،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
أي: مضوا وأسرعوا. والخليط بمعنى المخالط، والمراد به الجمع، وعد الأمر، أي: العدة.
قوله: (والمعنى: يسبحون ويخافون)، يريد أن قوله:{وَيَخَافُونَ يَوْمًا} صفةٌ بعد صفةٍ لرجال، والصفة الأولى:{لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ، أي: تسبيح الله لقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} ، فذكر الله مظهرٌ وضع موضع المضمر.
قوله: (وكذلك معنى قوله: {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، يعني: كما أن الزيادة في هذه الآية من الفضل، كذا يجب أن تفسر الزيادة في قوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، لأن المطلق محمولٌ على المقيد، إذا كانا عن سبب واحد، ولأنه إذا لم يذكر المزيد فوجب أن يكون من جنس المزيد عليه وإن كان من غير جنسه، فلابد من الذكر، كقولك: أعطاني فلانٌ ديناراً وزيادةً، إذا كانت الزيادةُ من جنس الدينار، ولا تقول: أردت بالزيادة الثواب فيبطل تفسير الزيادة بالرؤية كما هو مذهب أهل السنة، ولم يعلم أن الكل من فضله: الجزاء، والزيادة، والرؤية، وغير ذلك، وتفسير الزيادة بالرؤية واردٌ عن الصادق المصدوق كما سبق بيانه.
قوله: (وعطاء الله تعالى إما تفضلٌ وإما ثوابٌ وإما عوض)، فالتفضل على ما سبق.
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ} ما يتفضل به {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فأما الثواب فله حساب، لكونه على حسب الاستحقاق.
[{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 39].
السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنه ماءٌ يجري. والقيعة: بمعنى القاع، أو جمع قاعٍ، وهو المنبسط المستوي من الأرض، كجيرةٍ في جار.
وقرئ: (بقيعات) بتاء مموطة، كديماتٍ وقيمات، في ديمةٍ وقيمة. وقد جعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في سورة النحل عن بعض العدلية هو: إيصال منفعةٍ خالصة إلى الغير من غير استحقاقٍ يستحق بذلك حمداً وثناءً ومدحاً وتعظيماً، ووصفٌ بأنه محسنٌ مجملٌ، وإن لم يفعله لم يستوجب بذلك مدحاً وذماً. والثواب هو: الجزاء على أعمال الخير، والعوض هو البدل عن الفائت، كالسلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي في مقابلة البلايا والمحن والرزايا والفتن.
قوله: ({وَاللَّهُ يَرْزُقُ} ما يتفضل به {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، يعني:{يَرْزُقُ} مطلقٌ يجب أن يقدر بأحد المذكورين: الجزاء أو التفضل، والأول ممتعٌ، لأنه بمعنى الثواب، والثواب له حسابٌ، فلا يقال فيه: بغير حساب، فبقي أن يقيد بالثاني، ويقال: والله يرزق ما يتفضل به بغير حساب.
قوله: ("بقيعات" بتاء مموطة)، أي: ممدودة، قال ابن جني:"قيعاتٌ" بالتاء: جمع قيعة، كديمةٍ وديمات وقيمةٍ وقيمات، ويجوز أن يكون جمع قاعٍ، كنارٍ ونيرة، وجارٍ وجيرة، ومثله أخٌ وإخوة، لأن أخاً عندنا فعلٌ، وحكى عبد الله بن إبراهيم قال: سمعت
بعضهم (بقيعاةٍ) بتاءٍ مدورة، كرجلٍ عزهاة. شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر، بسرابٍ يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[مسلمة] يقرأ: كسراب بقيعاة، بالألف والهاء بعدها، نحو: فعلٍ وفعلاة، كرجل عزهٍ وعزهاة: الذي لا يقرب النساء واللهو.
قوله: (بسراب يراه الكافر)، متعلقٌ بقوله:"شبه ما يعمله"، يعني: شبه الأعمال الصالحة ممن لا إيمان له، وهو يحسب أنها تنفعه ثم يخيب في العاقبة، بسرابٍ يراه الكافر، إلى آخره. إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة، ولم يجعلها مطلقاً، لأنه تعالى قيده بقوله:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به، وهذا الأسلوب أبلغ، لأن خيبة الكافر أدخل، وحصوله على أمرٍ خلاف ما يأمله أعرق، ونحوه في التشبيه قوله تعالى:{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117]، فإن الكافرين الظالمين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية، بخلاف مطلق الحرث، كذلك هاهنا. وما أدلة من قاطع على بطلان مذهب الفلاسفة، ومن يريد الهداية من غير المتابعة، فإنه يتوهم أن ما هو عليه من متابعة الوهم هو الحق البحت، فإذا تبين له في الخاتمة بطلانه، ووجد الله عنده، يعرف حينئذٍ: أفرسٌ تحته أم حمار؟ وقد غلب على مقتني يعلم المعقول الذين أضلهم الوهم المعلول الانتباه في آخر عهدهم، والتبري عنه في خاتمة أمرهم لما عرفوا أنه كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً.
الراغب: الحسبان: أن يحكم لأحد نقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله فيحسبه، ويعقد ع ليه الأصبع، ويكون بمعرض أن يعتريه فيه شكٌ، ويقارب ذلك الظن، لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما على الآخر.
قوله: (بالساهرة)، الجوهري: يقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الأرض، ومنه
عطش يوم القيامة، فيحسبه ماءً، فيأتيه فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنهم فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم:{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 3]، و {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر في الإسلام.
[{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 40]
اللجي: العميق الكثير الماء، منسوبٌ إلى اللج، وهو معظم ماء البحر. وفي {أَخْرَجَ} ضمير الواقع فيه. {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغةٌ في: لم يرها، أي: لم يقرب أن يراها فضلاً عن أن يراها. ومثله قول ذي الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد
…
رسيس الهوى من حب مية يبرح
أي: لم يقرب من البراح، فما باله يبرح! شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14]، قال: هي الأرض البيضاء المستوية، سيمت بذلك لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عينٌ ساهرةٌ: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة.
قوله: (فيعتلونه)، الأساس: عتله: إذا أخذ بتلبيبه فجره إلى حبس أو نحوه {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان: 47].
قوله: (وهم الذين قال الله فيهم)، يعني: من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق، ويعمل الأعمال الصالحة، وفسرت الآية في موضعها بأن قيل: عملت ونصبت في أعمالٍ لا يجدي عليها في الآخرة.
قوله: (إذا غير النأي المحبين) البيت، الرسيس: الشيء الثابت الذي لزم من بقية
ضررها بسرابٍ لم يجده من خدعه من بعيدٍ شيئاً، ولم يكفه خيبةً وكمداً أن لم يجده شيئاً كغيره من السراب، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، ولا تقتل ظمأه بالماء. وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها، لكونها باطلةً، وفي خلوها عن نور الحق بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، ثم قال: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه، فهو في ظلمة الباطل لا نور له.
وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات، لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل، أو كونهما مترقبين، ألا ترى إلى قوله:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوًى أو سقمٍ في البدن. يبرح: أي: يزول، يقال: برح برحاً: إذا زال من موضعه، ومنه: لا أبرح كذا أي: لا أزال.
قوله: (ومن لم يوله- أي: لم يعطه- نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل)، يريد: أن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ، ظاهره: أن من لم يخلق الله تعالى فيه الإيمان والعمل الصالح ليس له إيمانٌ ولا عملٌ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، لأنه تذييلٌ لقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} إلى قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} إلى آخره. ولما لم يوافق مذهبه، عدل من التصريح إلى التلويح وقال:"ومن لم يوله نور توفيقه" فيكون المضاف إليه محذوفاً والجملة كما هي مع الحذف كنايةً عن عدم إيمانهم وعملهم الصالح، لأن الإلطاف لازم الإيمان، والعمل الصالح.
قوله: (أو كونهما مترقبين)، نصب عطفٍ على "الإيمان والعمل"، أي: الإلطاف إما أن يكون لازماً للإيمان والعمل الصالح أو لازماً لترقب حصولهما. وقال صاحب "التقريب": التقدير: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته فما له من نور: لا نور لطف التوفيق الذي يسبق الإيمان والعمل الصالح المترقبين، ولا نور العصمة الذي يردف ويلحق الإيمان والعمل الحاصلين. وقلت قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 65] استشهادٌ لقوله: "إن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل"، لأن الهداية هي الدلالة، ولذلك فسره في موضعه بقوله: "لنزيدنهم هدايةً إلى سبيل الخير وتوفيقه، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
وقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]؟ وقرئ: (سحاب ظلماتٍ) على الإضافة. و (سحابٌ ظلماتٍ)، برفع "سحابٌ)، برفع "سحابٌ" وتنوينه وجر "ظلماتٍ" بدلاً من "ظلماتٍ" الأولى.
[{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 41 - 42].
{صَافَّاتٍ} : يصففن أجنحتهن في الهواء. والضمير في {صَافَّاتٍ} لـ {كُلٌّ} أو لله، وكذلك في {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} والصلاة: الدعاء. ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
[{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 10] "، وكذلك قوله تعالى:{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] دلٌ على أن إضلال الله تعالى مسبوقٌ بظلمهم. وقال في تفسيره: إن مشيئة الله تعالى تابعةٌ لحكمته، من إضلال الظالمين وخلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم، وكل ذلك تكلفاتٌ وتعسفاتٌ عن الطريق السوي.
قوله: (والضمير في {عَلِمَ} لـ {كُلٌّ} أو لله تعالى، وكذلك في {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، قال صاحب "التقريب": إذا عاد ضمير {عَلِمَ} إلى الله تعالى فليعد الأخيران إلى "كلٌّ"، لئلا يخلو المبتدأ عن عائدٍ إليه، إلا أن يقدر منه. وقلت: الضمير إذا كان لـ {كُلٌّ}، كان قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} تكميلاً لإرداف العظمة الكاملة والقدرة التامة صفة العلم الشاملة، وإذا كان لله تعالى كان تذييلاً لقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، ثم الآية بجملتها مع ما يتلوها من الآيات المشتملة على دلائل الآفاق والأنفس مستطردةٌ لذكر التسبيح في قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ}، ثم قوله:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} جيء به تكريراً وترجيعاً لقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا} الآية، ليتخلص منه إلى نوع آخر من قبائح رأس النفاق وذويه.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} 43 - 44].
{يُزْجِي} : يسوق. ومنه: البضاعة المزجاة: التي يزجيها كل أحدٍ لا يرضاها. والسحاب يكون واحداً، كالعماء، وجمعاً كالرباب.
ومعنى تأليف الواحد: أنه يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض. وجاز بينه وهو واحدٌ، لأن المعنى: بين أجزائه، كما قيل في قوله:
..... بين الدخول فحومل
والركام: المتراكم بعضه فوق بعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والسحاب يكون واحداً كالعماء)، قال أبو زيد: هو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال. والرباب: السحاب الأبيض، الواحد: ربابة. القزع: قطعٌ من السحاب رقيقة، الواحد: قزعة. الراغب: أصل السحب: الجر، كسحب الذيل، ومنه السحاب إما لجر الريح له، أو لانجراره في مره. والسحاب: الغيم فيه ماءٌ، أو لم يكن، ولهذا يقال: سحابٌ جهام. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} ، وقد يذكر السحاب، ويراد بها الظل والظلمة على طريق التشبيه:{مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [الآية: 40]. يقال: سحابٌ مركوم، أي: متراكم، والركام: ما يلقى بعضه على بعض، والركان يوصف به الرمل والجيش، ومرتكم الطريق: جادته التي فيها ركمةٌ، أي: أثرٌ متراكم.
قوله: (كما قيل في قوله: بين الدخول فحومل)، أوله:
قفا نبك من ذكري حبيبٍ ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والودق: المطر. {مِنْ خِلَالِهِ} : من فتوقه ومخارجه، جمع خلل، كجبالٍ في جبل. وقرئ:(من خلله)، {وَيُنَزِّلُ} بالتشديد، و (يكاد سنا) على الإدغام، و (برقه) جمع برقة، وهي المقدار من البرق، كالغرمة واللقمة، و (برقه) بضمتين للإتباع، كما قيل في جمع فعلة، فعلات، كظلمات، (وسناء برقة) على المد المقصور، بمعنى الضوء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن الأنباري: الدخول، وحومل، والمقراة: منازل كلاب. اعلم أن الفاء في "فحومل" هي المانعة من دخول "بين" على "حومل". قال الأصمعي: لا يقال: رأيتك بين زيدٍ فعمرو، بالفاء وقال الفراء: معناه: بين أهل الدخول، فأهل حومل.
وذهب المصنف إلى أن كلاً من الدخول وحومل مكانٌ ذو قطع متجاورات، فالبين داخلٌ على كل واحدٍ منهما على التأويل، أي: بين أماكن الدخول فأماكن الحومل. وقال الزجاج: جاز: ما زلت أدور بين الكوفة، ولم يجز أدور بين زيدٍ حتى تقول: وعمرو، لأن الكوفة اسمٌ يتضمن أمكنةً كثيرة، فكأنك قلت: ما زلت أدور بين طرق الكوفة.
قوله: (والودق: المطر)، الراغب: الودق: قيل: ما يكون خلال المطر كأنه غبار. وقد يعبر به عن المطر كما في قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، ويقال لما يبدو في الهواء عند شدة الحر: وديقة.
قوله: {وَيُنَزِّلُ} بالتشديد)، قرأ كلهم إلا ابن كثيرٍ وأبا عمروٍ:"يكاد سنا"، على الإدغام: السوسي عن أبي عمرو.
قوله: (و"سناء برقه")، قال ابن جني: هي قراءة طلحة بن مصرف. السناء ممدوداً: الشرف، يقال: رجلٌ ظاهر النبل والسناء، والسنا مقصوراً: الضوء، وعليه قراءة الكافة.
والممدود بمعنى العلو والارتفاع، من قولك: سني، للمرتفع، و (يذهب بالأبصار) على زيادة الباء، كقوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195]، عن أبي جعفر المدني. وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته وظهور أمره، حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وكل ما يطير بين السماء والأرض، ودعاءهم له، وابتهالهم إليه، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه وما يحدث فيه من أفعاله حتى ينزل المطر منه، وأنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته، ويريهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف أبصارهم، ليعتبروا ويحذروا، ويعاقب بين الليل والنهار، ويخالف بينهما بالطول والقصر، وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده وثباته، ودلائل مناديةٌ على صفاته، لمن نظر وفكر وتبصر وتدبر. فإن قلت: متى رأى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويجوز أن يكون الممدود للمبالغة في قوة ضوئه وصفائه، كقولك: هذا ضوءٌ كريم، أي: هو في غاية قوته وإنارته، فلو كان إنساناً لكان كريماً شريفاً.
قوله: (على زيادة الباء)، قال الزجاج: لم يقرأ بها غير أبي جعفرٍ المدني، ووجهها في العربية ضعيفٌ، لأن العرب تقول: ذهبت به وأذهبته. والمصنف ذهب إلى أنها للتأكيد، وقد نقلنا في سورة المؤمنين عن الحريري جواز الجمع بين حرفي التعدية، وعليه قراءة من قرأ:"تنبت بالدهن"، بضم التاء.
قوله: (وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته)، هذا إشارةٌ إلى المذكور من ابتداء قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ} ، وتلك الدلائل تسبيح من في السموات وتسبيح الطير، ودعاؤهم، وتسخير السحاب، وقسمة رحمته بين خلقه يصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وإراءته وسناه بحيث يخطف أبصارهم، وتقليبه الليل والنهار بالطول والقصر.
قوله: (وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده [وثباته]، ودلائل مناديةٌ على صفاته)، يعني: وجود هذه الأشياء يدل على وجود مبدعها وخالقها، لأن الممكن لابد له
رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح من في السماوات ودعاءهم، وتسبيح الطير ودعاءه، وتنزيل المطر من جبال بردٍ في السماء، حتى قيل له:{أَلَمْ تَرَ} ؟ قلت: علمه من جهة إخبار الله إياه بذلك على طريق الوحي. فإن قلت: ما الفرق بين {مَنْ} الأولى والثانية والثالثة في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ، {مِنْ جِبَالٍ} ، {مِنْ بَرَدٍ}؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للبيان. أو الأوليان للابتداء، والآخرة للتبعيض. ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبالٍ فيها، وعلى الأول مفعول {وَيُنَزِّلُ} {مِنْ جِبَالٍ}. فإن قلت: ما معنى {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} ؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال بردٍ كما خلق في الأرض جبال حجر. والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من موجدٍ يوجده، وكونها واقعةً على صفاتٍ عجيبةٍ غريبة تدل على علم منشئها، وحكمة مفطرها، ولذلك قال:"لمن نظر وفكر وتبصر" على النشر.
قوله: (علمه من جهة إخبار الله تعالى
…
على طريق الوحي)، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: علمه بالمكاشفة، وبنور زائد على نور العقل، أو بإرادة الله تعالى إياه كما أرى إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75].
قوله: (والثالثة للبيان)، قال القاضي:{مِنْ بَرَدٍ} : بيانٌ للجبال، والمفعول محذوفٌ، أي: ينزل مبتدئاً من السماء من جبالٍ فيها من برد.
قوله: (أن يريد الكثرة بذكر الجبال)، قال القاضي: أي: من قطعٍ عظام تشبه الجبال في عظمها، وقيل: المراد بالسماء المظلة، وفيها جبالٌ من بردٍ كما في الأرض جبالٌ من حجر، وليس في العقل قاطعٌ يمنعه.
يقال: فلانٌ يملك جبالاً من ذهب.
[{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 45]
وقرئ: (خلق كل دابة). ولما كان اسم الدابة موقعاً على المميز وغير المميز، غلب المميز فأعطي ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون، فمن ثم قيل:{فَمِنْهُمْ} ، وقيل:{مَنْ يَمْشِي} في الماشي على بطنٍ والماشي على أربع قوائم. فإن قلت: لم نكر الماء في قوله: {مِنْ مَاءٍ} ؟ قلت: لأن المعنى: أنه خلق كل دابة من نوعٍ من الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فمن ثم قيل)، تفريع لما بعده على ما قبله، يعني: ضمن قوله: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} معنى التغليب، ولذلك أتى بضمير العقلاء وضم معه من المختص بالمميزين، ولولا إرادة التغليب لم يستقم قوله:{فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي} إلى آخره.
وتلخيصه أن الأول مجملٌ في إرادة التغليب، فبين بالثاني المراد منه، كما أن قوله:{إِلَّا إِبْلِيسَ} قرينةٌ دالةٌ على إرادة التغليب في {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ} [الحجر: 30]، ولو حمل على باب قوله:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]، وجمعه بالواو والنون لجاز، لأن الكلام لما كان مسوقاً لإظهار قدرة الله وكمال حكمته، وأن هذه الأشياء دلائل دالةٌ مرشدةٌ على ذلك، أجري عليها ما كان مجري على العقلاء، ومن ثم قدم الماشي على البطن على الماشي على القدمين وعلى الأربع، لأن الأول أدل على القدرة، والثاني من الثالث.
قوله: (لأن المعنى أنه خلق كل دائبةٍ من نوع من الماء)، تلخيص الجواب: أن التنكير إما للإفراد نوعاً، فإنه تعالى خلق كل نوع من أنواع الدواب من ماءٍ مختص بذلك النوع، فخلق نوع الإنسان من ماءٍ مختص به، وخلق الفرس من ماءٍ مختص به، وعلى هذا، وإما للإفراد شخصاً، فإنه تعالى خلق كل دابةٍ من ماءٍ مخصوصٍ بها وهو النطفة، ثم اختلفت هذه
مختص بتلك الدابة، أو: خلقها من ماءٍ مخصوص، وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة، فمنها هوام، ومنها بهائم، ومنها ناس، ونحوه قوله تعالى:{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]. فإن قلت: فما باله معرفاً في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]؟ قلت: قصد ثم معنى آخر، وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقةٌ من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط، قالوا: خلق الملائكة من ريحٍ خلقها من الماء، والجن من نارٍ خلقها منه، وآدم من ترابٍ خلقه منه. فإن قلت: لما جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت: قدم ما هو أعرف في القدرة، وهو الماشي بغير آلة مشيٍ من أرجلٍ أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. فإن قلت: لم سمي الزحف على البطن مشياً؟ قلت: على سبيل الاستعارة، كما قالوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النطفة بحسب اختلاف الدواب. وقال القاضي: هذا على تنزيل الغالب منزلة الكل، إذ من الحيوانات ما يتولد لا من نطفة.
قوله: (قصد ثمة معنًى آخر)، يعني: قصد هاهنا إلى معنى الإفراد شخصاً أو نوعاً كما سبق، فنكر الماء وقصد ثمة إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيءٍ حي فعرفه، وأشار إلى صاحب "المفتاح" حيث قال: أي: وجعلنا مبدأ كل شيءٍ حي هذا الجنس الذي هو جنس الماء.
وقال صاحب "الانتصاف": وتحرير الفرق أن الأولى: بين أن القدرة خلقت من واحدٍ أشياء مختلفةً، والثانية: القصد فيها خلق الأشياء المتفقة من جنس الماء المختلف، فالأولى: إخراج مختلفٍ من متفق، والثانية: إخراج متفقٍ من مختلف.
قوله: (على سبيل الاستعارة)، أي: استعير للزحف على البطن المشي، جعله المصنف
الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ويقال: فلانٌ لا يتمشى له أمر. ونحوه استعارة الشفة مكان الجحفلة، والمشفر مكان الشفة، ونحو ذلك، أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين.
[{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 46 - 47]
{وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى القائلين: آمنا وأطعنا. أو إلى الفريق المتولي منهم، فمعناه على الأول: إعلامٌ من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان، لا الفريق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من قبيل الاستعارة، حيث قال:"كما قالوا في الأمر المستمر، قد مشى هذا الأمر"، لكن قوله:"استعارة الشفة مكان الجحفلة"، ينبئ أنه ليس من قبيل الاستعارة، لأنه عند صاحب "المفتاح" مجازٌ مرسلٌ خالٍ عن الفائدة. قال: كما استعمل المرسن في أنف إنسان، وأنه موضوعٌ لمعنى الأنف مع قيد أن يكون مرسوناً، وإنما كان خالياً عن الفائدة، لأن المرسن والأنف كالمترادفين. والحق أن ما في الآية من المجاز المرسل لا الاستعارة.
قوله: (الجحفلة)، الجوهري: للحافر كالشفة للإنسان.
قوله: (فمعناه على الأول: إعلام)، إذا قدر {أُولَئِكَ} إشارةً إلى القائلين {آَمَنَّا} يكون {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، إيذاناً بارتفاع درجة كفر الفريق المتولي منهم، وانحطاط درجة أولئك، وعلى أن يكون إشارةً إلى الفريق المتولي منهم يكون {ثُمَّ} للاستبعاد، ويؤيده قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: كيف يدخولن في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون، ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين، ويرغبون عن تلك المقالة؟ وهذا بعيدٌ عن العاقل المميز.
يؤيد هذا التأويل سؤال الإمام: فإن قيل: كيف حكي عن كلهم أنهم يقولون: آمنا، ثم حكي عن فريقٍ منهم التولي، وكيف يصح أن يقول في جميعهم:{وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} ؟
المتولي وحده. وعلى الثاني: إعلامٌ بأن الفريق المتولي لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيماناً، إنما كان ادعاءً باللسان من غير مواطأة القلب، لأنه لو كان صادراً عن صحة معتقدٍ وطمأنينة نفس: لم يتعقبه التولي والإعراض. والتعريف في قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ} دلالةٌ على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت، وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان، الموصوفون في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15].
[{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} 48 - 49].
معنى {إلى الله ورسوله} : إلى رسول الله، كقولك: أعجبني زيدٌ وكرمه، تريد: كرم زيد. ومنه قوله:
غلسته قبل القطا وفرطه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجوابه المشار إليه بقوله: "أولئك الذين تولوا"، لا الجملة الأولى، ولو رجع إلى الأولى، ولو رجع إلى الأولى يصح أيضاً.
وأما معنى تكرير قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} فإنه من باب الترجيع والشروع في مشرعٍ آخر من ذكر المنافقين وأحوالهم.
قوله: (معنى {إلى الله ورسوله}: إلى رسول الله)، أي: ذكر "الله" هنا تمهيدٌ لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإشعارٌ بإظهار مكانته صلى الله عليه وسلم، يؤيده إفراد الضمير في قوله:{لِيَحْكُمَ} وقوله: {يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} .
قوله: (غلسته قبل القطا وفرطه)، أوله في "المطلع":
ومنهلٍ من الفلا في أوسطه
أراد: قبل فرط القطا. روي: أنها نزلت في بشرٍ المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله، والمنافق يجره إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمداً يحيف علينا.
وروي: أن المغيرة بن وائلٍ كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومةٌ في ماءٍ وأرض، فقال المغيرة: أما محمدٌ فلست آتيه ولا أحاكم إليه، فإنه يبغضني وأن أخاف أن يحيف علي. {إِلَيْهِ}: صلة {يَاتُوا} ، لأن "أتى" و"جاء" جاءا معديين بـ "إلى"، أو يتصل بـ {مُذْعِنِينَ} ، لأن في معنى: مسرعين في الطاعة، وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص.
والمعنى: أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحت، يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حقٌ على خصمٍ أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذهم لهم ما ذاب لهم في ذمة الخصم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغلس: ظلمة الليل، والتغليس: السير بغلس، والفرط: جمع الفارط كالركع والراكع وهو السابق إلى الماء قبل الواردة ليهيئ لهم الدلاء.
قوله: (الحق المر)، أي: الحكم الذي يلحقهم بسماعه مرارةٌ في أفواههم، وهو كنايةٌ عن الكراهة. النهاية: قال شريحٌ لجماعةٍ أرادوا أن يحلفوا على شيء "لتركبن منه مرارة الذقن" أي: ما يمر في أفواهكم وألسنتكم التي بين أذقانكم.
قوله: (البحت)، أي: الخالص، "يزورون" أي: يعدلون عنه ويميلون.
قوله: (وإن ثبت لهم حقٌ على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك)، دل على الحصر تقديم صلة {مُذْعِنِينَ} عليه.
قوله: (ما ذاب لهم)، أي: ما وجب. الأساس: ومن المجاز: ذاب لي عليه حقٌ: ثبت
[{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} 50].
ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين الحيف في قضائه. ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله:{أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} أي: لا يخافون أن يحيف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ووجب، ويقال لمن أنضج حاجة إنسانٍ وأتمها: أذاب حاجته. ومن قول المنصور لابن عمران: بلغني أنك لبخيلٌ، فقال: ما أجمد في حقٌ، ولا أذوب في باطل.
قوله: (ثم أبطل خوفهم حيفه)، يريد أنه تعالى أراد أن يبين أن صدودهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق عليهم كان باطلاً فجاء بالتقسيم، أي: لا يخلو أن نشأ ذلك الصدود عن نفاقهم وكفرهم، فإنهم لا يصدقونه في شيء، أو عن عدم ثباتهم في الإيمان ورسوخهم فيه فيرتابون فيه وفي أحكامه، أو عرفوا أنه يحكم بالحق وهم يريدون الباطل، فجيء بقوله تعالى:{بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} إضراباً عما أثبته "بل" في {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ} .
قال القاضي: بل إضرابٌ عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول. ووجه التقسيم: أن امتناعهم إما أن يكون لخلل فيهم، أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً، وكلاهما باطلان، أما الأول فظاهرٌ، وأما الثاني فلأن منصب نبوته، وفرط أمانته يمنعه، فتعين الأول، وظلمهم يعم خلل عقيدتهم، وميل نفوسهم إلى الحيف. وفسر القاضي قوله:{أَمِ ارْتَابُوا} بقوله: بأن رأوا منك تهمةً، فزال يقينهم بك. وهذا معنى قوله:"أو مرتابين في أمر نبوته".
عليهم، لمعرفتهم بحاله، وإنما هو ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتم لهم جحوده، وذلك شيءٌ لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثم يأبون المحاكمة إليه.
[{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 51].
وعن الحسن: (قول المؤمنين) بالرفع، والنصب أقوى، لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لـ "كان" أو غلهما في التعريف، و {أَنْ يَقُولُوا} أو غل، لأنه لا سبيل عليه للتنكير، بخلاف (قول المؤمنين)، وكان هذا من قبيل "كان" في قوله:{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: الحق أن "بل" إضرابٌ عن نفس التقسيم، يعني: دع التقسيم، فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف على الكمال، فلذلك صدوا عن حكومتك، يدل عليه إتيان اسم الإشارة، والخطاب، وتعريف الخبر بلام الجنس، وتوسيط ضمير الفصل، والله تعالى أعلم.
قوله: (والنصب أقوى)، قال ابن جني: والرفع قراءة علي رضي الله عنه والحسن، والنصب قراءة الجماعة. وهو أقوى، لأن من شرط اسم كان أن يكون أعرف من خبرها، وقوله:{أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} أعرف من: {قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} ، لأن "أن" وصلتها تشبه المضمر من حيث إنه لا يجوز وصفها، كما لا يجوز وصف المضمر، والمضمر أعرف، ومثله:{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الأعراف: 82]. وقال صاحب "المطلع": أن يقولوا أوغل، لأنه لا سبيل عليه للتنكير، بخلاف قول المؤمنين، لأنه يحتمل أن يختزل عنه الإضافة فبقي منكراً.
قوله: (وكان هذا من قبيل "كان") أي: لفظة "كان" هنا من قبيل "كان" في قوله:
وقرئ: (ليحكم) على البناء للمفعول. فإن قلت: إلام أسند (يحكم) ولابد له من فاعل؟ قلت: هو مسندٌ إلى مصدره، لأن معناه: ليفعل الحكم بينهم، ومثله: جمع بينهما، وألف بينهما. ومثله {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمن قرأ {بَيْنَكُمْ} منصوباً، أي: وقع التقطع بينكم. وهذه القراءة مجاوبةٌ لقوله: {دُعُوُا} .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، أي: بمعنى: ما يصح وما ينبغي وما يستقيم، قال صاحب "المطلع": إنما صح واستقام أن يقول المؤمنون: سمعنا وأطعنا، ولهذا قال الفراء في معناه: إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا: سمعنا وأطعنا. والتحقيق في هذا التركيب ما ذكره صاحب "الانتصاف". قال: فائدة دخول "كان" المبالغة في نفي الفعل الداخل هو عليه بتعديد جهة نفيه عموماً باعتبار الكون وخصوصاً باعتبار خصوصية الفعل بعد ما كان، فهو نفيٌ مرتين.
وقال القاضي: من عادته تعالى إتباع ذكر المبطل ذكر المحق، والفصل لنفي ما أثبت فيهم عن غيرهم والتنبيه على ما ينبغي يبعد إنكاره لما لا ينبغي.
قوله: (وهذه القراءة مجاوبةٌ لقوله: {دُعُوُا} ، يعني: أن المدعو إليه في الآية: الله تعالى ورسوله صلوات الله عليه، و {لِيَحْكُمَ} على القراءة المشهورة: مسندٌ إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، فاحتيج- للتجاوب بين الكلامين- إلى أن يقال: إن ذكر الله تمهيدٌ، كقولك: أعجبني زيدٌ وكرمه.
وأما إذا قرئ: "ليحكم"، مجهولاً، وأسند إلى المصدر، يعم الحاكم فيقع التجاوب بينهما ولم يفتقر إلى ذلك التأويل.
[{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 52].
قرئ: (ويتقه) بكسر القاف والهاء مع الوصل وبغير وصل، وبسكون الهاء، وبسكون القاف وكسر القاف وكسر الهاء. شبه تقه بكتف فخفف، كقوله:
قالت سليمي: اشتر لنا سويقا
ولقد جمع الله سبحانه في هذه الآية أسباب الفوز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: "ويتقه" بكسر القاف والهاء مع الوصل)، قرأها نافعٌ وابن كثيرٍ وابن ذكوان والكسائي وخلفٌ، وبغير وصل: قالون عن نافعٍ وعن هشامٍ رواية، وبسكون الهاء: أبو عمرو وأبو بكرٍ وخلادٌ، وسكون القاف وكسر الهاء: حفص. قال صاحب "المطلع": قراءة العامة: "ويتقهي" بياءٍ ملفوظةٍ بعد الهاء، وهو الأصل فيما إذا تحرك الحرف قبل الهاء كما في يؤده ويؤته. وروي عن نافع بكسر الهاء ولا يبلغ بها الياء، لأن حركة ما قبل الهاء ليست تلزم، ألا ترى أنه اختير حذف الياء في {وَيَتَّقْهِ} في الرفع مثل عليه؟ وقرأ أبو عمرو:"ويتقه" ساكنة الهاء، وذلك أن ما يلحق هذه الهاء من الواو ومن الياء زائدٌ، فرد إلى الأصل وحذف الزيادة. وقرأ حفصٌ ساكنة القاف مكسورة الهاء. قال ابن الأنباري: وهو على لغة من يقول: لم أر زيداً، ولم أشتر طعاماً ولم يتق زيداً، يسقطون الياء منه للجزم، ثم يسكنون ما قبلها، قال:
ومن يتق فإن الله معه
…
ورزق الله مؤتابٌ وغاد
قوله: (قالت سليمى: اشتر لنا سويقا)، تمامه:
وهات خبز البر أو دقيقا
شبه المنفصل بالمتصل فصار نزل فلذا خفف.
قوله: (ولقد جمع الله في هذه الآية أسباب الفوز)، يعني: الفاء في {فَأُولَئِكَ هُمُ
وعن ابن عباس رضي الله عنه في تفسيرها: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} في فرائضه {وَرَسُولَهُ} في سننه {وَيَخْشَ اللَّهَ} على ما مضى من ذنوبه {وَيَتَّقْهِ} فيما يستقبل. وعن بعض الملوك: أنه سأل عن آيةٍ كافية، فتليت له هذه الآية.
[{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 53].
جهد يمينه: مستعارٌ من جهد نفسه: إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها.
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه: من قال: بالله، فقد جهد يمينه. وأصل:"أقسم جهد اليمين": أقسم يجهد اليمين جهداً، فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَائِزُونَ} جزائيةٌ، مؤنةٌ بأن ما بعدها مسببةٌ عما قبلها، مما تضمنه الشرط من طاعة الله وطاعة رسوله، والخشية والتقوى، هي جامعةٌ لعموم أحوال المكلف، فإن الواجب عليه في الآن هو فيه طاعة الله وطاعة رسوله، وخشية الله على ما مضي، إن فرط منه تقصيرٌ فيتداركه، وتقوى الله فيما يستقبل من ترك ما يجب عليه أن يذره، والإتيان بما يجب عليه إتيانه، كما أشار إليه حبر الأمة، فعم الأوقات بأسرها والأفعال بأجمعها، من فعل ما ينبغي، وترك ما لا ينبغي، ولذلك قيل:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ، أي الكاملون في الفوز بمباغيهم ومطالبهم. ثم الآية كما هي تذييلٌ لما سبق، وتعريضٌ بالمؤمنين الذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وبالمنافقين الذين يقولون: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، إلى قوله:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى آخر الآيات، بأن الأولين هم الفائزون بمباغيهم، والآخرين هم الدامرون الخاسرون، فالآية من الجوامع.
قوله: (أقسم يجهد اليمين جهداً)، هو كقولك: فلانٌ جهد نفسه، أي: يستفرغ طاقته، وكأن لليمين وسعاً وطاقةً وهو يجهد في استفراغه منها، وإليه الإشارة بقوله:"جهد يمينه" مستعارٌ من جهد نفسه، النهاية: جهد الرجل في الشيء: إذا جد فيه وبالغ، ومنه الجهاد، وهو استفراغ ما في الوسع والطاقة من قولٍ أو فعل. والاجتهاد: بذل الوسع في طلب أمر.
مضافاً إلى المفعول، كقوله:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قال: جاهدين أيمانهم. و {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} خبر مبتدإٍ محذوف، أو مبتدأٌ محذوف الخبر، أي: أمركم والذي يطلب منكم طاعةٌ معروفةٌ معلومة لا يشك فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم، والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة، ويقال: جهدت رأيي وأجهدته: أتعبته بالفكر، والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو.
وأقسم: أي: حلف، وأصله من القسامة، وهو أيمانٌ تقسم على أولياء المقتول، ثم صار اسماً لكل حلف. وقسيم الوجه، أي: صبيحة، والقسامة: الحسن، وأصله من القسمة، كأنما أوتي كل موضع نصيبه من الحسن ولم يتفاوت، وقيل: إنما قيل: مقسم، لأنه يقسم بحسنه الطرف، ولا يثبت في موضع دون موضع.
قوله: (أي: أمركم والذي يطلب منكم)، إلى آخره، هذه الوجوه يجمعها معنيان بحسب تفسير "المعروفة" وذلك أن المنافقين كانوا يبالغون في الإقسام بأنك إن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا خرجنا، فقيل لهم: طاعةٌ معروفة، أي: معروفةٌ بالفعل لا يشك فيها أنها طاعةٌ معروفةٌ بأنها القول دون الفعل، فإذا فسرت بالفعل احتمل أن يكون خبر مبتدأٍ محذوفٍ كما قال أولاً: أمركم والذي يطلب منكم طاعةٌ معروفةٌ معلومةٌ لا يشك فيها، كطاعة الخلص من المؤمنين، فإنهم إذا استنفروا إلى الجهاد خرجوا من ديارهم وأموالهم من غير ريثٍ ولا إقسام، أو مبتدأٌ خبره محذوف، بأن يقال: طاعةٌ معروفةٌ، أي: بالفعل أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة، فقوله:"بكم" متعلقٌ بالأمثل والأولى على التنازع، وإذا فسرت بالقول وبما عرف منهم ومن أمثالهم أنها طاعةٌ بالقول دون الفعل، كان خبر مبتدأٍ محذوف، فيقال طاعتكم طاعةٌ معروفةٌ بأنها بالقول دون الفعل. واختيار الزجاج الوجه الثاني من التقرير الأول، حيث قال: طاعةٌ معروفةٌ أمثل، أي: أمثل من قسمكم
ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمانٌ تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها. أو: طاعتكم طاعةٌ معروفة بأنها بالقول دون الفعل. أو طاعةٌ معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.
وقرأ اليزيدي: (طاعةً معروفةً) بالنصب على معنى: أطيعوا طاعةً {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ} يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيءٌ من سرائركم، وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.
[{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 54].
صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، وهو أبلغ في تبكيتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بما لا تصدقون فيه، وفي الكلام دليلٌ عليه، لأنه قال:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} والله عز وجل من وراء ما في قلوبهم، فقال:{قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، وقال: ويجوز: "طاعةً معروفةً" على معنى: أطيعوا طاعةً معروفةً، لأنهم أقسموا إذا أمروا أن يطيعوا، فقيل: أطيعوا طاعةً معروفةً، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فإن لم ترو فلا تقرأ.
قوله: (صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب)، قال صاحب "التقريب": عدل عن الغيبة في {أَقْسَمُوا} إلى الخطاب في {تَوَلَّوْا} ، يريد أن قوله: فإن تولوا ليس من تتمة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به أن يبلغ إليهم من قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، بل هو تعقيبٌ لأمر الله رسوله ومتصلٌ بما قبله. المعنى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم قل كذا وكذا، فإن تولوا أيها المخاطبون فإن عليه ما حمل وعليكم ما حملتم. والظاهر أنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تخاف مضرتهم، فكأن أصل الكلام: قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تولوا فإنما عليك ما حملت، وعليهم ما حملوا، بمعنى:
يريد: فإن تتولوا فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدى فقد خرج فقد خرج عن عهدة تكليفه، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم، وما الرسول إلا ناصحٌ وهاد، وما عليه إلا أن يبلغ ما له نفعٌ في قبولكم، ولا عليه ضررٌ في توليكم. والبلاغ: بمعنى التبليغ، كالأداء: بمعنى التأدية. ومعنى {الْمُبِينُ} : كونه مقروناً بالآيات والمعجزات.
[{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فما يضرونك شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، على الماضي والغيبة في {تَوَلَّوْا} فصرف الكلام إلى المضارع، والخطاب في تتولوا بحذف إحدى التاءين، بمعنى فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم لتكون المواجهة بالخطاب أبلغ في تبكيتهم، ولما لم يكن هذا التفاتاً محضاً، لأن الالتفات هو: الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث إلى الأخرى، بل هو عدولٌ من صيغةٍ إلى صيغة، قال أولاً:"صرف الكلام" وثانياً: "على طريقة الالتفات"، ونحو هذا المعنى مر في البقرة عند قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة: 214]، وفي كلام الواحدي ما يؤيد هذا التقرير، والله تعالى أعلم.
قوله: (من الخروج عن الضلالة): بيانٌ لـ "نصيبكم"، ولولا البيان لكان "نصيبكم" استعارةً على الخروج من الضلالة إلى الهدى، وقوله:"أحرزتم" حينئذٍ كالترشيح لهذا التشبيه، شبه هذا المعنى بالنصب الوافي من أنصباء القداح، وهو المعلى، كأنه قيل: أحرزتم القدح المعلى.
خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 55].
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه. و {مِنْكُمْ} : للبيان، كالتي في آخر سورة الفتح. وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورثهم الأرض، ويجعلهم فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و {مِنْكُمْ}: للبيان، كالتي في آخر سورة الفتح)، يعني: في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. وقلت: الظاهر أن الخطاب عامٌ، و"من" للتبعيض كما مر في قوله تعالى:{لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [المائدة: 73] في أحد وجهيه، نص عليه في موضعه، وذلك أن قوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} إلى آخر قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وسطٌ بين المعطوف وهو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} والمعطوف عليه وهو قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} على ما قدره كالاعتراض لما سبق أن أصل الكلام: قل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تخف معرتهم، فينبغي أن يجري الكل على سننٍ واحد، وأن يقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تعرضوا عن طاعتهما فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله تعالى، وإن أطعتموهما تهتدوا. ثم بين ما للمهتدين منهم بقوله:{وَعَدَ اللَّهُ} إلى آخره، أي: أحرزتم نصيبكم في الدنيا والعقبى، أما في الدنيا فإن الله وعد الذين آمنوا منكم، أي: الذين اعتصموا بحبل الله والتزموا صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين وإبدال الخوف بالأمن. وأما في العقبى فإن من عمل الصالحات من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول، فإن الله سوف يرحمه رحمةً مطلقةً لا يكتنه كنهها ولا يقادر قدرها، ولهذه الفائدة أخر المعطوف عن المعطوف عليه.
فإن قلت: هل في توسيط {مِنْكُمْ} بين {آَمَنُوا} {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هنا، وفي تأخيره عنهما في الفتح من فائدة؟ قلت- والعلم عند الله-: التأخير دل على أن وعد الله تعالى بالمغفرة والأجر العظيم مسببان عن أيمانهم المقارن بالأعمال الصالحات معاً، لأن الاتصاف
خلفاء، كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة، وأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالإيمان والعمل الصالح في الظاهر مناسبٌ لأن يكون علةً للمغفرة والأجر العظيم، وتوسيطه دل على أن الإيمان هو الأصل في الاعتبار، وأن الأعمال كالتابعة له، فتأثير العمل الصالح في الاستخلاف دون تأثيره في إثبات المغفرة والأجر العظيم، ونحوه في الاعتبار قوله تعالى:{إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] أخر إسماعيل عن المفعول، ليدل على أن إبراهيم عليه السلام كان الأصل في العمل، وإسماعيل عليه السلام كالتابع له، ولو قدمه لم يكن كذلك. ومن ثم اختلف العلماء، قال الإمام: جمهور الفقهاء والمتكلمين اتفقوا على أن الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أن الفسق الطارئ هل يبطل الإمامة أولاً؟
قلت: والذي عليه الأحاديث الصحيحة: لا، روينا عن مسلم والترمذي، عن وائل ابن حجرٍ قال: سأل سلمة بن يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقناً، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثالثة، فجذبه الأشعث فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم".
وعن مسلم والدرامي عن عوف بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألا ومن ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فيكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من الطاعة"، فعلى هذا لا يجوز الطعن في الخلفاء بعد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم.
قوله: (حين أورثهم مصر)، إشارةٌ إلى قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا
يمكن الدين المرتضى، وهو دين الإسلام، وتمكينه: تثبيته وتوطيده، وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه، وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه، حتى قال رجل: ما يأتي علينا يومٌ نأمن فيه ونضع السلاح؟ ! فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديدة"، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] يريد جهات أرض مصر الشرقية والغربية.
قوله: (وتوطيده)، الجوهري: وطدت الشيء أطده وطداً، أي: أثبته وثقلته، والتوطيد مثله.
قوله: (وأن يؤمن سربهم)، النهاية: يقال: فلانٌ آمنٌ في سربه- بالكسر- أي: نفسه. وفلانٌ واسع السرب، أي: رخي البال، وفي الحديث:"من أصبح آمناً في سربه"، ويروى بالفتح، وهو المسلك والطريق.
قوله: (لا تغبرون)، الجوهري: غبر الشيء يغبر، أي: بقي، والغابر: الباقي. والغابر: الماضي، وهو من الأضداد.
قوله: (محتبياً ليس فيه حديدة)، عبارةٌ عن غاية الأمن ورخاء البال. الحبو: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب ويجمعها مع ظهره، ويشده عليها، والحديث المشهور عن عدى في هذا المعنى يشهد له قوله:"بعد"، أي بعد فتح جزيرة العرب بلاد المشرق والمغرب.
ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الخلافة بعدي ثلاثون سنةً، ثم يملك الله من يشاء الله من يشاء فتصير ملكاً، ثم تصير بزيرى: قطع سبيل، وسفك دماء، وأخذ أموالٍ بغير حقها". وقرئ: (: ما استخلف) على البناء للمفعول، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بالتشديد.
فإن قلت: أين القسم المتلقي باللام والنون في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ؟ قلت: هو محذوف، تقديره: وعدهم الله، وأقسم ليستخلفنهم، أو: نزل وعد الله في تحققه بمنزلة القسم، فتلقي بما يتلقى به القسم، كأنه: أقسم الله ليستخلفنهم. فإن قلت: ما محل {يَعْبُدُونَنِي} ؟ قلت: إن جعلته استئنافاً: لم يكن له محل، كأن قائلاً قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون! فقال: يعبدونني. وإن جعلته حالًا عن وعدهم، أي: وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم: فمحله النصب. {وَمَنْ كَفَرَ} : يريد كفران النعمة، كقوله:{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112]. {فَأُولَئِكَ هُمُ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم تصير بزيزى)، النهاية: وفي حديث أبي عبيدة: أنه "سيكون نبوةٌ ورحمةٌ كذا وكذا، ثم يكون بزيزى وأخذ أموالٍ بغير حق"، والبزيزى بكسر الباء وتشديد الزاي الأولى والقصر: السلب والتغلب، من بزه ثيابه وابتزه: إذا سلبه إياها، و"قطع سبيل" نصبٌ، إما عطف بيانٍ لقوله:"بزيزى" أو بدلٌ منه. ونحوه رواه الإمام أحمد بن حنبل عن سفينة، وليس في روايته "بزيزى".
قوله: (هو محذوفٌ تقديره: وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم)، قال الزجاج: إنما جاءت اللام لأن: وعدته بكذا أو كذا، ووعدته لأكرمنه، بمنزلة: قلت، لأن الوعد لا ينعقد إلا بقول.
الْفَاسِقُونَ} أي: هم الكاملون في فسقهم، حيث كفروا تلك النعمة العظيمة وجسروا على غمطها. فإن قلت: هل في هذه الآية دليلٌ على أمر الخلفاء الراشدين؟ قلت: أوضح دليل وأبينه، لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجسروا على عظمها)، أي: اجترأوا على تحقيرها وازدرائها.
قوله: (لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم)، والظاهر أن "هم" الأول فصلٌ، والثاني خبر "إن" فيفيد تخصيص المسند بالمسند إليه، أي: هذه الأوصاف منحصرةٌ فيهم، ومختصةٌ بهم لا تتعدى إلى غيرهم. ولعمري هم الذين اقتبسوا الدين والتقوى والتقوى من مشكاة النبوة، وكل الناس عيالهم فيه، ومنهم انتشر نور الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وهم الذين يستحقون أن يقال فيهم:
هم القوم كل القوم للدين والتقى
…
وناهيك بالقوم الذين هم هم
أي: هم الأخيار والأشراف كما عرفت. كقول الحريري:
قد باعت الأسباط قبـ
…
لي يوسفاً وهم هم
وقد يجيء للذم، قال:
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع
…
فقلت- وأنكرت الوجوه- هم هم
أي: هم الأعداء. رفوني: أي: سكنوني بعدم الخوف.
قال الإمام: وجه الاستدلال أن هذا خطابٌ مع جماعة الحاضرين في حضرة الرسالة صلوات الله على صاحبها بإيصال الخلافة إليهم، وأن يمكن لهم دينهم المرضي، وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ولا يمكن حمل هذا إلا على هؤلاء الربعة، لأن من ادعى الروافض إمامته ما كانوا متمكنين من إظهار دينهم وما زال الخوف عنهم، بل كانوا أبداً في التقية والخوف،
[{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 56].
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} معطوفٌ على {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]، وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصلٌ وإن طال، لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. وكررت طاعة الرسول، تأكيداً لوجوبها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فوجب حملها على ما ذكرنا، لأنهم كانوا عندنا متمكنين من إظهار دينهم غير خائفين.
وقال: وفيه دليلٌ على صحة النبوة بالإخبار عن الغيب على ما هو به، وخلافة الخلفاء الراشدين، إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه، أي: العمل الصالح لغيرهم بالإجماع.
قوله: (وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصلٌ
…
، لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه)، أي: الحق المغايرة، لا أن لا يقع بينهما فاصل. وقال صاحب " التقرير": لأن طول الفصل يحقق المغايرة المطلوبة والمعطوف عليه، يريد أن الواجب أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه المغايرة، وعند القرب لا يتحقق ذلك، فإن المجاورة مظنة الاتصال بخلاف المضاف والمضاف إليه، فإن شدة اتصالهما مانعةٌ من دخول فصلٍ بينهما، ولهذا تكلموا في قراءة ابن عامر:{قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] بنصب الأولاد وجر الشركاء، على أن للفصل والتأخير فوائد، منها: الإشعار بأن الجملة المتخللة وهو {وَعَدَ اللَّهُ} الآية، مما هو يهتم بشأنه، وأنها متصلةٌ بما يتعلق بالمعطوف عليه وهو {فَإِنْ تَوَلَّوْا} كما سبق. قال القاضي: ولا يبعد عطف ذلك على {أَطِيعُوا اللَّهَ} ، فإن الفاصل وعدٌ على المأمور به.
ومنها: أن في تأخير المعطوف عن قوله: {وَعَدَ اللَّهُ} إعلاماً بنوع اتصالٍ به، وبيانه ما مر أيضاً، وهو: إن أطعتم وآمنتم فقد أحرزتم نصيبكم في الدنيا والعقبى.
[{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَاوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 57].
وقرئ: (لا يحسبن) بالياء، وفيه أوجه: أن يكون {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} هما المفعولان. والمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك. وهذا معنًى قويٌ جيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها: التوكيد، لأنه لو لم يؤخر لم يحتج إلى إناطة أطيعوا الرسول به، فإنه على منوال قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119].
ومنها: الإيذان بشرف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومحلهما عند الله، وأنهما أما العبادات، وبعدهما مرتبةً عن سائر العبادات والطاعات، لأن العطف من باب عطف جبريل على الملائكة، ومن ثم رتب الأول بقوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا} وعلى الثاني بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
قوله: (وقرئ: "لا يحسبن" بالياء)، ابن عامرٍ وحمزة، والباقون: بالتاء الفوقانية.
قوله: (هما المفعولان)، أحدهما أحداً، معجزين. وثانيهما: الأرض لتقدير الاستقرار، وإنما جاز وصف أحداً بالجمع وإيقاعه موقع المبتدأ، لكونه نكرةً في سياق النفي، كقوله تعالى:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] صفةً لأحد، لأنه عامٌ، وعلى الثاني والثالث:{فِي الْأَرْضِ} لغو {مُعْجِزِينَ} .
قوله: (وهذا معنى قويٌ جيد)، وفيه التفاتان، لأنه تعالى لما التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} على ما سبق، عاد إلى الغيبة وإقامة المظهر موضع المضمر، أي: لا يحسبن البعداء من الذين كفروا بنزع طاعة الله ورسوله عن عنقهم أحداً يحميهم في الأرض من الاستئصال حتى
وأن يكون فيه ضمير الرسول، لتقدم ذكره في قوله:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيءٍ واحد، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، وعطف قوله:{وَمَاوَاهُمُ النَّارُ} على {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ} ، كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله، ومأواهم النار. والمراد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يطمعوا في مثل ذلك، فإن الله لا يعجزه أحدٌ، فيقهرهم في الدنيا بالاستئصال، ويخزيهم في الآخرة بعذاب النار. وينصر هذا التأويل قوله:"والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم"، وأما أن الوجه الأول أحسن من الثاني، وهم أن يكون فاعل "يحسبن" رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتقدم ذكره في قوله:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، فلأنه على هذا لا يحسن ذلك الحسن، إذا قيل: التفاتٌ من خطابهم بقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إلى الغيبة في قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بمعنى: أن أولئك البعداء إنما يمتنعون عن الطاعة لما حسبوا أن لهم ناصراً ينصرهم ويمنعهم من عذابنا حين لم يطيعونا، وأما كونه أقوى منه، فإن نفي الحسبان وإثبات العجز لهم على سبيل الكناية، كما قال:"لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك" أقوى من نفي الحسبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثبات العجز لهم تصريحاً.
وأما كونه أحسن من الثالث، فلأن نفي الحسبان وإثبات العجز لهم تصريحاً أحط من إثبات العجز لهم كنايةً. وأما كونه أقوى منه، فلأنه لا يحتاج حينئذٍ إلى حذف أحد المفعولين من باب حسبت، وإلى العذر بجوازه كما قال، لأنه ضعيف.
قوله: (وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا)، قال الزجاج: المعنى: لا يحسبن الذين كفروا إياهم معجزين، كما تقول: زيدٌ حسبته قائماً، تريد: حسب زيدٌ نفسه قائماً، وهذا في باب ظننت تطرح فيه النفس، يقال: ظننتني أفعل، ولا يقال: ظننت نفسي أفعل، ولا يجوز ضربتني، ليستغنى عنها بضربت بنفسي.
قوله: (وعطف قوله: {وَمَاوَاهُمُ النَّارُ} على {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، والظاهر
بهم: المقسمون جهد أيمانهم.
[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَاذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 58].
أمر بأن يستأذن العبيد. وقيل: العبيد والإماء والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} في اليوم والليلة: قبل صلاة الفجر، لأنه وقت قيامٍ من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة، وبالظهيرة، لأنها وقت وضع الثياب للقائلة، وبعد صلاة العشاء، لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاق بثياب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يصح عطف الإخباري على الإنشائي، ولهذا أوله وقال:"كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار"، وقال صاحب النظم: الثاني معطوفٌ على مضمر، أي لا يحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل مقدورٌ عليهم ومحاسبون ومأواهم النار، هذا يقرب إلى ما قدرناه فيه فيقهرهم في الدنيا بالاستئصال، ويخزيهم في الآخرة بعذاب النار.
قوله: (أمر بأن يستأذن العبيد)، قال القاضي:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَاذِنْكُمُ} رجوعٌ إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام، وغيرها، والوعد عليها، والوعيد عن الإعراض عنها، والمراد به خطاب الرجال والنساء، غلب فيه الرجال، وليس في قوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ما ينافي قوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] فينسخه، لأنه في الصبيان والمماليك، وذلك في الأحرار البالغين.
النوم. وسمى كل واحدة من هذه الأحوال عورةً، لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها.
والعورة: الخلل. ومنها: أعور الفارس، وأعور المكان، والأعور: المختل العين. ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات، وبين وجه العذر في قوله:{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} يعني: أن بكم وبهم حاجةً إلى المخالطة والمداخلة: يطوفون عليكم للخدمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأعور الفارس)، وهو إذا بدا فيه موضع خلل الضرب قال:
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا
الراغب: العورة: سوءة الإنسان، وذلك كنايةٌ، وأصله من العار، لما يلحق في ظهوره من العار، أي: المذمة، ولذلك سمي النساء عورةً، ومن ذلك: العوراء: للكلمة القبيحة، وعورت عينه عوراً، وعارت عينه عورًا وعورتها، وعنه استعير: عورت البئر، وقيل للغراب: أعور لحدة نظره وذلك لعكس المعنى، لذلك قال الشاعر:
وصحاح العيون يدعون عورا
والعور والعورة: شقٌ في الشيء، كالثوب والبيت ونحوه، قال تعالى:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] أي: متخرقةٍ ممكنة لمن أرادها، ومنه يقال: فلانٌ يحفظ عورته، أي: خلله، وقوله تعالى:{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي: نصف النهار، وآخر النهار، وبعد العشاء الآخرة. وقوله:{الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي: لم يبلغوا الحلم والمعاورة.
قوله: (وبين وجه العذر في قوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} ، قال القاضي: أي: هم طوافون، وهو استئنافٌ لبيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة، وفيه
وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت، لأدى إلى الحرج. وروي: أن مدلج بن عمروٍ- وكان غلاماً أنصارياً- أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهر إلى عمر رضي الله عنه ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم، وقد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية.
وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبي مرشد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليلٌ على تعليل الأحكام.
قوله: (نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا)، قيل:"لا" مزيدةٌ لتأكيد النهي، كقوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] حملهم على ذلك أن عدم الدخول لا يجوز أن يكون منهياً، والمنهي الدخول، ومن ثم طرحها صاحب "المطلع" وقال: أن يدخلوا علينا.
قلت: الوجه أن يقدر مضافاً ويكون مفعولاً له لقوله: "نهى آباءنا"، أي: لوددت أن الله عز وجل نهى هؤلاء عما هم عليه من الفعل القبيح إرادة أن لا يدخلوا علينا إلا بالإذن، ويجوز أن يكون مفعولاً له لقوله: لوددت، على تقدير اللام، يعني: لوددت أن ينهى لئلا يدخلوا علينا إلا بإذن، وحذف اللام مع "أن" جائز، وإن لم يكن فعلًا لفاعل الفعل المعلل، بخلافه في غيرها.
قوله: (نزلت في أسماء بنت [أبي] مرثد)، بالثاء المثلثة، ويروى:"أبي مرشد" بالشين المعجمة، وفي "الاستيعاب" بالشين المعجمة.
قالت: إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحافٍ واحد. وقيل: دخل عليها غلامٌ لها كبير في وقتٍ كرهت دخوله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالٍ نكرها. وعن أبي عمرٍو: (الحلم) بالسكون. وقرئ: "ثلاث عوراتٍ) بالنصب بدلاً عن {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ، أي: أوقات ثلاث عورات. وعن الأعمش: (عورات) على لغة هذيل.
فإن قلت: ما محل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} ؟ قلت: إذا رفعت {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} كان ذلك في محل الرفع على الوصف. المعنى: هن ثلاث عورات مخصوصةٌ بالاستئذان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "ثلاث عورات" بالنصب)، حمزة والكسائي وأبو بكر، والباقون: بالرفع.
قوله: (أي: أوقات ثلاث عورات)، روى صاحب "المطلع"، عن صاحب النظم:{ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} بمعنى: ثلاثة أوقات، لأنها لو كانت على ظاهرها لوجب أن يكون الأمر واقعاً على ثلاث دفعات، فإذا جاوزها ارتفع الأمر، فيجوز الدخول بعدها، ويدل على أن المراد الأوقات قوله تعالى:{مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} فإنها مفسرةٌ لقوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} .
قوله: (وعن الأعمش: "عورات"، على لغة هذيل)، قالوا: إن كل "فعلةٍ" إذا كانت ساكنة الحشو صحيحةً تحرك في الجمع عينها إذا كانت اسماً، وإن كانت صفةً فتسكن، وإن كان عينها معتلًا فتسكن أيضاً، اسماً كان أو صفةً، إلا على مذهب هذيل، فإنهم يحركونها.
وقال الزجاج: والإسكان أكثر، لثقل الحركة على الواو، يقال: طلحةٌ وطلحات، وجمرةٌ وجمرات، ويجوز في لوزة: لوزاتٌ، والأجود بالسكون.
وإذا نصبت لم يكن له محل، وكان كلاماً مقرراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإذا نصبت- أي: "ثلاث عوراتٍ"- لم يكن له محل)، فإن قلت: ما هذا الاختصاص؟ لم لا يجوز أن يكون محل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} نصباً على أن يكون وصفاً لـ "ثلاث عوراتٍ"، وهو بدلٌ من {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} وأن يكون جملةً مؤكدةً إذا قدر: هن {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} ، على الابتداء والخبر؟ قلت: لهذا السؤال تصدى صاحب "التقريب" للتقرير بأن قال: إن حكم رفع الحرج وراءها مقصودٌ في نفسه، فإذا وصف به "ثلاث عوراتٍ" نصباً، وهو بدلٌ من {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} كان التقدير: ليستأذنكم في ثلاث عوراتٍ مخصوصةٍ بالاستئذان، ويدفعه وجوهٌ مستفادةٌ من علم المعاني، أحدها: اشتراط تقدم علم السامع بالوصف، وهو منتف، إذ لم يعلمه إلا من هذا. وثانيها: جعل الحكم المقصود وصفاً للظرف، فيصير غير مقصود. وثالثها: أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصلٌ وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف، فيضع الوصف. وأما إذا وصف المرفوع به فيزول الروافع، لأنه ابتداء تعليم، أي: هن ثلاث عوراتٍ مخصوصةٍ بالاستئذان، وصفةٌ للخبر لا للظرف، ولم يتقيد أمر الاستئذان به، فليتأمل فإنه دقيقٌ جليل. تم كلامه.
وقلت: الذي عندي- والله أعلم-: أن {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} إذا قرئ مرفوعاً كان خبر مبتدأٍ محذوفٍ، والجملة مقررةٌ لمعنى ما سبق فيصح جعل قوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} صفةً، لأن الجملة كما هي برمتها كلامٌ مقررٌ لمعنى ما سبق على طريقة الطرد والعكس لدلالة الكلام الأول على الأمر بالاستئذان في الأوقات المخصوصة بالمنطوق، ودلالة هذا الكلام عليه بالمفهوم، لأن رفع الجناح في غير هذه الأوقات يؤذن بثبوت الجناح في تلك الأوقات، وإليه الإشارة بقوله:"هن ثلاث عوراتٍ مخصوصةٍ بالاستئذان"، وإذا جعل "ثلاث عوراتٍ" وحده بدلاً من قوله:{ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ظرفاً مثله مبيناً لما قصد فيه من المعنى، وهو إظهار كمال الكراهة في الدخول بغير الاستئذان، لأن لفظ {عَوْرَاتٍ} أدل في الكراهة من السابق، نحوه قال الشاعر:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
…
وإلا فكن في السر والجهل مسلما
خاصةً. فإن قلت: بم ارتفع {بَعْضُكُمْ} ؟ قلت: بالابتداء، وخبره {عَلَى بَعْضٍ} ، على معنى: طائفٌ على بعض، وحذف، لأن {طَوَّافُونَ} يدل عليه. ويجوز أن يرتفع بـ "يطوف" مضمراً لتلك الدلالة.
[{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَاذِنُوا كَمَا اسْتَاذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 56].
{الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} أي: من الأحرار دون المماليك. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : يريد:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجاء قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} مقرراً لذلك بالمفهوم صح واستقام وحصل أيضاً الطرد والعكس، وإليه أشار بقوله:"وكان كلاماً مقرراً للأمر بالاستئذان"، وأما إذا وصف المبدل بقوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ولا ارتياب أن الصفة المخصصة مبينةٌ للمراد من الموصوف، فيكون المقصود من إجراء الكلام رفع الحرج من الدخول في غير الأوقات المذكورة، لا الأمر بالاستئذان في الأوقات المخصوصة، لأن البدل هو المقصود بالذكر، وكان خلفاً من القول، لأن المقصود الأولى: الاستئذان في الأوقات المخصوصة، ورفع الحرج في غير الأوقات تابعٌ له، لقول عمر رضي الله عنه: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزلت عليه هذه الآيات، فظهر من هذا أن تأسيس صاحب "التقريب" كلامه على قوله:"أن حكم رفع الحرج مقصودٌ في نفسه" ضعيفٌ، وبناءه عليه الوجوه واهٍ. والله أعلم.
قوله: ({الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} أي: من الأحرار دون المماليك)، يريد {مِنْكُمُ} للبيان، فإن الأطفال يشمل الأحرار والمماليك فبين بقوله:{مِنْكُمُ} ليختص بالأحرار، يدل عليه قوله تعالى:{لِيَسْتَاذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} ويحتمل أن تكون اتصاليةً، قال القاضي: واستدل به من أوجب الاستئذان للعبد البالغ على سيدته، وجوابه: أن المراد بهم: المعهودون الذين جعلوا قسيماً للمماليك فلا يندرجون فيهم.
الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وهم الرجال، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا} الآية [النور: 27]، والمعنى: أن الأطفال مأذونٌ لهم في الدخول بغير إذنٍ إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك، ثم خرجوا من حد الطفولة بأن يحتملوا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كما الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن. وهذا مما الناس منه في غفلة، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن عباس: آيةٌ لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لأمر جارتي أن تستأذن علي. وسأل عطاء: أأستأذن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذكروا من قبلهم)، يعني: لابد للظرف الذي وقع صلةً للذين من متعلق، فإذا جعلت القرينة قوله: وإذا بلغ الأطفال، فالمعنى: الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وإذا جعلت سياق الآيات فالمعنى: الذين ذكروا من قبلهم، أي: في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا .... } [النور: 58].
قوله: (أن يفطموا)، الأساس: ومن المجاز: فطمته عن عادة السوء، ولأفطمنك عما أنت عليه. وفي الحديث" "الإمارة حلوة الرضاع مرة الفطام".
قوله: (وإني لآمر جارتي)، أي: زوجتي. الجوهري: امرأة الرجل: جارته، قال الأعشى:
أجارتنا بيني فإنك طالقه
وتمامه:
فإن أمور الناس غادٍ وطارقه
على أختي؟ قال: نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الآية. وعنه: ثلاث آياتٍ جحدهن الناس: الإذن كله، وقوله:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فقال ناس: أعظمكم بيتاً، وقوله:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8]. وعن ابن مسعود: عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم.
وعن الشعبي: ليست منسوخةً، فقيل له: إن الناس لا يعملون بها، فقال: الله المستعان. وعن سعيد بن جبير: يقولون: هي منسوخة، ولا والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها. فإن قلت: ما السن التي يحكم فيها بالبلوغ؟ قلت: قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أعظمكم بيتاً)، النهاية: بيت الرجل: داره وقصره وشرفه، قال العباس رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
حتى احتوى بيتك المهيمن من
…
خندق علياء تحتها النطق
أراد شرفه في أعلى خندق بيتاً، والمهيمن: الشاهد، أي: الشاهد بفضلك، والنطق: جمع نطاق، وهي أعراضٌ من جبالٍ بعضها فوق بعض، أي: نواح وأوساطٌ منها، شبهت بالنطق التي يشد بها أوساط الناس ضربه مثلاً في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال، يقول: حتى احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكانٍ من نسب خندق.
قوله: (الله المستعان)، وهي كنايةٌ عن عجزه عن إقامة المعروف والنهي عن المنكر، لتغير الزمان وفساد الإخوان.
أبو حنيفة: ثماني عشرة سنةً في الغلام، وسبع عشرة في الجارية، وعامة العلماء على خمس عشرة فيهما. وعن علي رضي الله عنه: أنه كان يعتبر القامة، ويقدره بخمسة أشبار، وبه أخذ الفرزدق في قوله:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره
…
وسما فأدرك خمسة الأشبار
واعتبر غيره الإنبات.
وعن عثمان رضي الله عنه: أنه سئل عن غلام، فقال: هل اخضر إزاره؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما زال مذ عقدت يداه)، البيت، يرثي الفرزدق يزيد بن المهلب. وسما: أي: علا وبلغ. الرفعة.
وأدرك أي: لحق، ويحتمل أن يراد بخمسة الأشبار: ارتفاع قامته، وأن يراد بها القبر.
قال:
عجباً لأربع أذرع في خمسةٍ
…
في جوفه جبلٌ أشم كبير
يقول: لم يزل مذ عقد إزاره، أي: بلغ سن التمييز، ولبس السراويل إلى أن ارتفع، وبلغ مبلغ الرجال، أو إلى أن مات ودفن في خمسة أشبارٍ من الأرض، كان أميراً، والاستشهاد على المعنى الأول، وبعده:
يدني خوافق من خوافق تلتقي
…
في ظل معتبط الغبار مثار
الخوافق: الرايات، وإنما يريد به: كان يقود الجيوش إلى الجيوش ويحضر الحروب، ومعتبط الغبار: يريد مكاناً لما يقاتل فيه قبله، ولم ينزله غبارٌ حتى أثاره.
قوله: (هل اخضر إزاره؟ )، أي: نبت شعر عانته؟ أسند الاخضرار إلى الإزار على المجاز، لأنه مما اشتمل عليه الإزار.
[{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 60].
القاعد: التي قعدت عن الحيض والولد، لكبرها. {لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}: لا يطمعن فيه. والمراد بالثياب: الثياب الظاهرة، كالملحفة والجلباب: الذي فوق الخمار، {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}: غير مظهرات زينةً، يريد: الزينة الخفية التي أرادها في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31]، أو: غير قاصداتٍ بالوضع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (القاعد: التي قعدت عن الحيض)، الأساس: قعد عن الأمر: تركه، وقعد له: اهتم به، ونخلةٌ قاعدة: لم تحمل. قال ابن السكيت رحمه الله تعالى: لم تدخلها الهاء لاختصاصها بالمرأة، فإذا أردت القعود بمعنى الجلوس قلت: قاعدةٌ، وقيل: القاعد: على طريق النسبة، كالحائض والطامث، وجمعت على فواعل، لأن التاء مقدرةٌ فيها، لأن الصفة إذا كانت مدكرةً لا تجمع على فواعل، والفوارس: شاذ.
قوله: (والجلباب: الذي فوق الخمار)، النهاية: الجلباب: الإزار والرداء، وقيل: الملحفة، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها، وجمعه جلابيب.
قوله: (يريد: الزينة الخفية التي أرادها في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، قلت: فعلى هذا التعريف متعين ليشير به إلى ما عهد، لكن هذا مطلقٌ وذاك مقيد، فيحمل المطلق على المقيد إذا كان عن سببٍ واحدٍ ليصح ما قال.
ومعنى {مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} : قاصداتٌ بالوضع التبرج، على تضمين التبرج معنى القصد بوساطة الباء، فحينئذٍ يكون معناه: غير قاصداتٍ بالوضع إظهار ما يجب إخفاؤه من الزينة فيتفق المعنيان.
الانتصاف: لم يذكر الزمخشري أن هذا التركيب من أي بابٍ هو؟ وعندي أنه من باب:
على لا حبٍ لا يهتدى بمناره
التبرج، ولكن التخفف إذا احتجن إليه. والاستعفاف من الوضع خيرٌ لهن. لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب، بعثاً منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها، كقوله:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280]. فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت: تكلف إظهار إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارج: لا غطاء عليها. والبرج: سعة العين، يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. وبدا وبرز بمعنى: ظهر، من أخوات: تبرج وتبلج، كذلك.
[{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَاكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَاكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 61].
كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهن وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبةٌ في ذلك، وخافوا أن يلحقهم فيه حرج، وكرهوا أن يكون أكلاً بغير حقٍّ، لقوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: لا منار فيه فيهتدى به. كذا هاهنا لا زينة لهن فيتبرجن بها، وإذا كان استعفاف هؤلاء خيراً لهن فما ظنك بذوات الزينة؟ وأبلغ من ذلك جعله عدم وضع الثياب من القواعد من الاستعفاف، إيذاناً بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد، فكيف بالكواعب؟ وقلت: وهذا معنى حسنٌ دقيق.
تعالى: {وَلَا تأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، فقيل لهم: ليس على الضعفاء {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} - يعني: عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين- حرجٌ في ذلك.
وعن عكرمة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة، فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. وقيل: كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومؤاكلتهم، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم، ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله وهو لا يشعر، والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحةٍ تؤذي أو جرح يبض أو أنفٍ يذن، ونحو ذلك. وقيل: كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، وكانوا يتحرجون. حكي عن الحارث بن عمرو:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يعني: عليكم وعلى من في مثل حالكم)، يريد أن أنفسكم في الآية عبارةٌ عن أمثال الرجل في عقله القرابة، كما قال:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] في الوجه.
روى محيي السنة عن مجاهدٍ: وكان أهل الزمانة يدخلون على الرجل لطلب الطعام، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت من سماه الله تعالى في هذه الآية، وكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام، ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره؟ فأنزل الله هذه الآية.
قوله: (قزازة)، الجوهري: التقزر: التنطس والتباعد من الدنس. وقد تقزز من أكل الضب وغيره، وهو رجل قز بالضم، والفتح والكسر لغات.
قوله: (أو جرحٍ يبض، أو أنفٍ يذن)، الجوهري: بض الماء يبض: إذا سال قليلاً قليلاً. الذنين: مخاطٌ يسيل من الأنف، والذنان بالضم: مثله.
أنه خرج غازياً وخلف مالك بن زيدٍ في بيته وماله، فلما رجع رآه مجهوداً، فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء، لم يحل أن آكل من مالك، فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرجٌ فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت.
وهذا كلامٌ صحيح، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرجٌ في القعود عن الغزو، ولا عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة، لالتقاء الطائفتين في أن كل واحدةٍ منهما منفيٌ عنها الحرج. ومثال هذا: أن يستفتيك مسافرٌ عن الإفطار في رمضان، وحاجٌ مفردٌ عن تقديم الحلق على النحر، فقلت: ليس على المسافر حرجٌ أن يفطر، ولا عليك يا حاج، أن تقدم على النحر. فإن قلت: هلا ذكر الأولاد! قلت: دخل ذكرهم تحت قوله: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} ، لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه. وفي الحديث:"إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه". ومعنى {مِنْ بُيُوتِكُمْ} : من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، ولأن الولد أقرب ممن عدد من القرابات، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة: كان الذي هو أقرب منهم أولى.
فإن قلت: ما معنى {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذا كلامٌ صحيح، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرجٌ في القعود عن الغزو)، أي: يصح العطف لاشتراكهما في نفي الحرج. وذلك أن من شرط العطف أن يشتركا في اتحاد تصور من تصوراتهما، يعني: في عطف قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَاكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} على {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} بعدُ، لكون رفع الحرج عن الأعمى سببه غير السبب الذي يأكل من تلك البيوت، لكن إذا نظر إلى أن الجملتين يجمعهما معنى نفي الحرج يصح العطف، روى محيي السنة عن الحسن أنه قال: نزلت رخصةً لهؤلاء في التخلف عن الجهاد. وقال: تم الكلام عند قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} ، وقوله:{وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كلامٌ منقطعٌ عما قبله.
قلت: أموال الرجل إذا كان له عليها قيمُ ووكيل يحفظها: له أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته.
وملك المفاتح: كونها في يده وحفظه. وقيل: بيوت المماليك، لأن مال العبد لمولاه. وقرئ:(مفتاحه). فإن قلت: فما معنى {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ؟ قلت: معناه: أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحداً وجمعاً، وكذلك الخليط والقطين والعدو، يحكى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أموال الرجل إذا كان له عليها قيم)، أي:"ما" عبارةٌ عن الأموال، وما وكلتم بحفظه فهو عطفٌ على "بيوت"، و"من": لابتداء الغاية، والمعنى: ليس عليكم جناحٌ أن يبتدئ أكلكم من شيءٍ تقومون بحفظه من بستانٍ أو ما أشبه، فيباح أكل ثمرة البستان ولبن الماشية.
وملك المفتاح كنايةٌ عن كون الشيء تحت يدي الشخص وتصرفه على الوجه الآتي، وهو قوله:"وقيل: بيوت المماليك"، {مَا مَلَكْتُمْ}: عطفٌ على المضاف إليه، و"ما" استعملت في العقلاء على إرادة الوصفية، وهي الملكة والمملوكية.
قوله: (وقرئ: "مفتاحه")، قال ابن جني: وهي قراءة قتادة، وهو جنسٌ وإن كان مضافاً، وقد جاء قولهم: قد منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت مصر إردبها.
قوله: (والصديق يكون واحداً وجمعاً)، أي: المراد بـ {صَدِيقِكُمْ} هنا الجمع، الانتصاف: قال الزمخشري في سر إفراده في {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101]: أفرده دون الشافعين تنبيهاً على قلة الأصدقاء، فإن الإنسان قد يحتمي له ويشفع من لا يعرفه، ويجوز أن يراد الإفراد، ويكون ذلك سره. والصديق هو: الذي يوافقك في سره وعلنه.
الجوهري: الصداقة: الخلة، والمصادقة: المخالة. رجلٌ صديق.
والقطين: الخدم، وقطين الدار: حسن السكن، وقيل: القطين: جمعٌ، مثل غازٍ وغزي، وعازبٍ وعزيب. قال زهير:
عن الحسن: أنه دخل داره وإذا حلقةٌ من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سروراً، وضحك، وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم. يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين. وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائبٌ فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك. وعن جعفر بن محمد: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن.
وعن ابن عباس: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات، فقالوا:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
…
قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل
قوله: (فتهللت أسارير وجهه)، الجوهري: السرر: جمع أسرار الكف والجبهة، وهي خطوطها، وجمع الجمع أسارير.
قوله: (وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه)، وروى حجة الإسلام في "الأحياء": جاء فتحٌ الموصلي إلى منزل أخٍ له، وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه، وأخرج حاجته، فأخبرت الجارية مولاها فقال: إن صدقت فأنت حرةٌ لوجه الله تعالى، سروراً بما فعل.
قوله: (وطرح الحشمة)، أبو زيد: حشمت الرجل وأحشمته بمعنى، وهو أن يجلس إليك فتؤذيه وتغضبه. ابن الأعرابي: حشمته: أخجلته، والاسم الحشمة، وهو الاستحياء، والغضب أيضاً.
وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك، قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل، كمن قدم إليه طعامٌ فاستأذن صاحبه في الأكل منه. {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي: مجتمعين أو متفرقين. نزلت في بني ليث بن عمرٍو من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده، فربما قد منتظراً نهاره إلى الليل، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورةً. وقيل: في قومٍ من الأنصار: إذا نزل بهم ضيفٌ لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} من هذه البيوت لتأكلوا فبدئوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابةً {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: ثابتةً بأمره، مشروعةً من لدنه. أو: لأن التسليم والتحية طلب سلامةٍ وحياةٍ للمسلم عليه والمحيي من عند الله، ووصفها بالبركة والطيب، لأنها دعوة مؤمنٍ لمؤمن يرجى بها من الله زيادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أكل ضرورةً)، تمسكاً بما روي:"شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده". والوعيد إنما يتوجه لمن باشر الخصال الثلاث دون الإفراد بالأكل، كقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] الآية. وعن بعضهم: في الآية دليلٌ على جواز المناهدة وهي المعاطاة والمناهضة، وهو أن يشتري أحدهم لحماً والآخر خبزاً. وإليه الإشارة بقوله:"وقالوا إذا دل ظاهر الحال على رضي المالك".
قوله: (أو: لأن التسليم والتحية طلب سلامة)، فعلى هذا {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} متعلقٌ بقوله:{تَحِيَّةً} صلةٌ لها، ومن ثم قال:"والمحيا من عند الله". وقال القاضي: فإنها طلبٌ للحياة، وهي من عنده. وعلى الأول كان ظرفاً مستقراً صفةً لتحية، ولهذا قال:"مشروعةً من لدنه".
الخير وطيب الرزق. وعن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين- وروي: تسع سنين- فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيءٍ كسرته: لم كسرته؟ وكنت واقفاً على رأسه أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: "ألا أعلمك ثلاث خصالٍ تنتفع بها؟ " قلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله. قال: "متى لقيت من أمتي أحداً فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين". وقالوا: إن لم يكن في البيت أحدٌ فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله. وعن ابن عباس: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وانتصب {تَحِيَّةً} بـ "سلموا"، لأنها في معنى تسليماً، كقولك: قعدت جلوساً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن أنسٍ قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين)، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، عن أنسٍ قال: خدمت النبي عشر سنين، والله ما قال لي: أفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ: لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا؟ وفي رواية لمسلم: خدمت تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب علي شيئاً قط.
قوله: (صلاة الأبرار الأوابين)، روينا عن مسلم، عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أهل قباء وهم يصلون، فقال:"صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال".
النهاية: الأوابين: جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة، وقيل: هو المطيع. ،قيل: المسبح، يريد صلاة الضحى عند ارتفاع النهار وشدة الحر. قال القاضي: كرر الله قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ} ثلاثاً لمزيد التأكيد، وتفخيم الأحكام المختتمة به، وفصل الأوليين بما هو المقتضى لذلك، وهذا بما هو المقصود منه، فقال:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: الحق والخير في الأمور.
[{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَاذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَاذَنُوكَ لِبَعْضِ شَانِهِمْ فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 62].
أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله بغير إذنه إذا كانوا معه على أمرٍ جامع، فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بـ {إِنَّمَا} ، وإيقاع "المؤمنين" مبتدأً مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كالتشبيب له)، النهاية: في حديث أم معبدٍ: فلما سمع حسان شعر الهاتف شب يجاوبه أي: ابتدأ في جوابه، من تشبيب الكتب، وهو الابتداء بها، والأخذ فيها، وليس من التشبيب في الشعر وهو ترقيقه بذكر النساء، يريد أن قوله:{آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} تمهيدٌ لقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} على طريقة: أعجبني زيدٌ وكرمه، وأصله: إنما المؤمنون الذين إذا كانوا معه، فجعله تمهيداً لهذا المعنى تفخيماً له، وتعظيماً لمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من باب الإيمان بالله ورسوله.
قوله: (وإيقاع "المؤمنين" مبتدأ)، يعني: عرف المبتدأ تعريف جنس، وأوقع الخبر معرفاً موصولاً مشتملاً على صلةٍ فيها ذكر الإيمانين على منوال:
أنا أبو النجم وشعري شعري
فالمعنى: المؤمنون هم الذين اتصفوا بما يستحقون أن يسموا مؤمنين حقاً، ولما كان ذكر الإيمان بالله ورسوله توطئةً لذكر ما بعده، رجع المعنى إلى: إنما المؤمنون: الكاملون الذين استحقوا أن يسموا مؤمنين هم: الذين إذا كانوا معه في أمرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ..
عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً، حيث أعاده على أسلوبٍ آخر، وهو قوله:{الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وضمنه شيئاً آخر، وهو: أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرض بحال المنافقين وتسللهم لواذاً. ومعنى قوله:{لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَاذِنُوهُ} : لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له؟ والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عقبه بما يزيده توكيداً [وتشديداً]، حيث أعادته على أسلوبٍ آخر)، يعني: لما أراد أن يكرر هذا المعنى توكيداً وتقريراً، أعاد المعنى وقلبه، فجعل معنى ما تضمن به المسند مسنداً إليه، وما تضمن به المسند إليه مسنداً، حيث قال:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
فأفاد الأول حصر المؤمنين في المستأذنين، والثاني عكسه، تعريضاً بحال المنافقين، وتسللهم لواذاً، كما قال:"وما اكتفى بذلك، بل أوقع أولئك خبراً، وعقبه ذكر الإيمانين، ليؤذن بأن أولئك محقوقون بأن يسموا مؤمنين لما اكتسبوا من صفة الاستئذان، واجتنبوا من التسلل الذي هو من صفة المنافقين، وإليه الإشارة بقوله: "جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين".
قوله: (ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم؟ )، يعني: لابد من قيد: "ويأذن لهم"، لأن قوله تعالى:{فَإِذَا اسْتَاذَنُوكَ} مترتبٌ عليه بالفاء، ومعلقٌ به إذنه.
قوله: (فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز)، وهو يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون إسناداً مجازياً، لأن صاحب الأمر يجمع الناس لأمره وشأنه، فوصف بصفة من هو بسببه، وثانيهما: أن يكون استعارةً مكنية، حيث شبه بإنسانٍ خطيرٍ يجمع الناس لشأنه، نحوه قيل في قوله:{وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ} .
الراغب: الجمع: ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: جمعته فاجتمع، قال تعالى:{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أي: على أمرٍ له خطرٌ اجتمع لأجله الناس، فكأن
نحو مقاتلة عدو، أو تشاورٍ في خطب مهم، أو تضام لإرهاب مخالف، أو تماسح في حلف، وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه. وقرئ:(أمرٍ جميع). وفي قوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أنه خطبٌ جليل لابد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر نفسه جمعهم، ويقال للمجموع: جمعٌ وجميعٌ وجماعةٌ، والجماع يقال في أقوام متفاوتة، وأجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جميعاً يتوصل إليه بالفكرة، نحو:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، وجميعٌ، وأجمع وأجمعون يستعمل لتأكيد الاجتماع على الأمر، وأما أجمعون فوصف به المعرفة، ولا يجوز نصبه على الحال، نحو قوله:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]، {وَاتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]، وأما جميع فقد ينصب على الحال نحو قوله:{اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، ومسجد الجامع، أي: الأمر الجامع أو الوقت الجامع، واستجمع الفرس جرياً، وضربه بجمع كفه: إذا جمع أصابعه وضربه.
قوله: (أو تماسح في حلف)، التماسح: إما باليد كالمبايعة، أو بما يؤكد به الحلف، كما روى صاحب "النهاية" أن بني عبد منافٍ أخرجت جفنةً مملوءةً طيباً فوضعتها لأحلافهم، وهم أسدٌ وزهرة وتيمٌ، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيدهم فيها، وتعاقدوا. هذا هو المراد من كلام المصنف.
قوله: (أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه)، عطفٌ على "الأمر الجامع: الذي يجمع له الناس"، وعلى هذا الناس يجتمعون له من غير تطلب، نحو الأعياد والجمعة، أو نحو نزول نازلةٍ وحادثة، ولهذا قال في الوجه الأول: "يجمع له الناس".
قوله: (وقرئ: "أمرٍ جميع")، المطلع: جميعٌ: بمعنى جامع، أو مجموعٌ له.
قوله: (وفي قوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} ، يعني: في تخصيص هذا اللفظ
ذوي رأي وقوة، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته، فمارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه، ويشعث عليه رأيه، فمن ثم غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله:{لِبَعْضِ شَانِهِمْ} . وذكر الاستغفار للمستأذنين: دليلٌ على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه. وقيل: نزلت في حفر الخندق، وكان قومٌ يتسللون بغير إذن.
وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم: يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلةٍ من النوازل ولا يتفرقون عنهم. والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام: إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن، على حسب ما اقتضاه رأيه.
[{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 63].
إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عند لأمرٍ فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي. أو: لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمى بعضكم بعضاً، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، ولا تقولوا: يا محمد، ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض والتواضع. ويحتمل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم، وفقيركم غنيكم، يسأله حاجةً فربما أجابه وربما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مدمج معنى خطر الأمر وصعوبته، لأن اجتماع أمثالهم لا يكون في أمرٍ هين، وفي تعقيب ذلك بالاستغفار تتميمٌ لمعنى الكراهة منه صلوات الله عليه في إذنه في قوله:{فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} لما عسى أن يأذن وهو غير مسامح فيه، وإليه الإشارة بقوله:"إن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب".
رده، فإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعةٌ مستجابة. {يَتَسَلَّلُونَ}: ينسلون قليلاً قليلاً. ونظير تسلل: تدرج، وتدخل.
واللواذ: الملاوذة، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا. يعني: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض. و {لِوَاذًا} حال، أي: ملاوذين. وقيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيأذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه. وقرئ:(لواذًا) بالفتح. يقال: خالفه إلى الأمر، إذا ذهب إليه دونه، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: {يَتَسَلَّلُونَ} : [ينسلون] قليلاً قليلاً)، الراغب: سل الشيء من الشيء: نزعه، كسل السيف من الغمد، وسل الشيء من البيت على سبيل السرقة، وسل الولد من الأب، ومنه قيل للولد: سليلٌ، قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]، أي: من الصفو الذي يسل من الأرض، قيل: السلالة: كنايةٌ عن النطفة تصور دونه صفو ما يحصل منه، والسل: مرضٌ ينزع به اللحم والقوة، وقد أسله الله.
قوله: (واللواذ: الملاوذة)، وأنشد صاحب "المطلع" قول الطرماح:
تلاوذ من حر كأن أواره
…
يذيب دماغ الضب، فهو خدوع
أوار الشمس والنار: حرها. خدع الضب في جحره: دخل. قال الفراء: لواذاً: مصدر لاوذ، ولو كان مصدراً للذت لكان لياذاً، كما تقول: قمت إليك قياماً وقاومتك قواماً.
الراغب: {لِوَاذًا} من قولهم لاوذ يلاوذ: إذا استتر به، أي: يستترون فيلتجؤون بغيرهم، واللوذ: ما يطيف بالجبل.
وخالفه عن الأمر، إذا صد عنه دونه.
ومعنى {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} : الذين يصدون عن أمره دون المؤمنين، وهم المنافقون، فحذف المفعول، لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (خالفه إلى الأمر)، قال: خالفته إلى الماء: إذا وردته وصدر عنه، وخالفته عن الماء: إذا صدرت عنه وورد هو.
قوله: (فحذف المفعول، لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه)، يعني:{يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} متضمنٌ معنى يصدون، ولذلك عدي بعن وصد متعد يستدعي مفعولاً به، وهو ما قدره "دون المؤمنين" وترك ذكره، لأن الغرض تقبيح أمر المخالف، وتعظيم أمر المخالف عنه، فذكر الأهم، وترك ما لا اهتمام به، فدون بمعنى: قدام، كقول الأعشى:
تريك القذى من دونه وهي دونه
والأمر واردٌ على عموم المجاز، ولذلك قال:"عن طاعته ودينه"، قال القاضي: يخالفون أمره بترك مقتضاه، ويدينون سمتاً خلاف سمته، واستدل به على أن الأمر للوجوب، فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتضٍ لأحد العذابين.
وقال ابن الحاجب: عدى {يُخَالِفُونَ} بـ "عن" لما في المخالفة من معنى التباعد والحيد، كأنه قال: الذي يحيدون عن أمره بالمخالفة، وهو أبلغ من إذا قيل: يخالفون أمره، وقد استدل به على أن الأمر يقتضي الوجوب، لما تضمنته الآية من الوعيد على المخالفة، فإن قلت: الآية متضمنةٌ للأمر بالحذر لمن يخالف، وحذر المخالف العذاب لا يفيده بعد المخالفة لحصول السبب المقتضي له، وقبلها لا يحذر عذاباً؟ قلت: المعنى:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فليحذر الذين وقعت منهم المخالفة ذلك، فيستدركوا ما فعلوه بالتوبة، والرجوع إلى الله تعالى فيكون ذلك سبباً لدفع العذاب عنهم. تم كلامه.
وقال محيي السنة في "المعالم": {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، قيل: معناه: يعرضون عن أمره، وينصرفون عنه بغير إذنه.
وقلت: هذا هو التفسير الذي عليه التعويل، ويساعد عليه النظم والتأويل، لأن الأمر حينئذ بمعنى الشأن، واحد الأمور، وبيانه: أن ما قبله حديثٌ في الأمر الجامع، وهو الأمر الذي يجمع له الناس، ومدح من لزم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذهب عنه، وذم من فارقه بغير الإذن، والاستغفار في حق من فارق بالإذن، لأن قوله تعالى:{فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} يؤذن أن القوم ثلاث فرق: المأذون في الذهاب بعد الاستئذان، والمتخلف عنه، ثم المتخلف إما أن يدوم في مجلسه ولم يذهب، وهم السابقون الكاملون، أو يتسلل لواذاً، وهم المنافقون، وقوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} مترتبٌ على القسم الثالث على سبيل الوعيد، والفعل المضارع يفيد معنى الدأب والعادة، وقد أقيم المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق علةً لاستحقاقهم فتنة الدارين.
وروى الإمام عن الأخفش، أن "عن": صلةٌ، وقال غيره: معناه: يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته، فدخلت "عن" لتضمين المخالفة معنى الإعراض، كذا في "الوسيط" و"المطلع".
وأما استدلال الأصوليين بهذه الآية على وجوب الأمر فهو إ نما يصح ويتم إذا جعل قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} تذييلاً للآيتين جميعاً، ويراد بالأمر ما يشمل
الضمير في {أَمْرِهِ} لله سبحانه، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: عن طاعته ودينه. {فِتْنَةٌ} : محنةٌ في الدنيا، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. وعن ابن عباس:{فِتْنَةٌ} : قتل. وعن عطاء: زلازل وأهوال. وعن جعفر بن محمد: يسلط عليهم سلطانٌ جائر.
[{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 64].
أدخل {قَدْ} ، ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن "قد" إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى "ربما"، فوافقت "ربما" في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
فإن تمس مهجور الفناء فربما
…
أقام به بعد الوفود وفود
ونحوه قول زهير:
أخي ثقةٍ لا تهلك الخمر ماله
…
ولكنه قد يهلك المال نائله
والمعنى: أن جميع ما في السماوات والأرض مختصةٌ به خلقاً وملكاً وعلماً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمرين معاً: الشأن، والطلب، كما آذن به كلام المصنف وأشرنا إليه. أما معنى الشأن فقد أومأ الله عز وجل إليه بقوله:{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} ، وأما معنى الطلب فقد أشير إليه بقوله:{فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} .
قوله: (فإن تمس مهجور الفناء)، البيت، الوفود: طلاب الحاجات. يقول: إن مت وصرت مهجور الساحة، فربما ازدحمت الوفود فيما مضى من حياتك على بابك.
فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟ وسينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم، وسيجازيهم حق جزائهم.
والخطاب والغيبة في قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات. ويجوز أن يكون {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} عاماً، {يُرْجَعُونَ} للمنافقين. والله أعلم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسناتٍ بعدد كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ فيما مضى وفيما بقي".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فكيف تخفى [عليه] أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟ )، هذا معنى قوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} ، وقوله:{الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} لأنه قال فيه: "وهم المنافقون"، وهذا أيضاً يقوي بيان النظم السابق.
قوله: (ويجوز أن يكون {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} عاماً)، أي: في المنافقين والمؤمنين، أما في المؤمنين وأحوالهم فمن قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، وأما في المنافقين وخبثهم فمن قوله:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، فيكون تسليةً ووعداً بالنسبة إلى المؤمنين، وتهديداً بالنسبة إلى المنافقين، وتخويفاً في الدنيا، ووعيداً في العقبى خاصاً في حق المنافقين، لأن قوله:{فَيُنَبِّئُهُمْ} يأبى أن ينزل على المؤمنين، ولذلك غير التغليب في الخطاب بأنتم إلى الغيبة في {فَيُنَبِّئُهُمْ} .
تمت السورة
والله الموفق للصواب
* * *
سورة الفرقان
مكية، سبعون وسبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 1 - 2].
البركة: كثرة الخير وزيادته. ومنها: {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف: 54]، وفيه معنيان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الفرقان
مكيةٌ، وهي سبعون وسبع آياتٍ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (البركة: كثرة الخير وزيادته)، الجوهري: البركة: النماء والزيادة، وتبارك الله، أي: بارك، مثل قاتل، وتقاتل، إلا أن "فاعل" يتعدى، و"تفاعل" لا يتعدى.
الراغب: أصل البركة: صدر البعير، وبرك البعير: ألقى بركة، واعتبر منه معنى اللزوم، وبراكاء الحرب وبروكاؤهما: للمكان الذي يلزمه الأبطال، وابتركت الدابة: وقفت وقوفاً كالبروك، وسمي محبس الماء بركةً. والبركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، سمي بذلك
تزايد خيره، وتكاثر. أو: تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. والفرقان: مصدر فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما وسمي به القرآن، لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملةً واحدة، ولكن مفروقاً، مفصولاً بين بعضه وبعضٍ في الإنزال. ألا ترى إلى قومه:{وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]؟ وقد جاء الفرق بمعناه، قال:
ومشركيٍّ كافرٍ بالفرق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك: ما فيه ذلك الخير، وقال تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء: 50] تنبيهاً على ما يفيض منه في الخيرات الإلهية. ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس، وعلى وجهٍ لا يحصى ولا ينحصر، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسةٍ: هو مبارك، وفيه بركة. ولنسبة هذه الصفة إلى جنابة الأقداس، وهل كانت من الصفات الإضافية والذاتية، قال:"تزايد خيره وتكاثر، أو: تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله". وعلى المعنى الأول يقال: تبارك الذي نزل هذا القرآن الكريم.
الفرقان: الفارق بين الحلال والحرام، الذي عمت منافعه، وعمت عوائده، ومنه قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10] وعلى الثاني يقال: تعاظم في ذاته، وتبارك في صفاته الذي نزل هذا القرآن العظيم الفرقان بين الحق والباطل، الذي بذت فصاحته نطق كل ناطق، وشقت بلاغته غبار كل سابق، ومنه قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61]، وقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]. وقال القاضي: البركة تتضمن معنى الزيادة، وترتيبه على إنزال القرآن لما فيه من كثرة الخير، أو لدلالته على تعاليه.
قوله: (ومشركي كافرٍ بالفرق)، الفرق بضم الفاء: بمعنى الفرقان، كالخُسْرِ بمعنى
وعن ابن الزبير: (على عباده)، وهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، كما قال:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} [الأنبياء: 10]، {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]. والضمير في {لِيَكُونَ} لـ {عَبْدِهِ} أو لـ {الْفُرْقَانَ} . وتعضد رجوعه إلى "الفرقان" قراءة ابن الزبير. {لِلْعَالَمِينَ} : للجن والإنس {نَذِيرًا} : منذراً، أي: مخوفاً. أو: إنذاراً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخسران، والياء في "مشركي": للنسبة، زيدت للمبالغة، كأحمري في أحمر، وقال: في ياء النسب زيادة قوةٍ في الفعل، كالخصوصية في الخصوص.
قوله: (وعن ابن الزبير: على عباده)، قال ابن جني: وجهه أن الإنزال وإن كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لما كان موصلاً له إلى العباد ومخاطباً به لهم، صار كأنه منزلٌ عليهم، ولذلك كثر فيه خطاب العباد بالأمر والنهي لهم، والترغيب والترهيب المصروف إليهم.
قوله: (وتعضد رجوعه إلى "الفرقان" قراءة ابن الزبير)، يعني:"نزل الفرقان على عباده"، لأن الضمير المفرد لا يصح عوده إلى الجمع، ولابد له من الرجوع إليه، فتعين أن يكون فرقاناً، ويعضد رجوعه إلى العبد قوله تعالى:{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا} [يس: 5 - 6].
وقلت: وفي اختصاص النذير دون البشير سلوك طريق براعة الاستهلال، والإيذان بأن هذه السورة مشتملةٌ على ذكر المعاندين المتخذين لله ولداً وشريكاً، الطاعنين في كتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا المعنى يؤيد تأويل {تَبَارَكَ} بقوله:"تزايد عن كل شيءٍ وتعالى عنه"- لإفادته صفة الجلال والهيبة- وإيذانه بتعاليه عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولذلك جعل قوله تعالى:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} توطئة وتمهيداً لقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وأردفه بقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} لما مر مراراً أن كونه بديع السموات والأرض، ومفطرهما، ومالكهما، منافٍ لاتخاذ الولد والشريك، قال الله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} الآية [الأنعام 101].
كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه قوله:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16]. {الَّذِي لَهُ} رفعٌ على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ} ، أو رفع على المدح، أو نصبٌ عليه. فإن قلت: كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت: ما فصل بينهما بشيء، لأن المبدل منه صلته {نَزَّلَ} ، و {لِيَكُونَ} تعليلٌ له، فكأن المبدل منه لم يتم إلا به. فإن قلت: في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ؟ كأنه: وقدر كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({الَّذِي لَهُ} رفعٌ على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ})، وهذا أوجه من أن يكون نصباً أو رفعاً على المدح، لأن من حق صلة الموصول أن تكون معلومةً عند المخاطب، وكونه تعالى نزل الفرقان على عبده للإنذار لم يكن معلوماً عند المعاندين، فأبدل بقوله:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بياناً وتفسيراً، وليس كذلك المدح. وقال القاضي: الجملة وإن لم تكن معلومةً، لكنها- لقوة دليلها- أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلةً.
قوله: (في الخلق معنى التقدير)، الراغب: الخلق أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في: إبداع الشيء من غير أصلٍ واحتذاء، قال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 101]، ويستعمل في: إيجاد الشيء من الشيء، نحو:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189]، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [النحل: 4]، وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله تعالى، ولهذا قال:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، وأما الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله لغيره في بعض الأحوال، قال تعالى:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وأما قوله:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] فيوهم أنه يصح أنه يوصف غيره بالخلق، ومعناه: أحسن المقدرين.
الأساس: خلق الخراز الأديم، والخياط الثوب: قدره قبل القطع، وقدر الشيء بالشيء: قاسه وجعله على مقداره. ومن المجاز: خلق الله الخلق: أوجده على تقديرٍ أوجبته الحكمة.
شيء فقدره! قلت: المعنى: أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعًى فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوانٍ وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدابير، فقدره لأمر ما ومصلحةٍ لما قدر له غير متجافٍ عنه. أو: سمي إحداث الله خلقاً، لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلا على وجه التقدير من غير تفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظرٍ إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاد لم يوجده متفاوتاً. وقيل: فجعل له غايةً ومنتهًى. ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمدٍ معلوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجواب الأول مبنيٌ على أن الخلق على الحقيقة، فالواجب أن يفسر قوله:{فَقَدَّرَهُ} بما يخالفه، وهو: ما قاله وهيأه لما يصلح له، وهو قول الزجاج: خلق الله الحيوان وقدر له ما يصلحه ويقيمه.
والثاني مفرعٌ على المجاز، وذلك أن إحداث الله تعالى الشيء لما لم يكن إلا على وجه التقدير، لأنه حكيمٌ، سمي مطلق إحداثه بالخلق لما فيه معنى التقدير. والفرق بين الوجهين: أن التقدير والتسوية على الأول مقصودٌ بذكر الخلق، وعلى الثاني غير مقصود، لكن لازمٌ له، ولذلك قال أولاً: مراعًى فيه التقدير، فالفاء على الأول: للتعقيب مع الترتيب، وعلى الثاني: للتعقيب مطلقاً، نحو قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، فإن الفاء: للتعقيب. المعنى: فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم من قبل أن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم فيكون المعنى: فتوبوا فأتبعوا التوبة القتل تتمةً لتوبتكم.
[{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} 3].
الخلق بمعنى الافتعال، كما في قوله:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17]، والمعنى: أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم، لا يقدرون على شيءٍ من أفعال الله ولا من أفعال العباد، حيث لا يفتعلون، لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير، {وَلَا يَمْلِكُونَ} أي: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضررٍ عنها أو جلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17]، قال فيه:"واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهةً وشركاء لله عز وجل، أو سمى الأصنام: إفكاً، وعملهم لها، ونحتهم: خلقاً للإفك"، يعني: مقام إنكار اتخاذ الأنداد من دون الله يقتضي تحقير شأن الأصنام، وهذا المعنى أدخل من الظاهر فيما قصد منه كما قصده الخليل عليه السلام في الآية المستشهد بها، ولما فسرت القرينة الثانية بذلك فسرت الأولى بما يشاكلها، وفيه إثبات الخالقية للعبد، وكذا في قوله تعالى:{وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} ، ولو أجراهما على الظاهر كان أبعد من التعسف، واتفقت القرائن إلى آخر الآية في النفي عنها ما هو ثابتٌ للمعبود بالحق لأن المعبود ينبغي أن يكون خالقاً ومدبراً ومثيباً ومعاقباً، ويدل على أن النفع والضر ليس إلا إلى الله قوله تعالى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، ولا يقتضي هذا المقام من المبالغة ما يقتضيه ذلك، وإن شئت فجرب التأكيدات فيه من:"إنما" و"إن" والتكرير وغيرها، فهذا مقام الشكاية، وذلك مقام التوبيخ والتقريع.
نفع إليها وهم يستطيعون، وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع التي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله أعجز.
[{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} 4].
{قَوْمٌ آَخَرُونَ} قيل: هم اليهود. وقيل: عداسٌ مولى حويطب بن عبد العزى، ويسارٌ مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي. قال ذلك النضرب بن الحارث بن عبد الدار. "جاء" و"أتى" يستعملان في معنى فعل، فيعديان تعديته، وقد يكون على معنى: وردوا ظلماً، كما تقول: جئت المكان. ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل. وظلمهم: أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور: أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه.
[{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: ما سطره المتقدمون من نحو أحاديث رستم وأسفندياذ، جمع: إسطارٍ أو أسطورة، كأحدوثة، {اكْتَتَبَهَا}: كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه: إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه. وقرئ: (اكتتبها) على البناء للمفعول، والمعنى: اكتتبها كاتبٌ له، لأنه كان أميًا لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام، فأفضى الفعل إلى الضمير، فصار اكتتبها إياه كاتبٌ، كقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقد يكون على معنى: وردوا)، أي: استعمل "جاء" بمعنى "ورد" قليلاً، ومنه: جئت المكان، أي: وردته. واختير ذلك لبلاغته ووجازته، إذ لو قيل: فقد ظلموا في ذلك وقالا قولاً زوراً، لأطال وفاتت الاستعارة، وقوله:"ويجوز أن يحذف الجار"، مشعرٌ بأن الوجه الأول مبنيٌ على التضمين، والثاني على المجاز.
ثم بني الفعل للضمير الذي هو "إياه"، فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً، وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار (اكتتبها) كما ترى. فإن قلت: كيف قيل: {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أراد اكتتابها، أو طلبه فهي تملى عليه. أو كتبت له وهو أميٌ فهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم بني الفعل للضمير الذي هو "إياه"، فانقلب مرفوعاً مستتراً)، قال صاحب "الفرائد": لقائلٍ أن يقول: إن كان قوله: "له" مفعولاً بحرف، وجب أن لا يجوز بناء الفعل له مع المفعول به المتعدى إليه بغير حرف، وإن كان مفعولاً له، وهو الوجه، لأن المعنى اكتتبها كاتبٌ له، أي: لأجله، وجب أن لا يبني له. أما الأول فلأنه قال في "المفصل":"للمفعول به المتعدى إليه بغير حرفٍ من الفضل على سائر ما لا يبنى له"، إلى آخر الفصل. وأما الثاني فلأنه قال فيه:"المفاعيل سواءٌ في صحة البناء له إلا المفعول الثاني من باب "علمت"، والثالث من باب "أعلمت"، والمفعول معه والمفعول له".
وقلت: يمكن أن يقال: إنه مفعولٌ بحرف، ولما حذف الجار أوصل الفعل، وأقيم مقام الفاعل على القلب للمبالغة، ونحوه سبق في قوله تعالى:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور: 36] في إقامة {لَهُ} مقام الفاعل. قال ابن جني: "اكتتبها": قراءة طلحة بن مصرف، وإنما هو: استكتبها، وهو على القلب، أي: استكتب له، ومثله قراءة من قرأ {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 16] أي: قدرت لهم، والقلب بابٌ وشواهد كثيرةٌ.
وأما قراءة العامة {اكْتَتَبَهَا} فمعناه: استكتبها، ولا يكون معناه: كتبها بيده، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب، وليس ممتنعاً أن يكون {اكْتَتَبَهَا} بمعنى: كتبها، لأنه على رأيه وأمره، كقولنا: ضرب الأمير اللص.
تملى عليه، أي: تلقى عليه من كتابه يتحفظها، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. وعن الحسن: أنه قول الله سبحانه يكذبهم. وإنما يستقيم أن لو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن الحسن أنه قول اله)، أي:{اكْتَتَبَهَا} قول الله عز وجل يكذبهم في نسبتهم الاكتتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإملاء أهل الكتاب، لا قول المشركين، وأورد المصنف:"وإنما يستقيم ذلك أن لو فتحت الهمزة" في {اكْتَتَبَهَا} لكنها مكسورةٌ دالةٌ على أنها همزة "افتعل" ولو كانت الاستفهام لكانت مفتوحةً، وهمزة الاستفهام إنما تحذف إذا دل عليها الدليل، نحو قوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان
ووجه تصحيح قول الحسن أن تجعل الآية على أسلوب قول جرير:
أفرح أن أرزأ الكرام
لأنه إخبارٌ في معنى التوبيخ والتقرير، ومنه قوله تعالى في الأعراف:{آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123]، قال المصنف: إنه على الإخبار، أي: فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخاً لهم وتقريعاً. وقرئ "ءآمنتم"، بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد.
أما إفادة الخبر معنى التوبيخ والتقريع، فلأن الأصل في الإخبار الساذج خلو ذهن المخاطب عن فائدة الخبر، وإذا ألقي إليه الجملة وهو عالمٌ بفائدتها تولد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام، فالله سبحانه وتعالى ما حكى كلامهم لإعلام المخاطبين فائدته، بل للتوبيخ والتقريع، فإنهم لما قالوا:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال الله تعالى حاكياً معنى
فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار. ووجهه أن يكون نحو قوله:
أفرح أن أرزأ الكرام
وحق الحسن أن يقف على {الْأَوَّلِينَ} . {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي: دائماً، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلامهم على سبيل المبالغة توبيخاً وتقريعاً: نعم صدقتم، هو أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه دائماً، كلما إذا سمعت بمن وقع فيك. أنا ذلك الفاعل الصانع، ولست تريد إعلامه بذلك، بل نقلت كلامه للتقريع والتوبيخ. أما قول جريرٍ:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن
…
أورث ذوداً شصائصاً نبلا
فلفظه إخبارٌ، ومعناه الإنكار، لانطوائه تحت حكم قول من قال له: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله؟ والذي لأجله طرح همزة الإنكار إرادة أن يصور قبح ما رزئ به، فكأنه قال: نعم مثلي يفرح برزيئة الكرام، وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائله. وهو من التسليم الذي تحته كل الإنكار.
الشصوص: الناقة القليلة اللبن. والنبل: الصغار، والنبل الكبار، وهو من الأضداد. ويقال: النبل: جمع نبيل، ككريم وكرم. والنبلة: العطية، وبعضهم ينشد بالضم على هذا المعنى. والذوذ من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهي مؤنثةٌ لا واحد لها من لفظها.
قوله: (وحق الحسن أن يقف على {الْأَوَّلِينَ} ، لاختلاف القائلين، أو لأن لتقدير الاستفهام فيه مجالاً، كقوله تعالى:{تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، و {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]، وقال صاحب "الكواشي": على المشهور لا وقف، لأن {اكْتَتَبَهَا} حالٌ، أي: أساطير مكتتبةً.
في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.
[{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 6].
أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبراءته مما تبهتونه به، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت: كيف طابق قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادرة على العقوبة)، يعني: لا يقال: رحم فلانٌ، أو غفر فلانٌ، إلا لمن له القدرة على العقوبة والانتقام، لا للعاجز الضعيف، وأ نشد لابن هانئ:
فعفوت عني عفو مقتدرٍ
…
حلت له نقمٌ فألغاها
فدل قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} على القدرة التامة الكاملة بالكناية، وأنت تعلم أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة ولا تستدعيها أيضاً. وهاهنا قامت القرينة على إرادة مجرد الاقتدار العظيم. نعم، في إيثارهما تعييرٌ لهم، ونعيٌ على فعلهم، يعني: إنكم فيما أنتم فيه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته الغفران والرحمة.
قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك المعنى لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مفقودةٌ إن تابوا، وأن رحمته واصلةٌ إليهم بعدها، وأن لا ييأسوا من رحمته بما فرط منهم مع إصرارهم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة.
أو هو تنبيهٌ على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم أنه غفورٌ رحيم يمهل ولا يعاجل.
[{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَاكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} 7 - 8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو هو تنبيهٌ على أنهم استوجبوا)، هذا الوجه أوفق لتأليف النظم، وذلك أن قوله تعالى:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} جوابٌ عن قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} ، وقولهم:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} على الأسلوب الحكيم، أي: قل يا محمد: ليس هذا من افترائي ولا هو مملى علي، بل منزلٌ من عند من يعلم السر في السموات والأرض، وما في دخلكم من الدغل والدهاء والمكر، لأنكم تعلمون علمًا يقيناً أن هذا ليس من قبيل الافتراء، ولا هو من الأساطير، لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته، وأنه تضمن أخباراً عن المغيبات، وأسراراً مكتوبةً لا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن غرضكم الصد عن سبيل الله، ومجرد العناد، ويؤيد يذلك قوله تعالى:{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} وإقحامه بين كلامهم، فسبحانه ما أرحمه وما أجله، حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالاستئصال لهذه العظيمة! فإذنه في قوله:{إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} معنى التعجب كما في قوله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} .
وقال القاضي: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ، فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها، واستحقاقكم أن يصب عليكم صباً.
وقلت: انظر أيها المتأمل في هذا الجواب الصادع، والنور الساطع، والنظم الفائق، فسبح الله تعالى عنده.
وقعت اللام في المصحف مفصولةً عن {هَذَا} خارجةً عن أوضاع الخط العربي، وخط المصحف سنة لا تغير، وفي هذا استهانةٌ وتصغير لشأنه، وتسميته بالرسول سخريةٌ منهم وطنزٌ، كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسولٌ! ونحوه قول فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، أي: إن صح أنه رسول الله فما بله حاله مثل حالنا {يَاكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد؟ ! يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش. ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك، حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقعت اللام في المصحف مفصولةً عن {هَذَا} خارجةً عن أوضاع الخط العربي)، قال شارح "الرائية": كتب {مَالِ هَذَا} في موضعين: في الكهف: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49]، وفي الفرقان:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} . أما {مَالِ الَّذِينَ} فهون في المعارج لا غير في قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المعارج: 36]، وكذلك:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 78] حرفٌ واحدٌ في النساء، جميع ذلك كتب مفصولاً من اللام، وهي لام الجر تنبيهاً على الأصل، وعلى أنه زائدٌ ليس من الكلمة، وجعل متصلاً بما ومنفصلاً مما دخل عليه، لأن ما قد اتصل بها غيرها.
وقال غيره: والأصل في ذلك أن تكتب موصولةً بما بعدها، لأنها لام الإضافة، ولا يظهر معناها إلا بما بعدها، وإنما كتبت في هذه الأحرف مقطوعةً لكثرة استعمال اللام مع "ما" التي للاستفهام، كقولهم: ما له وما لك؟ بمعنى: ما حالك وما شأنك؟ فتوهموا أن اللام من "ما" فوصولها بها، وقطعوها عما بعدها، كما قطعوا الشأن والحال عما بعدها.
يتساندا في الإنذار والتخويف. ثم نزلوا- أيضاً- فقالوا: وإن لم يكن مرفوداً بملكٍ فليكن مرفوداً بملكٍ فليكن مرفوداً بكنزٍ يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلاً له بستانٌ يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير. أو: يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. وأراد بالظالمين: إياهم بأعيانهم، وضع الظاهر موضع المضمر، ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا. وقرئ:(فيكون) بالرفع، (أو يكون له جنة) بالياء، و (نأكل)، بالنون. فإن قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مرفوداً)، الجوهري: الرفد: العطاء والصلة، والرفد بالفتح: المصدر، تقول: رفدته أرفده رافداً: أعطيته، وكذلك: إذا أعنته.
قوله: (كما الدهاقين)، "ما" هذه كافةُ ومهيئةٌ لدخول الكاف على الجملة، أي: كما الدهاقين كذلك.
قوله: (أو: يأكلون عم من ذلك)، عطفٌ على قوله:"يأكل منه"، أي: تكون له جنةٌ ينتفع هو بها بأن يأكل بعض أثمارها، ويبيع بعضها ويرتزق منها، كما تفعل الدهاقين ببساتينهم التي أرزاقهم منحصرةٌ فيها، أو: هم ينتفعون من الجنة بالأكل وبسائر معايشهم. والحاصل أنه استعمل الأكل في المنافع لأنه الغرض الأعظم منها، والوجهان مبنيان على القراءتين بالياء والنون في يأكل.
قوله: (وقرئ: "فيكون" بالرفع، "أو يكون له جنةٌ" بالياء)، وهما شاذتان، و"نأكل" بالنون: قراءة حمزة والكسائي، والباقون: بالياء. قال صاحب "الكشف": والقراءة في {أَوْ تَكُونَ} بالتاء الفوقاني، وقرئ بالياء خارج السبعة اعتداداً بالفصل، كما جاء في
ما وجها الرفع والنصب في (فيكون)؟ قلت: النصب، لأنه جواب {لَوْلَا} بمعنى "هلا"، وحكمه حكم الاستفهام، والرفع على أنه معطوفٌ على {أُنْزِلَ} ، ومحله الرفع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الأنعام والقصص في قراءة الزيات وعلي، فقرآ "من يكون" بالياء، والتحتاني، وغيرهما لم يعتد بالفصل فأنثوا لتأنيث "الجنة"، وكأنهم أرادوا التوفيق والطاعة والمطابقة.
قوله: (ومحله الرفع)، أي: محل {أُنْزِلَ} ، لأنه لو وقع موقعه المضارع لكان مرفوعاً، لأنك إنك تقول ابتداءً: لولا يقول، بالرفع، وقد عطف عليه {يُلْقَى} و {تَكُونُ} والحال أنهما مرفوعان، والعطف يمنع أن يكونا منصوبين، لكونهما في حكم المعطوف عليه، وهو مرفوعٌ لا غير. قال أبو البقاء:{أَوْ يُلْقَى} {أَوْ تَكُونُ} : معطوفٌ على {أُنْزِلَ} ، لأن {أُنْزِلَ} بمعنى: ينزل، أو:{يُلْقَى} بمعنى: ألقي.
وقال صاحب "الكشف": {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} كلاهما بالرفع لا غير، داخلٌ في التخصيص وليس بجوابٍ له.
وقلت: الوجه في قراءة "فيكون" بالرفع أن يجعل من تتمة {أُنْزِلَ} مرتباً عليه غير مستقل استقلال "ألقي" و"ويكون"، ليكون مطابقاً لقراءة النصب، وعليه المعنى، ألا ترى كيف قدر:"ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملكٌ حتى يتساندا في الإنذار" إلى آخره؟
ألا تراك تقول: لولا ينزل، بالرفع؟ وقد عطف عليه {يُلْقَى} ، و {تَكُونُ} مرفوعين، ولا يجوز النصب فيهما، لأنهما في حكم الواقع بعد {لَوْلَا} ، ولا يكون إلا مرفوعاً. والقائلون: هم كفار قريش: النضر بن الحارث، وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد، ومن ضامهم. {مَسْحُورًا}: سحر فغلب على عقله. أو: ذا سحر، وهو الرئة، عنوا أنه بشرٌ لا ملك.
[{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} 9].
{ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} أي: قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من: نبوةٍ مشتركةٍ بين إنسان وملك، وإلقاء كنزٍ عليك من السماء، وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالاً، لا يجدون قولاً يستقرون عليه. أو: فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي الرئة)، الجوهري: الرئة: السحر، مهموزٌ، ويجمع على: رئين، والهاء عوضٌ من الياء، تقول منه: رأيته، أي: أصبت رئته.
الأساس: كل ذي سحرٍ يتنفس وهو الرئة. ومن المجاز: سحره، وهو مسحورٌ، وإنما سمي السحر استعارةً، لأنه وقت إدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفس.
قوله: (أو: فضلوا عن الحق)، عطفٌ على قوله:"فبقوا متحيرين"، وعلى الأول متعلقٌ {ضَلُّوا} غير منوي، و {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} هو نفس الضلال، لأن كل من كان متحيراً لا يثبت على شيء، على الثاني: متعلق {ضَلُّوا} مقدرٌ، وهو: عن الحق، والفاء في الوجه الأول كالفاء في {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على وجه. ومن ثم لم يأت المصنف في التقدير بالفاء. وفي الثاني: للتثبيت، ولهذا صرح بها.
[(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)].
تكاثر خير (الَّذِي إِنْ شَاءَ) وهب لك في الدنيا (خَيْراً) مما قالوا، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. وقرئ:(ويجعلُ) بالرفع عطفا على (جَعَلَ)؛ لأن الشرط إذا وقع ماضيا، جاز في جزائه الجزم والرفع، كقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة)، قال السجاوندي: ولو عجل لارتفع الاختيار ولم يتبين فضل من تابع مع الفقر بحسن الاختيار.
نزل مع الآية رضوان بمفاتيح الخزائن، فنظر صلوات الله وسلامه عليه إلى جبريل عليه السلام كالمسترشد، أي: انظر ماذا يعرض علي، فظن جبريل أنها استشارةٌ، فأومى إلى الأرض، أي: تواضع، فقال صلى الله عليه وسلم:"أجوع يومين وأشبع يوماً".
وقلت: روينا في "المصابيح": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرض علي ربي ليجعل بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك". أخرجه الترمذي عن أبي أمامة، والله أعلم.
قوله: (وقرئ: "ويجعل" بالرفع)، ابن كثيرٍ وابن عامرٍ وأبو بكر، والباقون: بالجزم.
وإن أتاه خليل يوم مسألة
…
يقول: لا غائب مالي ولا حرم
ويجوز في (ويَجْعَل لَّكَ) إذا أدغمت: أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا. وقرئ بالنصب، على أنه جواب الشرط بالواو.
[(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً* إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً* لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإن أتاه خليلٌ يوم مسألةٍ)، خليلٌ: مشتقٌ من الخلة، وهي الحاجة والفقر. والحرم: الحرمان. قال أبو عبيدٍ: يقال: مالٌ حرمٌ: إذا كان لا يعطى منه. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: ارتفاع {يَجْعَل} على أنه جملةٌ معطوفةٌ على الجملة الشرطية، أي: يزيد على ما قالوا. وهذا قول الزجاج، قال: ومن رفع فعلى الاستئناف، والمعنى: سيجعل لك قصوراً، أي: سيعطيك الله أكثر مما قالوا.
قوله: (وقرئ بالنصب على أنه جواب الشرط بالواو)، قال ابن جني: قرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان: "ويجعل لك" بالنصب على أنه جواب الجزاء بالواو، كقولنا: إن تأتني آتك وأحسن إليك، وجازت إجابته بالنصب لما لم يكن واجباً إلا بوقوع الشرط من قبله، وليس قوياً مع ذلك، ألا تراه أنه بمعنى قولك: أفعل كذا إن شاء الله؟ تم كلامه. وقيل: هذا ضعيفٌ عند سيبويه، والذي جوزه شبه الجزاء بأحد الأشياء الستة في أنه معلقٌ بالشرط، وكأنه غير موجبٍ فيكون الشرط من الأشياء الستة التي تجاب بالفاء. وقيل: إنما نصب في جواب الشرط والجزاء لأنهما ليسا بواقعين حال المشارطة، فكانا كالتمني.
(بَلْ كَذَّبُوا) عطف على ما حكى عنهم، يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة. ويجوز أن يتصل بما يليه، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، فكيف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: {بَلْ كَذَّبُوا} : عطفٌ على ما حكى عنهم)، وهو قوله:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ} إلى قوله: {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} ، يدل عليه قوله:{ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} أي: قالوا فيك تلك الأقوال، إلى آخره، يعني: كذبوك، وأنكروا نبوتك فيما قالوا: مال هذا الرسول، وكذا وكذا، بل أتوا بما هو أبلغ من ذلك، وهو تكذيبهم إياي بإنكار مجيء الساعة. روينا عن البخاري، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"قال اله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك"، إلى قوله:"فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان". وعلى هذا: قوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} إلى قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} اعتراضٌ بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكدٌ لمعنى مضمون الكلام، ومسلاةٌ لقلبه صلوات الله عليه، يعني: لا تحتفل بما قالوه: لأن كل ذلك اقتراحاتٌ وعنادٌ وضلالٌ وحيرة، ألا ترى كيف تمادى تكذيبهم إلى أن كذبوا ما يلزم منه تكذيبي، لأن المقصود من إتيان الآيات النبوة وقد حصل، وأن الله تعالى قادرٌ على أن يعطيك خيراً مما اقترحوه، لكن لا ينفع ذلك فيهم شيئاً، لأنهم معاندون.
قوله: (ويجوز أن يتصل بما يليه)، وهو قوله تعالى:{إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} الآية، فعلى هذا يكون قوله تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} الآيتين، كالجواب عن قولهم:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} إلى آخره، على سبيل التعريض التوبيخي، ويكون قوله:{بَلْ كَذَّبُوا} إضراباً عن قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، يدل عليه قوله:"فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب".
قال الإمام: أجاب الله تعالى عن شبههم بوجوه، أحدها: قوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} ، وبيانه: أن الذي يميز الرسول عن غيره هو المعجزة، وهذه الأشياء
يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة؟ ! السعير: النار الشديدة الاستعار. وعن الحسن: أنه اسم من أسماء جهنم (رَأَتْهُمْ) من قولهم: دورهم تتراءى وتتناظر. ومن قوله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المذكورة لا يقدح شيءٌ منها في المعجزة، كأنه قيل: انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي فائدة فيها، لأنهم ضلوا، وأرادوا القدح في نبوتك، فلم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً.
وثانيها: قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} ، أي: من الذي ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة، وفسر الخير بقوله:{جَنَّاتٍ} فنبه بذلك على أنه تعالى قادراً على أن يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما ذكروه، لكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح، أو على وفق المشيئة، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
وثالثها: قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} لأنه قيل: ليس ما تعلقوا به شبهةً علمية، بل الذي حملهم على تكذيبك بالساعة، ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم يكذبون بالساعة فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً ولا يتحملون كلفة النظر والفكر، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل.
وأما قولهم المصنف: "وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة؟ " فمبنى على أن {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} مختصةٌ بالآخرة، وما يكون في الدنيا لا يكون إلا مشابهةً بها حتى يستتب له أن يقول:{بَلْ كَذَّبُوا} إضراباً عن قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، وفيه تعسف القول.
قوله: ({رَأَتْهُمْ}، من قولهم: دورهم تتراءى)، أي: منه في كونه استعمالاً مجازياً مثله،
"لا تراءى ناراهما"، كأن بعضها يرى بعضها على سبيل المجاز. والمعنى: إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها. وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن جهنم لا ترى كما أن النار لا ترى، فهو عبارةُ عن مسافةٍ يتمكن فيها الرائي من النظر إلى المرئي.
قوله: (لا تراءى ناراهما)، النهاية: معناه: يجب على المسلم أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالمنزل الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، وأصل تراءى: تتراءى، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، والترائي: تفاعلٌ من الرؤية، وإسناده إلى النارين مجازٌ.
وقلت: إذا جعل قوله: {رَأَتْهُمْ} مجازاً كان قوله: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} ترشيحاً.
قوله: (وشبه ذلك)، أي: صوت غليانها.
قوله: (ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانينها)، فالضمير في {رَأَتْهُمْ} للزبانية، لأن السعير يدل عليها كما أن الضمير في قوله تعالى:{فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] للميت، لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت، قال الإمام: هذا قول الجبائي، والرؤية والتغيظ عندنا يجب إجراؤهما على الظاهر، فإنه لا امتناع في أن تكون النار حيةً مغتاظة على الكفار. والمعتزلة لما جعلوا البنية شرطاً في الحياة احتاجوا إلى التأويل.
الانتصاف: لا حاجة إلى المجاز، لأن رؤية جهنم جائزةٌ، وقد تظاهرت الظواهر بوقوع هذا الجائز، نحو قوله:{تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} ، ومحاجتها مع الجنة، وقولها:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
وشهوة للانتقام منهم. الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض، وجاء في الأحاديث: أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما روي عن ابن عباس في تفسيره: أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل: قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. والثبور: الهلاك. ودعاؤه أن يقال: وا ثبوراه، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ق: 30]، و"اشتكت النار إلى ربها"، ولو فتح باب التأويل في أحوال المعاد لجر إلى مذهب الفلاسفة خذلهم الله، ونحن متعبدون بالظاهر ما لم يمنع مانع.
قوله: (وشهوةً للانتقام منهم)، يجوز أن يكون متعلقاً بقوله:"وزفروا"، على اللف والنشر، تقديره: تغيظوا غضباً على الكفار، وزفروا شهوةً للانتقام منهم. الجوهري: الزفير: اغتراق النفس للشدة. كأن الزافر عند الانتقام يلتد ويتخلص من تلك الشهوة.
قوله: (والإرهاق)، يقال: أرهقه عسراً: كلفه إياه. يقال: لا ترهقني ولا أرهقك، أي: لا تعسرني ولا أعسرك.
قوله: (يتراصون فيه)، الجوهري: رصصت الشيء أرصه رصاً: ألصقت بعضه ببعض، وتراص القوم، أي: تلاصقوا.
قوله: (في الجوامع)، الجوهري: الجامعة: الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق.
قوله: (واثبوراه)، الراغب: قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} هو أن يقول: يا لهفتاه. ويا حسرتاه! ونحو ذلك من ألفاظ التأسف، والمعنى: يحصل لهم غمومٌ كثيرةٌ.
تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك (لَّا تَدْعُوا) أي: يقال لهم ذلك: أو هم أحقاء بأن يقال لهم، وإن لم يكن ثمة قول ومعنى (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور؛ لشدته وفظاعته. أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم.
[(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً* لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)].
الراجع إلى الموصولين محذوف، يعنى: وعدها المتقون وما يشاءونه. وإنما قيل: (كَانَتْ)؛ لأن ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان. أو: كان مكتوبا في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. فإن قلت: ما معنى قوله: (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً)؟ قلت: هو كقوله: (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها)، فالكثرة على هذا ليست للتحديد، ولهذا قال:"لا غاية لهلاكهم".
قوله: (يعني: وعدها المتقون)، بيانٌ لتقرير الراجع إلى الموصول الأول، وهي:{الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ، وقوله: "وما يشاؤونه بيانٌ لتقدير الراجع إلى الموصول الثاني وهو: {مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ} .
قوله: (ما معنى قوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} ، يعني: قد علم من قوله: {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} كون الجنة جزاءهم ومصيرهم، فما هذا التكرير؟ فأجاب: إنها كالتذييل لها إرادةً لمزيد مدح لتبجح ساكنيه، كما أن قوله:{نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31] تذييلٌ لقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ} [الكهف: 31]، وأن قوله:{بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] تذييلٌ لقوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29]، ودلالته على المدح
[الكهف: 31]، فمدح الثواب ومكانه، كما قال:(بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)[الكهف: 29] فذم العقاب ومكانه؛ لأنّ النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وإلا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من جهة تنكيره، أي: جزاءً موفراً لا يدخل تحت الوصف، وإردافه بقوله:{وَمَصِيرًا} أي: مصيراً لا يقادر قدره، فالجزاء هنا كالثواب في تلك الآية، والمصير كالمرتفق، واجتماعهما كالتتميم لما يتم به ما يطلب من المكان من الترفه والتنعم. قال القاضي: إضافة الجنة إلى الخلد للمدح، أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنات الدنيا.
قوله: (فذم العقاب ومكانه)، يعني: قدم قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} إلى قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا} الآية على قوله: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} الآية: ليؤذن بأن النعم لا يتم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد، فلذلك ذكر المصير مع الجزاء، وأن العقاب يتضاعف بضيق الموضع وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء، ولذلك ذكر {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا} وذكر {مَكَانًا ضَيِّقًا} ، ولعل قوله:"فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء" واردٌ على الإبهام شمل الجزاءين والمصيرين، فظهر أن هذه الآية مقابلةٌ لتلك الآيات، يدل عليه قوله تعالى:{أَذَلِكَ خَيْرٌ} ، فإن المشار إليه العقاب والمكان الضيق، وتسميته بالخير للتهكم والسخرية، ليزيد في غيظهم، أو أن ثواب العدو وتنعمه سببٌ لتغيظ العدو وتحسره.
قوله: (بغثاثة الموضع)، الأساس: حديثكم غث، وسلاحكم رثٌ، وأغث فلانٌ في كلامه: إذا تكلم بما لا خير فيه، وسمعت صبياً من هذيلٍ يقول: غثت علينا مكة، فلا XXXX من الخروج.
الاجتواء والكراهة، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. والضمير في (كَانَ) لـ (مَا يَشَاءُونَ). والوعد: الموعود، أي: كان ذلك موعودا واجبا على ربك إنجازه، حقيقا أن يسئل ويطلب؛ لأنه جزاء وأجر مستحق وقيل: قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم: (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ)[آل عمران: 194]، (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة: 201]، (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر: 8].
[(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ* قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الاجتواء)، يقال: اجتويت البلد: إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمةٍ.
قوله: (أي: كان ذلك موعوداً واجباً على ربك إنجازه)، قال القاضي: وما في "على" من معنى الوجوب، لامتناع الخلف في وعده، ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز، فإن تعلق الإرادة بالموعود مقدمٌ على الوعد الموجب للإنجاز.
وقال الإمام: قالوا: الواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه الذم، أو أنه: الذي يكون عدمه ممتنعاً، فعلى التقديرين يلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل، والملجأ إلى الفعل لا يكون قادراً، ولا يكون مستحقاً للثناء والمدح؟ وأجاب: أن فعل الشيء متقدمٌ على الإخبار عن فعله، وعن العلم بفعله، فيكون ذلك الفعل فعلاً لا على سبيل الإلجاء، فكان قادراً مستحقاً للثناء والمدح.
ومعنى قوله: {وَعْدًا مَسْئُولًا} : من حقه أن يكون مسؤولاً، لأنه حقٌ واجب. بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة.
(يَحْشُرُهُمْ)، (فَيَقُولُ) كلاهما بالنون والياء، وقرئ:(نَحشِرهم) بكسر الشين (وَما يَعْبُدُونَ) يريد: المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام ينطقها الله. ويجوز أن يكون عاما لهم جميعا. فإن قلت: كيف صحّ استعمال ما في العقلاء؟ قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم، بدليل قولك - إذا رأيت شبحا من بعيد-: ما هو؟ فإذا قيل لك: إنسان، قلت حينئذ: من هو؟ ويدلك قولهم «من» لما يعقل. أو أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبوديهم. ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعنى: أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({يَحْشُرُهُمْ}، {فَيَقُولُ} كلاهما بالنون)، {يَحْشُرُهُمْ} بالياء: حفصٌ. والباقون: بالنون. و"نقول" بالنون: ابن عامر، وبالياء: غيره.
قوله: (وقرئ: "نحشرهم" بكسر الشين)، قال ابن جني: قرأها الأعرج، وهذا وإن كان قليلاً في الاستعمال، فإنه قويٌ في القياس، وذلك أن "يفعل" في المتعدي أقيس من "يفعل"، فضرب يضرب أقيس من: قتل يقتل، وذلك أن "يفعل" إنما بابها الأقيس أن يأتي في مضارع "فعل"، كظرف يظرف.
قوله: (ويجوز أن يكون عاماً لهم جميعاً)، يأباه جواب المعبودين، وهو قولهم:{سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} ، لأنهم ملائكةٌ معصومون وأنبياء معصومون، كما قاله في موضعه، فلا يدخل فيه الأصنام، لكن عدل إلى "ما" إجراءً للمعبودين مجرى غير ذوي العقول تحقيراً لشأنهم لغاية قصورهم عن معنى الربوبية، وتنبيهاً على المجانسة المنافية للألوهية.
قوله: (ويدلك قولهم: "من" لما يعقل)، يعني: يفسر "من" بـ "ما"، ولا يفسر "ما" بـ "من"، فدل أن "ما" أعم من "من".
فإن قلت: ما فائدة "أنتم" و"هم"؟ وهلا قيل: أأضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا السبيل؟ قلت. ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه، فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام، حتى يعلم أنه المسئول عنه. فإن قلت: فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدته أن يجيبوا بما أجابوا به، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله وعذابه، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وفيه كسر بين لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب)، يعني: السؤال سؤال عتاب، وهو يستدعي حصول الفعل من الضالين، ليصح توجه العتاب إلى المعبودين، والغرض تقريع الضالين وتوبيخهم، فوجب أن يسأل عن فاعل الفعل، لا عن الفعل نفسه.
قوله: (وينخزلوا)، أي: ينقطعوا. الأساس: انخزل في مشيته: استرخى، وأقدم على الأمر ثم انخذل عنه، أي: ارتد وضعف، وانخزل عن جواب ما قلته له.
قوله: (وفي كسرٌ بينٌ لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة)، إلى آخره. قال صاحب "التقريب": والمعنى: أنتم أضللتموهم أم هم ضلوا؟ وهذا أعم من أنهم ضلوا بأنفسهم أو أضلهم غيرهم، فلا يدل على الخاص كما تبجح به صاحب "الكشاف".
وقال صاحب "الفرائد": أما الجواب عن قوله: "فيتبرؤون من إضلالهم، ويستعيذون به أن يكونوا مضلين" إنما تبرؤوا واستعاذوا به منه، لأنهم يستحقون العذاب بإضلالهم، ولم لكن منهم إضلالٌ، فيجب عليهم أن يقولوا ذلك ليندفع عنهم ما يستحقون به من العذاب، وذلك أنهم مسؤولون عما يفعلون، والله تعالى لا يسأل عما يفعل، فيلحق بهم النقصان إن ثبت عليهم، ولا يمكن لحوقه به، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يسأل عما يفعل. وعن قوله:"ولقد نزهوه حين أضافوا" إلى آخره، هو أن قولهم:{وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ} إلى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آخره، لا ينافي نسبة الإضلال إليه على الحقيقة. وأيضاً، ما يؤدي إلى الإضلال إذا كان منه وكان معلوماً له أنهم يضلون به، كان فيه ما في الإضلال بالحقيقة، فوجب- على مذهبه- أن لا يجوز عليه أيضاً. وعن قوله:"ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقول: بل أنت أضللتهم"، هذا غير مستقيم، لأنه تعالى ما سألهم إلا عن أحد الأمرين: إضلالهم إياهم، أو إضلالهم بأنفسهم، فكيف يكون بل أنت أضللتهم جواباً عتيداً؟ بل هو جوابٌ لمن قال: من أضلهم، والله الهادي.
وقال الإمام: قالت المعتزلة: لو كان قوله: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ} دل على ما ذكرتموه للزم أن يصير الله تعالى محجوجاً. ومعلومٌ أنه ليس الغرض ذلك، بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً؟ وأجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله، وإن صلحت لم تترجح مصدريتها للضلال على مصدريتها للاهتداء إلا بمرجح من الله تعالى، وعند ذلك يعود السؤال.
ثم قال الإمام: إن الاستفهام في {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} واردٌ على سبيل التقريع للمشركين، لأنه تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه، كما قيل لعيسى عليه السلام:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، وفائدته أن المعبودين لما برؤوا أنفسهم، أحالوا ذلك الضلال إليهم، صار تبرؤهم عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم، فوافق جوابهم هذا:{سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} جواب عيسى عليه السلام: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].
وقال القاضي: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ} بأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات، حتى غفلوا عن ذكرك، أو التذكر لآلائك، والتدبر في آياتك، وهو نسبةٌ للضلال إليهم من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيث إنه بكسبهم، وإسنادٌ له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجةً علينا للمعتزلة، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أي: في قضائك هالكين.
وقلت: ولما كان السؤال على التعريض التوبيخي، والمقصود تبكيتهم، وإلزام الحجة عليهم، وتفضيحهم على رؤوس الأشهاد، أجابوا أولاً بما يدل على تبرؤهم من نسبة الإضلال إلى أنفسهم بأقصى ما يمكن من المبالغة خذلاناً لهم، وكان من حق الظاهر: أنا من أضللناهم، فأطنبوا بقولهم:{سُبْحَانَكَ} إلى آخره. تعجباً، أي: كيف يصح منا أن نصفك بما لا يليق بجلالك، ونحن عالمون بالتقديس، وكيف يستقيم لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك، ونحن العابدون. وثانياً: بما يدل على أن الكفرة هم ضلوا السبيل، لكن بتقدير الله وإضلاله، فأطنبوا في تعبيرهم بقوله:"لكن متعتهم" إلى آخره، يعني: متعتهم بطول العمر وسعة الرزق حتى تجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر من قبول الذكر الذي عرض عليهم وهو القرآن، والتمسك بمقتضاه من تصديق من جاء لكونه معجزةً، والإيمان بما فيه من إثبات التوحيد والحشر والنشر، فعكسوا ذلك وجعلوه سبباً للثبات على اتخاذ الشركاء، حتى جرهم ذلك إلى ترك الذكر وعدم المبالاة به، كقوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
وينصر القول بأن المراد بالذكر القرآن قوله: "والذكر: ذكر الله والإيمان به، أو القرآن"، وما نقله محيي السنة في "تفسيره":{حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن.
ويساعد هذا التأويل قضية النظم، فإن قوله:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} متصلٌ بأول السورة، وهو قوله تعالى:{وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان: 2]، وقوله:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً} أي: اتخذوا من دون الله آلهةً زعموا أنها أولادٌ لله وشركاء له
حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين، ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر، سبب الكفر ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه، فهم لربهم الغنىّ العدل أشدّ تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الإلهية، وأدى ذلك إلى تكذيبهم الذكر- أي: القرآن- أولاً بقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} ، و {أَسَاطِيرُ} ، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً بقولهم:"مال هذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق"، فرضوا بالإله أن يكون حجراً، وأبو الرسول أن يكون بشراً، وتكذيبهم الله آخراً، حيث أنكروا البعث والحشر، وإليه الإشارة بقوله:{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} كما مر أنه مستلزمٌ لتكذيب الله.
وتحرير المعنى: ويوم نحشرهم وما اتخذوا من دون الله أولياء، حينئذٍ يعلمون أنهم أول من يخاصمهم ويخذلهم إذا سئلوا: أنتم أضللتم عبادي أن كنتم أولياءهم وشركاء الله، وأنتم حملتموهم على ذلك التقول والتكذيب للنعمة هم الذين عكسوا الأمر وضلوا، وحقت عليهم كلمة العذاب والبوار، يدل عليه قوله:{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} ، فظهر من بيان النظم أنهم لو أجابوا بقوله: بل أنت أضللتهم، أبعدوا المرمى.
قوله: (ويستعيذون به أن يكونوا) أي: يستعيذون بالله من أن يكونوا مضلين، و"يقولون": عطفٌ على "فيبرؤون"، والفاء نتيجة مجموعة قوله:"حيث يقول للمعبودين من مدونه: أأنتم أضللتموهم أم هم ضلوا بأنفسهم؟ ".
التفضل بالنعمة والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة. فشرحوا الإضلال المجازى الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله:(يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ)[الرعد: 27]، ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم. والمعنى: أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وضل: مطاوع أضله، وكان القياس: ضل عن السبيل، إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق. والأصل: إلى الطريق، وللطريق. وقولهم: أضلّ البعير، في معنى: جعله ضالا، أى: ضائعا، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه، قيل: أضله، سواء كان منه فعل أو لم يكن (سُبْحانَكَ) تعجب منهم، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه. أو نطقوا بـ (سُبْحَانَكَ)؛ ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده. أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، وأن يكون له نبىّ أو ملك أو غيرهما ندّا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فشرحوا الإضلال المجازي)، يعني: قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] مجملٌ لما علم، بدليل الحسن والقبح العقليين أنه لا يجوز إسناد الإضلال الله، وإسناده إليه تعالى على المجازي، ولابد من بيان العلاقة، وبيانها ما يعلم من قول المعبودين هاهنا:{وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} فبينوا أن العلاقة هي تمتعهم بالنعم المؤدي إلى البطر والطغيان.
قوله: (وقولهم: أضل البعير)، متصلٌ بقوله:"الإضلال المجازي: الذي أسنده الله إلى ذاته"، يعني: أن العرب أيضاً تقول: أضل البعير، في معنى: جعله ضالاً، فإن أحداً لا يتحرى في إضلال بعيره، لكن إذا أهمل في حفظه كأنه تسبب في إضلاله، فأسندوا الإضلال إليه على المجاز، وإذا جاز إسناد الفعل إلى غير الفاعل بهذه الملابسة الضعيفة، فلأن يجوز الإسناد إليه بالتمتيع أولى، وإليه أومى بقوله:"سواءٌ كان معه فعلٌ أو لم يكن"، والجواب ما نقلناه عن صاحب "الفرائد".
ثم قالوا: ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك. فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك؟ ! أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال الله تعالى: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ)[النساء: 76] يريد الكفرة، وقال:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)[البقرة: 257]. وقرأ أبو جعفر المدني: (نُتَّخَذَ) على البناء للمفعول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم قالوا: ما كان يصح لنا)، "ثم" هاهنا: للتراخي في الإخبار، يعني: جعلوا {سُبْحَانَكَ} توطئةً وتمهيداً لقولهم: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} إما على إرادة مطلق التعجب مما قيل لهم من قوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} ، أو نطقوا بكلمة التسبيح كنايةً عن البراءة عن أنفسهم ذلك القول، أو أرادوا موضوعها اللغوي من التنزيه والتقديس، قدسوا ساحة جلال الله عما لا يليق بحضرته من الند والضد، أما قوله:"ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك"، إلى آخره، فمبنيٌ على التقديس.
قوله: (أو: ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين)، مبنيٌ على الإضلال الذي بنى عليه الوجهين الأولين، والظاهر أن "أو" في قوله:"أو ما كان ينبغي لنا": للإباحة، فيصح جعل كل من الوجهين لكل من الوجوه الثلاثة، ويصح الجمع بينهما كقولك: جالسٌ الحسن أو ابن سيرين.
قوله: (وقرأ أبو جعفر المدني: "نتخذ" على البناء للمفعول)، قال ابن جني: وهي قراءة زيد بن ثابتٍ وأبي الدرداء وأبي جعفرٍ ومجاهدٍ والحسن وغيرهم. فعلى هذا {مِنْ أَوْلِيَاءَ} في موضع المفعول به، أي: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء، ودخلت "من" زائدةً لمكان النفي، كقولك: اتخذت زيداً وكيلاً، فإن نفيت قلت: ما اتخذت زيداً من وكيل، وهذا في المفعول به، وأما قراءة الجماعة فقوله:{مِنْ أَوْلِيَاءَ} في موضع المفعول به، كقولك: ضربت رجلاً فإن نفيت قلت: ما ضربت من رجل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الزجاج: هذه القراءة خطأٌ، لأنك تقول: ما اتخذت من أحدٍ ولياً، ولا يجوز: ما اتخذت أحداً من ولي، لأن "من" إنما دخلت لأنها تنفي واحداً في معنى جميع، تقول: ما من أحدٍ قائماً، وما من رجلٍ محباً لما يضره، ولا يجوز ما رجلٌ من محبٍّ لما يضره، ولا وجه عندنا لهذا البتة، ولو جاز هذا لجاز في قوله:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] إلا أن يسقط "من" الثانية فيقال: أن نتخذ من دونك أولياء، فيصح الكلام، ويصح المعنى. وقال الزجاج: وأجاز الفراء هذه القراءة على ضعف، وزعم أنه يجعل {مِنْ أَوْلِيَاءَ} هو الاسم، ويجعل الخبر ما في "نتخذ"، كأنه يجعله على القلب.
ونقل صاحب "المطلع" عن صاحب النظم أنه قال: الذي يوجب سقوط هذه القراءة أن "من" لا تدخل إلا على مفعولٍ لا مفعول دونه، فإذا كان قبل المفعول مفعولٌ سواه لم يحسن دخول "من"، مثل قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] فقوله: {مِنْ وَلَدٍ} لا مفعول سواه، ولو قال: ما كان الله أن يتخذ أحداً من ولدٍ، يحسن فيه دخول "من"، لأن الاتخاذ مشغولٌ بـ "أحد". كذلك قوله:{مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ} قد قامت النون المضمومة فيه مقام المفعول، وشغل الاتخاذ به، فلم يقتض "من" في المفعول الذي بعده.
وقلت: فعلم من هذا أن ابن جني أجاز أن يزاد "من" في المفعول الثاني، وأبي الزجاج إلا أن تزاد في المفعول الأول. وذهب صحاب النظم إلى أن يزاد في مفعولٍ واحد، وبنى المصنف كلامه على كلام الزجاج، حيث قال:"والثانية من المتعدي إلى مفعولين"، أي: قراءة أبي جعفر، أحدهما: ما أقيم مقام الفاعل، والثاني:{مِنْ أَوْلِيَاءَ} على أن تكون "من" تبعيضةً لا زائدةً.
ولناصر قول ابن جني على قول الزجاج أن يقول: إن المثال الذي أتى به الزجاج غير مناسبٍ للآية، لأن المفعول الأول في الآية خاصٌ، وكذا في المثل الذي أتى به ابن جني، فيصح التعميم في الثاني، كما قال: ما اتخذت زيداً من وكيل، أي: أي وكيلٍ كان من أصناف
وهذا الفعل أعني «اتخذ» يتعدى إلى مفعول واحد، كقولك: اتخذ وليا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا. قال الله تعالى:(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ)[الأنبياء: 1]، وقال (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا) [النساء: 125] فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد؛ وهو (مِنْ أَوْلِياءَ)، والأصل: أن نتخذ أولياء، فزيدت (مِنْ) لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدي إلى مفعولين؛ فالأول ما بني له الفعل، والثاني:(مِنْ أَوْلِياءَ)، و (مِنْ) للتبعيض، أى: لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير (أَوْلِياءَ) من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام والذكر: ذكر الله والإيمان به. أو القرآن والشرائع. والبور: الهلاك، يوصف به الواحد والجمع. ويجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوكلاء، كذا في الآية: ما نتخذ نحن من دونك ما يقع عليه اسم الولاية، فإن الولي قد كان معبوداً وناصراً ومالكاً مخدوماً، بخلاف قول الزجاج: ما اتخذت أحداً من ولي، فإن فيه العموم في المفعول الأول والثاني، فإذن لا حاجة إلى جعل "من" تبعيضاً.
بقي على المصنف سؤال آخر، وهو أن "من" إذا كان للتبعيض، فلم نكن أولياء، لأن المعنى: ما صح للكفار أن يتخذونا من دونك بعض أوليائهم؟ وأجاب: أن القائلين الملائكة والأنبياء، فتعين أن يكون الباقي الجن والأصنام، لأن المعبودين منحصرون في هؤلاء، يدل عليه قوله فيما سبق. ويجوز أن يكون المعبودون عاماً، قال السجاوندي: تقول: اتخذته من أوليائي، وحسبته من أصفيائي، والمعنى: ما ينبغي لنا أن نحسب من بعض ما يقع عليه اسم الولاية، فضلاً من الكل، فإن الولي قد يكون معبوداً ومالكاً ومخدوماً. أو التقدير: نتخذ معبودين من أولياء، أي: من جهة أولياء، فحذف مفعول الاتخاذ معهودٌ، {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 51].
قوله: (والبور: الهلاك)، أي: هو مصدرٌ يستوي في الوصف به الواحد والجمع، والتثنية والتذكير والتأنيث، وأنشد صاحب "المطلع" للزبعري يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ.
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)[الفرقان: 19].
هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة، وخاصة إذا انضم إليها الالتفات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا رسول المليك إن لساني
…
راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور
أي: مصلحٌ ما أفسدت، ورافئٌ ما ما مزقت، يعتذر إليه مما ذكر في أشعاره في حال شركه، والله أعلم بصحته.
قوله: (كعائذٍ وعود)، الجوهري: العوذ: الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل، واحدتها عائذٌ.
قوله: (هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعة)، قال صاحب "المطلع": حق الكلام ان يقال: إن قلتم: إنهم معبودنا وآلهتنا، فقد كذبوكم، ونحوه قوله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، أي: لا تعتذروا بأن لم يأتكم رسولٌ، فالآن قد جاءكم ما أعذركم. وقول القائل:
قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا
…
ثم القفول، فقد جئنا خراسانا
أي: فإن قالوا: تلك مقصدنا فقد جئناه، فأين القفول؟ تم كلامه.
وقيل: التقدير: قالوا: تلك مقصدنا ثم القفول إلى مأمن كل أحد، أي: قال: إن صدقتم فقد جئناه، فأين القفول؟ أما حذف القول من الآية، فلأن التقدير: قال الله تعالى، أو الملائكة: إنهم معبودونا وشفعاؤنا عند الله، فقد كذبوكم بما تقولون. والدليل على المقدر
وحذف القول ونحوها قوله عز وعلا: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ)[المائدة: 19]، وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثمّ القفول، فقد جئنا خراسانا
وقرئ: (تَقُولُونَ) بالتاء والياء. فمعنى من قرأ بالتاء: فقد كذبوكم بقولكم: إنهم آلهة. ومعنى من قرأ بالياء: فقد كذبوكم بقولهم: (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ)[الفرقان: 18]. فإن قلت: هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت إي والله! هي مع التاء كقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ)[ق: 5] والجار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآخر قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} . وأما المفاجأة فمن تعقب القصة بالفاء التي تستدعي ما يترتب عليه، كأن السامع لم ينتظر ما بعد الفاء بتقديم ما يترتب عليه ففوجئ به. وهذا أسلوبٌ رائعٌ حسن. وأما الالتفات فمن قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} ، كأنه قيل: أنتم المخصوصون أيها المكذبون بأن يفعل بكم ما تستحقونه من الفضيحة والنكال ولا يمهلكم فيه.
قوله: (وقرئ: {تَقُولُونَ}، بالياء والتاء)، المشهورة: بالتاء الفوقانية، وبالياء التحتانية: شاذة.
قوله: (قلت: إي والله)، إلى آخره، أي: حكم الباء في {بِمَا تَقُولُونَ} مع قراءة التاء الفوقانية حكم {كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 5] في كون الباء صلةً، وما تقولون: مفعولٌ به، والبدل بدل الاشتمال، كأنه قيل: فقد كذبوا قولكم، أو: الذي تقولونه.
وحكم الباء مع الياء التحتاني حكم: كتبت بالقلم، فالباء للآلة، أي: كذبوكم، باستعانة قولهم:{سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} الآية.
والمجرور بدل من الضمير، كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون: وهي مع الياء كقولك: كتبت بالقلم. وقرئ: (تَسْتَطِيعُونَ) بالتاء والياء أيضا. يعني: فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف: التوبة وقيل: الحيلة، من قولهم: إنه ليتصرف، أى. يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب. أو أن يحتالوا لكم. الخطاب على العموم للمكلفين. والعذاب الكبير لا حق بكل من ظلم، والكافر ظالم، لقوله:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، والفاسق ظالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: {تَسْتَطِيعُونَ}، بالتاء والياء)، حفصٌ: بالتاء الفوقاني، والباقون بالياء.
قوله: (الخطاب على العموم للمكلفين)، يعني: في قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} لدلالة (من) الشرطية، لأنها موضوعةٌ للعموم، فكل من يصدق عليه أن يظلم، فإنه داخلٌ فيه، والفاسق الذي لم يتب ظالمٌ، لقوله:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وفيه لمحةٌ من مذهبه. وذهب عنه أن الخطاب مع الكفرة المعاندين الذين نحن بصددهم من أول السورة، فكيف وقد سبق {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} وهذه الآية كالخاتمة لما يجري عليهم من الأحوال والنكال من لدن قوله تعالى:{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ؟ يعني {وَمَنْ يَظْلِمْ} أي: يدم منكم، أي: على ما هو عليه، بعد تلك البينات الشافية التي ما تركت من الروادع. والزواجر بقيةً، نذقه عذاباً كبيراً. ثم لما فرغ من تهديدهم ووعيدهم شرع في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ناله من قولهم:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] من الحزن وضيق الصدر، أي:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية: فأين يدخل في معنى الآية حديث الفساق؟
قال صاحب "الفرائد": يجب أن يحمل الظلم على الشرك، لأن الكلام في الشرك بدليل ما تقدم، ولأن الحمل على ما ذكره صاحب "الكشاف" يؤدي إلى أن الظلم مع الإيمان
لقوله: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11]. وقرئ: (يُذِقْه) بالياء. وفيه ضمير الله. أو ضمير مصدر (يظلم).
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)[الفرقان: 20].
الجملة بعد (إلاَّ) صفة لموصوف محذوف. والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور، أعني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستلزم العذاب الكبير ولا يجوز العفو والتجاوز، وليس كذلك لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116].
قوله: (وقرئ: "يذقه" بالياء) التحتانية: شاذة.
قوله: (وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين)، فوضع "آكلين" موضع:{إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ} ، فيأكلون: صفةٌ لقوله: "أحداً" المحذوف، وقوله:{مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أيضاً صفةٌ مبينةٌ له، ولهذا قال:"وإنما حذف اكتفاءً بالجار والمجرور، أعني {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} " فلو جعله حالاً كان له وجهٌ، لأن ذا الحال موصوفٌ.
قال أبو البقاء: كسرت "إن" لأجل اللام في الخبر، وقيل: ولو لم تكن اللام لكسرت أيضاً، لأن الجملة حاليةٌ، إذ المعنى: إلا وهم يأكلون، وقال الزجاج: وأما دخول "إنهم" بعد "إلا" فعلى تأويل: ما أرسلنا رسلاً إلا وهم يأكلون، أو: وإنهم ليأكلون، وحذفت "رسلاً" لأن "من" في قولك:{مِنَ الْمُرْسَلِينَ} دليلٌ على ما حذف. وإما مثل اللام بعد إلا فقول الشاعر:
(مِنَ المُرْسَلِينَ)، ونحوه قوله عز من قائل:(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ)[الصافات: 164] على معنى: وما منا أحد. وقرئ: (ويُمَشَّوْن) على البناء للمفعول، أى: تمشيهم حوائجهم أو الناس. ولو قرئ: (يُمَشُّون)، لكان أوجه لولا الرواية. وقيل: هو احتجاج على من قال: (مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما أنطياني ولا سألتهما
…
إلا وإني لحاجزٌ كرمي
يريد: أعطياني.
وقال صاحب "المطلع": وكسره "إن" لمكان الابتداء، كما لو قيل: إلا وهم يأكلون، لا لمكان اللام، ودخلوها وخرجوها سواءٌ، كما يقال: ما قدم علينا أميرٌ إلا إنه مكرمٌ لي.
قوله: (وقرئ: "ويمشون)، قال ابن جني:"يمشون" بضم الياء، وفتح الشين المعجمة: قراءة علي رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عبد الله، كقولك: يدعون إلى المشي، وكل حاملٍ على المشي وجاء على "فعل" لتكثير فعلهم، إذ هم عليهم السلام جماعةٌ. ولو كانت "يمشون" بضم الشين لكانت أوفق، لقوله تعالى:{لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ} ، إلا أن معناه: يكثرون المشي. يعني: يوافقه من حيث إسناد الفعل إليهم، وإن أريد به التكثير، ولم يرد في يأكلون، وفيه الإشعار بأن المشي في الأسواق أشد قبحاً من الأكل للتشبيه بالسوقي.
قوله: (وقيل: هو احتجاجٌ)، عطفٌ من حيث المعنى على قوله:"والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين"، على أنه وجهٌ آخر، والظاهر أن الأول واردٌ على التسلية، يؤيده عطف قوله:"وقيل: هو تسليةٌ له" على قوله: "وهذا تصبيرٌ" تفسيراً للافتنان، فيكون التصبير متفرعاً على الوجه الثاني، والتسلية على الأول، والثاني قول الزجاج، قال: هذا
[الفرقان: 7]. (فِتْنَةً) أي: محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل، يقول: وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
احتجاجٌ عليهم في قوله: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] فقيل: كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فكيف يكون محمدٌ بدعاً من الرسل؟
وقلت: قول الزجاج لا يساعد عليه النظم، لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} على ما سبق بيانه، لكن الله تعالى لما حكى عنهم تكذيبهم القرآن والرسول والإعادة، وعقب ذلك بالوعيد الشديد والتهديد العظيم، وبما يفضحهم على رؤوس الأشهاد مسلاةً للرسول، وشرحاً لصدره صلوات الله عليه، وجعل خاتمة كل ذلك قوله:{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} الآية، أعاد بذكر ما هو من جنس قصته صلوات الله عليه مزيداً للانشراح، يؤيده الخطاب في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} تسليةٌ من قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} ليتأسى بهم، وقوله:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} تسليةٌ من تعبيرهم له بالفقر حين قالوا: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8]، ألا ترى كيف عقبهما بقوله:{َكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي: عالماً بالصواب فيما يبتلى به وغيره. فلا يضيقن صدرك ولا يستخفنك أقاويلهم.
قوله: (وجرت عادتي)، قالوا: ولو قال: وجرت سنتي، كان أقرب إلى الأدب، لأنها صفةٌ نفسانيةٌ. الراغب: العادة: اسمٌ لتكرير الفعل أو الانفعال حتى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعةٌ ثانية.
والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل، ونحوه (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186]. وموقع (أَتَصْبِرُونَ) بعد ذكر الفتنة موقع (أَيُّكُمْ) بعد الابتلاء في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[هود: 7 الملك: 2](بَصِيراً): عالما بالصواب فيما يبتلي به وغيره فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية له عما عيروه به من الفقر، حين قالوا:(أَوْ يُلْقَى إلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ)[الفرقان: 8]، وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء؛ لينظر هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته: يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلناك فتنة لهم، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وموقع {أَتَصْبِرُونَ} بعد ذكر الفتنة موقع {أَيُّكُمْ} بعد الابتلاء)، وقال بعضهم:{أَيُّكُمْ} ليس بتعليقٍ لسبق المفعول الأول، ولكن جملةٌ واقعةٌ موقع المفعول الثاني، وكذلك {أَتَصْبِرُونَ} ، لأن قوله:{لِبَعْضٍ} دالٌ على أن التقدير: وجعلنا بعضكم فتنة بعضٍ أتصبرون، لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه بل هو دالٌ على معموله. وقال صاحب "التقريب": يريد أنه ليس بتعليق، لذكر المفعول الأول فيها، وفيه نظرٌ سيأتي في "الملك".
وقلت: نعم، إنه ليس بتعليقٍ لقوله:{لِيَبْلُوَكُمْ} ، لأنه أحد مفعوليه، ولكنه تعليقٌ لفعلٍ مضمر يدل عليه المذكور كما وجد بخط المصنف: إن تعلق قوله: {أَتَصْبِرُونَ} بقوله: {فِتْنَةً} تعلق {أَيُّكُمْ} بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنةً لنعلم أيكم أحسن صبراً، وكما ابتليناكم لنعلم أيكم أحسن عملاً. وقد صرح بعيد هذا بما ينبئ عن هذا المعنى، وهو قوله:"وأنه جعل الأغنياء فتنةً للفقراء لينظر هل يصبرون".
قوله: (وقيل: جعلناك فتنةً لهم)، أي: للمشركين، هو عطفٌ على قوله:"أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم".
أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً؛ ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوى. وقيل: كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض.
[(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)].
أي: لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة. أو لا يخافون لقاءنا بالشر. والرجاء في لغة تهامة:
الخوف، وبه فسر قوله تعالى:(لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً)[نوح: 13]، جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا. اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمدا صادق حتى يصدقوه. أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. ولا يخلو: إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (وقيل: كان أبو جهل) عطفٌ على "لو كنت غنياً صاحب كنوز"، لأنه فتنةٌ للمشركين ونوعٌ آخر من الفتنة بسبب غناهم بسبب غناهم وفقر عمارٍ وصهيبٍ وبلالٍ ومن في طبقتهم من أصحاب الصفة.
قوله: (لا يأملون لقاءنا بالخير)، الراغب: الرجاء: ظنٌ يقتضي حصول ما فيه مسرة. وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قيل: ما لكم لا تخافون، ووجه ذلك الرجاء والخوف يتلازمان، قال تعالى:{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106].
قوله: (بمنزلة لقائه لو كان ملقياً)، إشارةٌ إلى مذهبه.
الأنبياء، وأن الله لا يصح أن يرى. وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون. وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم، كما فعل قوم موسى حين قالوا:(لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)[البقرة: 55]. فإن قلت: ما معنى (فِي أَنْفُسِهِمْ)؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. كما قال: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ)[غافر: 56]. (وَعَتَوْا): وتجاوزوا الحدّ في الظلم. يقال: عتا علينا فلان. وقد وصف العتوّ بالكبير، فبالغ في إفراطه يعنى أنهم لم يخسروا على هذا القول العظيم، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العنوّ، واللام جواب قسم محذوف. وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية. وفي أسلوبها قول القائل:
وجارة جسّاس أبأنا بنابها
…
كليبا غلت ناب كليب بواؤها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون)، أي: بالمحال، أي: لا يؤمن أبداً، هذا إنما يصح أن لو كان القوم معتزلةً غير مستقيم، والقوم هم الذين وصفهم الله بقوله:{لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} ، وهم المعاندون السابقون. وقد أقيم المظهر مقام المضمر، وذلك أنه تعالى لما سلى رسوله صلوات الله عليه بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} عاد إلى تقبيح نوعٍ آخر من أفعالهم وهو إنكارهم لقاء الله، وأن لله تعالى دار جزاء.
قوله: (وهذه الجملة في حسن استئنافها غايةٌ)، أي: قوله: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} جملةٌ قسميةٌ يستدعي أن يتلقى بها من يبالغ في الإنكار، كأنه لما قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، حمل السامع على أن يقول: ما أشد استكبارهم! وما أكبر عتوهم! لأنها اشتملت على أمر يقتضي التعجب منهم، فلا يتمالك أن يترك ذلك القول، فوضع موضعه:{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} ، لأنه أثبت وأبلغ من ذلك.
قوله: (وجارة جساسٍ)، البيت، جساسٌ: قاتل كليب، وجارته بسوس امرأة.
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى أن المعنى: ما أشدّ استكبارهم؟ وما أكبر عتوّهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب.
[(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والناب: ناقة بسوس، رماها كليبٌ فقتلها، فشكت إلى جساس، فقال: لأقتلن غداً فحلا هو أعظم من ناقتك، فبلغ ذلك كليباً، فظن أنه فحله المسمى بغليان، فقال: دون غليان خرط القتاد، وكان جساسٌ يعني بالفحل نفس كليب. ذكره الميداني.
أبأنا: أي: قابلنا من البوء، وهو التساوي في القصاص، وأباته بفلانٍ: إذا قتلته به. والبوء في القود: مهموزٌ، أي: ما أغلى ناباً بواؤها كليب، فلما قتل مهلهلٌ بجيراً قال: بؤ بشسع نعل كليب.
قوله: (وفي فحوى هذا الفعل)، الجوهري: الفحوى: معنى الكلام ولحنه.
الأساس: عرفت ذلك في فحوى كلامه: أي: فيما تنسمت من مراده بما تكلم، وأفحيته: خاطبت ففهمت مراده، ونحو اللحن.
وهذا الذي ذكره قريبٌ من الاصطلاح، لأن إفادة هذا التركيب معنى التعجب مفهومٌ موافقٌ للخطاب، فإن ناقةً يكون مثل كليبٍ بواؤها مما يتعجب منها، ونحوه قوله تعالى:{كَبُرَ مَقْتًا} [الصف: 3] أي: ما أكبر المقت!
(يَوْمَ يَرَوْنَ) منصوب بأحد شيئين: إما بما دل عليه (لَا بُشْرى)، أي: يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. و (يَوْمَئِذٍ) للتكرير. وإما بإضمار "اذكُرْ"، أى: اذكر يوم يرون الملائكة ثم قال (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ).
وقوله (للْمُجْرِمِينَ) إما ظاهر في موضع ضمير، وإما لأنه عام، فقد تناولهم بعمومه (حِجْراً مَحْجُوراً) ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({يَوْمَ يَرَوْنَ}: منصوبٌ بأحد شيئين)، الوجهان ذكرهما الزجاج، ثم قال: لا يجوز أن ينتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} بقوله: {لَا بُشْرَى} ، لأن ما اتصل بـ "لا" لا يعمل فيما قبله.
وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يكون منصوباً بـ "ينزل" المضمر لقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} ، كأنه قيل: ينزل الملائكة يوم يرونهم، و {يَوْمَئِذٍ}: منصوبٌ بقوله: {لَا بُشْرَى} ، لا يقال: كيف يكون وقت الرؤية وقتاً للإنزال، لأنا نقول: الظرف يحتمل ذلك لسعته. ولما كان قوله: {لَا بُشْرَى} صح أن يكون عاملاً فلا وجه لجعل مدلوله عاملاً. وقلت: قول صاحب "الفرائد" لا مزيد عليه، لأنه إذا انتصب بـ "ينزل" التأم الكلامان، لأن قوله:{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} ، وقوله:{وَقَدِمْنَا} نشرٌ لقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ} ، وقوله:{أَوْ نَرَى} كما سيجيء إن شاء الله.
قوله: ({لِلْمُجْرِمِينَ} إما طاهرٌ في موضع ضمير، وإما لأنه عامٌ)، قال القاضي:{لِلْمُجْرِمِينَ} إما عامٌ يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان، ولا يلزم من نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذٍ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقتٍ آخر. وإما خاضٌ ووضع موضع ضميرهم تسجيلاً على جرمهم وإشعاراً بما هو المانع للبشرى، والموجب لما يقابلها.
قوله: (في باب المصادر غير المتصرفة)، أي: التي لا تستعمل إلا منصوبةً على المصدر،
متروك إظهارها نحو: معاذ الله، وقعدك، وعمرك، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة، أو نحو ذلك: يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجرا، وهي من حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن، تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، كما كان قعدك وعمرك كذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعمرك: مصدرٌ عند سيبويه، قيل: معنى عمرك الله: عمرتك الله، أي: سألت الله عمرك، وإذا صح أن عمرك الله بمعنى عمرتك الله وجب أن يكون مصدراً منصوباً لعمرتك الملتزم حذفه، واسم الله: المفعول الثاني، ومعنى قعدك، أسأل أن يقعدك، أي: يثبتك. هذا التقدير مخالفٌ لما في "الصحاح" و"الأساس"، كما سيجيء.
قوله: (عدوٍّ موتور)، النهاية: أنا الموتور الثائر، أي: صاحب الوتر، الطالب بالثأر، والموتور: المفعول.
قوله: (على فعلٍ أو فعل)، "فعلٌ" بالكسر: قراءة العامة، وبالضم: قراءة الحسن. قال صاحب "المطلع": قرأه الحسن: "حرجاً" بضم الحاء، وفي معناه: حراماً محرماً. قال الجوهري: الحجر: الحرام، يكسر ويضم ويفتح، والكسر أفصح.
قوله: (تصرفٌ فيه)، أي: أن أصل {حِجْرًا} الفتح من: حجره حجراً: منعه، كما قال،
وأنشدت لبعض الرّجاز:
قالت وفيها حيدة وذعر
…
عوذ بربي منكم وحجر
فإن قلت: فإذ قد ثبت أنه من باب المصادر، فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلما اختص بموضع تصرفوا فيه بالكسر والضم، وذلك أن {حِجْرًا مَحْجُورًا} إنما يقال عند لقاء عدو، وهجوم نازلةٍ، فإنه- هكذا- عبارةٌ عن الاستعاذة، فلذلك تصرفوا فيه، كما أن قعدك الله لما كان عبارةً عن اليمين، لأن معناه بحق صاحبك الذي هو صاحب كل نجوى، وكذا عمرك الله، معناه: بتعميرك الله، أي: بإقرارك له بالبقاء تصرفوا فيهما، كذا في "الصحاح".
الأساس: قعدك الله وقعيدك الله لا أفعل، قال جريرٌ:
قعيدكما الله الذي أنتما له
…
ألم تسمعا بالبيضتين المناديا
وهي قعيدته: لامرأته.
وقال الراغب: الحجر: الممنوع منه بتحريمه، قال تعالى:{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138]، {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} ، كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك، فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظناً أن ذلك ينفعهم، وقال تعالى:{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أي: منعاً لا سبيل إلى رفعه ودفعه.
قوله: (قالت وفيها حيدةٌ) البيت، الحيدة: الميل. والذعر: الخوف.
جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا: ذيل ذائل، والذيل: الهوان؛ وموت مائت. والمعنى في الآية: أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم، لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدوّ الموتور والشدة النازلة. وقيل: هو من قول الملائكة ومعناه: حراما محرما عليكم الغفران والجنة، أو البشرى، أي: جعل الله ذلك حراما عليكم.
[(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)].
ليس هاهنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذيل ذائل)، قال في "الأساس": يقال: أذاله: أهانه، وذال بنفسه، وهو في ذيلٍ ذائل، أي: في هوانٍ شديد، وهو في موتٍ مائت أي: شديد.
قوله: (وقيل: هو من قول الملائكة)، فعلى هذا:{وَيَقُولُونَ} حالٌ من "الملائكة" على تقدير: وهم يقولون، وعلى الأول: عطفٌ على {يَرَوْنَ} .
قوله: (وقيل: هو من قول الملائكة)، فعلى هذا:{وَيَقُولُونَ} حالٌ من "الملائكة" على تقدير: وهم يقولون، وعلى الأول: عطفٌ على {يَرَوْنَ} .
قوله: (ليس هاهنا قدومٌ ولا ما يشبه القدوم)، فإن قلت: في قوله: "ولا ما يشبه القدوم"، بعد قوله:"ليس هاهنا قدوم" إيماءٌ إلى أن {وَقَدِمْنَا} في الآية ليس على حقيقته، ولا استعارةً، لأن نفي التشبيه يستدعي ذلك، فإن الاستعارة مجازٌ مسبوقٌ بالتشبيه، ثم أخذ في بيان طريق الاستعارة التي هي التشبيه قائلاً:"مثلت حال هؤلاء" إلى قوله: "بحال قوم خالفوا سلطانهم"، فما معنى هذا الكلام؟
قلت: معنى قوله: "لا يشبه القدوم"، أنك إذا جعلت هذا القدوم استعارةً لم يجز أيضاً أن تجريه على حقيقته في الممثل به أيضاً مجازاً، لأن المراد مجرد القصد إلى إفساد ما يملكونه، ألا ترى كيف فسر قوله:"فقدم إلى أشيائهم" بقوله: "وقصد إلى ما تحت أيديهم".
قال في "الأساس": قدم من سفره، وقدم البلد، وقدم على قومه، وهؤلاء القادمون، ومن المجاز: وإنك لقادمٌ على عملك.
عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف، ومنّ على أسير، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا. والهباء: ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفي أمثالهم: "أقل من الهباء". (مَنْثُوراً) صفة للهباء، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده، وأنه لا ينتفع به، ثم بالمنثور منه، لأنك تراه منتظما مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. ونحوه قوله:(كَعَصْفٍ مَاكُولٍ)[الفيل: 5]، لم يكف أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واستعمال "قدم" في الممثل به مستعارٌ لقصدٍ قوي، وعزم صميم، كأنه وصل بتلك العزمة إلى مقصده، كما يقدم المسافر إلى أعزة أهله، وينصره في الآية قوله:{فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أي: أردت ذلك، فجعلته كذلك، قيل: أجرى الكلام على ذلك بناءً على معتقده، لأنه منكرٌ للصفات. قال ابن عباسٍ:{وَقَدِمْنَا} أي: عمدنا، قال أهل الطريقة: أطلعناهم على أعمالهم فنظروا إليها بعين الرضا فسقطوا عن أعيننا.
قوله: (ولا عثيراً)، الجوهري: العثير: الغبار، بتسكين الثاء، ولا يقال: عثير، لأنه ليس في الكلام "فعيلٌ" بفتح الفاء إلا فهيد، وهو مصنوعٌ. وفي نسخة:"عثير" بفتح العين وسكون الياء التحتاني مثال العيهب، الأثر. يقال: ما رأيت لهم أثراً ولا عثراً، وهو تأكيدٌ للأثر وإتباعٌ له.
قوله: (لم يكف)، شبه عملهم بالهباء، ولم يكتف به، حتى جعله متناثراً، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع: بالتتميم والإيغال. قالت الخنساء:
شبههم بالعصف حتى جعله مؤوفا بالأكال، ولا أن شبه عملهم بالهباء حتى جعله متناثرا.
أو مفعول ثالث لجعلناه، أى فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر، كقوله:(كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)[البقرة: 65]، أي: جامعين للمسخ والخسء. ولام الهباء واو، بدليل الهبوة.
[(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)].
المستقرّ: المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرّين يتجالسون ويتحادثون.
والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهنّ وملامستهنّ، كما أنّ المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب. وروي: أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغر أبلج تأتم الهداة به
…
كأنه علمٌ في رأسه نار
ما كفاها أن جعلته علماً في الهداية، حتى جعلته في رأسه نارٌ.
قوله: (مؤوفاً بالأكال)، أي: مصاباً بآفة الأكال، يقال: أصابه أكالٌ في رأسه وأسنانه، أي: تآكل.
قوله: (فجعلناه جامعاً لحقارة الهباء والتناثر)، وذلك أن المفعول الثالث بمنزلة الخبر، كقولك: هذا حلوٌ حامضٌ، أي: جامعٌ لهذين الطعمين.
قوله: (في أكثر أوقاتهم مستقرين يتجالسون ويتحادثون)، وإنما حمل {مُسْتَقَرًّا} على هذا المعنى، والجنة أبداً مستقرهم ومقامهم، ليصح حمل {مَقِيلًا} على معنى الخلوة، ليجمع بين حالتي التعظيم والتترف، فيكون من باب التكميل.
قوله: (وروي: أنه يفرغ من الحساب في نصف اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة)، فعلى
النار. وفي معناه قوله عز وعلا: (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ)[يس: 55 - 56]، قيل في تفسير الشغل: افتضاض الأبكار، ولا نوم في الجنة. وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المستقر: هو المقيل، ومن ثم لما سأل- أي: عن نفسه- الإمام: وقال: الآية تدل على أن مستقرهم غير مقيلهم؟ أجاب بأجوبة، منها: أنه بعد الفراغ من المحاسبة، والذهاب إلى الجنة، يكون وقت القيلولة. قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وفي "شرح السنة": لا ينتصف النهار من يوم الجمعة، حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء. وقال الإمام: يحتمل أن يراد بأحدهما المصدر والزمان، إشارةً إلى أن زمانهم ومكانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة.
قوله: (وفي معناه)، أي: وفي معنى {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} إذا حمل على أنهم يأوون إلى المقيل للاسترواح إلى أزواجهم، والتمتع بمغازلتهن، يدل عليه قوله:"افتضاض الأبكار".
قوله: (ولا نوم في الجنة، وإنما سمي)، إلى آخره، شروعٌ في تأويل قوله:{مَقِيلًا} ، بالاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن، يعني: أنه تعالى أثبت لأهل الجنة مقام القيلولة، ومعلومٌ أن لا نوم في الجنة فلا قائلة، فإذن المقيل عبارةٌ عما تستلزمه من الاستراحة والدعة، لأن المقيل: مقام النوم في القائلة، والخلوة مع الأزواج، والتفكه معهن، شبه مكان استرواحهم في الجنة مع الحور العين بما تعورف في الدنيا من مكان الاسترواح عند القيلولة، فاستعير اسم المقيل له، ووصف بالحسن إرادةً لحسن ساكنيه على طريق الكناية، كقوله:
يبيت بمنجاةٍ من اللوم بيتها
على طريق التشبيه. وفي لفظ الأحسن: رمز إلى ما يتزين به مقيلهم. من حسن الوجوه، وملاحة الصور، إلى غير ذلك من التحاسين والزين.
[(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)].
وقرئ: (تَشَقَّقُ) والأصل: تتشقق، فحذف بعضهم التاء، وغيره أدغمها. ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها، جعل الغمام كأنه الذي تشق به السماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا ليس "أحسن" لأفعل التفضيل.
وقال الإمام: إنه تعالى لما بين حال الكفار في الخسار الكلي، والخيبة التامة، شرع في وصف أهل الجنة، وأن مستقرهم خيرٌ من مستقر أهل النار على نحو: العسل أحلى من الخل. هذا أوفق لتأليف النظم، ولقول ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
قوله: (من التحاسين)، قيل: هو جمع التحسين، وهو مصدرٌ في الأصل ثم أوقع اسماً لما يحسن به من الزخارف، ونظيره التصاريف والتضاعيف لصروف الزمان وإثناء الشيء.
قوله: (وقرئ: {تَشَقَّقُ} ، الكوفيون وأبو عمروٍ:{تَشَقَّقُ} هنا وفي "ق"، بتخفيف الشين، والباقون: بتشديدها.
قوله: (جعل الغمام كأنه الذي تشق به السماء)، قال أبو علي: قيل: معناه: تشقق السماء بسبب الغمام، ولما كان طلوعه سبباً لتشققها جعل الغمام كأنه يشقها، أو معناه: تشقق به السماء وعليها غمامٌ، كما يقال: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، أي: وعليه ثيابه وسلاحه.
كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها. ونظيره قوله: (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)[المزمل: 18]. فإن قلت: أي فرق بين قولك: انشقت الأرض بالنبات، وانشقت عن النبات؟ قلت: معنى انشقت به: أنّ الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه: أنّ التربة ارتفعت عنه عند طلوعه. والمعنى: أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. وروى تنشق سماء سماء، وتنزل الملائكة إلى الأرض. وقيل: هو غمام أبيض رقيق، مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم. وفي معناه قوله تعالى:(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ)[البقرة: 210]. وقرئ: (وننزل الملائكة)، (وننزل)، ونزل الملائكة، ونزلت الملائكة، وأنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزل الملائكة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وانشق بها)، لكون الشفرة سبباً فيه، وآلةً له. الجوهري: الشفرة بالفتح: السكين العظيم. وشفرة السيف: حده.
قوله: (ونظيره قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ، قال: "الباء في {بِهِ} مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعني: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم، فالضمير يعود إلى اليوم، والمراد وصف اليوم بالشدة. وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟
قوله: (مثل الضبابة)، الضبابة، بفتح الضاد: سحابةٌ تغشى الأرض كالدخان، والجمع: الضباب، قاله الجوهري.
قوله: (وقرئ: "وننزل")، ابن كثيرٍ:"وننزل" بنونين الثانية ساكنةٌ، وتخفيف الزاي ورفع اللام، و"الملائكة": بالنصب، والباقون: بنونٍ واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام، ورفع "الملائكة".
قوله: (ونزل الملائكة)، على حذف النون وضم النون الباقية وتشديد الزاي وكسرها،
على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل: قراءة أهل مكة.
[(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً)]
الحق: الثابت؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونصب "الملائكة". قال ابن جني: روي عن ابن كثيرٍ وأهل مكة، أصله، "ننزل"، حذف النون التي هي فاء الفعل لالتقاء النونين استخفافً، وشبهها بما حذف من أحد المثلين الزائدين في نحو: تفكرون، وتطهرون، من: تتفكرون وتتطهرون. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو: "ونزل الملائكة"، بضم النون وكسر الزاي خفيفةً. وهذا غير معروف، لأن "نزل" لا يتعدى إلى مفعول به فبني هنا للملائكة. فإن قلت: قد جاء "فعل" مما لا يتعدى نحو: جن، ولا يقال: جنة الله، بل: أجنه الله؟ قلت: هو شاذٌ، والقياس عليه مردودٌ. فهذه إما أن تكون لغةً طارقةً لم تقع إلينا، وإما أن يكون من حذف المضاف، أي: نزل نزول الملائكة، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، قال العجاج:
حتى إذا اصطفوا له حذارا
فـ "حذاراً": منصوبٌ مصدراً لا مفعولاً به، يريد: اصطفوا اصطفاف حذار، فإن قلت: فما معنى نزل نزول الملائكة، قلت: إنه على قولك: هذا نزولٌ منزول، وصعودٌ مصعودٌ، وضربٌ مضروب، وقريبٌ منه: وقد قيل قولٌ، وقد خيف منه خوفٌ، فاعرف ذلك فإنه أمثل ما يحتج به لهذه القراءة.
وفي "اللوامح": ومعنى "نزل به نزول الملائكة": نزل نازل الملائكة، أي: نازلٌ من الملائكة.
لأنّ كل ملك يزول يومئذ ويبطل، ولا يبقى إلا ملكه.
[(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن كل ملكٍ يزول يومئذٍ)، هذا التعليل مبنيٌ على تعليق الحكم بالوصف، أي: إنما قلنا: إن الحق بمعنى الثابت، لأنه تعالى وصف الملك به بعد تقييده بيومئذٍ، وأوقع {لِلرَّحْمَنِ} خبراً، فإن قيل: إن الملك الثابت للرحمن يوم القيامة فهم بدليل الخطاب أن ملك الغير زال وبطل يومئذٍ، نحوه: في الغنم السائمة زكاة. قال الزجاج: {الْحَقِّ} صفةٌ لـ {الْمَلِكُ} ، ومعناه: أن الملك الذي هو الملك حقًا ملك الرحمن يوم القيامة، كما قال تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، لأن الملك الزائل كأنه ليس بملك.
عن بعضهم: {يَوْمَئِذٍ} : فصلٌ بين الصفة والموصوف، والفصل بينهما بالظرف فصيح، وبين المضاف [والمضاف] إليه يجوز في ضرورة الشعر، كقوله:
هما أخوا في الحرب من لا أخا له
وقال أبو البقاء: {يَوْمَئِذٍ} معمولُ الملك، أو معمول ما يتعلق به اللام، ولا يعمل فيه الحق، لأنه مصدرٌ متأخرٌ عنه.
لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)].
عض اليدين والأنامل، والسقوط في اليد، وأكل البنان، وحرق الأسنان والأرم، وقرعها: كنايات عن الغيظ والحسرة، لأنها من روادفها، فيذكر الرادفة ويدل بها على المردوف، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه. وقيل: نزلت في عقبة بن أبى معيط بن أمية بن عبد شمس، وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل وكان أبى بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي، فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي، فقال: وجهى من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف"، فقتل يوم بدر: أمر عليا رضي الله عنه بقتله. وقيل: قتله عاصم بن ثابت بن أقلح الأنصاري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والأرم)، الجوهري: الأرم: الأضراس، كأنه جمع آرمٍ، يقال: فلانٌ يحرق عليك الأرم، إذا تغيظ فحك أضراسه ببعض.
قوله: (عاصم بن ثابت بن أقلح)، أقلح: صح بالقاف في "المغرب"، وفي "الاستيعاب": عاصم بن ثابت بن أبي أقلح، أقلح: بالقاف، الذي بأسنانه خضرةٌ أو خفرة، وبه كني جد عاصم.
وقال: يا محمد، إلى من الصبية قال:"إلى النار". وطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيا بأحد، فرجع إلى مكة فمات. واللام في (الظَّالِمُ) يجوز أن تكون للعهد، يراد به عقبة خاصة. ويجوز أن تكون للجنس فيتناول عقبة وغيره. تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم يتشعب به طرق الضلالة والهوى. أو أراد أنى كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط، فليتني حصلت بنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وقرئ: يا ويلتى بالياء، وهو الأصل، لأن الرجل ينادى ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالى فهذا أوانك. وإنما قلبت الياء ألفا كما في: صحارى، ومدارى. فلان: كناية عن الأعلام، كما أن الهن كناية عن الأجناس فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: ليتني لم أتخذ أبيا خليلا، فكنى عن اسمه.
وإن أريد به الجنس، فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم لا محالة، فجعله كناية عنه (عَنِ الذِّكْرِ): عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلى من الصبية؟ )، النهاية. الصبية: جمع صبي، والصبوة القياس، والأول أكثر استعمالاً.
قوله: (فاللام في {الظَّالِمُ} ، الفاء نتيجةٌ، يعني: اللام في {الظَّالِمُ} على أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط: للعهد، وعلى أن تكون الآية عامةً تكون للجنس، فعلى هذا دل قوله:"وقيل نزلت في عقبة بن أبي معيطٍ" على قولٍ آخر مقدر.
قوله: (أو أراد أني كنت ضالاً)، عطفٌ على جملة قوله:"تمنى أن لو صحب"، وهو تفسيرٌ لقوله:{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} ، فالتنكير في {سَبِيلًا} إما للإفراد شخصاً، وهو سبيل الحق فيقدر الضلال عاماً ليتناول جميع طرق الضلال، ولهذا قال: طرق الضلالة بعد قوله: "طريقاً واحداً"، وإما للشيوع، فالضلال- على هذا- مطلقٌ أيضاً، وإليه الإشارة بقوله:"لم يكن لي سبيلٌ قطٌ"، وقال:"سبيلاً"، أي: أي سبيلٍ كان.
قوله: (ومداري)، الجوهري: المدري: القرن، وربما تصلح بها الماشطة قرون النساء، وهي شيءٌ كالمسلة.
ذكر الله، أو القرآن، أو موعظة الرسول. ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق، وعزمه على الإسلام. والشيطان: إشارة إلى خليله، سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول، ثم خذله. أو أراد الجنس، وكل من تشيطن من الجنّ والإنس. ويحتمل أن يكون وَ (كانَ الشَّيْطانُ) حكاية كلام الظالم، وأن يكون كلام الله. (اتَّخَذْتُ): يقرأ على الإدغام والإظهار، والإدغام أكثر.
[(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً* وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا مِّنَ المُجْرِمِينَ وكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا ونَصِيرًا)].
(الرَّسُولُ): محمد صلى الله عليه وسلم وقومه قريش، حكى الله عنه شكواه قومه إليه. وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية، وتخويف لقومه لأن الأنبياء كانوا إذا التجئوا إليه وشكوا إليه قومهم: حلّ بهم العذاب ولم ينظروا.
ثم أقبل عليه مسليا ومواسيا وواعدا النصرة عليهم، فقال:(وَكَذلِكَ) كان كل نبىّ قبلك مبتلى بعداوة قومه، وكفاك بى هاديا إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصرا لك عليهم. (مَهْجُورًا): تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نطقه بشهادة الحق)، أي: نطق عقبة بالشهادتين كما مر.
قوله: (أو أراد الجنس)، فعلى هذا الجملة معترضةٌ مذيلةٌ، وعلى التعيين يجوز أن يكون حالاً.
قوله: {اتَّخَذْتُ} يقرأ على الإدغام والإظهار)، ابن كثيرٍ وحفصٌ: بالإظهار، والباقون: بالإدغام.
قوله: (مواسياً)، الجوهري: أسيته تأسيةً: أي عزيته.
النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه". وقيل: هو من هجر، إذا هذى، أي: جعلوه مهجورا فيه، فحذف الجار وهو على وجهين، أحدهما: زعمهم أنه هذيان وباطل وأساطير الأوّلين. والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، كقوله تعالى:(لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)[فصلت: 26]. ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر، كالمجلود والمعقول. والمعنى: اتخذوه هجرا.
والعدوّ: يجوز أن يكون واحدا وجمعا. كقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي)[الشعراء: 77] وقيل: المعنى: وقال الرسول يوم القيامة.
[(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً* وَلا يَاتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً* الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا}) أي: بإنشاد الأناشيد وإنشاء الأراجيز، وبالمكاء والتصدية.
قوله: (ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر)، عطفٌ على قوله:{مَهْجُورًا} تركوه"، كالمجلود بمعنى الجلادة، والمعقول بمعنى العقل، والمعنى: اتخذوه هجراً، أي: نفس الهجر مبالغةً، هذا على قول الكوفيين، لأن صاحب "الكتاب" لم يثبت الوارد على وزن المفعول.
الراغب: الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، وقوله تعالى:{يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} فهذا هجرٌ بالقلب، أو بالقلب واللسان.
قوله: (وقيل: المعنى: وقال الرسول يوم القيامة)، عطفٌ على قوله:"حكى الله عنه شكواه قومه إليه".
(نُزِّلَ) هاهنا بمعنى أنزل لا غير، كخبر بمعنى أخبر، وإلا كان متدافعا. وهذا أيضا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل على التفاريق. والقائلون: قريش. وقيل: اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته، لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقا. وقوله:(كَذلِكَ) جواب لهم، أى: كذلك أنزل مفرّقا. والحكمة فيه: أن نقوّى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه، لأنّ المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء، وجزأ عقيب جزء. ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا بحفظه، والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى، حيث كان أمياً لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإلا كان متدافعاً)، أي: مدفوعاً بجملةٍ واحدة، يعني: أنهم اعترضوا أن القرآن لم فرق نزوله، ولم ينزل جملةً واحدةً؟ فلو ذهبت إلى قولك: هلا فرق نزلوه جملةً واحدةً؟ لوقعت في التناقض.
عن بعضهم: {نُزِّلَ} : على التفريق، بخلاف "أنزل"، وهاهنا بمعنى واحد، كقوله تعالى:{أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، وهذا من التقاص والتعريض، كما في "عسى" و"كاد" في إثبات "أن" وحذفها.
قوله: (فضولٌ من القول)، فضولٌ: جمع فضل، غلب على ما لا خير فيه، يخالف الجمع الواحد في قولهم: له فضلٌ، وفي فضول.
قوله: (لبعل به)، بكسر العين. الأساس: بعل بالأمر: إذا عي به.
الراغب: قيل لفحل النخل: بعل، تشبيهاً بالبعل من الرجال، واستبعل النخل: عظم وتصور من البعل الذي هو النخل قيامه في مكانه، فقيل: بعل فلانٌ بأمره، إذا أدهش وثبت في مكانه ثبات النخل في مكانه، كقولهم: ما هو إلا شجرٌ، فيمن لا يبرح.
يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ، فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين. وأيضا: فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين، ولأنّ بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرّقا. فإن قلت:"ذلك" في (كَذَلِكَ) يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه، والذي تقدّم هو إنزاله جملة، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في عشرين سنةً، وقيل: في ثلاثٍ وعشرين)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنةً يسمع الصوت ويرى الضوء ولا يرى شيئاً سبع سنين وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً.
وفي رواية: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنةً، فمكث ثلاث عشرة سنةً، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلوات الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
قوله: (وأيضاً: فكان ينزل)، عطفُ على قوله:"أن يقوي بتفريقه فؤادك"، وهذا الوجه يتضمن فوائد، منها أن الحوادث السانحة تقتضي أحكاماً متجددة موافقةً لها.
ومنها: أن أسئلة السائلين تستجد أجوبةً مطابقة لها.
ومنها: أن المصالح تختلف بحسب الأزمان والأوقات، فزمان قلة العدد والعدد يستدعي أن يقال:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وزمان كثرة الشوكة يوجب أن يخاطبوا بقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
قوله: (فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرقاً؟ )، يؤيد به تفسيره قبل هذا وقوله:" {كَذَلِكَ}: جوابٌ لهم، أي: كذلك أنزل مفرقاً" يعني: إذا كان هذا جواباً عن قولهم كان المشار إليه المقدم ذكره: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً} ، فكيف تفسر بقولك:"كذلك أنزل مفرقاً"؟ وتلخيص الجواب: أن مفهوم قوله: هلا أنزل عليه جملةً؟ ذلك، لأنهم إذا طلبوا أن ينزل عليه جملةً فهم منه أنهم أنكروا الحالة الموجودة، وهو النزول مفرقاً. وهذا الجواب من
قلت: لأنّ قولهم: لولا أنزل عليه جملة: معناه: لم أنزل مفرّقا؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض: أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول بالموجب، أي: نعم، هو كما يقولون أنزل مفرقاً على خلاف ما أنزلت الكتب الثلاثة، أي: التوراة والإنجيل والزبور، والحكمة فيه أن يقوي بتفريقه فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يعيه ويحفظه ويبين لأمته ما يسنح له من الحوادث المتجددة، ويجيب أسئلة السائلين، ويظهر ما يقتضيه الوقت من الأحكام، وينسخه بحسب المصالح، وفي الكلام التفاتٌ، والله تعالى أعلم.
قوله: (فأبرزوا صفحة عجزهم)، الأساس: نظر إليه بصفح وجهه، أي: بجانبه، وكتب صفحتي الورقة. شبه عجزهم المكنون فيهم بكتابٍ فيه أسرارٌ لا يكشف، تشبيهاً بليغاً، ثم خيل أنه كتابٌ بعينه، فأخذ الوهم في تصويره بصورته، وإثبات ما يلازم الكتاب عند العرض من الصفحة، ثم شبه هذا المتوهم بمثله من المحق، ثم أطلق المحقق وأريد المتوهم، وأضيف إلى المشبه الأول، ليكون قرينةً مانعةً عن إرادة الحقيقة، فهي من الاستعارة المكنية المستلزمة للتخييلية، كأنهم أقروا بالعجز، وكتبوا على أنفسهم كتاباً، وشهروا عن صفحاته بين الناس، فعلى هذا:"وسجلوا على أنفسهم" ترشيحٌ للاستعارة، والدليل على التسجيل بالعجز اختيارهم أمرين دل كل واحدٍ على أن السيل قد بلغ الزبي، أحدهما اختيارهم الحرب على الإتيان بأقصر سورة، كما قال في الخطبة: فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب.
وثانيهما: الطعن بقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} ، فهذا دل على أن إفحامهم بلغ غايته، لأن ديدان المحجوج عليه أن يتشبث بما هو عليه، وإليه الإشارة بقوله:"كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته".
قوله: (لاذوا)، الأساس: لاذ به لياذاً، ولاوذته لواذاً، واعتصم بلوذ الجبل بجانبه.
بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة، ثم قالوا: هلا نزل جملة واحدة! كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته (وَرَتَّلْناهُ) معطوف على الفعل الذي تعلق به (كَذَلِكَ)، كأنه قال: كذلك فرقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله: أن قدره آية بعد آية، ووقفة عقيب وقفة. ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله:(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)[المزمل: 4]، أي: اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها. وأصله: الترتيل في الأسنان: وهو تفليجها. يقال: ثغر رتل ومرتل، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. وقيل: هو أن نزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة، ولم يفرقه في مدة متقاربة. (وَلا يَاتُونَكَ) بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة - كأنه مثل في البطلان - إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدّى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام، وضع موضع معناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بالمناصبة)، الأساس: نصبناهم حرباً، وناصبناهم مناصبةً، ونصبت لفلانٍ: عاديته نصباً.
قوله: (ومعنى ترتيله: أن قدرة آية بعد آية)، الراغب: الرتل: اتساق الشيء وانتظامه على استقامةٍ، يقال: رجلٌ رتل الأسنان، والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولةٍ واستقامة. قال عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4].
قوله: (لا كسردكم)، النهاية: وفي صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يكن يسرد الحديث سرداً، أي: يتابعه، ويستعجل فيه.
قوله: (ولما كان التفسير هو: التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه)،
فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعني: قوله: {تَفْسِيرًا} في قوله: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وضع موضع "معنى ومؤدى"، أي: أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم، فهو من وضع السبب موضع المسبب، لأن التكشيف سبب ظهور المعنى وكشفه، ففيه المبالغة مع الإيجاز.
قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: وأحسن معنًى في غاية الحسن وكماله، ولا يقدر: من سؤالهم، ومثله قوله: الله أكبر له الكبرياء كلها. قلت: فإذاً يفوت معنى التسلية، لأن المعنى: لأنهم بك ما اقترحوه من قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً} فإن تنزيله مفرقاً أحسن مما اقترحوه لفوائد شتى، وعلى هذا جميع ما اقترحوه. وهو المراد من قوله:"أو لا يأتونك بحالٍ وصفةٍ عجيبة، يقولون: هلا كانت هذه صفتك، إلا أعطيناك من الأحوال ما هو أحسن كشفاً من ذلك".
قوله: (فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا)، قال الحريري في "درة الغواص في أوهام الخواص": يقال: قال فلانٌ: كيت وكيت، فيوهمون فيه، لأن العرب تقول: كان من الأمر كيت وكيت، وقال فلانٌ: ذيت وذيت، فيجعلون "كيت وكيت كنايةً عن المقال، كما أنهم يكنون عن مقدار الشيء وعدته بلفظة: كذا وكذا، فيقولون: قال فلانٌ من الشعر كذا وكذا بيتاً، واشترى الأمير كذا وكذا عبداً، والأصل في هذه اللفظة "ذا" فأدخل عليها كاف التشبيه، إلا أنه قد انخلع من "ذا" معنى الإشارة، ومن الكاف معنى التشبيه، لأنك لست تشير إلى شيء، ولا تشبه شيئاً بشيء، وإنما تكني بها عن عددٍ ما، والكاف لما امتزجت بـ "ذا"، وصارت معه كالجزء الواحد ناسبت لفظتها لفظة "حبذا" التي لا يجوز أن يلحقها علامة التأنيث، فتقول: عنده كذا وكذا جاريةً، وعند الفقهاء أنه إذا قال من له معرفةٌ بكلام العرب: لفلانٍ علي كذا كذا درهماً، لزم له أحد عشر درهماً، لأنه أقل الأعداد المركبة، وإن قال: له علي كذا وكذا درهماً، لزم أحدٌ وعشرون درهماً، لكونه أول الأعداد المعطوفة. وعن بعضهم: يقال: كان من الأمر كيت وكيت.
أو: لا يأتونك بحال وصفة عجيبة، يقولون: هلا كانت هذه صفتك وحالك، نحو: أن يقرن بك ملك ينذر معك، أو يلقى إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة، إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته، يعنى: أن تنزيله مفرقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما تزل شيء منها: أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ويقال لهم: جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه، كأنه قيل لهم: إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته. ولو نظرتم بعين الإنصاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بكسر التاء وفتحها، وأصل التاء فيهما هاءٌ، وإنما صارت تاءً في الوصل. وحكى أبو عبيدة: كان من الأمر كيه وكيه بالهاء، ويقال: كيهه، كما يقال: لمه، في الوقف.
قوله: (أو لا يأتونك بحالٍ وصفةٍ)، عطفٌ على قوله:"ولا يأتونك بسؤالٍ عجيب".
قوله: (كأنه قيل لهم: إن حاملكم على هذه السؤالات)، إشارةٌ إلى أن المراد بقوله:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} القوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فوضع المظهر موضع المضمر إشعاراً بتوهينهم، وتحقيراً لشأنهم، قال القاضي: وهو ذمٌ منصوب، أو مرفوعٌ، أو مبتدأٌ خبره {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} ، والمفضل عليه هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ولو نظرتم بعين الإنصاف)، أي: هو من باب الكلام المنصف وإرخاء العنان، فصل قوله:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} عما قبله استئنافاً، لأنه تعالى لما قال لرسوله صلوات الله عليه مسلياً:{وَلَا يَاتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} حرك منه صلوات الله عليه بأن يسأل: فإذن بماذا أجيبهم وما يكون قولي لهم؟ قيل: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعني: مقصودكم عن هذا التعنت تحقير مكاني، وتضليل سبيلي، وما أقول لكم: أنتم كذلك، بل أقول:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} الآية. فانظروا بعين الإنصاف، وتفكروا: من الذي هو أولى بهذا الوصف منا ومنكم، ليعلموا أن مكانكم شرٌ من مكاننا، وسبيلكم أضل من سبيلنا.
وعليه قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] يبعثهم على الفكر في حال أنفسهم وما هم عليه من العنت والفساد، وحال نفسه والمؤمنين وما هم عليه من الإصلاح، ليعلموا أن المؤمنين على هدى، وهم على ضلال.
فالمكان على هذا التفسير: المنزلة، و {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ}: مبتدأ، و {أُولَئِكَ}: خبره، والجملة مستأنفةٌ، و {شَرٌّ} و {أَضَلُّ} محمولان على التفضيل، ولذلك قال:"وفي طريقته: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] لمجيء متعلق "شر" و {قُلْ} منصوصاً فيه، وأن المثوبة مفسرةٌ، بالعقوبة على زعمهم ودعواهم.
وأما معنى الأفضلية فهو كما قال: كان اليهود- لعنوا- يزعمون أن المسلمين ضالون، مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه الله شرٌ عقوبةً في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم، وإلى هذا المعنى أشار هاهنا بقوله:"إنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه"، فقوله:"ويجوز أنه يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، إلى آخره، ليس بوجهٍ آخر، ولكنه مبنيٌ على قوله: "وتحتقرون مكانه ومنزلته"، يعني: هذا المكان يجوز أن يحمل على الشرف والمنزلة كما سبق، وعلى الدار والسكن أيضاً، والتأويل التأويل.
قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: ليس المراد أن مكانهم شرٌ من مكانه، وسبيلهم أضل من سبيله، والمراد أن مكانهم، وهو جهنم، فيه كل الشر، وسبيلهم في الضلالة في غاية الكمال، كأنه قيل: لا مكان شرٌ من مكانهم، وهو جهنم، ولا سبيل أضل من سبيلهم، وهو
وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم، لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. وفي طريقته قوله:(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الآية [المائدة: 60]. ويجوز أن يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، وأن يراد الدار والمسكن، كقوله:(أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)[مريم: 73]. ووصف السبيل بالضلال من المجازى الحكمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإشراك بالله، وما هم عليه من الأفعال والأحوال، فعلى هذا التقدير: هم الذين يحشرون على وجوههم، و"هم" يرجع إلى الضمير في {يَاتُونَكَ} ، ويمكن أن يكون {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} بدلاً من الضمير في {يَاتُونَكَ} ، و {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا}: كلامٌ مستأنفٌ، والمراد من قوله:{شَرٌّ} و {وَأَضَلُّ} الكمال والكل كما مر، والله الهادي.
قلت: هذا التأويل إنما يحسن إذا حمل المكان على الشرف والمنزلة، ويحمل {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} منصوباً أو مرفوعاً على الذم كما قال القاضي، و {أُولَئِكَ}: جملةٌ مستأنفةٌ تسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. المعنى: ولا يأتونك بحالٍ أو صفةٍ عجيبةٍ يريدون بذلك حط منزلتك عند الناس إلا أعطيناك نحن من الأحوال والرفعة ما هو أحسن تكشيفاً، كقوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، فلا تبال بهم ولا بكيدهم، أعني الذين يحشرون على وجوههم منكوبين مخذولين امتهاناً بهم أولئك شرٌ منزلةً، وأضل سبيلاً.
قوله: (كقوله تعالى: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} ، وجه التشبيه: يجوز أن يكون من حيث الدار والمسكن، وأن يكون من حيث الشرف والمنزلة، والمعنى: إن نظرتم بعين الإنصاف وحالكم أنكم تسحبون على وجوهكم إلى جهنم ذليلين مهانين، وحال المؤمنين بخلاف ذلك، لعلمتم الآن أن مكانكم أبلغ في الشر من مكان المؤمنين، كما تزعمون أن مقامكم خيرٌ من مقامهم ونديكم أحسن من نديهم.
قوله: (من المجاز الحكمي)، من المجاز الذي يتعلق بحكم الكلام لا باللفظ"، يعني: أن الحكم معدى من مكانه الأصلي إلى غيره، كما تقول: أنبت الربيع البقل، فإن حكم
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا".
[(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً* فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأصل: أنبت الله البقل وقت الربيع، فعدي منه وأسند إلى الربيع مبالغةً. كذلك هاهنا، الأصل: أولئك أضل منه في السبيل، فأسند الضلال إلى السبيل مبالغةً، حيث جعل تمييزاً ليؤذن أن سبيلهم ضالٌ لقوة الضلال فيهم، نحو: مكانٌ سائرٌ.
قوله: (يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاثٍ)، الحديث، من راوية الترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفاً مشاةً، وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم"، قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال:"إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدبٍ وشوك".
قال القاضي: صنف المشاة: المؤمنون الذين خلطوا صالح أعمالهم بسيئها، ولعلهم أصحاب اليمين، والركبان هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويجتنبون عن السيئات، يسرعون إلى ما أعد لهم في الجنان إسراع الركبان، ولعلهم السابقون.
وقلت: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} : الكفار والمشركون، ولعلهم أصحاب الشمال، لقوله تعالى:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} إلى قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47].
قوله: (ينسلون نسلاً)، الجوهري: نسل في العدو، ينسل، نسلاً ونسلاناً، أي: أسرع
الوزارة لا تنافي النبوّة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. والمعنى: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، كقوله:(اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)[الشعراء: 63] أي: فضرب فانفلق. أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أوّلها وآخرها، لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني: إلزام الحجة ببعثة الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وعن علي رضي الله عنه:(ودمَّرتُهم)، وعنه:(فدَمِّراهُم). وقرئ (فدمّرانّهم) على التأكيد بالنون الثقيلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يؤازر بعضهم بعضاً)، الجوهري: الوزر: الملجأ. وأصل الوزر: الجبل. والوزر: الإثم، والثقل والمكاره، والسلاح. الوزير: المؤازر، كالأكيل والمؤاكل، لأنه يحمل عنه وزره، أي: ثقله.
قوله: (وقرئ: "فدمرانهم" على التأكيد بالنون)، قال ابن جني: هي قراءة علي ومسلمة، كأنه أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يدمرانهم، وألحق نون التوكيد ألف التثنية، كما تقول: أضربان زيداً ولا تقتلان جعفراً.
وقال صاحب "المطلع": فإن قيل: لم يكونوا كذبوا بالآيات حين أمر بالذهاب إليهم، فكيف وصفوا؟ قلنا: المعنى اذهبا بآياتنا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا المتقدمة مع الرسل الماضية.
وقال الإمام: إنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين، شرع في ذكر القصص على السنن المعلوم، فبدأ بقصة موسى عليه السلام، أي: لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فرد، فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هارون، مع ذلك فقد رد وكد، وكذلك الرسل قاطبة.
وقلت: إن الله تعالى لما حكم بقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} وسلاه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} جاء بتفصيل ذلك،
[(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً)].
كأنهم كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل صريحا. أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيب للجميع أو لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة (وَجَعَلْناهُمْ)، وجعلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبدأ بقصة موسى وفرعون مجملاً، وثنى بقصة نوح، وثلث بعادٍ، ثم أجمل بقوله:{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} .
قوله: (أو لم يروا بعثة الرسل أصلًا)، التعريف في قوله:{كَذَّبُوا الرُّسُلَ} إما للعهد، والمراد: رسلٌ مخصوصون، فهو المراد من قوله:"كذبوا نوحاً من قبله"، وإما لاستغراق الجنس، فهو المراد من قوله:"تكذيبهم لواحد منهم تكذيبٌ للجمع"، وذلك أن لكل فردٍ من أفراد تلك الحقيقة حكم الجميع، فمن كذب واحداً لزم منع تكذيب الجميع، لأن وجه دلالة المعجز على الصدق مشتركٌ فيهم، وعليه قوله تعالى:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وإما للجنس، وهو المراد من قوله:"أو لم يروا بعثة الرسل أصلاً"، أي: كذبوا هذا الجنس المسمى بالرسل، كقولهم: فلانٌ يركب الخيل، وما له إلا فرسٌ واحد. والوجه الثاني والثالث: كنايتان متقابلتان لما يلزم في الثاني من تكذيب نوح تكذيب الرسل قاطبةً، ومن الثالث عكسه، والفرق بين الوجه الثاني والثالث: هو أن التكذيب في الثاني تابعٌ للوصفية حيثما وجدت ترتب عليها التكذيب وفي الثالث تابع للماهية، والله أعلم.
قوله: (كالبراهمة)، قيل: هم قومٌ لا يجوزون على الله بعثة الرسل، والبرهمة: إدامة النظر، وسكون الطرف، وبرهم: إذا فتح عينيه وأحد النظر. قال الشهر ستاني صاحب "الملل والنحل": الهند أمةٌ كبيرة، وآراؤهم مختلفةٌ، والبراهمة انتسبوا إلى رجلٍ منهم يقال له برهام، قد مهد لهم نفي النبوات أصلاً، وقرر استحالة ذلك في العقول.
إغراقهم أو قصتهم (لِلظَّالِمِينَ) إمّا أن يعنى بهم قوم نوح، وأصله: وأعتدنا لهم، إلا أنه قصد تظليمهم فأظهر. وإمّا أن يتناولهم بعمومه.
[(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)].
عطف عادا على "هُمْ" في (وجَعَلْنَاهُمْ)[الفرقان: 37] أو على الظالمين، لأنّ المعنى: ووعدنا الظالمين. وقرئ:
(وثَمُودَا) على تأويله القبيلة، وأما المنصرف فعلى تأويل الحي، أو لأنه اسم الأب الأكبر. قيل في أصحاب الرس: كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام. فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه. فبيناهم حول الرس وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قصد تظليمهم فأظهر)، أي: وضع الظاهر موضع المضمر تظليماً لهم، من: ظلمه، أي: قال له: إنك ظالمٌ، أو نسبهم إلى الظلم ليؤذن أن تعذيبهم وإغراقهم بسبب تكذيبهم الرسل، وأن لا ظلم أظهر منه، وقوله تعالى:{وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} على وضع المضمر موضع المظهر عطفه على {أَغْرَقْنَا} ليجمع لهم نكال الدارين، وعلى العموم من باب التذييل فيدخلوا في العام دخولاً أولياً.
قوله: (لأن المعنى: ووعدنا الظالمين)، يعني: قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} في معنى الوعيد، أي: ووعدنا الظالمين، ثم عطف عاداً وثمود عطف الخاص على العام مبالغةً، لأنهم رؤوس الظلمة والأوحديون فيه.
قوله: (وقرئ: {وَثَمُودَ} ، حفصٌ وحمزة: بغير تنوين، والباقون: بالتنوين.
قوله: (أصحاب أبآر)، الجوهري: البئر: جمعها في القلة: أبؤرٌ وأبارٌ، بهمزةٍ بعد الباء.
البئر غير المطوية. عن أبي عبيدة- انهارت بهم، فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس: قرية بفلج اليمامة، قتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح. وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان، كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح، وهي تنقض على صبيانهم فتختطفهم إن أعوزها الصيد. فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا: وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس: هو الأخدود.
وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. وقيل: كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أى: دسوه فيها (بَيْنَ ذلِكَ) أي: بين ذلك المذكور، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بـ "ذلك"، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى: فذلك المحسوب أو المعدود. (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ): بينا له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (البئر غير المطوية)، أي: غير المبنية. الأساس: طوى البناء باللبن، والبئر: بالحجارة، وهي الطوي والأطواء.
قوله: (قريةٌ بفلج اليمامة)، النهاية: فلج بفتحتين: قريةٌ عظيمةٌ من ناحية اليمامة، وموضعٌ باليمن من مساكن عاد، وبسكون اللام: وادٍ قريبٌ من البصرة.
قوله: (حنطلة بن صفوان)، روى محيي السنة عن سعيد بن جيبر: كان لهم نبيٌ يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوه فأهلكهم الله. وأما حديث العنقاء فما وجدته إلا في "مجمع الأمثال" للميداني.
قوله: (يقال له: فتخ)، قيل: صح بالتاء المثناة من فوق والخاء المعجمة، وبالحاء غير المعجمة: رواية، وبالجيم والياء التحتاني أيضاً، ذكره صاحب "الإيضاح" في "شرح المقامات".
القصص العجيبة من قصص الأوّلين، ووصفنا لهم ما أجروا إليه من تكذيب الأنبياء وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره. والتتبير: التفتيت والتكسير. ومنه: التبر، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج. و (كُلًّا) الأوّل منصوب بما دل عليه (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ)؛ وهو: أنذرنا. أو: حذرنا. والثاني بـ (تَبَّرْنَا)، لأنه فارغ له.
[(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)].
أراد بالقرية "سدوم" من قرى قوم لوط، وكانت خمسا: أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة. ومطر السوء: الحجارة، يعني: أن قريشا مرّوا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء (أَفَلَمْ يَكُونُوا) في مرار مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ويذكرون؟ (بَلْ كانُوا) قوما كفرة بالبعث لا يتوقعون (نُشُوراً) وعاقبة، فوضع الرجاء موضع التوقع، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن، فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا، ومرّوا بها كما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أراد بالقرية: سدوم، من قرى قوم لوطٍ عليه السلام، وعن بعضهم: سدوم عظامها وعاموراء وأذوما وصبوائيم وصغر، نجت صغر، وهلكت البواقي، وفي حاشيةٍ موثوقٍ بها: سذوم بالذال المعجمة، ذكره الأزهري. والجوهري بالدال غير المعجمة.
قوله: (لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن)، يريد أن حقيقة الرجاء انتظار الخير.
مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون؛ لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو: لا يخافون، على اللغة التهامية.
[(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً* إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)].
"إِنْ" الأولى نافية، والثانية: مخففة من الثقيلة. واللام هي الفارقة بينهما. واتخذه هزوا:
في معنى استهزأ به، والأصل: اتخذه موضع هزء، أو مهزوءا به (أَهذَا) محكي بعد القول المضمر. وهذا استصغار، و (بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) وإخراجه في معرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: الرجاء: ظن حصول ما فيه مسرةٌ. الأساس: أرجو من الله المغفرة، ورجوت في ولدي الرشد، وأتيت فلاناً رجاء أن يحسن إلي، والكافر لا يرجو بل يتوقع، لأن التوقع: الترقب. الأساس: توقعته: ترقبت وقوعه.
قوله: (أو: لا يأملون)، فعلى هذا الرجاء على حقيقته.
قوله: (أو: لا يخافون)، الأساس: ومن المجاز استعمال الرجاء في معنى الخوف والاكتراث، يقال: لقيت هولاً ما رجيته وما ارتجيته.
قوله: (وهذا استصغار)، مبتدأٌ وخبر.
قوله: (و {بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا})، في موضع الابتداء على حكاية القرآن، والخبر:"سخريةٌ"، أي: بعثه، وحذف الضمير. ويروى:"بعث الله" على المصدر.
قال الإمام: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} تفسيرٌ لقوله: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} فاستحقروه بقوله: {أَهَذَا} واستهزؤوا به بقولهم: {رَسُولًا} ، وهم منكرون، ذلك جهلٌ عظيم، لأن الاستهزاء والاحتقار إما أن يقع بصورته أو صفته، أما الأول
التسليم والإقرار، وهم على غاية الجحود والإنكار: سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزئوا لقالوا: أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولا؟ وقولهم: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا- بزعمهم- أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فباطلٌ، لأنه صلوات الله عليه كان أحسن منهم خلقةً على أن لم يكن يدعي ذلك. وأما الثاني فكذلك، لأنه صلوات الله عليه ادعى التميز عنهم بإظهار المعجزة، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته، ففي الحقيقة هم الذين استحقوا أن يهزأ بهم، ويحقر شأنهم، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية، وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في أكثر الأوقات إلا السفاهة.
قوله: (ولو لم يستهزئوا لقالوا: أهذا الذي زعم أنه مبعوثٌ من عند الله رسولاً؟ )، لأن من مقتضى الظاهر أن يترجموا عن معتقدهم بقولهم: أهذا الذي زعم أنه مبعوثٌ من عند الله؟ فلما أتوا بالفعل الماضي وأوقعوا رسولاً حالاً من المفعول، وجعلوا الجملة صلة الموصول، أعلموا بأنه مقررٌ عندهم أنه رسولٌ ثابت الرسالة، فلو لم يحمل على الاستهزاء، لأن القوم كفرةٌ معاندةٌ، لا يكون له معنى.
قوله: (ذليلٌ على فرط مجاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم)، قال الإمام: وتدل الآية على اعتراف القوم بأنهم ما اعترضوا على الدلائل كلها إلا بمحض الجمود والتقليد، لأن قولهم:{لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} إشارةٌ إلى الجمود والإصرار، كدأب الجهال، وإلى أنهم مقهورون تحت حجته صلوات الله عليه، وما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة. وإلى أنهم سلموا في آخر الأمر قوة الحجة ورزانة العقل، فالقوم لما جمعوا بين الاستهزاء والاستحقار، وبين رزانة العقل وقوة الحجة، دل على أنهم كانوا متحيرين في أمره.
و "لَوْلا" في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى - لا من حيث الصنعة - مجرى التقييد للحكم المطلق (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدّة الإمهال، ولا بدّ للوعيد أن يلحقهم فلا يغرّنهم التأخير. وقوله:(مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) كالجواب عن قولهم: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا)؛ لأنه نسبة لرسول الله إلى الضلال من حيث لا يضلّ غيره إلا من هو ضال في نفسه. ويروى: أنه من قول أبي جهل لعنه الله.
[(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)].
من كان في طاعة الهوى في دينه يتبعه في كل ما يأتى ويذر، لا يتبصر دليلا ولا يصغي إلى برهان. فهو عابد هواه وجاعله إلهه، فيقول لرسوله هذا الذي لا يرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و"لولا" في مثل هذا الكلام جارٍ- من حيث المعنى لا من حيث الصنعة- مجرى التقييد للحكم المطلق)، ويروى: لا من حيث الصنعة، بالنون والعين المهملة، أي: صنعة أهل النحو، يعني: أن صنعة النحو تقتضي أن يأتي بعد كلمات الشرط جملتان: شرطٌ وجزاء، وقد يؤتى في بعض المواضع الذي يراد تقييد الجملة المتقدمة بشرطٍ محذوفٍ جوابه، كقولك: آتيك غداً إن تركني فلانٌ، فقولك: إن تركني: تقييدٌ لا من حيث الصنعة، لأن "إن" ليست بموضوعية للقيد، قال:" {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا} [الممتحنة: 1]، متعلقٌ بـ {لَا تَتَّخِذُوا} يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله: هو شرطٌ جوابه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه"، وحكم "لولا" حكم كلمات الشرط في اقتضاء الجملتين، وتقدير الربط بينهما.
قوله: (من كان في طاعة الهوى)، "من": شرطيةٌ، أو موصولةٌ، والخبر أو الجزاء قوله:"فهو عابدٌ هواه"، وقوله:"فيقول"، مرتبٌ عليهما، والهمزة فلي {أَرَأَيْتَ} للتقرير والإنكار، يعني: إذا كان الشأن كذلك فيقول الله لرسوله: أرأيت من اتخذ إلهه هواه أنت تتوكل عليه وتحبره على الإسلام؟ وإليه الإشارة بقوله: "هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه" إلى آخره، ويجوز أن يكون قوله:"فهو عابدٌ هواه" معطوفاً على "يتبعه في كل ما يأتي ويذر"، "فيقول" جزاء الشرط، أي: كونهم على هذه الحالة الشنيعة، سببٌ لأن ينكر الله تعالى على رسوله
معبودا إلا هواه: كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وتقول: لا بدّ أن تسلم شئت أو أبيت، ولا إكراه في الدين؟ وهذا كقوله:(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)[ق: 45]، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية: 22]. ويروى: أنّ الرجل منهم كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ومنهم الحرث بن قيس السهمي.
[(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)].
(أَمْ) هذه منقطعة، معناه: بل أتحسب كأن هذه المذمة أشدّ من التي تقدّمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا ولا إلى تدبره عقلا، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال، ثم أرجح ضلالة منها. فإن قلت لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلها؟ قلت: ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأوّل للعناية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويقول: هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه. هذا التقدير أوفق لتفسير الآية، لأن قوله:{أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} واقعٌ جزاءً للشرط، وهو معنى قوله:"فيقول لرسوله هذا الذي" ليؤذن بأن الجزاء لا يستقيم إلا بتقدير الإخبار والقول. وقد أكد الله سبحانه وتعالى الإنكار حيث أخرج الشرط والجزاء الإنكار، وأقحم حرف الإنكار بين الشرط والجزاء على ضمير الفاعل المعنوي ليدل على أن الوكيل هو الله تعالى، ليس غيره أحدٌ.
قوله: (أفتتوكل عليه؟ )، قيل: هو مطاوع وكله: جعله وكيلاً، يقال: توكل لي على فلانٍ حتى تأخذ حقي منه.
قوله: (ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية)، الانتصاف: وفيه نكتة إفادة الحصر، فإن الجملة قبل دخول {أَرَأَيْتَ} و {اتَّخَذَ} مبتدأٌ، وخبر المبتدأ:{إِلَهَهُ} ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والخبر: {هَوَاهُ} . وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر، فكأنه قال: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه؟ وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه.
وقال صاحب "الفرائد": تقديم المفعول الثاني يمكن، حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ، والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبراً فالمتقدم هو المبتدأ، فقوله: كما تقول: علمت منطلقاً زيداً، ليس بسديد، ويمكن أن يقال: المتقدم هاهنا يشعر بالثبات، بخلاف المتأخر، فتقديم {إِلَهَهُ} ، على {هَوَاهُ} .
وقلت: لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم، وأن المعرفين أيهما قدم فهو المبتدأ، لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره من أصل المعنى، فإذا قيل: زيدٌ الأسد، فالأسد هو المشبه به أصالةً، ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع، فإذا جعلته مبتدأ في قولك: الأسد زيدٌ، أزلته عن مقره الأصلي للمبالغة، وما يعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه، لا القار فيه، فالمشبه به هاهنا: الإله، والمشبه: الهوى، لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإله، وإليه الإشارة بقوله:"اتخذ الهوى إلهاً"، فقدم المشبه به الأصلي، وأوقعه مشبهاً، ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة لها أقوى من الإله تعالى، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ولمح صاحب "المفتاح" إلى هذا المعنى في كتابه. وإنما قال المؤلف:"ما هو إلا تقديم المفعول" على الحصر، لئلا يتوهم متوهمٌ خلافه، وأما المثال الذي أورده صاحب "الفرائد" فمعنى قوله: اتخذ ابنه غلامه، جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله، وقوله: اتخذ غلامه، ابنه جعل غلامه ابنه مكرماً مدللاً.
كما تقول: علمت منطلقا زيدا: لفضل عنايتك بالمنطلق. فإن قلت: ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت: كان فيهم من لم يصدّه عن الإسلام إلا داء واحد: وهو حب الرياسة، وكفى به داء عضالا. فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الإنعام؟ قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدى لمراعيها ومشاربها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنىّ والعذب الروي.
[(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً)].
(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ): ألم ننظر إلى صنع ربك وقدرته؟ ومعنى مدّ الظل: أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والعذب الروي)، أي: المروي: وهو من الإسناد المجازي، لأن الروي في الحقيقة: الريان، وهو الرجل، وهو فعيلٌ بمعنى مفعل، كالحكيم بمعنى المحكم في أحد الأقوال. الأساس: وماءٌ رواءٌ ورويٌ: وللوارد فيه: ريٌ. ورويت على أهلي، ورويت لهم ورويتهم: استقيت لهم، ومن المجاز: سحاب روي: عظيم القطر، وكأس روية.
قوله: (ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته؟ )، قال القاضي: أصله: ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك، فغير النظم إشعاراً بأن المعقول لوضوح برهانه، وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة، وأن ذلك فعل الصانع الحكيم، كالمحسوس المشاهد المرئي، أو لم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل، وذلك فيما بين طلوع الفجر، وهو أطيب الأحوال، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتسد النظر، وشعاع الشمس يسخن الجو، ويبهر المبصر ولذل وصف به الجنة فقال:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30].
جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي: لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجرة، غير منبسط فلم ينتفع به أحد: سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا. ومعنى كون الشمس دليلا: أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتا في مكان وزائلا ومتسعا ومتقلصا، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه: أنه ينسخه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: ولو قيل: ألم تر إلى الظل كيف مده؟ كان الانتقال من الأثر إلى المؤثر، والذي عليه التلاوة عكسه، والمقام يقتضيه، لأن الكلام في تقريع القوم، وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلهاً مع وضوح هذه الدلائل، ولذلك جعل ما يدل على ذاته مقدماً على أفعاله في سائر آياته {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} ، {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} ، {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا} . روى السلمي في "الحقائق"، عن بعضهم: مخاطبة العام: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] ومخاطبة الخاص: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} .
قوله: (سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه، وعدم ذلك سكوناً)، يعني: قوبل {مَدَّ الظِّلَّ} بقوله: {سَاكِنًا} ، ومقابل السكون الحركة، فيكون إطلاق مد ظل وبسطه على الحركة من باب تسمية الشيء باسم ملابسه أو سببه.
فإن قلت: لم عدل عن "متحركاً" إلى "مد" وهو أظهر من "مد" في تناوله الانبساط والامتداد؟ قلت: ليدمج فيه معنى الانتفاع المقصود بالذات، وهو معرفة أوقات الصلوات، فإن اعتبار الظل فيها بالامتداد دون الانبساط، وتمم معنى الإدماج بقوله:{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي: بالتدريج والمهل لمعرفة الساعات والأوقات، وفيه لمحةٌ من معنى قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 188].
بضح الشمس (يَسِيراً) أي: على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت:(ثُمَّ) في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كأن الثاني أعظم من الأوّل، والثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر: وهو أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بضح الشمس)، النهاية: الضح: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض، وهو كالقمراء للقمر.
قوله: (كأن الثاني أعظم من الأول) لأن في إزالة الظل بالشمس دليلاً على جوده، فلولا الشمس ما عرف الظل، وأما الانتفاع بهما فالانتشار في النهار، والهدوء في الليل، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [الإسراء: 66]، وما يحصل من وجود الليل من الرطوبة التي ينمو بها النامي، وتصبغ الفواكه، ومن وجود النهار الإنضاج، وأكثر الاستمتاع. وكون الثالث، أي: قبض الظل قبضاً يسيراً، أعظم من الثاني، لأن فيه الحصول والإزالة مع التدرج والمهل، فتحصل تلك الفائدة مع معرفة الساعات والأوقات المنوطة عليها أكثر أحكام الشرع، ولأن في التدرج الاستئناس، وفي الفجاءة التوحش.
قوله: (تشبيهاً لتباعد ما بينهما)، يعني:"ثم" هاهنا استعارةٌ تبعيةٌ، حيث شبه بعد المرتبة بالبعد الزماني، ثم استعير لجانب المشبه لفظة "ثم"، وليس المعنى أنه تعالى بعد ذلك المد بزمانٍ متراخٍ جعل الشمس عليه دليلاً، فيجب الحمل على المجاز، وكذلك {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} .
قوله: (ووجهٌ آخر)، وهذا الوجه مبنيٌ على أن "ثم" مجرى على حقيقتها، وهي التراخي في الزمان، ولا شك أن الظلمة سابقةٌ على النور، قال الله تعالى:{وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37]، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله خلق الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره"، أخرجه الإمام أحمد بن حنبلٍ في "مسنده" عن عبد الله بن عمروٍ.
مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب لعدم النير، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرّا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل، أى: سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد بها وينقص، ويمتدّ ويتقلص، ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير. ويحتمل أن يريد: قبضه عند قيام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فيناناً)، الأساس: وغصنٌ فينانٌ: كثير الأفنان، وهو في ظل عيشٍ وفينان شجرة، وعن بعضهم: ظلٌ فينانٌ، أي: ظليلٌ، وصرفه حيث فيعالاً من الفنن، وأصله في الشجر، يقال: شجرةٌ فينانةٌ. وفي "الصحاح": رجلٌ فينان: طويل الشعر وحسنه، وهو فعلان، جعله من الفينة. قيل: وأطبق الإمامان على أنه منصرفٌ، والحسن بن هانئ منعه الصرف في قوله:
فينان ما في أديمه جوب
وهو وهمٌ منه، كما وهم الطائي في قوله:
والنبع عريان ما في عوده ثمر
قوله: (ما في أديمه جوبٌ)، هو جمع جوبةٍ. الجوهري: الجوبة: الفرجة في السحاب وفي الجبال. وانجابت السحابة: انكشفت، والجوبة: موضعٌ ينجاب في الحرة، والجمع جوبٌ.
الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، وقوله:(قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا): يدل عليه، وكذلك قوله (يَسِيرًا)، كما قال ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44].
[(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)].
شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. والسبات: الموت. والمسبوت: الميت، لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله:(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)[الأنعام: 60]. فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟
قلت: النشور في مقابلته يأباه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} يدل عليه)، أي: يدل على أن المراد قبض الظل وإعدامه. وصف القبض باليسير، لأن إتيان الساعة وأماراتها عليه يسيرٌ، كقوله تعالى:{ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]. وفائدة إلينا في {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} وصيغة الجمع: القبض التام كقوله تعالى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
قوله: (هلا فسرته بالراحة؟ )، يعني: السبات لفظٌ مشتركٌ. الجوهري: السبات: النوم، وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9]، وقال: المسبوت: الميت، والمغشي عليه، وكذلك العليل إذا كان ملقًى كالنائم.
الأساس: جعل الله النوم سباتاً: موتاً، وأصبح فلانٌ مسبوتاً: ميتاً، فلم خصصته بالموت؟ وأجاب: أن النظم والتقابل هو القرينة المخصصة.
فإن قلت: {النَّهَارَ نُشُورًا} في مقابل {اللَّيْلَ لِبَاسًا} و {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} لا قرينة لها؟ قلت: تكرير {جَعَلَ} يدل على أن النوم داخلٌ في حكم {جَعَلَ} الأول، وأن النشر في النهار يقابلها لاشتمال النشور على الظهور والبعث.
فإن قلت: وقد فسر القاضي بهما حيث قال: جعل النوم سباتاً: راحةً للأبدان، بقطع
إباء العيوف الورد وهو مرنق. وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه؛ لأنّ الاحتجاب بستر الليل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشاغل، وأصل السبت: القطع، أو موتاً، لأنه قطع الحياة {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} ذا نشور، أي: انتشارٍ ينتشر فيه الناس للمعاش، أو بعث من النوم بعث الأموات. والمصنف أباه كل الإباء، وضرب له المثل.
قلت: قد تقرر أن السبات لفظةٌ مشتركةٌ وهي مفتقرةٌ إلى قرينةٍ مبينة، والقرينة {نُشُوزًا} لتقابلها، فجعلها حقيقةً شرعيةً أولى من اللغوية التي بمنزلة المجاز على أن المقام لا يساعد اللغوية، لأنه إذا اتفق تفسير الآية مع الآيات السابقة واللاحقة في المعنى وتضمن نكتةً زائدةً، كان أحسن من الاختلاف، والخلو عن تلك اللطيفة، وفي السابقة حديثٌ من معنى الإيجاد والإعدام، حيث فسر القبض بالإعدام، والمد بالإيجاد. واللاحقة فيها {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} ، فالآيات مع دلالتها على القدرة الباهرة، ومع إظهار النعمة في الدلالة على الحشر والنشر، وبه رمز المصنف بقوله:"والنوم واليقظة" أي: عبرةٌ فيهما لمن اعتبر.
قوله: (إباء العيوف الورد وهو مرنقٌ)، الأساس: وهو يعاف الطعام والشراب، والمياه. [قال:
وإني لشراب المياه إذا صفت
…
وإني إذا كدرتها لعيوف
وناقةٌ عيوفٌ: تشم الماء ثم تدعه. وفيه: له رونقٌ، أي: حسنٌ وبهاء، وذهب رونقه. ورنقه: كدره، كأن معناه: ذهب برونقه الذي هو صفاؤه والمعنى: قوله: {نُشُورًا} يمنع تفسير السبات بالنوم الذي هو الراحة، لعدم التقابل، امتناع ناقةٍ تكره الماء الصافي، والحال أنها عرضت على الماء الكدر.
كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة، أي: عبرة فيهما لمن اعتبر. وعن لقمان: أنه قال لابنه: يا بني، كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
[(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)].
قرئ: (الريح)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كم فيه لكثيرٍ من الناس من فوائد)، كم هنا: خبريةٌ، وهي خبر أن، وفي معناه أنشد أبو الطيب:
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ
…
تخبر أن المانوية تكذب
وقاك ردي الأعداء تسري عليهم
…
وزارك فيه ذو الدلال المحجب
قوله: (والنوم واليقظة)، "النوم": مبتدأٌ، والخبر:"أي: عبرة"، على تأويل: مقولٌ عند ذكرهما، أي عبرةٍ فيهما، "وشبههما بالموت والحياة" جملةٌ معترضةٌ لتأكيد معنى العبرة فيهما. وقيل: هي حالٌ، وليس بشيء، وفي نسخة:"وشبههما" بالرفع: عطفٌ تفسيري.
قوله: (قرئ: "الريح")، قرأها ابن كثيرٍ وحده، وقرأ عاصم {بُشْرًا} بالباء مضمومةً وإسكان الشين، وابن عامرٍ: بالنون مضمومةً، وإسكان الشين، وحمزة والكسائي: بالنون مفتوحةً وإسكان الشين، والباقون: بالنون مضمومةً وضم الشين، وابن السميفع:
و (الرياح نشرا) إحياء. و (نشرا) جمع نشور، وهي المحيية. و (نشرا) تخفيف: نشر، و (بشرا) تخفيف بشر؛ جمع بشور وبشرى. و (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) استعارة مليحة، أي: قدام المطر.
(طَهُوراً): بليغا في طهارته. وعن أحمد بن يحيى: هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة؛ كان سديدا. ويعضده قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)[الأنفال: 11]، وإلا فليس "فعول"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"الرياح بشرى"، بالياء مثل: حبلى. قال ابن جني: "بشرى" مصدرٌ وقع موقع الحال، أي: مبشرةً، نحو قولهم: جاء زيدٌ ركضاً، أي: راكضاً، وهلم جراً، أي: جاراً أو منجراً.
قوله: ("نشراً"): إحياءً)، على أن "نشراً": حالٌ من ضمير الفاعل، وقوله:"ونشراً": جمع: نشوراً، وهي المحيية" على أنه حالٌ من المفعول.
قوله: (استعارةٌ مليحةٌ)، إما ترشيحيةٌ، إذا قرئ:{بُشْرًا} بالباء، شبه المطر بالرحمة، ثم استعير له الرحمة ورشحها بقوله:{بُشْرًا} ، قال:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21]، ثم جعلها بين يديه تتميماً لها، لأن البشير يتقدم المبشر به، ويجوز أن تكون تمثيليةً، و {بُشْرًا} من تتمة الاستعارة، وداخلٌ في جملتها، ومن قرأ "نشراً" بالنون كان تجريداً لها، لأن النشر يناسب السحاب.
قوله: (وعن أحمد بن يحيي)، وهو أبو العباس ثعلبٌ. قال ابن الأنباري: كان إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه، وكان ثقةً ديناً مشهوراً بصدق اللهجة والمعرفة بالغريب. وقال المبرد: أعلم الكوفيين ثعلبٌ، فذكر الفراء فقال: لا يعشره.
قوله: (فإن كان ما قاله شرحاً لبلاغته في الطهارة، كان سديداً ..... وإلا فليس "فعولٌ"
من التفعيل في شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من التفعيل في شيء)، قال القاضي:"فعولٌ" غلب في معنيين، أحدهما: اسمٌ كالوضوء والوقود: لما يتوضأ ويوقد به. وثانيهما: للمبالغة، كالشكور والغفور. وقد جاء للمفعول كالضبوث، وللمصدر كالقبول، وللاسم كالذنوب.
وقال صاحب "المغرب": وما حكي عن ثعلبٍ إن كان زيادة بيانٍ لنهايته في الطهارة، فصواب حسنٌ، وإلا فليس فعولٌ من التفعيل في شيء، وقياس هذا على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية، كقطوع ومنوع، غير سديد. ونقل صاحب "المطلع" عن "بسيط" الواحدي، أنه قال: أجاد أبو القاسم الزجاجي في تفسير الطهور، وكشف عن حقيقة المعنى فقال: الطهور: اسمٌ للماء الذي يتطهر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهراً في نفسه، مطهراً لغيره، لأن عدول العرب عن صيغة "فاعل" إلى "فعيل" أو "فعولٍ" لزيادة المعنى، لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعاني، فكما لا يجوز التسوية بين صابرٍ وصبور، وشاكرٍ، كذلك في: طاهرٍ وطهور، والشيء إذا كان طاهراً في نفسه لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهر منه حتى تصفه بطهورٍ لزيادة طهارته، ولا كذلك قادرٌ وقدير، وغافرٌ وغفور، لأن هذه نعوتٌ تحتمل الزيادة، والطهارة ليست كذلك، فإذا نقلنا الطاهر إلى طهورٍ لم يكن إلا لزيادة المعنى، وذلك المعنى ليس إلا التطهير.
فإن قيل: بناء الطهور من: طهر يطهر طهارةً، وهو لازمٌ، فكيف يجوز تعديته بتطهير غيره؟ قلنا: النظر في هذه اللفظة أدى إلى أن فيه معنى التطهير، لأنه لا يجوز إطلاقه على الماء
والطهور على وجهين في العربية: صفة، واسم غير صفة، فالصفة قولك: ماء طهور، كقولك: طاهر، والاسم قولك لما يتطهر به: طهور، كالوضوء، والوقود، لما يتوضأ به وتوقد به النار. وقولهم: تطهرت طهورا حسنا، كقولك: وضوءا حسنا، ذكره سيبويه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بطهور" أي: طهارة. فإن قلت: ما الذي يزيل عن الماء اسم الطهور؟ قلت: تيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظنّ، تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي ليس بمطهر، لأن العرب لا تسمى الشيء الذي لا يقع به التطهير طهوراً، فمن هذا الوجه يجب أن يعلم، لا من التعدي واللزوم.
فإن قيل: هذا يشكل بقوله عز وجل في صفة شراب أهل الجنة: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وبقول جريرٍ:
عذاب الثنايا ريقهن طهور
قلنا: لما وصف الله تعالى الماء في الدنيا بالطهارة، فجعله طهوراً، وهذا غاية ما يوصف به الماء، وصف ذلك الشراب أيضاً بهذا الوصف ليعتقد فيه من الطهارة ما اعتقدناه فيما وصفه من الماء، وإن كان ذلك أرفع وأشرف، وكذلك جريرٌ لما علم أن غاية وصف الماء أن يقال: طهورٌ، شبه الريق بالماء، وأحب أن يزيل عن الريق سمة النجاسة فلم يمكنه أن يصفه إلا بما يوصف به الماء، ألا ترى أنه قال: عذاب الثنايا، فوصفها بالعذوبة، وهي من صفة الماء، فكما أن العذب حقيقةٌ في الماء مجازٌ في غيره، كذلك الطهور حقيقةٌ في الماء مستعارٌ في الريق، وهذا واضحٌ جداً. انتهى كلام الزجاجي. الزجاجي: بالجيم الخفيفة.
أو استعماله في البدن لأداء عبادة عند أبي حنيفة، وعند مالك بن أنس: ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور. فإن قلت: فما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بئر بضاعة فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو استعماله في البدن)، عطفٌ على "تيقن مخالطة النجاسة"، وفيه إشعارٌ بأن الماء المستعمل مسلوبٌ عنه الطهورية فيبقى طاهراً.
قوله: (وعند مالك بن أنس)، قال صاحب "الجامع": هو صاحب المذهب أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر من بني حمير ابن سبأ الأكبر. وأنس بن مالك من الأنصار من بني النجار، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بئر بضاعة؟ )، يعني: هذا الحديث يقوي مذهب مالكٍ ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور، ومذهب الشافعي: الماء الكثير كذلك. وخلاصة الجواب: أن ما ذكره أبو حنيفة هو حكم الماء الراكد، وبئر بضاعة ماؤها جارٍ.
قلت: أما حديث بئر بضاعة فعن أبي داود والترمذي والنسائي، عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قيل: يا رسول الله، إنه يستقى لك من بئر بضاعة، ويلقى فيه لحوم الكلاب وخرق المحائض وعذر الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء".
"الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه؟ قلت: قال الواقدي: كان بئر بضاعة طريقا للماء إلى البساتين.
[(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)].
وإنما قال: (مَيْتاً)؛ لأنّ "البلدة" في معنى "البلد" في قوله: (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ)[فاطر: 9]، وأنه غير جار على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل. وقرئ:(نسقيه)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو داود: سئل قيم بئر بضاعة عن عمقها؟ قال: إذا كثر كان إلى العانة، وإذا نقص كان دون العورة، قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة، فإذا عرضها ستة أذرع.
وقلت: الظاهر من هذه الرواية أنها كانت راكدةً، والله أعلم. قال صاحب "النهاية": هي بئرٌ معروفةٌ بالمدينة، والمحفوظ ضم الباء، وأجاز بعضهم كسرها، وحكى بعضهم بالصاد المهملة، وعن بعضهم: بضاعة: اسم امرأةٍ نسبت إليها البئر.
قوله: (لأن " البلدة" في معنى "البلد")، أي: لم يقل: "ميتة"، لأن معنى "البلد" و"البلدة" واحدٌ.
الراغب: البلد: المكان المحيط المحدود. وسمي المفازة بلداً لكونها موطناً للوحوش، والمقبرة بلداً لكونها موطناً للأموات.
قوله: (وأنه غير جارٍ على الفعل)، أي:"الميت" ليس على وزان الفعل، فيكون ملحقاً بالأسماء، كالذبيحة والنطيحة. قيل: إن نحو "فاعل" جارٍ على "يفعل" من حيث الحركات والسكنات، ونحو "مفعولٍ" جارٍ على "يفعل" لأن أصله "مفعلٌ"، وأما نحو "فعولٍ" و"مفتعالٍ" و"مفعيلٍ" و"فعيلٍ" بمعنى "مفعولٍ" فليس جارياً على الفعل، فيستوي فيه المذكر والمؤنث.
بالفتح. وسقى، وأسقى: لغتان. وقيل: أسقاه: جعل له سقيا. الأناسي: جمع إنسي، أو إنسان. ونحوه ظرابي في ظربان، على قلب النون ياء، والأصل: أناسين وظرابين. وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل، كقولك: أناعم، في: أناعيم. فإن قلت: إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك، كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت: لما كان سقى الأناسى من جملة ما أنزل له الماء، وصفه بالطهور إكراما لهم، وتتميما للمنة عليهم، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونحوه: ظرابي)، الجوهري: هي دويبةٌ كالهرة منتنة الريح، يقال: ظربى على فعلي هو جمعٌ، مثل: حجلى جمع، حجل، وربما مد وجمع على ظرابي، مثل: حرباء وحرابي، كأنه جمع ظرباء.
وقال الزجاج: "أناسي": جمع إنسي، ككرسي وكراسي، أو جمع أناسين، كسراحين وسرحان.
قوله: (إنزال الماء موصوفاً بالطهارة)، يعني: لا شك أن في إنزال الماء من السماء لأجل إحياء الأرض، وسقي الأنعام مناسبةً، وأي مناسبةٍ لطهورية الماء في هذا المعنى؟ وأجاب: أن أجل تلك العلل سقي الأناسي، وأنه هو المقصود الأولى، فيجب امتيازه عن سائرها بما يختص بهم، وأشرف الغرض في الإنعام عليهم تعرضهم لما يفوزون به على السعادة العظمى، والحياة الأبدية من العبادة، وهي لا تحل إلا بطهارة الظاهر والباطن، فعلى المكلف أن يتعرف شكر هذه النعمة بقلبه، ويظهر أثره على جوارحه، وإليه الإشارة بقوله:"أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم".
قوله: (وأرادهم عليها)، الأساس: وأراده على الأمر: حمله عليه.
وأن يربؤوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الأناسي، وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة؟ قلت: معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، ففيهم غنية عن سقي السماء، وأعقابهم - وهم كثير منهم - لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله:(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) يريد بعض بلاد هؤلاء المبتعدين عن مظان الماء. فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسي؟ قلت: لأنّ حياة الأناسىّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم، لم يعدموا سقياهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن يربؤوا بأنفسهم)، الجوهري: المربأة: المرقبة، وقولهم: إني لأربأ بك عن هذا الأمر، أي: أرفعك عنه.
قوله: (أن علية الناس)، الأساس: العلية: جمع علي، أي: شريفٌ رفيعٌ، مثل: صبيٍّ وصبيةٍ، وفي استعمالهم: علية الناس: أكثرهم، يقولون: علية متاعك رديٌ وفي قول المصنف: "علية الناس وجلهم" ثم في "وأعقابهم، وهم كثيرٌ منهم": لطيفةٌ، وأن المراد من {وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا}: كثيراً في أنفسهم، وإن كانوا بقايا أكثر الناس.
قوله: (ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم)، جوابٌ آخر، والجواب الأول مبنيٌ على تقدم الأسباب على المسببات، والثاني على تقديم ما يشتد فيه الاحتياج إلى الماء ويكثر به الانتفاع، فإن انتفاع الإنسان بحياة الأرض أكثر، واهتمامه بسقياها أشد من سقيا الأنعام، ثم اهتمامه بسقيا الأنعام أقدم من سقيا نفسه، لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم.
[(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)].
يريد: ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر؛ ليفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، (فَأَبى) أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها. وقيل: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من: وابل وطل، وجود ورذاذ، وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يذكروا صنع الله ورحمته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومواشيهم لم يعدموا سقياهم. وهذا الجواب أحسن، ولمعنى الإيغال والتتميم أجمع، إذ ليس اهتمام من يقرب الأودية والأنهار ومنابع الماء، كاهتمام من هو بعيدٌ منها، فعلى هذا المراد بالأناسي: أصاب البوادي والمتبعدون من مظان الماء
قال صاحب " الفرائد": على هذا لم يلزم أن يكون المراد من الطهور المطر، لأن إحياء الأرض وسقي الأنعام، لا يقتضيان كون الماء مطهراً.
قلت: قد مر أن دلالة الطهور على تلك اللطيفة بحسب الرمز والتلويح، على أن سلوك طريق الإدماج، وإشارة النص دأب البلغاء، وطريقة الفقهاء.
قوله: (وقلة الاكتراث)، الأساس: كرثه الأمر: أي: حركه، وأراك لا تكترث لذلك، ولا تعبأ به.
قوله: (من وابلٍ، وطل)، الوابل: المطر الشديد، والطل: أضعف المطر، والجود: المطر البالغ، والرذاذ: المطر الضعيف، والرهمة: المطر الضعيف الدائم، والديمة: المطر الذي يدوم أياماً ثلاثةً أو أكثر.
قوله: (مطرنا بنوء كذا)، الأنواء ثمان وعشرون منزلةً من منازل القمر، كل منزلةٍ نوءٌ.
قوله: "مطرنا بنوء كذا"، أي: في وقت سقوط هذه المنزلة، وقد مضى شرحها، وسيجيء في سورة يس مستقصًى.
وعن ابن عباس: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء، وتلا هذه الآية. وروي أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام، لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد. وينتزع من هاهنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي، كأنه قال: لنحيي به بعض البلاد الميتة، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي، وذلك البعض كثير. فإن قلت: هل يكفر من ينسب الأمطار إلى الأنواء؟ قلت: إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله: فهو كافر، وإن كان يرى أن الله خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها: لم يكفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن ابن عباسٍ: ما من عام أقل مطراً)، إلى قوله:"وتلا هذه الآية" دلالة الآية عليه أن معنى التصريف: التحويل الكثير، يعني: صرفنا ما قسمنا من المطر بينهم في البلدان المختلفة بحسب اختلاف احتياجهم، أو لمجرد المشيئة.
قوله: (وينتزع من هاهنا)، أي: من هذا التأويل جوابٌ عن السؤال الماضي، أي: قوله: "فما معنى تنكير الأنعام والأناسي"؟ وذلك أن إنزال المطر إذا كان بقدر احتياج الناس إليه واستغنائهم عنه، فلابد من التصريف، فإن من أناخ بقرب الأودية والأنهار ومنابع الماء لم يبلغ احتياجه إلى سقي الماء احتياج من هو بعيدٌ من ذلك.
وأما بيان النظم فإنه تعالى لما قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وعلله بحياة البلدة الميتة، وسقي بعض الأنعام وبعض الأناسي، عرف أن ذلك كان بقدر الاحتياج ولابد من قادرٍ مختارٍ بجزئيات أحوال المخلوقين، حتى يحول إلى كل من ذلك ما يحتاج إليه، فقيل: ولقد صرفنا، وجيء بالجملة القسمية، لإبطال زعم من يزعم أن ذلك بسبب الأنواء.
قوله: (وقد نصب الأنواء دلائل وأماراتٍ عليها: لم يكفر)، النهاية: وإنما غلظ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأنواء، لأن العرب كانت تنسب المطر إليها، فأما من جعل المطر من فعل الله تعالى،
[(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً* فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)].
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ شِئْنا) لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى. و (لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) نبيا ينذرها. وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك، وفضلناك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم. والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدل عليه:(فَلا تُطِعِ)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأراد بقوله: "مطرنا بنوء كذا" أي: في وقت كذا، وهو هذا النوء الفلاني، فإن ذلك جائزٌ، أي: أن الله تعالى قد أجرى العادة أن يأتي بالمطر في هذه الأوقات.
وأحسن منهما قول الإمام: "من جعل الأفلاك والكواكب مستقلةً باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره، وأما من قال: إنه تعالى جبلها على خواص وصفاتٍ تقتضي هذه الحوادث فلعل لا يبلغ خطأه إلى حد الكفر".
قوله: (أو لترك الطاعة)، يعني: أن الضمير المجرور في {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} للقرآن، والمعنى ما سبق، وإنا أخر "ولا تطع" عن معنى قوله:{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} وفي التنزيل مقدم، لأن قوله:{فَلَا تُطِعِ} مرتبٌ بالفاء على ما سبق، ولما لم يصح أن يكون مرتباً عليه ظاهراً انتزع من مفهوم السابق واللاحق، وهو:{وَلَوْ شِئْنَا} {وَجَاهِدْهُمْ} معنيين، وجعلهما مرتبين وعطف "ولا تطع" بالواو عليهما، أو لترك الطاعة الدال عليه "ولا تطع"، يعني: أنهم يجدون ويجتهدون في أن تميل إليهم وتتبع أهواءهم الباطلة لتوهين أمرك فلا تتبع أهواءهم، وجاهدهم بترك طاعتهم جهاداً كبيراً.
وفي قوله: "ولا تطع الكافرين فيما يريدونك عليه" إشارةٌ إلى أن قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} متصلٌ بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} ، لأنه إنكارٌ على حرصه على إسلامهم وتهالكه فيه، حيث كان يبذل فيه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسعه ومجهوده، وبلغ ذلك إلى أن خوطب بقوله:{لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وبقوله:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73]، ولذلك قال:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} أي: أتحسب أنك إن أطعتهم فيما يريدونك عليه يسمعون قولك، أو يعقلون الآيات، ويشكرون نعم الله عليهم، فإنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. ألا ترى كيف غفلوا عن أظهر الأشياء دلالةً وهو مد الظل وقبضه، وغمطوا النعم كفراناً، وهو جعل الليل لباساً لهم، والنهار نشوراً، وإرسال الرياح وإنزال الماء لإحياء أراضيهم واستقاء مواشيهم، وإذا كان كذلك كيف تطيعهم فيما يريدونك، كأنك لم تستقل بأعباء النذارة، ولو شئنا لخففنا عنك وإنما قصرنا الأمر عليك تفضيلاً لك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالصبر والجهاد الكبير، ولا تطعهم فيما يريدونك عليه، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً.
ولابد من هذا التأويل، لا ما قيل: إنها تدل على التأديب وعلى أنه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يبعث في كل قريةٍ مثل محمدٍ صلوات الله عليه، لأن الفاء للسببية، والأمر بالجهاد المؤكد بقوله:{جِهَادًا} ، ووصفه بالكبير بعد النهي عن طاعة الكفرة موجبٌ لذلك، فإن عظم السبب يدل على عظم المسبب وعكسه، وإليه ينظر قوله صلوات الله عليه:"أعطيت خمساً لم يطعن أحدٌ قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى كل أحمر وأسود". الحديث، أخرجه البخاري ومسلمٌ عن جابر.
ويعضده ما ذكرنا أن قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} واردٌ على نهج براعة الاستهلال، وهو مشتملٌ على هذا المعنى: فإن إنزال القرآن وتخصيصه بما يدل على كونه فارقاً بين الحق والباطل، وكون منزله معظماً في ذاته مباركاً في صفاته موجبٌ لأن لا يختص إنذار رسوله بقوم دون قوم، بل يكون للعالمين من الثقلين نذيراً، فإذن المعنى الذي سيقت هذه السورة الكريمة له: الحديث في الرسول وإنذاره، وبقية المعاني دائرةٌ عليه، ومن ثم ذكر إلى ذكر الآيات الدالة على الوحدانية من دلائل الآفاق
والمراد: أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك، فقابلهم من جدك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم، وجعله جهادا كبيرا لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في (بِهِ) إلى ما دل عليه:(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) من كونه نذير كافة القرى؛ لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لو جبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم، فقال له:(وَجاهِدْهُمْ) بسبب كونك نذير كافة القرى (جِهاداً كَبِيراً): جامعا لكل مجاهدة.
[(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)].
سمى الماءين الكثيرين الواسعين: بحرين. والفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأنفس قائلاً: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} ، ثم أعاد قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، وههنا نكتةٌ شريفة، وهي أنه تعالى لما خص ذكر النذير في الفاتحة أمسك عن ذكر المؤمنين، وحين قرنه بالبشير في هذه الآية أتى بذكر الفريقين، أعني:{قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} ، لتكون الخاتمة مشتملةً على ذكر الأولياء فلا تخلو السورة من ذكرهم، والله أعلم.
قوله: (وعضك على نواجذك)، الأساس: ومن المجاز: عض على ناجذه: إذا بلغ أشده واستحكم، وعض في العلم وغيره بناجذه: إذا أتقنه. وعن بعضهم: عض ناجذه على كذا: جد فيه مستنفداً وسعه. النواجذ: أضراس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ.
قوله: (فقال له: {وَجَاهِدْهُمْ} بسبب كونك نذير كافة القرى)، فيه دلالةٌ على عظم منزلته، وجلالة قدره، قال:
فإن الهموم بقدر الهمم
قوله: (والفرات: البليغ العذوبة)، سمي بالفرات، لأنه يفرت العطش، أي: يكسر
إلى الحلاوة. والأجاج: نقيضه، ومرجهما: خلاهما متجاورين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
به على القلب، كما سمي نفاخاً لأنه ينفخ العطش، والأجاج: كأنه من أجيج النار، وهو اضطرابه، أي: مقولاً فيهما عذبٌ فراتٌ، وهذا ملحٌ أجاجٌ، وفي هذه الآية حذفٌ كما ذكرنا آنفاً في قول أبي الدرداء: وجدت الناس أخبر تقله، أي: مقولٌ فيهم هذا القول.
قوله: (ومرجهما: خلاهما متجاورين)، قال الزجاج: يقال: مرجت الدابة وأمرجتها: إذا خليتها ترعى، والمرج من هذا سمي، ويقال: مرجت عهودهم وأماناتهم: إذا اختلطت وفسدت.
وقال ابن عباس: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ، أي: أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج، وفي معناه: قول البحتري يصف بركة.
تنصب فيها وفود الماء معجلةً
…
كالخيل خارجةً من حبل مجريها
الراغب: أصل المرج: الخلط، والمرج: الاختلاط، يقال: مرج أمرهم، أي: اختلط، ومرج الخاتم في أصبعي فهو مارجٌ، وأمرٌ مريجٌ، أي: مختلطٌ، قال تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19]، من قولهم: مرج. ويقال للأرض التي كثر فيها النبات وتمرج فيها الدواب: مرجٌ، وقوله:{مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] أي: لهيبٍ مختلط، وأمرجت الدابة في المرعى: أرسلتها فيه.
متلاصقين، وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج. وهذا من عظيم اقتداره. وفي كلام بعضهم: وبحران: أحدهما مع الآخر ممروج، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج. (بَرْزَخاً) حائلا من قدرته، كقوله عز وعلا:(بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)[الرعد: 2]، يريد بغير عمد مرئية، وهو قدرته. وقرئ:(مَلِحٌ) على فعل. وقيل: كأنه حذف من مالح تخفيفا، كما قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "ملحٌ"، قال ابن جني: وهي قراءة طلحة بن مصرف، وأنكره أبو حاتم. ويجوز أن يراد به: مالح، فحذف الألف تخفيفاً كما ذكرنا قبل من قوله:
أصبح قلبي صردا
لا يشتهي أن يردا
إلا عراداً عردا
وصلياناً بردا
وعنكثاً ملتبدا
يريد: عارداً بارداً.
وقد أجاز ابن الأعرابي: "مالح"، وأنشدوا:
بصريةٌ تزوجت بصريا
…
يطعمها المالح والطريا
وفي ما قرئ على أحمد بن يحيي، فاعترف بصحته: سمكٌ مالح وماءٌ مالح، وإنما يقال: مملوحٌ ومليح، هذا أفصح، والأول يقال.
"صرداً"، صرد الرجل- بالكسر- يصرد صرداً ومصراداً: يجد البرد سريعاً. والعراد:
وصليانا بردا
يريد: باردا: فإن قلت: (وَحِجْراً مَحْجُوراً) ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ، وقد فسرناها، وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له: حجرا محجورا، كما قال:(لا يَبْغِيانِ)[الرحمن: 20] أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ هاهنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نبتٌ. والصليان: بقلةٌ، وهي فعليان، الواحدة صليانةٌ. والعنكث أيضاً: نبتٌ. والتبدت الشجرة: كثر أوراقها.
وقال الشارخ: زعمت الأعراب في ضرب أمثالها على لسان البهائم. أن الضفدع كان ذا ذنب، وأن الضب سلب ذنبه، وذلك أنهما خاطرا في الظمأ أيهما أصبر، وكان الضب ممسوح الذنب، فخرجا في الكلأ فصبر الضب يوماً، فناداه الضفدع: يا ضب ورداً ورداً، فقال الضب: أصبح قلبي صرداً، إلى أخره، فناداه في اليوم الثاني فأجابه كما أجابه في اليوم الأول، فلما كان الثالث ناداه فلم يجبه، وبادر الضفدع إلى الماء، فتبعه الضب وأخذ ذنبه.
قوله: (وقد فسرناها)، أي: قلنا في أول السورة، إن معناه سؤال الرجل من الله تعالى أن يمنع منه ما يخاف منه فيتعوذ منه قائلاً:{وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، كقول السامري:{لَا مِسَاسَ} [طه: 97]، ومعلومٌ أن هذا الجعل يعني قوله:{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} لا يكون حقيقةً، فقوله:{بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا} كقوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20]، كما أن {لَا يَبْغِيَانِ} هناك بمعنى: لا يبغي أحدهما على صاحبه مجازاً، لأن إثبات البغي ونفيه لا يتصور إلا فيما يصح وصفه بالبغي، كذلك قول: حجراً محجوراً، لا يكون إلا فيما يصح منه القول.
جُعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوّذ منه. وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة.
[(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)].
أراد: فقسم البشر قسمين ذوي نسب، أي: ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان، وفلانة بنت فلان، وذوات صهر: أى إناثا يصاهر بهنّ، ونحوه قوله تعالى:(فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)[القيامة: 39]. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين: ذكرا وأنثى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جعل كل واحدٍ)، شروعٌ في بيان المجاز، ولما كان هذا المجاز استعارةً، والاستعارة مسبوقة بالتشبيه، قال:"في صورة الباغي"، شبه البحرين بطائفتين متقابلتين تريد كل واحدةٍ منهما بغي صاحبتها ومضادتها، ثم إنهما امتنعا من ذلك لمانع قوي ودافع مجبر، فكما يقال ثمة لامتناع الاختلاط: إنهما لا يبغيان، كذلك قيل هاهنا: لا يبغيان، فهو استعارةٌ مصرحةٌ تمثيلية، ثم بولغ فيها هاهنا، حيث جعل هذا المعنى المستعار كالملفوظ والمقول، كما قال:"كأن كل واحدٍ من البحرين يعوذ من صاحبه"، فانقلبت المصرحة مكنيةً. ولا ارتياب أن الاستعارة كلما كانت أبعد من التشبيه وأوغل في التخيل، كانت أحسن، والمكنية ابعد من المصرحة، فكما أن التشبيه مقدمةٌ للمصرحة، كذلك المصرحة مقدمةٌ للمكنية، فإنك تقول أولاً: المنية سبعٌ، ثم تدخل المشبه في جنس المشبه به في المصرحة، وإذا أردت المبالغة جعلت المشبه عين المشبه به في التخييل، ثم يتخيل له لازمه قائلاً: أنياب المنية نشبت بفلان، كذلك هاهنا، جعل كل واحدٍ من البحرين بعد تشبيههما بطائفتين متقابلتين وإدخال المشبه في جنس المشبه به إدخالاً بليغاً في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوذ منه، ولهذا قال:"وهي من أحسن الاستعارات".
قوله: (خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين)، "نوعين" بدلٌ من "بشراً"، لأنه جنسٌ،
[(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً)].
الظهير والمظاهر، كالعوين والمعاون. وفعيل بمعنى مفاعل غير عزيز. والمعنى: أنّ الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك. روي: أنها نزلت في أبي جهل. ويجوز أن يريد بالظهير: الجماعة، كقوله:(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)[التحريم: 4]، كما جاء: الصديق والخليط. ويريد بالكافر: الجنس، وأنّ بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله. وقيل: معناه: وكان الذي يفعل هذا الفعل - وهو عبادة ما لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولذلك أفرد الضمير في "جعله". قال القاضي: {بَشَرًا} : ذا أعضاءٍ مختلفة، وطباع متباينة، وجعله قسمين متقابلين.
وقلت: الماء في قوله: {خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} مطلقٌ دل على شائع في جنس الماء، فتقييده بقوله:{بَشَرًا} دل على أن المراد منه النطفة الواحدة، ثم تقسيمه بقوله:{نَسَبًا وَصِهْرًا} دل على نوعين: ذكرٍ وأنثى، وإنما عدل عن الذكر والأنثى، ليؤذن بالانشعاب نصاً فالنطفة الواحدة نطفة آدم عليه السلام، فإذن الآية على وزان قوله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]
قوله: (ويجوز أن يريد بالظهير: الجماعة)، قال في سورة يوسف:"يجوز أن يقال: هم نجيٌّ، كما قيل: هم صديقٌ، لأنه بزنة المصادر"، ومنه قولهم، وجيفٌ ووجيب.
قوله: (وقيل: معناه: وكان الذي يفعل هذا الفعل)، عطفٌ على قوله:"إن الكافر يظاهر الشيطان"، والجملة على التقديرين تذييلٌ لما يتضمن الكلام السابق من المعنى، فعلى الأول:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إخبارٌ عن استعظام ما ارتكبوه من عبادة غير الله، ثم أكد ذلك بأن عادة الكافر أن يظاهر الشيطان، وعلى الثاني، الكلام نعى عليهم سواء أفعالهم، وأنهم
ينفع ولا يضر - على ربه هينا مهينا، من قولهم: ظهرت به، إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه، وهذا نحو قوله:(أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)[آل عمران: 77].
[(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً* قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)].
مثال (إِلَّا مَنْ شاءَ)، - والمراد: إلا فعل من شاء- واستثنائه عن الأجر: قول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ممن لا يلتفت إليهم، وإلى صنيعهم، لأنهم يعبدون من دون الله ما لا ينفع ولا يضر، وفيه شائبةٌ من معنى الإنكار، ثم أكد ذلك بأن الكافر على ربه "هيناً مهيناً".
قوله: (وهذا نحو قوله: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} إلى قوله: ({وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77]، يعني: نحو في إرادة المجاز عن عدم الالتفات دون الكناية. وهو على مذهبه، لأن نفي الرؤية عمن يجوز عليه الرؤية كنايةٌ عن عدم المبالاة عمن لا يجوز عليه مجاز. كذلك قوله:{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} إذا كان من قولهم: ظهرت به، إذا خلفته ظهرك هنا: مجازٌ عن عدم الالتفات لا كنايةٌ كما مر.
قوله: (- والمراد: إلا فعل من شاء- واستثنائه من الأجر)، "استثنائه": مجرورٌ، عطفٌ تفسيريٌ على قوله:"إلا من شاء" والاستثناء من باب قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: التقدير: إلا مال من شاء أن يتخذ: لأن الأجر هنا: المال، والمعنى: ما أسألكم على تبليغ الوحي مالاً، إلا مال من يتخذ بإنفاقه إلى ربه سبيلاً، أي: يتقرب إليه، ويطلب الدرجة عنده، وذلك المال المسؤول له، لا لي.
وقلت: هذا المعنى لا يستقيم في قوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، فوجب حمله على ذلك المعنى، وما ذكره أشار إليه المصنف بقوله:"وقيل: المراد التقرب بالصدقة".
ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه. فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين، إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله، كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابا فإني أطلب الثواب. والثانية: إظهار الشفقة البالغة وأنك إن حفظت مالك: اعتدّ بحفظك ثوابا ورضى به كما يرضى المثاب بالثواب. ولعمري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا: تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل: المراد التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.
[(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً)].
أمره بأن يثق به ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس الالتجاء؛ وهو طاعته وعبادته وتنزيهه وتحميده، وعرّفه أن الحي الذي لا يموت، حقيق بأن يتوكل عليه وحده ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اعتد بحفظك ثواباً)، من الاعتداد، وظن "اعتد" مخففاً، قيل: هو من العتيد: الحاضر المهيأ، وقد عتده تعتيداً وأعتده إعتاداً، وفاعل "اعتد" ضمير المال، أي: إن حفظت مالك هي لك بسبب حفظك ثواباً، ومنفعته يوماً احتاج إليه، ويروى:"اعتد" و"رضي" معروفاً. والضمير للقائل المشفق.
قوله: (وعرفه أن الحي الذي لا يموت حقيقٌ بأن يتوكل عليه وحده)، لأن أصل الكلام: توكل علي، ثم: توكل على الله، فخص الحي الذي لا يموت بالذكر، ليكون تعريضاً بأن غيره لا يصح أن يتوكل عليه، أما الأصنام فإنها أمواتٌ لا يكفى أمر من يتوكل عليها.
يموتون. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق. ثم أراه أن ليس إليه من أمر عباده شيء، آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم.
[(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)].
(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ): يعني: في مدة مقدارها هذه المدّة، لأنه لم يكن حينئذ نهار ولا ليل. وقيل: ستة أيام من أيام الآخرة، وكل يوم ألف سنة. والظاهر أنها من أيام الدنيا. وعن مجاهد: أوّلها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. ووجهه أن يسمى الله تعالى لملائكته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما الأحياء الذين يموتون، فإنهم إذا ماتوا ضاع المتوكل، ولهذا قال:"لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق"، أو نقول: إن التركيب من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب، وهو أن المتوكل إذا علم أن المتوكل عليه دائمٌ باقٍ يعتمد عليه بشرا شره، ولا يتوزع خاطره إلى الغير بخلافه إذا لم يكن كذلك، فإذاً لا يصح التوكل إلا على الحي الذي لا يموت، وهو الله تعالى، فصح الحصر.
قوله: (ثم أره أن ليس إليه من أمر عباده شيءٌ)، يعني أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أولاً أن يفوض أموره إلى الحي الذي لا يموت، ويستكفي به من شرور الأعداء، ثم أعلمه ثانياً بأنه كافٍ في دفع أعدائه يكافيهم فيما يحاولونه من العداوة، يعني: أن الله تعالى كافي أمورك، وأمور أعدائك.
قوله: (ووجهه)، أي: وجه قول مجاهد، وذلك أن الأيام عبارةٌ عن حركات الشمس في السموات، وقبل السموات لا أيام، فلا يسمى بالأحد ولا بالجمعة، لكن الله تعالى قدر المدة قبل السموات، ثم خلق السموات والشمس وأدارها عليها، ورتب أمر العالم على ما هو عليه في مقدار مدةٍ هي مدة ستة أيام من أيام الدنيا، وسمى لملائكته الحاضرين تلك الأيام المقدرة بالأحد والاثنين والجمعة.
تلك الأيام المقدرة بهذه الأسماء، فلما خلق الشمس وأدارها وترتب أمر العالم على ما هو عليه، جرت التسمية على هذه الأيام. وأما الداعي إلى هذا العدد - أعني الستة دون سائر الأعداد - فلا نشك أنه داعى حكمة، لعلمنا أنه لا يقدّر تقديرا إلا بداعي حكمة، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي إلى معرفته.
ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر، وحملة العرش ثمانية، والشهور اثني عشر، والسماوات سبعا والأرض كذلك، والصلوات خمسا، وأعداد النصب والحدود والكفارات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وحملة العرش ثمانية)، وعن بعضهم: حملة العرش أربعةٌ. وروي أنه صلوات الله عليه وسلامه لما سمع بيت أمية بن أبي الصلت يصف العرش:
رجلٌ وثورٌ عند رجل يمينه
…
والنسر أخرى ثم ليثٌ مرصد
قال: "صدق". هم اليوم أربعةٌ، ويضم إليهم أربعةٌ أخرى يوم القيامة لقوله تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] يسترزق كلٌ لما يشبهه، والله أعلم بحقيقته. والذي ورد في المعتمد عن الترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن العباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل:"أن حملة العرش ثمانية أو عالٍ". وأشار إليه المصنف في سورة الحاقة.
قوله: (وأعداد النصب)، وهو جمع نصاب، أي: القدر الذي تجب فيه الزكاة.
وغير ذلك. والإقرار بدواعي الحكمة في جميع أفعاله، وبأن ما قدّره حق وصواب هو الإيمان.
وقد نص عليه في قوله: (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا)[المدثر: 31]، ثم قال:(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر: 31]، وهو الجواب أيضا في أن لم يخلقها في لحظة، وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير: إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليما لخلقه الرفق والتثبت. وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين. (الَّذِي خَلَقَ) مبتدأ. و (الرَّحْمنُ) خبره؛ أو صفة لـ (الْحَىِّ)[الفرقان: 58]، و (الرَّحْمنُ): خبر مبتدإ محذوف. أو بدل عن المستتر في (اسْتَوَى). وقرئ: (الرحمنِ) بالجرّ صفة لـ (الْحَىِّ). وقرئ (فَسْئَلْ)، والباء في (بِهِ) صلة "سَلْ"، كقوله تعالى:(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ)[المعارج: 1] كما تكون "عن" صلته في نحو قوله: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر: 8]. (فَسْئَلَ بِهِ)؛ كقولك: اهتمّ به، واعتنى به، واشتغل به. وسأل عنه كقولك: بحث عنه، وفتش عنه، ونقر عنه. أو صلة (خَبِيرًا)، وتجعل (خَبِيرًا) مفعول "سَلْ"،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اجتمع خلقها يوم الجمعة)، أي: تكامل خلقها. الأساس: رجلٌ مجتمعٌ: استوت لحيته وبلغت غاية شبابه.
قوله: (وقرئ: {فَاسْأَلْ} ، كلهم إلا ابن كثيرٍ والكسائي.
قوله: (كما تكون "عن" صلته)، قيل: الكاف في محل النصب على مصدر ما دل عليه قوله: "والباء في {بِهِ} صلة (سل) "، كأنه قيل: يجوز كون الباء صلة "سل" جوازاً مثل جواز كون "عن" صلته، و"ما" في "كما تكون" مصدريةٌ، والكاف بمعنى مثل، والمضاف محذوف، وإنما لم يقدر كوناً مثل كون "عن" صلته، لأن كان الناقصة لا تنصب المصدر.
تريد: فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته. أو: فسل بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أي برؤيته. والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا. أو تجعله حالا عن الهاء، تريد: فسل عنه عالما بكل شيء. وقيل: الرحمن اسم من أسماء الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: فسل بسؤاله خبيراً)، عطفٌ على قوله:"فسل عنه"، وفي الكلام لفٌ ونشرٌ من غير ترتيب: فالمثالان الأولان نشرٌ لقوله: "أو صلة {خَبِيرًا} "، وبقية الأمثلة نشرٌ لقوله:"صلة (سل) "، ولا يستقيم على هذا أن يتعلق بـ {خَبِيرًا} ، لأنه على منوال رأيت به أسداً، وهو من باب التجريد، إذ التقدير: فسل بسؤال الله خبيراً، وهو الخبير نفسه عز وجل.
قال السجاوندي: "فسل به خبيراً" نحو قولك في الشجاع إذا لقيته: لقيت به ليثاً هضوماً، وفي الجواد: إذا سألته: سألت به الغيث، فلا حاجة إلى تقدير بسؤالك إياه لفظاً وإن فهم ذلك معنى، ولا إلى جعل الباء قائماً مقام "عن" وإن ورد في قول الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
خبيرٌ بأدواء النساء طبيب
أي: عن النساء، وعلى تقدير "عن" يجوز أن يراد بالخبير: ابن سلام، أي: عارفاً بصفته يخبرك عن جلالة قدره.
قوله: (وقيل: الرحمن: اسمٌ من أسماء الله تعالى)، عطفٌ على قوله: فسل بسؤاله"، لأنه مثله في تعلق الجار بالفعل، و {خَبِيرًا}: مفعول "سل"، وخبيراً على الوجهين الأولين: يجوز أن يراد به كل من هو متصفٌ بصفة الخبرة، لما قال تارةً: رجلاً عارفاً، وأخرى: رجلاً عارفاً، وأخرى: رجلاً خبيراً، والضمير في {بِهِ} للرحمن على تقدير مضاف، وعلى الثالث والرابع:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضمير لله تعالى، والخبير هو الله تعالى، وعلى الوجه الأخير المراد بالخبير: عبد الله بن سلام، والضمير راجعٌ إلى لفظ {الرَّحْمَنُ} ، والوجه أن يحمل قوله:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} على معنى التجريد، وأن يكون الضمير لله، ليكون كالتتميم لمعنى العلم الذي يعطيه قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {الرَّحْمَنُ} ، كما أن قوله:{وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} تتميمٌ لمعنى قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} .
بيان الأول ما روى الإمام عن الكلبي: أنه قال: فسل الخبير بذلك، يعني: بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء فلا يعلمها إلا الله.
وقال محيي السنة: أيها الإنسان، لا ترجع في طلب العلم بهذا إلى غيري.
وبيان الثاني هو: أن قوله: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} وعيدٌ لأعدائه، ووعدٌ بانتصاره منهم، فيكون مؤكداً للأمر بالتوكل، ونحو قوله تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قولهم: "على الخبير سقطت"، في توكيد أمرٍ يخبر به، وتصديق المخبر.
روى الميداني: أن المثل لمالك بن جبيرٍ العامري، وتمثل به الفرزدق للحسين رضي الله عنه حين أقبل يريد العراق فلقيه وهو يريد الحجاز، فقال له الحسين: ما وراءك؟ قال: "على الخبير سقطت"، قلوب الناس معك، وسيوفيهم مع بني أمية، والأمر ينزل من السماء، فقال الحسين: صدقتني.
المعنى: توكل على الحي الذي لا يموت في جميع أمورك لاسيما في أذى قومك، وما نالك من تكذيبهم وعنادهم، فإن الله تعالى خبيرٌ بأحوالهم، كافٍ في جزاء أعمالهم، وتوكل على المدبر الذي خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش، وهو الرحمن الذي منه
مذكور في الكتب المتقدمة، ولم يكونوا يعرفونه، فقيل: فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب، حتى تعرف من ينكره. ومن ثم كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة، يعنون مسيلمة. وكان يقال له: رحمن اليمامة.
[(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَامُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً)].
(وَمَا الرَّحْمنُ) يجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به؛ لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلائل النعم، وبيده أزمة أمورك، وملكوت كل شيء، فاعلم ذلك علماً يقيناً ونصًا من الله لا ريب فيه، فإن من حرم ذلك إذا قيل له: اخضع للرحمن وتوكل عليه، قال:{وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} هذا التفسير مبنيٌ على قول المصنف: "الذي خلق صفةٌ للحي، والرحمن: خبر مبتدأٍ محذوف".
قال الإمام: {الَّذِي خَلَقَ} متصلٌ بقوله: {الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} لأنه تعالى لما كان خالق السموات والأرض وما بينهما كان قادراً على جميع وجوه المنافع ودفع سائر المضار، وأن النعم كلها من جهته، فحينئذٍ لا يجوز التوكل إلا عليه.
قوله: "اسمٌ من أسماء الله تعالى"، قال الزجاج: اسم "الرحمن" مذكورٌ في كتب الأولين ولم يكونوا يعرفون أنه من أسمائه تعالى، ومعناه: ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة، لأن فعلان بناء المبالغة، تقول: رجلٌ ريان وعطشان، إذا كان في النهاية من الري، وكذلك فرحان وجذلان. وقال ثعلبٌ: إنه عبرانيٌ، وهو في الأصل "رخمن"، بالخاء المعجمة، إذ لو كان عربياً لما أنكرت العرب وقد أنكروه، ويدل عليه قوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ، ولأنه لو كان مشتقًا من الرحمة لما حسن تقديمه على الرحيم، لأنه أشد مبالغةً منه حينئذٍ.
والسؤال عن المجهول بـ "ما". ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه، لأنه لم يكن مستعملا في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى. (لِما تَامُرُنا) أي: للذي تأمرناه، بمعنى: تأمرنا سجوده: على قوله:
أمرتك الخير
أو: لأمرك لنا. وقرئ بالياء، كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم. أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو. وفي (وَزَادَهُمْ) ضمير (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ)؛ لأنه هو المقول.
[(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً)].
البروج: منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والسؤال عن المجهول بـ "ما")، كما تقول لشبح رفع لك عن بعيدٍ لا تشعر به: ما هو؟ فإذا شعرت أنه إنسانٌ، قلت: من هو؟
قوله: ) {لِمَا تَامُرُنَا} ، أي: للذي تأمرنا)، قال أبو البقاء:"ما" موصولةٌ، أو نكرةٌ موصوفةٌ، أي: لما تأمرنا بالسجود له، ثم بسجوده ثم تأمرنا، هذا قول أبي الحسن، وعلى قول سيبويه حذفت ذلك كله من غير تدريج.
قوله: (وقرئ بالياء)، المعالم: حمزة والكسائي: بالياء، والآخرون: بالتاء الفوقانية.
قوله: (لأنه هو المقول) معلله مقدر، يعني: وضع {اسْجُدُوا} موضع قول: {اسْجُدُوا} ، وجاز، لأنه هو المقول، وضعاً للمقول موضع القول، فالمعلل قولنا: جاز.
وسميت بالبروج التي هي القصور العالية، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها. واشتقاق البرج من التبرج، لظهوره. والسراج: الشمس كقوله تعالى: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)[نوح: 16]. وقرئ: (سُرُجًا)؛ وهي: الشمس والكواكب الكبار معها. وقرأ الحسن والأعمش: (وقُمْرا منيرا)؛ وهي جمع ليلة قمراء، كأنه: وذا قمر منيرا؛ لأنّ الليالي تكون قمرا بالقمر، فأضافه إليها. ونظيره - في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه - قول حسان:
بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل
يريد: ماء بردي، ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر، كالرشد والرشد، والعرب والعرب.
[(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "سرجاً")، بضمتين: حمزة والكسائي، والباقون: بكسر السين وفتح الراء وألفٍ بعدها.
قوله: (وذا قمرٍ)، وهو عبارةٌ عن القمر، لأن القمر صاحب الليالي اللاتي يكن قمراء بالقمر، فيرجع حاصل هذه القراءة إلى المشهورة.
قوله: (بردى يصفق بالرحيق السلسل)، أوله لحسان:
يسقون من ورد البريص عليهم
يريد: ماء بردى، وهو نهر دمشق. ومن ثم ذكر "يصفق بالرحيق"، مضى شرحه في أول البقرة.
الخلفة من خلف، كالركبة من ركب: وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كلّ واحد منهما الآخر. والمعنى: جعلهما ذوي خلفة، أي: ذوي عقبة، أي: يعقب هذا ذاك وذاك هذا. ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان. ومنه قوله: (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)[البقرة: 164]، ويقال: بفلان خلفة واختلاف، إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحدٍ منهما الآخر)، يريد أن {خِلْفَةً} مفردٌ لفظاً، ومتعددٌ معنى. قال أبو البقاء:{خِلْفَةً} : مفعول ثانٍ أو حالٌ، وأفرد لأن المعنى: يخلف أحدهما الآخر، فلا يتحقق هذا إلا منهما.
قوله: (ذوي عقبةٍ)، روي بضم العين وكسرها. العقبة بالضم: النوبة. تقول: تمت عقبتك، ويقال: ما يفعل ذلك إلا عقبة القمر، إذا كان يفعله في كل شهرٍ مرة.
قوله: (يعقب هذا ذاك، وذاك هذا)، قال الزجاج: هذا قول أهل اللغة، وأنشدوا لزهير:
بها العين والآرام يمشين خلفةً
…
وأطلاؤها ينهض من كل مجثم
وجاء في التفسير أيضاً: {خِلْفَةً} : مختلفان، قال الله تعالى:{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران: 190].
وروي محيي السنة، عن مجاهد: يعني: جعل كل واحدٍ منهما مخالفاً لصاحبه، فجعل هذا أبيض وهذا أسود.
وقلت: وفي كلام الزجاج إشعارٌ بأن قول مجاهدٍ على خلاف اللغة، ولهذا اعتذر له المصنف بقوله:"ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان"، إلى آخره.
وقرئ: (يَذَّكَّرَ)، و (يَذْكُر)، وعن أبي بن كعب:(يَتَذكَّر). والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير. ويستدل بذلك على عظم قدرته، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: {يَذَّكَّرَ} و"يذكر")، حمزة:"أن يذكر" بإسكان الذال وضم الكاف مخففاً، والباقون: بفتحهما مشددين.
قوله: (ويشكر الشاكر على النعمة فيهما)، عطفٌ على قوله:"لينظر في اختلافهما الناظر"، وفيه إشارةٌ إلى أن قوله:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} وقوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} نشرٌ لمعنى اللف في قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} ، فإن مجرد الانتقال والتغيير يدل على ناقل ومغيرٍ عظيم القدرة، وكون ذلك الانتقال مؤدياً إلى النفع العظيم يدل على منعم واسع النعمة، وهما يوجبان المعرفة والعبادة، و"أو" في قوله:{أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} : للتخيير والإباحة، كما في قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] على ما مر، أو للجمع، كما في قوله:{عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6]، ومن ثم أتى المصنف بالواو في الموضعين، أي: في لينظر، ويشكر، وفي "وقتين للمتذكرين والشاكرين".
ثم قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} تعريضٌ بأن الذين قالوا: وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا؟ أبوا التفكر في آيات الله جحوداً وعناداً، وامتنعوا عن الشكر لآلائه عتواً واستكباراً، وتصريحٌ بأن الذين توسموا بعباد الرحمن على خلاف ذلك، ولذلك قال:{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} ليقابل قولهم: {أَنَسْجُدُ} وقوله: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} . وقال الإمام: إنه تعالى لما حكى عن الكفار مزيد النفرة ذكر بعده ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة، فقال:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} يعني: أن الذين قالوا: وما الرحمن؟ ما تفكروا في هذه القدرة، وما شكروا هذه النعمة.
والتصرف بالنهار، كما قال عز وعلا:(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)[القصص: 73]؛ أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. وعن الحسن رحمه الله: من فاته عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب. ومن فاته بالليل: كان له في النهار مستعتب.
[(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو ليكونا وقتين)، عطفٌ من حيث المعنى على جملة قوله:"لينظروا في اختلافهما".
قوله: (من فاته في أحدهما ورده
…
قام به في الآخر)، روينا عن الشيخين وغيرهما، عن أنس:"إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ".
قوله: (كان له في الليل مستعتبٌ)، الجوهري: عتب عليه، أي: وجد عليه، قال الخليل: الإعتاب: مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة، وقيل: الإعتاب: إزالة العتب، وهمزته للسلب، والإعتاب بمعنى الرضا، والاستعتاب: طلب الإعتاب.
النهاية: استعتب: طلب أن يرضى عنه، كما تقول: استرضيت، ومنه الحديث:"لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستغيث" أي: يرجع عن الإساءة، ويطلب الرضا، ومنه الحديث:"ولا بعد الموت من مستعتب"، أي: ليس بعده استرضاءٌ.
(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مبتدأ خبره في آخر السورة، كأنه قيل:(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ) هذه صفاتهم (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ)[الفرقان: 75]. ويجوز أن يكون خبره (الَّذِينَ يَمْشُونَ). وأضافهم إلى الرحمن تخصيصا وتفضيلا. وقرئ: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ). وقرئ: "يُمشَّونَ". (هَوْناً) حال، أو صفة للمشي، بمعنى: هينين. أو: مشيا هينا، إلا أنّ في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة. والهون: الرفق واللين. ومنه الحديث: "أحبب حبيبك هونا مّا"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأضافهم إلى الرحمن تخصيصاً)، فيكون تعريضاً بالذين قالوا:{وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا} ، فعلى هذا المختار أن يكون "عباد الرحمن": مبتدأ، و {الَّذِينَ يَمْشُونَ} وما عطف عليه: خبراً ليقابل الاستكبار، والامتناع عن السجود.
قوله: (وقرئ: "وعباد الرحمن")، العباد: من العبادة، وهو أن يفعل ما يرضاه الرب، والعباد: من العبودة، وهو أن يرضى ما يفعله الرب.
قوله: (إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغةً)، فيه إيماءٌ إلى أن جعله حالاً أوقع من جعله وصفاً، لأن المبالغة على الحال راجعٌ إلى ذواتهم، وفي الوصف إلى حالهم، لأن الأصل في الحال أن يقال: يمشون على الأرض هينين، فوضع موضع هوناً.
قوله: (ومنه الحديث: "أحبب حبيبك هوناً ما")، تمامه:"عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، أي: لا تفرط في حبه
وقوله: "المؤمنون هينون لينون"، والمثل:"إذا عزّ أخوك فهن"، ومعناه: إذا عاسر فياسر. والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله:(وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ)[الفرقان: 20].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبغضه، وارفق في كل ذلك. مذكورٌ في "أخبار الشهاب"، والشيخ أبو الفضائل الصغاني جعله من الموضوعات في "كشف الحجاب"، وفي "الدر الملتقط".
قوله: (المؤمنون هينون لينون)، روى الإمام أحمد بن حنبلٍ في "مسنده"، عن ابن مسعود: حرم على النار كل هينٍ لين، سهلٍ قريبٍ من الناس.
قوله: (إذا عز أخوك فهن)، قال الميداني: قال أبو عبيد: معناه: مياسرتك صديقك ليست بضيم ركبك منه فيدخلك الحمية به، إنما هو حسن خلقٍ وتفضل، فإذا عاسرك فياسره. قال المفضل: المثل لهذيل بن هبيرة الثعلبي، وكان أغار عل بني ضبة، فغنم فأقبل بالغنائم فقال له أصحابه: اقسمها بيننا، فقال: إني أخاف أن تشاغلتم بالاقتسام أن يدرككم الطلب، فأبوا، فقال: إذا عز أخوك فهن.
قوله: (ولقوله: {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} ، يعني: لأجل ما وصف الله تعالى العباد بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} ، ووصف الرسل بقوله: بقوله: {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، أوقع المعلل بين العلتين.
(سَلَاماً): تسلما منكم لا نجاهلكم، ومتاركة لا خير بيننا ولا شر، أي: نتسلم منكم تسلما، فأقيم السلام مقام التسلم. وقيل: قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. والمراد بالجهل: السفه وقلة الأدب وسوء الرعة، من قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وعن أبي العالية: نسختها آية القتال. ولا حاجة إلى ذلك؛ لأنّ الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع.
[(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً)].
البيتوتة: خلاف الظلول، وهو أن يدركك الليل، نمت أو لم تنم، وقالوا: من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تسلماً منكم لا نجاهلكم)، روى صاحب "المطلع" عن الزجاج وأبي علي: نتسلم منكم تسلماً، أي: لا نجاهلكم ولا نلتبس بشيءٍ من أمركم، وهو الجهل. وقلت: هو معنى قوله: "ومتاركةً لا خير بيننا ولا شر".
قوله: (سداداً من القول)، وهو قول مقاتل بن حيان، أي: قالوا قولاً يسلمون فيه من الإثم. قالوا: هذا ليس بسديد، لأن المراد: أنهم يقولون هذه اللفظة لقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]. قال الحريري في "درة الغواص": السداد، بالفتح: القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكثير: البلغة، وكل ما سددت به شيئاً.
قوله: (وسوء الرعة)، الجوهري: قد ورع يرع بالكسر فيهما ورعاً ورعةً. يقال: فلانٌ سيئ الرعة، أي: قليل الورع.
قرأ شيئا من القرآن في صلاته وإن قلّ فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء. والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو بأكثره. يقال: فلان يظل صائما ويبيت قائما.
[(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً* إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)].
(غَراماً): هلاكا وخسرانا ملحا لازما. قال:
ويوم النّسار ويوم الجفا
…
ر كانا عذابا وكانا غراما
وقال:
إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ
…
ـط جزيلا فإنّه لا يبالي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({غَرَامًا} هلاكاً وخسراناً ملحاً)، الراغب: الغرم: ما ينوب الإنسان في ما له من ضررٍ بغير جنايةٍ منه. يقال: غرم كذا غرماً ومغرماً، وأغرم فلانٌ غرامةً، والغريم يقال لمن له الدين ولمن عليه الدين. والغرام: ما ينوب الإنسان من شدةٍ ومصيبة. وقال ابن الأعرابي: الغرام: الشر الدائم، والعذاب.
قوله: (يوم النسار ويوم الجفار)، الجوهري: النسار، بكسر النون: ماءٌ لبني عامر، ويوم نسارٍ لبني أسدٍ وذبيان على بني جشم بن معاوية. وقال: الجفار أيضاً: ماءٌ لبني تميم بنجد، ومنه: يوم الجفار، وأنشد البيت.
قوله: (إن يعاقب) البيت، لا يبالي: أي: لا يكترث بقولٍ إن يعاقب الأعداء يكن غراماً، وإن يعط الأولياء فإنه لا يبالي بإعطاء الكثير.
ومنه: الغريم؛ لإلحاحه ولزامه. وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه، إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم، كقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60]. (سَاءَتْ) في حكم "بِئستْ" وفيها ضمير مبهم يفسره (مُسْتَقَرّا)، والمخصوص بالذم محذوف، معناه: ساءت مستقرّا ومقاما هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم "إنّ" وجعلها خبرا لها. ويجوز أن يكون (سَاءَتْ) بمعنى: أحزنت. وفيها ضمير اسم "إنّ". و (مُسْتَقَرًّا) حال أو تمييز، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين ومترادفين، وأن يكونا من كلام الله وحكاية لقولهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ساءت مستقراً ومقاماً هي)، قال صاحب "المطلع": فإن قيل: كيف ذكر المفسر والمفسر مؤنث؟ قلت: لما أنث المفسر بمعنى الدار والمنزلة، وجب تأويل المفسر به، كأنه قيل: ساءت الدار أو المنزلة داراً أو منزلةً، وإنما وجب تأنيثه نظراً إلى المخصوص بالذم كما نظر ذو الرمة في الزورق إلى تأويل السفينة، حيث كان المخصوص بالمدح مؤنثاً في قوله:
أو حرةٌ عيطلٌ ثبجاء مجفرةٌ
…
دعائم الزور نعمت زروق البلد
الحرة: الناقة الكريمة، والعيطل: الطويلة العنق. الثبج: شديد الثبج، وهو الظهر، وقيل: ما بين الكاهل إلى الظهر، والمجفرة: الشديدة الجفرة وهي الوسط، والزور: أعلى الصدر.
قوله: (وفيها ضمير اسم "إن")، وقال صاحب "المطلع": والتأنيث لاسم "إن"، وهي جهنم، لأنه ضميرها.
قوله: (يصح أن يكونا متداخلين)، أي: يكون قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا} تعليلاً لقوله:
{اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} ، وقوله:{إِنَّهَا سَاءَتْ} تعليلاً لقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ
[(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)].
قرئ: (يَقْتُرُوا) بكسر التاء وضمها، و:(يُقتِروا) بتخفيف التاء وتشديدها. والقتر والإقتار والتقتير: التضييق الذي هو نقيض الإسراف. والإسراف: مجاوزة الحدّ في النفقة. ووصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير، وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)[الإسراء: 29]. وقيل: الإسراف إنما هو الإنفاق في المعاصي، فأما في القرب فلا إسراف. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوّجه ابنته وأحسن إليه، فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت، وجاء بكلام حسن، فقال ابن لعبد الملك: إنما هو كلام أعدّه لهذا المقام، فسكت عبد الملك، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر، فسأله عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غَرَامًا}، وكونهما مترادفين أن يكونا تعليلين لقوله:{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} ، قال الإمام: كلاهما يمكن أن يكون ابتداء كلام الله، ويمكن أن يكون حكايةً لقولهم، فقوله:{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} إشارةً إلى كونها مضرةً خالصةً عن شوائب النفع.
وقوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} إشارةٌ إلى كونها دائمةً، والفرق بين المستقر والمقام فإن المستقر للعصاة من أهل الإيمان، فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون، والإقامة للكفار.
قوله: (قرئ: {يَقْتُرُوا}، بكسر التاء وضمها)، نافعٌ وابن عامر:"ولم يقتروا" بضم الياء وكسر التاء، من الإقتار، وابن كثيرٍ وأبو عمرو: بفتح الياء وكسر التاء، والباقون: بفتح الياء وضم التاء.
نفقته وأحواله فقال: الحسنة بين السيئتين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بنىّ، أهذا أيضا مما أعدّه؟ وقيل: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسدّ جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحرّ والقرّ. وقال عمر رضي الله عنه: كفى سرفا أن لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله. والقوام: العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما. ونظير القوام من الاستقامة: السواء من الاستواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الحسنة بين السيئتين)، أي: الاقتصاد، وهو حسنةٌ بين الإسراف والتقتير، وهما سيئتان، ومن كلام بعضهم:
كلا طرفي [قصد] الأمور ذميم
وخير الأمور أوساطها.
قوله: (وقيل: أولئك أصحاب محمدٍ صلوات اله عليه)، عطفٌ على قوله:"وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير"، وعلى الأول كان عاماً فيهم وفي غيرهم. والمراد بالإنفاق الوسط: السخاوة التي هي بين التبذير والبخل. وعلى الثاني، الوسط: عبارةٌ عن الإنفاق على أنفسهم بما لا يبلغ إلى حد التلذذ والتنعم، بل يكون سد الجوعة، وستر العورة.
قوله: (ونظير القوام من الاستقامة: السواء من الاستواء)، يعني: نظيره في علة التسمية به، لا أنه مشتقٌ منه، لأن الثلاثي لا يشتق من المزيد، أي: إنما قلنا: قواماً للشيء الذي هو عدلٌ بين الشيئين لاستقامة الطرفين، وكذلك السواء من الاستواء.
وقرئ: (قِواماً) بالكسر، وهو ما يقام به الشيء. يقال: أنت قوامنا، بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص، والمنصوبان أعني (بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) - جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل (بَيْنَ ذَلِكَ) لغوا، و (قَوَاما) مستقرا. وأن يكون الظرف خبرا، و (قَوَامًا) حالا مؤكدة. وأجاز الفراء أن يكون (بَيْنَ ذلِكَ) اسم "كان"، على أنه مبني؛ لإضافته إلى غير متمكن، كقوله:
لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "قواماً"، بالكسر)، قال ابن جني: قرأها حسان بن عبد الرحمن صاحب عائشة رضي الله عنها ويروي عنه قتادة. القوام بالفتح: الاعتدال في الأمر، وبالكسر: ملاك الأمر وعصامه، فلو اقتصر على قوله:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ} كان كافياً، فـ {قَوَامًا} تأكيدٌ، وجارٍ مجرى الصفة، أي: توسطاً مقيماً للحال وناظماً، كالصفات المؤكدة، قال الله تعالى:{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] فالأخرى توكيدٌ.
قوله: (وأن يجعل {بَيْنَ ذَلِكَ} لغواً، و {قَوَامًا} مستقراً)، قيل: إطلاق المستقر على {قَوَامًا} مع أنه ظرف، لمزاوجة الكلام، وهو كونه مذكوراً مع الظرف، وهو بين ذلك. قال ابن الحاجب: المستقر: ما كان خبراً محتاجاً إليه، وسمي مستقراً، لأنه يتعلق بالاستقرار، فالاستقرار فيه هو مستقرٌ فيه، أي: موضعٌ للتقرير، ثم حذف لفظة "فيه" اختصاراً، واللغو: هو ما لو حذف لكان الكلام مستغنى عنه.
قوله: (لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت)، تمامه:
حمامةٌ في غصونٍ ذات أو قال
وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوي؛ لأنّ ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة؛ فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منها: ضمير الراحلة. الأوقال: جمع وقل، وهو الحجارة. أي: في غضونٍ نابتةٍ بأرض ذات أو قال، وقيل: الوقل: شجر المقل، يقول: لم يمنع الراحلة الشرب إلا صوت حمامة، أي: إنها حديدة الحس، فيها فزعٌ وذعرٌ لحدة نفسها. والاستشهاد في قوله:"غير أن نطقت"، وهو فاعل "يمنع"، وإنما بني، لإضافته إلى المبنى.
قوله: (فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدةٌ)، وفائدته: بيان اتصاف المخبر عنه بالخبر، فيجب أن يكون وصف الشيء بغيره، ليفيد لا بنفسه لئلا يؤدي إلى أن يقال: وكان القوام قواماً. وأجاب عنه صاحب "المطلع": أن ما بين الإسراف والإقتار لا يلزم أن يكون قواماً، أي: عدلاً، لأنه يجوز أن يكون دون الإسراف بقليل، أو فوق الإقتار بقليل فما بينهما وسطٌ، بسكون السين، يتناول العدل وغيره، فالتقدير: وكان الوسط ن ذلك قواماً. والجواب عنه: أنه يلزم من هذا الحرج المنفي في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فإن في إيقاع قواماً على ما قرره الدلالة على مراعاة حاق الوسط، بمعنى أن قوله:{بَيْنَ ذَلِكَ} كان يحتمل معنى الوسط بالسكون الذي هو اسمٌ مبهم لداخل الدائرة، فأخبر بقوله:{قَوَامًا} أن المراد منه الوسط بالتحريك، الذي هو اسمٌ لعين ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة، ولا ارتياب أن مراعاة ذلك متعذرٌ ولا يتيسر إلا بالندرة.
وقال صحاب "الفرائد": ما أورده صاحب "الكشاف" على الفراء واردٌ عليه في قوله: "المنصوبان- أعني {بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} - جائزٌ أن يكونا خبرين معاً، ويمكن أن يقال: المراد من القوام: العدل، فصح أن يكون خبراً لـ {بَيْنَ ذَلِكَ} ولا يخلو عن فائدة".
والجواب عنه ما ذكره ابن جني، أن الثاني جارٍ مجرى الصفة المؤكدة، كأنه قيل: كان إنفاقهم وسطاً بسكون السين البتة، لا أن الإنفاق في عين الوسط لا يتجاوزه أصلاً، كما يلزم من الاسم والخبر إذا اتحدا معنى. والجواب عن قوله: المراد من القوام العدل: هو ما أجيب عن صاحب "المطلع".
[(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً* إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)].
(حَرَّمَ اللَّهُ) أي: حرّمها. والمعنى: حرّم قتلها. و (إِلَّا بِالْحَقِّ) متعلق بهذا القتل المحذوف. أو بـ (ولا يَقْتُلُونَ). ونفى هذه المقبحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين؛ للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. والقتل بغير حق يدخل فيه الوأد وغيره. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، أىّ الذنب أعظم؟ قال:«أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قلت: ثم أىّ؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أى؟ قال «أن تزاني حليلة جارك» ، فأنزل الله تصديقه. وقرئ:(يلق فيه أثاما). وقرئ: (يلقى) بإثبات الألف، وقد مر مثله. والأثام: جزاء الإثم، بوزن الوبال والنكال ومعناهما، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونفي هذه المقبحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش)، يعضد ما ذهبنا إليه من أن قوله:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} مقابلٌ للقائلين: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا} ، فمدحهم الله بتلك الخلال الحميدة التي تختص بأوليائه ثم نفى عنهم هذه الخصال الرذيلة التي عليها أعداؤه.
قوله: (عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ )، الحديث بتمامه، أخرجه البخاري ومسلمٌ وغيرهما.
قوله: (وقرئ: "يلقى"، بإثبات الألف)، قال في "المطلع": جعل أثر الجازم حذف الحركة من المعتل لا حذف الألف كقوله:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى
…
عقوقا والعقوق له أثام
وقيل هو الإثم. ومعناه: يلق جزاء أثام. وقرأ ابن مسعود: (أيَّامًا)، أي: شدائد. يقال: يوم ذو أيام؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألم يأتيك -والأنباء تنمي-
…
بما لاقت لبنون بني زياد
"والأنباء تنمي": جملةٌ معترضةٌ، و"بما لاقت": متعلقٌ بـ "يأتيك".
قوله: (جزى الله ابن عروة) البيت، العقوق: العاق، والعقوق، بالضم: مصدرٌ، وهو ترك بر الوالدين وقطعه، وكذا في الرحم، وعقوقاً: نصبٌ على الحال، ومعناه: جزى الله ابن عروة شر جزاءٍ عاقًا والعقوق له جزاءٌ سيئ.
قوله: (وقيل: هو الإثم، ومعناه: يلق جزاء أثام) يريد أن "الأثام" إما أن يراد به جزاء الإثم كالثوب لجزاء الطاعة، وإما أن يراد به مطلق الإثم، فحينئذٍ يحتاج إلى تقدير مضاف، وهو المراد بقوله:"ومعناه: يلق جزاء أثام".
الأساس: كانوا يفزعون من الأنام أشد ما يفزعون من الأثام، وهو وبال الإثم، قال:
لقد فعلت هذي النوى بي فعلة
…
أصاب النوى قبل الممات أثامها
قوله: (يومٌ ذو أيام)، الأساس: ويومٌ ذو أيام: كأيام. قال النابغة:
لليوم العصيب. (يُضاعَفْ) بدل من (يَلْقَ)؛ لأنهما في معنى واحد، كقوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
…
تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا
وقرئ: (يُضَعَّف)، و (نُضَعِّف له العذابَ)، بالنون ونصب العذاب. وقرئ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إني لأخشى عليكم أن يكون لكم
…
من أجل بغضائهم يومٌ كأيام
وذكر في أيام العرب، أي: في وقائعها. {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] أي: بدمادمه على الكفرة.
قوله: (لليوم العصيب) الأساس: عصب القوم بفلانٍ: أحاطوا به، ووجدتهم عاصبين به، ومنه:{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] وعصبصب، وقيل: اعصوصب واعصبصب، والقوم: إذا اجتمعوا، واليوم: إذا اجتمعت فيه الشدائد.
قوله: (متى تأتنا تلمم) البيت، "تلمم"، أي: تنزل، وهو بدلٌ من "تأتنا"، والألف في "تأججا" للتثنية، وذكر لتغليب الحطب على النار. وقيل: تأججن بالنون الخفيفة، كقوله تعالى:{لَنَسْفَعَا} [العلق: 15]، وكقول الشاعر:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
أي: فاعبدن، وقد مضى في "آل عمران" تحقيق هذا البدل عن ابن جني.
قوله: (وقرئ: "يضعف" و"نضعف")، ابن عامرٍ وأبو بكر:"يضاعف له""ويخلد" برفع الفاء والدال، والباقون: بجزمهما، وابن كثيرٍ وابن عامرٍ على أصلهما: يحذفان الألف ويشددان العين.
بالرفع على الاستئناف أو على الحال، وكذلك (يَخْلُدْ) وقرئ:(ويخلد) على البناء للمفعول مخففا ومثقلا، من الإخلاد والتخليد. وقرئ:(وتخلد) بالتاء على الالتفات (يُبَدِّلُ) مخفف ومثقل، وكذلك (سَيِّئَاتِهِمْ). فإن قلت: ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال الحسنات سيئات؟ قلت: إذا ارتكب المشرك معاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "تخلد" بالتاء على الالتفات)، قال ابن جني: قرأ طلحة بن سليمان: "نضعف" بالنون، و"العذاب" بالنصب، "وتخلد فيه": جزم، أي: تخلد فيه أيها المضعف على ترك الغيبة إلى الخطاب.
في "علل القرآن" للأزهري: اتفق القراء كلهم على "يخلد" بفتح الياء وضم اللام.
قوله: ({يُبَدِّلُ}، مخففٌ ومثقل)، أي: قرئ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ} بتثقيل الدال. سبعةٌ، وبالتخفيف: شاذ.
قوله: (وإبدال الحسنات سيئات)، خلاف ما في التلاوة.
قوله: (وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات)، قال محيي السنة: ذهب جماعةٌ إلى أن هذا التبديل في الدنيا، قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهدٌ، والسدي، والضحاك: يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفةً وإحصاناً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال سعيد بن المسيب ومكحولٌ: يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسناتٍ يوم القيامة، يدل عليه حديث أبي ذر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلم آخر رجلٍ يخرج من النار، يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال له: علمت يوم كذا وكذا وهو مقرٌ لا ينكر، وهو مشفقٌ من كبارها، فيقال: أعطوه مكان كل سيئةٍ حسنة، فيقول: إن لي ذنوباً ما أراها هاهنا". قال أبو ذر: فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. رواه الترمذي. ورواه مسلمٌ أيضاً عن أبي ذر مع تغييرٍ فيه.
فهذه المعاملة مع من هو آخر الناس خروجاً من النار، فكيف بالمؤمن التائب الآتي بالأعمال الصالحة؟
وروى الإمام عن سعيد بن المسيب ومحكولٍ: تمحى السيئة ويثبت له بدلها الحسنة، لما ورد:"ليتمنين أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات"، قيل من هم؟ قال:"الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات"، ولا يبعد ذلك من حيث الدليل، فإن التائب النادم كلما تحسر على ذنبٍ صدر منه واستغفر الله تعالى لأجله أو خضع واستكان، نال من الزلفى من الله من الدرجات ما لا يناله بالطاعة.
ثم النظم يساعد هذا التأويل، فإن الإشارة بقوله:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} ما سبق من الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة، والزنا، وقد ترتب عليه مضاعفة العذاب، والتخليد والإهانة، واستثنى من الوعيد المؤمن التائب الآتي بالأعمال الصالحة، فحينئذٍ لم يفد إذا عقب بقوله:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ، وفسر بمحو الذنوب وإثبات
الإيمان، والطاعة، والتقوى. وقيل: يبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين: قتل المشركين، وبالزنى عفة وإحصانا.
[(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً)].
يريد: ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله (مَتَاباً) مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب. أو فإنه تائب متابا إلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يستوجبون، والذي يحب التوابين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإيمان والطاعة والتقوى إفادة ما إذا قيل: بفضل الله عليهم بالثواب والكرامات، وأن يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ يوم القيامة، لاسيما إيراد إبدال السيئات بالحسنات بعد اسم الإشارة المؤذن بأن ما يرد عقيبه جديرٌ بمن قبله، لأجل اكتسابه الخلال الحميدة، والمذكور قبله: التائب، والخصال الحميدة: الإيمان والأعمال الصالحة، فلابد إذاً من أمرٍ آخر زائدٍ وليس ذلك إلا الثواب في الآخرة.
ويؤيده قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: غفوراً حيث حط عنهم بالتوبة والإيمان مضاعفة العذاب، والخلود في النار والإهانة، رحيماً حيث بدل سيئاتهم بالثواب الدائم، والكرامة في الجنة، وكذا تذييل الكلام بقوله:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} المفسر بقوله: "متابا مرضياً عنده مكفراً للخطايا، محصلاً للثواب وإلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما هو أهله، ويحب التوابين"، وأنت قد علمت أن التذييل كالتأكيد للمذيل، فلابد من مراعاة معنى الثواب فيه ليصح.
قوله: ({متاباً} مرضياً عنده مكفراً)، وذلك أن الشرط والجزاء إذا اتحدا معنى حمل الجزاء على نهاية ما يحتمله من المعنى، ونحوه قولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك.
قوله: (أو: فإنه تائبٌ متاباً إلى الله)، يعني: أعيد المعنى ليناط به صريح اسمه الجامع،
ويحب المتطهرين. وفي كلام بعض العرب: لله أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليؤذن به أن من تكون توبته إلى من اسمه الله فأعظم بتوبته، وقد سبق أن اسمه الأعظم جامعٌ لسائر صفاته الحسنى وأسمائه العظمى، وله في كل مقامٍ تجل بحسب اقتضاء ذلك المقام، والمقابل له. وهذا المقام مقام التوبة، فالتجلي بوصف التوابية، وإليه الإشارة بقوله:"إلى الله الذي يعرف حق التائبين، ويفعل بهم ما يستوجبون، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين"، والذي يفرح بتوبة التائبين فرحاً لا فرح فوقه.
قوله: (لله أفرح بتوبة العبد)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن الحارث بن سويد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ نزل بأرض دويةٍ مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، وعليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته". الدوية: الفلاة والمفازة. والراحلة: البعير الذي يركبه الإنسان، ويحمل عليه متاعه، والفرح من الله سبحانه وتعالى: غاية الرضا.
يقول العبد العاصي الغريق في بحر المعاصي: أنا أتوسل بما صدر عن صدر حبيبك لقبول توبتي ومحو حوبتي: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" أخرجه البخاري والترمذي والنسائي، عن شداد بن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الاستغفار.
باء بإثمه يبوء بوءاً، أي: رجع به، وصار عليه. وتقول: باء بحقه، أي: أقر، وذا يكون أبداً بما عليه، لا له.
والظمآن الوارد، والعقيم الوالد. أو: فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وأىّ مرجع! .
[(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)].
يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزها عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه؛ لأنّ مشاهد الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوّغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعاً حسناً)، وعلى هذا معنى "يتوب": يرجع لغةً.
فإن قلت: لم وضع في الوجهين السابقين "تائب" في موضع "يتوب"، وصرح في الأخير بالمضارع حيث قال: يرجع؟ قلت: ليؤذن في الوجهين أن المضارع للاستمرار والدوام، وفي الأخير بأن الثواب منتظرٌ.
فإن قلت: ما الفرق بين الوجه الأول والثاني حين جعل الموصوف في الأول {مَتَابًا} وفي الثاني الله تعالى، والشرط والجزاء متحدان فيهما؟ قلت: ما ذكرنا أن القصد الأولى في التكرير على الأول إلى جعل الجزاء عين الشرط من غير نظرٍ إلى ذكر الله، فوصف مصدر الفعل، وعلى الثاني إلى مجرد إناطة اسم الله عز وجل به، من غير نظرٍ إلى المنوط به، فوصف ما جلب له المكرر، لأنه المقصود.
قوله: (ينفرون عن محاضر الكذابين)، فالشهادة بمعنى الحضور، والزور بمعنى الباطل، النهاية: الزور: الكذب، والباطل، والتهمة. الأساس: وفي صدره زورٌ: اعوجاجٌ، وهو شاهد زور.
قوله: (ما لم تسوغه الشريعة) فيدخل فيه أبنية الظلمة وما يلحق بمسجد الضرار، هذا بطريق العموم، ويمكن سلوك طريق الخصوص ويحمل اللغو مجازاً على ما نسقطه من الأبنية، وقد استعار جريرٌ في الأعيان في قوله:
الإثم، لأنّ حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه، لأنّ الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وفي مواعظ عيسى بن مريم صوات الله عليه: إياكم ومجالسة الخطائين. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعن قتادة: مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. اللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به. مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم، كقوله:(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)[القصص: 55]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويذهب بينها المرئي لغواً
…
كما ألغيت بالدية الحوارا
وهي استعارة مصرحة تحقيقية، فالقرينة استعمال المرور فيه، فالمناسب أن يحمل الشهود على الحضور، ويجعل الزور استعارةً عنها، لأنها باطلة كما استعير {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] للقاعدة الباطلة لمسجد الضرار، فيكون اللغو مظهراً وضع موضع المضمر، كأنه قيل: لا يحضرون تلك المشاهد، وإذا مروا بها مروا غير ملتفتين إليها ولا يجيلون النظر إليها استحساناً، لأن قصدهم في البناء سلب نظر الخلق إليها. قال أبو حامد في "الإحياء": إن السلاطين في زماننا هذا ظلمة قلما يأخذون شيئاً على وجهه بحقه، فلا يحل معاملتهم ولا معاملة من يتعلق بهم، حتى القاضي، ولا التجارة في الأسواق التي بنوها بغير حق، والورع اجتناب الربط والمدارس والقناطير التي بنوها بالأموال المغصوبة التي لا يعلم مالكها.
قوله: (هو استحسان النظارة)، واستحسان ما قضى الإسلام بقبحه، يضرب إلى الكفر، ولهذا قيل: الابتهار بالذنب أعظم من ركوبه، والابتهار: أن يقول: فعلت، وقد فعل
وعن الحسن: لم تسفههم المعاصي. وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن الحسن: لم تسفههم المعاصي)، روى محيي السنة عن الحسن والكلبي: اللغو: المعاصي كلها، يعني: إذا مروا بمجالس يعصى اله فيها مروا مسرعين معرضين إذ لو وقف أو لم يعرض، بل نظر، عد سفيهاً، يقال: تكرم فلانٌ عما يشينه: إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.
ثم هذه الخاتمة، أعنى:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} إذا فسر قوله: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} بأنهم ينفرون عن محاضر الكذابين والخطائين، على أن {يَشْهَدُونَ} بمعنى يحضرون، كانت كالتميم له، وإذا فسر بأنهم لا يشهدون شهادة الزور كانت كالتكميل له، ويجوز أن يكون تتميماً على تفسير الحسن، لأن من وقف مواقف السفهاء سفه، ويكون قدحاً في عدالته.
قوله: (إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا)، عبر أولاً عن سماع اللغو بالمرور به، لأن المرور به دل على أصحابه، ودل ذلك على سماعه منهم. وثانياً: عن الإعراض عنه بالمرور به. على تلك الحالة، فإن الكريم إذا مر باللغو أعرض عنه. قال تعالى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. قال:
وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وتخصيص المرور بالذكر، للإيذان بأن ذلك دأبهم وعادتهم، قال تعالى:{حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189]، أي: استمرت بذلك الحمل ولم يثقلها قط. قال الزجاج: فمرت به، معناه: استمرت به، قعدت وقامت ولم يثقلها. ونحوه في المعنى قول الشاعر:
وقد أمر على اللئيم يسبني
…
فمضيت ثمة قلت لا يعنيني
وصفحوا. وقيل: إذا ذكروا النكاح كنوا عنه.
[(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)].
(لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى، كما تقول:
لا يلقاني زيد مسلما، هو نفي للسلام لا للقاء. والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: هذا الإعراض والصفح شيمتى وخلقي، ولذلك قرنه بحرف التقليل المفيد للتكثير تمليحاً، كقوله:
قد أترك القرن مصفراً أنامله
قوله: (كنوا عنه)، أي: بالغشيان والمسيس والمباشرة والإتيان دائمين مستمرين.
قوله: (ليس بنفي للخرور، بل إثباتٌ له ونفيٌ للصمم والعمى)، يعني: أدخل حرف النفي على المثبت، وأريد نفي ما يتبعه، كقولك: ما هو بمؤمنٍ مخادع. والنكتة فيه التعريض بمن هو ليس على صفتهم، ولذلك قال:"لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها، إلى قوله: "وهو كالصم والعميان"، وما أحسن اقتران هذا الوصف مع قوله:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} لا يختلط جدهم بهزل، وحقهم بباطل، فإذا اعتراهم الهزل تنزهوا عنه كل تنزه، وإذا اشتغلوا بالحق لا يحوم بالباطل حوله، ومنه قول المنصور لابن عمران: بلغني أنك بخيلٌ. قال: ما أجمد في حق، ولا أذوب في باطل، أو يقال: إذا مروا بالهزل مروا مكرمين متغافلين متغابين، كأنهم ما سمعوه ولا نظروا إليه، وإذا حاولوا الجد أقبلوا إليه بشر اشرهم واجتنبوا عن أن يكونوا كالغافلين عنه لا يسمعونه بآذانٍ واعية، ولا يبصرونه بأعينٍ راعية. اللهم اجعلنا من زمرتهم برحمتك الواسعة يا رب العالمين.
سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها، مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم العميان حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم.
[(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)].
قرئ: (ذريتنا)، و (وذرياتنا)، و (قرة أعين) و (قرّات أعين). سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا عمالا لله، يسرون بمكانهم وتقرّبهم عيونهم. وعن محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سامعون بآذانٍ واعية، مبصرون بأعينٍ راعية)، خبرٌ بعد خبر، لقوله:"وهم".
قوله: (وقرئ: "ذريتنا" و {ذُرِّيَّاتِنَا} ، الحرميان وابن عامرٍ وحفص:"ذرياتنا" بالألف على الجمع، والباقون: بغير الألف على التوحيد.
قوله: (سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجاً وأعقاباً عمالاً لله)، فإذن، التقدير: هب لنا أزواجاً وذرياتٍ مطيعين لك، ولما كانت طاعتهم سبباً لسرورهم وضع المسبب موضع السبب للمبالغة، وأن المطلوب الأولى بالأولاد طاعة اله، وجعل هذا الدعاء من جملة صفات الكملة من المؤمنين للدلالة على عظم منزلة من يطلب النكاح لذلك، وهذا بالنسبة إلى الداعي، فكيف بمن يتصف بذلك؟
وقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} ، كالتكميل للدعاء، أي: اجعلنا كاملين في أنفسنا، ومكملين لغيرنا، وفي جعل المقتدين متقين إشارةٌ إلى علو درجة الإمام.
قوله: (يسرون بمكانهم وتقربهم عيونهم)، "وتقر بهم": عطفٌ تفسيريٌ لـ "يسرون"،
بن كعب: ليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس: هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. أراد. أئمة، فاكتفى بالواحد؛ لدلالته على الجنس ولعدم اللبس، كقوله:(ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا)[غافر: 67]. أو أرادوا: اجعل كل واحد منا إماما. أو أراد جمع آمّ، كصائم وصيام. أو أرادوا: اجعلنا إماما واحدا لا تحادنا واتفاق كلمتنا. وعن بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقيل: نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة. فإن قلت: (مِنْ) في قوله: (مِنْ أَزْواجِنا) ما هي؟ قلت: يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرّة أعين، ثم بينت القرّة وفسرت بقوله:(مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا)، ومعناه: أن يجعلهم الله لهم قرّة أعين، وهو من قولهم: رأيت منك أسدا، أي: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى: هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والظاهر العكس، لأنه بصدد أن يفسر "قرة أعين" بالسرور، كأنه ادعى الشهرة، وأنه الأصل في الاعتبار.
النهاية: وفي حديث الاستسقاء: "لو رآك لقرت عيناه"، أي: لسر بذلك وفرح، وحقيقته: أبرد الله دمعة عينية، لأن دمعة الفرح والسرور باردةٌ، ونقل عن الأصمعي: دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ولهذا قيل: أسخن الله عينيك، وقيل: أقر الله عينيه: أعطاه ما يسكن به عينه، ولا ينظر إلى غيره، من: قر يقر- من باب ضرب-: إذا ثبت.
قوله: (وأن تكون ابتدائيةً على معنى: هب لنا من جهتهم)، في كلامه إشعارٌ بأن "من" البيانية تجريديةٌ، لقوله:"وهو من قولهم: رأيت منك أسداً"، و"من" الابتدائية بمعنى: لأجل، كذا قدر في المائدة عند قوله:{أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83].
فإن قلت: لم قال: (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) فنكر وقلل؟ قلت: أما التنكير فلأجل تنكير القرّة، لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه، كأنه قيل: هب لنا منهم سرورا وفرحا. وإنما قيل (أَعْيُنٍ) دون عيون، لأنه أراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم، قال الله تعالى:(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)[سبأ: 13]، ويجوز أن يقال في تنكير (أَعْيُنٍ): إنها أعين خاصة، وهي أعين المتقين.
(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان: 76].
المراد يجزون الغرفات؛ وهي العلالي في الجنة، فوحد اقتصارا على الواحد الدال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يقال في تنكير {أَعْيُنٍ} ، عطفٌ على قوله:"أما التنكير فلأجل تنكير القرة"، وفي هذا العطف على الجواب بعد السؤال الثاني نوع بلاغة، فإنه لما أجاب عن سؤال التنكير بقوله: أما التنكير فلأجل تنكير القرة فهم أن المضاف تابعٌ للمضاف إليه، وكان المراد من التنكير في المضاف التفخيم والتعظيم، فنكر المضاف إليه لذلك، أي: سروراً لا يكتنه كنهه. ولما أجاب عن سؤال البناء وأن "أعين" جمعٌ بنيت للقلة ليؤذن به إلى تقليل صاحبها وهم المتقون، قال:"إنها أعينٌ خاصة"، والتنكير تنكير التقليل، ليناسب البناء في التقليل، كأنه قرة أعين الشكور من عباد الله.
الانتصاف: والظاهر أن المحكي كلام كل واحدٍ من المتقين، أي: يقول كل واحدٍ منهم: اجعل لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وهذا أحسن من تأويله، فإن المتقين، وإن كانوا قليلين، فهم كثيرون في أنفسهم، وقلتهم بالنسبة إلى غيرهم. والمعتبر في جمع القلة أن يكون الشيء قليلاً في نفسه لا بالنسبة.
قوله: (وهي العلالي في الجنة)، الجوهري: العلية: الغرفة، والجمع: العلالي، وهو فعليةٌ مثل مريقة، وأصله: عليوةٌ، فأبدلت الواو ياءً وأدغمت، وهي من: علوت.
على الجنس، والدليل على ذلك: قوله: (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ)[سبأ: 37]، وقراءة من قرأ:(في الغرفة). (بِما صَبَرُوا): بصبرهم على الطاعات، وعن الشهوات، وعلى أذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر وغير ذلك.
وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبور عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والدليل على ذلك)، أي: على أن المراد بـ "الغرفة" الجنس: مجيئها في "سبأ" جمعاً وإفراداً، فإن حمزة أفرد بها مفرداً، والجماعة أجمعوا على جمعها، فدل قراءة الجمع على أن المراد من الإفراد الجنس ليتوافق القراءتان، ويمكن أن يقال: القرينة هي إثبات الغرفة الواحدة للجماعة. وأما فائدة العدول في هذا المقام فلاتحاد ترتب الحكم على الأوصاف المشتركة بخلافه في "سبأ"، فإنه مرتبٌ على الإيمان والعمل الصالح مطلقاً. ولا ارتياب في التفاوت في الأعمال، فناسب الجمع ليتفاوت الجزاء بحسب العاملين. وأما إفراد حمزة فيها فمن باب حمل المطلق على المقيد.
قوله: (وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبورٍ عليه)، يعني: لم يؤت بمتعلق صبور لئلا يقتصر عليه، فيتناول كل مصبورٍ عليه إلى أن يحاط به.
فإن قلت: قد تقرر أن اسم الإشارة إذا عقب به من أجرى عليه الأوصاف دل على أن المذكور قبله جديرٌ بما بعده لأجل تلك الأوصاف الجارية عليه، فإذن السبب في أنهم يجزون الغرفة تلك الأوصاف التي أجريت على عباد الرحمن، فكان من حق الظاهر أن يجاء بدل {بِمَا صَبَرُوا}: بما فعلوا كناية عن تلك المذكورات بأسرها، فما فائدة العدول؟ قلت: الإيذان بأن ملاك العبادات الصبر، وأن حبس النفس على طاعة اله هي الطلبة، وقطعها عن مشتهياتها هي المرام.
الراغب: الصبر: حبس النفس عما يقتضيه الهوى، وتختلف مواقعه وربما يخالف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعة. فإن كان في مصيبةٍ فيقال: صبرٌ لا غير، وضده الجزع،
وقرئ: (ويُلَقَّوْنَ)، كقوله تعالى:(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً)[الإنسان: 11]، و (يَلْقَوْن)، كقوله: و (يَلْقَ أَثاماً)[الفرقان: 68]. والتحية: دعاء بالتعمير. والسلام: دعاء بالسلامة، يعني: أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة. اللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا مع أهل رحمتك، وارزقنا مما ترزقهم في دار رضوانك.
[(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)].
لما وصف عبادة العباد، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن كان في محاربةٍ سمي شجاعةً، وضدها الجبن، وإن كان في نائبةٍ مضجرة سمي صاحبه رحيب الصدر، وضده ضيق الصدر، وإن كان في إمساك النفس عن الفضولات سمي قناعةً وعفة، وضدها الحرص والشره، وإن كان في إمساك الكلام في الضمير سمي كتماناً، وضده الإفشاء وعلى هذا يقاس جميع الفضائل من الأخلاق ورذائلها.
قوله: (وقرئ: {وَيُلَقَّوْنَ})، بالتشديد، كلهم إلا أبا بكرٍ وحمزة والكسائي، فإنهم قرؤوا:"ويلقون" بالتخفيف.
قوله: (أو يعطون التبقية)، عطفٌ على قوله:"إن الملائكة يحيونهم"، هذان الوجهان مبنيان على القراءتين على تشديد {وَيُلَقَّوْنَ} وتخفيفه، فعلى التشديد المناسب أن يكون التحية بمعنى الدعاء بالتعمير، أي: تتلقاهم الملائكة ويحيونهم ويسلمون عليهم، وعلى التخفيف التحية بمعنى التبقية والتخليد، أي: يلقون البقاء والتخليد مع السلامة، لكن فسر المصنف يلقون بقوله: "يعطون، قال الله تعالى:{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، أي: أعطاهم، وفي بعض الحواشي: التحية مشتقةٌ من الحياة، وهي التبقية في الحقيقة، ومنه قولنا: التحيات لله، أي: التبقيات له تعالى.
ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة؛ أتبع ذلك بيان أنه إنما اكترث بأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ووعدهم ما وعدهم، لأجل عبادتهم، فأمر رسوله أن يصرّح للناس، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة، ولم يعتدّ بهم، ولم يكونوا عنده شيء يبالى به. والدعاء: العبادة. و (مَا) متضمنة لمعنى الاستفهام، وهي في محل النصب، وهي عبارة عن المصدر، كأنه قيل: وأي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم. يعنى أنكم لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لولا عبادتكم. وحقيقة قولهم ما عبأت به: ما اعتددت به من فوادح همومى ومما يكون عبئا علىّ، كما تقول: ما اكترثت له، أى: ما اعتددت به من كوارثي ومما يهمني. وقال الزجاج في تأويل (مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي): أي وزن يكون لكم عنده؟ ويجوز أن تكون (مَا) نافية، (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ): يقول: إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتدّ بعبادي إلا لعبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري، فقد عصيت فسوف ترى ما أحلّ بك بسبب عصيانك. وقيل: معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. وقيل: ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة. فإن قلت: إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ قلت: إلى الناس على الإطلاق، ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من فوادح همومي) وكوارثي، الجوهري: فدحه الدين: أثقله، وأمرٌ فادحٌ، إذا عاله وبهظه، وكرثه الغم يكرثه، بالضم، أي: اشتد عليه، وبلغ منه المشقة.
قوله: (فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب)، أي: الخطاب في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} متوجهٌ إلى جنس الناس من غير تقييدٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنوع من أنوع هذا الجنس، وإنما صح ذلك لما وجد في صنفٍ من الأصناف التكذيب، وفي صنفٍ العبادة، وهو قريبٌ من قوله:
فسيف بني عبس وقد ضربوا به
…
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
فقد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله: نبا بيدي ورقاء.
وقلت: ما أبعد هذا التأويل، فإن الآية منه على صريخ وعويل، أم كيف يتصور أن يدخل الأنبياء والصالحون من التابعين في خطاب {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} ؟ والوجه أن يكون الخطاب متوجهاً إلى قريش، لاسيما واللزام مفسرٌ بيوم بدر.
روينا عن البخاري ومسلم، عن عبد الله: خمسٌ قد مضين: الدخان، والقمر، والروم، والبطشة، واللزام، وفي رواية الترمذي: اللزام: يوم بدر.
وروى البرقاني عن الشيخين: اللزام: يوم بدر، وفي "معالم التنزيل": ما يفعل بعذابكم لولا شرككم؟ أي: دعاؤكم الآلهة، كما قال:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ} [النساء: 147]. وقيل: فقد كذبتم أيها الكافرون، فخاطب أهل مكة، يعني: أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته، فكذبتم الرسول ولم تجيبوه.
وقال صاحب "الفرائد": أصل الكلام: لولا دعاؤكم- أي: عبادتكم- لم يعبأ بكم،
وقرئ: (فقد كذب الكافرون). وقيل: يكون العذاب لزاما. وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر، وأنه لوزم بين القتلى لزاما. وقرئ:(لَزامًا) بالفتح بمعنى اللزوم، كالثبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن لم تكن عبادتكم، لأنه أرسل الرسول إليكم فقد كذبتموه فلم يعبأ بكم، فقوله:{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} واقعٌ موقع لم يعبأ بكم.
والنظم يساعد هذا التأويل، لأن هذه السورة الكريمة على ما سبق مشتملةٌ على بيان عناد كفار قريش، وتكذيبهم آيات الله وتسميتهم القرآن بأساطير الأولين، وطعنهم في الرسول:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7]، كما شرحناه. وأما ذكر المؤمنين فتعريضٌ لهم وقد صرح به في قوله:"ونفي هذه المقبحات العظام عن الموصوفين بتلك الخصال العظيمة في الدين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم"، ثم إن هذه الخاتمة ناظرةٌ إلى الفاتحة، أي:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] المعنى: قد أنذر وبالغ فيه، وبين بالآيات الظاهرة، والبراهين الباهرة، تصريحاً وتعريضاً، أن الحكمة في الإيجاد معرفة الخالق، أما تصريحاً ففي قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، وأما تعريضاً ففي عد فضائل المؤمنين، وإذا أعلمكم رسولي أن حكمي ذلك، وأني لا أعتد بعبادي إلا بعبادتهم، فقد خالفتم أنتم بتكذيبكم كتابي ورسولي حكمتي في الإيجاد، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم، وهو الاستئصال يوم بدر، والعذاب السرمد في النار يوم القيامة، وبالله التوفيق.
قوله: (وقرئ: "لزاماً" بالفتح)، في "المطلع":"لزاما" بالفتح، بمعنى: اللزوم، كالثبات والثبوت، وبالكسر: بمعنى الملازمة، وكلاهما وصفٌ بالمصدر بمعنى: ملازماً أو لازماً.
والثبوت. والوجه أن ترك اسم "كان" غير منطوق به بعدما علم أنه مما توعد به، لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف، والله أعلم بالصواب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الفرقان لقي الله يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنة بغير نصب".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والوجه أن ترك اسم "كان" غير منطوقٍ به)، يريد أنه غير ملفوظ، لكنه مضمرٌ بالبال، لقوله:"بعد ما علم أنه مما توعد به".
والله تعالى أعلم
* * *
سورة الشعراء
مكية، إلا قوله (وَالشُّعَراءُ) إلى آخر السورة وهي مئتان وسبع وعشرون آية.
وفي رواية: وست وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الشعراء (26): الآيات 1 إلى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
(طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء: 1 - 2].
طسم بتفخيم الألف وإمالتها، وإظهار النون وإدغامها. (الْكِتابِ الْمُبِينِ):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الشعراء
مكية، إلا قوله:{والشعراء} إلى آخر السورة
وهي مئتان وسبع وعشرون آية، وفي رواية: ست وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ({طسم} بتفخيم الألف)، أبو بكرٍ وحمزة والكسائي: بإمالة فتحة الطاء، والباقون: بإخلاص فتحها. وأظهر حمزة النون من هجاء السين عند الميم، وأدغمها الباقون.
الظاهر إعجازه، وصحة أنه من عند الله. والمراد به السورة أو القرآن. والمعنى: آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين.
[(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)].
البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع- بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الظاهر إعجازه)، أراد أن المبين من أبان بمعنى بان.
قوله: (والمراد به السورة أو القرآن)، اعلم أن {طسم} إما أن يجعل اسماً للسورة، أو تعداداً لحروف التهجي، والثاني إما واردةٌ على قرع العصا، أو تقدمةً لدلائل الإعجاز كما سبق في الفواتح، ثم المناسب أن يفسر الكتاب بالقرآن إذا جعل {طسم} اسماً لله، ويكون مبتدأ وتلك: مبتدأٌ ثانٍ، وآيات الكتاب: الخبر، والجملة خبر المبتدأ الأول، وإذا جعل تعداداً للحروف يفسر الكتاب بالسورة، ويقدر مضافٌ كما قال:"آيات هذه المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين"، يعني: آيات المؤلف من هذه الحروف، وهو القرآن، كآيات هذه السورة المتحدى به، فأنتم عجزتم عن الإتيان بمثل هذه السورة، فحكم تلك الآيات كذلك. و {تِلكَ} على هذه: إشارةٌ إلى القريب إعلاماً ببعد المنزلة والتناهي في الرتبة، وفي الوجه الأول: الإشعار بالتحدي بهذه السورة أيضاً، يعني: هذه السورة من جملة المتحدى به فأتوا بمثلها.
قوله: (البخع: أن يلغ بالذبح البخاع- بالباء-)، الموحدة، قال ابن الأثير في "النهاية": بحثت في كتب اللغة والطب والتشريح فلم أجد بخاع بالباء. وفي "الكواشي" وأهل اللغة: النخاع بالنون والخاء والعين. الجوهري: النخاع بضم النون: الخيط الأبيض الذي في جوف الفقار. الواحدي: قال جماعةٌ من المفسرين: باخعٌ نفسك: قاتل نفسك، يقال: بخع الرجل نفسه: إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء. وأنشد الزجاج لذي الرمة:
أقصى حدّ الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك، (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ): لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وعن قتادة:(باخع نفسك) على الإضافة.
[(إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه
…
بشيءٍ نحته عن يديه المقادر
المعنى: ألا أيهذا الذي أهلك الوجد نفسه. وفي "الأساس"، في باب الباء مع الخاء: بخع الشاة: بلغ بذبحها الفقار، ومن المجاز: بخعه الوجد: إذا بلغ منه المجهود، وأنشد بيت ذي الرمة.
قوله: (يعني: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرةً على ما فاتك من إسلام قومك)، دل على الأمر بالإشفاق قضية الإنكار، أي: إنك تفعل ذلك فلا تفعل. قال الإمام: لما بين الله تعالى أن الكتاب مبينٌ للأشياء، قال بعده:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} منبهاً على أن الكتاب وإن بلغ في البيان كل غايةٍ فلا مدخل له في إيمانهم، لما سبق أن حكم الله بخلافه، فلا تبالغ في الحزن والأسف، لأنك إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه، ثم لا ينتفع بذلك أصلاً، فصبره وعزاه وعرفه أن غمه لا ينفع، كما أن مجرد وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع.
قوله: (أو خيفة أن لا يؤمنوا)، إنما قدر الوجهين، لأن قوله:{أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} تعليلٌ لقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} ، وليس بفعل لفاعل الفعل المعلل، فكان من الظاهر ذكر حرف التعليل، وإنما ترك لأن في "أن" دلالةً عليه لما اطرد حذف الجار منه، أو أنه فعل له على تقدير المضاف، ومن ثم قال:"خيفة أن لا يؤمنوا".
أراد: آية ملجئة إلى الإيمان قاصرة عليه. (فَظَلَّتْ) معطوف على الجزاء الذي هو (نُنَزِّلْ)، لأنه لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحا. ونظيره:(فَأَصَّدَّقَ وأَكُن)[المنافقون: 10]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (آيةً ملجئةً إلى الإيمان)، عن بعضهم: الآية عند أهل السنة غير ملجئةٍ كما قالت المعتزلة، لقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام: 111]، والآيات من الله ليست بعلةٍ للإيمان، وإنما هي أسبابٌ توجب الاعتبار على سبيل الاختيار، وفيه بحثٌ. قال الواحدي: أعلم الله تعالى أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر على ذلك. وقال ابن جريج: ولو شاء لأراهم أمراً من أمره لا يعمل أحدٌ بعده منهم معصية الله.
وقال القاضي: "آيةً"، أي: دلالةً ملجئةً إلى الإيمان.
قوله: ({فَظَلَّتْ} معطوفٌ على الجزاء الذي هو {نُنَزِّلْ})، فالفاء إذن: للتعقيب، والأوجه أن الفاء للسببية، لأن الإنزال سببٌ للخضوع.
قوله: (لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحاً)، يعني:{فَظَلَّتْ} : معطوفٌ على المضارع الذي لو استعمل بدله الماضي لكان صحيحاً، ويمكن أن يقال: إن فائدة وضع {نُنَزِّلْ} موضع "أنزلنا" استحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الإيمان، وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب منه، وإلا لم يصح عطف الماضي على المستقبل بحرف التعقيب، أو جعل الماضي مسبباً عن المستقبل، أو يقال: الأصل "فتظل" فوضع الماضي موضعه ليؤذن بسرعة الانفعال، وأن نزول الآية لقوة سلطانه بمنزلة أن لم يتوقف حصول الخضوع عند وجوده، كفأنه قد مضى يخبر عنه، وإلى هذا المعنى ينظر قوله:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف: 160].
كأنه قيل: أصدق. وقد قرئ: (لو شئنا لأنزَلْنا)، وقرئ:(فتَظل أعناقُهم) فإن قلت: كيف صح مجيء (خَاضِعينَ) خبرا عن الأعناق؟ قلت: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "فتظل")، على فك الإدغام. قال الحريري في "درة الغواص": فك الإدغام ضعيفٌ، لأن العرب استعملت الإدغام طلباً للخفة، واستثقالاً للنطق بالحرفين المتماثلين، ورأت أن إبراز الإدغام بمنزلة اللفظ المكرر والحديث المعاد، ثم لم تفرق بين الماضي والمستقبل، وتصاريف المصادر وقد يشتمل قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] على الإدغام في الفعل الماضي والمستقبل: وهذا الحكم مطردٌ في كل ما جاء من الأفعال المضاعفة على وزن فعل وأفعل وفاعل وافتعل وتفاعل واستفعل، نحو: مد الحبل، وأمد، وماد، وامتد وتماد، واستمد، اللهم إلا أن يتصل به ضمير المرفوع أو يؤمر به جماعة التأنيث، نحو: رددت ورددنا وارددن وامددن، لسكون آخر المتماثلين. وقد جوز الإدغام والإظهار في الأمر للواحد، كقولك: رد واردد، وكذلك في قوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة: 217]، وفي قوله:{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ} [الأنفال: 13]، فأما ما عدا هذه المواطن فلا يجوز إبراز التضعيف إلا في ضرورة، قال قعنب ابن أم صاحب [في الأفعال]:
مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي
…
أني أجود لأقوام وإن ضننوا
وقد شذ قولهم: قطط شعره، ومششت الدابة، ولححت عينه، أي: التصقت، وضببت البلد: إذا كثر ضبابه. وصككت من الصكك في القوائم، كل ذلك مما لا يعتد به ولا يقاس عليه.
وترك الكلام على أصله، كقوله: ذهبت أهل اليمامة، كأنّ الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل:(خَاضِعِينَ)، كقوله:(لِي ساجِدِينَ) [وقيل أعناق الناس: رؤساؤهم ومقدّموهم، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم الرؤوس والنواصي، والصدور. قال:
في محفل من نواصي النّاس مشهود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وترك الكلام على أصله)، أي: ترك باقي الكلام على أصله، أي: لم يغير، وقيل:{خَاضِعِينَ} خاضعين، وحقه:"خاضعةً".
قوله: (كقوله: ذهبت)، أي: أنث الفعل، وأصله مذكرٌ، لأن الأصل في الاستعمال:"ذهبت اليمامة"، والأهل مقحمٌ لبيان الذاهبين، فترك ذهبت على ما كان، وفي أصل السيرافي: النحويون يجعلون: ذهبت بعض أصحابه، وشرقت صدر القناة، مما يجوز في الشعر، وأبو العباس يجيزه في الكلام، واحتج بهذا الوجه في الآية، فكأنه قال: فظلوا لها خاضعين، واعتمدت على أصحاب الأعناق، وكذلك: شرقت صدر القناة، كأنه لم يذكر الصدر، واعتمدت على ما أضيف الصدر إليه.
قال أبو البقاء: لما أضيف الأعناق إلى المذكر، وكانت متصلةً بهم في الخلقة، أجرى عليها حكمهم. وقال الكسائي:{خَاضِعِينَ} هو: حالٌ من الضمير المجرور، لا من "الأعناق"، وهذا بعيدٌ في التحقيق، لأنه حينئذٍ جارٍ على غير فاعل "ظلت"، فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل، وإنما يقال: خاضعين م، وكذا في "الكشف".
قوله: (في محفلٍ من نواصي الناس مشهود)، أوله:
وقيل: جماعات الناس. يقال: جاءنا عنق من الناس؛ لفوج منهم. وقرئ: (فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعةً).
وعن ابن عباس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومشهدٍ قد كفيت الغائبين به
أراد بالمشهد: المجلس، أي: رب مشهدٍ عظيم الشأن تكلمت فيه وخاصمت عن الغيب عنه، وكشفت الغمة، وأتيت بالحجة بقلب ثابت.
قوله: (وقيل: جماعات الناس)، الأساس: ومن المجاز: أتاني عنقٌ من الناس، للجماعة المتقدمة، وجاؤوا رسلاً رسلاً، وعنقاً عنقاً، والكلام يأخذ بعضه بأعناق بعض. قال العجاج:
حتى بدت أعناق صبح أبلجا
ويفهم من تقابل "رسلاً رسلاً"، لقوله:"عنقاً عنقاً": أن في إطلاق الأعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة، فالمعنى: فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع، متفقين عليه لا يخرج أحدٌ منهم عنه، كقولك للجماعة: هم يدٌ، وفائدة الوجه الأول، وهو إقحام العنق، تصوير حالة الخضوع إدخالاً للروعة.
والوجه الثاني من باب إجراء ما لا يعقل مجرى العقلاء مبالغةً لخضوعهم، فكأنه سرى منهم إليها.
والثالث من إطلاق الجزء على الكل، فإن المتكبر إنما يظهر تجبره في عنقه، وليه له، ولهذا سمي الملك بالصيد يقال: ملكٌ أصيد، لا يلتفت من زهوه يميناً وشمالاً.
[(وَما يَأتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَاتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)].
أي: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيرا، إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظةً وتذكيراً، إلا جددوا إعراضاً عنه وكفراً به)، فإن قلت: هب أن قولهن: {مُحْدَثٍ} يدل على التجدد، لكن قوله:{كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا} وقوله: {كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} لا يدل إلا على المضي، فمن أين قال:"إلا جددوا إعراضاً"؟ ولذلك قال الإمام: الآية من تمام قوله تعالى: {إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ} ، فنبه تعالى أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء رحيمٌ بهم، حيث يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال، ويكرره عليهم، وهم مع ذلك على جدٍّ واحدٍ في الإعراض والتكذيب والاستهزاء".
قلت: المصنف ما اعتبر التجدد والاستمرار من لفظٍ {مُحْدَثٍ} ، بل من وقوع المضارع مقابلاً للمضي، وهو:{وَمَا يَاتِيهِمْ} كما اعتبروه من وقوع المضارع في حد المضي في قولهم: لو تحسن إلى لشكرت. قال صاحب "المفتاح": قصدوا بـ "تحسن": أن إحسانه مستمر الامتناع فيما مضى وقتاً فوقتاً، وأما لفظة {مُحْدَثٍ} ، فلتوكيد معنى التجدد والاستمرار فيما يأتيهم.
وأما قضية النظم فإن هذه الآية متصلةٌ معنى بقول تعالى: {طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ، فإنه تعالى أعلم أولاً أنه أنزل هذا الكتاب الكريم في نهايةٍ من الوضوح والبيان، وأنهم ما رفعوا له رأساً، ثم نبه ثانياً على أن هذا الكتاب مع وضوح آياته إنما أنزل على سبيل التدرج، ليكون أدخل في التذكير، وأنجع في الاتعاظ به، وهم مع ذلك قابلوا كل حصةٍ منه بتكذيبٍ واستهزاء، كل ذلك تسليةً لحبيبه صلى الله عليه وسلم لئلا يذهب بنفسه حسرات، ولذلك أوقع قوله تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} الآيتين اعتراضاً، يعني: انظر إليهم وإلى ما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلوا بمثل هذا الكتاب الكريم، وبمنزله، على أنه قادرٌ على أن يقسرهم على الإيمان وهم مهانون خاضعون، فأشفق على نفسك أن تقتلها حسرةً على ما فاتك من إسلامهم.
وأنت يا أيها المتأمل في كتاب الله المجيد إذا أمعنت النظر فيما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة وجدته نازلاً تسليةً لقلب الحبيب صلوات الله وسلامه عليه من تكذيب القوم إياه، والطعن فيما أنزل إليه والاستهزاء به، ألا ترى كيف ذيل كل قصةٍ من القصص المذكورة فيها بقوله تعالى:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، وجعل كالتخلص إلى قصةٍ أخرى وكالمهتم بشأنه، فيرجع إليه إذا وجد له مجالاً، يعني: لا تتحسر على إصرارهم على الكفر، وتكذيبهم ما أنزلنا عليك، إن ربك عزيزٌ ينتقم منهم، ويرحم عليك بأن يقدر لك من يؤمن بك إن لم يؤمن هؤلاء. ومن ثم قرن معه وقدم عليه كل مرةٍ قوله تعالى:{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وإليه الإشارة بقوله:"لهو العزيز في انتقامه من الكفرة، الرحيم لمن تاب" وأحسن. يعني: لك التأسي بربك مع كبريائه وجلاله، وبالأنبياء عليهم السلام السالفة، ولذلك بدأ سبحانه وتعالى بأمر نفسه، وذكر أنه تعالى أنزل عليهم دليل السمع، فأعرضوا وكذبوا واستهزأوا، ونصب لهم الدلائل الظاهرة، وأراهم آياتٍ يفتح بها أعينهم: من إنبات كل صنفٍ بهيج، وما التفتوا ولا رفعوا له رأساً، ثم فصل ذلك بتلك الفاصلة، وقرنها بتلك القرينة، وثنى بقصة موسى عليه السلام وختمها أيضاً بتلك الفاصلة والقرينة، وثلث بقصة الخليل عليه السلام وختمها بهما، وهلم جراً إلى آخر السورة.
انظر- أيها المتأمل في كتاب الله المجيد، المستخرج للطائفة من قعر بحره، الملتقط لدرره بغوص فكره- إلى رفعة منزلة سيدنا محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه، ونباهة قدره، كأنه التنزيل بجملته نازلٌ لتسكين بادرته، وتسلي حزنه، وتثبيت خلده، ورباطة جأشه، وتهذيب أخلاقه، وإرشاد أمته، مع مراعاة ألفاظ التلويح والتعريض والرمز، كالمناغاة بين المتحابين، ولله در شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص السهر وردي قدس الله تعالى روحه حيث
فإن قلت: كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهي: الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت:
إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية، لأنّ من كان قابلا للحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة ولم يظنّ به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له. (فَسَيَاتِيهِمْ) وعيد لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: بين قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] وبين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] مناسبةٌ تشعر بقول أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما: كان خلقه القرآن، وفي رمزٌ غامضٌ وإيماءٌ خفيٌ إلى الأخلاق الربانية، وهو أنها احتشمت الحضرة الإلهية بأن تقول: بأنه صلوات الله عليه وسلامه كان متخلفاً بأخلاق الله تعالى، فعبرت بقولها:"كان خلقه القرآن"، استحياءً من سبحات الجلال، وستراً للحال بلطف المقال، وهذا من وفور علمها وكمال أدبها، لأن الله تعالى أبرز إلى الخلق أسماء منبئةً عن صفات الكمال، وما أظهرها لهم إلا ليدعوهم إليها، ولولا أنه تعالى أودع في القوى البشرية التخلق بالأخلاق ما أبرزها لهم، لكن يختص برحمته من يشاء.
قوله: (والغرض واحدٌ)، وهو دفعه والكفر به، كما قال: إعراضاً عنه وكفراً به. وتلخيص الجواب: منع ذلك، وأن المراد التدرج من غرضٍ إلى غرضٍ هو المقصود، وتصوير معنى ما صدر منهم من الاستهزاء، وأنه نتيجة التكذيب المسبب عن الإعراض، فالفاء في قوله تعالى:{فَقَدْ كَذَّبُوا} عاطفةٌ كما مر، وفي قولهم:{فَسَيَاتِيهِمْ} سببيةٌ فصيحة، لأن مدخولها وعيدٌ للمستهزئ، والوعيد مسبوقٌ بحصول الاستهزاء، ولذلك قدر:"فقد خف عندهم قدره، وصار عرضةً للاستهزاء والسخرية".
وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة (مَا) الشيء الذي كانوا يستهزءون به؛ وهو القرآن، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.
[(أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم: صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال: وجه كريم، إذا رضي في حسنه وجماله، وكتاب كريم: مرضىّ في معانيه وفوائده، وقال:
حتّي يشقّ الصّفوف من كرمه
أي: من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه، والنبات الكريم: المرضي فيما يتعلق به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حتى يشق الصفوف من كرمه)، أوله:
ولا يخيم اللقاء فارسهم
قبله:
لا يسلمون الغداة جارهم
…
حتى يزل الشراك عن قدمه
أي: إلا إذا مات صاحبه. لا يخيم: لا يجبن، وانتصاب "اللقاء" على حذف "عن" وإيصال الفعل. وقوله:"حتى يشق الصفوف من كرمه"، يريد: إلى أن يشقها كرماً منه، وأنه لا يرضى بأدنى المنزلتين في اللقاء بنفسه، بل يأتي إلى النهاية في العلو، أي: من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه. وأما قول المصنف: "والكرم صفة ٌ لك ما يرضى ويحمد في بابه"، فبيانٌ للقدر المشترك فيما يطلق عليه اسم الكرم، والقدر المشترك من الاعتبار المجازي. قال في "الأساس": ومن المجاز: كرم السحاب تكريماً: جاد بمطره، وأرضٌ مكرمةٌ للنبات، إذا جاد نباتها، ولا يكرم الحب حتى يكثر العصف.
من المنافع (إِنَّ فِي) إنبات تلك الأصناف (لَآيَةً) على أن منبتها قادر على إحياء الموتى، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم، غير مرجوّ إيمانهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه من الكفرة (الرَّحِيمُ) لمن تاب وآمن وعمل صالحا. فإن قلت: ما معنى الجمع بين "َكم" و"كُلّ"؟ ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({إِنَّ فِي} إنبات تلك الأصناف: {لَآَيَةً} على أنها منبتها قادرٌ على إحياء الموتى) إشارةٌ إلى بيان النظم، وأن الذكر المحدث المطلق في قوله تعالى:{وَمَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} مقيدٌ بقيد إثبات الحشر والنشر، وأن المقدر بعد همزة الاستفهام في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا} الاستهزاء والتكذيب، وهو المعطوف عليه، أي: أكذبوا بالبعث، ولم يروا إلى الأرض؟ وعليه قوله تعالى:{فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50].
قوله: (ما معنى الجمع بين "كم" و"كل"؟ ولو قيل: كم أنبتنا فيها من زوج كريم)، أي: لو قيل لكان كافياً، وأجاب: أن مقام بيان كمال قدرة الله تعالى يقتضي إيراد ما يستوعب الأصناف كلها مع بيان تكاثرها، ولا يحصل ذلك إلا بالجمع بين كم وكل. ونقل صاحب "الانتصاف" الجواب، ثم قال: فيكون المراد بالتكثير: الأنواع، والظاهر أن المراد به آحاد الأزواج والأنواع، فلو أسقطت "كلًا" وقلت: انظر إلى الأرض كم أنبت الله تعالى فيها من الصنف الفلاني، لكنت مكثراً آحاد ذلك الصنف، فإذا أدخلت "كل" آذنت بتكثير آحاد كل صنفٍ لا آحاد صنفٍ معين.
وقلت: هاهنا صورٌ ثلاث:
إحداها: كم أنبتنا فيها من زوج كريم، فالكثرة في آحاد صنف، لا آحاد كل صنف. وثانيتها: أنبتنا فيها كل زوج، فليس فيها إلا استيعاب الأصناف المعلومة. وثالثتها: ما عليه التلاوة، فالكل: لإحاطة جميع الأصناف، وكم: لكثرة أفراد كل صنفٍ من تلك الأصناف،
قلت: قد دلّ "كُلِّ" على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و "كَمْ" على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة، فهذا معنى الجمع بينهما، وبه نبه على كمال قدرته. فإن قلت: فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت: يحتمل معنيين، أحدهما: أن النبات على نوعين: نافع وضارّ، فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، وخلى ذكر الضارّ. والثاني: أن يعم جميع النبات نافعة وضارّه، ويصفهما جميعا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو المراد من قوله: فإذا أدخلت "كل" آذنت بتكثير آحاد كل صنف. هذا شرح كلامه، لكن هذا التركيب لا يفيد إلا ما قال المصنف كما سنقرره.
وقيل: على ما ذكره المصنف: "من": بيانٌ، والأولى أن يقال: إنها للابتداء، أو للتبعيض، أي: أنبتنا من كل صنفٍ أفراداً كثيرةً، ونباتاتٍ متعددةً، فيكون إشارةً إلى كثرة الأفراد من كل صنف، و"كل: إشارةٌ على الإحاطة بجميع الأصناف، و"كم": إشارةٌ إلى كثرة الأفراد من أي صنفٍ فرض من هذه الأصناف، ويجوز أن يكون هذا المعنى هو مراد المصنف، وظاهر كلامه يوهم خلافه.
وقلت: معنى كلام المصنف: "أن هذا المحيط متكاثرٌ": أن هذا الذي أحاط بأزواج النبات متكاثرٌ، فالمحيط: الكل، والمحاط به: الأصناف والظاهر معه، لأن مدخول "كم" قوله:{أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} ، فيلزم تكاثر هذا المجموع، فيدخل فيه آحاد كل صنف، بدليل الخطاب، لكون المقام مقام مبالغة، ولهذا تبعه الإمام، ونقل ألفاظ "الكشاف" بعينها من غير تغيير. وقال القاضي:"كلٌ": لإحاطة الأزواج، و"كم": لكثرتها، فظهر أن فائدة الجمع بين "كم" و"كل": التكميل، إذ لو اقتصر على أحدهما لم يعلم المعنى الآخر، ولهذا قال:"ونبه به على كمال قدرته".
قوله: (والثاني: أن يعم جميع النبات نافعه وضاره)، فعلى هذا: الصفة مادحهٌ، وعلى الأول: فارقةٌ.
بالكرم وينبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح ولحكمة بالغة، وإن غفل عنها الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفتها العاقلون. فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودلّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب، كيف قال:(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً)؟ وهلا قال: آيات؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر (أَنبَتْنَا)، فكأنه قال: إن في الإنبات لآية أىّ آية. وأن يراد: أن في كل واحدة من تلك الأزواج لآية. وقد سبقت لهذا الوجه نظائر.
[(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)].
سجل عليهم بالظلم بأن قدّم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون، وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد: إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين، وإن شاء عبر بقوم فرعون. وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين: من جهة ظلمهم أنفسهم بكفرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلا لغرضٍ صحيح)، وعن بعضهم: الغرض من الغرضة، وهي العقدة، كما سميت الحاجة حاجةً وهي الشوكة، والله تعالى يتعالى عن ذلك، لأنهما ما لم يقضيا تكون عقدةً في قلب الطالب والمحتاج.
قوله: وقد سبقت لهذا الوجه نظائر)، ونظيره في هذه السورة قوله تعالى:{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، أي: كل واحدٍ منا، ومنه قولهم: دخلنا على الأمير فكسانا حلةً، أي: كل واحدٍ منا.
قوله: (وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين)، يعني: إنما سموا بالظالمين وصار كاللقب لهم، لما عهد منهم ظلمهم أنفسهم ولبني إسرائيل، فجئ بقوله:{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} كشفاً لذلك المعنى، وتشديداً لذلك الاسم، كما أن الحق إنما يثبت على الغريم بتاً إذا كتب الصك وسجل عليه، وإليه الإشارة بقوله:"سجل عليهم بالظلم".
وشرارتهم، ومن جهة ظلمهم لبني إسرائيل باستعبادهم لهم. قرئ:(ألا يتقون) بكسر النون، بمعنى: ألا يتقوننى فحذفت النون لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة. فإن قلت: بم تعلق قوله: (أَلا يَتَّقُونَ)؟ قلت: هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقله خوفهم وحذرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وشرارتهم)، الأساس: طارت من النار شرارةٌ وشررة، وتقول: كان أبوك نار شرارةٍ، وأنت منها شرارةٌ.
قوله: (هو كلامٌ مستأنف)، قال أبو البقاء:{أَلَا يَتَّقُونَ} يقرأ بالياء على الاستئناف، وبالتاء على الخطاب، والتقدير: يا قوم فرعون.
قوله: (أتبعه الله عز وجل إرساله)، أي: أتبع الله تعالى بقوله: {أَلَا يَتَّقُونَ} قوله: {ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهو كلامٌ مشتملٌ على إرسال الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون المسجل بقوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} ، فقوله:"تعجيباً": مفعولٌ له لأتبعه، وذلك أنه تعالى لما قال:{ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} توطئةً، ثم بينه بقوله:{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} تسجيلاً، ويتم عليهم ذلك المعنى بقوله:{أَلَا يَتَّقُونَ} ، فهو كالتتميم للمعنى. وأما معنى التعجيب فكأنه قيل: يا موسى إما انتهى تماديهم في الظلم، وإما بلغ زمان إنذارهم وأوان تخويفهم بأيامي وعقابي فيتقون، ما أعجب حالهم في الظلم!
قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال في الغيبة: ائت قوم فرعون قائلاً قولي لهم: ألا يتقون، كقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، أي: فقل
من أيام الله. ويحتمل أن يكون "لا يَتَّقُونَ" حالا من الضمير في (الظَّالِمِينَ)، أي: يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. وأمّا من قرأ:(ألا تتقون) على الخطاب؛ فعلى طريقة الالتفات إليهم، وجبههم، وضرب وجوههم بالإنكار، والغضب عليهم، كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحرّ مزاجه وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنف به، ويقول له: ألا تتق الله، ألم تستح من الناس. فإن قلت: فما فائدة هذا الالتفات، والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غيب لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين، تدبرا لها واعتبارا بموردها. وفي (أَلا يَتَّقُونَ) بالياء وكسر النون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لهم قولي: إني قريبٌ، أو مبلغاً قولي، وكذا في قراءة كسر النون، وفي الخطاب قائلاً لهم: ألا تتقون، وفي الأوجه: ألا تتقون: منصوب المحل على أنه مفعولٌ، لأنه مقولٌ.
قوله: (من أيام الله)، أيام الله تعالى: وقائعه ممن مضى من الأمم، كقولهم: أيام العرب لوقائعهم، واليوم يعبر به عن الشدة.
قوله: (وجبههم)، الأساس: جبهته: ضربت جبهته، ومن المجاز: جبهته: لقيته بما يكره، ولقيت منه جبهةً، أي: مذلةً وأذى، وأنشد بعضهم:
حييت عنها أيها الوجه
…
ولغيرك الشحناء والجبه
قوله: (أخصائه)، قيل: هو جمع "خصيص"، أي المخصوص.
قوله: (وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيبٍ للمؤمنين)، الأول من عبارة النص، والثاني من إشارته.
وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله:(أَلَّا يَسْجُدُوا)[النمل: 25].
[(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ)].
و(يَضِيقُ) و (يَنطَلِقُ) بالرفع لأنهما معطوفان على خبر "إنّ"، وبالنصب لعطفهما على صلة (أن).
والفرق بينهما في المعنى: أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألا يا ناس اتقون)، هذا من باب حذف المنادى، وحق الكناية هكذا: ألا يا اتقون، وألا يا اسجدوا، ولكن في الإمام كتبا متصلين، ونحوه قول الشاعر:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى
…
ولا زال منهلاً بجر عائك القطر
أي: ألا يا دار، فحذف المنادى.
قوله: (وبالنصب)، قال القاضي: قرأ يعقوب: "يضيق"، "ولا ينطلق"، بالنصب.
قوله: (أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل)، قال القاضي: رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر في الأمر على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالاً عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنها إذا اجتمعت مست الحاجة إلى معين يقوي قلبه، وينوب منابه، حتى لا تختل دعوته ولا تنبتر حجته.
خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفي انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل: بقيت منها بقية يسيرة. فإن قلت: اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إنى خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان. قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على أن تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوتة)، يعني بقوله عليه السلام:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]، والحاصل أن المتوقع زيادة الحبسة على تقدير بقائها، أو معاودتها على تقدير زوالها إن زالت بالكلية ولو بقيت منها بقيةٌ.
قوله: (اعتذارك هذا يرده الرفع)، يعني: قد أجبت أنا ما يخاف عليه يجب أن يكون متوقعاً، لا واقعاً، وأن المراد بالحبسة: الزائدة الطارئة، أو معاودة الزائل، هذا على تقدير النصب صحيحٌ، لأن "يضيق"، "ولا ينطلق": معطوفان على {يُكَذِّبُونِ} ، وأما على قراءة الرفع فلا، لأنهما معطوفان على "أخاف"، فلم يكونا متوقعين، لأن الخوف غير مسلطٍ عليهما، فيلزم الوقوع كالخوف، وأن المعنى: إني خائفٌ ضيق الصدر، وإني غير منطلق اللسان، والواجب اتفاق القراءتين في أصل المعنى. وأجاب بما يجمع القراءتين في المعنى، وذلك أن قراءة الرفع مبنيةٌ على أن هذه القول كائنٌ قبل أن يقول:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] وقراءة النصب على أنه بعده، فاختلاف الزمانين دافعٌ للتناقض الواقع بين القراءتين، وفيه بحثٌ، فالمختار هي القراءة بالرفع التي عليها الجمهور.
قوله: (المصاقع)، الأساس: صقع الديك، وخطيبٌ مصقع، مجهرٌ في خطبته، وقيل: المصقع: الخطيب البليغ، كأنه يقصد كل صقع من الكلام، أي: كل ناحية.
أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهارون كان بتلك الصفة، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله عز وجل:(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)[القصص: 34]. ومعنى: (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ): أرسل إليه جبرائيل، واجعله نبيا، وآزرنى به، واشدد به عضدي، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع، وقد أحسن في الاختصار حيث قال:(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ)، فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى:(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)[الفرقان: 36]؛ حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أوّلها وآخرها، وهما الإنذار والتدمير، ودلّ بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله، فأراد إلزام الحجة عليهم، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما، فأهلكهم. فإن قلت: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله من ورائه؟ قلت: قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه أن بعضده بأخيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سلاطة الألسنة)، الأساس: امرأةٌ سليطةٌ: طويلة اللسان صخابةٌ، ورجلٌ سليطٌ، وقد سلط سلاطةً، وقيل: رجلٌ سليطٌ، أي: فصيحٌ حديد اللسان.
قوله: (وقد بسطه في غير هذا الموضع) منه: في طه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 - 32].
قوله: (بما يتضمن)، وهو الإرسال، لأن ما تثبت به النبوة هنا إرسال الملك.
قوله: (وقد علم أن الله تعالى من ورائه)، قال في قوله تعالى:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]: "هذا مثلٌ، لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت فائتٌ الشيء المحيط به"، والمعنى: كيف ساغ له التوقر والتعلل، وقد علم أن سلطان الله وقهره مانعٌ لذلك، وأنه تحت قهره لا يفوته أحدٌ؟ وقوله:"وقد علم أن الله تعالى": حالٌ مقررةٌ لجهة الإشكال.
قوله: (قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه عز وجل أن يعضده بأخيه)، قال الإمام:
حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته. فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه، ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر، ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل.
[(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)].
أراد بالذنب: قتله القبطي. وقيل: كان خباز فرعون واسمه فاتون. يعني: ولهم علي تبعة ذنب، وهي قود ذلك القتل، فأخاف أن يقتلوني به، فحذف المضاف. أو سمى تبعة الذنب ذنبا، كما سمي جزاء السيئة سيئة. فإن قلت: قد أبيت أن تكون تلك الثلاث عللا، وجعلتها تمهيدا للعذر فيما التمسه، فما قولك في هذه الرابعة؟ قلت: هذه استدفاع للبلية المتوقعة. وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة، فكيف يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس في التماس موسى عليه السلام ما يدل على أنه استعفى من الذهاب، بل مقصود فيه أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد، واختلفوا فقال بعضهم: إنه وإن كان نبياً فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة، وأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين، والأقرب أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون إذا حملهم الله تعالى على أداء الرسالة أنه يمكنهم منه، وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت.
قوله: (حتى يتعاونا في تنفيذ أمره)، وأنشد في معناه:
فقلت ادعي وأدع فإن أندى
…
لصوتٍ أن ينادي داعياني
قوله: (تبعه ذنب)، التبعة والتباعة: حقٌ يجب للمظلوم قبل الظالم، يقال: لي قبل فلانٍ تبعةٌ وتباعةٌ، أي: ظلامةٌ.
النهاية: التبعة، ما يتبع المال من نوائب الحقوق، وهو من تبعت الرجل بحقي.
تعللا. والدليل عليه ما جاء بعده من كلمة الردع، والموعد بالكلاءة والدفع.
[(قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ* فَاتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ* قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ* فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ*وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ)].
جمع الله له الاستجابتين معا في قوله: (كَلَّا فَاذْهَبا)؛ لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقوله فَاذْهَبا، أي: اذهب أنت والذي طلبته وهو هارون. فإن قلت: علام عطف قوله: (فَاذْهَبا)؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه (كَلَّا)، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظنّ، فاذهب أنت وهارون. وقوله:(مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجرى بينكما وبينه. فأظهركما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ، أو يكون (مُسْتَمِعُونَ) مستقرا، و (مَعَكُمْ) لغوا. فإن قلت: لم جعلت (مُسْتَمِعُونَ) قرينة (مَعَكُمْ) في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من مجاز الكلام)، أي: الاستعارة، بدليل قوله: كالناصر الظهير، حيث صرح بأداة التشبيه، وقد عرفت أن الاستعارة مجازٌ والعلاقة فيها: التشبيه.
قوله: (ويجوز أن يكونا خبرين)، إلى آخره، وعلى الأول: كان {مَعَكُمْ} حالاً من ضمير {مُسْتَمِعُونَ} ، أي: مستمعون مشبهين بالناصر والظهير، والمراد بقوله:"مستقراً" أنه خبر "إن"، و {مَعَكُمْ} متعلقٌ به قدم عليه.
قوله: (لم جعلت {مُسْتَمِعُونَ} قرينة {مَعَكُمْ}؟ )، أي: مقارناً له في جعله مجازاً، أي: استعارة تمثيلية.
كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى:(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)[الجن: 1]، ويقال: استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن الاستماع جارٍ مجرى الإصغاء)، فيه نظرٌ، لأن السمع في الحقيقة: إدراكٌ بحاسة السمع، وهو أيضاً مما لا يجوز على الله تعالى حقيقةً. ولما استعمل هذا في مطلق الإدراك كذلك ذلك، وعليه كلام القاضي: الاستماع: الذي بمعنى الإصغاء عبارةٌ عن السمع الذي هو لمطلق إدراك الحروف والأصوات. نعم، لو لم يأت بالتعليل كان يحتمل كلامه أولاً أن السامع والسميع مما أذن فيهما الإطلاق على الله تعالى، وورد في أسمائه الحسنى فجريا لذلك مجرى الحقيقة في مطلق الإدراك، بخلاف المستمع الذي يعطيه معنى {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}. قال الإمام في "لوامع البينات": لفظ السامع والسميع موضوعٌ في اللغة لهذا الانكشاف والتجلي، فلما وردا في حق الله تعالى اعتقدنا بثبوت جنس هذا الانكشاف، لا نوعٍ منه، لأن الانكشافات الحاصلة لله تعالى بالنسبة إلى انكشافات العبيد كنسبة ذاته المقدسةً إلى ذواتهم، ولما كان لا مشاركة بين الذاتين إلا في الاسم، فكذا القول في الانكشافين. والعمدة أن الحاصل عند عقول الخلق من معاني صفات الله تعالى خيالاتٌ ضعيفةٌ، ورسومٌ خفيةٌ، جلت صفاته عن مشابهة صفات المحدثات، وتقدست صمديته عن مناسبة الممكنات.
قوله: (والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية)، يعني: كما أن النظر تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، كذلك الاستماع: استعمال حاسة السمع نحو المسموع التماساً لسماعه، كالإصغاء، والله أعلم.
أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» . فإن قلت: هلا ثني الرسول كما ثني في قوله: (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ)[طه: 47]؟ قلت: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه - إذا وصف به - بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو: صوم، وزور. قال:
ألكنى إليها وخير الرّسو
…
ل أعلمهم بنواحي الخبر
فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
…
بسر ولا أرسلتهم برسول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (البرم)، ذكر صاحب "النهاية" الحديث، ثم قال: البرم: هو الكحل المذاب.
قوله: (وزور)، النهاية: الزور: الزائر، والأصل مصدرٌ وضع موضع الاسم، كصوم ونومٍ بمعنى صائم ونائم، وقد يكون الزور جمع زائرٍ كراكبٍ وركب. وفي نسخةٍ بدل "البرم": الآنك. وفسر بالبرم والمتبرم، ويروى الحديث بالثلاث، وهذه الصيغة صيغة الجمع كالأبحر، وصيغة الفرد شاذٌ فيه كالأسد والسرب، عجمة الآنك.
قوله: (ألكني) البيت، ألكني: أرسلني، والألوك: الرسالة، وقيل: تحمل رسالتي إليه وقيل: اجعلني رسولاً، والرسول فيه بمعنى الرسل لإضافة خبرٍ إليهم، ولقوله: أعلمهم.
قوله: (لقد كذب الواشون) البيت، قبله لكثير:
ويجوز أن يوحد، لأنّ حكمهما لتساندهما واتفاقهما على شريعة واحدة، واتحادهما لذلك وللإخوة كان حكما واحدا، فكأنهما رسول واحد. أو أريد أنّ كل واحد منا (أَنْ أَرْسِلْ) بمعنى: أي أرسل، لتضمن الرسول معنى الإرسال. وتقول: أرسلت إليك أن افعل كذا، لما في الإرسال من معنى القول، كما في المناداة والكتابة ونحو ذلك. ومعنى هذا الإرسال: التخلية والإطلاق كقولك: أرسل البازي، يريد: خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حلفت برب الراقصات إلى منى
…
خلال الملا يمددن كل جديل
بعده:
فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي
…
بنصح أتى الواشون أم بحبول
الحبول: جمع حبل. الأساس: ومن المجاز: رقص البعير رقصاً ورقصاناً: خب، وأرقصوا في سيرهم وترقصوا: ارتفعوا وانخفضوا، خلال الملا: وسط الناس، والجديل: الحبل المفتول والزمام المجدول. "ما" في قوله: "ما فهمت": نافيةٌ، يقال: ما فهمت بكلمة، أي: ما تكلمت.
في الاستشهاد بقوله: " ولا أرسلتهم برسول" نظرٌ، لأنه يحتمل أن يكون بمعنى المرسل.
قوله: (ويروى: أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما)، إلى قوله:"فعرف موسى عليه السلام فقال له: {أَلَمْ نُرَبِّكَ}: "بيانٌ لوجه اتصال قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} بقوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، ولما يحتاج إليه من المقدرات ليتصل صدر هذه الآية بعجز تلك. والعجب أن قول المؤلف:"فأديا إليه الرسالة" بعد قوله: "فقال: ائذن له" من هذا الباب، لكون التقدير: فذهب البواب إليهما فأذن لهما بالدخول، فدخلا. لكن في كلام المصنف فاءً فصيحةً.
ائذن له لعلنا نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له:(أَلَمْ نُرَبِّكَ)؟ حذف: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، لأنه معلوم لا يشتبه. وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل. الوليد: الصبي لقرب عهده من الولادة. وفي رواية عن أبي عمرو: (من عمرك)، بسكون الميم. (سِنِينَ) قيل: مكث عندهم ثلاثين سنة. وقيل: وكز القبطي وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وفرّ منهم على أثرها، والله أعلم بصحيح ذلك.
وعن الشعبي: (فِعْلَتَك) بالكسر، وهي قتلة القبطي، لأنه قتله بالوكزة؛ وهو ضرب من القتل. وأما الفعلة، فلأنها كانت وكزة واحدة. عدّد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه، وعظم ذلك وفظعه بقوله:(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) يجوز أن يكون حالا، أي: قتلته وأنت لذاك من الكافرين بنعمتي. أو: وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة. وقد افترى عليه أو جهل أمره، لأنه كان يعايشهم بالتقية، فإنّ الله عز وعلا عاصم من يريد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعظم ذلك وفظعه بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} ، الانتصاف: وجه تفظيعه أنه أتى به مجملاً إيذاناً بأنه لفظاعته لا ينطق به، كقوله تعالى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16].
قوله: (وقد افترى عليه أو جهل أمره)، يتعلق بقوله:"أو أنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة"، أي: قال: فرعون ذلك القول، وقد افترى، المعنى: كنت مثلهم حينئذٍ، وفي دينهم، وداخلاً في زمرتهم، كأنه قال: وكنت منا، ومن ديننا.
وقوله: "فإن الله عاصم"، تعليلٌ لنسبة اللعين إلى الافتراء وتجهيله.
قوله: (بالتقية)، النهاية: التقية والتقاة بمعنى، وهو أن يتقي الرجل الناس، ويرى الصلح والاتفاق، والباطن بخلاف ذلك، وعليه قوله تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، أي: يوافقهم ظاهراً، ويخالفهم
أن يستنبئه من كل كبيرة ومن بعض الصغائر، فما بال الكفر. ويجوز أن يكون قوله:(وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) حكما عليه بأنه من الكافرين بالنعم، ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعا منه. أو بأنه من الكافرين بفرعون وإلهيته. أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونهم، يشهد لذلك قوله تعالى:(وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)[الأعراف: 127]، وقرئ:(وإلهتَك)، فأجابه موسى صلوات الله عليه بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو (مِنَ الضَّالِّينَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باطناً، ومنه قولهم: كن وسطاً وامش جانباً.
قوله: (ومن بعض الصغائر)، وهو ما ينفر، كالكذب والتطفيف، وفيه خلافٌ سيجيء في النمل إن شاء الله تعالى.
قوله: (ويجوز أن يكون قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} حكماً عليه بأنه من الكافرين بالنعم)، فعلى هذا:{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} اعتراضٌ أو تذييلٌ، يدل عليه قوله:"ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعاً منه"، كما سبق في قوله تعالى:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51]، وقوله:"أو بأنه من الكافرين" أيضاً على الاعتراض، فالكافرون في الآية يجوز أن يفسر بالكفران الذي هو في إزاء النعمة والمقابل للشكر، وأن يفسر بالذي هو مقابلٌ للإيمان، والحاصل أن قوله:{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} إما: حالٌ، أو: تذييلٌ، والكفر على الوجهين ففيه الأوجه المذكورة في الكتاب".
قوله: (فقد كانت لهم آلهةٌ يعبدونهم)، متفرعٌ على معنى الكفر بهذا التأويل، أي: يجوز استعمال لفظ الكفر من كل من تدين بدينٍ، ويعبد معبوداً، سواءٌ كان حقاً أو باطلاً فيمن يخالف نحلته، أي: أنت من الكافرين بمعبودنا، قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256].
أي: الجاهلين. وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (من الجاهلين) مفسرة. والمعنى: من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه. كما قال يوسف لإخوته: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)[يوسف: 89]؛ أو المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. أو الذاهبين عن الصواب. أو الناسين، من قوله:(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)[البقرة: 282]. وكذب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، وبرّأ ساحته، بأن وضع (الضَّالِّينَ) موضع (الْكَافِرِينَ)؛ ربئاً بمحل من رشح للنبوّة عن تلك الصفة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية، فأبطله من أصله واستأصله من سنخه، وأبى أن تسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل؛ لأنّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو الذاهبين عن الصواب)، عطفٌ على قوله:"أي: الجاهلين".
قوله: (أو الناسين، من قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، يعني: جاء الضلال بمعنى النسيان كما في هذه الآية، لأن التذكير لا يكون إلا بعد النسيان لا الضلال الحقيقي.
قوله: (ربئاً بمحل من رشح للنبوة)، ربأت بنفسي عن عمل كذا، وإني لأربأ بك عن هذا الأمر، أي: أرفعك عنه ولا أرضاه لك، ومن المجاز: هو مرشحٌ للخلافة، وأصله ترشيح الظبية ولدها لتعوده المشي فترشح، وقد رشح: إذا مشى، وأمه مرشحٌ، وأرشحت، كما يقال: مشدن وأشدنت، ورشح فلانٌ لأمر كذا وترشح له: كل ذلك في "الأساس". وعن بعضهم: يقال: فلانٌ يرشح للوز ارة: أي يربى ويؤهل لها، من ترشيح الأم ولدها: تقليل اللبن، وهو أن تجعله في فيه إلى أن يقوى على المص.
قوله: (من سنخه)، أي: من أصله. الجوهري: وأسناخ الأسنان: أصولها، صح "سنخٌ" بكسر السين عن تصحيح الصغاني، بكسر السين عن تصحيح الصغاني، وإنما قال:"سنخه"، لأن قوله:{فَعَلْتُهَا إِذًا} متضمنٌ لإبطال امتنانه، كما سنقرره إن شاء الله تعالى.
إذا حققت، وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا. يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا. قال:
علا م يعبدني قومي وقد كثرت
…
فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان
فإن قلت: "إذن" جواب وجزاء معا، والكلام وقع جوابا لفرعون، فكيف وقع جزاء قلت:
قول فرعون: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) فيه معنى: إنك جازيت نعمتي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إذا حققت)، أي: إذا حققت التربية والمنة التي امتن بها فرعون على موسى عليه السلام، كانت تعبيد بني إسرائيل نقمةً لا نعمةً، فهو من تعكيس الكلام، ويروى:"حققت" بفتح التاء، أي: إذا حققت النظر أيها المخاطب.
قوله: (قول فرعون: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ}) إلى آخره، قيل: هذا الجواب لا يلائم قوله: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، لأنه يدل على أنه اعترف أنه فعل ذلك جاهلاً أو ناسياً، لكن المعنى: لما قال: جازيت نعمتي بما فعلت، أجا به بأن تلك صادرةٌ من الجهل والنسيان لا من العلم والقصد، وكنت إذ ذاك جاهلاً، فخفت ففررت، فوهب الله تعالى النبوة، والآن أنا نبيٌ بخلاف ما كنت. وقلت: فإذن {إِذاً} جوابٌ وعذرٌ فأين الجزاء؟ وجواب المصنف موقوفٌ على معرفة أصولٍ خمسة: النحو، والمعاني، والبيان، والبديع، والأصول. أما النحو فإن "إذن" موضوعٌ على أن يكون جواباً وجزاءً معاً، فيجب أن يكون مدخوله مما يصح أن يكون مسبباً عن معنى القول السابق، نحو قولك: إذن أكرمك لمن قال: أنا آتيك، فإن إكرامك مسببٌ عن إتيانه. فهاهنا الجواب ظاهرٌ، لكن الجزاء على أن يكون هذا الكلام مسبباً عن كلام فرعون خفيٌ، فلابد من بيانه. فالتقدير: إن كان الأمر كما زعمت أنك أنعمت علي، ولم تكن تلك النعمة إلا تعبيدك بني إسرائيل، فأنا جازيتك أيضاً بتلك المجازاة، وهي قتل القبطي، وإليه أشار بقوله: "لأن نعمته كانت عنده جديرةً بأن تجازى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنحو ذلك الجزاء". ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} [المائدة: 106]، قال بعضهم: تقديره: إن كان الأمر على ما تصفون بأنا خنا، إنا إذن لمن الآثمين.
وأما المعاني، فإن عطف قوله:{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} على الكلام السابق من باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] على رأي صاحب "المفتاح": كان اللعين أخبر عن حصول تربيته له عليه السلام، وعن حصول جزائه عليه السلام عن تلك التربية.
وأما البيان فإن هذا الترتيب على أسلوب قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، يعني: وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر، وإليه الإشارة بقوله:"إنك جازيت نعمتي بما فعلت".
وأما الأصول فإن الجواب مبني على قاعدة القول بالموجب، وهو تسليم مقتضى قول المستدل مع بقاء الخلاف، فإن الكليم عليه السلام قرر ما جعله اللعين جزاءً لفعله، حيث قال:{فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، فلما قرر ما جعله اللعين جزاءً لفعله أتى بقوله:{إِذًا} ، هذا معنى جواب المصنف عن السؤال. ثم علق بالجواب ما قلعه من سنخه بقوله:{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، وإليه الإشارة بقوله:"ثم كر على امتنانه عليه بالتربية فأبطله".
وأما البديع فإن وضع قوله: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} موضع الكافرين كالتتميم صوناً عن إبهام تصور ما ينافي النبوة من الكفر، وإليه الإشارة بقوله:"ودفع الوصف بالكفر عن نفسه بأن وضع الضالين موضع الكافرين، ربئاً بمحل من رشح للنبوة"، وهذا لما شارك التتميم
بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأنّ نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. فإن قلت: لم جمع الضمير في (مِنكُمْ) و (خِفْتُكُمْ) مع إفراده في (تَمُنُّهَا) و (عَبَّدتَّ)؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله:(إِنَّ الْمَلَأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ)[القصص: 20] وأما الامتنان فمنه وحده، وكذلك التعبيد.
فإن قلت: "تِلْكَ" إشارة إلى ماذا، و (أَنْ عَبَّدْتَ) ما محلها من الإعراب؟ قلت:(تِلْكَ) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في إرادة الصيانة قلنا: هو كالتتميم، لأن التتميم هو: تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغةً، أو صيانةً عن احتمال المكروه. قال أبو الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجربٍ
…
يرى كل ما فيها- وحاشاك- فانيا
وتحريره: أنه لما قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} وأتى بهمزة التقرير على سبيل التوبيخ، ورتب عليه قوله:{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} كما قررناه، أي: إني ربيتك، وأحسنت إليك لتفعل ما تقر به عيني، وتشكر إحساني إليك، لما تقرر في النفوس أن شكر المنعم واجب، فعكست القضية وقابلتها بالكفران؟ أجاب عليه السلام بقوله:{فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، يعني: سلمت أن شكر المنعم واجبٌ، وأني عكست المجازاة، لكن أين النعمة؟ فإن تلك التربية التي مننت بها علي كانت مسببةً عن تعبيد قومي، فهي جديرةٌ بأن تجازى بتلك المجازاة، وإليه الإشارة بقوله:"نعم، فعلتها مجازياً لك، تسليماً لقوله: لأن نعمته عنده كانت جديرةً بأن تجازى بذلك الجزاء"، والله تعالى أعلم.
قوله: ({تِلْكَ} إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاء مبهمة)، يعني: تصور نبي الله عليه السلام قوله: {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أنها نقمةٌ، فتكون خصلةً شنعاء، فأشار إليها، وجعلها مبتدأ، وأخبر عنها، ثم بين عنها كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون هذا إشارةً إلى غير الأخ.
ومحل (أَنْ عَبَّدْتَ) الرفع؛ عطف بيان لـ (تِلْكَ)، ونظيره قوله تعالى:(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ)[الحجر: 66]. والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي! وقال الزجاج: ويجوز أن يكون (أَنْ) في موضع نصب، المعنى: إنما صارت نعمة علىّ لأن عبدت بني إسرائيل، أي: لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم.
[(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)].
لما قال له بوّابه: إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله: (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومحل {أَنْ عَبَّدْتَ} الرفع، عطف بيانٍ لـ {تِلْكَ})، فالتقدير: تعبيدك بني إسرائيل نعمةٌ تمنها علي، يعني: تمن علي بتربيتك إياي، وفي الحقيقة تعبيد بني إسرائيل أدى إلى تربيتي، وكان امتنانك علي بقولك:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} امتناناً علي بتعبيد بني إسرائيل، فأطلق السبب، وأريد المسبب إيجازاً، وإليه الإشارة بقوله:"لأن تعبيدهم، وقصدهم بذبح أبنائهم، هو السبب في حصوله عنده". قال محيي السنة: الكلام متضمن للإنكار، أي: كيف تمن علي بالتربية وقد عبدت قومي؟ ومن أهين قومه ذل، فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إلي.
قوله: (ويجوز أن يكون {أَنْ} في موضع نصب)، فالمشار إليه حينئذٍ معنى قوله تعالى:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} ، والإخبار على ظاهره، وإليه الإشارة بقوله:"لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي".
قوله: (لما قال له بوابه: إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين، قال له عند ذلك: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ )، قلت: هذا نظمٌ مختلٌ لسبق المقاولة بينهم، كما أشار إليه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فأديا الرسالة، فعرف موسى عليه السلام، فقالا له ذلك"، أي: إنا رسول رب العالمين، فأرسل معنا بني إسرائيل.
وقال الإمام: لم يقل لموسى عليه السلام: وما رب العالمين؟ إلا وقد دعاه إلى طاعة رب العالمين، يبين ذلك ما تقدم من قوله تعالى:{فَاتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تم كلامه. والنظم يساعد عليه، لأنه تعالى لما أمرهما بقوله:{فَاتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} لابد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين، وعند ذلك أنكر اللعين ذلك الكلام مفصلاً، رد أولاً صدر الكلام، وكونهما رسولين بقوله:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} إلى آخره. وثانيا بقوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، ولذلك جيء بالواو العاطفة، وكرر {قَالَ} للطول، فكأنه قال: أأنت الرسول؟ وما رب العالمين؟ وتقرير الأول: ألم نعرفك؟ أما كنت عندنا رضيعاً صغيراً ونحن ربيناك سنين كالأولاد، وعرفناك أيضاً كافر النعمة، حيث جازيت تلك النعمة بقتل بعض خدمنا، فمن أين أنت والرسالة؟ فأنكر نبوته بتحقير شأنه وكفرانه النعمة، فإنه من رذائل الأخلاق، وأدمج فيه معنى الامتنان، وأجابه به موسى عليه السلام بقوله:{فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} الآية، مسلماً مقتضاه، ومثبتاً رسالته، ومبطلاً إنعامه، يعني: هب أني كنت كما تقول: صبياً رضيعاً عندكم، قاتلاً للنفس، وذلك كيف يقدح في دعوى رسالتي، لأن الله تعالى فاعلٌ مختارٌ يختص برسالته من يشاء من غير استحقاقٍ منه، فاختارني للرسالة، ووهب لي حكماً.
فوزان هذه الآية وزان قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، يعني: إني كنت غير عالم بالشرائع، وطريقة السمع، فوهب لي معرفة الأحكام، وجعلني مرسلاً، ثم كر إلى جواب ما أدمج اللعين في الاعتراض من الامتنان قائلاً:{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، فأبلطه من أصلها تبرياً من تلك الرذيلة التي نسبها إليه من كفران النعم،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه أن كفران نعمة الكافر قبيحٌ، فكيف بنعمة المسلم، فضلاً عن نعم الله تعالى السابغة ظاهراً وباطناً؟ ثم كر اللعين إلى قول موسى عليه السلام:{رَبَّ الْعَالَمِينَ} بعد ما ألقمه نبي الله الحجر في إنكار الرسالة مستفهماً {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ يعني: هب أنك رسول رب العالمين، وأن لك رباً وهب لك حكماً، وجعلك من المرسلين، فما تعني بقولك: رب العالمين، وما قصدك فيه وفيه تخصيصه؟ أتعني به التعريض بإنكار إلهيتي أم غير ذلك؟ يدل عليه قوله تعالى بعد هذا: لا {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} .
وقول المؤلف: "والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام: أن يكون سؤاله هذا إنكاراً لأن يكون للعالمين ربٌ سواه"، فأجابه عليه السلام بما فيه إنكار إلهيته، وأن يكون رباً للعالمين تعريضاً من قوله:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، أي: أنت أحقر من ذلك وأذل، فإن رب العالمين رب السموات والأرض وما بينهما إن كنت أنت وهؤلاء البهائم الذين اتخذوك إلهاً وسموك برب العالمين من الذين يحققون الأشياء بالنظر الصحيح الذين يؤديهم إلى الإيقان، هل تدرون ما معنى العالم، فإن العالم الذي تدعون أنه ربه عبارةٌ عن: كل ما علم به الخلائق من السموات والأرض وما بينهما، فهل تيقنتم أنه خالقها، ورازق من فيها، ومدبر أمورها، أم تفوهون بذلك جزافاً رمياً على العمياء؟ وتكرير لفظ الرب وإعادته في كل مرةٍ لتعظيم ما نسبوا إليه، فعند ذلك احتد اللعين وقال لمن حوله: ألا ترون هذه الجرأة وتسمعون هذه العظيمة، وهي نسبة الجهل إلينا عاجزاً؟ فثنى نبي الله التقريع بقوله:{رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} مفصلاً لذلك المجمل، فإن الآيات المشاهدة تنقسم إلى دليلي الآفاق والأنفس، نبه به على غباوتهم، وأن الرب ينبغي أن يكون متقدماً على المربوب ومتأخراً عنه، فكيف تتخذونه رباً لكم؟ وآباؤكم الأولون قد تقدموا عليه، وأنه سيموت قبلكم أو قبل أبنائكم، فحينئذٍ زاد في تفر عنه، وشدة شكيمته، ونسبته إلى الجنون استكباراً وعناداً، وتهكم به بقوله:{رَسُولَكُمْ} ، وتوكيده بوصفٍ يدل على مزيد تقرير التهكم برسالته سفاهةً.
فعاد نبي الله عليه السلام إلى تقريع ثالثٍ بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، عرض به أن الرب ينبغي أن يكون قادراً على ما في يده وتحت تصرفه، وأنتم تعلمون أن مشارق
يريد: أي شيء رب العالمين؟ وهذا السؤال لا يخلو: إما أن يريد به: أى شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها؟ فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأرض ومغاربها ليست في تصرفه، ولا يملك منها على شيءٍ ولا أحاط منها علماً بشيء، وذيله بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} رداً لنسبته الجنون إليه على طريق المشاكلة المعنوية، أي: كيف تنسبون إلى الجنون وأنتم مسلوبو العقول فاقدون اللب، حيث لا تميزون بين هذه الشواهد، ولا تنظرون إلى هذه الآيات البينات. ولما عجز اللعين عن الحجاج عدل إلى التخويف بالسجن دأب المفحم المبهوت.
ولما قهره نبي الله صلى الله عليه وسلم في الاحتجاج انتقل إلى نوع آخر من الدليل، وهو إظهار المعجزة قائلاً:{أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} ، فعلى هذا هو متعلقٌ بأول المحاجة من لدن وقعت المكالمة مع اللعين، يعني: أو تقر بتوحيد الله تعالى وبرسالتي لو جئتك بما يدل على ذلك دلالةً ظاهرةً مكشوفةً عياناً من انقلاب العصا حيةً، ونزع اليد من الجيب مشرقةً؟
هذا أوضح من تقرير المصنف، وأوفق لتأليف النظم.
ولعله يقرب من هذا المعنى قول صاحب "المفتاح": ويحتمل أن يكون فرعون قد سأل بـ "ما" عن الوصف، لكون رب العالمين عنده مشتركاً بين نفسه وبين من دعا إليه موسى عليه السلام، لجهله، وفرط عتوه، وتسويل نفسه الشيطانية له بتسليم أولئك البهائم له إياها، وادعائهم له بذلك، وتلقيبهم إياه برب العالمين، وشهرته فيما بينهم بذلك إلى درجة دعت السحر إذ عرفوا الحق، وقالوا: آمنا برب العالمين، إلى أن يعقبوه بقولهم:{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [نفياً] لاتهامهم أن يعنوا فرعون، وكذا فسر المصنف هذه الآية.
قوله: (أي شيءٍ هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها؟ ) قال صاحب "المفتاح": ولكون "ما" للسؤال عن الجنس، وللسؤال عن الوصف وقع بين فرعون وبين موسى عليه السلام ما وقع، لأن فرعون كان جاهلاً بالله تعالى معتقداً أن لا موجود مستقلاً
الخاصة، ليعرّفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]؛ وإما أن يريد به: أى شيء هو على الإطلاق، تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي، فأجابه بأنّ الذي إليه سبيل وهو الكافي في معرفته معرفة ثباته بصفاته، استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك. وأمّا التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام: أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه؛ لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه؛ حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وطنز به، حيث سماه رسولهم. فلما ثلث بتقرير آخر: احتدّ واحتدم وقال: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي)[الشعراء: 29]، وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنفسه سوى أجناس الأجسام، كأنه قال: أي أجناس الأجسام هو؟ وحين كان موسى عليه السلام عالماً بالله عز وجل، أجاب عن الوصف تنبيهاً على النظر المؤدي إلى العلم، وهو المراد من قول المصنف:"فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس بشيءٍ مما شوهد وعرف من الأجرام"، أراد أن الجواب من الأسلوب الحكيم، أرشده بقوله:{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} إلى طريق المعرفة وتحصيل الإيقان، يعني: من تكون هذه الأجرام العظام مربوبة ومخلوقة، وهو مالكها ومدبر أمرها، لا يكون هو من جنسها.
قوله: (وهو الكافي في معرفته)، أي: هذا القدر من المعرفة كافٍ للمسترشد دون المعاند المتعنت، كما قال تعالى:{وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
قوله: (واحتدم)، الجوهري: احتدمت النار: التهبت، واحتدم صدر فلانٍ غيظاً، وقيل: يومٌ محتدمٌ: شديد الحر، واحتدم الدم: اشتدت حمرته حتى يسود.
[(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)].
قلت: كيف قيل: (وَمَا بَيْنَهُمَا) على التثنية، والمرجوع إليه مجموع؟ قلت: أريد وما بين الجنسين، فعل بالمضمر ما فعل بالظاهر من قال:
في الهيجا جمالين
فإن قلت: ما معنى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)؟ وأين عن فرعون وملئه الإيقان؟ قلت: معناه إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع. أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به، لظهوره وإنارة دليله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والمرجوع إليه مجموع)، المراد به:{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وفي عكسه قوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات: 9]، حيث جمع بعد التثنية، لأنها في معنى الجمع والناس.
قوله: (في الهيجا جمالين)، قبله:
سعى عقالاً يترك لنا سبداً
…
فكيف لو قد سعى عمروٌ عقالين
لأصبح الناس أوباداً فلم يجدوا
…
عند التفرق في الهيجا جمالين
عمرو: تنازع فيه العاملان. يقال: ما له سبدٌ ولا لبدٌ، أي: شيءٌ، وأصل السبد، الشعر. والعقال: صدقة عام، وانتصابه على الظرف، أوباداً: جمع وبدٍ، أي: هلكى، والوبد، سيء الحال، وحاصله أنه يجوز تثنية الجمع على تأويل الجماعتين.
قوله: (أو: إن كنتم موقنين بشيء قط)، يريد أن قوله:{مُوقِنِينَ} مطلقٌ خص بقيد
[(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ* قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)].
فإن قلت: ومن كان حوله؟ قلت: أشراف قومه قيل: كانوا خمس مائة رجل عليهم الأساور وكانت الملوك خاصة. فإن قلت: ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب به الخلائق كلها، فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب؟ قلت: قد عم أوّلا، ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم. لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والناقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ميلاده إلى وقت وفاته، ثم خصص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قرينة المقام، وهو الكلام في الاستدلال والنظر في الإلهية، أو ترك على إطلاقه، بمعنى: إن وجد منكم شيءٌ من هذه الحقيقة، فهذا أولى، ويمكن أن يجرى على العموم ليدخل فيه ما سبق له الكلام دخولاً أولياً.
قوله: (لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه)، هذا يشعر بأن الترقي في الاحتجاجات الثلاثة بحسب اعتبار قلة النظر وقرب المنظور فيه، فإن الدلائل المثبتة في السموات والأرض وما بينهما أبعد متناولاً من النظر من دليلٍ أنفسهم وآبائهم فقط، لأن الأول مشتملٌ عليه وعلى الآفاقية أيضاً، والثاني أبعد منظوراً من الثالث، لأن المنظور في الثاني الانتقال من هيئة إلى هيئة، ومن حالٍ إلى حالٍ من وقت ميلاده إلى وقت وفاته في نفس الناظر وأنفس آبائه، ولا كذلك النظر في طلوع الشمس وغروبها في فصول السنة، وإليه الإشارة بقوله:"ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله عليه السلام".
قوله: (الخافقين)، الخافقان: أفقا المشرق والمغرب، قال ابن السكيت: لأن الليل والنهار يخفقان فيهما بسرعة، من خفقان الطائر، إذا صفق بجناحيه، وخفوق الراية.
في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به؛ ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله، عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان، فبهت الذي كفر. وقرئ:(رَبُّ المَشَارِقِ والْمَغَارِبِ)، (الذي أَرسل إليكم) بفتح الهمزة. فإن قلت: كيف قال أوّلا: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) وآخرا: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؟ قلت: لاين أوّلا، فلما رأى منهم شدّة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج خاشن وعارض "إنّ رسولكم لمجنون"، بقوله:(إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ).
[(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)].
فإن قلت: ألم يكن: لأسجننك، أخصر من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ومؤديا مؤداه؟ قلت: أما أخصر فنعم. وأما مؤدّ مؤدّاه فلا، لأنّ معناه: لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشدّ من القتل وأشدّ.
[(قالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَاتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صاحب "المفتاح": ومن التغليب: الخافقان، للمشرق والمغرب ويؤيده ما في "المغرب" عن الأزهري: خفق النجم: إذا غاب، ومنه: الخافقان، للمشرق والمغرب.
قوله: (لاين أولاً)، إلى قوله:"خاشن وعارض". قال الإمام: أراد بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} : إن كنت من العقلاء وعرفت أن لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت، لأنك طلبت تعريف حقيقته، وقد أرشدتك أنه لا يمكن.
الواو في قوله: (أَوَلَوْ جِئْتُكَ) واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام. معناه: أتفعل بى ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ أي: جائيا بالمعجزة. وفي قوله: (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوّة، والحكيم لا يصدّق الكاذب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أتفعل بي ذلك، ولو جئتك بشيءٍ مبين؟ )، يريد أن عامل الحال وصاحبها: ما دل عليه قوله تعالى: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ، فجعل وعيده تخلصاً للانتقال إلى نوع آخر من الدليل. قال القاضي: المعجزة جامعةٌ بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، والدلالة على صدق مدعي نبوته.
قلت: ويمكن أن يقال: إن الواو في {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} عاطفةٌ، وهي تستدعي معطوفاً عليه، وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي الله تعالى وعدوه. والهمزة مقحمةٌ بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير. المعنى: أو تقر بالوحدانية وبرسالتي إن جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة؟ كما سبق تقريره، و"لو" بمعنى "أن" غير عزيز.
ويؤيد هذا التأويل ما في الأعراف: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَاتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 105 - 106].
قال المصنف: "إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتني بها، وأحضرها عندي، ليصح دعواك ويثبت صدقك".
قوله: (وفي قوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق)، يعني: في سياق هذا التركيب أدمج معنى أن المعجزة تصديقٌ من الله تعالى لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب.
ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة؛ حيث جوّزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات! وتقديره: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به، فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدل عليه.
[(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)].
(ثُعْبانٌ مُبِينٌ): ظاهر الثعبانية، لا شيء يشبه الثعبان، كما تكون الأشياء المزوّرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه [هذا]، وقد خفي على ناسٍ من أهلٍ القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله عز وجل حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات)، قال صاحب "الانتصاف": هذا تعريضٌ بتفضيل فرعون على أهل السنة، وحكمٌ على القدرية أن فيهم نصيباً من الفراعنة، إذ كل أحدٍ يزعم أنه خالقٌ ومبدعٌ لأفعاله، وجحودٌ على الله تعالى أن يفعل إلا ما واطأ عقولهم، وأنه حسنٌ في الشاهد.
وقلت: المصنف بنى كلامه على الحسن والقبح العقليين، ثم شنع على أهل السنة، ولا يلزم من قولهم: يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه لا يوجد شيءٌ في الكائنات إلا بإرادته ومشيئته: تصديق الكاذبين بالمعجزات، لأنه ظهر وعلم بالاستقراء أنه تعالى ما حكم ولا أرد تصديق الكاذبين بالمعجزات، ولهذا قطع الأصحاب بأن سنة الله جرت على أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب.
هذا، وإن تفسيره لقوله:{إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} يخالف جعله {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} حالاً وتقريراً للعطف الذي ذهبنا إليه، لأن الكلام على الحال في السجن، لا في إثبات النبوة، وتصديقه بالمعجزة، والله تعالى أعلم.
قوله: (لا شيءٌ يشبه الثعبان)، توكيدٌ لقوله:"ظاهر الثعبانية"، لأن الله تعالى حمل "ثعبانٌ" على ضمير العصا، فيتوهم أنه مثل: زيدٌ هو أسدٌ، فأزال التوهم بقوله:"لا شيءٌ يشبه الثعبان"، يدل عليه قوله:{مُبِينٍ} .
بالشعوذة والسحر. وروي: أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت. ويقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا (لِلنَّاظِرِينَ) دليل على أن بياضها كان شيئا يجتمع النظارة على النظر إليه، لخروجه عن العادة، وكان بياضا نوريا. روي: أنّ فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده فقال له: ما هذه؟ قال: يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسدّ الأفق.
[(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَامُرُونَ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بالشعوذة)، الأساس: فلانٌ شعوذيٌ، ومشعوذٌ، ومشعبذٌ، وعملها الشعوذة، والشعبذة، وهي: خفةٌ في اليد، وأخذٌ كالسحر، وقيل للبريد: الشعوذي، لخفته
قوله: (إلا أخذتها)، أي: ما أطلب منك إلا أخذها، كقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: بالإيواء والنصر إلا جلستم، وقد دخل مجلساً غاصاً من الأنصار، قال صاحب "المقتبس": والقسم يسلك فيه الطرائق، لكثرة وقوعه في كلامهم، والفعل والمصدر لما كانا في اتصالٍ من جهة التوالد والتناشؤ، جاز أن يقع كلٌ منهما موقع صاحبه، يدل على ما يدل عليه الآخر. وفي "ربيع الأبرار": أمر الحجاج بقتل رجل، فقال: أسألك بالذي أنت غداً بين يديه أذل موقفاً مني بين يديك اليوم إلا عفوت عني، فعفا عنه.
قوله: (يدك، فيما فيها؟ )، وهو من جملة المقول، أي: هو يدك، فأي شيء؟ أي: ليس فيها معجزةٌ ولا عجب، وقال بعضهم: معنى ما هذه: أي شيءٍ فيها من الآية؟
فإن قلت: ما العامل في (حَوْلَهُ)؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل، فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، والعامل في النصب المحلي- وهو النصب على الحال:(قَالَ): ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقي لا يدري أي طرفيه أطول، حتى زلّ عنه ذكر دعوى الإلهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه، وانتفخ سحره خوفا وفرقا، وبلغت به الاستكانة لقومه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نصبٌ في اللفظ، ونصبٌ في المحل)، قال صاحب "المطلع": العامل في النصب اللفظي: ما يقدر في الظرف من معنى الفعل، تقديره: للملأ مستقرين، أو مجتمعين حوله، والعامل في المحلي، وهو النصب على الحال، قال: تقديره: قال لهم وهم حوله.
قوله: ({قَالَ})، خبرُ لقوله:"والعا مل" والجملة، وهو النصب على الحال: معترضةٌ، أي: قال في قوله: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} عاملٌ في {حَوْلَهُ} وهو حال.
قوله: (لا يدري أي طرفيه أطول)، مثلٌ في التحير. عن بعضهم يقال: بقي فلانٌ حيران لا يدري أي طرفيه أطول، لطولٍ يتراءى له الشبح شبحين، قال الميداني: قال الأصعمي: معناه: لا يدري أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه. وقال غيره: يقال: إن وسط الإنسان: سرته، والطرف الأسفل أطول من الأعلى، وهذا يكاد يجهله أكثر الناس حتى يقدر له. وقال ابن الأعرابي" طرفاه: ذكره ولسانه، يضرب في نفي العلم.
قوله: (فرائصه)، الفريضة: اللحم بين الجنب والكتف الذي لا يزال يرعد من الدابة.
قوله: (وانتفخ سحره)، بالخاء المعجمة، وفي نسخةٍ صحيحة: بالجيم، من قولهم:"هنيئاً لك النافجة" أي: المعظمة لمالك. والسحر: الرئة.
الأساس: وانتفخ سحره، وانتفخت مساحره، إذا مل وجبن. وانقطع منه سحري: إذا يئست، يقال: وأنا منه غير صريم سحر: غير قانط.
الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم: أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحسّ به من جهة موسى وغلبته على ملكه وأرضه، وقوله:(إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) قول باهت إذا غلب ومتمحل إذا ألزم. (تَامُرُونَ) من المؤامرة وهي المشاورة. أو من الأمر الذي هو ضدّ النهي. جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة. و"ماذا" منصوب: إما لكونه في معنى المصدر، وإما لأنه مفعول به من قوله:
أمرتك الخير
[(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَاتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)].
قرئ: (أَرجِئْه) و (أَرْجِهْ)، بالهمز والتخفيف، وهما لغتان. يقال: أرجأته وأرجيته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من جهة موسى عليه السلام، "من": بيان "ما" في "بما حذر منه".
قوله: (و"ماذا" منصوبٌ، إما لكونه في معنى المصدر)، أي: أي أمرٍ تأمرون؟ قال في قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109]: " {مَاذَا} : منتصبٌ بـ {أُجِبْتُمْ} انتصاب مصدره، على معنى: أي إجابةٍ أجبتم؟
قوله: (قرئ: "أرجئه")، ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، والباقون: بالتخفيف قال صاحب "الكشف": "قالوا أرجئه وأخاه"، و"أرجه" و {أَرْجِهْ} باختلاس الكسرة، كل ذلك في السبعة، والأصل:"أرجئهو" بالضم والإشباع، ثم يليه "أرجئه" بضم الهاء من دون الإشباع اكتفاءً بالضمة عن الواو، ثم "أرجئه" بكسر الهاء، لمجاورة الجيم، ولا
إذا أخرته. ومنه: المرجئة، وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجؤون لأمر الله. والمعنى: أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل: احبسه (حاشِرِينَ) شرطا يحشرون السحرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتداد بالحاجز، أعني: الهمزة الساكنة. فأما من قال: {أَرْجِهْ} فهي من: أرجيته، دون أرجأته، بلا همز، والهمزة أفصح، فلما حذف الياء للأمر أشبع الهاء، وكسرها لمجاورة الجيم، وأضعف الوجوه "أرجه" بإسكان الهاء، لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف، لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف.
قوله: (وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق، ويقولون: هم مرجؤون لأمر الله)، الانتصاف: حرف في تفسير المرجئة، فأهل السنة هم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق، ويرجعون أمرهم إلى المشيئة، فإن كان المرجئة هؤلاء فاشهدوا أنا مرجئةٌ.
النهاية: المرجئة: فرقةٌ من فرق الإسلام، يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصيةٌ، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئةً، لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي: أخره عنهم، والمرجئة تهمز ولا تهمز، وكلاهما بمعنى التأخير.
قوله: (شرطاً يحشرون)، يريد أن {حَاشِرِينَ} صفة موصوفٍ هو مفعولٌ به.
النهاية: الأشراط: العلامات، واحدتها: شرطٌ بالتحريك، وبه سميت شرط السلطان، لأهم جعلوا لأنفسهم علاماتٍ يعرفون بها، هكذا قال أبو عبيد. وحكى الخطابي عن بعض أهل اللغة أنه أنكر هذا التفسير، وقال: أشراط الساعة: ما ينكره الناس من صغار أمورها قبل أن تقوم الساعة. وشرط السلطان: نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده.
وعارضوا قوله: (إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ)[الشعراء: 34]، بقولهم:(بِكُلِّ سَحَّارٍ)، فجاءوا بكلمة الإحاطة وصفة المبالغة، ليطامنوا من نفسه ويسكنوا بعض قلقه. وقرأ الأعمش:(بكل ساحر).
[(فَجُمِع َ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ* وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ)].
اليوم المعلوم: يوم الزينة. وميقاته: وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى صلوات الله عليه من يوم الزينة في قوله:(مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)[طه: 59]. والميقات: ما وقت به، أي: حدد من زمان أو مكان. ومنه: مواقيت الإحرام. (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه: استعجالهم واستحثاثهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرّك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أن الناس قد انطلقوا وهو واقف. ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا
…
أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق؟
يريد: ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ به. (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) أي: في دينهم إن غلبوا موسى،
ولا نتبع موسى في دينه. وليس غرضهم باتباع السحرة، وإنما الغرض الكلي: أن لا يتبعوا موسى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعارضوا قوله)، لم يرد بالمعارضة الاعتراض، بل: المقابلة، فإن فرعون لما قال:{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} قابلوه بقولهم: {يَاتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} .
قوله: (هل أنت باعث ينارٍ؟ )، البيت. هل أنتً: حثٌ وتحريضٌ على الاستحثاث. دينار: اسم رجل، وكذا عبد رب، و"عبد رب": منصوبٌ معطوفٌ على محل "دينار"، وأخا عونٍ: منادى لا نعتٌ، ويجوز أن يكون عطف بيانٍ لـ "عبد رب".
فساقوا الكلام مساق الكناية؛ لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى.
[(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)].
وقرئ: (نعم) بالكسر، وهما لغتان. ولما كان قوله:(إِنَّ لَنا لَأَجْراً) في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، وكان قوله:(وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) معطوفا عليه ومدخلا في حكمه، دخلت (إذا) قارّة في مكانها الذي تقتضيه من الجواب والجزاء، وعدهم أن يجمع لهم إلى الثواب على سحرهم الذي قدروا أنهم يغلبون به موسى: القربة عنده والزلفى.
[(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فساقوا الكلام مساق الكناية)، يعني: لم يرد بقوله: {نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} : إتباعهم حقيقةً، فكيف وإنه مدع للإلهية؟ وإرادته دفع موسى عليه السلام فقط.
قوله: ("نعم" بالكسر)، الكسائي.
قوله: (ولما كان قوله: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} في معنى جزاء الشرط)، يعني: قد تقرر أن الجزاء لا يتقدم على الشرط، لأنه مسببٌ عنه، فإذا تقدم ما في معنى الجزاء عليه ينبغي أن يقدر مثله بعده، فحكم {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} كذلك، وقد عطف عليه قوله:{وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، والمعطوف له حكم المعطوف عليه، فصح حينئذٍ دخول "إذا" فيه، فكأنهم لما قالوا: إن كنا نحن الغالبين، فهل لنا من أجرٍ؟ أجيبوا بقوله:{نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، أي: إن غلبتم فلكم الأجر والقربة. وهو قريبٌ من التأويل الذي سبق في قوله تعالى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} .
أقسموا بعزة فرعون وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله معلقا ببعض أسمائه أو صفاته، كقولك: بالله، والرحمن، وربي، ورب العرش، وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وعظمة الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمّهاتكم ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون". ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسيت لها الجاهلية الأولى، وذلك أنّ الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (معلقاً ببعض أسمائه)، حالٌ من الحلف، و"ببعض أسمائه أو صفاته": لفٌ، وقوله:"بالله والرحمن" هما اسمان لله تعالى خاصان به، وقوله:"رب العرش وربي" هما اسمان لله تعالى غالبان، وهذه الأربع: نشرٌ لقوله: "أسمائه" وقوله: "وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وعظمة الله" هذه الأربع: نشرٌ لقوله: "أو صفاته"، والمراد بالاسم هاهنا: ما يصح حمله على الله تعالى، وبالصفة: خلافه، فيقال: الله الرحمن والرب، لا يقال: الله العزة والقدرة. مضى تم تقريره في سوره الحجر عند قوله تعالي: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] على القسم.
قوله: (الجاهلية الأولى)، عن بعضهم: الجاهلية الأولى: هي زمان ولد قابيل، بعث إليهم نوح عليه السلام، والأخرى بعث إليهم محمد صلوات الله عليه.
قوله: (لا تحلفوا بآبائكم)، الحديث من رواية أبي داود والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بالأنداد، لا تحلفوا بالله عز وجل إلا وأنتم صادقون". وروى النسائي، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه:"لا تحلفوا بآبائكم، ولا بالطواغيت".
وصفاته على شيء: لم يقبل منه، ولم يعتدّ بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف.
[(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَافِكُونَ* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)].
(ما يَافِكُونَ): ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم، ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، بالتمويه على الناظرين أو إفكهم: سمى تلك الأشياء إفكا مبالغة. روي: أنهم قالوا: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، وإن كان من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به، علموا أنه من الله فآمنوا. وعن عكرمة: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء، لأنه ذكر مع الإلقاآت، فسلك به طريق المشاكلة. وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا. فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل بما خوّلهم من التوفيق. أو إيمانهم. أو ما عاينوا من المعجزات الباهرة، ولك أن لا تقدّر فاعلا، لأنّ (أَلْقُوا) بمعنى خرّوا وسقطوا. (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون لعنة الله عليه كان يدعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: إفكهم)، وعلى هذا:"ما" مصدريةٌ، وسمى مأفوكهم بالإفك مبالغةً، لأن المعنى لا يتناوله. الجوهري: لقفت الشيء- بالكسر- ألقفه لقفاً، وتلقفته أيضاً، أي: تناولته بسرعة.
قوله: (ولك أن لا تقدر فاعلاً)، قال صاحب "الفرائد": هذا منظورٌ فيه، لأن المعدى إلى مفعولٍ لابد له من الفاعل، وإذا أسند إلى المفعول صار الفاعل متروكاً، وما ذكر، من لوازم معناه، لا معناه.
قلت: أراد بقوله: "أن لا تقدر فاعلاً": أن لا يخصص، على نحو: قتل الخارجي، فإن
الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام: أنه الذي يدعو إليه هذان، والذي أجرى على أيديهما ما أجرى.
[(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)].
(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي: وبال ما فعلتم.
[(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ* إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)].
الضر والضير والضور: واحد، أرادوا: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقصود حصول قلته، وكونه مقتولاً، لا أن القاتل من هو؟ كذا القصد هنا، كونهم ملقين ساقطين، لا أن الملقي من هو؟
قوله: (أنه الذي يدعو إليه)، خبر مبتدأٍ محذوف"، الجملة: خبر "معنى إضافته"، والضمير في "أنه" راجعٌ إلى الرب المحذوف، وفاعل يدعو: "هذان"، يريد أن قوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} عطف بيانٍ لـ "رب العالمين"، وهو كتابةٌ عمن عرفت إلهيته بواسطتهما.
قوله: (لا ضرر علينا في ذلك)، اعلم أنهم أجابوا الملعون بقولهم:{لَا ضَيْرَ} ، وعللوه بقوله:{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} ، والمصنف فسره بوجوه، أحدها: اعتبر في {لَا ضَيْرَ} جميع ما تهدد به المعلون من القطع والصلب، حيث أتى باسم الإشارة في قوله:"لا ضرر علينا في ذلك"، ثم أتى في العلة بمتعدد: "من تكفير الخطايا والثواب العظيم والأعواض. والثواب: هو الجزاء على أعمال الخير، والأعواض على ما ذهب إليه المعتزلة هي: السلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي مقابلةٌ للبلايا والمحن والرزايا والفتن.
وثانيهما: قوله: "ولا ضير علينا فيما توعدنا به من القتل"، اعتبر وعيده بجملته، وعبر
النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله، من تكفير الخطايا والثواب العظيم، مع الأعواض الكثيرة. أو: لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل أنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت. والقتل أهون أسبابه وأرجاها. أو لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته، لما رزقنا من السبق إلى الإيمان. وخبر (لَا) محذوف. والمعنى: لا ضير في ذلك، أو علينا (أَنْ كُنَّا) معناه: لأن كنا، وكانوا أوّل جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، أو من رعية فرعون، أو من أهل المشهد. وقرئ:(إن كنا) بالكسر، وهو من الشرط الذي يجيء به المدلّ بأمره، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أوّل المؤمنين. ونظيره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنه بالقتل، وعلله بقوله: إنه لابد لنا من الانقلاب إلى ربنا"، والانقلاب حينئذٍ عبارةٌ عن الرجوع إلى الله عز وجل، ولابد لكل أحدٍ منه، وأسباب الرجوع إليه تعالى كثيرة، ولهذا قال: "والقتل أهون أسبابه".
وثالثها: "أو لا ضير عليها في القتل، فاعتبر في هذا الوجه نفس القتل من غير اعتبار تفصيله، ولا الوعيد به، وهو بمنزلة الموت حينئذٍ، وعلل بقوله: "إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته"، فأدخل {إِنَّا نَطْمَعُ} في التعليل، وجعله بدلاً منه، وفيه إظهار الرغبة في القتل، يعني: إنه مطلوبنا، لما يحصل منه الفوز بهذه البغية السنية. وذكر وجهاً رابعاً في الأعراف، وهو: "أنا جميعاً، يعنون أنفسهم وفرعون، ننقلب إلى الله تعالى، فيحكم بيننا"، أي: ينتقم لنا منك بما فعلت بنا، ويثيبنا على ما قاسينا منك، لأنا نطمع أن يغفر لنا وأنت لا تطمع، والله تعالى أعلم.
قوله: (المدل بأمره)، الأساس: تدللت المرأة على زوجها، وذلك أن تريه جرأةً عليه في تغنج وتشكل، كأنها تخالفه وليس بها خلافٌ، وأدل على قريبه، وعلى من له عنده منزلةٌ، وهو مدلٌ بفضله وبشجاعته، ومنه أسدٌ مدلٌ، وأما تنظير الآية بالمثال فلتتميم معنى
قول العامل لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي. ومنه قوله عز وجل: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي)[الممتحنة: 1] مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك.
[(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ* فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ* وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ)].
قرئ: (أَسْرِ) بقطع الهمزة ووصلها. و (سِرْ). (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ): علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم. والمعنى: أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم، ويسلكوا مسلككم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأهلكهم. وروي: أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الانكسار، وهضم الحق الذي يعطيه قوله تعالى:{إِنَّا نَطْمَعُ} كقوله عليه الصلاة والسلام: {أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82].
قوله: (قرئ: {أَسْرِ} بقطع الهمزة، نافعٌ وابن كثيرٍ، بالوصل، والباقون: بالقطع.
قوله: ("سر")، أي: وقرئ: "سر"، من السير.
قوله: (علل الأمر بالإسراء بإتباع فرعون)، كأنه قيل: أسر بعبادي، لأن فيه نجاتكم وهلاك القوم، وليس بإتباعهم عرضاً للأمر بالإسراء ظاهراً، لأن الغرض في الأمر بالإسراء إهلاك القوم بإتباعهم، ونجاة موسى عليه السلام وقومه، لكن الإهلاك لما كان مسبباً عن الإتباع وضع موضعه، نحوه: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وإليه الإشارة بقوله:"إني بنيت تدبير أمركم وأمركم وأمرهم" إلى آخره، لأن إعداد الخشبة لإدعام الحائط إذا مال تدبيرٌ.
واشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروي: أنّ الله أوحى إلى موسى: أن اجمع بنى إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا الجداء واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزا فطيرا؛ فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري، فأرسل فرعون في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدّمته سبعمائة ألف: كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فلذلك استقل قوم موسى وكانوا ست مائة ألف وسبعين ألفا، وسماهم شرذمة قليلين. (إِنَّ هؤُلاءِ) محكي بعد قول مضمر. والشرذمة: الطائفة القليلة. ومنها قولهم: ثوب شراذم، للذي يلي وتقطع قطعا، ذكرهم بالاسم الدال على القلة. ثم جعلهم قليلا بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الجداء)، الجداء: جمع جدي، والأجداء أيضاً.
قوله: (فيأتيك أمري)، عن بعضهم: أمري، أي: شأني، أو عقوبتي، من قوله:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 82]، ومن قوله:{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]. وقلت: ويمكن أ، يكون واحد الأوامر، وهو قوله تعالى:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} .
قوله: (ثوبٌ شراذم)، وصف الواحد بشراذم كوصف الإزار بالسراويل في أحد القولين، ونظيره: الحضاجر للمنتفخ البطن.
قوله: (فجعل كل حزبٍ منهم قليلاً)، يريد أن الأصل أن يقال:"لشر ذمةٌ قليلة"، فعدل إلى:{قَلِيلُونَ} ، ليؤذن بتفرقهم أحزاباً. الانتصاف: يعني: قللهم، من أربعة أوجهٍ: عبر عنه بـ "شرذمة"، ووصفهم بالقلة، وجمع وصفهم، ليعلم أن كل حزبٍ منهم قليل، واختار جمع السلامة المفيد للقلة، وفيه وجهٌ خامسٌ: جمع الصفة والموصوف مفردٌ، وهو
واختار جمع السلامة الذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل. ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد. والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج، سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد يكون مبالغةً للصوق الصفة بالموصوف وتناهيه فيها، كقولك:"معًي جياعاً"، وههنا الأصل:"لشرذمةٌ قليلة"، كقوله تعالى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} [البقرة: 249]، لتناهيهم في القلة، ويبقى نظرٌ، فإن هذا المعنى هل ينفي الوجوه الأربعة، أو يذهب منها شيئاً؟ فتأمله.
قال صاحب "الإنصاف": ينبغي أن لا يسقط منها شيئاً، إذ هو مبالغةٌ في أحدها، وهو وصفهم بالقلة.
قلت: بل هو عين ما قال المصنف: "ثم جمع القليل فجعل كل حزبٍ منهم قليلاً"، واستشهد بقوله:"ثوبٌ شراذم"، كما أن القائل جعل كل جزءٍ من أجزاء المعي خالياً من الغذاء، صفراً من الطعام، مبالغةً في الجوع. قال صاحب "الكشف": جمع "قليلاً" بالواو والنون، لموافقة رؤوس الآي، وإن أفردها جاز، لأن لفظ "الشرذمة" مفردٌ.
قوله: (والقماءة)، الأساس: وقد قمؤ قماءةً وقميء قمأً، إذا ذل وصغر في الأعين.
وقرئ: (حَذِرُون) و (حَاذِرُونَ) و (حادِرُون) بالدال غير المعجمة. فالحَذِر: اليقظ، والحاذر: الذي يجدّد حذره. وقيل: المؤدى في السلاح، وإنما يفعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه. والحادر: السمين القوي. قال:
أحبّ الصّبي السوء من أجل أمّه
…
وأبغضه من بغضها وهو حادر
أراد أنهم أقوياء أشداء. وقيل مدججون في السلاح، قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "حذرون" و {حَاذِرُونَ} ، الكوفيون وابن ذكوان:"حاذرون" بالألف، والباقون: بغير ألف.
قوله: (و"حادرون" بالدال) المهملة، قال ابن جني: قرأها ابن أبي عمار: الحادر: القوي الشديد، ومنه: الحادرة الشاعر، وحدر الشاعر، إذا قوي جسمه وامتلأ لحماً وشحماً.
قوله: (فالحذر)، اليقظ، الحاذر: الذي يجدد حذره". هذا التفاوت معلومٌ بين الصفة المشبهة، وبين اسم الفاعل. قال الزجاج: وجاء في التفسير أن معنى "حاذرون": مؤدون، أي: ذووا أداةٍ وسلاح. والسلاح: أداة الحرب، فالحاذر: المستعد، والحذر: المتيقظ.
الجوهري: آدى الرجل، أي: قوي، من الأداة، فهو مؤدٍ بالهمز، أي: شاكٍ في السلاح، ورجلٌ مدجج، أي شاكٍ في السلاح.
قوله: (وقيل: مدججون في السلاح)، عطفٌ على قوله:"أنهم أقوياء أشداء"، أي:
[(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ* فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)].
وعن مجاهد: سماها كنوزا؛ لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله. والمقام: المكان، يريد: المنازل الحسنة والمجالس البهية. وعن الضحاك: المنابر. وقيل السرر في الحجال. (كَذلِكَ) يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه. والجر على أنه وصف لـ "مقام"، أي: لمقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي: الأمر كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: حاذرون، وأراد أنهم شاكون في السلاح، بالكناية، لأن الرجل الشديد القوي لا يخلو في مثل هذه المواطن من السلاح، لأن ادعاء القوة والشدة لازمة التدجج في السلاح. وإليه الإشارة بقوله:"قد كسبهم ذلك حدارةً في أجسامهم".
قوله: (سماها كنوزاً، لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله عز وجل، مأخوذٌ مما رواه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كل ما أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته الذي ذكر الله تعالى وإن كان على وجه الأرض.
قوله: (وقيل: السرور في الحجال)، الجوهري: الحجلة- بالتحريك-: واحدة حجال العروس، وهو بيتٌ يزين بالثياب والأسرة والستور؟
قوله: (أي: الأمر كذلك)، هذا الوجه أقوى الوجوه، ليكون قوله:{وَأَوْرَثْنَاهَا} عطفاً عليه، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} وبين {فَأَتْبَعُوهُمْ} ، لأن الإتباع عقب الإخراج، لا الإيراث. قال الواحدي: إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال
(فَأَتْبَعُوهُمْ): فلحقوهم. وقرئ: (فاتَّبَعوهم)، (مُشْرِقِينَ): داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.
[(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ* وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ)].
(سَيَهْدِينِي) طريق النجاة من إدراكهم وإضرارهم. وقرئ: (إنا لُمدّرِكون) بتشديد الدال وكسر الراء، من ادّرك الشيء إذا تتابع ففني، ومنه قوله تعالى:(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)[النمل: 66]، قال الحسن: جهلوا علم الاخرة. وفي معناه بيت "الحماسة":
أبعد بني أمّي الّذين تتابعوا
…
أرجّى الحياة أم من الموت أجزع!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعقار والمساكن، وعلى أن يكون {كَذَلِكَ}: صفة مصدرٍ محذوفٍ لـ "أخرجنا" مع ما قيد توكيداً، ويكون {وَأَوْرَثَنَا}: عطفاً على {وَأَخْرَجْنَا} ، لابد من تقديرٍ نحو: فأردنا إخراجهم، وإيراث بني إسرائيل ديارهم، فخرجوا وأتبعوهم.
قوله: ({فَأَتْبَعُوهُمْ}: فلحقوهم)، ليس تفسيراً لقوله:{فَأَتْبَعُوهُمْ} ، بل هو مقدرٌ، والفاء في {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} فصيحةٌ تستدعي هذا المقدر ليتصل بقوله تعالى:{فَأَتْبَعُوهُمْ} . قال الواحدي: فلما تراءى الجمعان، أي: تقابلا، بحيث يرى كل فريقٍ صاحبه.
قوله: (أبعد بني أمي)، البيت. الاستفهام للتوجع والاستبعاد والإنكار على نفسه
والمعنى: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد.
الفرق: الجزء المتفرّق منه. وقرئ: (كل فِلْق)، والمعنى واحد. والطود: الجبل العظيم المنطاد في السماء.
(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ) حيث انفلق البحر (الْآخَرِينَ): قوم فرعون، أي: قربناهم من بني إسرائيل: أو أدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، أو قدمناهم إلى البحر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالترجية، أي: لا يحسن الطمع في الحياة بعد إخواني الذين انقرضوا واندرج واحدٌ إثر واحد، ولا أجزع من الموت عقيب التفجع بهم.
قوله: (الفرق: الجزء المتفرق منه)، التعريف في "الفرق": للعهد في قوله: {كُلُّ فِرْقٍ} ، والضمير في منه عائدٌ إلى البحر.
الراغب: الفرق يقارب الفلق، لكن الفلق يقال اعتباراً بالانشقاق، والفرق اعتباراً بالانفصال، والفرق: القطعة المنفصلة، ومنه الفرقة: للجماعة المنفردة من الناس، والفريق: الجماعة المنفردة عن الآخرين. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران: 78]، {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
قوله: (المنطاد)، الأساس: ما هو إلا طودٌ من الأطواد، وهو الجبل المنطاد في السماء الذاهب صعداً.
قوله: (أو قدمناهم إلى البحر)، عطفٌ على قوله:"قربناهم من بني إسرائيل"، فـ "أزلفنا"- على هذا- كنايةٌ عن "قدمنا".
قال الواحدي: قربنا إلى البحر فرعون وقومه حتى أغرقناهم.
وقرئ: (وأزلَقْنا) بالقاف، أي: أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، كقوله:
تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها
…
وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل
ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه.
[(وأَنجَيْنَا مُوسَى ومَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ)].
عن عطاء بن السائب: أن جبريل كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم. ويستقبل القبط فيقول: رويدكم يلحق آخركم. فلما انتهى موسى إلى البحر قال له مؤمن آل فرعون، وكان بين يدي موسى: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر ولا يدري موسى ما يصنع، فأوحى الله تعالى إليه: أن اضرب بعصاك البحر. فضربه فصار فيه اثنا عشر طريقا: لكل سبط طريق. وروي: أنّ يوشع قال: يا كليم الله، أين أمرت؟ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا؟ قال موسى: هاهنا. فخاض يوشع الماء، وضرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("وأزلقنا"، بالقاف)، قال ابن جني: هي قراءة عبد الله بن الحارث.
قوله: (تداركتما عبساً)، البيت. عبسٌ وذبيان: قبيلتان. ثل عرشها: أي زوال ملكها، فإن العرش كنايةٌ عن الملك، وفي المثل: زلت نعله: يضرب لمن نكب وزالت نعمته
موسى بعصاه البحر فدخلوا. وروى: أنّ موسى قال عند ذلك: يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكل شيء، والكائن بعد كل شيء. ويقال: هذا البحر هو بحر القلزم. وقيل: هو بحر من وراء مصر، يقال له: إِسَاف. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أية آية، وآية لا توصف، وقد عاينها الناس وشاع أمرها فيهم.
[(إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ومَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
وما تنبه عليها أكثرهم، ولا آمن بالله. وبنو إسرائيل: الذين كانوا أصحاب موسى، المخصوصون بالإنجاء قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) المنتقم من أعدائه (الرَّحِيمُ) بأوليائه.
[(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ* قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ)].
كان إبراهيم صلوات الله عليه يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم أنّ ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ وأنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثم تقول له: الرقيق جمال وليس بمال. فإن قلت: (ما تَعْبُدُونَ) سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا: أصناما، كقوله تعالى:(وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)[البقرة: 219]، (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23]، (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل: 30]. قلت: هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم، وعلى ما قصدوه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: تداركتما حال القبيلتين بعد انهدامهما وتضعضعهما.
قوله: ({وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} المنتقم من أعدائه، {الرَّحِيمُ} بأوليائه)، وقد سبق أن هذا التذييل تسل لحبيبه صلى الله عليه وسلم.
من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم: (نَعْبُدُ)(فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) ولم يقتصروا على زيادة (نَعْبُدُ) وحده؟ ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس في بلادك؟ فيقول: ألبس البرد الأتحمى، فأجرّ ذيله بين جواري الحي. وإنما قالوا: نظل، لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
[(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)].
لا بد في (يَسْمَعُونَكُمْ) من تقدير حذف المضاف، معناه: هل يسمعون دعاءكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (البرد الأتحمي)، وأنشد الجوهري:
وعليه أتحمي
…
نسجه من نسج هوزم
غزلته أم خلمي
…
كل يوم وزن درهم
وأنشد المصنف في "الأساس": زانه من الثناء الأهتمي، بأبهى من البرد الأتحمي.
قوله: (كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل)، أي: هذا أيضاً تتميمٌ لمعنى الابتهاج والافتخار، أي: يعبدها جهراً لا سرًا، ولا يلبث في عبادتها لبثاً قليلاً بل طويلاً، ثم لا يكون ذلك البث إلا خضوعاً وخشوعاً، لأن الاعتكاف عبادةٌ معروفة.
قوله: (لابد في {يَسْمَعُونَكُمْ} من تقدير حذف المضاف)، قال في قوله تعالى:{إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} [آل عمران: 193]: يقول: سمعت رجلاً يقول كذا، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالاً منه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد، وأن يقال: سمعت كلام فلان، وههنا قرينة المحذوف الظرف، وهو {إِذْ تَدْعُونَ} ، فإن فيه دلالةً على الدعاء.
وقرأ قتادة: (يُسمِعونكم)، أي: هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم؟ وهل يقدرون على ذلك؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه في "إذ" على حكاية الحال الماضية. ومعناه: استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا: هل سمعوا أو أسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت.
[(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ* قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)].
لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأوّلين من آبائكم، فإن التقدّم والأوّلية لا يكون برهانا على الصحة، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم، وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة: قوله تعالى: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)[مريم: 82]؛ ولأنّ المغري على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان، وإنما قال:(عَدُوٌّ لِي) تصويرا للمسألة في نفسه، على معنى: أني فكرت في أمري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجاء مضارعاً مع إيقاعه في "إذ")، وذلك أن إذ يجعل المضارع في معنى الماضي، كقوله تعالى:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 124]، وفائدته: استحضار جميع الأحوال الماضية وقتاً فوقتاً، يعني: قولوا لنا: هل قدروا على السماع أو الإسماع قط في تلك الأوقات؟ وهو أدخل في الإلزام من لو قيل: إذ دعوتموهم.
قوله: (ولأن المغري)، عطفٌ على قوله:"ومعنى العداوة قوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ} ".
قوله: (قال: {عَدُوٌّ لِي} تصويراً للمسألة)، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما بكتهم بقوله:{إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} ما أجابوه إلا بالتقليد المحض، وهو قولهم:{بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، أراد أن يصور لهم بطلان التقليد، قال: أخبروني ما
فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلا وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح، لأنه يتأمّل فيه، فربما قادة التأمّل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رحمه الله: أنّ رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت، لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا بيتكم. والعدوّ والصديق: يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنتم تعبدونه أنتم وآباؤكم الأقدمون، هل عرفتم أن تلك العبادة كانت في الحقيقة هي عبادة الأعداء، وهل رأيت عاقلاً يعبد عدوه، ومن ضره أقرب من نفعه، ويترك عبادة رب العالمين الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو الذي خلقه، ورزقه، وأحياه، وأماته؟ فعرض بالكلام استدراجاً ليكون أدخل في النصح، وإليه الإشارة بقوله:"ربما قاده التأمل إلى التقبل".
قوله: (ولأنه دخل في بابٍ من التعريض)، نحوه قوله تعالى:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، وهذا العريض يحتمل أن يكون من الكناية، وأن يكون من المجاز. فإذا قيل: إن الأصنام لا تصلح أن تكون عدواً لإبراهيم عليه السلام، كان مجازاً، وإلا فيكون كنايةً، ونحوه قولك: آذيتني فستعرف. قال صاحب "المفتاح": إذا أردت به المخاطب ومع المخاطب إنساناً آخر، كان من الكناية، وإن لم ترد إلا غير المخاطب كان من المجاز.
قوله: (وسمع رجلٌ ناساً يتحدثون)، قيل: هو علي بن سند مجاور مكة. والحجر بكسر الحاء: الحطيم المدار بالبيت.
وقوم عليَّ ذوي مئرة
…
أراهم عدوّا وكانوا صديقا
ومنه قوله تعالى: (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ)[الكهف: 50]، شبها بالمصادر للموازنة، كالقبول والولوع، والحنين والصهيل. (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع، كأنه قال: ولكن رب العالمين فَهُوَ يَهْدِينِي يريد أنه حين أتمّ خلقه ونفخ فيه الروح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقوم علي ذوي مئرةٍ)، البيت، مئرةٍ): أي مجادلةٍ ومخاصمة. المئرة بالهمز: الذحل والعداوة، وجمعها مئرٌ، يريد: أنه أطلق العدو على الجماعة، والعدو والصديق يجيئان بمعنى الواحدة والجماعة، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: إن الصديق والعدو كالرسول في أنه يقال للواحد والتثنية والجمع، قال تعالى:{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وذلك أن الجمع بمنزلة الواحد في الاتفاق على المعنى المقصود.
قوله: ({إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}: استثناءٌ منقطع)، قال صاحب "الكشف": لأنه تعالى ليس من جملة الأعداء أخبر عن الأصنام بأنهم أعداءٌ، ثم أخذ في حديثٍ آخر، فقال: لكن رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون متصلاً، لأن آبائهم قد كان منهم من يعبد الله تعالى وغير الله. والاختيار الأول، لأن قوله:{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} تخلصٌ إلى الأوصاف الآتية. وذهب أبو البقاء وصاحب "الكشف" أن قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي} : مبتدأٌ، و {فَهُوَ يَهْدِينِ}: الخبر، وما بعدها من {الَّذِي}: صفات {الَّذِي} : الأولى، ويجوز إدخال الواو في الصفات، وقيل: المعطوف: مبتدأٌ، وخبره محذوفٌ استغناءً: بخبر الأول، وضعف صاحب "الكشف" هذا.
وقلت: الأول أيضاً ضعيفٌ، والأولى ما عليه ظياهر كلام المصنف، أن الكل صفاتٌ
عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كلّ ما يصلحه ويعنيه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذى بالدم في البطن امتصاصا؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد، وإنما قال:(مَرِضْتُ) دون "أمرضني"؛ لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقوله: {رَبَّ الْعَالَمِينَ} والفاء في {فَهُوَ يَهْدِينِ} : للتعقيب لا للتسبيب، كما يلزم من كلامهما، ويعضده (ثم) في قوله:{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} ، لأنها للتراخي في الزمان كما أن تلك الفاء لغير التراخي لتقابلهما.
قوله: (عقب ذلك هدايته المتصلة)، يعني: عطف {فَهُوَ يَهْدِينِ} بالفاء- وهو جملةٌ من اسمٍ وفعلٍ مضارع- مفيدٌ لمعنى الاستمرار، وفي هذا المقام على {خَلَقْتَنِي} وهو ماضٍ، ليدل على الاتصال الذي لا ينقطع، وإليه أشار بقوله:"فمن هداه إلى معرفة الثدي" إلى قوله: "من هدايات المعاش والمعاد" وإلى دار القرار: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [يونس: 9]، وعل هذا العموم ينبغي أن يحمل على {يَهْدِيَنِ} ، لا على المتعارف، وإلا فما معنى قوله:"فمن هداه" إلى آخره؟ ونحوه قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] على معنى: أعطى خليقته كل شيءٍ يحتاجون إليه، ويرتفقون به، ثم عرفهم كيف يرتفعون بما أعطاهم وكيف يتوصلون إليه، و"ثم" في هذه الآية مثل الفاء فيما نحن فيه، وبين بها تفضيل الهداية على الإعطاء.
قوله: (لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريطٍ من الإنسان)، وفي معناه أنشد صاحب "المطلع":
عدوك من صديقك مستفادٌ
…
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
…
يكون من الطعام أو الشراب
الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. وقرئ: (خطاياي)، والمراد: ما يندر منه من بعض الصغائر، لأنّ الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل: هي قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ)[الصافات: 89]، وقوله:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)[الأنبياء: 63]، وقوله لسارّة: هي أختي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صاحب "الانتصاف": وقال غيره: هو أدبٌ مع اله تعالى: بنسبة النعمة إليه، ولعل الزمخشري عدل عن هذا لأن إبراهيم عليه السلام نسب الإماتة إلى الله تعالى وهو أشد من المرض، وهو أيضاً يرد على الزمخشري، فإن الموت أيضاً يكون بتسيبٍ وتفريط، ويمكن الفرق بين الموت والمرض بأن يقال: إن الموت: قضاءٌ محتوم على جميع البشر، بخلاف المرض، فكم من معافًى منه إلى أن يموت، فلا يكون بنسبته إلى الله تعالى سوء أدب، ويؤيده أن كل ما ذكر مع غير المرض ذكره وبتاً، وأما المرض فجعله مع الشرط.
قولت- والله تعالى أعلم-: قد سبق أن قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} واردٌ على الاستدراج وإرخاء العنان، فيكون قوله:{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} تخلصاً منه إلى التمكن من إجراء الأوصاف التي يصحح بها معنى الإلهية من كونه خالقاً رازقاً، محيياً ومميتاً، معاقباً ومثيباً، تربيةً لمعنى النصح والاستدراج، وبعثاً على التفكر والتدبر، وأما ذكر المرض والشفاء فكالمتابع لمعنى الإطعام والسقي، ولذلك ترك فيهما الموصول إلى الشرط والجزاء، فروعيت فيهما تلك النكتة، ولا يصح مثلها في تلك القرينة. وفي "المطلع": دخول "هو" دليلٌ على أنه لا يهدي ولا يطعم ولا يسقي ولا يمرض ولا يشفي إلى الله تعالى وحده، وذلك أنهم كانوا يقولون: المرض من الزمان، ومن الأغذية، والشفاء من الأطباء والأدوية.
قوله: (التخم)، الجوهري: وخم الرجل بالكسر، أي: اتخم، وقد اتخمت من الطعام، وعن الطعام، والاسم التخمة بالتحريك، والجمع تخماتٌ وتخمٌ.
وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله (أَطْمَعُ) ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأنّ أثرها يتبين يومئذ، وهو الآن خفي لا يعلم.
[(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ* وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ* وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ* وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ* وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)].
الحكم: الحكمة، أو الحكم بين الناس بالحق. وقيل: النبوّة، لأنّ النبي ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله. والإلحاق بالصالحين: أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. ولقد أجابه حيث قال:(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[البقرة: 130].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما هي إلا معاريض كلام)، سبق تحقيقه في أول البقرة.
قوله: (ويدل عليه قوله: {أَطْمَعُ} ولم يجزم)، أي: يدل على أن استغفار إبراهيم عليه السلام كان لمجرد التواضع، لا لطلب الغفران عن الذنوب، لأنه لو كان طلباً للغفران كان الواجب الجزم في الطلب، لا الظن والرجاء. قال الإمام: هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا، حيث نقول: لا يجب على الله شيءٌ، وأنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
قوله: (أو يجمع بينه وبينهم)، عطفٌ على:"أن يوفقه لعمل ينتظم به"، وكلا الوجهين حسنان، لكن الأول أوفق لتأليف النظم، لأن قوله:{هَبْ لِي حُكْمًا} : طلبٌ للعلم
والإخزاء: من الخزي وهو الهوان. ومن الخزاية؛ وهي الحياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والنبوة و {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} طلبٌ للعمل بمقتضى العلم، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} طلبٌ للذكر الجميل المستلزم لتكميل الغير بعد طلب كمال النفس، {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}: طلبٌ لجمع الشمل معهم في دار الكرامة. وقال القاضي: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي: لا تعاتبني على ما فرطت ولا تنقص مرتبتي عن مرتبة بعض الوراث.
الراغب: الصدق والكذب أصلهما في القول، وقد يستعملان في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد، نحو: صدق ظني، وفي فعل الجوارح، نحو: صدق في القتال: إذا وفى حقه وفعل ما يجب، وكذب في القتال، ويعبر عن كل فعلٍ فاضل ظاهراً وباطناً: بالصدق، فيضاف إليه، قال تعالى:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} ، سأل بحيث إذا أثنى عليه من بعده، لم يكن ذلك الثناء كذباً قال:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ
…
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
قوله: (أو من الخزاية)، بفتح الخاء، النهاية: يقال: خزي يخزى خزايةً، أي: استحياء، فهو خزيان، وخزي يخزى خزياً، أي: ذل وهان.
الراغب: خزي الرجل: لحقه انكسارٌ إما من نفسه أو من غيره، فالأول هو الحياء المفرط، ومصدره الخزاية، ورجلٌ خزيان وامرأةٌ خزيا وجمعه خزايا، وفي الحديث:"اللهم احشرنا غير خزايا ولا نادمين".
والثاني: يقال: هو ضربٌ من الاستخفاف، ومصدره الخزي، ورجلٌ خز- قال تعالى:
وهذا أيضا من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفور وفي (يُبْعَثُونَ) ضمير العباد، لأنه معلوم. أو ضمير (الضَّالِّينَ). وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه، يعني: ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33]- وأخزى يقال منهما، وقوله تعالى:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] يحتملهما.
قوله: (وهذا أيضاً من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفورٌ)، ردٌ إلى قوله:"أن استغفار الأنبياء عليهم السلام تواضعٌ منهم، وهضمٌ لأنفسهم"، يعني: أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الذنوب التي تستوجب الاستغفار، لكن استغفارهم لأنفسهم تواضعٌ منهم، ولغيرهم من الضلال إيذانٌ بما علموا أن ذلك الغير مغفورٌ كما في قوله:{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ، فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال:{وَاغْفِرْ لِأَبِي} إلا بعدما ظن أنه خارجٌ من زمرة الضالين منخرطٌ في سلك المغفورين، ولذلك قال:{كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ، لأن قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] تفسيرٌ لهذه الآية. قال القاضي: إن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإيمان تقيةً من نمرود، ولذلك وعده به، أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار.
قوله: (وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه)، عطفٌ تفسيريٌ على قوله:"أو: ضمير الضالين"، يعني: إذا جعل الضمير في {يُبْعَثُونَ} للعباد يكون قوله تعالى: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} من جملة الأدعية السابقة مستقلةً بنفسها، معطوفةٌ عليها كما سبق، وإذا جعل الضمير للضالين يكون من تتمة الاستغفار لأبيه عطفاً على قوله:{وَاغْفِرْ لِأَبِي} فحسب، والأول أوفق، لأن قوله:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} بدلٌ من قوله: {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} ، وهو عامٌ في الضالين وغيرهم.
تخزني يوم يبعث الضالون وأبي فيهم. (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ): إلا حال من أتى الله (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وهو من قولهم:
تحيّة بينهم ضرب وجيع
وما ثوابه إلا السيف. وبيانه: أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: ماله وبنوه: سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي من قوله: تحية بينهم ضربٌ وجيع)، أي: من أسلوب نفي الشيء على المبالغة، يعني: إن عد الضرب تحيةً، فتحيتهم ذلك. قال صاحب "المفتاح":{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} : مقدرٌ على حذف المضاف، وهو إلا سلامة من أتى الله مدلولاً عليه بقرائن الكلام، منزلة السلامة المضافة منزلة المال والبنين بطريق قولهم: عتاب فلانٍ السيف، وأنيسه الأصداء. وقال الذبياني:
وقفت فيها أصيلالاً أسائلها
…
عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا أواري
…
البيت
أراد: إن كان الأرى يعد أحداً فلا أحد فيه إلا إياه، فالمعنى: يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا سلامة القلب إن عد مالاً وبنين، ولا ارتياب في أنها ليست بمالٍ ولا بنين، فإذاً لا ينفع مالٌ ولا بنون البتة.
قوله: (وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى)، أي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعلتهما نوعين لجنس الغنى، كما جعلهما الله تعالى في معنى الزينة في قوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، ولما ناسب سلامة القلب هذا المعنى، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، أدخلته فيهما ثم أخرجت بالاستثناء أحد أنواع هذا الجنس، وهو سلامة القلب، ومنه ما روينا عن أحمد بن حنبلٍ والترمذي وابن ماجه، عن ثوبان رضي الله عنه قال: لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية، قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو علمنا أي المال خيرٌ اتخذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفضل المال لسانٌ ذاكر، وقلبٌ شاكر، وزوجةٌ صالحةٌ تعين المؤمن على إيمانه".
والوجهان متقاربان، والفرق هو أن القصد في الأول نفي المدعى على البت بإثبات ما يقابله ويناقضه، والقصد في الثاني إدخاله في جنس ما يخالفه لمعنى مجازيٍّ يشتركان فيه، ثم إخراجه منه، وسيجيء تحقيق هذا الأسلوب، والاختلاف فيه في النمل إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، والله أعلم.
ويمكن أن يحمل على معنى الزينة، بأن يقال: يوم لا ينفع زينةٌ قط إلا زينة من حلي قلبه بالإخلاص، وبالرضا عن الله تعالى، كقوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} [الكهف: 46]، إذ المعنى بالباقيات: ما يبقى لصاحبه من الأعمال ولم يجعله هباء منثوراً بالرياء والسمعة، ولذلك أوثر لفظة "أتى"، كما في قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل: 89]، أي: لم يتركها للغير رياءً، وكما تستدعي كلمة "خير" إدخال الباقيات في معنى الزينة، كذلك توجب كلمة "إلا" إدخال سلامة القلب في حكم {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} المعبران بالزينة. روى السلمي عن بعضهم: علامة سلامة القلب أن يرى راضياً عن اله تعالى في جميع الأفعال غير متخلل قلبه خلافه بكل حال. وقال أبو عثمان: وهو على أربع منازل: السلامة عن الشرك، وعن الأهواء المضلة، وعن الرياء والعجب، وعن ذكر كل شيءٍ سوى الله تعالى.
كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، ولا بدّ لك مع ذلك من تقدير المضاف؛ وهو الحال، والمراد بها سلامة القلب، وليست هي من جنس المال والبنين، حتى يؤوّل المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب. ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. وقد جعل (مَنْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولابد لك مع ذلك من تقدير المضاف)، يعني: إنك إن حملت الاستثناء على الانقطاع فلا تستغني عن تقدير المضاف، كما أنك ما استغنيت في الاتصال من تقدير حالٍ، أي سلامة، أو غنى.
قوله: (ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى)، قال صاحب "التقريب": إذ شرط المنقطع: أن يصح إسناد الفعل الأول إليه ولا يدخل في المستثنى منه. قيل: فيه نظرٌ، لأنا إذا قدرنا المضاف يكون التقدير: لكن حال من أتى الله بقلبٍ سليم ينفعه، ويستقيم المعنى، وكذلك لو لم يقدر، ويكون التقدير: لكن من أتى الله بقلبٍ سليم ينفعه حاله، يستقيم المعنى. وإذا استقام المعنى على التقديرين بناءً على أنه لابد في الاستثناء المنقطع من جعل إلا بمعنى لكن، وتقدير الخبر بعد ذلك، فلا يتعين تقدير المضاف، ولا يفسد المعنى إذا لم يقدر، ويؤيده قول أبي البقاء: أي: لكن من أتى الله يسلم أو ينتفع.
وقلت: لكن مراد المصنف من قوله: "ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى" شيءٌ آخر، وهو أن المذكور بعد حرف الاستثناء كلمة {مَنْ} ، وهو بمعنى النفس أو الشخص، وليس المعنى أن نفس الآتي تنفعه، أو تنفع أحداً بالدفع أو الشفاعة أو النصرة، لكن المعنى: لا ينفعه إلا سلامة قلبه، فلابد من التأويل كيف ما كان، ويدل على أن المستدعي للمضاف لفظ {مَنْ} قوله: "وقد جعل {مَنْ} مفعولاً لـ {يَنْفَعُ} ، لأن على هذا التأويل لا يحتاج إلى تقدير المضاف، كأنه قيل: لا ينفع مالٌ ولا بنون أحداً إلا رجلاً سليم قلبه مع ماله. قال أبو البقاء: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ} متصلٌ، وفي موضع نصب بدلاً من المحذوف،
مفعولا لـ (يَنفَعُ)، أي: لا ينفع مال ولا بنون، إلا رجلا سلم قلبه مع ماله؛ حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع. ويجوز على هذا (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من فتنة المال والبنين. ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي، ومما أكرم الله تعالى به خليله ونبه على جلالة محله في الإخلاص: أن حكى استثناءه هذا حكاية راضٍ بإصابته فيه، ثم جعله صفة له في قوله:(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الصافات: 84]. ومن بدع التفاسير: تفسير بعضهم السليم باللديغ من خشية الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو استثناءً منه، أي: لا ينفع مالٌ ولا بنون أحداً إلا من أتى، والمعنى أن المال إذا صرف في وجوه البر، والبنين الصالحين ينتفع بهم من نسب إليهم وإلى صلاحهم، أو: هو في موضع رفع على البدل من فاعل {يَنْفَعُ} وغلب من يعقل، والتقدير: إلا مال من، أو بنو من، فإنه ينفع نفسه أو غيره بالشفاعة.
قوله: (ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي)، قال الإمام: المراد: سلامة القلب عن الجهل، والأخلاق الرذيلة، وكما أن صحة البدن وسلامته: عبارةٌ عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاج والتركيب والاتصال، ومرضه: عبارةٌ عن زوال إحدى تلك الأمور، كذلك سلامة القلب: عبارةٌ عن حصول ما ينبغي له، وهو العلم والخلق الفاضل، ومرضه: عبارةٌ عن زوال أحدهما، والمعنى: بقلبٍ سليم الخالي عن العقائد الفاسدة، والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها. ويتبع الأعمال الصالحات، إذ من علامة سلامة القلب تأثيره إلى الجوارح.
قوله: (تفسير بعضهم السليم باللديغ)، في "حقائق السلمي" عن بعض العارفين: السليم في لسان العرب: اللديغ، واللديغ هو القلق المزعج، فكأنه يقول: قلبٌ لا يهدأ من الجزع والتضرع من مخافة القطيعة.
وقول آخر: هو الذي سَلِمَ وسَلَّم وأسْلَمَ وسَالَم واستَسْلَم. وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع على تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا أن يكون حجة، ثم صوّر المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدّد نعمته، من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين، ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقولٌ آخر)، يجوز أن يحمل على بدع التفاسير، لأن التفسير الصحيح شرطه أن يكون مطابقاً للفظ من حيث الاستعمال، سليماً من التكلف، عرياً عن التعسف، أراد هذا المفسر أن قوله تعالى:{بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} مطابق، والمقام يقتضي الحمل على معانٍ متعددة، سلم، سلم، وأسلم، وسالم، واستسلم، أي: سلم من الشرك والمعاصي، وسلم نفسه وابنه لحكم الله عز وجل، وسالم أولياء الله تعالى وحارب أعداءه، وأسلم حيث نظر فعرف من قوله تعالى:{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، واستسلم: انقاد لله تعالى وأذعن لعبادته.
قوله: (ثم أنحى على آلهتهم). الأساس: انتحاه: قصده، وأنحى عليه باللوائم: إذا أقبل عليه. وعن بعضهم: وحقيقته الإتيان من ناحية، وعلى هذا قراءة من قرأ:"فاليوم ننجيك ببدنك" أي: نلقيك على ناحية من قارعة الطريق.
قوله: (ثم صور المسألة في نفسه)، يعني في قوله:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} كما قال: قال: "عدوٌ لي" تصوير للمسألة في نفسه على معنى: أني فكرت في نفسي، إلى آخره، ومعنى قوله:"حتى تخلص منها": أنه جعل تصوير المسألة كالتخلص إلى ثناء الله تعالى وحمده وتعظيم شأنه وتعديد آلائه وهو قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى آخره.
وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
[(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ* وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ* فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ* وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ)].
الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها، والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها: قال الله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)[ق: 31]، وقال:(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)[الملك: 27]، يجمع عليهم الغموم كلها والحسرات، فتجعل النار بمرأى منهم، فيهلكون غما في كل لحظة، ويوبخون على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وتمني الكرة)، عطفٌ على "الندم والحسرة"، والمراد بالدفع في قوله:"وما يدفع إليه المشركون" هو قوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي: لا ينفع شيءٌ قط، إلا الندم على ما فوتوا على أنفسهم من الإتيان بسلامة القلب، وإلا الحسرة على ما كانوا عليه من الضلال، ولا يمنيهم الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويتعظوا، ومن ثم ختمت هذه القصة بقوله:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، إلى قوله:{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وهذه الطريقة إنما تحسن على رأي صاحب "المفتاح"، وذلك أن يحمل قوله:{لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} على معنى لا ينفع شيءٌ ما حمل قولك: لا ينفع زيدٌ ولا عمروٌ، على معنى: لا ينفع إنسانٌ ما.
قوله: (فتجعل النار بمرأى منهم)، إلى آخره، تفصيلٌ لقوله:"تجمع عليهم الغموم كلها"، والفاء في "فيهلكون غمًا": للتسبيب لأن النظر إلى النار سببٌ للغم، وفي "فيقال لهم": للتعقيب، أي: إذا قصد التوبيخ يقال ذلك القول. وقوله: "لأنهم وآلهتهم" وقوله: "وقود النار" تعليلٌ لقوله: "يوبخون"، أي: يقال لهم: أين آلهتكم؟ وهي حاضرةٌ معهم
إشراكهم، فيقال لهم: أين آلهتكم؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم؟ أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم؟ لأنهم وآلهتهم وقود النار، وهو قوله:(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ) أي: الآلهة (وَالْغاوُونَ): وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم. والكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقرّ في قعرها، اللهم أجرنا منها يا خير مستجار. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ): شياطينه، أو متبعوه من عصاة الجن والإنس.
[(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ* تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ* فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ* فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم. ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين. والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم: رؤساؤهم وكبراؤهم، كقوله:(رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)[الأحزاب: 67]، وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في النار، للتوبيخ، وفي معنى قوله:{هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} الترقي والمبالغة، أي: كيف يخلصونكم من عذاب النار، بل كيف يقدرون على خلاص أنفسهم منها؟ فوضع ينتصرون، وهو من انتصر منه، أي: انتقم، موضع الاستخلاص مبالغةً وتهكماً. وقوله:"وهو قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} بيانٌ لمعنى قوله: أنهم وآلهتهم وقود النار". قال الواحدي: وقيل لهم في ذلك اليوم على وجه التوبيخ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} أي: يمنعونكم من العذاب {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} يمتنعون منه؟ ثم يؤمر بهم فيلقون في النار، فكذلك قوله تعالى:{فَكُبْكِبُوا فِيهَا} .
قوله: (يجوز أن ينطق اله تعالى الأصنام)، يعني: أن الضمير في {قَالُوا} للأصنام والغاوين وجنود إبليس، يدل عليه قوله تعالى:{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
السدّي: الأوّلون الذين اقتدينا بهم. وعن ابن جريج: إبليس، وابن آدم القاتل، لأنه أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي. (فَمَا لَنَا مِنْ شافِعِينَ) كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين (وَلا صَدِيقٍ) كما نرى لهم أصدقاء، لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون. وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، قال الله تعالى:(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67]؛ أو: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ* ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء، لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أنّ الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع، لأنّ ما لا ينفع: حكمه حكم المعدوم.
والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو أرادوا: أنهم وقعوا في مهلكةٍ)، يريد: دل مجموع قولهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} على سبيل الكناية وأخذ الزبدة على الإيقاع في المهلكة، ثم الفرق بين الوجوه الثلاثة أنهم- في الأول- نفوا ابتداءً الشفعاء والأصدقاء رأساً، كما قال:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} كما نرى للمؤمنين، ولا صديق كما نرى لهم، وفي الثاني: أثبتوا في الدنيا شفعاء وأصدقاء، فلما أضلوهما هناك نفوهما، وفي الثالث: وجدوهما حاضرين هنالك، لكن حين لم ينفعونهم جعلوهما كالمعدومين، لأن ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم، وقد فسر بالوجوه الثلاثة قوله:{أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22].
قوله: (والحميم: من الاحتمام، وهو الاهتمام)، النهاية: وفي حديث أبي بكرٍ رضي الله عنه: أن أبا الأعور السلمي قال له: "إنا جئناك في غير محمة"، يقال: أحمت الحاجة: إذا أهمت ولزمت.
الراغب: الحميم: الماء الشديد الحرارة، قال تعالى:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} [محمد: 15]، وسمي العرق حميماً على التشبيه. وقوله تعالى:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فهو
وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخاص. فإن قلت: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق. ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته، رحمة له وحسبة، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة. وأما الصديق - وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك - فأعز من بيض الأنوق. وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق: الجمع. الكرّة: الرجعة إلى الدنيا. ولو في مثل هذا الموضع في معنى التمني، كأنه قيل: فليت لنا كرة. وذلك لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القريب المشفق، فكأنه الذي يحتد حماية لذويه، واحتم فلانٌ لفلان: احتد، وذلك أبلغ من اهتم، لما فيه من معنى الاحتمام، وعبر عن الموت بالحمام كقولهم: حم كذا، أي قدر، والحمى سميت بذلك إما لما فيها من الحرارة المفرطة، وعلى ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه:"الحمى من فيح جهنم"، وإما لما يعرض فيه من الحميم، أي العرق، وإما لكونها من أمارات الموت، لقولهم: الحمى بريد الموت، وقيل: باب الموت.
قوله: (أو من الحامة بمعنى الخاصة)، الأساس: وهو مولاي الأحم، أي: الأخص والأحب.
قوله: (فأعز من بيض الأنوق)، الجوهري: الأنوق، على فعول: طائرٌ وهو الرخمة، وفي المثل: أعز عن بيض الأنوق، لأنها تحرزه ولا يكاد يظفر بها، لأن أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة.
قوله: (لما بين معنيي "لو" و"ليت" من التلاقي في التقدير)، بيانٌ لوجه العلاقة، يعني: كما يقدر بـ "لو" غير الواقع، نحو: لو كان لي مالٌ لحججت، يقدر بـ "ليت" غير الواقع،
ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب، وهو: لفعلنا كيت وكيت.
[(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)].
القوم: مؤنثة، وتصغيرها قويمة. ونظير قوله (الْمُرْسَلِينَ) - والمراد نوح عليه السلام: قولك: فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد. قيل: .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نحو: ليت الشباب يعود، وإنما الفرق أن الثاني يستعمل في طلب ما لا يمكن حصوله حقيقةً، قال صاحب "المفتاح": إذا قلت: لو يأتيني زيدٌ فيحدثني، بالنصب، طالباً لحصول الوقوع فيما يفيد "لو" من تقدير غير الواقع واقعاً، وكذا التمني، فعلى هذا:{فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} منصوبٌ على جواب التمني.
قوله: (ويجوز أن تكون على أصلها)، أي: على الامتناع، فعلى هذا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} معطوفٌ على {كَرَّةً} ، أي: لو أن لنا أن نكر فنكون، أي: فأن نكون، قاله أبو البقاء، وعن بعضهم: قوله: {فَنَكُونَ} في تقدير المصدر عطفاً عى "أن"، أي: لو ثبت حصول الكرة فنكون من المؤمنين لفعلنا.
قوله: (ونظير قوله: {الْمُرْسَلِينَ}
…
قولك: فلان)، مبتدأٌ وخبر. قال صاحب "الانتصاف": من كذاب نبياً واحداً فقد كذب وجه دلالة معجزته على الصدق، وهذا مشتركٌ بين الجميع، فمن كذب واحداً فقد كذب الجميع، وهو معنى قوله عز وجل:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: إنهم لما كذبوا نوحاً ومن قبله كذبوا إرسال الله أصلاً، كأنهم كذبوا المرسلين، ولما أنكروا إرسال نوح عليه السلام كأنهم منكرون المرسلين.
(أَخُوهُمْ)، لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون: يا واحدا منهم. ومنه بيت "الحماسة":
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النّائبات على ما قال برهانا
كان أمينا فيهم مشهورا بالأمانة، كمحمد صلوات الله عليه وسلامه في قريش. (وَأَطِيعُونِ) في نصحي لكم وفيما أدعوكم إليه من الحق. (عَلَيْهِ): على هذا الأمر، وعلى ما أنا فيه، يعنى: دعاءه ونصحه ومعنى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ): فاتقوا الله في طاعتي، وكرره ليؤكده عليهم ويقرّره في نفوسهم، مع تعليق كل واحد منهما بعلة، جعل علة الأوّل كونه أمينا فيما بينهم، وفي الثاني حسم طمعه عنهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يسألون أخاهم)، البيت، يندبهم: أي: يدعوهم، يقول: لا يسألون من يدعوهم إلى الإغاثة حجةً، ولا يراجعونه في كيفية ما ألجاؤا إليهم فيه، لكنهم يعجلون الإغاثة، وعن بعضهم: الأخوة إما في الدين أو في النسب أو في النسب أو في الشبه، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال تعالى:{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] أي: شبيهتها في الإعجاز.
قوله: (جعل علة الأول كونه أميناً فيما بينهم)، يعني: لما قال عليه السلام: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} رتب عليه {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، يعني: إذا كنت رسولاً من عند الله تعالى يجب عليكم أن تعرفوا من أرسلني إليكم، ومن لوازم المعرفة الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وإذا كنت أميناً يجب عليكم أن تطعيوني، لأن نصحي لا يكون عن غدرٍ وخيانة، ولما قال:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} رتب عليه أيضاً {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، يعني: من يدعوكم إلى ما ينفعكم دنيا وديناً بلا شائبة طمع
[(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)].
وقرئ: (وأَتْباعُك) جمع تابع، كشاهد وأشهاد. أو جمع تبع، كبطل وأبطال. والواو للحال. وحقها أن يضمر بعدها "قَدْ" في:(واتَّبَعَكَ). وقد جمع الأرذل على الصحة وعلى التكسير في قوله: (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا)[هود: 27] والرذالة والنذالة: الخسة والدناءة. وإنما استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا. وقيل: كانوا من أهل الصناعات الدنية، كالحياكة والحجامة. والصناعة لا تزري بالديانة، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجب عليكم طاعته، وإذا كان رب العالمين هو الذي يكفل أجره يجب عليكم شكره والحذر من كفران نعمته، والله تعالى أعلم.
قوله: (وقرئ: "وأتباعك")، قال ابن جني: قرأها ابن مسعودٍ والضحاك وابن السميفع، وفيها وجهان، أحدها:"أتباعك": مرفوعٌ بالابتداء، و"الأرذلون": الخبر، وثانيهما: أن يكون "أتباعك" معطوفاً على الضمير في "نؤمن"، أي: نؤمن بك وأتباعك الأرذلون؟ والأرذلون: وصفٌ لـ "أتباعك"، ويجوز العطف لوقوع الفصل بقوله {لَكَ} .
قوله: (والصناعة لا تزري بالديانة)، أنشد أبو العتاهية في المعنى:
وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصهٌ
…
إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
قوله: (حتى صارت من سماتهم)، أي: صارت متابعة من اتضع نسبه وقل نصيبه من الدنيا من أمارات من اتسم بسمة النبوة وعلامات من انتصب لمنصب الرسالة.
قوله: (ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان) روينا عن البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: ضعفاء الناس وأراذلهم قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك؟ وعن ابن عباس: هم الغاغة. وعن عكرمة: الحاكة والأساكفة. وعن مقاتل: السفلة.
[(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ* وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)].
(وَمَا عِلْمِي وأى شيء علمى؟ والمراد: انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله واطلاعه على سر أمرهم وباطنه. وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا - مع استرذالهم - في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله: (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّايِ)[هود: 27]. ويجوز ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبينا أنا في الشام إذ جئ بكتابٍ من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فقال هرقل: هل هاهنا أحدٌ من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيٌ؟ قالوا: نعم، فدعيت في نفرٍ من قريش فأجلسوني بين يديه، وأصحابي خلفي، ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، إلى أن قال: اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، وساق الحديث إلى أن قال: سألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أو أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل. هذا مختصٌر من حديثٍ طويل.
قوله: (الغاغة)، الجوهري: الغاغة من الناس هم الكثير المختلطون، وعن بعضهم: الغاغة: السفلة يصخبون في الفتن الناس، ونعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا.
قوله: (الأساكفة)، الأساس: هو إسكافٌ من الأساكفة، وهو الخراز، وقيل: كل صانع.
قوله: ({بَادِيَ الرَّايِ})، بغير همز، أي: ظاهره، من بدا، أي: ظهر. ويهمز، أي: قلدوك بديهةً من غير تفكرٍ وتروٍّ.
أن يتغابى لهم نوح عليه السلام. فيفسر قولهم: الأرذلين، بما هو الرذالة عنده، من سوء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن يتغابى لهم نوحٌ عليه السلام، النهاية: الغبي: القليل الفطنة، وقد غبي يغبى غباوةً، ومن حديث علي: تغاب عن كل ما لا يصح لك، أي: تغافل، وفي معناه أنشد صاحب "المفتاح":
أتت تشتكي عندي مزاولة القرى
…
وقد رأت الضيفان ينحون منزلي
فقلت- كأني ما سمعت كلامها-:
…
هم الضيف جدي في قراهم وعجلي
وعن بعضهم: التغابي من أخلاق الكرام، والتجاهل من أخلاق السفهاء، قال:
ليس الغبي بسيدٍ في قومه
…
لكن سيد قومه المتغابي
وفي الحديث: "عظموا أقداركم بالتغابي"، وذلك أنهم لما قالوا:{وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} ، وعنوا الذين لا نسب لهم ولا نصيب من الدنيا، خيل لهم أنهم عنوا بالأراذل: من لا إخلاص له من العمل، ولم يؤمن عن نظرٍ وبصيرة، فأجابهم بقوله:{وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} ، أي: ما علمي بإخلاص أعمال الأراذل، ولا لي اطلاعٌ على سرائرهم إن كان لهم عملٌ سيءٌ أو حسنٌ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، كأنه أراهم أنه ما عرف من الأراذل والأنذال إلا ذلك، ونحوه سبق في قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"سأزيد على السبعين"، ثم جاءه بقوله:{لَوْ تَشْعُرُونَ} تتميماً لما خطأهم فيه، وإليه الإشارة بقوله:"وقصد بذلك رد اعتقادهم وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً"، قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم، ثم يبنى جوابه على ذلك فيقول: ما علىّ إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش عن أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم عمل سيئ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر لا محاسب ولا مجاز (لَوْ تَشْعُرُونَ) ذلك، ولكنكم تجهلون فتنساقون مع الجهل حيث سيركم، وقصد بذلك ردّ اعتقادهم وإنكار أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى. (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) يريد: ليس من شأني أن أتبع شهواتكم وأطيب نفوسكم بطرد المؤمنين الذين صح إيمانهم طمعا في إيمانكم، وما علىّ إلا أن أنذركم إنذارا بينا بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل، ثم أنتم أعلم بشأنكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا، التعريف في {الْأَرْذَلُونَ}: للجنس، وعلى الأول: للعهد، لما كان بين نبي الله صلى الله عليه وسلم وبين القوم ناس أراذل بادي الرأي بزعمهم، ولذلك استشهد بقوله:{إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّايِ} [هود: 27].
قوله: (رذلاً)، بسكون الذال المعجمة. الجوهري: الرذل: الدون الخسيس.
قوله: (فإن الغنى غنى الدين)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس".
قوله: (ليس من شأني أن أتبع شهواتكم)، يريد أن إيلاء الضمير حرف النفي في قوله تعالى:{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} ، نحو قوله:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]، دل على أنهم زعموا أنه موصوفٌ بصفتين، إحدا هما: اتباع أهوائهم بطرد المؤمنين، لأجل أن يؤمنوا. وثانيتهما: أنه نذيرٌ مبين، لأنه جوابٌ عن قولهم:{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} فقصر الحكم على الثاني دون الأول، وإليه الإشارة بقوله: ما علي إلا أن أنذركم إنذاراً مبيناً، إلى قوله:"ثم أنتم أعلم بشأنكم".
[(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ* قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
ليس هذا بإخبار بالتكذيب، لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أنى لا أدعوك عليهم لما غاظونى وآذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك، فاحكم (بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ). والفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم، لأنه يفتح المستغلق كما سمي فيصلا، لأنه يفصل بين الخصومات. الفلك: السفينة، وجمعه فلك: قال الله تعالى: (وتَرَى الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ)[فاطر: 12]؛ فالواحد بوزن قفل، والجمع بوزن أسد، كسروا فعلا على فعل، كما كسروا فعلا على فعل، لأنهما أخوان في قولك: العَرَب والعُرْب، والرَّشَد والرُّشْد. فقالوا: أَسَد وأُسْد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ليس هذا بإخبار بالتكذيب)، يعني قوله تعالى:{رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} وذلك أنما لما توعدوا بقولهم: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} كان من حق الظاهر أن يقول: يا رب، إن قومي أوعدوني بأن يرجموني، لكن رفع حصة نفسه من البين، ورفع قصة ما يتعلق با لدين، وقال: يا رب، إني لا أدعوك عليهم لما أوعدوني بالرجم، وإنما أدعوك لأنهم كذبوني في وحيك، وإلى هذ المعنى أشار قوله تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وما روينا عن البخاري ومسلم ومالكٍ وأبي داود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم.
قوله: (لأنهما أخوان)، ذكر أبو علي في "القصريات" أن الضمة في "فعل" منزلةٌ
وفلك وفلك. ونظيره: بعير هجان، وإبل هجان. ودرع دلاص. ودروع دلاص، فالواحد بوزن كناز، والجمع بوزن كرام. والمشحون: المملوء. يقال: شحنها عليهم خيلا ورجالا.
[(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)].
قرئ: (بِكُلِّ رِيعٍ) بالكسر والفتح: وهو المكان المرتفع. قال المسيب بن علس:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منزلة الفتحتين في "فعل"، يعني: أن الضمة التي هي أثقل الحركات قائمةٌ مقام ثنتين خفيفتين.
قوله: (دروعٌ دلاصٌ)، الأساس: درعٌ دلاصٌ ودلامص، ودروعٌ دلاصٌ ودلص: ملساء براقة.
قوله: (فالواحد بوزن كناز)، الأساس: وكنز التمر: الوعاء. وكنزت الجراب فاكتنز، إذا ملأته جداً، وناقةٌ كناز اللحم.
قوله: (فالواحد بوزن كناز)، الأساس: وكنز التمر: الوعاء. وكنزت الجراب فاكتنز، إذا ملأته جداً، وناقةٌ كناز اللحم.
قوله: (شحنها عليهم خيلاً)، الضمير للمدينة. الجوهري: شحنت البلد بالخيل: ملأته.
قوله: (وهو المكان المرتفع)، الراغب: الريع: المكان المرتفع الذي يبدو من بعيد، الواحدة ريعةٌ، وريعان كل شيء: أوائله التي تبدو، وفيه استعير الريع للزيادة والارتفاع الحاصل.
قوله: (قال المسيب)، المسيب: صح بكسر الياء، وهو خال الأعشى، سمي مسيباً
في الآل يرفعها ويخفضها
…
ريع يلوح كأنّه سحل
ومنه قولهم: كم ريع أرضك؟ وهو ارتفاعها. والآية: العلم وكانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم. فاتخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك، لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم.
وعن مجاهد: بنوا بكل ريع بروج الحمام. والمصانع: مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ترجون الخلود في الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن [أباه] استرعاه إبلاً فسيبها وأبهل أصرتها، فقال له: سيبت إبلي، فسمي مسيباً.
قوله: (في الآل يرفعها)، اليبت، علس، بفتح العين المهملة: ضربٌ من الحنطة، تكون حبتان في قشرةٍ. الجوهري: العلس: القراد الضخم، وبه سمي الرجل. يصف الشاعر ظعناً.
الآل: السراب، والسحل: الثوب لا يبرم غزله. الجوهري: السحل: ثوبٌ أبيض من الكرسف من ثياب اليمن.
قوله: (لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم)، الانتصاف: وليس بعبثٍ، لأن الحاجة قد تدعو إليه لغيم مطبق أو غيره.
قوله: (وقيل: القصور المشيدة والحصون)، هذا أظهر من العبث من المصانع، لقوله:{لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} . قال الإمام: البناء على المرتفع إنما كان مذموماً لدلالته على السرف والخيلاء، واتخاذ القصور لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر، لا دار مقر.
أو تشبه حالكم حال من يخلد. وفي حرف أبي: (كأَنَّكم). وقرئ: (تُخلَدون) بضم التاء مخففا ومشددا (وَإِذا بَطَشْتُمْ) بسوط أو سيف كان ذلك ظلما وعلوا، وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن: تبادرون تعجيل العذاب، لا تتثبتون متفكرين في العواقب.
[(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)].
بالغ في تنبيههم على نعم الله، حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال:(أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ)، ثم عدّدها عليهم وعرّفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته، وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تشبه حالكم حال من يخلد)، لعل هذا واردٌ على الاستعارة التمثيلية، نزل فعلهم منزلة الرجاء، كما في قوله تعالى:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44]، قال: "اذهبا على رجائكما وطعمكما، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله.
قوله: (كان ذلك ظلماً وعلواً)، فيه أن قوله تعالى:{بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} جزاءٌ لقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ} ، فأتى بالجزاء نفس الشرط للمبالغة، وأوقع {جَبَّارِينَ} حالاً من الضمير المرفوع في {بَطَشْتُمْ}. قال القاضي:{بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي: متسلطين غاشمين بلا رأفةٍ ولا قصد تأديبٍ ونظرٍ في العاقبة، وهو معنى قوله:"يتبادرون في تعجيل العذاب" أي: تعذيب الناس.
قوله: (وأنه كما قدر)، عطفٌ على "تعديد"، أي: عرفهم المنعم بأنه كما قدر، أشار بهذا إلى اتصال قوله:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بما قبله.
النعمة، فهو قادر على الثواب والعقاب، فاتقوه. ونحوه قوله تعالى:(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)[آل عمران: 30]. فإن قلت: كيف قرن البنين بالأنعام؟ قلت: هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها.
[(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ* إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ* وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
فإن قلت: لو قيل أَوَعَظْتَ أو لم تعظ، كان أخصر. والمعنى واحد. قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق، لأنّ المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه، من قولك: أم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونحوه قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ})، يعني: ضم وصف القهارية مع وصف الرحمانية.
قوله: (كيف قرن البنين بالأنعام)، يعني: الجمع بينهما كالجمع بين البنين والأنعام، وأجاب: أنهم كانوا أصحاب مواشٍ، وجل اهتمامهم بشأنها، محتاجين إلى من يعينهم على حفظها فمن عليهم بالبنين لذلك، كما أن قوم نوح عليه السلام كانوا أرباب بساتين وسائر الأموال قيل لهم:{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12].
قوله: (لأن المراد: سواءٌ علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلًا من أهله)، يعني: أتوا في طرف الإثبات بالفعل الصريح الذي دل على حصوله منه مرةً، وفي النفي باسم الفاعل على الاستغراق، نفوا أن يكون من زمرة من حصل منهم هذا الفعل، واستهزأوا فيه، أي: سواءٌ علينا أجددت الوعظ أم استمررت على ما كنت عليه من الإمساك عنه والخمول فيه. واعلم أن في أكثر النسخ: "أو لم تعظ"، بحرف الترديد، والصواب "أم" كما هو في بعض النسخ.
لم تعظ. من قرأ: (خَلْقُ الأوّلين) بالفتح، فمعناه: أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين وتخرّصهم، كما قالوا:
(أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ). أو: ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية، نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب. ومن قرأ:(خُلُقُ) بضمتين، وبواحدة، فمعناه. ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم، كانوا يدينونه ويعتقدونه، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت الإعادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يلفقون مثله ويسطرونه.
[(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن الحاجب في الفصل بين "أو" و"أم"- في قولك: أزيدٌ عندك أو عمروٌ، وأزيدٌ عندك أم عمروٌ-: إنك في الأول لا تعلم كون أحدهما عنده، فأنت تسأل عنه، وفي الثاني تعلم أن أحدهما عنده إلا أنك لا تعلمه بعينه، فأنت تطالبه بالتعيين. وذكر كلاماً حاصله يؤول إلى أنهم استعملوا الهمزة و"ام" في معنى التسوية مجرداً من غير استفهام، نحو: سواءٌ على أقمت أم قعدت، واستعملوا الجملتين، والثانية معطوفةٌ بـ "أو" في معنى الحال، كقولك: أضرب زيداً قام أو قعد، ثم قال: فمثل ذلك يلتبس فيه موضع "أم" بموضع "أو"، وكثيراً ما ترى في كلام المتأخرين وأشعارهم لا يفرقون بينهما، وشرط استعمال "أم": أن تسبقها الهمزة، واستعمال "أو": أن لا تسبقها الهمزة.
قوله: (خلق الأولين)، بفتح الخاء وسكون اللام: ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائي، وبضمهما: الباقون.
[(بُيُوتاً فارِهِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)].
(أَتُتْرَكُونَ) يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدّعة، (فِي مَا هَاهُنَا): في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله:(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل. فإن قلت: لم قال: (وَنَخْلٍ) بعد قوله: (فِي جَنَّاتِ)، والجنة تتناول النخل أوّل شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج، حتى أنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل، كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل. قال زهير:
......... تسقي جنّة سحقا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والدعة)، الجوهري: الدعة: الخفض، والهاء عوضٌ من الواو، ورجلٌ متدعٌ، أي: صاحب دعةٍ وراحة.
قوله: (وهذا- أيضاً- إجمالٌ ثم تفصيل)، يعني: كما أن قوله: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} مجملٌ، وتفصيله:{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} واردٌ على المبالغة في التنبيه على نعم الله تعالى، كذلك قوله:{فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ} مجملٌ، وتفصيله:{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} واردٌ على المبالغة في التنبيه على نعم الله تعالى، وبهذا ظهر أن الوجه الثاني، وهو أن يكون {أَتُتْرَكُونَ} تذكيراً للنعمة والهمزة للتقرير لا الإنكار والتوبيخ أولى، لأنه أوفق لتأليف النظم.
قوله: (يتناول النعم الإبل كذلك)، أي: يتناول النعم أول شيء الإبل من بين الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام، هذا يختلف باختلاف العرف والأمكنة، وقوم صالح عليه السلام كانوا أعراباً، وأكثر بساتينهم نخيلٌ وأعظم أموالهم إبل.
قوله: (تسقي جنةً سحقا)، أوله:
قلت: فيه وجهان: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر، تنبيها على انفراده عنها بفضله عليها، وأن يريد بالجنات: غيرها من الشجر، لأنّ اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل. الطلعة: هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو. والقنو: اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. والهضيم: اللطيف الضامر، من قولهم: كشح هضيم، وطلع إناث النخل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كأن عيني في غربي مقتلةٍ
…
من النواضح
غربي: دلوي: مقتلة، أي: ناقةٌ مدللة، نخلةٌ سحوقٌ: بعيدة الطول في السماء.
قوله: (لأن اللفظ يصلح لذلك)، لأن {جَنَّاتٍ} مطلقٌ يصلح للكل وللبعض، وقرينة إرادة البعض: عطف {وَنَخْلٍ} عليه.
قوله: (الطلعة: هي التي تطلع من النخلة)، المغرب: الطلع: ما يطلع من النخلة، وهو الكم قبل أن ينشق، ويقال لما يبدو من الكم: طلعٌ أيضاً، وهو شيءٌ أبيض يشبه بلونه الأشنان، وبرائحته المني.
قوله: (شماريخ)، النهاية: العثكال: العذق، وكل غصنٍ من أغصانه شمراخ، وهو الذي عليه البسر، والعرجون: العود الأصفر الذي فيه شماريخ العذق، وهو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف، والواو والنون زائدتان.
المغرب: العذق، بالفتح: النخلة، وبالكسر: الكباسة، وهي عنقود الثمر.
قوله: (والهضيم: اللطيف الضامر)، الراغب: الهضم: شدخ ما فيه رخاوة، يقال: هضمته فانهضم، وذلك كالقصبة المهضومة التي يزمر بها، ومزمارٌ مضهم، وقال تعالى:{وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي: داخلٌ بعضه في بعض، كأنما شدخ، والهاضوم: ما يهضم الطعام وبطنٌ هضوم، وكشحٌ مهضم، وامرأةٌ هضيمة الكشحين.
فيه لطف، وفي طلع الفحاحيل جفاء، وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون، فذكرهم نعمة الله في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه: لأنّ الإناث ولادة التمر، والبرني: أجود التمر وأطيبه ويجوز أن يريد أن نخيلهم أصابت جودة المنابت وسعة الماء، وسلمت من العاهات، فحملت الحمل الكثير، وإذا كثر الحمل هضم، وإذا قل جاء فاخرا. وقيل: الهضيم: اللين النضيج، كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. قرأ الحسن: (وتَنْحَتون) بفتح الحاء. وقرئ: (فَرِهين)، و:(فَارِهِينَ). والفَراهة: الكيس والنشاط. ومنه: خيل فرهة، استعير لامتثال الأمر، وارتسامه طاعة الآمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الفحاحيل)، المغرب: الفحال: واحد فحاحيل النخل خاصةً، وهو: ما يلقح به من ذكر النخل، والفحل عامٌ فيها وفي الحيوان، وجمعه: فحولٌ وفحولة.
قوله: (من طلع اللون)، المغرب: اللون: بفتح اللام: الردئ من التمر، وأهل المدينة يسمون النخل كله ما خلا البرني والعجوة: الألوان، ويقال للنخلة اللينة: اللونة، بالكسر والضم.
قوله: (وإذا قل جاء فاخراً)، الجوهري: نخلةٌ فخورٌ، أي: عظيمة الجذع غليظة السعف. الأساس: رطبٌ فاخرٌ: كبيرٌ ضخم، وتقول: إذا قل التمر جاء فاخراً.
قوله: (وقرئ: "فرهين")، الكوفيون وابن عامر:{فَارِهِينَ} بالألف. والباقون: بغير الألف.
قوله: (استعير لامتثال الأمر وارتسامه طاعة الآمر)، يعني: عدل عن أن يقال: ولا تمثلوا أمر المسرفين، إلى قوله: لا تطيعوا أمر المسرفين، والفرق أن الطاعة إنما تكون
المطاع. أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، والمراد الآمر. ومنه قولهم: لك عليّ إمرة مطاعة. وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا أَمْرِي)[طه: 90]. فإن قلت: ما فائدة قوله: (وَلا يُصْلِحُونَ)؟ قلت: فائدته أنّ فسادهم فساد مصمت ليس معه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
[(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَاتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للآمر لا للأمر كما أن الامتثال يكون للأمر لا للآمر، يقال: أمر زيداً فأطاعه، ويقال: أمره فامتثل أمره. المغرب: امتثل أمره: احتذاه وعمل على مثاله، وقوله: من إعادة محمد بن الحسن رحمه الله في تصانيفه أن يمثل بكتاب الله تعالى، فكأنه ظن أنه بمعنى "يقتدي"، فعداه تعديته.
قوله: "وارتسامه"، الجوهري: رسمت له كذا فارتسمه، أي: امتثله.
قوله: (على المجاز الحكمي)، أي: الإسناد المجازي، قال صاحب "المفتاح": إنما سمي حكميًا لتعلقه بالحكم.
قوله: (لك علي أمرةٌ مطاعة)، الجوهري: معناه: لك علي أمرةٌ أطيعك فيها، وهي المرة الواحدة من الأمر، ولا تقل: إمرةٌ بالكسر، إنما الإمرة من الولاية.
قوله: (فسادٌ مصمتٌ)، المغرب: بابٌ مصمتٌ: مغلق، وحقيقة المصمت: ما لا جوف له، وحائطٌ مصمت: لا فرجة فيه. والتركيب من باب الطرد والعكس، وفائدته التوكيد والمبالغة كما سيجيء في الروم.
المسحر: الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة، وأنه بشر.
[(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ)].
الشرب: النصيب من الماء، نحو السقي والقيت، للحظ من السقي والقوت، وقرئ بالضم.
روى أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا، فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم. وعن أبى موسى: رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعا.
وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء (بِسُوءٍ): بضرب أو عقر أو غير ذلك. عظم اليوم لحلول العذاب فيه .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من السحر: الرئة)، الجوهري:{إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} يقال: المسحر: الذي خلق ذا سحر.
قوله: (وأنه بشرٌ)، عطفٌ- من حيث التفسير- على قوله:"من السحر: الرئة"، وفي كلامه إشعارٌ بأن قولهم:{إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} كنايةٌ عن كونه بشراً، لأن قولهم: هو ذو سحر: كنايةٌ عن الحيوان، وجمعه بالواو والنون يخصه بالبشر، وقيل: هو خبرٌ بعد خبرٍ لقوله: "هو".
قوله: (نحو السقي)، الراغب: يقال للنصيب من السقي، سقيٌ، وللأرض التي تسقى: سقيٌ، لكونهما مفعولين كالنقض.
قوله: (ونتجت سقباً)، الجوهري: السقب: الذكر من ولد الناقة، ولا يقال للأنثى: سقبةٌ، ولكن: حائل.
ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد.
[(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
وروي: أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت: ثم ضربها قدار. وروي: أنّ عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم. فإن قلت: لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ قلت: لم يكن ندمهم ندم تائبين، ولكن ندم خائفين أن يعاقبوا على العقر عقابا عاجلا، كمن يرى في بعض الأمور رأيا فاسدا ويبني عليه، ثم يندم ويتحسر كندامة الكسعي. أو: ندموا ندم تائبين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ووصف اليوم به أبلغ)، لأنه حينئذٍ من باب الكناية.
قوله: (ويتحسر كندامة الكسعي)، أي: كتحسر الكسعي عند الندامة. قال الميداني: هو رجلٌ من كسعة، واسمه محارب بن قيس، أنه كان يرعى إبلاً له بوادٍ معشب، فبصر نبعةً في صخرة، فأعجبته، فجعل يتعهدها، حتى إذا أدركت قطعها واتخذ منها قوساً وخمسة أسهم، ثم خرج حتى أتى موارد خمرٍ فكمن فيها، فمر قطيعٌ فرمى عيراً منها فأنفذ فيه وجازه، وأصاب الجبل فأورى ناراً، فظن أنه أخطأه، هكذا خمس مرات، ثم عمد إلى قوسه فضرب بها حجراً فكسرها، فلما أصبح نظر إلى الحمر مطرحةً حوله، وأسهمه بالدم مضرجةٌ، فندم على كسر القوس، فشد على إبهامه فقطعها، وأنشأ يقول:
ندمت ندامةً لو أن نفسي
…
تطاوعني إذن لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني
…
لعمر أبيك حين كسرت قوسي
ولكن في غير وقت التوبة، وذلك عند معاينة العذاب. وقال عز وجل:(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الآية [النساء: 18]. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد، وهو بعيد. واللام في (العذاب): إشارة إلى (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الشعراء: 156].
[(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتَاتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ* وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ)].
أراد بـ (العَالَمِينَ): الناس، أي: أتأتون من بين أولاد آدم- على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكورهم في الكثرة - ذُكرانهم، كأن الإناث قد أعوزنكم. أو أتأتون أنتم - من بين من عداكم من العالمين - الذكران، يعنى أنكم -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الفرزدق:
ندمت ندامة الكسعي لما
…
غدت مني مطلقةً نوار
وقال آخر:
ندمت ندامة الكسعي لما
…
رأت عيناه ما فعلت يداه
قوله: (ولكن في غير وقت التوبة، وذلك عند معاينة العذاب)، فعلى هذا: الفاء في {فَأَصْبَحُوا} فصيحةٌ، أي: فعقروها فرأوا العذاب فندموا فأخذهم العذاب.
قوله: (ذكرانهم)، نصبٌ مفعول "أتأتون".
قوله: (قد أعوزنكم)، أعوزه الشيء: إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه.
يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة. والعالمون على هذا القول: كل ما ينكح من الحيوان. (مِنْ أَزْواجِكُمْ) يصلح أن يكون تبيينا لـ (مَا خَلَقَ)، وأن يكون للتبعيض، ويراد بـ (مَا خَلَقَ): العضو المباح منهنّ.
وفي قراءة ابن مسعود: (ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم)، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. العادي: المتعدّى في ظلمه، المتجاوز فيه الحدّ، ومعناه: أترتكبون هذه المعصية على عظمها؟ ! (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) في جميع المعاصي، فهذا من جملة ذاك، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والعالمون على هذا [القول]: كل ما ينكح)، أي: الناكح، وعلى الأول: مراده المنكوح، فيختص بالعقلاء، يقال: فلانٌ ناكحٌ بني فلان، أي: ذات الزوج منهم، ونكحها زوجها: وطئها، والنكاح في الوطء حقيقةٌ، وفي التزوج مجاز، ثم إن العالم إما: اسمٌ لذوي العلم، فهو المعنى بقوله:"من عداكم من العالمين"، أو: لكل ما علم به الخالق، فهو المعني به بهذا التفسير، فاختص الأول بالناس، لقرينة {أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ} ، والثاني بالحيوان لتلك القرينة، فـ "من"- على الأول- بيانٌ للذكران، وعلى الثاني: بيانٌ للضمير في {أَتَاتُونَ} ، وعلى الأول يجوز أن يكون تبعيضاً، ذكر في الأعراف في قوله تعالى:{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] أنها تبعيضٌ.
قوله: (وأن يكون للتبعيض، ويراد بـ {مَا خَلَقَ}: العضو المباح)، فـ "من": منصوبٌ: بدلٌ من: {مَا خَلَقَ} : المعنى: أتجمعون بين إتيان الذكران، وترك ما أصلح لكم ربكم من العضو المباح في النساء؟ ويؤيده قراءة ابن مسعودٍ.
قوله: (أو: بل أنتم قومٌ أحقاء بأن توصفوا بالعدوان)، هذا مبنيٌ على أن {عَادُونَ} مطلقٌ، ولا يقال في أي شيءٍ كان عداوتهم، وعلى الأول مجرى على العموم في جميع ما يصح فيه العدوان من المعاصي.
[(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)].
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن نهينا وتقبيح أمرنا (لَتَكُونَنَّ) من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ حال: من تعنيف به، واحتباس لأملاكه. وكما يكون حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه، وكما كان يفعل أهل مكة بمن يريد المهاجرة.
[(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ* رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ* فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ* ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ* وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
و(مِنَ الْقالِينَ) أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قال، كما تقول: فلان من العلماء، فيكون أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم في العلم. ويجوز أن يريد: من الكاملين في قلاكم. والقلى: البغض الشديد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و {مِنَ الْقَالِينَ} أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قالٍ)، الانتصاف: كثيراً ما ورد في القرآن خصوصاً في هذه السورة من التعبير عن الفعل إلى الصفة المشتقة، وجعل الموصوف واحداً من جمع، لأن التعبير بالفعل يفهم وقوعه خاصةً، وأما بالصفة وجعل الموصوف واحداً من جمع، فيفهم أمراً زائداً، وهو جعل ذلك سمةً للموصوف ثابتة التعلق كاللقب المشهور، ولو قلت- مكان قوله تعالى:{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 87]-: رضوا بأن يتخلفوا، لم يزد على الإخبار بتخلفهم، والمتلو {مَعَ الْخَوَالِفِ} ألحقهم لقباً رديئاً وصيرهم نوعاً رذلاً. تم كلامه.
قوله: (ويجوز أن يريد: من الكاملين)، عطفٌ على قوله:"كما تقول: فلانٌ من العلماء"، ومن حيث المعنى اللام: للعهد، وعلى الثاني: للجنس، وأريد: قومٌ مشهورون، لأن الجنس إذا أطلق على بعضه في مقام المدح حمل على الكمال. قال أبو البقاء: تقديره: إني لعملكم
كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد. وفي هذا دليل على عظم المعصية، والمراد: القلى من حيث الدين والتقوى، وقد تقوى همة الدّين في دين الله حتى تقرب كراهته للمعاصي من الكراهة الجبلية. (مِمَّا يَعْمَلُونَ) من عقوبة عملهم وهو الظاهر. ويحتمل أن يريد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقالٍ من القالين، فـ "من": صفةٌ للخبر متعلقةٌ بمحذوف، واللام متعلقةٌ بالخبر المحذوف، وبهذا تخلص من تقديم الصلة على الموصول، إذ لو جعلت {مِنَ الْقَالِينَ} الخبر لأعملته في {لِعَمَلِكُمْ} .
قوله: (من عقوبة عملهم، وهو الظاهر)، وذلك من وجهين، أحدهما: أن استعمال النجاة في الخلاص من العقوبة أظهر من استعماله في العصمة عن الذنوب، وثانيهما: دلالة الدعاء بعد قولهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ} إلى آخره، على أنه عليه السلام حصل على يأسٍ عظيم من إيمان القوم فأذن بأن الإنذار لم يجد فيهم فلم يبق إلا حلول العذاب.
ولابد من تحرير هذا المقام والنظر فيه بحسب تأدية الألفاظ للمعاني الواقعة، والواقع أن القوم هلكوا بعذابين: التدمير، وإمطار الحجارة، كما قال:"المراد بتدميرهم: الائتفاك"، وأما الأمطار، فعن قتادة: أمر الله تعالى على شذاذ القوم حجارةً، ويدل عليه قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]، فإذن لابد من بيان إفادة الفاء في قوله تعالى:{فَنَجَّيْنَاهُ} وإفادة "ثم" في {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ} ، {دَمَّرْنَا} على {فَنَجَّيْنَاهُ} يلزم أن يكون العذاب ثلاثةً، فلابد من تأويل {فَنَجَّيْنَاهُ} إما بمعنى الاستجابة، أي: استجابة التنجية لم تتخلف عن الدعاء، أو تقدير الإرادة حتى يصح العطف، وفي قول المصنف إشعارٌ بأن قوله: ونجيناه المراد منه: التنجية من العذاب الكائن قبل التدمير والإمطار لقوله: "لم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم"، والمعنى على التأويل الصحيح: قال لوطٌ: رب نجني وأهلي مما يعملون، فاستجبنا دعاءه في تنجيته وأهله إلا عجوزاً قدرنا غبورها، ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم.
بالتنجية: العصمة. فإن قلت: فما معنى قوله: (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً)؟ قلت: معناه أنه عصمه وأهله من ذلك إلا العجوز، فإنها كانت غير معصومة منه، لكونها راضية به ومعينة عليه ومحرشة، والراضي بالمعصية في حكم العاصي. فإن قلت: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة، فكيف استثنيت الكافرة منهم: قلت الاستثناء إنما وقع من الأهل وفي هذا الاسم لها معهم شركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان. فإن قلت: (فِي الْغابِرِينَ) صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم قلت: معناه إلا عجوزا مقدّرا غبورها. ومعنى (الْغابِرِينَ): في العذاب والهلاك: غير الناجين. قيل: إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة. والمراد بتدميرهم: الائتفاك بهم، وأمّا الإمطار: فعن قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وعن ابن زيد: لم يرض بالائتفاك حتى أتبعه مطرا من حجارة. وفاعل "ساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ"- ولم يرد بالمنذرين قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذّم محذوف، وهو مطرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قيل: إنها هلكت)، قيل: هو بيانٌ لقوله: "أن معنى الغابرين هو: غير الناجين، لأنها هلكت بما وقعت عليها من الحجارة مع قومها الخارجين من تلك البلدة، وهو المراد بكونها في الغابرين، لا أنها كانت في البلدة الموبقة المنقلبة على أهلها.
قوله: (الائتفاك بهم)، أفكه عن الشيء يأفكه إفكاً: صرفه، وائتفكت البلاد بأهلها: هلكت.
قوله: (شذاذ القوم)، وهم الذين يكونون في القوم وليسوا من قبيلتهم".
قوله: (إنما هو للجنس)، قيل: لأن فاعل "ساء" و"بئس" و"نعم" مشروطٌ بأن يكون جنساً أو مضافاً إلى جنس، ليكون المخصوص بالذم تفسيراً له، فيحصل في الكلام إبهامٌ وتفسير، فيتمكن في الذهن فضل تمكن، ويحصل به مزيد مدح أو ذم.
[(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)].
قرئ: (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) بالهمزة وبتخفيفها، وبالجرّ على الإضافة وهو الوجه. ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة: اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة صاد بغير ألف. وفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} بالهمزة وبتخفيفها)، الحرميان وابن عامر:"أصحاب ليكةً" بلام مفتوحةٍ من غير همزةٍ بعدها ولا ألفٍ قبلها وفتح التاء، والباقون: بالألف واللام مع الهمزة وخفض التاء وتخفيفها، وبالجر على الإضافة: شاذةٌ.
قوله: (ومن قرأ بالنصب وزعم أن "ليكة"- بوزن "ليلة"- اسم بلد، فتوهمٌ)، قال في "الكواشي": هذا تحكمٌ ظاهر، ولعله كان مع آدم عليه السلام حين علم آدم الأسماء كلها وضبطها إلى وقت دعواه.
وقلت: روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه": الأيكة وليكة: الغيضة.
وقال الزجاج: ويجوز- وهو حسنٌ جداً- "ليكة" بغير ألفٍ على الكسر، على أن الأصل: الأيكة، وألقيت الهمزة فقيل: ليكة، وأهل المدينة يفتحون- على ما جاء في "التفسير"- اسم المدينة التي كان أرسل إليهم شعيبٌ عليه السلام. وكان أبو عبيدٍ القاسم بن سلام يختار هذه القراءة، لأن "ليكة" لا تنصرف، وذكر أنه اختارها لموافقة الكتاب مع ما جاء في التفسير: كان المدينة تسمى ليكة، وتسمى الغيضة التي تضم هذا الشجر.
المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب النحو "لان" و "لولى"، على هذه الصورة؛ لبيان لفظ المخفف، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة، على أن ليكة اسم لا يعرف. وروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف، وكان شجرهم الدوم. فإن قلت: هلا قيل: أخوهم شعيب، كما في سائر المواضع؟ قلت: قالوا: إن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة. وفي الحديث: إن شعيبا أخا مدين، أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة.
[(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)].
الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء، ونهى عن المحرّم الذي هو التطفيف، ولم يذكر الزائد، وكأن تركه عن الأمر والنهي دليل على أنه إن فعله فقد أحسن، وإن لم يفعله فلا عليه. قرئ:(بالقسطاس)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما يكتب أصحاب النحو: "لان" و"لولى"، على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف)، قال الزجاج: الأولى بسكون اللام وإثبات الهمزة أجود اللغات، وبعدها "لولى" بضم اللام وطرح الهمزة، والقياس: إذا تحركت اللام أن يسقط ألف الوصل، لأن ألف الوصل إنا اجتلبت لسكون اللام، وقد قرئ:"عاد اللولى" على هذه اللغة، فعلى هذا "لان" أصله: الآن، فألقيت حركة الهمزة الثانية على لام التعريف حين خففت، وحذفت همزتها فصار: لان، ذكر في كتاب "خط المصحف" أن في مصحف عبد الله وأبي:"لولى" بلا همزة.
قوله: (الدوم)، الجوهري: هو شجرة المقل.
مضموماً ومكسورا وهو الميزان وقيل: القرسطون، فإن كان من القسط؛ وهو العدل وجعلت العين مكررة: فوزنه فعلاس، وإلا فهو رباعي. وقيل: وهو بالرومية العدل. يقال: بخسته حقه، إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس: البخس، وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: القرسطون)، قيل: القرسطون: القبان الصغير، وهو لغةٌ رومية.
قوله: (فوزنه: فعلاس)، قيل: فيه نظرٌ، والصواب أن وزنه: فعلاع، لأن التكرير يقتضي أن يوزن بما قبله. فإن قلت: فعل ذلك لعدم "فعلاع" كما قيل في بطنان؟ قلت: ذلك لوجود "فعلان"، نحو عثمان وغفران، وأما فعلاسٌ فلم يوجد أصلاً. وأيضاً فقد نتكلم هنا على فرض كونه من القسط وتكرير العين، فعلى هذا يجب التعبير عنه بما تقدمه جزماً.
فإن قيل: عدول المصنف إلى أن وزنه "فعلاسٌ" إشارةٌ إلى أنه ليس هذا بالحقيقة تكريراً للعين، فإن العين لا تضاعف وحدها مع تخلل اللام، لما يلزم من الفصل الممتنع عندهم، ولذلك قالوا: لا تزاد الفاء وحدها مطلقاً.
قلت: قد صرح بتكرير العين، فكيف يحمل على ذلك، فهو واردٌ عليه من هذا الوجه أيضاً، إلا أن يقال: في عبارته تساهلٌ، على أن الكوفيين يجوزون مثل هذه الزيادة.
قوله: (وهو عامٌ في كل حقٍّ ثبت لأحد)، ففي الكلام ترق، ذكر أولاً الأمر بإيفاء الكيل، وأكده بقوله:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} على الطرد والعكس، ثم ترقى إلى الأمر بالعدل في الموازين فإنها أكثر استعمالاً من المكاييل، ثم جاء بها العام، ثم بأعم منه:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، فإن بخس الأشياء أعم من أن يكون في المكيال أو الميزان، والعثو أعم من تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد، وإليه الإشارة بقوله:"وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزروع".
أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. يقال: عثي في الأرض وعثى وعاث، وذلك نحو: قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع، وكانوا يفعلون ذلك مع توليهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك. وقرئ:(الجُبُلَّة) بوزن الأبلة. و: (الجِبْلة) بوزن الخلقة. ومعناهنّ واحد، أى: ذوى الجبلة، وهو كقولك: والخلق الأوّلين.
[(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ)].
فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وتركها في قصة ثمود؟ قلت: إذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان: كلاهما مناف للرسالة عندهم: التسحير والبشرية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن لا يغصب عليه مالكه)، قال نور الدين الحكيم: هذا الاستعمال غير موافقٍ لما ذكره في "المفصل" في قوله: غصبت عليه الضيعة.
من "الصحاح". الغصب: أخذ الشيء حكماً ظلماً، تقول: غصبته منه، وغصبته عليه. فما في "المفصل" هو الصحيح المعول عليه، والعذر في هذا الاستعمال أنه على تقدير أن لا يغصب مالكه حال كونه متسلطاً عليه شرعاً.
قوله: (وقرئ: "الجبلة")، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن بخلافٍ وأبي حصين.
قوله: (الأبلة)، الجوهري: الأبلة، بالضم وتشديد اللام: الفدرة من التمر، أي القطعة، والأبلة: اسم مدينةٍ إلى جنب البصرة.
قوله: (إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان)، إلى آخره. فإن قلت: هذا بيان خاصية
وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا مثلهم. فإن قلت:"إن" المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظنّ وثاني مفعوليه؟ قلت: أصلهما أن يتفرقا على المبتدأ والخبر، كقولك: إن زيد لمنطلق، فلما كان البابان - أعنى باب "كان" وباب "ظننت"- من جنس باب المبتدأ والخبر، فعل ذلك في البابين فقيل: إن كان زيد لمنطلقا، وإن ظننته لمنطلقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التركيب، فما بيان الأبلغية واختصاص الواو بموضع دون موضع؟ قلت: التركيب بدون الواو في قصة ثمود يفيد التوكيد والتقرير، والقطع بأنه بشرٌ مثلهم، أي: لا ينبغي أن نؤمن برسالاتك إلا بشيء تمتاز به عنا، ولهذا قالوا:{فَاتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، والقوم أنصفوا في الطلب، ولهذا قال:{هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} ، وأما قوم شعيبٍ عليه السلام فإنهم أثبتوا له شيئين: كونه مسحراً، وكونه بشراً مثلهم، كل واحدٍ منهما مستقلٌ في المنع من كونه رسولاً، يعني: نحن وأنت في عدم صلاحية الرسالة لكوننا بشراً سواءٌ، ولك المزيد علينا في كونك مسحراً دوننا، ثم أكدوا ذلك بقولهم:{وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} ، والظن بمعنى اليقين، ولذلك أدخل "إن" واللام. ولما كان هذا الرد أبلغ من الأول ما طلبوا البرهان كما طلبوا، حيث قالوا:{فَاتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، بل قطعوا بما يدل على اليأس من إيمانهم بقولهم:{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} استهزاءً كما قطع قريشٌ بقولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32]، وإلى هذا المعنى رمز بقوله:"ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم"، ثم بين الله تعالى استمرارهم على ما كانوا عليه بقوله:{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ} أي: استمروا على ذلك وكذبوه تكذيباً غب تكذيب، هذا معنى الفاء والتكرير في {فَكَذَّبُوهُ} ، واتصل بذلك عذاب يوم الظلة.
انظر أيها المتأمل في إعجاز التنزيل ومواقع هذه الحروف الثلاثة، أعين: الواو والفاءين، لئلا تغفل عن موقع كل حرف، فتكون أهلاً لأن تخوض فيه، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كان لنهتدي لولا أن هدانا الله.
[(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)].
قرئ: (كِسَفًا) بالسكون والحركة، وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وسدر. وقيل: الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة. وكسفه: قطعه. والسماء: السحاب، أو المظلة. وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم، كالجحود والتكذيب. ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه. والمعنى: إن كنت صادقا أنك نبىّ، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء.
(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ)[الشعراء: 188].
رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) يريد: أنّ الله أعلم بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة.
[(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ومَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ)].
(فَأَخَذَهُمْ) الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: {كِسَفًا} بالسكون والحركة)، بالحركة: حفصٌ، والباقون: بالسكون.
قوله: ({فَأَخَذَهُمْ} الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة)، يعني: الظلة في عذاب يوم الظلة عين السماء في قوله: {كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} فالسماء إن أريد بها السحاب فأخذهم الله تعالى بنحو ما اقترحوا وإن أريد به المظلة فقد خالف بهم.
وقلت: المخالفة أنسب على أن يفسر شعيبٍ عليه السلام على غير ما فسره المصنف بأن يجعل من باب الأسلوب الحكيم، فإنهم حين طلبوا إسقاط الكسف من السماء
وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم. يروى: أنه حبس عنهم الريح سبعا، وسلط عليهم الومد، فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظلّ ولا ماء ولا سرب، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وروي: أنّ شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين، وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. فإن قلت: كيف كرّر في هذه السورة في أوّل كل قصة وآخرها ما كرّر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عناداً وجحوداً، قال: ربي أعلم بعملكم وبما تستحقونه من العذاب، فإنه فوق ما تطلبونه، ولذلك عاقبهم بحبس الريح، وتسليط الوعد، ثم أمطرت عليهم ناراً فاحترقوا كما قال.
قوله: (وسلط عليهم الومد)، الجوهري: الومد والومدة بالتحريك: شدة حر الليل.
قوله: (فأهلكت مدين بصيحة جبريل عليه السلام، قالوا: الصواب: برجفة الأرض، لقوله تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: 91]، والصيحة كانت لقوم صالح عليه السلام، لقوله تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون: 41]، وفيه نظر، لما ورد في سورة الأعراف في حق قوم صالح وشعيب: الرجفة، وفي سورة هود في حقهما: الصيحة.
قوله: (كيف كرر في هذه السورة)، يعني قوله:{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} وفي آخرها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
قوله: (كل واحدةٍ منها تدلي بحق)، الأساس: ومن المجاز: أدلى بحقه وحجته: أحضرها، وأدلى بمال فلانٍ إلى الحكام: رفعه.
به، ولأنّ في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد في النسيان؟ ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو يفتق ذهناً)، من فتق الفجر: انشقاقه، لعله أخذه من قوله تعالى:{كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]، أو من الفتق الذي هو بمعنى الافتضاض تشبيهاً للنكاح بالأبكار.
ذكر من فوائد التكرير وعدها خصالاً ثلاثاً، أولاها: أن الفائدة راجعةٌ إلى القصص وأن كل واحدةٍ منها كافيةٌ في الاعتبار مزجرةٌ للزاجرين.
وثانيتها: الدلالة على أن التكرير في نفسه مفيدٌ ومؤثرٌ في نفسه وبه تحصل الملكات.
وثالثتها: أن الفائدة راجعةٌ إلى المخاطبين ومؤذنةٌ بأنهم من المصممين الذين لا تنجع فيهم المواعظ مرةً أو مرتين، وهذا الوجه هو المقصود في الإيراد في هذه السورة، لأن السورة من مفتتحها إلى مختتمها مشحونةٌ بذكر المعاندين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر القصص لوعيدهم وتسليةً لقلب حبيبة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك لا ينافي اعتبار الفائدتين الأخيرتين، ومن ثم وصل قوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} أي: حفظكه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى حتى اتصل بقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} بياناً لعنادهم، وتقريراً بأن كلاً من القصص مستقلة. قال القاضي:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تقريرٌ لحقيقة تلك القصص، وتنبيهٌ على إعجاز القرآن ونبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله تعالى.
عقلا طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ.
[(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ* وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)].
(وَإِنَّهُ): وإن هذا التنزيل، يعنى: ما نزل من هذه القصص والآيات. والمراد بالتنزيل:
المنزل. والباء في (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ) و (نَزَّلَ به الرُّوحَ) على القراءتين للتعدية. ومعنى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ): جعل الله الروح نازلا به (عَلى قَلْبِكَ) أي: حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى:(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)[الأعلى: 6]. (بِلِسانٍ) إما أنّ يتعلق بـ (المُنذِرِينَ)، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ومحمد عليهم السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على القراءتين للتعدية)، ابن عامرٍ وأبو بكرٍ وحمزة والكسائي:"نزل به" بتشديد الزاي "الروح الأمين" بنصبهما، والباقون: بتخفيف الزاي والرفع للاسمين.
قوله: (ومعنى "نزل به الروح": جعل الله تعالى الروح نازلاً به {عَلَى قَلْبِكَ})، هذا بيان اتصال {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ} بقوله:{لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكيفية التنزيل من رب العالمين، يعني: كان ذلك التنزيل بواسطة ملكٍ مقربٍ مطاع عند ذي العرش مكين، وفيه رمزٌ على قوله بعد ذلك:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ، ثم في تعلق {بِلِسَانٍ} بقوله:{نَزَلَ} تتميمٌ لهذا المعنى، ومن ثم قال: "وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية
…
تنزيلٌ له على قلبك"، وفي اختلاف مجيء {لِسَانَ} من التنكير في التنزيل، والتعريف في التفسير، حيث قال: "المعنى: نزله باللسان العربي" الإشارة إلى أن الأصل التعريف فيه، وأنه للعهد، وأوثر التنكير في التنزيل، ليؤذن بالتعظيم والتفخيم.
وإما أن يتعلق بـ (نَزَلَ)، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي؛ لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمى، لتجافوا عنه أصلا، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به. وفي هذا الوجه: أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفا بعدّة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أو لا ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني الكلام يتلقاها بقلبه ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت، وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان ماهرا بمعرفتها، كان نظره أولا في ألفاظها ثم في معانيها، فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربى مبين. (وَإِنَّهُ): وإن القرآن، يعني: ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية. وقيل: إن معانيه فيها. وبه يحتج لأبي حنيفة رحمه الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: إن معانيه فيها)، وفيه إشعارٌ بأن الوجه هو الأول، لأن المقصود في الإيراد إثبات النبوة، وتقريع المكذبين على أن القرآن المجيد نازلٌ من عند الله نزل به الروح الأمين، وأنه ليس من قبيل إلقاء الجن:{وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ، وفي قوله:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} إيماءٌ على بيان $$$$، وأنه بنفسه دليلٌ بينٌ على حقيقته، ومع ذلك أنه مذكورٌ في كتب الأولين، ومبشرٌ على لسان الأقدمين، ويؤيده قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} والضمير في {يَعْلَمَهُ} راجعٌ إلى القرآن، ولذلك قال:{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ} [القصص: 53]. ولقد أنصف المصنف من نفسه في الفروع في هذا المقام وفي كثيرٍ مما يحاكيه، ليته ما بالغ في الأصول، تجاوز الله تعالى عنه.
وقال صاحب "التقريب": وفي الاحتجاج نظرٌ، لأنه على حذف المضاف، وهو المعاني، لا على تسميتها قرآناً. ولناصر القول الثاني أن يقول: إن الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو هذا بعينه، كرر لإناطة معنى آخر به، وهو بمعنى اسم الإشارة، والمشار إليه ما سبق من القصص والآيات، يدل عليه قوله:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} ، يعني: ما نزل من هذه القصص والآيات، فيكون المعنى: إن هذ المذكور منزلٌ عليك بلسانٍ عربيٍّ مبين ومعانيه
في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية، حيث قيل:(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)؛ لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك في (أَنْ يَعْلَمَهُ)[الشعراء: 197]، وليس بواضح.
[(أَوَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)].
وقرئ: (يَكُنْ) بالتذكير. و (آيَةً) بالنصب على أنها خبره، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) هو الاسم. وقرئ:
(تكن) بالتأنيث، وجعلت (آيَةً) اسماء، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) خبرا، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، وقد خرّج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك، فقيل: في (يَكُنْ) ضمير القصة، و (آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ) جملة واقعة موقع الخبر. ويجوز على هذا أن يكون (لَهُمْ آيَةً) هي جملة الشأن، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدلا عن (آيةٌ). ويجوز مع نصب "الآية" تأنيث (تَكُنْ)، كقوله:(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)[الأنعام: 23] ومنه بيت لبيد:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منزلٌ في سائر الكتب، ولذلك يصدقه علماء بني إسرائيل، حيث وجدوه موافقاً لما في كتبهم. وعلى هذا سائر المعاني من إثبات التوحيد، وتأسيس الأحكام، والحث على مكارم الأخلاق. وأما الاحتجاج به على جواز القراءة بالفارسية فمشكلٌ. والله تعالى أعلم.
قوله: (وقرئ: {يَكُن} بالتذكير)، قرأ ابن عامرٍ بالتاء الفوقانية، و"آيةٌ" بالرفع، والباقون: بالياء والنصب.
قوله: (وقد خرج لها وجهٌ)، في "المطلع): قال أبو علي الفارسي: إذا اجتمع في باب كان معرفةٌ ونكرة، فالذي يجعل الاسم منهما المعرفة كما في المبتدأ والخبر، وقد يجيء على قلبه في الشعر إذا اضطر إليه، ولا يجوز في التنزيل، ووجهه أن في {يَكُن} ضمير القصة، و"آيةٌ": خبر مبتدأٍ متقدم عليه، فالجملة في موضع نصب، كما تقول: كان زيدٌ منطلقٌ، على معنى: كان الأمر هذا.
قوله: (ويجوز مع نصب "الآية" تأنيث "تكن")، لأن المراد بالعلم الآية، كقولهم: من كانت أمك، قال: وإنما أنث لوقوع الخبر مؤنثاً.
فمضى وقدّمها وكانت عادة
…
منه إذا هي عرّدت أقدامها
وقرئ: (تعلمه) بالتاء. عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ: عبد الله بن سلام وغيره. قال الله تعالى: (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)[القصص: 53]. فإن قلت: كيف خط في المصحف (عُلَمَؤا) بواو قبل الألف؟ قلت: خط على لغة من يميل الألف إلى الواو، وعلى هذه اللغة كتبت الصلوة والزكاة والربوا.
[(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ* كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ* فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ* أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ* أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ)].
الأعجم: الذي لا يفصح وفي لسانه عجمة واستعجام. والأعجمي مثله، إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد. وقرأ الحسن:(الأعجميين). ولما كان من يتكلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فمضى وقدمها)، البيت، يصف الحمار والأتان.
وعردت: تأخرت وجبنت، والتعريد: التأخير والجبن، وقيل: الإقدام بمعنى التقدمة، ولذلك أنث فعلها، وقيل: لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه. والاستشهاد في تأنيث الفعل لتأنيث الخبر، وإن كان الاسم، أي: إقدامها، مذكراً، والضمير في إقدامها للأتان. يقول: مضى العير نحو الماء وقدم الأتان لئلا يتأخر، وكانت إقدام الأتان عادةً من العير إذا هي تأخرت عن الجبن.
قوله: (وقرأ الحسن: الأعجميين)، قال: ابن جني: هذه القراءة عذرٌ في القراءة المجتمع عليها، وتفسيرٌ للغرض فيها، وذلك أن ما كان من الصفات على أفعل وأنثاه فعلاء لا يجمع بالواو والنون عجماء، ولكن سببه أنه يريد الأعجميين، ثم حذف ياء النسب، وجعل جمعهما
بلسان غير لسانهم لا يفقهون كلامه، قالوا له: أعجم وأعجمي، شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين، وقالوا لكل ذي صوت من البهائم والطيور وغيرها: أعجم، قال حميد:
ولا عربيّا شاقه صوت أعجما
(سَلَكْناهُ): أدخلناه ومكناه. والمعنى: إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيٍّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالواو والنون دليلاً عليها، وأمارةً لإرادتها كما جعلت صحة الواو في عواور أمارةً لإرادة الياء في عواوير.
قوله: (ولا عربياً شاقه صوت أعجما)، قبله:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامةٌ
…
دعت ساق حرٍّ ترحةً وترنما
تغنت على غصنٍ عشاءً فلم تدع
…
لنائحةٍ في نوحها متندما
عجبت لها أنى يكون غناؤها
…
فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما
ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها
…
ولا عربياً شاقه صوت أعجما
يصف صوت قمري: ساق حر: ذكر القماري. متندماً: لائماً. فغرفاه: أي فتحه، ويقال لكل صوتٍ من البهائم والطيور: أعجم.
قوله: (والمعنى: إنا أنزلنا هذا القرن)، بيانٌ لنظم قوله:{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} بالمعاني السابقة، فقوله:"إنا أنزلنا هذا القرآن على رجلٍ عربي بلسان عربيٍّ مبين" إشارةٌ إلى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} . وقوله: "وإنه معجزٌ لا يعارض بكلام مثله" إشارةٌ إلى قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . وقوله: "وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله" إشارةٌ إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} . وقوله: "ولو نزلناه على بعض الأعاجم" إلى آخره، إشارةٌ إلى الآية الأخيرة، هذا، وإن ظاهر قوله:
بلسان عربي مبين، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على أن البشارة بإنزاله وتحلية المنزل عليه وصفته في كتبهم، وقد تضمنت معانيه وقصصه، وصحّ بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به وجحدوه، وسموه شعرا تارة، وسحرا أخرى، وقالوا: هو من تلفيق محمد وافترائه. (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ) الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فضلا أن يقدر على نظم مثله (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) هكذا فصيحا معجزا متحدّى به، لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا، ولسموه سحرا، ثم قال:(كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي: مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم، وهكذا مكناه وقرّرناه فيها، وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها، فكيفما فعل بهم وصنع وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره، كما قال:(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)[الأنعام: 7]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"مثل ذلك السلك سلكناه في قلوبهم"، وعلى قلوبهم، وقوله:"لا يؤمنون به" موضحٌ لقوله: {نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} مشعرٌ بأن المشار إليه هو قوله: {نَسْلُكُهُ} ، حيث جعله صفة مصدرٍ محذوف، وجعل {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} بياناً له، ولو جعل {كَذَلِكَ} متبدأ، و {نَسْلُكُهُ} الخبر ليكون المشار إليه ما تضمن معنى الآيات السابقة من مفتتح السورة، وهو ما ذكره:"وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به وجحدوه وسموه شعراً"، إلى قوله:"لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم" إلى آخره. وكان قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} استئنافاً لبيان موجب ذلك السلك على مذهب أهل السنة، لجاء النظم غير متعسف. قال القاضي في سورة الحجر: وفيه دليلٌ على انه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم.
قوله: (وتحلية المنزل)، يقال: حليت الرجل تحليةً: وصفت حليته.
فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشدّ التمكن، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح؟ يريدون: تمكن الشحّ فيه، لأنّ الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه: أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه؛ وهو قوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ). فإن قلت: ما موقع (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) من قوله: (سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)؟ قلت: موقعه منه موقع الموضح والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم، فأتبع ما يقرّر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا، أى: سلكناه فيها غير مؤمن به. وقرأ الحسن: (فتأتِيهم) بالتاء يعني: الساعة. و (بَغَتةً) بالتحريك. وفي حرف أبىّ: (ويروه بغتة). فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله: (فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً)(فَيَقُولُوا)؟ قلت: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشدّ منها؛ وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة. ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه: إن أسات مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أنّ مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ )، يعني: إذا رجع الضمير من قوله: {نَسْلُكُهُ} إلى المنزل، كان معناه ما قال:"وعلى مثل هذه الحال، وهذه الصفة وضعناه فيها"، فكيف يجوز إسناده إلى الله تعالى؟ وأجاب: أنه أريد بالإسناد إلى الله الدلالة على تمكن المنزل في قلوبهم حال كونه مكذباً به على سبيل الكناية، فقوله:"مكذباً": حالٌ مؤكدةٌ من الضمير في "تمكنه"، كقوله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الأحقاف: 7]، وقيل: حالٌ مقدرةٌ، وفي "المطلع": الضمير في سلكناه للشرك والتكذيب، قال ابن عباس والحسن وغيرهما: سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب مشركي مكة.
شدّة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشدّ من مقتهم:
وهو مقت الله، وترى "ثمّ" يقع في هذا الأسلوب فيحل موقعه. (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) تبكيت لهم بإنكار وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها؟ ! ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ يوبخون به عند استنظارهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وترى)، أي: وأنت ترى لفظة "ثم"، يريد أن "ثم" إذا وقعت فيما لم يصح فيه معنى ما وضعت له من التراخي في الزمان، حملت على التراخي في الرتبة، ففعل بالفاءين هاهنا، أعني في قوله:{فَيَاتِيَهُمْ} وقوله: {فَيَقُولُوا} حيث لم يستقما أن يجريا على موضوعهما من التعقيب ما فعل بـ "ثم" في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد: 17].
قوله: (تبكيتٌ لهم بإنكارٍ وتهكم)، والتبكيت من بكتة بالحجة، أي: غلبه. البكت: القطع، و"من" في "من النظرة": بيان "ما" في "ما هو فيه"، ومعنى التبكيت: أنه لما قيل: {فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} عقب ذلك بقوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إسكاتاً لهم مع إنكارٍ وتهكم، أي: كيف يستعجلون ما حاله ما ذكر، وهي أنه ما يأتيهم بغتةً، ويسألون عند ذلك الإمهال فلا يمهلون، والعاقل لا يستعجل ما فيه دماره. وهذا معنى التبكيت، لأنه كلامٌ جارٍ على العرف والعادة، والعاقل لا يدفع الكلام المنصف ولهذا قال:"من جنس ما هو [فيه] اليوم النظرة".
قوله: (معرض لعذاب)، أي: منصوبٌ له. الجوهري: وعرضت فلاناً لكذا، فتعرض هو له.
قوله: (يوبخون به عند استنظارهم)، أي: يوبخون يوم القيامة بقوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} حين يطلبون الإمهال بقولهم: هل نحن منظرون؟ و {يَسْتَعْجِلُونَ} على هذا: مضارعٌ وقع موقع الماضي على حكاية الحال الماضية في الدنيا، وكان من حق الظاهر: أفبعذابنا استعجلتم؟
يومئذ، و (يَسْتَعْجِلُونَ) على هذا الوجه حكاية حال ماضية. ووجه آخر: متصل بما بعده، وذلك أنّ استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لا حق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فقال عز وعلا:(أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل؟ ! ثم قال: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم. وعن ميمون بن مهران: أنه لقي الحسن في الطواف، وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية. فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. وقرئ: (يُمْتَعُون) بالتخفيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ووجهٌ آخر: متصلٌ بما بعده)، يعني بقوله:{أَفَرَءَيْتَ} ، ويتم الكلام عند قوله:{نَحْنُ مُنْظَرُونَ} ثم يبتدئ من قوله: {أَفَبِعَذَابِنَا} على تأويل: أتستهزئون فتستعجلون بعذابنا؟ فالفاء في {أَفَبِعَذَابِنَا} عطفٌ على هذا المقدر، وفي {أَفَرَءَيْتَ} للتسبيب، أي: استهزاؤهم ذلك سببٌ لأن يتعجب منهم ويقال لكل سامع: أرأيت إن متعناهم سنين، فإذن الهمزة {أَفَرَءَيْتَ}: مقحمةٌ لمزيد الإنكار والتعجب وعلى الأول الفاء في {أَفَرَءَيْتَ} : عاطفةٌ، عطفت {رأيت} على مقدر، أي: أ×بر فيتعجب؟ والهمزة غير مقحمةٍ فتكون الجملة مستقلة.
قوله: (ثم قال: هب أن الأمر كما يعتقدون)، هو معنى قال تعالى:{أَفَرَءَيْتَ} أي: أخبرني {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} .
قوله: (لقد وعظت فأبلغت)، يعني: هذه الآية من الجوامع في باب الوعظ. روينا عن مسلم، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط، فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة"، الحديث.
[(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ)].
(مُنْذِرُونَ) رسل ينذرونهم (ذِكْرى) منصوبة بمعنى تذكرة، إمّا لأن "أنذَرَ"، و "ذكَّر" متقاربان، فكأنه قيل: مذكرون تذكرة. وإمّا لأنها حال من الضمير في (مُنذِرُونَ)، أي: ينذرونهم ذوي تذكرة. وإمّا لأنها مفعول له، على معنى: أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. أو مرفوعة على أنها خبر مبتدإ محذوف، بمعنى: هذه ذكرى. والجملة اعتراضية. أو صفة بمعنى: منذرون ذوو ذكرى. أو جعلوا ذكرى، لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. ووجه آخر: وهو أن تكون (ذِكْرَى) متعلقة بـ (أَهْلَكْنَا) مفعولا له. والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم، (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فنهلك قوما غير ظالمين. وهذا الوجه عليه المعوّل. فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد (إلَّا) ولم تعزل عنها في قوله: (وَمَا أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)[الحجر: 4]؟ قلت: الأصل عزل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لإمعانهم في التذكرة)، أي: مبالغتهم، كقولك: رجلٌ عدلٌ، ويقال: أمعن الفرس: تباعد في عدوه، وأمعن في السير: أبعد وأسرع.
قوله: (تذكرةً وعبرةً لغيرهم)، الجوهري: العبرة: الاسم من الاعتبار. وعن بعضهم: العبرة: الحالة التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى مرتبة العلم، ولهذا سمي القياس عبرة، ومنه العبارة والعبرة.
قوله: (وهذا الوجه عليه المعول)، أي: الاعتماد، لأنه تعالى لما بين أن أولئك المشركين المستهزئين لا يؤمنون بالكتاب ولا بالرسول حتى يروا العذاب الأليم حين لا تنفعهم الآيات، أتى بهذه الآية بياناً لاستحقاقهم العذاب والاستئصال، وأن يجعلوا نكالاً وعبرة لغيرهم كما جرت سنة الله تعالى في الأمم السالفة والقرون الخالية.
الواو؛ لأن الجملة صفة لـ (قَرْيَةٍ)، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله:(سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)[الكهف: 22].
[(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)].
كانوا يقولون: إنّ محمدا كاهن، وما يتنزل عليه من جنس ما يتنزل به الشياطين على الكهنة، فكذبوا بأنّ ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه، لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء. وقرأ الحسن:(الشياطون)، ووجهه: أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجري الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله، فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا. هذه يبرون ويبرين. وفلسطون وفلسطين. وحقه أن تشتقه من الشيطوطة؛ وهي الهلاك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف)، يعني: ليس افتقار القرية في إهلاكها إلى بعثة الرسول لإلزام الحجة، كافتقارها إلى سبق التقدير، وضرب الأجل، وكم من قريةٍ أهلكت ولم يصل إليها نذيرٌ، نعم، قد يصل إليها إنذارهم.
وقد اعترض صاحب "الفرائد" ومنع صحة دخول الواو بين الصفة والموصوف، وجوابه ما سبق في "الكهف".
قوله: (أن تشتقه من الشيطوطة)، عن بعضهم، أو من شاط، أي: احترق من نار الغضب، وبعضهم جعل نونه أصليةً، قال أمية بن أبي الصلت في وصف سليمان:
أيما شاطنٍ عصاه عكاه
…
ثم يلقى في السجن والأغلال
عكاه: قيده
كما قيل له الباطل. وعن الفرّاء: غلط الشيخ في قراءته: (الشياطون)، ظنّ أنها النون التي على هجاءين، فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتجّ بقول الحسن وصاحبه! - يريد: محمد ابن السميقع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (النون التي على هجاءين)، وفي الحاشية: الكوفيون يسمون جمع السلامة الجمع على هجاءين، أي: ظن أن النون هي النون التي تجيء بعد واو الجمع ويائه. وقال الزجاج: وقرأ الحسن: "وما تنزلت به الشياطون"، وهو غلطٌ عند النحويين، ومخالفٌ للمصحف والقراء.
وقال ابن جني بعد إطنابه في تصحيح هذه القراءة: وعلى كل حال، فـ "الشياطون" غلط.
وقلت: والعجب من المصنف كيف قام على ساق جده في التمحل لهذه القراءة التي ليست تثبت لا روايةً ولا دراية، ويقول:"مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه"، ويتقاعد إذا سمع من الأئمة المشاهير وأعلام المسلمين أدنى خلاف، كابن عامرٍ وحمزة، لاسيما في هذه السورة في "ليكة" عن الحرميين وابن عامر.
قوله: (فقال النضر بن شميل)، قال ابن الأنباري: هو أخذ العلم عن الخليل وعن فصحاء العرب، وأخذ عنه أبو عبيدٍ القاسم بن سلام، وصنف كتباً.
قوله: (بقول العجاج)، هو: عجاج بن رؤبة الراجز السعدي من بني سعد بن تميم.
[(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)].
قد علم أنّ ذلك لا يكون، ولكنه أراد أن يحرّك منه؛ لازدياد الإخلاص والتقوى.
وفيه لطف لسائر المكلفين، كما قال:(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ)[الحاقة: 44]، (فَإن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إلَيْكَ) [يونس: 94]. فيه وجهان: أحدهما أن يؤمر بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، ويبدأ في ذلك بمن هو أولى بالبداءة، ثم بمن يليه. وأن يقدّم إنذارهم على إنذار غيرهم، كما روي عنه عليه السلام: أنه لما دخل مكة قال: "كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأوّل ما أضعه ربا العباس". والثاني: أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، ولا يحابيهم في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كل رباً في الجاهلية موضوع)، روينا عن الترمذي وابن مجاه والدرامي، عن عمرو بن الأحوص، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:"ألا أن كل رباً في الجاهلية موضوعٌ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون".
وعن ابن ماجه والدرامي عن عمر بن الخطاب: أن آخر ما نزل آية الربا. وكذا عن البخاري عن ابن عباس.
قوله: (تحت قدمي)، أي: مهدرٌ. يقول الموادع لصاحبه: اجعل ما سلف تحت قدميك: طأه واقمعه.
قوله: (أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب)، الفرق أن "أفعل" على الأول على بابه، وعلى هذا لمجرد الزيادة، ولذلك قال في الأول:"الأقرب فالأقرب"، وفي الثاني:"القريب للقريب".
الإنذار والتخويف. وروي: أنه صعد الصفا لما نزلت، فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا، وقال:"يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، يا عباس عمّ النبي يا صفية عمة رسول الله، إني لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالى ما شئتم".
وروي: أنه جمع بني عبد المطلب- وهم يومئذ أربعون رجلا: الرجل منهم يأكل الجذعة، ويشرب العس- على رجل شاة وقعب من لبن، فأكلوا وشربوا حتى صدروا، ثم أنذرهم فقال:"يا بني عبد المطلب، لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقى؟ " قالوا: نعم. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
وروي: أنه قال: "يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، افتدوا أنفسكم من النار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وروي: أنه صعد الصفا)، الحديث مرويٌ عن الأئمة مع اختلافٍ كثير، وأما حديث جمع بني عبد المطلب قد ذكره أحمد بن حنبلٍ في "مسنده" مع اختلافٍ أيضاً. وأما ذكر عائشة وحفصة في الرواية الأخيرة فيتوهم أنهما كانتا زوجين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ، وليس كذلك، فإنه صلوات الله وسلامه عليه تزوج بهما بعد قدومه المدينة.
قوله: (يا عباس عم النبي صلى الله عليه وسلم)، ترقى في القريب من العم وإلى العمة في الأشخاص، كما ترقى من بني عبد المطلب إلى بني منافٍ في القبيلة.
قوله: (ويشرب العس)، الجوهري: العس: القدح العظيم، والرفد أكبر منه. والقصب: قدحٌ صغير. و"على رجل": متعلقٌ بـ "جمع".
فإني لا أغني عنكم شيئا"، ثم قال: "يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد، اشترين أنفسكنّ من النار فإني لا أغني عنكنّ شيئا".
[(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)].
الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب. ومنه قول بعضهم:
وأنت الشّهير بخفض الجناح
…
فلا تك في رفعه أجدلا
ينهاه عن التكبر بعد التواضع. فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإني لا أغني عنكم)، أي: لا أدفع، قال تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21].
قوله: (مثلاً)، أي: صارت الاستعارة التمثيلية لكثرة استعمالها مثلاً في التواضع، وبلغ مبلغ الأمثال السائرة.
قوله: (وأنت الشهير)، أي: المشهور بالتواضع. الأجدل: الصقر، لجدالته، أي: قوته.
قوله: (المتبعون للرسول هم المؤمنون)، توجيه السؤال أن قوله:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ظاهراً غير صالح لأن يقع بياناً لقوله تعالى: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ} ، لأن {لِمَنِ اتَّبَعَكَ} لا إبهام فيه، ولا يحتمل غير المؤمنين.
هم المتبعون للرسول، فما قوله:(لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؟ قلت: فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين؛ لمشارفتهم ذلك، وأن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدّق واتبع رسول الله فيما جاء به، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب، ثم إمّا أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح. والمعنى: من المؤمنين من عشيرتك وغيرهم، يعني: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، فإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره.
[(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ* إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)].
(وَتَوَكَّلْ) على الله يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأجاب من وجهين: أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد، بل شارفوا لأن يؤمنوا، كالمؤلفة مجازاً باعتبار ما يؤول، وكان من اتبعك شائعاً فيمن آمن حقيقةً، ومن آمن مجازاً، فبين بقوله:{مِنَ} أن المراد بهم المشارفون، أي: تواضع لهؤلاء استمالةً وتأليفاً.
وثانيهما: أن يراد بالمؤمنين: الذين قالوا: آمنا، وهم صنفان: صنفٌ صدق واتبع، وصنفٌ ما وجد منهم إلا التصديق، فقيل: من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا، أي: تواضع لهم محبةً ومودةً، فـ "من"- على الأول: بيانٌ، وعلى الثاني: تبعيضٌ، وموقعه موقع البدل {لِمَنِ اتَّبَعَكَ} ، والتقدير: واخفض جناحك لبعض المؤمنين، وهم الذين اتبعوك، ومن ثم فصلهم بقوله:"فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، فإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم". والذي هو أجرى على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر، وأن الأصل:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ} منهم، فعدل إلى "المؤمنين"، ليعم وليؤذن أن صفة الإيمان هي التي تستحق أن يكرم صاحبها، ويتواضع لأجلها من اتصف بها، سواءٌ كان من عشيرتك أو من غيرهم.
والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره. وقالوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره)، هذا موافقٌ لكلام الشيخ العارف الأنصاري: التوكل: كلة الأمر كله إلى مالكه، والتعويل على وكالته. لكن قوله الآخر:"المتوكل: من إن دهمه أمرٌ لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصيةٌ لله" من أحط مراتب التوكل وأدناها. وقال العارف: التوكل على ثلاث درجات، كلها تسير مسير العامة، الأولى: التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس ونفع الخلق وترك الدعوى. والثانية: التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن السبب اجتهاداً في تصحيح التوكل، وقمع تشرف النفس، وتفرغاً لحفظ الواجبات. والثالثة: التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل، وهو أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء ملكة عزةٍ لا يشاركه فيها مشار: ، فيكل شركته إليه، فإن من ضرورة العبودية أن يعلم العبد أن الحق هو مالك الأشياء وحده. وعنى بقوله:"مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل": أن يعلم أن الله تعالى لم يترك أمراً مهملاً، بل فرغ من الأشياء كلها وقدرها، وإن اختلف منها شيءٌ في العقول، أو تشوش في المحسوس، أو اضطراب في المعهود المدبر، وشأنه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمتوكل: من أراح نفسه من كد النظر، ومطالعة السبب، سكوناً إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين، وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع، ومتى طالع بتوكله عوضاً كان توكله مدخولاً، وقصده معلولاً، وإذا خلص من رق هذه الأسباب، ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله عز وجل، كفاه الله تعالى كل مهم.
وإلى المرتبة الأولى الإشارة بترتب الأمر بالتوكل على وصف الرحيم، فإن من رحمته تعالى جعله صلوات الله وسلامه عليه سبباً لإرشاد الخلق:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً}
المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة ثم سأل غيره خلاصه، لم يخرج من حد التوكل، لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله. وفي مصاحف أهل المدينة والشام:(فتوكل)، وبه قرأ نافع وابن عامر، وله محملان في العطف: أن يعطف على (فَقُلْ)[الشعراء: 216]، أو (فَلا تَدْعُ) [الشعراء: 213]. (عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ): على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو من أسباب الرحمة: وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سر أمرهم، وكيف يعبدون الله، وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى: أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون؛ لحرصه عليهم وعلى ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[الأنبياء: 107]، وإلى المرتبة الثانية الإشارة بقوله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} ، أي: حين تتفرغ لأداء حفظ الواجبات، لأن في حفظ الواجبات تصحيح أمر التوكل، وفي الإخلاص فيها، بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، المومى إليك بقوله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، فمع تشرف النفس، وإلى الرتبة الثالثة الإشارة بقوله تعالى:{الْعَزِيزِ} ، كما قال العارف:"أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء ملكة عزة، لا يشاركه فيها مشاركٌ". ولعل السر في تقديم هذا الاسم على الوصفين الأخيرين اقتضاء مقام التسلي عن المشاق اللاحقة من القوم إليه، لأن قوله:{وَتَوَكَّلْ} عطفٌ على قوله: {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ، كأنه قيل: فإن لم ينتفعوا بإنذارك ولم ينجع فيهم وعظك تبرأ منهم، وكل أمرك وأمرهم إلى العزيز الغالب القاهر، واشتغل بدعوة من يقبل دعوتك، وبلغ إليهم ما أنزل إليك من الرحمة من ربك، واخفض جناحك لهم رحمةً، لأنك رحمةٌ مهداةٌ إلى الخلق، وتفرغ لعبادة ربك بالليل والنهار.
قوله: (حين نسخ فرض قيام الليل)، أي: بقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] أي: أسقط عنكم.
يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بـ (السَّاجِدِينَ): المصلُّون. وقيل: معناه: يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة. وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمّهم. وعن مقاتل: أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال: لا تَحضُرُني، فتلا له هذه الآية. ويحتمل أنه: لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله (الْعَلِيمُ) بما تنويه وتعمله. وقيل: هو تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، من قوله عليه السلام: «أتموا الركوع والسجود، فو الله إني لأراكم من خلف ظهري إذا ركعتم وسجدتم". وقرئ:(ويُقَلِّبُك).
[(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ)].
(كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ): هم الكهنة والمتنبئة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من دندنتهم)، في "الفائق": الدندنة: كلامٌ أرفع من الهينمة تردده في صدرك تسمع نغمته ولا يفهم.
قوله: (قوله: إني لأراكم خلف ظهري)، روينا في "صحيح البخاري" عن أنسٍ، قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال:"أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري". وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"استووا، استووا، فو الذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي".
كشقّ، وسطيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كشق وسطيح)، وهما كاهنان، ومسيلمة وطليحة متنبيان.
فأما شقٌ فهو ابن صعب بن رهم بن نذير بن بشير. وقصته- على ما رواه الشيخ أبو الوفاء المهدي بن محمدٍ البغدادي في كتاب "مقامات العلماء": أن ربيعة بن نصر اللخمي، من ملوك اليمن، رأى رؤيا هالته، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا منجماً من أهل مملكته إلا جمعهم إليه، ثم قال لهم: أخبروني بتأويل رؤيا رأيته، فقالوا: اقصص علينا نخبرك، فقال: لم يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها، فقال رجلٌ من أولئك القوم: إن كان الملك يريد هذا فليبعث على سطيح وشق، فأحضر الملك الشق، فقال الملك: أخبرني رؤياي: فإنك إن أصبتها تأويلها. قال: رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهامة فأكلت منها كل ذاتٍ جمجمة. قال له: ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. قال الملك: وأبيك يا شق، إن هذا لنا لغائظٌ موجع، فمتى هو كائنٌ، أفي زماني أم بعده؟ قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيمٌ ذو شأن، ويذيقهم اشد الهوان. قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: غلامٌ ليس بدنيٍّ ولا بذيء، يخرج من بيت ذي يزن، قال: فهل يدوم ملكه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسولٍ مرسل يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل؟ قال: يومٌ تجزى فيه الولاة يدعى فيه من السماء بدعواتٍ يسمعها الأحياء والأموات، قال: أحقٌ ما تقول يا شق؟ قال: ورب السماء والأرض وما بينهما إن ما أنبأتك به لحقٌ، وكان قد قدم على الملك سطيحٌ قبله فأخبره بنحو ما أخبره شقٌ لا يختلف إلا في ألفاظٍ، منها: قوله: بل ينقطع، قال: ومن يقطع؟ قال: نبيٌ زكيٌ يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: ومن هذا النبي؟ قال: رجلٌ من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر؟ يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يومٌ يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون، قال: أحقٌ ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما نبأتك لحق، فلما فرغ الملك
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مسألتهما وقع في نفسه أن الذي قالا له كائنٌ من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق فسكنوا الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نضرٍ كان النعمان بن المنذر.
وأما سطيحٌ فهو ابن ربيعة بن عدي بن مسعود بن مازن، وحديثه على ما رواه ابن الجوزي في كتاب "الوفا"، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفةً، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فأصبح كسرى فزعاً مما رأى، فتصبر تشجعاً، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره، وجمعهم إليه، فقال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا، فبيناهم كذل ك إذ ورد خبر خمود النار، فازداد غماً إلى غمه، فقال: الموبذان: وأنا، أصلح الله تعالى الملك، قد رأيت في هذه الليلة، وقص عليه الرؤيا، فقال: ماذا يكون هذا يا موبذان؟ قال: حادثٌ يكون من عند العرب، فكتب كسرى إلى النعمان: أما بعد، فوجه إلى رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله، فوجه إليه عبد المسيح الغساني، فلما قدم عليه قال: هل عندك علمٌ بما أريد أن أسالك عنه؟ فقال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علمٌ أخبرته، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارف الشام يقال له: سطيح، قال: فأته فاسأله عما سألتك عنه وائتني بجوابه، فركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر جواباً، فأنشد أبياتاً، فلما سمع سطيحٌ شعره رفع رأسه، وقال: عبد المسيح على جملٍ مشيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح بعثك ملك ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وذكرها بعينها ثم قال: يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي سماوة، وغاصت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوكٌ وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت، ثم قضى سطيحٌ مكانه، فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال:
ومسيلمة، وطليحة (يُلْقُونَ السَّمْعَ): هم الشياطين، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع أي: المسموع من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى أن يملك منا أربعة عشر قد كانت أمورٌ. فملك منهم عشرةٌ أربع سنين، وملك باقون إلى خلافه عثمان رضي الله تعالى عنه.
وأما طليحة فقد روى محيي السنة: هو طليحة بن خويلد بن الوليد، وكان طليحة آخر من ارتد وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من قتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الردة، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه فهزمهم بعد قتال شديد، وأفلت طليحة، فمر على وجهه هارباً نحو الشام. ثم إنه أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه.
وأما مسيلمة فقد روى أيضاً محيي السنة أنه قال: اسمه ثمامة بن قيس، وكان قد تنبأ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر، وزعم أنه اشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكتب: من مسيلمة رسول الله إلى محمدٍ رسول الله، أما بعد: إن الأرض نصفها لي، ونصفها لك، فأجاب صلوات الله وسلامه عليه:"من محمدٍ رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين". فبعث أبو بكرٍ رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى مسيلمة في جيشٍ كثير حتى أهلكه الله تعالى على يد وحشي، وكان وحشيٌ يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام، والله تعالى أعلم.
الملائكة. وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم. أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، وترى أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا. وفي الحديث:"الكلمة يخطفها الجنىّ فيقرّها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة". والقرّ: الصبّ. فإن قلت: كيف دخل حرف الجرّ على "مَن" المتضمنة لمعنى الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام؟ ألا ترى إلى قولك: أعلى زيد مررت؟ ولا تقول: على أزيد مررت؟ قلت: ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا: معنى الاسم، ومعنى الحرف، وإنما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الكلمة يحفظها- ويروى: يخطفها- الجني)، الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: سأل ناسٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم:"ليسوا بشيء". قالوا: يا رسول الله، ف إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة.
النهاية: الخطف: استلاب الشيء وأخذه بسرعة، ومنه حديث الجن: يخطفون السمع، أي: يسترقونه ويستلبونه. والقر: ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه، تقول: قررته فيه أقره قراً، وقر الدجاجة: صوتها إذا قطعته. وفي حديث: "فيأتي بها إلى الكاهن فيقرها في أذنه كما تقر القارورة، إذا أفرغ فيها". وهذا المعنى هو الذي عناه المصنف بقوله: "والقر: الصب".
معناه: أن الأصل أمن، فحذف حرف الاستفهام واستمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من "هل"، والأصل: أهل. قال:
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟
فإذا أدخلت حرف الجرّ على "مَن" فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ في ضميرك، كأنك تقول:
أعلى من تنزّل الشياطين، كقولك: أعلى زيد مررت. فإن قلت: (يُلْقُونَ) ما محله؟ قلت:
يجوز أن يكون في محل النصب على الحال، أي: تنزل ملقين السمع، وفي محل الجرّ صفة لـ (كُلِّ أَفَّاكٍ)، لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف، كأن قائلا قال: لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت. فإن قلت: كيف قيل: (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) بعد ما قضي عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟ )، أوله:
سائل فوارس يربوع بشدتنا
يربوعٌ: أبو حيٍّ من تميم، بشدتنا، بفتح الشين: حملتنا وصدمتنا. وقد شد عليه في الحرب يشد شداً، ويروى بكسرها، أي: قوتنا، وسفح الجبل: أسفله، والقاع: المستوي من الأرض، والأكمة: التل، والجمع: آكامٌ وأكمٌ، ولا يجوز أن يجعل "هل" للاستفهام، لأن حرف الاستفهام لا يدخل على حرف الاستفهام.
قوله: (فإذا أدخلت حرف الجر على "من" فقدر الهمزة قبل حرف الجر)، قال صاحب "الفرائد": يشكل ما ذكر بقولهم: من أين أنت ومن أين جئت؟ وقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} ، وقولهم: فيم، وبم، ومم، وحتام، ونحوها. ويمكن أن يقال: لا اعتبار لتقدم حرف الجر، وقولهم: له صدر الكلام المراد: تقدمه على ما كان، وكذا في الكلام، كقولك: أين زيدٌ، لا يجوز أن تقول: زيدٌ أين، أو مفعولاً من المفاعيل، كقولك: أزيداً ضربت، ولا تقول: ضربت زيداً، ولا: ضربت متى، ولا: ضربت أين؟
الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت:(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ)[الشعراء: 192]، (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) [الشعراء: 210]، (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) لم فرق بينهنّ وهنّ أخوات؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالكذب)، يريد أن "فعالاً" فيه دلالةٌ على التكثير لا الاستغراق، فنبه أولاً بقوله تعالى:{تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} على أن الشياطين ينزلون على من دأبه الإفك والكذب. ثم بين ثانياً بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} على أن أكثر هؤلاء الأفاكين بناءً على دأبهم وعادتهم يفترون على الشياطين فيما يتلقون منهم، لأنهم يزيدون على ما يسمعون كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة.
ويجوز أن يرجع الضمير في "أكثرهم" إلى الشياطين، والحديث يحتمله أيضاً، قال القاضي:{وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فيما يوحون به إليهم، أو يسمعونهم لا على وجه ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام، لشرارتهم، أو لقصور فهمهم.
قوله: (لم فرق بينهن وهن أخواتٌ)، يعني: أن هذه الآيات الثلاث نازلةٌ في شأن القرآن، وفيما ينبغي أن يقال فيه وما لا ينبغي، فلم لم تجئ على نسقٍ واحدٍ ولم يقل:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، فإنها واردةٌ على وتيرةٍ واحدة؟ ولم فرق بينهن بآياتٍ متباعدة المعاني؟ وحاصل المعنى: أنها كالتراجيع للمعاني التي تخللت بينهن، فإن قوله تعالى:{لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كالترجيع من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما بدئ منه في فاتحة السورة من ذكر الكتاب وتكذيب القوم له. وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} مذكورٌ بعد إهلاك القرى المنذرة. وقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} مسوقٌ بعد النهي عن إدعاء غير الله
قلت: أريد التفريق بينهنّ بآيات ليست في معناهنّ، ليرجع إلى المجيء بهنّ وتطرية ذكر ما فيهنّ كرّة بعد كرّة: فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها. ومثاله: أن يحدّث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه.
[(والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)].
(وَالشُّعَراءُ) مبتدأ. و (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) خبره: ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض، والقدح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى إلهاً، وكل هذه الآيات متدانية المعاني في نفسها، لكنها تبعد مناسبتها ظاهراً عن معنى تلك الآيات الثلاث، والترجيع كما علم يستدعي شدة الاتصال بما رجع به إليها، فدل ذلك على شدة الكراهية لما نزلت الآيات فيه، وهو إنكار قريش أن القرآن ليس من عند الله، وأنه من جنس ما كان ينزل على الكهنة والشعراء. وروي عن المصنف: أن العبارة المتداولة في قولنا: اشتدت كراهة الله تعالى لخلافها، أي: لأجل خلافها اشتدت العناية بذكره، فاحترز عنها في حق الله تعالى.
قوله: (وتطرية ذكر)، تطرية السيف: محادثته بالصقل وتعهده به، قال زهيرٌ:
أحادثه بصقلٍ كل يوم
…
وأعجمه بهامات الرجال
قوله: (أن يحدث الرجل بحديث، وفي صدره اهتمامٌ بشيءٍ منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه)، وقلت: هذا المعنى هو الذي اعتمدنا عليه في أكثر ما تصدينا لنظم السور، فليكن على ذكرٍ منك، والله تعالى أعلم.
قوله: (ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم
…
إلا الغاوون)، هذا الحصر يفيده بناء
في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل، والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{يَتَّبِعُهُمُ} على "الشعراء" على تقوي الحكم، واللام في "الشعراء" و {الْغَاوُونَ}: للجنس، فإن مثل هذا التركيب عند المؤلف يفيد الاختصاص. وقال في المزمل في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20]: "وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه، يقدر: هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير" وقد سبق مراراً ويعضده قراءة عيسى بن عمر: "الشعراء" بالنصب على شريطة التفسير، فإنها تدل على التكرير والتأكيد، وربما دل على التخصيص لتقدير العامل بعد المنصوب، وإلى معنى هذا الحصر ينظر قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، ومن ثم ناسب أن يعقب بهذه الآية قوله تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، لأنه حديث أمر الوحي كما سبق، وجل منصب الرسالة عن الشعر، وعظم منزلة أمته من الغواية، وهذا معنى قوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} .
قوله: (والنسب بالحرم والغزل)، الجوهري: نسب الشاعر بالمرأة، ينسب- بالكسر- نسيباً: إذا شبب بها، ومغازلةً النساء: محادثتهن ومراودتهن، تقول: غازلتها وغازلتني، والاسم الغزل. وحرمة الرجل: أهله، والحرم: النساء، قال:
والموت أكرم نزالٍ على الحرم
قوله: (والابتهار)، الجوهري: الابتهار: ادعاء الشيء كذباً، قال:
وما بي أن مدحتهم ابتهار
وابتهر فلانٌ بفلانة: اشتهر بها.
يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل: الغاوون: الراوون. وقيل: الشياطين، وقيل: هم شعراء قريش: عبد الله بن الزبعرى، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحىّ. ومن ثقيف: أمية ابن أبي الصلت. قالوا: نحن نقول مثل قول محمد - وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم. وقرأ عيسى بن عمر:(والشعراء) بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حبّ النصب. قرأ: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)[المسد: 4]، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [المائدة: 38]، و (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور: 1]. وقرئ: (يَتْبَعُهم) على التخفيف. و (يَتَّبِعْهم) بسكون العين تشبيها لـ "بَعُهَ" بـ "عَضُد".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلا الغاوون والسفهاء)، قال: الزجاج: يتبعهم الغاوون من الناس، فإذا هجا الشاعر بما لا يجوز، هوي قومٌ ذلك فأحبوه، وإذا مدح بما ليس في الممدوح أحب ذلك قومٌ وتابعوه، فهم الغاوون.
قوله: (الغاوون: الراوون)، روى محيي السنة: الغاوون هم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين.
قله: (وقرئ: "يتبعهم" على التخفيف)، نافع:"يتبعهم" بتخفيف التاء وفتح الباء، والباقون: بفتح التاء وتشديدها وكسر الباء.
قوله: (تشبيهاً لـ "بعه")، بفتح الباء أو كسرها وضم العين، حكايةً لبعض حروف يتبعهم. ويروى عن المصنف أنه قال: لما غيروا الضمة في "عضد" واقعةً بعد الفتحة، فلأن يغيروها واقعةً بعد الكسرة أولى.
ذكر الوادي والهيوم: فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حدّ القصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وأن يبهتوا البرىّ، ويفسقوا التقي. وعن الفرزدق: أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبىّ مصرّعات
…
وبت أفض أغلاق الختام
فقال: قد وجب عليك الحدّ، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحدّ بقوله: (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ).
[(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)].
استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذكر الوادي والهيوم فيه تمثيلٌ لذهابهم في كل شعبٍ من القول)، قال القاضي: وذلك أن أكثر مقدماتهم خيالاتٌ لا حقيقة لها، وأكثر كلماتهم في النسيب والابتهار وتمزيق الأعراض والوعد الكاذب والافتخار بالباطل.
قوله: (فبتن بجانبي)، البيت، أوله:
دفعن إلي لم يطمثن قبلي
…
وهن أصح من بيض النعام
ثلاثٌ واثنتان فهن خمسٌ
…
وسادسةٌ تميل إلى شمام
طمث الجارية، أي: افتضها.
وصلحاء الأمة، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم. قال الله تعالى:(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)[النساء: 148]، وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى:(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)[البقرة: 194]. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله: أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل: المراد بالمستثنين: عبد الله بن رواحة، وحسان ابن ثابت، والذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة قريش. وعن كعب بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل"، وكان يقول لحسان:"قل وروح القدس معك".
ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ينافحون)، بالحاء المهملة. النهاية: في الحديث: "نافح عني"، أي: دافع عني، والمنافحة والمكافحة: المدافعة. يريد بمنافحته: هجاء المشركين ومجاوبتهم عن أشعارهم.
قوله: (وعن كعب بن مالكٍ)، روي في "شرح السنة" عن كعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل.
قوله: (قل وروح القدس معك)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا أنكى لقلوب المتأمّلين ولا أصدع لأكباد المتدبرين، وذلك قوله:(وَسَيَعْلَمُ) وما فيه من الوعيد البليغ، وقوله:(الَّذِينَ ظَلَمُوا) وإطلاقه. وقوله: (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وإبهامه، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه، وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدّتها.
وتفسير الظلم بالكفر تعليل، ولأن تخاف فتبلغ الأمن خير من أن تأمن فتبلغ الخوف. وقرأ ابن عباس:(أي منفلت ينفلتون) ومعناها: إن الذين ظلموا يطمعون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا أنكى)، النهاية: يقال: نكيت في العدو أنكى نكايةً، إذا أكثرت فيه الجراح والقتل، فوهنوا لذلك، وقد يهمز، يقال: نكأت القرحة أنكأها: إذا قشرتها.
قوله: (وقد تلاها أبو بكر لعمر حين عهد إليه)، روي أنه لما أيس أبو بكرٍ من حياته استكتب عثمان رضي الله عنه كتاب العهد: هذا ما عهد ابن أبي قحافة إلى المؤمنين في الحال التي يؤمن فيه الكافر، ثم قال بعدما غشي عليه وأفاق: إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن عدل فذلك ظني فيه، وإن لم يعدل فسيعلم الذين ظلموا.
قوله: (ويتناذرون)، بالذال المعجمة. الأساس: هو نذيرة القوم: طليعتهم الذي ينذرهم العدو، وتناذروا: خوف بعضهم بعضاً، قال النابعة:
تناذرها الراقون من سوء سمها
قوله: (وتفسير الظلم بالكفر تعليلٌ)، يعني: أن الذي فسر قوله تعالى: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالذين كفروا يتعلل بـ "عسى"، ولعله يريد أهل السنة لأنه يسميهم المرجئة، كما أنهم يسمونهم بالوعيدية، ويقال: وعلله بالشيء، أي: لهاه به، كما يعلل الصبي بشيءٍ من الطعام يتجزأ به من اللبن، يقال: فلانٌ يعلل نفسه بتعلة، وتعلل به، أي: تلهى وتجزأ، يريد: أن تفسير الظلم بالكفر ليس بجيد، لأدائه إلى سهولة أمر الظالم.
أن ينفلتوا من عذاب الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات؛ وهو النجاة: اللهم اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وعلم أن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا، والله أعلم بالصواب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: سياق الآية بعد ذكر المشركين الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لقي منهم من الشدائد كما مر في أول السورة يؤيد قول أهل السنة، وروى محيي السنة:{الَّذِينَ ظَلَمُوا} : أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام: إنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلائل ومن أخبار الأنبياء عليهم السلام، ثم ذكر مقالات المشركين في تسميته تارةً بالكاهن، وأخرى بالشاعر، بين الفرق بينه وبين الكاهن، ثم بينه وبين الشاعر، ثم ختم السورة بهذا التهديد العظيم. والله تعالى أعلم.
تمت السورة
حامداً لله ومصلياً على رسوله
* * *
سورة النمل
مكية وهي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون
بسم الله الرحمن الرحيم
[(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ* هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)].
(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) قرئ بالتفخيم والإمالة، و (تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين: إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن؛ فهو يبينه للناظرين فيه إبانة. وإما السورة.
وإما القرآن، وإبانتهما: أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة النمل
مكيةٌ، وهي ثلاثٌ وتسعون آيةً، وقيل: أربعٌ وتسعون آيةً
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ({طس} قرئ بالتفخيم والإمالة)، أبو بكرٍ وحمزة والكسائي: بالإمالة، والباقون: بالتفخيم.
وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين: على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه. فإن قلت: لم نكر الكتاب المبين؟ قلت: ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله تعالى:(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر: 55].
فإن قلت: ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت: كما تعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن إعجازهما ظاهرٌ مكشوفٌ)، قبل قوله:"أنههما يبينان" مبنيٌ على أن "أبان" بمعنى: أظهر. وقوله: "ظاهرٌ مكشوفٌ" على أنه بمعنى: بان وظهر. وقلت: إذن يلزم استعمال اللفظ الواحد في كلتا لغتيه: المتعدي واللازم، إلا أن يقال: إن الواو بمعنى "أو". والظاهر أن دلالة {مُبِينٍ} على الثاني بطريق اللزوم، فإن الشيء إذا كان مظهراً الجميع العلوم الفائقة، ينبغي أن يكون ظاهرًا في الإعجاز، وعكسه سبق في قوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
قوله: ({عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، أي: مليكٍ مبهمٍ أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وتصرفه وقدرته، فيقال: أي: كتابٌ مبهمٌ أمره في كونه كتابًا، فلا شيء من أمر الدين ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، إلا وهو مشتملٌ عليه.
قوله: (لأن القرن هو المنزل المبارك)، تعليلٌ لتنزيل لفظ {الْقُرْآَنِ} منزلة الوصف، ثم عطف {وَكِتَابٍ} عليه، لهذا قال:"كأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك، وآي كتابٍ"، ودلالة هذا الأسلوب على استقلال كل صفةٍ في تمييز الموصوف، وأنها إذا انفردت كفت بها مميزةً قد علم في موضعه، ولو حمله على باب التجريد كما في قولهم: مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة، كما ذكر في {ص وَالْقُرْآَنِ} [ص: 1] لجاز أيضًا.
فكأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك؛ وآي كتاب مبين.
وقرأ ابن أبي عبلة: "وكتابٌ مبينٌ" بالرفع على تقدير: وآيات كتاب مبين، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: (الّر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وقُرْآنٍ مُّبِينٍ)[الحجر: 1]؟ قلت: لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر، وذلك على ضربين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني: قوله في الحجر: "والمعنى: "تلك آيات الكتاب الكامل" في كونه كتاباً، وآي قرآنٍ مبينٍ" على الاستفهام، وهو م عنى التفخيم في التنكير.
قوله: (بين هذا وبين قوله: {آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1]، أي: مطلع سورة الحجر.
قوله: (وذلك على ضربين)، يعني: التقديم يجيء لمعنيين:
أحدهما: جارٍ مجرى التثنية فقط، فلا يتفاوت المعنى فيهما، سواءٌ قدم في موضع وأخر في آخر، كما في نحو:{حِطَّةٌ} في الآيتين في الآيتين [البقرة: 58، والأعراف: 61]. وقولك: "رجلان جاءا" لا ترجيح لمجيء أحدهما على الآخر. هذا هو معنى التثنية.
قال شارح "الهادي": الواو دلالتها على الجمع أقوى من دلالتها على العطف، فإنها قد تعدى عن العطف ولا تعرى عن معنى الجمع، وفي المختلفين بمنزلة التثنية، والجمع في المتفقين، وإذ لم يمكنهم التثنية في المختلفين فعدلوا إلى الواو.
ثانيهما: ما فيه رعاية الرتبة، كما في قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، فإن شهادة الله مقدمةٌ على شهادة الملائكة وأولي العلم، لأن شهادته كالأصل،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وشهادتهم كالتابع لشهادته. ومن ثم فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول به.
قال القاضي: تأخير "كتاب" هاهنا باعتبار تعلق علمنا به، وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود، أي: الخارجي.
قال صاحب "الفرائد" الفخامة فيما نحن بصدده للكتاب، فإن كان المراد به: اللوح، فهي اللوح. وفي الحجر الفخامة للقرآن، فافترقا. وإن كان المراد من الكتاب القرآن في السورتين، فالفخامة للقرآن من حيث إنه كتابٌ هاهنا، وفي الحجر من حيث إنه قرآنٌ.
وقلت: قد ذهب إلى أن التنكير في الموضعين هو الفارق، لأنه للتفخيم، وذهب عنه أن التعريف في القرآن للعهد، وأن المراد منه:"المنزل المبارك المصدق لما بين يديه" كما قال، فهو أشد فخامةً منه، لأنه من باب قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
أي: هذا المنزل هو الذي اشتهر في الكائنات، وتعورف بين الأسود والأحمر، الموصوف بالكمالات التي لا نهاية لها. والمصنف اقتصر على معنى واحدٍ، وهو كونه مصدقًا لما بين يديه.
ويمكن أن يقال: إن التنكير في {كِتَابِ} دل على تفخيمه، ووصفه بـ {مُبِينٍ} دل على أنه ظاهرٌ في نفسه في الإعجاز، مظهرٌ لغيره، فصحت الموازنة بينهما، ولهذا استشهد بقوله:"فعل السخي والجواد الكريم". ولم يفرق بين التقديم والتأخير هاهنا وفي الحجر، فإن مؤدى الصفتين إلى معنى واحدٍ.
فإن قلت: فلم جعل التعريف في الحجر للجنس حيث قال: "تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابًا"، وهاهنا للعهد حيث قال:"المنزل المبارك المصدق لما بين يديه"؟ قلت: إذا رجع المعنيان إلى التعظيم والتفخيم فلا بأس بمثل هذا الاختلاف.
ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، فالأول نحو قوله تعالى:(وَقُولُوا حِطَّةٌ)[البقرة: 58، الأعراف: 161]، (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) [البقرة: 58، الأعراف: 161]، ومنه ما نحن بصدده. والثاني: نحو قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)[آل عمران: 18]، (هُدىً وَبُشْرى) في محل النصب أو الرفع، فالنصب على الحال، أي: هادية ومبشرة، والعامل فيها؛ ما في (تِلْكَ) من معنى الإشارة، والرفع على ثلاثة أوجه، على: هي هدى وبشرى، وعلى البدل من الآيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر، أى: جمعت أنها آيات، وأنها هدى وبشرى.
والمعنى في كونها هدى للمؤمنين: أنها زائدة في هداهم. قال الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً)[التوبة: 124]. فإن قلت: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) كيف يتصل بما قبله؟ قلت: يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول، ويحتمل أن تتم الصلة عنده، ويكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات؛ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: هم بالآخرة الموقنون، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو (وهُمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعلى البدل من الآيات)، قال الزجاج: تقديره: تلك هدًى وبشرى، وحسن أن يكون خبرًا بعد خبرٍ لـ {تِلكَ} على نحو: هو حلوٌ حامضٌ. وقد جمع الطعمين، فتجمع أنها آياتٌ، وأنها هاديةٌ مبشرة، وهو المراد من قوله:"جمعت أنها آياتٌ، وأنها هدًى"، أي: جمعت {طس} أن السورة آياتٌ، وأنها هدًى وبشرى.
قوله: (أنها زائدٌ في هداهم)، قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يكون المعنى كما مر في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1].
قوله: (وكرر فيها المبتدأ الذي هو {وَهُم})، الانتصاف: تكرر من الزمخشري أن إيقاع الضمير مبتدأٌ يفيد الحصر، كقوله:{هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: 21]، وعد الضمير من آلات الحصر ليس يثبت، وهاهنا الضمير مكررٌ، لأن الأصل:"وهم يوقنون بالآخرة"،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقدم المجرور للعناية، فوقع فاصلاً بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره، وقد حال المجرور بينهما، فطوي ذكره، ولم يفت العناية بالمجرور حيث بقي مقدمًا.
وقلت: هذا كلام من لم يشم رائحة علم البيان، فإنهم أجمعوا على أن مثل:"أنا عرفت" تحتمل التقوى والتخصيص، أما التقوى: فلتكرير الإسناد، وأما التخصيص: فلاعتبار تقدم الفاعل المعنوي على عامله، ولما تقدم ضمير {هُمْ} على {يُوقِنُونَ} وأكد بالتكرير، أفاد التخصيص والتوكيد، ولهذا قال:"ما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون".
ولما كان جدوى الاعتراض تأكيد معنى المعترض فيه، ودل مفهوم قوله:{وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} على أن من أيقن بالآخرة حق الإيقان لابد أن يخاف تبعاتها، ومن خاف تحمل المشاق والمتاعب، وكان بهذا الاعتبار مؤكدًا لقوله:{لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، فصح كونه معترضاً.
روينا عن الترمذي، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غاليةٌ، ألا إن سلعة الله الجنة".
ثم في قوله: "إلا هؤلاء الجامعون" إشارةٌ إلى أن الضمير الأول وضع موضع اسم الإشارة، وصار مثل قوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 3 - 5]، وفائدته الإشعار بأن ما يرد عقيب اسم الإشارة المذكورون قبله أهلٌ لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم، فالمعنى: هم أحقاء بأن يوقنوا بالآخرة، لأنهم
حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
[(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)].
فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله:(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ)[النمل: 24، العنكبوت: 38]؟ قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هم الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. هذا معنى قوله: "وهؤلاء الذين يوقنون ويعملون الصالحات، هم الموقنون بالآخرة".
هذه المعاني من التخصيص والتوكيد والتعليل إنما يفيدها التركيب إذا جعل معترضًا لاستقلاله، وأما إذا أدخل في حيز الصلة بأن جعل حالاً أو عطفًا على {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [النمل: 3] على التأويل، لم يحتج إلى هذه العبارة، فتفوت تلك الفوائد، ولهذا قال:"وهو الوجه، ويدل عليه أنه عقد جملةً ابتدائيةً" إلى آخره. يريد أنه لو أريد غير ذلك لقيل: "وهم بالآخرة يوقنون" على تقدير الحال، "وبالآخرة يوقنون" على تقدير العطف.
قوله: (من المجاز الذي يسمى الاستعارة) وهي الاستعارة المصرحة التبعية، استعار زيَّن لـ (متَّع) بعد استعارة التزيين للتمتيع. وإليه الإشارة بقوله:(لما متعهم بطول العمر)، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم.
قال صاحب (الفرائد): قال أهل السنة: زينا لهم أعمالهم بما ركبنا فيهم من الشهوات
يكون من المجاز الحكمي، فالطريق الأوّل: أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم، وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأماني، حتى رأوا ذلك حسناً، وهو كالختم والطبع. وفيه إثبات خلق الله تعالى أفعال العباد.
وقال صاحب "الانتصاف": قول الزمخشري مبنيٌ على قاعدة: "رعاية الأصلح"، ولو عكس فقال:"الإسناد إلى الله حقيقةً"، لكان أصوب، واختار ما رواه الحسن لموافقته، [وأنى لهم ذلك] وقد أتى الله بنيانهم من القواعد بما قد ورد التزيين غالباً في الشر {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212]{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 137] وورد في الخير قليلاً، كقوله:{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] ويبعد الخير هنا إضافة الأعمال إليهم في قوله: {أَعْمَالَهُمْ} ، وهم لم يعملوا الخير أصلاً.
وقلت: الذي يؤيد قول صاحب "الفرائد" أن وزان فاتحة هذه السورة إلى هاهنا وزان فاتحة البقرة، فقوله:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ} كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6]. وقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} كقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]، وقد سبق وجه دلالتها على مذهب أهل السنة هناك، وأن التركيب من باب تحقيق الخبر، وأن المعنى استمرارهم على الكفر، وأنهم بحيث لا يتوقع منهم الإيمان ساعةً فساعةً، أمارةٌ لرقم الشقاوة عليهم في الأزل، والختم على قلوبهم، وأنه تعالى زين لهم سوء عملهم، فهم
(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ)[الفرقان: 18] والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان، وتخليته حتى يزين لهم، ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لذلك في تيه الضلالة يترددون، وفي بيداء الكفر يعمهون.
دل على هذا التأويل إيقاع لفظ المضارع في صلة الموصول، والماضي في خبر الموصول، وترتب {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} بالفاعلية، واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت، ومن باب تحقيق الخبر قول الشاعر:
إن التي ضربت بيتاً مهاجرةً
…
بكوفة الجند غالت ودها غول
يعني: هذا التبريز أمارةٌ لقطعها الحب وهجرانها، وأنه مما لا يشك فيه. وينصر هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود: عن عمران بن حصين قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال:"نعم". قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: "كلٌ ميسرٌ لما خلق له".
وعن الترمذي، عن ابن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل فيه، أمرٌ مبتدعٌ أو مبتدأٌ، أو فيما فرغ منه؟ فقال:"فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب، وكلٌ ميسرٌ، أما من كان أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء". انظر أيها المتأمل إلى هذه الأسرار.
المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها: زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى إلى الحسن. والعمه: التحير والتردّد، كما يكون حال الضال عن الطريق. وعن بعض الأعراب: أنه دخل السوق وما أبصرها قط، فقال: رأيت الناس عمهين، أراد: متردّدين في أعمالهم وأشغالهم. (سُوءُ الْعَذابِ) القتل والأسر يوم بدر. و (الْأَخْسَرُونَ): أشدّ الناس خسرانا، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله.
[(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)].
(لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لتؤتاه وتلقنه (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) مِنْ عند أىّ (حَكِيمٍ) وأىّ (عَلِيمٍ) وهذا معنى مجيئهما نكرتين. وهذه الآية بساط وتمهيد، لما يريد أن يسوق بعدها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: هي أعمال الخير)، هذا جوابٌ آخر عن السؤال مبنيٌ على المنع من أن إسناد هذا التزيين محظورٌ، و"هي" أي: الضمير راجعٌ إلى قوله تعالى: {أَعْمَالَهُمْ} ، ونظيره قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
قوله: (وتلقنه)، عن بعضهم: هو كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]، أي: تلقن. ومعنى يلقنه الكلمات: أن الله تعالى ألهمه التنصل لهفوته.
قوله: (وهذه الآية بساطٌ وتمهيدٌ)، أي: مجملٌ لما يأتي بعدها من التفصيل، وإن المفصل متضمنٌ للطائف حكمته ودقائق علمه. ومن لطائف حكمته اقتصاص ما مضى من الأمم السالفة، لنثبت بها نفسك، ونسليك مما يلحقك من المكاره {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] وأكمل القصص وأتمها قصة موسى عليه السلام.
من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه.
[(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)].
(إِذْ) منصوب بمضمر، وهو: اذكر، كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى. ويجوز أن ينتصب بعليم. وروي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، وهو قوله:(امْكُثُوا).
الشهاب: الشعلة. والقبس: النار المقبوسة، وأضاف الشهاب إلى القبس؛ لأنه يكون قبسا، وغير قبس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه أيضاً نوعٌ من التخلص والانتقال إلى نوعٍ آخر من الإعجاز، وهو الإخبار عن المغيبات، ومن مدح الكتاب إلى قصص الأنبياء.
قوله: (وهو قوله: {امْكُثُوا} ، ليس في هذه الآية، وإنما هي في طه والقصص، فورود الخطاب بالجمع وإطلاق الأهل على امرأته تعظيمٌ لشأنها، ونحوه قوله تعالى:{مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]، والمراد بهما موسى وهارون رفعاً لمنزلتهما.
قوله: (وأضاف الشهاب إلى القبس، لأنه يكون قبسًا وغير قبسٍ)، قال مكيٌّ:{بِشِهَابٍ قَبَسٍ} من إضافة النوع إلى جنسه، نحو: ثوب خزٍّ.
وقال الفراء: وهو إضافة الشيء إلى نفسه، كصلاة الأولى، وليس مثله، لأن صلاة
ومن قرأ بالتنوين: جعل القبس بدلا، أو صفة لما فيه من معنى القبس. والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنه كان قد ضله. فإن قلت: سآتيكم منها بخبر، ولعلي آتيكم منها بخبر: كالمتدافعين: لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن. قلت: قد يقول الراجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأولى إنما هي في الأصل موصوفٌ وصفة، فأضيف الموصوف إلى صفته، وأصلها: الصلاة الأولى.
ومن نون جعل قبساً بدلاً منه: وقيل: هي صفةٌ له. والشهاب: كل ذي نورٍ. والقبس: كل ما يقتبس من جمرٍ ونحوه.
الراغب: القبس: المتناول من الشعلة. قال تعالى: {أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} . والقبس والاقتباس: طلب ذلك، ثم يستعار لطلب العلم والهداية. قال تعالى:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] وأقتبسه ناراً أو علمًا: أعطيته. والقبيس: فحلٌ سريع الإلقاح، تشبيهاً بالنار في السرعة.
وعنه: الشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن العارض في الجو. قال تعالى:{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]. والشهبة: بياضٌ مختلطٌ بالسواد، تشبيهاً بالشهاب المختلط بالدخان. ومنه: كتيبةٌ شهباء، اعتباراً بسواد القوم وبياض الحديد.
وعنه: الشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن العارض في الجو. قال تعالى:{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]. والشهبة: بياضٌ مختلطٌ بالسواد، تشبيهاً بالشهاب المختلط بالدخان. ومنه: كتيبةٌ شهباء، اعتبارًا بسواد القوم وبياض الحديد.
قوله: (ومن قرأ بالتنوين)، عاصمٌ وحمزة والكسائي.
إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. فإن قلت: كيف جاء بسين التسويف؟ قلت: عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة. فإن قلت: فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت: بني الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما: إمّا هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله؛ أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا؟ وهما العزّان: عز الدنيا، وعز الآخرة.
[(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)].
(أَنْ) هي المفسرة؛ لأنّ النداء فيه معنى القول. والمعنى: قيل له بورك. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره: نودي بأنه بورك. والضمير ضمير الشأن؟ قلت: لا، لأنه لا بدّ من (قَدْ). فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما أدراه)، "ما" استفهاميةٌ متضمنةٌ للإنكار، وهو مبتدأ، و"أراه" الخبر، وضمير الفاعل راجعٌ إلى "ما"، أي: أي شيءٍ أعلمه حين قال: {أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ} "أنه ظافرٌ بحاجتيه الكليتين"؟ انظر أيها المتأمل إلى العناية الأبدية، فإنه عليه السلام طلب الدلالة على الطريق والنار لحاجة الأهل، ففاز بعز الدارين!
قوله: (لا يصح)، أي: لا يصح أن تكون مخففةً من الثقيلة، و"قد" مضمرة.
قال في "المفصل": والمفتوحة يعوض عما ذهب منها أحد الأحرف الأربعة: حرف النفي، وقد، وسوف، والسين، نحو: علمت أن لا يخرج زيد، وأن قد خرج، وأن سوف يخرج، وأن سيخرج.
قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لجواز {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ} [النساء: 90] بإضمار "قد"، و {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ} [الأعراف: 63]، ويمكن تعسف فرقٍ.
لأنها علامة لا تحذف. ومعنى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها): بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها. ومكانها: البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ)[القصص: 30] وتدل عليه قراءة أبي: "تباركت الأرض ومن حولها". وعنه: "بوركت النار"، والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها: وهو: تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو البقاء: {أَنْ بُورِكَ} هي مخففةٌ من الثقيلة، وجاز ذلك من غير عوض، لأن {أَنْ بُورِكَ} دعاء، والدعاء مخالفٌ غيره في أحكامٍ كثيرة.
وقال صاحب "الكشف": التقدير: أنه بورك، ولم يأت بعوضٍ، كما في قوله:{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] وقوله: {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} [الجن: 28]، لأنه دعاء.
قوله: (ويدل عليه قراءة أبي)، أي: تدل على أن معنى {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] بورك من في مكان النار، إظهار الأرض في هذه القراءة، فإن هذه القراءة الشاذة ليست في الدلالة أقل من تفسير مفسر.
قال ابن جني: تبارك: تفاعل من البركة، وهو توكيدٌ لمعناه، كقولك: تعالى الله، فهو أبلغ من: علا كما أن "اعشوشب" أبلغ من: أعشب، وذلك لكثرة الحروف.
وعن بعضهم: وإسناد التبارك إلى الأرض كإسناد التعالي إلى الضوء في قول المعري:
نشأن كضوء البارق المتعالي
…
ببغداد وهنا ما لهن ومالي؟
فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها، ويبث آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة.
وقيل: المراد بالمبارك فيهم: موسى والملائكة الحاضرون. والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض، وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله:(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ)[الأنبياء: 71]؛ وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: المراد بالمبارك فيهم موسى والملائكة)، الضمير في "فيهم" راجعٌ إلى اللام. وقيل: عطف على قوله: "بورك من في مكان النار ومن حول مكانها"، فذكر في المعطوف عليه أن ذلك المكان أي مكانٍ هو، والذي بوركت به البقعة ما هو، وهو حدوث أمرٍ ديني، ثم بين في المعطوف أن المراد بالذي بورك فيه من هو، وهو إما موسى والملائكة وما أعم منه. وعن بعضهم: البقعة من الأبقع، كالحمرة من الأحمر، وهي قطعةٌ فيها سوادٌ وبياضٌ، من الغراب الأبقع، والبقعان جمع أبقع، كالحمران جمع أحمر، ثم قيل لقطعةٍ من الأرض: بقعة، ومنه قولهم: إن للبقاع دولًا. وهذا من التعميم بعد التخصيص.
قوله: (وكفاتهم أحياءً وأمواتًا)، قال: الكفات من: كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه، وهو اسم ما يكفت، كقولهم: الضمام والجماع لما يضم ويجمع، كأنه قيل: كافتاً أحياءً وأمواتاً، والمعنى: يكفت أحياءً على ظهرها وأمواتاً في بطنها.
الراغب: الكفت: القبض والجمع. قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25 - 26]، أي: تجمع الناس أحياءهم وأمواتهم. وقيل: معناه: تضم الأحياء التي هي الإنسان والحيوانات والنبات، والأموات التي هي الجمادات من التراب والماء
فإن قلت: فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت: هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. (وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك، وإيذان بأنّ ذلك الأمر مريده ومكوّنه رب العالمين، تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغير ذلك. والكفات قيل: هو الطيران السريع، وحقيقته: قبض الجناح للطيران، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]، فالقبض هنا كالكفات هناك، والكفت: السوق الشديد، واستعمال الكفت في سوق الإبل كاستعمال القبض فيه، كقولهم: قبض الراعي الإبل، وراعٍ قبضةٌ. وكفت الله فلاناً إلى نفسه، كقولهم: قبضه. وفي الحديث: "اكفتوا صبيانكم بالليل".
قوله: (فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك؟ )، جاء بالفاء في السؤال، لأن السؤال واردٌ على قوله:"والظاهر أنه عامٌ في كل من كان في حوالي أرض الشام" يعني: إذا أريد بمن بورك من في النار: العموم، فما معنى ابتداء الخطاب لموسى عليه السلام، لأنه وغيره سواءٌ في ذلك. وأجاب بأنه بشارةٌ لموسى عليه السلام بتجديد بركةٍ أخرى إلى تلك البركات، وبواسطته تنتشر تلك البركة في تلك الأراضي، وتتصل إلى ساكنها.
قوله: ({وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تعجيبٌ لموسى)، يعني: في ذكر موسى: "سبحان الله"، في هذا المقام فائدتان:
إحداهما: تعجيبٌ لموسى من ذلك الأمر العظيم، وهو إحداث أمرٍ دينيٍّ من تكليمه واستنبائه.
وثانيهما: إعلامٌ له بأن مريد ذلك الأمر هو رب السماوات والأرض وما بينهما، فأعظم بأمرٍ مريده من هو رب العالمين! وإليه الإشارة بقوله: "تنبيهاً على أن الكائن من
[(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)].
الهاء في (إِنَّهُ) يجوز أن يكون ضمير الشأن. والشأن (أَنَا اللَّهُ) مبتدأ وخبر. و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان للخبر. وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعني: أنّ مكلمك أنا، و (اللهُ) بيان لأنا. و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): صفتان للمبين، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة، يريد: أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام؛ كقلب العصا حية، الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير.
[(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)].
فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَلْقِ عَصاكَ)؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك: كلاهما تفسير لنؤدي. والمعنى: قيل له:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلائل الأمور"، نحوه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتاً دعائمه أعز وأطول
والحاصل أن قوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كالتذييل والتأكيد لما تضمن قوله: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} من المعاني التي أشير إليها فيما سبق.
قوله: (وهذا تمهيدٌ لما أراد أن يظهره)، اعلم أنه تعالى كما جعل {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تذييلاُ للكلام السابق تنبيهاً على جلالة الأمر الحادث، جعل قوله:{إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تمهيداً للكلام اللاحق تنبيهاً على فخامته، وأن مظهره الله العزيز الحكيم. وإليه الإشارة بقوله:"أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام".
"بورك من في النار"، وقيل له:(أَلْقِ عَصَاكَ). والدليل على ذلك قوله عز من قائل: (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ)[القصص: 31] بعد قوله: (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ)[القصص: 30] على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليك أن حج وأن اعتمر، وإن شئت أن حج واعتمر.
وقرأ الحسن: (جأنّ) على لغة من يجدّ في الهرب من التقاء الساكنين، فيقول: شأبّة ودأبّة. ومنها قراءة عمرو بن عبيد: (وَلا الضَّالِّينَ).
(وَلَمْ يُعَقِّبْ): لم يرجع، يقال: عقب المقاتل، إذا كرّ بعد الفرار. قال:
فما عقّبوا إذ قيل: هل من معقّب؟
…
ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه:(إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والدليل على ذلك)، أي: على أنه معطوفٌ على قوله: {أَنْ بُورِكَ} مجيئه في القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص: 30 - 31] وإن كرر فيه حرف التفسير.
قوله: (فما عقبوا إذ قيل) البيت، يوم الكريهة: يوم الحروب. يصف فرار قومٍ من المحاربة بحيث لا يرجعون بعده، ولا ينزلون منزلًا من الخوف.
قوله: (رعب)، رعب الرجل: ملئ خوفًا. رعب السيل الوادي: ملأه. وامرأةٌ رعبوبةٌ: ملئت شحماً ولحمًا.
قوله: (لأمرٍ أريد به)، يعني: إنما {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ، لخوفٍ عظيمٍ واستشعارٍ ظن أن في قلب العصا حيةً أمرًا أريد به هلاكه.
و (إِلَّا) بمعنى (لكنّ)؛ لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و {إِلَّا} بمعنى "لكن")، يريد أن الاستثناء منقطع، و {مَن} منصوب المحل، كقوله تعالى:{إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ} استثناءٌ منقطع، لأن القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان، وهاهنا بالعكس، لأن المستدرك جنسٌ غير المعصومين استدرك من المعصومين، وإليه الإشارة بقوله:"ولكن من ظلم منهم، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى" عليهم السلام، وأما فرطة آدم وإخوة يوسف وموسى فظاهرةٌ، وأما فرطة يونس فما دل عليها:{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140]، وفرطة داود ما يشعر به قوله:{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] وفرطة سليمان قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34].
الكواشي: المعنى على الانقطاع، أي: من أمنته من عذابي لا ينبغي أن يخاف من حية.
قوله: (لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان ذلك مظنةً لطرو الشبهة)، هذا إشارةٌ إلى الخلاف بين الناس في جواز الذنب على الأنبياء أو عدمه. قال الإمام: فيه خمسة أقوال:
أولها: قول الحشوية، فإنهم يقولون بجواز صدور الكبائر عنهم عمدًا.
وثانياً: المعتزلة، فإنهم لا يجوزون عليهم الكبائر، ويجوزون الصغائر إلا ما ينفر، كالكذب والتطفيف، وإلى هذا أشار المصنف بقوله:"مما يجوز على الأنبياء".
وثالثها: الجبائي أنه قال: لا تجوز الصغيرة ولا الكبيرة على جهة العمد، بل على التأويل.
ورابعها: لا يقع منهم ذنبٌ قط، وأنهم معصومون من وقت مولدهم. وهذا قول الرافضة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم قال الإمام: والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنبٌ حال النبوة لا الصغيرة ولا الكبيرة. وفي تضاعيف كلامه إشعارٌ بأن ترك الأولى منهم كالصغيرة منا، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وإذا علم هذا فقول المصنف: "لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان ذلك مظنةً لطرو الشبهة" معناه: لطرو شبهة من ينفي عنهم الكبائر والصغائر، وأن ليس لهم خوفٌ البتة، لا من جهة الصغائر، ولا من جهة الكبائر، فاستدرك بقوله:{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} هذا الظن، وأثبت أن منهم من "فرطت منه صغيرةٌ مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم
…
" إلى آخره.
وقلت: وجه التأويل على رأينا {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قبل النبوة، ثم بدل بعدها حسناً. يؤيده لفظة:{ثٌمَّ} ، فإنها للتراخي.
وقال صاحب "المطلع": والمعنى: ولكن من ظلم من العباد ثم تاب، فإني أغفر له. وعلى هذا لا يخاف الأنبياء، وهو اختيار الزجاج. تم كلام "المطلع".
ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، وموضع {مَن} رفعٌ على البدل من الفاعل، كما قال أبو البقاء.
والمعنى: إني لا يخاف لدى المرسلون، إلا الذي فرط منه ما غفر له ثم ترحم عليه، فإنه يخاف، وقد علم وتحقق أن المغفور له والمرحوم عليه لا يخاف الله من الذنب الذي غفر له البتة، فإذن لا يخاف منهم من أحدٍ على البت والقطع. والمقام يقتضي هذا المعنى، لأن مقام تلقي الرسالة وابتداء المكالمة مع الكليم يوجب إزالة الخوف بالكلية، لاسيما الخوف من قبيل ما يعتري البشرية من توهم مكروهٍ نفساني.
فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أي: فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزة القبطي، ويوشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسماه ظلما، كما قال موسى:(رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)[القصص: 16]، والحسن والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب.
وقرئ: "ألا من ظلم"، بحرف التنبيه. وعن أبي عمرو في رواية عصمة:"حسنا".
[(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى الإمام عن بعضهم: إني إذا أمرت المرسلين بإظهار معجز، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة.
قوله: (وسماه ظلمًا، كما قال موسى:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]، لما سمى موسى عليه السلام فعله ظلمًا قابله تعالى بالمشاكلة.
قوله: (وقرئ: "ألا من ظلم" بحرف التنبيه)، قال ابن جني: وهي قراءة زيد بن أسلم وأبي جعفرٍ القارئ. ومن مرفوعة بالابتداء، وخبره: ظلم، كقولك: من يقم أضرب زيدًا. فـ "يقم" خبر "من" حيث كان شرطاً، كأنه قال: هذا حقٌ. وعليه معنى انقطاع الاستثناء في القراءة الفاشية. المعنى: لا يخاف لدى المرسلون، لكن من ظلم كان كذا.
و (تِسْعِ آياتٍ) كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف. والمعنى: اذهب في تسع آيات إِلى فِرْعَوْنَ ونحوه:
فقلت: إلى الطّعام، فقال منهم
…
فريق: نحسد الإنس الطّعاما
ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك، وأدخل يدك: في تسع آيات، أي: في جملة تسع آيات وعدادهنّ. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة: ثنتان منها اليد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والمعنى: اذهب في تسع آياتٍ)، أي: اذهب إلى فرعون في شأن تسع آياتٍ بأن تتحدى بهن، وتظهر بها نبوتك، وتلزم عليه حجة الله.
قوله: (وأدخل يدك، في تسع آياتٍ)، فعلى هذا هو حالٌ من المفعول، وهو يدك، أي: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء مسفرةً في تسع آياتٍ معدودةٍ في جملتهن.
قال أبو البقاء: {بَيْضَاءَ} حالٌ، و {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} حالٌ أخرى، و {فِي تِسْعِ آَيَاتٍ} [النمل: 12] حالٌ ثالثة، والتقدير: آيةٌ في تسع آياتٍ، و {إِلَى} متعلقةٌ بمحذوفٍ، أي: مرسلاً إلى فرعون. ويجوز أن تكون صفةً لـ {تِسْعِ} أو لـ {آَيَاتٍ} ، أي: واصلةٍ إلى فرعون.
قوله: (ولقائلٍ أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة)، عن بعضهم: كأنه يقول: ليس بلازمٍ أن يقال: هذا داخلٌ فيها.
قال صاحب "التقريب": ولعل الطمسة والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم يرجع إلى واحد.
وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: الجراد والقمل واحدةٌ، والجدب والنقصان واحدةٌ، لأنهما متقاربان.
والعصا، والتسع: الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم.
[(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)].
المبصرة: الظاهرة البينة. جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار: كل ناظر فيها من كافة أولى العقل، وأن يراد إبصار فرعون وملئه، كقوله:(وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)[النمل: 14] أو جعلت كأنها تبصر فتهدي، لأنّ العمي لا تقدر على الاهتداء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال القاضي: ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحداً، ولا يعد الفلق، لأنه لم يبعث به إلى فرعون.
قوله: (وكانوا بسببٍ منها)، قيل: كل ما يكون وصلةً بين شيئين يسمى سببًا، تشبيهًا بالسبب الذي هو الحبل.
و"من"- في قوله: {مِنْهَا} - اتصالية، يعني: لما كان المتأملون ملابسين متصلين من الآيات بسبب نظرهم وتفكرهم فيها، جعلت الآيات مبصرةً. وهذا الوجه من الإسناد المجازي، أسند الإبصار إلى الآيات، وهو في الحقيقة لذوي البصائر، وهم إما كل أحدٍ، أو فرعون وملأه بقرينة:{وَاسْتَيْقَنَتْهَا} .
قوله: (أو جعلت كأنها تبصر فتهدي)، وعلى هذا الوجه هو استعارةٌ مكنيةٌ، شبهت الآيات في جلائها في نفسها وأنها بحيث يهتدي بها الناس، كأنها الشخص تبصر بنفسها فتهدي الناس، والهادي لتهدي غيرها، فإن العمى لا تقدر على الاهتداء، فضلاً أن تهدي غيرها.
فضلا أن تهدي غيرها. ومنه قولهم: كلمة عيناء، وكلمة عوراء، لأن الكلمة الحسنة ترشد، والسيئة تغوي. ونحوه قوله تعالى:(لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ)[الإسراء: 102] فوصفها بالبصارة، كما وصفها بالإبصار. وقرأ علىّ بن الحسين رضي الله عنهما وقتادة:(مبصرة)، وهي نحو: مجبنة ومبخلة ومجفرة، أي: مكانا يكثر فيه التبصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: {مُبْصِرَةً} مبينةً: اسم فاعل، أطلق للمفعول، وإشعارًا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي، والعمى لا تهتدي فضلًا عن أن تهدي، أو: مبصرةً كل من نظر إليها وتأمل فيها.
قوله: (وكلمةٌ عوراء) أي: سقطةٌ لا اعتداد فيها. قال حاتم:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره
…
وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
قوله: (ومجفرة)، النهاية:"صوموا ووفروا أشعاركم، فإنها مجفرة"، أي: مقطعةٌ للنكاح ونقصٌ للماء. ومنه حديث علي رضي الله عنه: أنه رأى رجلًا في الشمس، فقال: قم عنها فإنها مجفرة. أي: تذهب شهوة النكاح. يقال: جفر الفحل يجفر جفورًا: إذا انقطع عن الضراب وعدل عنه وتركه وانقطع.
وقال ابن جني: وقد كثرت المفعلة بمعنى الشياع والكثرة في الجواهر والأحداث جميعًا، نحو: أرضٌ مضبةٌ: كثيرة لاضباب ومثعلةٌ كثيرة الثعالي، ومحيأة كثيرة الحيات، وفي الأحداث نحو البطنة موسنةٌ، وأكل الرطب موردةٌ.
[(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)].
الواو في (وَاسْتَيْقَنَتْها) واو الحال، و "قد" بعدها مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله تعالى:(فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ)[المؤمنون: 46]، (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون: 47] وقرئ: (عُلِيّا و (عِلِيّا) بالضم والكسر، كما قرئ (عِتِيًّا) و (عُتِيًّا) [مريم: 8]. وفائدة ذكر الأنفس: أنهم جحدوها بألسنتهم، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم. والاستيقان أبلغ من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما قرئ: {عِتِيًّا} [مريم: 8]، الجوهري: يقال: عتوت تعتو عتوًا وعتيًا وعتيًا. الأصل عتوٌ، ثم أبدلوا إحدى الضمتين كسرةً، فانقلبت الواو ياءً، فقالوا: عتيًا، ثم أتبعوا الكسرة الكسرة، فقالوا: عتيًا ليؤكدوا البدل.
قوله: (جحدوا بألسنتهم)، الراغب: الجحد: نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. يقال: جحد جحودًا وجحدًا {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} ، وتجحد: تخصص بفعل ذلك، يقال: رجلٌ جحدٌ: شحيحٌ قليل الخير يظهر الفقر، وأرضٌ جحدٌ: قليل النبت. يقال: جحداً ونكدًا.
وقال أيضًا: اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقينٍ، وهو: سكون النفس مع ثبات الحكم، يقال: أيقن واستيقن. وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]، أي: ما قتلوه قتلًا تيقنوه، بل إنما حكموا به تخمينًا ووهمًا.
الإيقان، وقد قوبل بين "المبصرة" و "المبين"، وأى ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.
[(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)].
(عِلْماً) طائفة من العلم، أو علما سنيا غزيرا. فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقد قوبل بين "المبصرة" و"المبين")، لم يرد أنه من باب المقابلة التي هي الجمع بين المتضادين، بل أراد أنه كما وصف {آَيَاتُنَا} بقوله:{مُبْصِرَةً} ، قوبل وصف السحر بالمبين دوماً للتطابق بين الفظين. ويجوز أن يعتبر معنى التضاد من كونهما وصفين للمتضادين: الآيات والسحر، فيفيد بلوغ كلٍّ من الحق والباطل غايته.
قوله: (طائفةً من العلم أو علمًا سنيًا)، الانتصاف: والظاهر أن التنكير في {عِلْمًا} للتعظيم، لأنه في سياق الامتنان.
قوله: (ولكن عطفه بالواو إشعارٌ بأن ما قالاه) بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم)، يعني: أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح، يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر، فجيء بالواو لأنها تستدعي معطوفاً عليه مضمراً، فيقدر بحسب ما يقتضيه موجب الشكر من قوله:"فعملا به وعلماه"، لأنهما من الشكر بالجوارح، "وعرفا حق النعمةٍ فيه والفضيلة"، فإنه من الشكر بالقلب، {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، فإنه من الشكر اللساني، فيستوعب جميع أنواع الشكر، ويوازي قول الشاعر:
وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا). والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علما. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه: أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير.
وفي الآية دليل على شرف العلم، وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله، كما قال:(وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)[المجادلة: 11]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أفادتكم النعماء مني ثلاثًة
…
يدي ولساني والضمير المحجبا
ولو نص بالفاء لاقتصر على المذكور وفات المقصود.
وبهذا التقرير ظهر أن ما ذهب إليه المصنف قمينٌ أن يتبع ويؤثر على ما اختاره صاحب "المفتاح" حيث قال: ويحتمل عندي أنه أخبر تعالى عما صنع بهما، وأخبر عما قالا، فكأنه قال: نحن فعلنا إيتاء العلم، وهما فعلا الحمد تفويضاً لاستفادة ترتب الحمد على إيتاء العلم إلى فهم السامع، لأن الشكر على هذا يختص بالقول وحده والنعمة خطيرةٌ.
قوله: (وشيءٌ من مواجبه)، قيل: المواجب: جمع موجب، بضم الميم وفتح الجيم، و"ذلك" إشارةٌ إلى ما دل عليه قوله:"بعض" و"شيء"، وهو البعض الآخر والشيء الآخر الذي لم يذكر.
قوله: (دليلٌ على شرف العلم وإنافة محله)، قال القاضي: لأنهما شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبرا دونه مما أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما.
وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ورثة الأنبياء" إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله.
وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء)، روينا عن أبي داود والترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء، لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافرٍ".
قوله: (لأنهم القوام)، والقوام: الآمر عليهم، قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، أي: أمراء عليهن، أي: لا يجري القصاص بالضرب بين الزوجين.
قوله: (وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثيرٍ فقد فضل عليه مثلهم)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل، فأما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا.
قلت: ولعله أشعر بأن المصنف رمز إلى أن المفضل عليهما الملائكة، كما قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ
…
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
وأما الفرق بين المقامين فهو أن مقام المدح خلاف مقام الشكر والتواضع، وذلك أنه تعالى في ذلك المقام لما ذكر كرامة أبيهم من جعله مسجوداً للملائكة المقربين، وما منحوا من نعمة الدارين، عقبه بذكر كرامتهم وفضلهم على كثيرٍ من المخلوقين، أي: جمعهم كما
"كل الناس أفقه من عمر".
[(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)].
ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه، وكانوا تسعة عشر، وكان داوود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ)؛ تشهيرا لنعمة الله، وتنويها بها، واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور.
والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، المفيد وغير المفيد. وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب:"نطقت الحمامة، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته"، والذي علمه سليمان من منطق الطير: هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبق، وهاهنا، ذكر ما يجب عليهما من الشكر على كرامة الله إياهما وفضله، ومقام التواضع فيه توسعة، كما قال صلوات الله عليه:"لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى"، أخرجه البخاري ومسلم.
قوله: (كل الناس أفقه من عمر)، قاله حين خطب فقال: يا أيها الناس، لا تغالوا بصدق النساء، فقامت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، لم تمنعنا حقاً جعله الله لنا، والله يقول:{وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]؟ ! فقال عمر: كل أحدٍ أعلم من عمر. أورده المصنف في "النساء".
قوله: (هو ما يفهم بعضه من بعضٍ، من معانيه وأغراضه)، قال القاضي: والنطق
ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه:"أتدرون ما يقول"؟ قالوا: "الله ونبيه أعلم". قال: "يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء". وصاحت فاختة، فأخبر أنها تقول:"ليت ذا الخلق لم يخلقوا". وصاح طاوس، فقال:"يقول: كما تدين تدان". وصاح هدهد، فقال: "يقول: استغفروا الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمنطق في المتعارف: كل لفظٍ يعبر به عما في الضمير، مفرداً كان أو مركباً، وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع، كقولهم: نطقت الحمامة، ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، فإن الأصوات الحيوانية- من حيث إنها تابعةٌ- منزلةٌ منزلة العبارات، سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض، بحيث يفهمها ما هو من جنسه، ولعل سليمان عليه السلام مهما صوت حيوانٌ علم بقوته الحدسية المخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه، ومن ذلك ما يحكى أنه مر بلبلٌ، إلى آخره.
الراغب: النطق في التعارف: الأصوات المقطعة التي يظهرها اللسان وتعيها الآذان، قال تعالى:{أَلَا تَاكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 91، 92]، ولا يكاد يقال إلا للإنسان، ولا يقال لغيره إلى على سبيل التبع، نحو: النطق والصامت، فيراد بالناطق: ما له صوتٌ، وبالصامت: ما لا صوت له، وقوله:{عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} : سمى أصوات الطير نطقاً اعتبارًا بسليمان عليه السلام الذي كان يفهمه، فمن فهم من شيءٍ معنى، فذلك الشيء بالإضافة إليه ناطقٌ وإن كان صامتًا، وبالإضافة إلى من لم يفهم عنه صامتٌ وإن كان ناطقًا. وقيل: حقيقة النطق اللفظ الذي هو كالنطاق للمعنى في ضمه وحصره.
قوله: (فعلى الدنيا العفاء)، النهاية: وفي حديث صفوان: إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفاً، وشربت عليه، فعلى الدنيا العفا، أي: الدروس وذهاب الأثر، وقيل: العفا: التراب.
قوله: (كما تدين تدان)، المرزوقي: الدين لفظٌ مشتركٌ في عدة معانٍ: الجزاء، والعادة،
يا مذنبون". صاح طيطوى، فقال: "يقول: كل حىّ ميت، وكل جديد بال". وصاح خطاف، فقال: "يقول:
قدّموا خيرا تجدوه". وصاحت رخمة، فقال: "تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه".
وصاح قمري، فأخبر أنه يقول:"سبحان ربي الأعلى". وقال: "الحدأ" يقول: "كل شيء هالك إلا الله". والقطاة تقول: "من سكت سلم"، والببغاء تقول:"ويل لمن الدنيا همه"، والديك يقول:
"اذكروا الله يا غافلين". والنسر يقول: "يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت"، والعقاب يقول:
"في البعد من الناس أنس"، والضفدع يقول:"سبحان ربي القدوس". وأراد بقوله مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كثرة ما أوتى، كما تقول:"فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء"، تريد: كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه. ومثله قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)[النمل: 23]. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ): قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، أي: أقول هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والطاعة، والحساب. وهو قولهم: دناهم كما دانوا الجزاء، ويقولون: كما تدين تدان، أي: كما تصنع يصنع بك. قيل: سمى الأول باسم الثاني مشاكلةً.
قوله: (رخمة)، الجوهري: الرخمة: طائرٌ أبقع يشبه النسر في الخلقة، يقال له: الأنوق، والجمع: رخمٌ.
قوله: (والببغاء)، والببغى: بالتشديد مقصورٌ يكتب بالياء، والببغاء: بالتخفيف ممدودٌ، كالباقلا والباقلى.
قوله: ("أنا سيد ولد آدم ولا فخر")، الحديث على ما رواه الترمذي، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ- آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض
القول شكراً ولا أقوله فخرا. فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا؛ وهو من كلام المتكبرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسه وأباه. والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع. وكان ملكا مطاعا، فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه وسياسته مصالح، فيعود تكلف ذلك واجبا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد، أو احتاج أن يدحج في عين عدوّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا فخر"، أي: أقول هذا القول ليعلم الناس فيتبعوني ويقتدروا بي، فيحصل لهم النجاة والسعادة في الدارين، ولا أقوله فخرًا.
وقال صاحب " الفرائد": ويمكن أن يقال إنه صلوات الله عليه أراد بذلك إظهار مرتبته واختصاصه بمزيد فضلٍ من الله تعالى من بين الناس، حتى حصل له استحقاق أن يقول مثل ذلك، وهذا من باب الشكر.
وقلت: يجوز أن يقال: إن هذا الإخبار كسائر ما تفضل الله عليه من نعم الدارين، وأنه صلوات الله عليه مأمورٌ بتبليغها إلى الأمة، يشهد له قوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67].
قوله: (أبهته)، الجوهري: الأبهة: العظمة والكبرياء.
وفي بعض النسخ: "آيينه"، أي: مراتبه وبهائه. وقيل لذي القرنين: بيت على العدو، فقال: ليس من أيين الملوك استراق الظفر. وقيل: ليس البيان من أبين الملوك، ما وجدت في الأصول لهذا اللفظ ذكرًا.
ألا ترى كيف أمر العباس بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب.
[(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)].
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة. وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألا ترى كيف أمر العباس بأن يحبس أبا سفيان)، وذلك عند فتح مكة على ما روينا عن الباري، عن عروة بن الزبير بعد ذكر نبذٍ من أخبار أبي سفيان: فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال صلى الله عليه وسلم للعباس:"احبس أبا سفيان عند حطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين"، فحبسه، فجعلت القبائل تمر كتيبةً كتيبةً على أبي سفيان، فمرت كتيبةٌ فقال: يا عباس، من هذه؟ فقال: هذه غفارٌ، قال: مالي ولغفار، ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ثم مرت سليمٌ فقال ذلك، حتى أقبلت كتيبةٌ لم ير مثلها، قال أبو سفيان: من هذه؟ فقال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية. ثم جاءت كتيبةٌ وهي من أجل الكتائب، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير. الحديث.
قوله: (حتى لا تقع) بالرفع، أراد الحال، كقوله تعالى:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}
ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: أني قد زدت في ملكك؛ لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال: لقد أوتى آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله، خير مما أوتى آل داود. (يُوزَعُونَ): يحبس أولهم على آخرهم، أي: توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.
[(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)].
قيل: هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت: لم عدّى (أَتَوْا) بعلى؟ قلت: يتوجه على معنيين أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، كما قال أبو الطيب:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[البقرة: 214]، "لا" لا تمنع العامل، و"ما" تمنعه، تقول: زيداً لا أضرب، ولا تقول: زيداً ما ضربت.
قوله: ({يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم)، الراغب:{يُوزَعُونَ} إشارةٌ إلى أنهم مع كثرتهم [وتفاوتهم] لم يكونوا مهملين ومبعدين كما يكون الجيش الكثير المتأذي بمعرتهم، بل كانوا مسوسين ومقموعين وقيل: لابد للسلطان من وزعةٍ. يقال: وزعته عن كذا: كففته.
قوله: (سلاف العسكر)، الأساس: وسلف القوم: تقدموا سلفاً، وهم سلفٌ لمن وراءهم، وهم سلاف العسكر.
ولشدّ ما قربت عليك الأنجم
لما كان قربا من فوق. والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم، وقرئ (نُمُلة)، (يا أيُّها النَّمُلُ)، بضم الميم وبضم النون والميم، وكان الأصل: النمل، بوزن الرجل، والنمل الذي عليه الاستعمال: تخفيف عنه، كقولهم:"السبع" في السبع. قيل: "كانت تمشي وهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولشد ما قربت عليك الأنجم)، أوله:
فلشد ما جاوزت قدرك صاعداً
يهجو رجلاً طلب منه أن يمدحه، يقول: ما أشد تجاوزك قدرك حين تطلب مني المدح، وعني بـ "الأنجم" أبيات شعره.
قوله: (عند مقطع الوادي)، الوادي: من ودى، إذا سال، وإطلاقه على المكان مجازٌ، كقولهم: جرى النهر.
قوله: (وقرئ: "نملة")، قال ابن جني: قرأ سليمان التيمي: "نملة"، "يا أيها النمل" بضم النون والميم، وهو تثقيل النملة.
الراغب: طعامٌ منمولٌ، والنملة: قرحةٌ تخرج بالجنب تشبيهاً بالنمل في الهيئة وشقٌ في الحافر، ومنه: فرسٌ نمل القوائم، ويستعار النمل للنميمة تصورًا لدبيبه، فيقال: هو نملٌ وذو نملةٍ ونمال، أي: نمام، وتنمل القوم: تفرقوا للجمع تفرق النمل، ولذلك يقال: هو أجمع من نملةٍ.
عرجاء تتكاوس، فنادت:(يَا أَيُّهَا النَّمْلُ): الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال".
وقيل: "كان اسمها طاخية". وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس، فقال:"سلوا عما شئتم"، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا وهو غلام حدث. فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله:(قالَتْ) نَمْلَةٌ ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تتكاوس)، الجوهري: يقال: كاس البعير: إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقبٌ.
قوله: (وعن قتادة)، قال صاحب "الجامع": هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأعمى، يعد في الطبقة الثالثة من تابعي البصرة، روى عن أنس بن مالك كثيراً.
قوله: (وهو قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ}، ولو كانت ذكرًا لقال: قال نملةٌ)، الانتصاف: العجب من أبي حنيفة رضي الله عنه إن ثبت ذلك عنه، لأن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى، فيقال: نملةٌ أنثى، وشاةٌ وحمامةٌ، كذلك فلفظها مؤنث، ومعناه محتملٌ، وتأنيثها لأجل لفظها، وإن كان المراد بها ذكرًا وهو الأفصح المستعمل قال صلى الله عليه وسلم:"لا تضح بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء" أجرى الصفات على اللفظ المؤنث، ولا يعني الإناث من النعم خاصةً، كذا هاهنا، وكيف يسأل أبا حنيفة بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه. والأشبه أن هذا لا يصح عنهما.
قال ابن الحاجب: التأنيث اللفظي: هو أن لا يكون بإزائه ذكرٌ في الحيوان، كظلمةٍ وعينٍ، ولا فرق بين أن يكون حيوانًا أو غيره، كدجاجة وحمامةٍ إذا قصد به مذكر، فإنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤنث لفظيٌ، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى:{قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18] أنثى لورود تاء التأنيث في {قَالَتْ} وهما لجواز أن يكون مذكرًا في الحقيقة، وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي، نحو: جاءت الظلمة.
وأجابه بعض فضلاء ما وراء النهر، وقال: لعمري إن ابن الحاجب تعسف هاهنا وترك الواجب، حيث اعترض على إمام أهل الإسلام، واعتراضه بقوله:"وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي وهو مذكر"، ليس بشيءٍ، إذ لو كان جائزًا أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل بمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر الحقيقي، لكان ينبغي أن يقال: جاءتني طلحة، وهو غير جائزٍ.
وجوابه عن ذلك في "شرحه" بقوله: "وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام، فإنها لا يعتبر فيها إلا المعنى دون اللفظ، خلافًا للكوفيين. والسر فيه هو أنهم نقلوها عن معانيها إلى مدلولٍ آخر، فاعتبروا فيها المدلول الثاني، ولو اعتبر تأنيثها لكان اعتبارًا للمدلول الأول، فيفسد المعنى، فلذلك لا يقال: أعجبتني طلحة" تناقضٌ محضٌ، كأنه نسى ما أمضى في صدر كتابه من قوله:"فإن سمى به مذكرٌ فشرطه الزيادة" يعني: فإن سمى بالمؤنث المعنوي، فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرفٍ.
فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيها مقدرةٌ، فالعلمية لا تمنعها عن اعتبار تأنيثها، حتى لا تمتنع من الصرف، فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيها لفظية؟ ! فإذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامةً لتأنيث الفاعل، فالفاعل هاهنا مذكرٌ حقيقيٌ، فكذا النملة لو كان مذكرًا لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وينصر قول أبي حنيفة رضي الله عنه ما نقل عن ابن السكيت حيث قال: هذا بطةٌ ذكرٌ، وهذا حمامةٌ، وهذا شاةٌ، إذا عنيت كبشًا، وهذا بقرةٌ، إذا عنيت ثورًا. فإن عنيت أنثى قلت: هذه بقرةٌ.
وقلت: نظر الإمام الأعظم وتفسير المصنف راجعٌ إلى أن مثل: حمامة وشاة ونملة، ألفاظٌ مشتركةٌ تقع على الذكر والأنثى، والتاء لبيان الوحدة مفتقرةٌ في تعيينها، لأحد مفهوميها إلى نصب قرينةٍ، إما صفةً مميزةً، نحو: حمامةٌ ذكر، وشاةٌ أنثى، أو علامةً تلحق الفعل، نحو: قالت نملة، وقال نملة، أو جعلها خبرًا لاسم الإشارة، نحو: هذا بقرةٌ، وهذه بقرةٌ.
ومما يقوي هذا المذهب قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] وصفها بالصفراء بعد إجراء {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] عليها، وهي من أوصف النساء.
فظهر أن القول ما قالت حذام، والمذهب ما سلكه الإمام.
وفي "جامع الأصول" قال: لو ذهبنا إلى شرح مناقب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبسط فضائله لأطلنا الخطب، ولم نصل إلى الغرض منها، فإنه كان عالمًا ورعًا، زاهدًا، عابدًا تقيًا، إمامًا في علوم الشريعة مرضيًا.
قال الشافعي رضي الله عنه: من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيالٌ على أبي حنيفة. وقال: قيل لم لمالكٍ رضي الله عنه: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم. رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.
وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامه أنثى، وهو وهي. وقرئ:(مَسْكَنكُم) و (لا يَحْطِمَنْكُمْ)، وقرئ:(لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بفتح الحاء وكسرها. وأصله: لا يَحْطِمَنَّكُمْ. ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولى العقل: أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والنمل مقولًا لهم)، أي: لأجلهم، فجعلهم كالمخاطبين، واللام في "لهم" مثلها في قوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [مريم: 73]، أي: لأجلهم، فجعلهم كالمخاطبين.
قوله: (يحتمل أن يكون جوابًا للأمر، وأن يكون نهيًا بدلًا من الأمر)، روى صاحب "الفرائد"، عن الفراء: هو نهيٌ فيه طرفٌ من الجزاء. وعن الأخفش: بل هذا على تقدير الواو العاطفة يكون نهياً بعد أمرٍ. والتقدير: ادخلوا مساكنكم لا يحطنكم سليمان، وعلى قول الفراء التقدير: إن دخلتم مساكنكم لا يحطمنكم سليمان.
وقال صاحب "الكشف": هذا وإن كان في المعنى صحيحًا إلا أن اللفظ يمنع من فصاحته، ولو حمل عليه، لأن النون لا تدخل في الجزاء إلا في ضرورة الشعر.
وقال صاحب "الفرائد" يمكن أن يقال: لم يعطف، لأن توكيدٌ للطلب، فهو كما في الخبر، نحو قوله:{لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2].
والذي جوّز أن يكون بدلا منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا، أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها.
[(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)].
ومعنى (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) تبسم شارعا في الضحك وآخذا فيه، بمعنى أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم)، ومعنى هذا الأسلوب وهو أن ينهى الغير، والمراد: نهي المخاطب النهي عن أن يكون المخاطب على وصفٍ هو ملزوم المنهي عنه، فمآل المعنى: لا تكونوا خارجين عن مساكنكم فيحطمنكم سليمان وجنوده، ولذلك صح أن يكون بدلً من {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} .
قوله: (عجبت من نفسي ومن إشفاقها)، بعده:
…
ومن طرادي الطير عن أرزاقها
في سنةٍ قد كشفت عن ساقها
…
حمراء تبري اللحم عن عراقها
كشف الساق: عبارةٌ عن شدة الأمر، لأن الإنسان إذا أصابته شدةٌ شمر عن ساقه، والعراق: العظم الذي لا لحم عليه، والذي عليه لحمٌ فهو عرقٌ بفتح العين. بري اللحم. قشره، أي: عجبت من إشفاق نفسي، فجاء بقوله:"من نفسي ومن إشفاقها"، كما كان الأصل:{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} جنود سليمان، فجاء بقوله:{سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18]، ليكون أبلغ للإجمال والتفصيل والتكرير مع التبيين.
قوله: (تبسم شارعًا في الضحك)، قال أبو البقاء:{ضَاحِكًا} ، حالٌ موكدة.
قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء. وأما ما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه؛ فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب، وقرأ ابن السميقع:(ضحكا). فان قلت: ما أضحكه من قولها؟ قلت: شيئان، إعجابه بما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صاحب "الكشف": هي حال مقدرة، أي: فتبسم مقدرًا الضحك، ولا يكون محمولًا على الحال المطلق، لأن التبسم غير الضحك، وأنه ابتداء الضحك، وإنما يصير التبسم ضحكاً إذا اتصل ودام، فلابد من هذا التقدير.
قوله: (إن رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه)، مذكورٌ في حديث القيامة، آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة. أخرجه البخاري ومسلمٌ والترمذي عن ابن مسعود.
النهاية: النواجذ من الأسنان: الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك، والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان، والمراد: الأول، لأنه ما كان يبلغ به الضحك حتى يبدو آخر أضراسه، ولو أريد الثاني لكان مبالغةً في ضحكه من غير أن يراد ظهور نواجذه في الضحك، وهو أقيس لاشتهار النواجذ بأواخر الأسنان. وإليه أشار المصنف بقوله:"فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي".
قوله: (عند الاستغراب)، النهاية: وفي الحديث: إنه ضحك حتى استغرب، أي: بالغ فيه. يقال: أغرب في ضحكه واستغرب، وكأنه من الغرب: البعد، وقيل: هو القهقهة.
قوله: (وقرأ ابن السميفع: ضحكاً)، السميفع: بفتح السين والفاء، وقد يضم.
دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها:(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ): تعني: أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا: من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل الذي هو مثل في الصغر والقلة، ومن إحاطته بمعناه، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن جني: "ضحكًا" منصوبٌ على المصدر بفعل مضمر يدل عليه "تبسم"، كأنه قيل: ضحك ضحكًا. هذا مذهب صاحب "الكتاب"، وقياس قول أبي عثمان في قولهم: تبسمت وميض البرق، أنه منصوبٌ بنفس "تبسمت"، لأنه في معنى: أومضت.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون اسم فاعلٍ مثل: نصب، لأنه ماضيه: ضحك، فهو لازمٌ.
قوله: (الحكل)، الحكل: ما لا يسمع له صوتٌ. وقال رؤبة:
لو كنت قد أوتيت علم الحكل
…
علم سليمان كلام النمل
قوله: (ولذلك اشتمل دعاؤه)، أي: ولأجل أن قوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} كان منيًا على أمرين: على شهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى، وعلى إحاطته بمعنى ما أدركه سمعه ما همس به الحكل، أردفه بقوله:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} ، لأنهما نعمتان جليلتان موجبتان شكر منعمهما.
قوله: (على استيزاع الله)، الراغب: قيل: الوزوع: الولوع بالشيء، ورجل وزوعٌ،
شكر ما أنعم به عليه من ذلك، وعلى استيفاقه لزيادة العمل الصالح والتقوى.
وحقيقة (أَوْزِعْنِي): اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر والديه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} ، قيل: ألهمني، وتحقيقه: أولعني ذلك واجعلني بحيث أزع نفسي عن الكفران.
وقال الزجاج: {أَوْزِعْنِي} : ألهمني: وتحقيقه وتأويله في اللغة: كفني عن الأشياء التي تباعد عنك.
فعلى هذا هو كنايةٌ تلويحيةٌ، فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به يقيد تلك النعمة من الشكر، وعلى تقدير المصنف: استعارةٌ مكنية بحيث جعل شكر النعمة كالناقة، فطلب أن يجعله كعقاله مرتبطاً إياه. وإليه الإشارة بقوله:"لا ينفلت عني"، والمراد: قيد النعمة باستدامة الشكر والمحافظة عليها. ومنه الحديث: "النعمة وحشية قيدوها بالشكر، فإنها إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت". وقوله: "احذروا نفار النعم بقلة الشكر، فما كل شاردٍ بمردودٍ".
قوله: (وعلى استيفاقه)، الجوهري: واستوقفت الله، أي: سألته التوفيق. وقال أبو القاسم القشيري: التوفيق ما تتفق به الطاعة، وهو القدرة التي تصلح للطاعة، واختص هذا الاسم بما يتفق به الخير دون الشر عرفًا شرعيًا.
لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا النعمة الراجعة إلى الدين، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته، وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له، وقالوا: رضي الله عنك وعن والديك.
وروي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ، ثم دعا بالدعوة. ومعنى (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) واجعلني من أهل الجنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن النعمة على الولد نعمةٌ على الولدين)، هذا إذا قيدت النعمة المطلقة في {أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} بما سبق من النعمتين، وأما إذا تركت على إطلاقها لتدخل فيها هاتان النعمتان دخولًا أوليًا يكون الحكم بالعكس، أي: النعمة على الوالد نعمةٌ على الولد، كما في قوله تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] إلى قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] إلى آخر الآيات، ويعضده قوله تعالى:{اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبا: 13] بعد قوله: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: 10]، وقوله:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [سبأ: 12] إلى آخره، ولأن قوله:{أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل: 19] مطابقٌ لقوله: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] لإرادة المبالغة، فليتأمل.
قوله: (لئلا يذعرن)، ذعرته: أفزعته، ذعر فهو مذعورٌ. قال:
ذعرت به القطا وبقيت عنه
…
مقام الذئب كالرجل اللعين
ومعنى: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} : واجعلني من أهل الجنة، أي أنه كنايةٌ عنه، كقوله تعالى:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29، 30]، أي: ادخلي في جملة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلكهم، وادخلي جنتي معهم.
[(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَاتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)].
(أَمْ) هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال: (ما لِيَ لا أَراهُ" على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: "أهو غائب"؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونحوه قولهم: إنها لإبلٌ أم شاءٌ)، قيل: لو قال ونحوه قوله: "أزيدٌ عندك أم عندك عمرٌو" كأن أولى، لأن "أم" المنقطعة تقع في الاستفهام والخبر، وما نحن فيه من قبيل الاستفهام، وأنت في الاستفهام تكون مستفهمًا عن واحد بعينه بعد إضرابك عن الآخر، فكأنك قلت: أزيدٌ عندك؟ ظانًا أنه عند المخاطب، ليوقفك على حقيقة الأمر بلا ونعم، ثم بدا لك وصرت ظاناً أن الذي عنده هو عمرٌو، وأردت أن تترك الاستفهام عن زيدٍ إلى الاستفهام عن عمروٍ، فقلت: أم عندك عمروٌ؟ ولذلك ذكرت لكل واحدٍ منهما خبرة، لإضرابك عن الكلام الأول، واستفهامك عن الكلام الآخر.
وأما الخبر الثابت فأنت في قولك: "إنها لإبلٌ" جئت بالإخبار المحض، ثم جئت بعدها بالاستفهام، كأن قائل هذا سبق بصره إلى شبحٍ فظنه إبلاً فأخبر عن مقتضى ظنه، ثم اعتراه الشك فأعرض عنه، فـ "أم" هذه متضمنةٌ الهمزة "وبل"، فـ "بل" تدل على أنه قد أضرب عما سبق من الكلام، والهمزة على أنه يستفهم كلامًا آخر.
وقلت: معنى قوله: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} الإخبار وإن كان لفظه الطلب، وإليه الإشارة بقوله:{مَا لِيَ لَا أَرَى} على معنى أنه لا يراه وهو حاضرٌ لساترٍ ستره أو غير ذلك، فإنه في الجزم كونه حاضرًا مثل قوله:"إنها لإبلٌ"، وليس مثل:"أزيدٌ عندك"، لأنه ينكر على نفسه إنكارًا بليغًا عدم رؤيته، وهو حاضرٌ، وكذا الجملة الثانية تقريرٌ لإثبات خلافه، وأنه غائبٌ قطعاً لمجيء "كان" وإيقاع "من الغائبين" خبراً له لدلالتهما على أنه متوغلٌ في الغيبة. قال: بعيد، هذا في قوله:{سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]: "إن كنت من
تجهز للحج بحشره، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدّى ويصلى فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأنّ تحت يدها اثنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاذبين" أبلغ من: كذبت، لأنه إذا كان معروفًا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبًا لا محالة، فالهمزة للتقرير، وإليه أومأ بقوله: "كأنه يسأل عن صحة ما لاح له".
قوله: (بحشرةٍ)، فعلٌ بمعنى مفعول، كالنقص والخطب، وقيل: جمع حاشرٍ، كالحرس في جمع حارس، إذا كانت الرواية "بحشرةٍ" بفتح الشين.
قوله: (قناقنه)، الجوهري: القنقن: الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القني، وكذلك القناقن بالضم، والجمع القناقن بالفتح، كالجلاجل جمع الجلاجل. ونظير القناقن- بالضم- في أنه نعت فردٍ: العذافر، وهو الجمل القوي، وتحليق الطائر: ارتفاعه في طيرانه.
قوله: (فتفقده)، الفقد: عدم الشيء بعد وجوده، وهو أخص من العدم، فإن العدم يقال فيه وفيما لم يوجد بعد. قال تعالى:{مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 71، 72]، والتفقد: التعهد، لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء، والتعهد: تعرف العهد المتقدم. قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} . الفاقد: المرأة تفقد ولدها أو زوجها.
قوله: (ملك بلقيس)، بلقيس: بالعربية بكسر الباء، وبالعجمية: بفتح الباء: وهي بيت قريقيس.
عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: علىّ به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها الله وقال:
"بحق الذي قوّاك وأقدرك علىّ إلا رحمتينى"، فتركته وقالت:"ثكلتك أمك، إنّ نبى الله قد حلف ليعذبنك"، قال:"وما استثنى"؟ قالت: "بلى قال: أو ليأتينى بعذر مبين"، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها علىّ الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، فقال:
"يا نبي الله، اذكر وقوفك بين يدي الله"، فارتعد سليمان وعفا عنه، ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدّب
بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: " كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه".
وقيل: "أن يطلى بالقطران ويشمس". وقيل: "أن يلقى للنمل يأكله". وقيل: "إيداعه القفص".
وقيل: "التفريق بينه وبين إلفه". وقيل: "لألزمنه صحبة الأضداد". وعن بعضهم: "أضيق السجون معاشرة الأضداد". وقيل: "لألزمنه خدمة أقرانه". فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟
قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع: وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة:
جاز أن يباح له ما يستصلح به.
وقرئ: (ليأتينى) و (ليأتينن). والسلطان: الحجة والعذر. فإن قلت: قد حلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عفريت الطير)، نقل صاحب "النهاية" عن المصنف: العفر والعفرية والعفريت والعفارية: القوي المتشيطن الذي يعفر قرنه، والياء في عفرية وعفارية للإلحاق، والتاء في عفريت للإلحاق بقنديل. وفي بعض النسخ:"عريف الطير"، العريف: النقيب، وهو دون الرئيس عرف عرافةً بالضم والكسر: صار عريفاً.
قوله: ("ليأتينني" و"ليأتينن")، قرأ ابن كثيرٍ:"ليأتينني" بنونين، الأولى مفتوحةٌ
على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان، حتى يقول:"والله ليأتيني بسلطان"؟ قلت: لما نظم الثلاثة بـ "أو" في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادّعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشددةُ، والباقون: بواحدةٍ مكسورةٍ مشددةٍ، والأصل قراءة ابن كثيرٍ، لكن حذفت النون التي قبل ياء المتكلم لاجتماع النونات.
قوله: (لما نظم الثلاثة بـ "أو" في الحكم الذي هو الحلف)، يعني: إن كان العطف جمع الأمور الثلاثة في حكم الحلف ظاهراً، لكن "أو" الثانية للترديد، والأولى للتخيير، فيكون قوله:{أَوْ لَيَاتِيَنِّي} معطوفاً على {لَأُعَذِّبَنَّهُ} ، لا على {لَأَذْبَحَنَّهُ} ، ليؤول معنى الثلاثة إلى الآيتين، فكأنه قيل: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيبٌ ولا ذبحٌ، وإن لم يكن كان أحدهما من غير تعيينٍ، فليس حينئذٍ في الكلام ادعاء درايةٍ من سليمان عليه السلام لانبناء الكلام على التخيير والترديد.
قال القاضي: والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث.
قوله: (أن يتعقب حلفه)، الجوهري: عاقبه أي جاءه بعقبه، فهو معاقبٌ وعقيبٌ، والتعقيب مثله، يعني قوله:{أَوْ لَيَاتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أوحي إليه بعد حلفه بالفعلين، أي: فلما أتم كلامه عقبه بما أوحى إليه، وما أوحى إليه لا يكون إلا يقيناً عن درايةٍ.
الدراية: علمٌ يحصل بالتكلف، ولهذا لا يجوز إطلاقه على الله تعالى.
من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله:(أَوْ لَيَاتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) عن دراية وإيقان.
[(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)].
(فَمَكَثَ) قرئ بفتح الكاف وضمها. (غَيْرَ بَعِيدٍ) غير زمان بعيد، كقولك: عن قريب. ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله عز وجل.
(أَحَطْتُ): بإدغام الطاء في التاء؛ بإطباق وبغير إطباق: ألهم الله الهدهد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قول الشاعر:
والله لا أدري وأنت الداري
فشاذٌ، يقال: دريته ودريت به دريًا، ودريةً ودرايةً.
قوله: ({فَمَكَثَ} قرئ بفتح الكاف وضمها)، بالفتح عاصمٌ، وبالضم الباقون.
قوله: ({أَحَطتُ} بإدغام الطاء في التاء بإطباقٍ وبغير إطباقٍ)، قيل: ذهب بعضهم إلى أن الحروف المطبقة تدغم في غيرها مع بقاء الإطباق، ورده ابن الحاجب بأن الإطباق صفةٌ للمطبقة ولا يكون إلا بها، وإذا لم يكن إلا بها ينافي الإدغام، لأنه يجب إبدالها إلى المدغم فيه، فيؤدي إلى أن تكون موجودةً غير موجودةٍ وهو متناقضٌ، وذلك أن الإطباق رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج عنده، فلا يستقيم
فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا بنفس الحرف، وإذا كان كذلك فالتحقيق أن نحو:{فَرَّطْتُ} [الزمر: 56]، و"أغلطت"، و {أَحَطتُ} بالإطباق ليس معه إدغامٌ، ولكنه لما اشتد التقارب وأمكن النطق بالثاني مع الأول من غير نقل اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل، فأطلق عليه الإدغام.
وأيضاً الإنسان يحس من نفسه عند قوله: {أَحَطتُ} النطق بالطاء خفيفةً وبالتاء بعدها، فلا يجوز أن يقال: إن الطاء مدغمةً، لأن إدغامها يوجب قلبها إلى ما بعدها.
قوله: (فكافح سليمان)، الأساس: كافحه لاقاه مواجهةً عن مفاجأةٍ، ولقيته كفاحًا وكافحوهم في الحرب: ضاربوهم تلقاء الوجوه. الجوهري: أي ليس دونها ترسٌ ولا غيره.
وكافح هاهنا مستعارٌ لمواجهة الكلام وسلوك طريق التصريح، دون الإيماء والتلويح كما هو عادة المتسفل أن يتكلم بين يدي المستعلي، لاسيما المخاطب نبي الله، ومن ثم قال محيي السنة: الإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول: علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك، وجئتك {مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}. وليست هذه المكافحة من قبيل رفع الصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] حتى تعارض به، ويقال: كيف يمكن للهدهد المكافحة وهو أضعف مخلوق، وقد أمر الله تعالى المؤمنين الذين هم أشرف الخلائق بخفض الصوت عند نبيه بقوله:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2]، لأن هذا تأديب وتهذيب لسليمان عليه السلام وذلك تعظيم لجلالة حضرة الرسالة ورفع منزلتها، ولكل مقام مقال.
فعلى الخائض في الطعن إلقاء البال، وذلك أن نبي الله سليمان حينما رأى سوابغ نعم الله- والآية في حقه وفي حق أبيه- ملكًا وعلمًا واستبدادهما بالمزية والفضل على سائر الناس، حتى قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وعقبه بقوله: {يَا أَيُّهَا
والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِين} [النمل: 16]، وأراد الله تعالى أن يثبته على هذا الشكر، ولا تؤديه تلك النعم إلى العجب والطغيان، ألهم الهدهد لمكافحته تهييجًا له وإلهاباً وابتلاءً وتنبيهًا.
وقريبٌ منه قوله تعالى في حق أفضل الخلق: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَاب} إلى قوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [يونس: 94، 95]، أي: دم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله.
ونظير هذا الابتلاء الكليم بالخضر عليهما السلام. روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا أعلم. قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك". الحديث بتمامه.
ولعل المصنف نظر في كلام سليمان عليه السلام وافتخاره بالعلم والملك فبنى كلامه عليهما، فقوله:"لتتحاقر إليه نفسه"، ينظر إلى الملك، و"يتصاغر إليه علمه" إلى العلم، فعلى هذا قوله:"ابتلاءً له في علمه"، مفعولٌ له لقوله:"ألهم الله"، و"تنبيهاً" عطفٌ عليه.
وقوله: "لتتحاقر"، تعليلٌ لقوله:"تنبيهاً"، وإنما أتى باللام فيه، لأنه ليس فعلًا للمنبه، بخلافه في قوله:"تنبيهًا"، لأنه فعلٌ للملهم، والضميران في "إليه" و"نفسه" في الصيغتين لسليمان عليه السلام.
قال في "الأساس": تحاقرت إليه نفسه، وقد حقر في عيني حقارةً، وتصاغرت إليه نفسه: صارت صغيرة الشأن ذلًا ومهانةً، ولله سبحانه وتعالى أن يمتحن أفضل الخلق بأحقره بناءً على المشيئة المحضة أو المصلحة على الخلاف.
وتنبيها على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب؛ الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علما: أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم. قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في أدنى خلقه وأضعفه)، لأن الهدهد من البغاث لا من العتاق، قال:
سليمان ذو ملكٍ تفقد هدهدا
…
وإن أخس الطائرات الهداهد
قوله: (قالوا: فيه دليلٌ على بطلان قول الرافضة)، يعني: دل بإشارة النص والإدماج على أن ما قالوا: إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيءٌ من الجزئيات باطلٌ، لأن هذا الهدهد قد اطلع على ما خفي على نبي الله سليمان، ولا يلزم من ذلك فضل آحاد الناس على سيدنا صلوات الله عليه.
روينا عن الإمام أحمد وابن ماجه، عن طلحة بن عبيد الله قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقومٍ على رؤوس النخل، فقال:"ما يصنع هؤلاء"؟ قالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى تلقح، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم:"ما أظن ذلك يغني شيئاً" فأخبروا بذلك فتركوه، فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"فإن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله بشيءٍ فخذوا مني، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية أحمد: فقال: "إذا كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به".
وأما تحقيق المسألة: فقد ذكره الإمام في "نهاية العقول" قال: اتفقت الإمامية على أن
(سبأ) قرئ بالصرف ومنعه. وقد روي بسكون الباء. وعن ابن كثير في رواية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإمام يجب أن يكون عالمًا بكل الدين، فإن كان مرادهم بذلك أنه يجب أن يكون عالمًا بجميع القواعد الشرعية وضوابطها، وبكثيرٍ من الفروع الجزئية لتلك القواعد، بحيث لو حدثت حادثةٌ ولا يعلم حكمها يكون متمكنًا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح، فذلك مذهبنا، وهو الذي نعني بقولنا: الإمام يجب أن يكون مجتهدًا، وإن عنوا به أن الإمام يجب أن يكون عالمًا على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها، فليس الأمر عندنا كذلك.
والمعتمد في إفساده: أن الجزئيات التي يمكن وقوعها غير متناهيةٍ، فيستحيل حصوله للإنسان. قالوا: يجب للإمام أن يحكم في كل الأمور، لأنه لا يحسن من الملك أن يفوض سياسة جنده ورعيته إلى من لا يعرف السياسة وأحكام الملك، ولأنه لو لم يعلم الأحكام كلها لجاز أن يحدث حادثٌ لا يعرف حكمها، ولا يؤدي اجتهاده إليه، ولا يتسع الزمان لمراجعة الاجتهاد، ولأن الجهل بكل الشريعة منفرٌ، ولا يجوز ثبوته للإمام قياسًا على النبي. ويعني بكونه منفرًا أن الناس إذا علموا أنه يخفى على إمامهم شيءٌ من الأحكام استنكفوا منه.
وأجاب الإمام عن الأسئلة بأجوبةٍ شافيةٍ، فلينظر هناك.
وعن بعضهم أنهم تمسكوا بقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] أرادوا به الإمام الذي يستخلف، والصحيح أنه يجوز استخلاف المفضول عند وجود الفاضل، فلهذا ترك عمر رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة نفرٍ وفيهم الفاضل والمفضول، والحق أن المراد بقوله:{إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]: اللوح المحفوظ، لقوله:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} [يس: 12]، والله أعلم.
قوله: ({سَبَإِ} قرئ بالصرف ومنعه)، البزي وأبو عمروٍ:"سبأ" هاهنا، وفي سبأ: بفتح
(سبا)، بالألف كقولهم: ذهبوا أيدي سبا. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحىّ أو الأب الأكبر صرف. قال:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ
…
يبنون من دون سيله العرما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهمزة من غير تنوينٍ، وقنبل: بإسكانها على نية الوقف، والباقون: بالخفض مع التنوين.
قوله: (ذهبوا أيدي سبا)، الجوهري: ذهبوا أيدي سبا، وأيادي سبا، أي: متفرقين، وهما اسمان جعلا واحدًا، مثل: معدي كرب.
الراغب: سبأ: اسم بلدٍ تفرق أهله، ولهذا يقال: ذهبوا أيادي سبأ، أي: تفرقوا تفرق أهل هذا المكان من كل جانبٍ.
روينا في "مسند الإمام أحمد" وفي "سنن الترمذي" و"أبي داود"، عن فروة بن مسيكٍ، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما سبأ: أرضٌ أو امرأةٌ؟ قال: "ليس بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولكنه رجلٌ ولد عشرةً من العرب، فتيامن منهم ستةٌ، وتشاءم منهم أربعةٌ، فأما الذين تشاءموا فلخمٌ وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعرون وحمير وكندة ومذحجٌ وأنمار"، فقال: رجلٌ: وما أنمار؟ فقال: "الذين منهم خثعمٌ وبجيلةٌ".
قوله: (من سبأ الحاضرين)، البيت. "الحاضرين": صفة سبأ، و"مأرب" مفعول "الحاضرين"، و"إذ" ظرفه، وقيل:"مأرب" ظرفٌ لـ "الحاضرين" و"إذ" أيضًا. و"العرم": السد يصنع في الوادي لتحبيس الماء.
يمدح رجلًا هو من قبيلة سبأ الحاضرين مدينة مأرب الذين بنوا العرم دون السيل،
وقال:
الواردون وتيم في ذرى سبإ
…
قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ. ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. و (النبأ): الخبر الذي له شأن. وقوله: (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون: البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعا. أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: العرم المسناة التي بنتها بلقيس سكرًا وسداً، والمعنى: يبنون من دون السيل السد.
قوله: (الواردون)، البيت. الذرى- بالفتح-: كل ما استترت به، يقال: إنا في ظل فلانٍ وفي ذراه، أي: كنفه وستره. وذرى كل شيء: أعاليه، الواحدة: ذروة، يقول: الواردون هم وتيم في أعلى أرض سبأ مغلولين بأغلالٍ من جلد الجواميس، بحيث تعض أعناقهم.
وصرف "سبأ" إذ جعله بمعنى الحي أو الأب الأكبر.
قوله: (معافر)، قيل: معافر حيٌ من همدان، وإليه تنسب الثياب المعافرية.
الأساس: المعافرية: ثياب منسوبةٌ إلى بلد نزل فيه معافر بن أد.
قوله: (الذي سماه المحدثون: البديع)، أي: المتأخرون، جعلوه من قسم البديع، واسم هذه الصنعة في البديع: تضمين المزدوج، وهو أن يقع في أثناء القرائن في النظم أو النثر لفظان مسجعان بعد رعاية حدود الأسجاع والقوافي، وقد جاء في الشعر:
مضى الصاحب الكافي ولم يبق بعده
…
كريمٌ يروي الأرض فيض غمامه
فقدناه لما تم واعتم بالعلا
…
كذاك خسوف البدر عند تمامه
معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان (بِنَبَإٍ)"بخبر"، لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح، لما في النبإ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
[(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ)].
المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال)، وهي ما في الإنباء من معنى الإخبار الذي ينبه السامع على الشيء من حيث لا يدري.
الراغب: النبأ: خبرٌ ذو فائدةٍ عظيمةٍ يحصل به علمٌ أو غلبة ظنٍّ، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأٌ حتى يتضمن لما ذكر، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأٌ أن يتعرى عن الكذب كالتواتر، وخبر الله تعالى وخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولتضمن النبأ لمعنى الخبر يقال: أنبأته بكذا، أي: أخبرته به، ولتضمنه معنى العلم قيل: أنبأته كذا، ويقال: أنبأته ونبأته، ونبأته أبلغ.
الأساس: أتاني نبأٌ من الأنباء، وأنبئت بكذا وكذا، ورجلٌ نابئٌ وسيلٌ نابئٌ طارئٌ من حيث لا يدري، وهل عندكم نبائة خبرٍ. وقال الشاعر:
ألا فاسقياني وانفيا عنكما القذى
…
فليس القذى بالعود يسقط في الخمر
ولكن قذاها كل أشعث نابئٍ
…
أتتنا به الأقدار من حيث لا ندري
والخبر الذي يكون بهذه المثابة يعتني بشأنه، ومن ثم قال:"النبأ: الخبر الذي له شأنٌ"، فيكون قد أدمج فيه تتميم معنى المكافحة الذي يعطيه قوله:{أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، كما قال: "فكافح سليمان بهذا الكلام
…
ابتلاءً ونبهه به على أن في أدنى خلقه من أحاط علمًا بما لم يحط به".
أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس.
والضمير في (تَمْلِكُهُمْ) راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها:"كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين". وقيل: "ثلاثين مكان ثمانين"، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم. ومن نوكى القصاص من يقف على قوله:(وَلَها عَرْشٌ) ثم يبتدئ (عَظِيمٌ وَجَدْتُها) يريد: أمر عظيم، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فرّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نوكى القصاص)، الجوهري: النوك- بالضم-: الحمق. قال:
وداء النوك ليس له دواء
والنواكة: الحماقة، وقومٌ نوكى ونوكٌ أيضًا على القياس، مثل: أهوج وهوج.
قوله: (فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمةٍ)، قال صاحب "المرشد": ولا
فإن قلت: كيف قال: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مع قول سليمان: (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)[النمل: 16]؛ كأنه سوّى بينهما؟ قلت: بينهما فرق بين، لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلا إلى ما أوتي من النبوّة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها؛ فبين الكلامين بون بعيد. فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك؛ لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.
[(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوقف على {عَرْشٌ} ، وقد زعم بعضهم جوازه، وقال: معناه: عظيمٌ عند الناس، وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتمٍ وغيره من المتقدمين، ونسبوا القائل به إلى جهل.
وقول من قال: معناه عظيمٌ عبادتهم للشمس من دون اله، قولٌ ركيكٌ لا يعتد به، وليس في الكلام ما يدل عليه، والوقف عند قوله:{عَظِيمٌ} حسنٌ.
قوله: (فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها)، قال صاحب "الكشف": قيل التقدير: وأوتيت من كل شيءٍ يؤتاها، أي: يؤتى المرأة. ألا ترى أنها لم تؤت الذكر.
فإن قلت: من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب "الحيوان"، خصوصا في زمن نبىّ سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له.
من قرأ بالتشديد أراد: (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن. ويجوز أن تكون (لا) مزيدة، ويكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الرجاح العقول)، الأساس: ومن المجاز: رجلٌ راجح العقل، وفلانٌ في عقله رجاحةٌ، وفي خلقه سجاجةٌ، وقومٌ مراجيح العلم.
قوله: (استقراء ذلك)، الجوهري: قروت البلاد قروًا وقريتها وأقريتها واستقريتها: إذا تتبعتها تخرج من أرض إلى أرضٍ. وقيل: ألف الجاحظ كتابًا سماه "كتاب الحيوان"، وقيل:"طبائع الحيوان".
قوله: (ومن قرأ بالتشديد)، قرأ الكسائي:"ألا يا اسجدوا" بتخفيف اللام، ويقف على "ألا يا" ويبتدئ "اسجدوا" على الأمر، أي: ألا يا أيها الناس اسجدوا. والباقون: يشددون اللام لإدغام النون فيها، ويقفون على الكلمة بأسرها.
قال الزجاج: من قرأ بالتشديد فالمعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، أي: فصدهم لأن لا يسجدوا، وموضع "أن" نصبٌ بقوله:{فَصَدَّهُمْ} ، أو يجوز أن يكون خفضًا، وإن حذفت اللام. ومن قرأ بالتخفيف فهو موضع سجدةٍ، ومن قرأ بالتشديد فلا.
ومن قرأ بالتخفيف، فهو (ألا يسجدوا)، (ألا) للتنبيه، و (يا) حرف النداء، ومناداه محذوف، كما حذفه من قال:
ألا يا أسلمي يا دار مىّ على البلى
وفي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش: (هَلّا) و (هَلَا)؛ بقلب الهمزتين هاء. وعن عبد الله: (هلا تسجدون) بمعنى ألا تسجدون على الخطاب. وفي قراءة أبىّ: (ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون) وسمي المخبوء بالمصدر: وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عز وعلا من غيوبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى)، تمامه لذي الرمة:
ولا زال منهلًا بجرعائك القطر
انهل القطر انهلالًا، أي: سال بشدةٍ، والجرعاء: الرملة المستوية التي لا تنبت شيئًا.
قوله: ("هلا" و"هلا")، بالتشديد والتخفيف على القراءتين، بقلب الهمزة هاءً.
وفي "المطلع": فإن قيل: كيف جاء في قراءة التخفيف مكتوبًا في المصحف {يَسْجُدُوا} كما يكتب المضارع، وحرف النداء لا يوصل بالفعل كتابةً؟ !
قلت: رسم الكتابة الأولى كان على موافقة اللفظ كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] وأشباهه، فلما وصلت الياء من حرف النداء بسين "اسجدوا" لفظًا كتبت الياء موصولةً بها، على أنه يجوز أن الإمام بناه على القراءة بالتشديد، وهذا هو العذر في قوله:{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] لمن فسره بـ "ألا يا ناس اتقون".
قوله: (مما خبأه عز وعلا من عيوبه)، الراغب: الخبأ: يقال لك مدخرٍ مستورٍ، ومنه:
وقرئ: (الخب)، على تخفيف الهمزة بالحذف. والخبا، على تخفيفها بالقلب، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار. ووجهها: أن تخرّج على لغة من يقول في الوقف: هذا الخبو، رأيت الخبا، ومررت بالخبى. ثم أجري الوصل مجرى الوقف، لا على لغة من يقول: الكمأة والحمأة، لأنها ضعيفة مسترذلة. وقرئ:(يخفون ويعلنون) بالياء والتاء.
وقيل: من (أَحَطتُ إلى (العَظِيمِ) هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاريةٌ مخبأة، والخبأة: هي التي تظهر مرةً، وتخبأ أخرى، والخباء: سمةٌ في موضعٍ خفيٍّ.
قوله: (لا على لغة من يقول: الحمأة والكمأة)، أي: يقولون في الحمأة والكمأة بالهمز: الحماة الكماة، لأنها مستر ذلةٌ، لأن الاصل في تخفيف الهمزة- إذا سكن ما قبلها- الحذف، لا القلب، كالحمة والكمة.
الجوهري: الحمأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين، والكمأة واحدها كمءٌ على غير قياس، وكمأت [القوم] كمأ: أطعمتهم الكمأة.
قوله: (وقرئ: "يخفون" و"يعلنون" بالتاء والياء)، بالتاء الفوقانية: حفصٌ، والباقون: بالياء.
قوله: (وقيل: من {أَحَطتُ} إلى {الْعَظِيمِ} هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة)، قال رحمه الله: معناه: أنه كلام الله ألقى حكايته على لسان الهدهد.
قال صاحب " التقريب": وفي الثاني نظرٌ، لأن قوله:{أَحَطتُ} إلى آخره، ظاهرٌ أنه من كلام الهدهد، فلعل الخلاف من قوله:"ألا يا اسجدوا" على التخفيف، كما هو في
وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"اللباب"، وفيه: من قرأ بلفظ الأمر، أي:"ألا يا اسجدوا"، فهو استئناف كلامٍ من الله تعالى، وقيل: متصلٌ بكلام الهدهد، وقيل: من كلام سليمان.
وقلت: الواجب التوافق بين القراءتين الثابتتين.
قوله: (وفي أخراج الخبء: أمارةٌ على أنه من كلام الهدهد)، يريد أن المناسب من حال الهدهد وكونه قناقن نبي الله، وصاحب وضوئه أن يعظم الله ويسبحه بما تكرر عنده في خزانة خياله من إخراج الخبء، وإلا فالله عز وجل له الأسماء الحسنى، وإليه الإشارة بقوله:"ما عمل عبدٌ عملًا إلى ألقى الله عز وجل عليه رداء عمله".
قوله: (لهندسته)، الجوهري: المهندس: الذي يقدر مجاري القني حيث تحفر، وهو مشتقٌ من الهنداز، وهي فارسيةٌ فصيرت الزاي سينًا، لأنه ليس في شيءٍ من كلام العرب زايٌ بعد الدال، والاسم الهندسة.
قوله: (ذي الفراسة النظار بنور الله)، من قوله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، ثم قرأ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، أخرجه الترمذي عن أبي سعيدٍ.
الجوهري: الفراسة من قولك: تفرست فيه خيرًا، وهو يتفرس، أي: يتثبت وينظر.
مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه ومنطقه وشمائله، ولهذا ورد:"ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله".
فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟ قلت، هي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال المصنف: وحقيقة المتوسمين: النظر المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء، ومعنى قوله: "ولا يكاد يخفى
…
" إلى آخره: أن صاحب الفراسة لا يخفى عليه إذا توسم في منظر شخصٍ، أو منطقة، أو شمائله، ما أبطن به اختصاصه بصنعة أو فعل، قال الله تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84].
قوله: (مخائل)، الجوهري: يقال: أخلت فيه خالًا من الخير، وتخولت فيه خالًا، أي: رأيت فيه مخيلته.
الأساس: أخطأت في فلانٍ مخيلتي، أي: ظني: ورأيت في السماء مخيلة، وهي السحابة، فخالها ماطرةً لرعدها وبرقها، ورأيت فيها مخايل.
وعن بعضهم: يقال: ما أحسن مخيلة السحاب وخاله، أي: خلاقته للمطر، ويقال: مخيلٌ للخير، أي: خليقٌ له، والخال: السحاب الذي فيه مخايل المطر، أي: مظانه.
قوله: (روائه)، أي: منظره البهي، يقال: من الرئي، يقال: رجل له رواءٌ، بالضم، ونظيره قولهم: إن الجواد عينه فراره، أي: يغنيك ظاهره عن اختبار باطنه، كقول عبد الله ابن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه:"ما هذا بوجه كذابٍ"، ثم قال لنفسه:
لو لم يكن فيه آياٌ مبينةٌ
…
كانت بداهته تنبيك بالخبر
ويروى: "تغنيك".
واجبة فيهما جميعا، لأنّ مواضع السجدة؛ إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وقد اتفق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجود، والأخرى ذمٌ للتارك)، يريد القراءة بتخفيف {أَلَّا يَسْجُدُوا} وبتثقيلها، وقلت: أما المعنى على التثقيل وبيان الذم، فإن الهدهد أخبر نبي الله أنه وجد قومًا مرتكبين أمرًا فظيعًا، حيث يسجدون لما لا ينبغي السجود له، ويمتنعون عن سجود من يجب عليهم سجوده، ثم بين لهم بعض وجه امتناعهم عن السجود لله تعالى إلى السجود للغير بقوله:{وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} ، لأن الواو تقتضي معطوفًا عليه هو سببٌ لما تقدم، المعنى: ذلك بأن الله رقم عليهم الشقاوة وحرمهم التوفيق، وسلط عليهم الشيطان حتى زين لهم الكفر، فسجدوا لمن لا يستحقه، لكونه مخلوقًا مسخرًا، فصدهم عن الطريق المستقيم بأن امتنعوا عن السجود لمن يستحقه، لتفرده بكمال القدرة من إخراج الخبء من الأرض والسماوات، وشمول العلم بالخفيات.
والمعنى على التخفيف: إذا كان "ألا يسجدوا" من كلام الهدهد، فالمخاطبون إما بلقيس وقومها، وهم غيبٌ، فإن الهدهد عند هذا التقرير احتمى وغضب عليهم لله تعالى، فجعلهم حضارًا، والتفت إليهم فكافحهم به، وواجههم، أو نبه من بحضرة نبي الله، ليثبتوا على ما هم فيه، ويغتنموا فرصة الإسلام.
وأما قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} فكالاستدراك والترقي، فإن الهدهد لما وصف الله تعالى بما في خزانة خياله من إخراج الخبء رأى بعد ذلك تقصيره في ذلك الرتب، لأن السجود غاية الخضوع والتذلل، ولا يستوجبه إلا من له غاية الجلال والعظمة والكبرياء، فثنى إلى قوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، ولذلك قطعه من الأوصاف الجارية على الله، وأتى باسم الذات الجامعة، وقرنه بكلمة التوحيد، وأردفه بقوله:{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
قال الجوهري: المعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا. وقال بعضهم: إن "يا" في هذا الموضع
أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلفا في سجدة (ص) - فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة. وعند الشافعي: سجدة شكر- وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه. فإن قلت: هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت: نعم إذا خفف وقف على: (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) ثم ابتدأ (أَلَّا يَا اسْجُدُوا)، وإن شاء وقف على (ألا يا)، ثم ابتدأ (اسجدوا) وإذا شدّد لم يقف إلا على (الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). فإن قلت: كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لأنّ وصف عرشها بالعظم: تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك. ووصف عرش الله بالعظم: تعظيم له بالنسبة إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما هو للتنبيه، كأنه قال:"ألا اسجدوا" فلما أدخل عليها "يا" للتنبيه سقطت الألف التي في "اسجدوا"، لأنها ألف وصلٍ، وذهبت الألف التي في "يا" لاجتماع الساكنين، لأنها والسين ساكنان.
قال ذو الرمة: "ألا يا اسلمي" البيت.
قال الإمام: قال أهل التحقيق: قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} يجب أن يكون بمعنى الأمر، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له، وهو كونه قادرًا على إخراج الخبء عالمًا بالأسرار معنى.
قوله: (فغير مرجوع إليه)، قيل: لأن الزجاج توهم أن مع التخفيف صيغة أمرٍ، وهو للوجوب، ومع التشديد ليس كذلك، وفي كلام المصنف ذم التارك إشارةً إلى قولهم: الواجب ما يذم تاركه شرعًا، وردٌ لقول الزجاج قال القاضي: وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها.
سائر ما خلق من السماوات والأرض. وقرئ: (العَظِيمِ) بالرفع.
[(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ* اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ)].
(سَنَنْظُرُ) من النظر الذي هو التأمل والتصفح. وأراد: أصدقت أم كذبت، إلا أن (كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين؛ كان كاذبا لا محالة، وإذا كان كاذبا اتهم بالكذب فيم أخبر به فلم يوثق به. (تَوَلَّ عَنْهُمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من النظر الذي هو التأمل والتصفح)، وعن بعضهم: النظر تقليب الحدقة إلى المرئي، ويعدى بـ "إلى".
قال الشاعري:
إني إليك لما وعدت لناظرٌ
…
نظر الفقير إلى الغني الواجد
والنظر: تأمل الشيء بالعين، ويعدى بـ "في"، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، ومنه نظر في الكتاب، ويقال: نظر له، أي: تعطف، ومن كلام المأمون: ما أحوجني [إلى] ثلاثٍ: صديقٍ أنظر إليه، وفقيرٍ أنظر له، وكتابٍ أنظر فيه.
الراغب: النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص. واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة، والنظير: المثيل، وأصله المناظر وكأنه ينظر كل صاحبه فيباريه، والمناظرة: المباحثة والمباراة في النظر، واستحضار كل ما يراه ببصيرته، والنظر: البحث، وهو أعم من القياس.
تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك. و (يَرْجِعُونَ) من قوله تعالى:(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ)[سبأ: 31] فيقال: دخل عليها من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوّة.
فإن قلت: لم قال: فألقه إليهم، على لفظ الجمع؟ قلت: لأنه قال: (وجَدتُّهَا وقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ)، فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره. وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك.
[(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَاتُونِي مُسْلِمِينَ)].
(كَرِيمٌ) حسن مضمونه وما فيه، أو وصفته بالكرم، لأنه من عند ملك كريم، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حسن مضمونه وما فيه)، أي: أن معناه حسنٌ، وكتابته وترتيبه، وما يتوخى في مثله الحسن مجموعٌ فيه، لما مر في "الشعراء" أن الشيء إذا وصف بالكرم، كأن المراد أن ذلك الشيء فائقٌ في بابه فعلى هذا قوله تعالى:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} إلى {مُسْلِمِينَ} بيان لما في الكتاب، كما صرح به الزجاج، كأنها لما قالت:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي: حسن مضمونه وما فيه، اتجه لسائل أن يقول: بيني لي مضمونه وما فيه، أجابت: فيه {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} ، فقوله:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} مبتدأ خبره محذوف، أما على الفتح فظاهر، وأما على الكسر فعلى تأويل: فيه هذا اللفظ، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} على قراءة الفتح والكسر، فعلى هذا "أن" في {أَلَّا تَعْلُوا} ناصبة، أي: فيه أن لا تعلوا، وإنما لم يؤت بحرف النسق للدلالة على أن الجملتين السابقتين كالتمهيد للثالثة، لأنها المقصودة بالذات، ولذلك عطف الأمر على النهي على سبيل الطرد والعكس تأكيداً، فعلم من هذا التقرير أن ما في كلام الله المجيد مختصر مما في كتاب نبي الله، وذكر ما هو أهم وأعني، ويعضده جواب جعفر ابن يحيي حين سئل عن أوجز كلام فتلا الآية، فقال: جمع الله فيها العنوان والكتاب
مختوم. قال صلى الله عليه وسلم: "كرم الكتاب ختمه". وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاصطنع خاتما. وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. وقيل: مصدّر ببسم الله الرحمن الرحيم.
هو استئناف وتبيين لما ألقى إليها، كأنها لما قالت: إني ألقي إلىّ كتاب كريم، قيل لها: ممن هو؟ وما هو؟ فقالت: إنه من سليمان وإنه: كيت وكيت.
وقرأ عبد الله: (وإنه من سليمان وإنه) عطفا على: (إنِّى). وقرئ: (أنه من سليمان وأنه) بالفتح؛ على أنه بدل من (كِتَابٌ)، كأنه قيل: ألقي إلىّ أنه من سليمان. ويجوز أن تريد: لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان، وتصديره باسم الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والحاجة، وهذا أولى مما ذهب إليه المصنف، فإنه وإن أصاب في قوله:"استئناف وتبيين"، لكنه ذهل عن طريق السؤال، حيث قال:"ممن هو وما هو؟ "، ولم يقل:"ما فيه؟ "، لما يشعر من قوله ألا يكون {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} مكتوباً في الكتاب، على أنه صرح بعد ذلك أنه كان مكتوباً فيه: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس، وكذا عن الزجاج، وقال: لذا كتب الناس: "من عبد الله"، احتذاءً بكتاب سليمان.
قوله: (وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم)، الحديث، من رواية البخاري ومسلمٍ والترمذي وأبي داود والنسائي عن أنسٍ قال: أرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إليهم، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضةٍ، ونفشه: محمدٌ رسول الله. وفي روايةٍ قال: أراد نبي الله أن يكتب إلى العجم، قيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتابًا عليه خاتٌم، فاصطنع خاتمًا.
وقرأ أبيّ: (أن من سليمان وأن بسم الله)، على أن المفسرة. و (أن) في (أَلَّا تَعْلُوا) مفسرة أيضا. (لا تعلوا): لا تتكبروا كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما بالغين معجمة؛ من الغلو: وهو مجاوزة الحد. يروى أنّ نسخة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علىّ وائتوني مسلمين، وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملا لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه، فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية. وقيل:"نقرها فانتبهت فزعة". وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع بن شراحيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملًا لا يطيلون، ولا يكثرون)، وقال القاضي: هذا كلامٌ في غاية الوجازة، مع كمال الدلالة على المقصود، لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الإله وصفاته، صريحًا أو التزامًا، والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل، والأمر بالإسلام الذي هو الجامع لأمهات الفضائل، وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاءً للتقليد، فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة، وهو تلخيص كلام الإمام.
قوله: (فرفرف)، الجوهري: رفرف الطائر: إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه.
الحميري، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، وقالت لقومها ما قالت:(مُسْلِمِينَ) منقادين، أو مؤمنين.
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)[النمل: 32].
الفتوى: الجواب في الحادثة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتاء في السن. والمراد بالفتوى هاهنا: الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم: استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها. (قاطِعَةً أَمْراً): فاصلة. وفي قراءة ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن)، المغرب: واشتقاق الفتوى من الفتى، لأنها جوابٌ في حادثةٍ، أو إحداث حكمٍ، أو تقويةٌ لبيان مشكلٍ.
الجوهري: فتى- بالكسر- يفتى فتًى فهو فتى السن بين الفتاء. عن بعضهم: الفتاء: هو الحداثة واللذاذة، قال:
إذا عاش الفتى مئتين عامًا
…
فقد ذهب اللذاذة والفتاء
وقلت: فعلى هذه الجهة الجامعة بين المستعار والمستعار له، إما الإحداث كما يقال للفتى: هو حديث السن، أو القوة، فإن في الفتى مظنة القوة والشدة.
وفي كلام المصنف أيضًا إشارةٌ إلى هذين المعنيين، فقوله:" فيما حدث لها من الرأي" إشارةٌ إلى الأول، وقوله:"ليمالئوها ويقوموا معها" إشارةٌ إلى الثاني، وقال صاحب "المطلع": فكأن الإفتاء الإشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة، بما عند المفتي من الرأي والتدبير، وهو إزالة ما حدث له من الإشكال، كالإشكاء: إزالة الشكوى.
قوله: (ليمالئوها)، الجوهري: قال أبو زيد: مالأته على الأمر ممالأة: ساعدته عليه، وشايعته.
مسعود رضي الله عنه: (قاضية) أي: لا أبت أمرا إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا: كل واحد على عشرة آلاف.
(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَاسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَامُرِينَ)[النمل: 33].
أرادوا بالقوة: قوّة الأجساد وقوّة الآلات والعدد. وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي: هو موكول إليك، ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك. كأنهم أشاروا عليها بالقتال. أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأى والتدبير، فانظرى ماذا ترين: نتبع رأيك.
[(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ* فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)].
لما أحست منهم الميل إلى المحاربة، رأت من الرأي الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن، ورتبت الجواب، فزيفت أولا ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه؛ بـ (إِنَّ الْمُلُوكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن السكيت: تمالؤوا على الأمر: اجتمعوا عليه وتعاونوا.
قوله: (قوة الأجساد وقوة الآلات)، الراغب: القوة تستعمل تارةً في معنى القدرة، قال تعالى:{خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، وتارةً للتهيؤ الموجود في الشيء، نحو أن يقال: النوى بالقوة نخلٌ، ويستعمل في البدن نحو:{وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، وفي القلب نحو:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، وفي المعاون من خارجٍ نحو:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80]، وفي القدرة الإلهية نحو:{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]
إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة وقهرا (أَفْسَدُوها) أي: خرّبوها - ومن ثمة قالوا للفساد: الخربة -، وأذلوا أعزتها، وأهانوا أشرافها، وقتلوا وأسروا، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها ثم قالت:(وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أرادت: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد. وقيل: هو تصديق من الله لقولها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قالوا للفساد: الخربة)، الأساس: وبلدٌ خرابٌ، وهو صاحب خربةٍ، أي: فسادٍ، وريبةٍ، قال قيس بن النعمان:
لحى الله أدنانا إلى كل خربة
…
وأبطأنا في ساحة المجد أقدحا
وما رأينا من فلانٍ خربةً في دينه.
قوله: (وسوء مغبتها)، الجوهري: وقد غبت الأمور، أي: صارت إلى أواخرها.
قوله: (أرادت: هذه عادتهم المستمرة الثابتة)، يشير إلى قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] الجملة كالتذييل للكلام السابق والتقرير له.
قوله: (وقيل: هو تصديقٌ من الله لقولها)، قال الراغب في "غرة التنزيل": ويجوز أن يكون خبرًا عن الله تعالى بخبر نبينا صلوات الله عليه فيعترض بين جمل ما يحكى تصديقًا لها، ثم قال عائدًا إلى حكاية قولها:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ} [النمل: 35] ويجوز أن يكون من الحكاية على معنى أن الملوك تأثيرهم في القرى التي يدخلونها تخريبها، وكذلك يفعل هؤلاء، يعني: سليمان عليه السلام وخيله.
وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم. ومن استباح حراما فقد كفر، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين.
(مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) أي: مرسلة رسلا بهدية أصانعه بها عن ملكي (فَناظِرَةٌ)؛ ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك، فروي: أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهنّ الأساور والأطواق والقرطة، راكبي خيل مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدرّ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحقا فيه درّة عذراء، وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رجلين من أشراف قومها: المنذر بن عمرو، وآخر ذا رأى وعقل، وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرّة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا، ثم قالت للمنذر:"إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبىّ"، فأقبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: على هذا الوجه {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] ليس بتذييلٍ، وعلى ما ذكره المصنف في الوجهين السابقين تذييلٌ.
قيل: على أن يكون من كلام الله تعالى الوقف على {أَذِلَّةً} لاختلاف القائلين، على أن يكون من كلامها لا يوقف.
قوله: (أصانعه بها)، الأساس: ومن المجاز: صانعت فلانًا: إذا داريته، ومنه: المصانعة بالرشوة، وفرس مصانع: لا يعطيك جميع ما عنده من السير كأنه يرافقك بما يبذل منه، ويصون بعضه.
قوله: (والقرطة)، الجوهري: القرط: الذي يعلق في شحمة الأذن، والجمع قرطةٌ، وقراطٌ أيضًا، مثل: رمحٍ ورماحٍ.
الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجنّ فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسىّ من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك، فلما دنا القوم ونظروا: بهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وقال: "أين الحقّ"؟ وأخبره جبريل عليه السلام بما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فتقاصرت إليهم نفوسهم)، الأساس: اقتصر المطر: أقلع، وقصر في حاجته، وقصر عن منزلته، وقصر به عمله، وأقصر عن الأمر: كف عنه وهو يقدر عليه، وقصر قصورًا: عجز عنه، ولم ينله، وتعديته بـ "إلى" في الكتاب لتضمنه معنى: نظر، أي: نظروا إلى أنفسهم متقاصرين، من قوله: قصر عن منزلته، وقصر به عمله، أو من القصور: العجز.
قوله: (ما وراءكم؟ )، قيل: يعني: ما كان معكم ورميتموه خلفكم، وقيل: أي: ما في خاطركم، وما مرادكم، وقال الميداني: قال أبو عبيدٍ: سأل النابغة الذبياني عصام بن شهيرٍ حاجب النعمان- وكان النعمان مريضًا-: ما وراءك يا عصام؟ أى: ما خلفت من أمر العليل، وما أمامك من حاله؟ ووراء من الأضداد.
وقال المفضل: أول من قال ذلك الحارث بن عمرٍو ملك كندة، وذلك أنه لما بلغه جمال ابنة عوفٍ وكمالها وقوة عقلها، دعا امرأةً يقال لها: عصام، فقال: اذهبي حتى تعلمي
فيه فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها، فجعل رزقها في الشجرة. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها، فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية وقال للمنذر: أرجع إليهم، فقالت: هو نبىّ وما لنا به طاقة، فشخصت إليه في اثني عشر ألف قيل، تحت كل قيل ألوف. وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(فلما جاءوا)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لي علم ابنة عوفٍ، فمضت فنظرت إلى ما تر مثله قط، فلما أقبلت قال الحارث: ما وراءك يا عصام؟ قالت: صرح المخض عن الزبدة، القصة إلى آخرها.
قوله: (ثم أمر الأرضة فأخذت شعرةً ونفذت فيها)، أي: في الدرة العذراء، والفاء في "فأخذت" فصيحةٌ، أي: فنقبتها، وأخذت شرعةً ونفذت فيها، ولذلك ترك الفاء في قوله:"وأخذت دودةٌ بيضاء، الخيط بفيها، ونفذت فيها"، أي: في الجزعة المعوجة الثقب.
قوله: (في اثني عشر ألف قيل)، النهاية: الأقيال: جمع قيل، وهو أحد ملوك حمير دون الملك الأعظم.
وعن بعضهم: القيل: الملك الذي له القول والأمر، وأصله: القيل، فخفف، وقيل: من التقيل: وهو التتبع كما قيل له: تبعٌ.
وفي الدعاء: "سبحان من تعطف بالمجد وقال به"، أي: ملك من القيل، وفي "النهاية" عن الأزهري: معناه: غلب به، وأصله من القيل: الملك، لأنه ينفذ قوله.
(أَتُمِدُّونَنِ) وقرئ: بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة وبالإدغام، كقوله:(أَتُحاجُّونِّي) وبنون واحدة: "أتمدوني". الهدية: اسم المهدى، كما أن العطية اسم المعطى، فتضاف إلى المهدى والمهدى إليه، تقول هذه هدية فلان، تريد: هي التي أهداها أو أهديت إليه، والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه. والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({أَتُمِدُّونَنِ} قرئ بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة) ابن عامرٍ وعاصمٌ والكسائي، وبالإدغام حمزة.
قال القاضي: {أَتُمِدُّونَنِ} خطابٌ للرسول ومن معه، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب على الغائب.
قال صاحب "المطلع": "تمددون" فيه حذف النون الثانية التي يصحبها ضمير المتكلم كما في "قدي" وحذف الأولى لحنٌ، لأنها علامةٌ، ومن قرأ بنونين جمع بين المثلين، ولم يدغم، لأن الثانية ليست بلازمةٍ، فإنها تزاد مع ضمير المتكلم.
قوله: (والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه)، تقديره: بل أنتم بالإهداء إليكم تفرحون، وإليه الإشارة بقوله:"فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم" وفيه تعريضٌ بأن حاله عليه السلام على خلاف حالهم، ولذلك قيل: هدية الأمراء غلولٌ، وجيء بكلمة
وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال ويصانع به؟
(بَلْ أَنْتُمْ) قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك (تَفْرَحُونَ) بما تزادون ويهدى إليكم، لأن ذلك مبلغ همتكم وحالى خلاف حالكم، وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية. فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدني بمال وأنا أغنى منك، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبى عالما بزيادتي عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإضراب، وأولى بها الضمير، وجعل مبتدأ ليفيد، إما تقوى الحكم، أو الاختصاص، نحو: أنت عرفت.
قوله: (إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبي عالمًا بزيادتي عليه في الغنى)، لأن الواو للحال، وذو الحال فاعل "يمدني" والحال مقيدة، فيكون فاعل المقيد عالماً بالمقيد بخلاف الفاء، لأنها لتعليل الإنكار، فالمتكلم يشير بها إلى تعليل إنكاره.
قال صاحب "الفرائد" الفاء هاهنا مستعملٌ للترتيب والتعقيب، كأنه قال: لا أقبل إمدادك بمالٍ، فقال المخاطب: لم لا تقبل؟ فأجيب: لأني أغنى منك، فلما كان هذا الجواب مرتبًا على السؤال، ومعقبًا له، ترك السؤال وجيء بالفاء، وأما الواو فإنها تفيد الجمع، وهو للحال، فكأنه قال: لا أقبل منك إمدادك بمالٍ في هذه الحال، وهي كوني أغنى منك.
وقلت: الواو في مثل هذا التركيب تكون للحال، وتسمى بالحال المقررة لجهة الإشكال، أي: أتمدونني بمالٍ وأنتم تعلمون أني غنيٌ! كقول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، وقولهم:
جعلته ممن خفيت عليه حالي، فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإني غني عنه. وعليه ورد قوله:(فَما آتانِيَ اللَّهُ). فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه: وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أتحسن إلى أعدائك، وأنا الصديق المحتاج! وهو المراد من قوله:"فقد جعلت مخاطبي عالمًا بزيادتي عليه"، وهو مع ذلك يمدني بالمال! وأما الفاء للتسبيب، فالمنكر الجملة الأولى، والثانية علة الإنكار، ولا يجب أن تكون العلة معلومةً عند المخاطب، فيجب الإعلام والتوبيخ على الجهل به، كأنه قال: لا أحتاج إلى ما آتيتمونيه، لأني غنيٌ، كما قال: أنكر عليك ما فعلت، فإن غنيٌ عنه.
قوله: (فما وجه الإضراب؟ )، يعني: أنكر عليهم نبي الله إمدادهم بالمال، وعلل الإنكار بكونه غنيًا عنه، فأي فائدةٍ في الإضراب عنه [إن] كان ذلك غير منكرٍ؟
وأجاب أن إنكاره عليه السلام على إمدادهم بالمال مآله إلى تجهيلهم، وأنهم غير عالمين بحاله، وأنه غنيٌ عن ذلك، ثم ترقى إلى الأخذ فيما هو الأهم من ذلك الإنكار، وهو الإعلام بأن ما جعلوه سببًا للإمداد أقبح من ذل الجهل، وذلك أن قصارى أمرهم الفرح بما يهدى إليهم، فقاسوا حال نبي الله بحالهم في أن ليس له الرضا والفرح إلا بالحظوظ العاجلة، هذا إليهم، فقاسوا حال نبي الله بحالهم في أن ليس له الرضا والفرح إلا بالحظوظ العاجلة، هذا إذا قدر الإضافة إلى المهدى إليه، أما إذا جعلت الإضافة إلى المهدي، أي: الفاعل، بأن يقال: وأنتم بهديتكم هذه تفرحون فرح افتخارٍ، فيكون المعنى: الذي منحنى الله من الدين والملك الواسع خيرٌ مما آتاكم، فلا أفرح بمثل هذه المحقرات التي تفتخرون بها، فأولى الضمير حرف الإضراب، ليفيد: أنتم خصوصًا تفرحون، فأتى بهذه ليفيد التحقير.
ويجوز على هذا أن يعتبر معنى تقوى الحكم من التركيب، فيفيد مطلق الرد، أي: أنتم لابد لكم أ، تفرحوا بمثل هذه المحقرات، أي: تمدونني بمالٍ وتزعمون أن من عادتي أن أفرح بأخذ الهدية! بل أنتم من حقكم أن تفرحوا به، فخذوها وافرحوا.
هو على هذا الوجه كنايةٌ.
فرح، إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المهدي، ويكون المعنى: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها. ويحتمل أن يكون عبارة عن الردّ، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها.
(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَاتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ)[النمل: 37].
(ارْجِعْ) خطاب للرسول. وقيل: للهدهد محملا كتابا آخر (لَّا قِبَلَ): لا طاقة. وحقيقة القبل: المقاومة والمقابلة، أي: لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: (لا قبل لهم بهم). الضمير في (مِنْهَا) لسبأ. والذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العزّ والملك. والصغار: أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({ارْجِعُ} خطابٌ للرسول، وقيل: للهدهد)، أي: المأمور في "ارجع" مفردٌ، والمقدم ذكرهم جماعةٌ، بدليل قوله:{بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، فيحمل إما على المصدر، كقولهما:{فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، أو أن يجعل الخطاب للهدهد كما في قوله:{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا} ، أي: ارجع إليهم بكتابي {فَلَنَاتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} ، ويعضد الأول قوله:{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، لأن المعنى: إني مرسلةٌ إليهم بهديةٍ، أصانعه بها عن ملكي، فناظرةٌ ما يكون منه إما سلمًا، وإما حربًا، حتى أعمل على حسب ذلك، فإن نبي الله عليه السلام لما وقف على أن الهداية كانت مصانعةً منها، وأنها خالفت ما أراد منها بقوله:{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَاتُونِي مُسْلِمِينَ} ، احتد وغضب حميةً للإسلام، ولذلك عقب الأمر بالرجوع بالجملة القسمية المثبتة للذل والصغار، جزاءً على ذلك الصنيع بالفاء، يعني: والله لا يتخلف إتياني كذلك على رجوعك.
قوله: (ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقةً بعد أن كانوا ملوكًا)، الجوهري: الاقتصار على الشيء: الاكتفاء به، وتسوق القوم: إذا باعوا واشتروا، والسوقة: خلاف الملك، وقال الحريري في "درة الغواص": توهموا أن السوقة: اسمٌ لأهل السوق، وليس كذلك، بل
[(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَاتُونِي مُسْلِمِينَ)].
يروى: أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان عليه السلام، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات، بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها. وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه، ولعله أوحي إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله، وعلى ما يشهد لنبوّة سليمان عليه السلام ويصدقها. وعن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها. وقيل. أراد أن يؤتى به فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره؟ اختبارا لعقلها.
[(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)].
وقرئ: (عِفْرِية). والعفر، والعفريت، والعفرية، والعفراة، والعفارية من الرجال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السوقة الرعية، سموا بذلك، لأن الملك يسوقهم إلى إرادته، ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه، قالت حرقة بنت النعمان:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
…
إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصف
وأما أهل السوق، فهم السوقيون، واحدهم: سوقي.
قوله: (باستيثاقها)، استوثقت من فلانٍ: اتخذت منه وثيقةً، أو استوثق بمعنى أوثق، كاستوقد بمعنى أوقد.
قوله: (أن يغرب عليها)، أي: يطلعها على أمر غريبٍ.
الأساس: تكلم فأغرب: إذا جاء بغرائب الكلام ونوادره.
الخبيث المنكر، الذي يعفر أقرانه. ومن الشياطين: الخبيث المارد. وقالوا: كان اسمه ذكوان. (لَقَوِيٌّ) على حمله (أَمِينٌ) آتي به كما هو لا أختزل منه شيئا ولا أبد له.
[(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)].
(الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) رجل كان عنده اسم الله الأعظم، وهو: يا حي يا قيوم، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام، وعن الحسن رضي الله عنه: الله، والرحمن. وقيل: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان عليه السلام، وكان صدّيقا عالما. وقيل: اسمه أسطوم. وقيل: هو جبريل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: هو سليمان نفسه، كأنه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول. وعن ابن لهيعة: بلغني أنه الخضر عليه السلام: (عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ): من الكتاب المنزل، وهو علم الوحي والشرائع. وقيل: هو اللوح. والذي عنده علم منه: جبريل عليه السلام. وآتيك في الموضعين يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل. الطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يعفر أقرانه)، الأساس: عفر قرنه، وعافره فألزمه بالعفر، أي: صارعه، فاعتفره، أي: ضرب به الأرض.
قوله: (ما هو أسرع مما تقول)، أي: مدة أقل مما يقوله.
قوله: (الطرف: تحريك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر)، كأن التطرف بالنسبة إلى النظر، كالنظر بالنسبة إلى الرؤية.
الأساس: وطرف إليه طرفاً: وهو تحريك الجفون، وما يفارقني طرفة عينٍ، وشخص بصره فيما يطرف، والمعنى: أن الناظر إذا أراد النظر إلى شيءٍ حرك الأجفان إلى نحوه، فهو إرسال الطرف، وإذا أراد الإمساك عنه رد الأجفان إلى مكانها الأول.
قال الإمام: الطرف: تحريك الأجفان عند النظر، فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور
ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا
…
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العين امتد إلى المرئي، وإذا أغمضت فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين، فكما وصف الشاعر النظر بالإرسال، ووصف العالم الانتهاء بالرد، ثم أسند الارتداد إلى الطرف على المجازي، وقال: يرتد إليك طرفك، لأن الأصل: ترد طرفك.
قوله: (وكنت إذا أرسلت) البيت، بعده:
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
قال المرزوقي: "رائدًا" حالٌ، وجواب "إذا":"أتعبتك المناظر"، وقوله:"رأيت الذي"، تفصيلٌ لما أجمله "أتعبتك المناظر"، والرائد: الذي يتقدم القوم لطلب الكلأ لهم. المعنى: إذا جعلت عينك رائداً لقلبك تطلب له هواهم، فتتعبك مناظرها، وأوقعتك مواردها في أشق المكاره، وذلك أنها تهجم بالقلب في ارتيادها له على ما لا يصبر في بعضه على فراقه مع مهيجات اشتياقه، ولا يقدر على السلو عن جميعه، فهو ممتحنٌ الدهر ببلوى ما لا يقدر على كله، ولا يصبر عن بعضه.
وعن بعض الحكماء: من أرسل طرفه استدعى حتفه، وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله، لأنه إن كذب هلك معهم.
وصف بردّ الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. ومعنى قوله:(قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أنك ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك: ويروى: أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك. فمدّ عينيه فنظر نحو اليمن. ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله، قبل أن يردّ طرفه. ويجوز أن يكون هذا مثلا لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك: افعل ذلك في لحظة، وفي ردّة طرف، والتفت ترني، وما أشبه ذلك: تريد السرعة. (يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنه يحط به عنها عبء الواجب، ويصونها عن سمة الكفران، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد. وقيل: الشكر، قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة. وفي كلام بعض المتقدمين: إن كفران النعمة بوار، وقلما أقشعت ناقرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار. واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: الشعر لعبد الله بن طاهر بن الحسين.
قوله: (أقشعت نافرةً)، الأساس: انقشع الغيم، وتقشع، وأقشع، وقشعته الريح، ومن المجاز: انقشع الظلام والبرد، واجتمعوا عليه ثم انقشعوا، وانقشعوا عن الماء، وتقشعوا: تفرقوا.
قوله: (فرجعت في نصابها)، أي: أصلها. الأساس: وهو يرجع إلى منصب صدقٍ، ونصاب صدقٍ، وهو أصله الذي نصب فيه وركب، ومنه نصاب السكين، وهو أصله الذي نصب فيه وركب.
قوله: (واستدم راهنها)، الأساس: نعمة الله راهنةٌ: دائمةٌ، وهذ الشيء راهنٌ لك: معدٌ، وطعامٌ راهنٌ، وكأسٌ راهنةٌ: دائمةٌ لا تنقطع، وأرهن لضيفه الطعام والشراب: أدامهما، وفي كلامهم: النعمة إذا سمعت نغمة الشكر تهيأت للمزيد.
إذا أنت لم ترج لله وقارا. (غَنِيٌّ) عن الشكر. (كَرِيمٌ) بالإنعام على من يكفر نعمته، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكرا لربه، جري على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر.
[(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ* فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ* وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ)].
(نَكِّرُوا) اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه. قالوا: وسعوه وجعلوا مقدّمه مؤخره، وأعلاه أسفله. وقرئ:(نَنظُرْ) بالجزم على الجواب، وبالرفع على الاستئناف (أَتَهْتَدِي) لمعرفته، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والايمان بنبوّة سليمان عليه السلام، إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب، ونصبت عليه الحرس. هكذا ثلاث كلمات: حرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة. لم يقل: أهذا عرشك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الحديث: "النعمة وحشيةٌ قيدوها بالشكر".
قوله: (إذا أنت لم ترج لله وقارًا)، مقتبسٌ من قول نوحٍ عليه السلام على معنى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ} [نوح: 13] على معنى: ما لكم تكونون على حالٍ تأملون فيها تعظيم الله إياكم، يعني أن الله تعالى أكرمك بأن أسبغ عليك نعمة ظاهرةً وباطنةً، فإنك إن لم تشكرها أهانك، فيكشف ذلك الستر عنك، فتزول تلك النعمة، أو على معنى: ما لكم لا تخافون لله حلمًا، وترك معاجلة، يعني: أنك تماديت في المعاصي، وأن الله ستر عليك بحلمه، فعن قريبٍ يتقلص ذلك الستر، فتهلك، والأول أنسب للمقام.
ولكن: أمثل هذا عرشك، لئلا يكون تلقينا (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) ولم تقل: هو هو، ولا: ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقطع في المحتمل. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) من كلام سليمان وملئه: فإن قلت: علام عطف هذا الكلام، وبم اتصل؟ قلت: لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به مقاما أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) نحو أن يقولوا عند قولها كأنه هو: قد أصابت في جوابها وطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لئلا يكون تلقينًا)، يعني: إنما عدل نبي الله عن السؤال الذي فيه إيهامٌ إلى قوله: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42]، ليوقعها في ورطة الحيرة، إذ لو صرح بقوله: أهذا عرشك؟ كان قد لقنها بذلك، وحين كانت جازمةً بأن ذلك عرشها، وكان لها أن تقول: بل هو هو، فعدلت إلى قولها:{كَأَنَّهُ هُوَ} لرجاحة عقلها، لتبقي الاحتمال الذي قصده نبي الله.
قوله: (ولم تقل: هو هو، ولا: ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقطع في المحتمل). الانتصاف: وفي نكتةٌ حسنةٌ، وإن كانت كاف التشبيه في السؤال والجواب، فحكمته أن "كأنه" عبارة من قوي عنده الشبه، وكادت تقول: هو هو، و"هكذا هو" عبارةٌ جازمةٌ بتغاير الأمرين، حاكمٌ بوقوع الشبه بينهما، فالأول أشبه بحال بلقيس.
واعلم [أن]"كأن" مركبةٌ من كاف التشبيه و"أن"، على ما قالوا:"الأصل في قولك: كأن زيداً الأسد": أن زيداً كالأسد، فلما قدمت الكاف فتحت الهمزة، ليكون داخلًا على المفرد لفظًا، والمعنى على الكسر، بدليل جواز السكوت عليه، فلا يكون قولك:"كأن زيدًا أسدٌ" غير التشبيه، لتوكيد مضمون الجملة بـ "أن" المؤكدة، بخلاف "زيد كالأسد".
قوله: (وطبقت المفصل)، وعن بعضهم: الرجل إذا أصاب الحجة يقال: طبق
وصحة النبوّة بالآيات التي تقدّمت عند وفدة المنذر، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل على دين الإسلام؛ شكرا لله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها. (وَصَدَّها) عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة، ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها:(كَأَنَّهُ هُوَ) والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان عليه السلام قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة، تعني: ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام، ثم قال الله تعالى:(وصَدَّهَا) قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المفصل، مستعارٌ من طبق السيف: إذا أصاب المفصل فأبانه، فأما إذا أصاب العظم فقطعه، فإنه يقال: صمم، أي: ثبت ولم ينب.
قوله: (عطفوا على ذلك)، جواب "لما" في قوله:"لما كان المقام"، وقوله:" {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} [النمل: 42] مقول قولهم، ويجوز أن يكون "يقولوا"، بيان "ما"، وقوله: "قد أصابت في جوابها" مقول "أن يقولوا" والحاصل: أن قول سليمان وملئه: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} معطوفٌ على مقدرٍ، ويدل عليه سياق الكلام ومقتضى المقام، وهو أن بلقيس لما سئلت عما سئلت، وأجابت بما أجابت، قال سليمان وملؤه عند ذلك: هل أصابت بلقيس في جوابها، وكيت وزيت، ونحن أيضًا {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} إلى قوله: {كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}، وهو معنى قول المصنف: "وأوتينا نحن العلم" إلى آخر قوله: "بين ظهراني الكفرة" يعني: أنها وإن أصابت في جوابها، ورزقت الإسلام، وآمنت بالآيات السابقة واللاحقة، لكن نحن أعلم، وأقدم في الإسلام، فالضمير في قولهم لسليمان وملئه:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} [النمل: 42] مقول القول، ونحو: أن يقولوا: بيان ما.
قوله: ({وَصَدَّهَا} قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل)، فاعل "صد"
(وصَدَّهَا) الله أو سليمان، و (عما كانت تعبد) بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرئ:(أنها) بالفتح؛ على أنه بدل من فاعل "صدّ"، أو بمعنى لأنها.
[(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)].
الصرح: القصر. وقيل: صحن الدار. وقرأ ابن كثير: (سَاقَيْها) بالهمزة. ووجهه؛ أنه سمع:
سؤوقا، فأجرى عليه الواحد. والممرد: المملس، وروي أن سليمان عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"ضلالها" و"عن سواء السبيل" متعلق بـ "ضلالها" أي: صدها عن الدخول في الإسلام قبل وفدة المنذر بن عمرٍو رسولها إلى سليمان عليه السلام "ضلالها عن سواء السبيل"، أي: جهلها بدين الإسلام.
قوله: (الصرح: القصر)، الراغب: الصرح: بيتٌ عالٍ مزوقٌ، سمي به اعتبارًا بكونه صرحًا عن الشوب، أي: خالصًا، ولبنٌ صريحٌ، بين الصراحة.
قوله: (ووجهه أنه سمع "سؤوقاً"، فأجرى عليه الواحد)، الكواشي: القراءة بهمزة "سأقيها" و"السؤق" و"السؤقة" لجواز أن من العرب من يهمز مفرد "ساقٍ" وجمعه، ويدل على ذلك صحة هذه القراءة، بل تواترها، وزعم بعضهم أن همز هذه الكلمات الثلاث بعيدٌ في العربية، إذ لا أصل لهن في الهمزة، وهذا تحكم كما تراه، لأنه لم يذكر على ذلك دليلًان بل جعل ما وصل إليه من كلام العرب دليلًا يعتبر به، بل المعتبر صحة ما يصح، بل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (والممرد: المملس)، الراغب: المارد والمريد من شياطين الجن والإنس: المتعري من الخيرات، من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى من الورق. ومنه قيل: رملةٌ مرداء: إذا لم
السلام أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره، وتحققا لنبوته، وثباتا على الدين.
وزعموا أنّ الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضى إليه بأسرارهم، لأنها كانت بنت جنية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشدّ وأفظع، فقالوا له: إن في عقلها شيئا، وهي شعراء الساقين، ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها، فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما لا أنها شعراء، ثم صرف بصره وناداها:(إنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) وقيل: هي السبب في اتخاذ النورة: أمر بها الشياطين فاتخذوها، واستنكحها سليمان عليه السلام، وأحبها وأقرّها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان، يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبت شيئًا. ومنه: الأمرد، لتجرده من الشعر، و {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [النمل: 44] من قولهم: شجرةٌ مرداء، وكأن الممرد إشارةٌ إلى قول الشاعر:
في مجدلٍ شيد بنيانه
…
يزل عنه ظفر الطائر
قوله: (فبنوا لها سيلحين)، المغرب: وأما السيلحون فهو مدينةٌ باليمن.
وقول الجوهري: سيلحون قريةٌ، والعامة تقول: سالحون، فيه نظرٌ، وأما غمدان ففي "النهاية": بضم الغين، وسكون الميم، البناء العظيم، بناحية صنعاء اليمن، قيل: هو من بناء سليمان عليه السلام.
ثلاثة أيام، وولدت له. وقيل: بل زوجها ذا تبع ملك همدان، وسلطه على اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان.
(ظَلَمْتُ نَفْسِي): تريد بكفرها فيما تقدّم، وقيل: حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت: ظلمت نفسي بسوء ظنى بسليمان عليه السلام.
[(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ* قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)].
وقرئ: (أَنِ اعْبُدُوا)، بالضم على إتباع النون الباء. (فَرِيقانِ): فريق مؤمن وفريق كافر. وقيل أريد بالفريقين صالح عليه السلام وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. (يَخْتَصِمُونَ) يقول كل فريق: الحق معي. السيئة: العقوبة، والحسنة: التوبة، فإن قلت: ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت: كانوا يقولون لجهلهم: إن العقوبة التي يعدها صالح عليه السلام إن وقعت على زعمه، تبنا حينئذ واستغفرنا؛ مقدّرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت. وإن لم تقع، فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح عليه السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذا تبع)، أي: زوجها سليمان من ذي تبع.
الأذواء: ملوك اليمن من قضاعة، المسمون بذي يزنٍ وذي نواسٍ.
قوله: (مقدرين أن التوبة)، حالٌ من قوله:"يقولون" حاصل السؤال أن الاستعجال بإحدى العدتين قبل الأخرى إنما يصح إذا اعتقدوهما وتوقعوهما، والقوم كفرة.
وتلخيص الجواب: أن السيئة التي هي العقوبة، والحسنة التي هي التوبة، لم تكونا ثابتتين عندهما، فقدروهما على قول صالحٍ عليه السلام، فخاطبهم نبي الله على حسب اعتقادهم.
على حسب قولهم واعتقادهم، ثم قال لهم: هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب؟ (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) تنبيها لهم على الخطأ فيما قالوه؛ وتجهيلا فيما اعتقدوه.
[(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)].
وكان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره، فإن مر سانحا تيمن، وإن مر بارحا تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه وتجهيلًا فيما اعتقدوه)، أنكر أولًا بقوله:{لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، قولهم: إن العقوبة إن وقعت تبنا حينئذ، ثم نبههم بقوله: لولا تستغفرون الله على خطئكم، وأن الاستغفار إنما ينفع قبل نزول العذاب، وأن ذلك الاعتقاد إنما صدر من الجهل.
قوله: (فإن مر سانحاً)، الجوهري: السنيح [والسانح]: ما ولاك ميامنه من ظبي أو طائرٍ أو غيرهما، وبرح الظبي بروحًا. إذا ولاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك، والعرب تتطير بالبارح، وتتفاءل بالسانح، لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف.
قوله: (استعير لما كان سببهما من قدر الله)، أي: استعير للذي كان سبب الخير والشر، وهو قدر الله وقسمته، يعني: استعير لقدر الله وقسمته لفظ الطائر، لأن السبب في تحصيل الخير والشر حقيقة هو قدر الله، وأن السانح والبارح- كما زعموا- إن دلا على حصولهما فهما أيضًا مسببان عن تقدير الله، فأطلقوا المسبب وهو الطائر على السبب، وهو قدر الله وقسمته، وقالوا: طائر الله لا طائرك، ويجوز أن يكون أسلوب الآية والاستشهاد من باب المشاكلة لا الاستعارة.
وقسمته: أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة. ومنه قالوا: طائر الله لا طائرك، أي: قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، فلما قالوا: اطيرنا بكم، أى: تشاءمنا وكانوا قد قحطوا. (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. ويجوز أن يريد: عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل. عقوبة لكم وفتنة. ومنه قوله:(طائِرُكُمْ مَعَكُمْ)[يس: 19]، (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء: 13].
وقرئ: (تَطَيَّرْنَا بِكُمْ)، على الأصل. ومعنى: تطير به: تشاءم به. وتطير منه: نفر منه. (تُفْتَنُونَ) تختبرون. أو تعذبون. أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة.
[(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ* وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ* فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)].
الْمَدِينَةِ: الحجر. وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو من عمل العبد)، عطفٌ على "من قدر الله" وهو من قوله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]. فقوله: "ويجوز أن يريد: عملكم مكتوبٌ عند الله" متفرعٌ على هذا الوجه، وعند أهل السنة عملكم مكتوب عند الله ومقدرٌ من عنده.
قوله: (المدينة: الحجر)، الراغب: الحجر: ما سور بالحجارة، وبه سمي حجر الكعبة وديار ثمود.
تسعة أنفس. والفرق بين الرهط والنفر: أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة. والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم عن وهب: الهذيل بن عبد رب. غنم بن غنم. رباب بن مهرج. مصدع بن مهرج. عمير بن كردبة. عاصم بن مخرمة. سبيط بن صدقة. سمعان بن صفى. قدار بن سالف: وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام، وكانوا من أبناء أشرافهم.
(وَلا يُصْلِحُونَ)؛ يعني: أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح؛ كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح. (تَقاسَمُوا) يحتمل أن يكون أمرا وخبرا في محل الحال بإضمار قد، أي: قالوا متقاسمين: وقرئ: (تقسَّموا) وقرئ: (لَنُبَيِّتَنَّهُ)، بالتاء والياء والنون،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يخلط بشيءٍ من الصلاح)، الراغب: الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل القرآن تارةً بالفساد، وتارةً بالسيئة، قال تعالى:{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، وقال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، والصلح يختص بإزالة النفار، وإصلاح الله تعالى الإنسان تارةً يكون بخلقه إياه صالحًا، وتارةً ما فيه من فسادٍ من بعد وجوده، وتارةً يكون بالحكم له بالصلاح {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، أي: المفسد يضاد الله تعالى في يفعله، فإنه يفسد، والله تعالى يتحرى في جميع أحواله الصلاح، فهو إذن لا يصلح عمله.
قوله: (وقرئ: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} ، بالتاء والياء [والنون]، بالياء التحتاني: شاذةٌ، وبالتاء: حمزة والكسائي، والباقون: بالنون.
فـ (تَقَاسَمُوا) مع النون والتاء؛ يصح فيه الوجهان. ومع الياء لا يصح فيه إلا أن يكون خبرا. والتقاسم، والتقسم: كالتظاهر، والتظهر: التحالف. والبيات: مباغتة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فـ {تَقَاسَمُوا} مع النون والتاء، يصح فيه الوجهان)، أي: الأمر والخبر، يعني: تقاسموا إذا كان أمرًا فـ {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالنون، جوابٌ له، لأن هذه الألفاظ التي تكون من ألفاظ القسم تتلقى بما تتلقى به الأيمان، كقوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109]، والمعنى: احلفوا لنبيتنه، وبالتاء الفوقانية: احلفوا لتبيتنه أنتم، وعلى هذا الخبر.
وأما إذا كان الخبر مع الياء، فمعناه: قالوا: لنبيتنه متقاسمين، كقولك: حلف بالله ليفعلن، بالياء التحتاني، وأما قوله: مع الياء، لا يصح فيه إلا أن يكون خبرًا، فعلل بأن الياء للغيبة، والأمر للمخاطب، ولا معنى لقوله: احلفوا لتبيتنه، وقدر بعضهم: ليقسم بعضكم بعضًا ليبيتنه.
وقال صاحب "الكشف": {تَقَاسَمُوا} [النمل: 49]، يجوز أن يكون أمرًا، أمر بعضهم بعضًا بالتقاسم على التبييت.
وقال الزجاج: فمن قرأ بالتاء فكأنه قال: احلفوا لتبيتنه، كأنه أخرج نفسه من اللفظ، ويجوز أن يكون قد أدخل نفسه في التاء، لأنه إذا قال:{تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل: 49] فقد قال: تحالفوا، فلا يخرج نفسه من التحالف، ومن قرأ بالياء، فالمعنى: قالوا: لنبيتنه متقاسمين، وكان هؤلاء تحالفوا أن يبيتوا صالحًا ويقتلوه وأهله في بياتهم، ثم ينكرون عند أولياء صالح أنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله، ويحلفون أنهم لصادقون، فهذا مكرٌ عزموا عليه، قال الله تعالى:{وَمَكَرُوا مَكْرًا} [النمل: 50].
قوله: (والتقاسم)، مبتدأٌ، والخبر:"التحالف".
العدو ليلا. وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر، وقرئ:(مَهْلِكَ) بفتح الميم واللام وكسرها من (هَلِكَ)، و (مُهْلَك) بضم الميم من أهلك. ويحتمل المصدر والزمان والمكان، فإن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله؛ فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا: ما شهدنا مهلك أهله، فذكروا أحدهما: كانوا صادقين، لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: {مُهْلِكَ} بفتح الميم واللام وكسرها)، أبو بكر:"مهلك"، بفتح الميم واللام، وحفصٌ: بفتح الميم وكسر اللام، والباقون: بضم الميم وفتح اللام.
قال أبو البقاء: (مهلك) - بفتح اللام، وضم الميم- فيه وجهان، أحدهما: هو مصدرٌ بمعنى الإهلاك، حو: المدخل. والثاني: هو مفعولٌ، أي: لمن أهلك، أو لما أهلك منها، ويقرأ بفتحهما، وهو مصدر: هلك يهلك، ويقرأ الميم، وكسر اللام، وهو مصدرٌ أيضًا، ويجوز أن يكون زمانًا، وهو مضافٌ إلى الفاعل، أو إلى المفعول على لغة من قال: هلكته أهلكه، والموعد: زمانٌ.
وفي الحواشي: والأعرف في المصدر الفتح، والكسر قليلٌ، والكسر جاء في المكان مثل المرجع، قيل: المهلك والمرجع والميحص، والمكيل أربعةٌ لا يوجد لها خامسٌ.
قوله: (وفي هذا دليلٌ قاطعٌ على أن الكذب قبيحٌ عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه)، قال صاحب "الانتصاف": حيلته لتصحيح قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل قريبٌ من حيلتهم التي سماها الله تعالى مكرًا، وغرضه أن يستشهد على صحة مذهبه، وأنى
ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب. مكرهم: ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله. ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون. شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. روي أنه كان لصالح مسجد في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتم له ذلك وهم كاذبون، فإن من فعل الأمرين، وجحد أحدهما فلا مرية في فريته، وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرًا، وادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع، فلم تختلف العلماء في أن من حلف أن لا أضرب زيدًا، فضرب زيدًا وعمرًا كان حانثًا، بخلاف من حلف أن لا أضرب زيدًا أو عمرًا، فضرب زيدًا، فهو محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه.
وقال صاحب "التقريب": لعل المراد: ما شهدنا مهلك أهله وحده، وإلا فمن شهد البياتين فقد شهد أحدهما.
وقال القاضي: ما شهدنا مهلك أهله فضلًا أن تولينا إهلاكهم، ونحلف:{إِنَّا لَصَادِقُونَ} ، أو: والحال {إِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما ذكرنا، لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفًا، أو: لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم، كقولك: ما رأيت ثمة رجلًا بل رجلين.
وقلت: التقدير الأول، وهو: نحلف إنا لصادقون، كما نص عليه الزجاج، ليكون عطفًا على {مَا شَهِدْنَا} يدخل في حيز التقاسم أولى وأوجه، فلا يلزم صدقهم، ولا يحتاج إلى تلك التكلفات، وعليه قول إخوة يوصف:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} إلى قوله: {إِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82].
قوله: (يتفصون بها)، الجوهري: يقال: تفصى الإنسان: إذا تخلص من المضيق والبلية.
قوله: (شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة)، التمثيلية، شبه إهلاك الله إياهم،
الحجر في شعب يصلى فيه، فقالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء يصلى قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهضب «2» حيالهم، فبادروا، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب. فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلا منهم في مكانه، ونجى صالحا ومن معه. وقيل: جاءوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة: يرون الحجارة ولا يرون راميا (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) استئناف. ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من العاقبة، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره: هي تدميرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهم لا يشعرون، بفعل من يريد مكروه صاحبه، ويزاول إيصال الضرر إليه وهو لا يشعر، وإنما اختار الاستعارة على المشاكلة، لقوله:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 107]، إذ لولاه لكان مشاكلةً، لقوله تعالى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
قوله: (في شعب)، الشعب- بالكسر-: ما انفلج بين الجبلين، وقيل: الطريق في الجبل، والجمع: شعابٌ، وفي المثل: شغلت شعابي جدواي، أي: شغلت كثرة المؤونة عطائي عن الناس.
قوله: (من الهضب)، الهضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض، والجمع: هضابٌ، وهضبٌ. قاله الجوهري.
قوله: (من قرأ بالفتح)، الكوفيون:{أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} ، بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها.
أو نصبه على معنى: لأنا. أو على أنه خبر كان، أي: كان عاقبة مكرهم الدمار. (خاوِيَةً) حال عمل فيها ما دل عليه (تلك). وقرأ عيسى بن عمر: (خاوية) بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف.
[(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)].
وَاذكر لُوطاً أو أرسلنا لوطا لدلالة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) عليه. و (إِذْ) بدل على الأول؛ ظرف على الثاني. (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) من بصر القلب، أي: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة. وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عباده، لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين. أو تبصرونها بعضكم من بعض، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة، وانهماكا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو نصبه على معنى: لأنا)، أي: منصوبًا على أن يكون مفعولًا له على حذف اللام، وهي لام العاقبة.
قوله: (لدلالة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} [النمل: 45] عليه)، يريد أن قصة لوطٍ معطوفةٌ على قصة ثمود، وقد ذكر في فاتحتها:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} فيقدر لها مثله، و {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرفٌ، ولا يجوز أن يكون بدلًا، إذ لا يستقيم "أرسلنا" وقت قوله.
قوله: (خلاعةً)، الأساس: ومن المجاز: خلع فلانٌ رسنه وعذاره، فعدا على الناس بشره.
قوله: (ومجانةً)، الجوهري: المجون: أن لا يبالي الإنسان ما صنع، وقد مجن بالفتح يمجن مجونًا، ومجانةً فهو ماجنٌ، والجمع: المجان.
قوله: (وانهماكًا)، يقال: انهمك الرجل في الأمر: لج وجد.
المعصية، وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله:
وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى
…
فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
أو: تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم. فإن قلت: فسرت تبصرون بالعلم وبعده (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت: أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وبح باسم من تهوى)، البيت، قبله:
ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر
…
ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر
البوح: ظهور الشيء، يقال: باح ما كتمه، أي: ظهر، وباح به صاحبه، أي: أظهره، يقال: كنى فلانٌ عن أمرٍ يعني: إذا تكلم بغيره مما يستدل به عليه، كما أن الله سبحانه وتعالى كنى عن الجماع بالمس والغشيان، لأنه حييٌ كريمٌ.
قوله: (أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشةٌ مع علمكم بذلك)، هذا الجواب غير مرضي تأباه كلمة الإضراب، بل إنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الإجمال، وسماه فاحشةً، وقيده بالحال المقررة لجهة الإشكال تتميمًا للإنكار بقوله:{وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار، فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة مفصلًا، وصرح بذكر الرجال محلى بلام الجنس، مشيرًا به إلى أن الرجولية منافيةٌ لهذه الحالة، وقيده بالشهوة التي هي أخس أحوال البهيمية.
وقد تقرر عند ذوي البصائر أن إتيان النساء لمجرد الشهوة مسترذلٌ، فكيف بالرجال! وضم إليه "من دون النساء"، وأذن له بأن ذلك ظلمٌ فاحشٌ، ووضعٌ للشيء في غير
بالجهل. السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت: (تَجْهَلُونَ) صفة لقوم، والموصوف لفظه لفظ الغائب، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرئ بالياء دون التاء؟ وكذلك (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)؟ قلت: اجتمعت الغيبة والمخاطبة، فغلبت المخاطبة، لأنها أقوى وأرسخ أصلا من الغيبة.
[(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ* وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)].
وقرأ الأعمش: "جواب قومه"، بالرفع. والمشهورة أحسن (يَتَطَهَّرُونَ) يتنزهون عن القاذورات كلها، فينكرون هذا العمل القذر، ويغيظنا إنكارهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو استهزاء (قَدَّرْناها) قدّرنا كونها. (مِنَ الْغابِرِينَ): كقوله: (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)[الحجر: 60] فالتقدير واقع على الغبور في المعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موضعه، ثم أضرب عن الكل بقوله:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، أي: كيف يقال لمن يرتكب هذه الشنعاء: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ ! فأولى حرف الإضراب ضمير {أَنْتُمْ} وجعلهم قومًا جاهلين، والتفت في {تَجْهَلُونَ} موبخًا معيرًا.
قوله: (وقرأ الأعمش: "جواب قومه" بالرفع)، قال ابن جني: والحسن أيضًا، والنصب أقوى بأن يجعل اسم "كان" قوله {أَنْ قَالُوا} لشبه "أن" بالمضمر من حيث كانت لا توصف، كما لا يوصف المضمر، والمضمر أعرف من هذا المظهر.
قوله: (فالتقدير واقعٌ على الغبور)، أي: قدر الله وقضاؤه واقعٌ على الغبور، أي: كونها من زمرة الباقين في العذاب، لأن الذوات لا تعدد. قال الواحدي: جعلنا تقديرنا وقضاءنا عليها أنها من الباقين في العذاب.
[(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)].
أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله عز وجل وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين. وقيل: هو خطاب للوط عليه السلام، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: هو متصلٌ بما قبله)، عطفٌ على قوله:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " يعني: قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} إما اقتضابٌ، وهو أن يقتضب خطبةً، ويجعلها تحميدةً لتلاوته الآيات الناطقة بالبراهين، وهي قوله:{آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآيات، أو تخلصٌ، أي: جعل التحميد على الهالكين من كفار الأمم، والصلاة على الأنبياء وأشياعهم ذريعةً إلى الشروع في قصته مع مشركي قومه، وأن له ولهم أسوةً بالأنبياء الماضية، والأمم الخالية.
قوله: (وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه)، كما قال:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: الحمد لله على هلاك الأعداء ونجاته، لأنه من أجل النعم، وأجزل القسم.
معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (معلومٌ أن لا خير فيما أشركوه) إلى آخره، كالتعليل للخير، والنفي منصبٌ على العلة والمعلول معًا، أي: ليس فيه خيرٌ لكي يوازن به بينه وبين الله، نحوه قوله تعالى:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2]، وفيه إشارةٌ إلى أن ذلك واردٌ على سبيل الاستدراج، وإرخاء العنان ليعتبروا حيث يراد تبكيتهم.
الانتصاف: كلامٌ مرضيٌ، ولكن وضع مكان {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}:"خالق كل خيرٍ" فإنه مذهبٌ قدريٌ.
وقال الراغب في "غرة التنزيل": قوله: {آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} بنيت عليه الآيات التالية من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وتكلم أهل النظر في قولك: هذا أفضل من هذا، وهذا خيرٌ من هذا، فقال بعضهم: يقال للخير الذي لا شر فيه، والشر الذي لا خير فيه بالتأول، لأن الأصل في باب:"أفعل من كذا" التفضيل، فمعنى الآية: أنهم مشغولون بعبادة الأوثان عن عبادة الرحمن، وفعلهم ينبئ عن أنها تنفعهم فوق ما ينفعهم خالقهم، فكأنهم قالوا: إن تلك أنفع لهم منه تبارك وتعالى، فقررهم أولًا بقوله:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ، أي: إذا عرفتم بأن الله تعالى سن لكم المصالح، ويسر لكم المنافع، وأ، زل لكم المطر من فوق، فأنبت ما به قوام الناس من تحت، آلله أنفع لكم أم الأوثان، فوضع موضعه قوله:{أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، أي: احتاج من يفعل هذا إلى عضدٍ ومعينٍ؟ ! بل الكفار قومٌ يعدلون عن الحق، وقيل: يعدلون بمن يفعل هذا غيره، تعالى الله عن ذلك، فهذا موضع {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، لأن أول الذنوب العدول عن الحق ورده.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ثنى بقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} فوصف ما بثه من قدرته في البر والبحر مما به مساك الأرض، وختمه بقوله:{أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، أي: أمع اله من يفعل مثل فعله؟ ! {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ما لهم في عبادة الله وإخلاصها، و [ما] عليهم في إشراك غيره فيها، أي: لو علموا ما تنتهي إليه عواقب هذين لما عدلوا عما هو أنفع لهم إلى ما هو لهم أضر.
ثم ثلث بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ} ، ذكرهم بما لا يكاد يخلو منه أحدٌ إذا دفع إلى شدةٍ أن يضطر إلى الانقطاع إلى الله تعالى، وقوله:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} موضعٌ ينسى فيه الإنسان سالف شدته براهن نعمته، ففصل بقوله:{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ، أي: ما تذكرون ما مر من دهركم من بلائكم وشروركم.
ثم ربع بقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، أي: من ينجيكم بهدايته وما نصب لكم من آياته بالنجوم التي تعولون عليها في البحر والبر إذا لم تهتدوا في الظلمات؟ ولما كانت هدايته في البحر وتسييره الجواري بالريح، ضم إليه الريح الأخرى المبشرة بالقطر، فلما ختم الآية التي هي في معناها بقوله:{ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64] ختم هذه بقوله: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، لأن المذكورين في هذه الآية المذكورون في تلك.
وأما قوله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فكالخاتمة والتتميم للسوابق، ولذلك ضم مع قوله:{أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} ، أي: من يعدل رب العالمين الذي هذا شأنه؟ هلموا برهانكم وما يظهر في النفوس أن ما يقولونه حقٌ، وأن ما عداه باطل.
حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطإ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أنّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون:(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ)[الزخرف: 52] مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجرى تحته. ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في موضع آخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد بان ووضح أن كل خاتمةٍ لائقةٌ بمكانها. هذا تلخيص كلامه.
الأساس: نعمة الله راهنةٌ: دائمةٌ، وهذا الشيء راهنٌ لك: معدٌ، وطعامٌ راهنٌ.
قوله: (والجهل المورط)، الأساس: ورطه، وتورطت الماشية: وقعت في موحلٍ، ومكان لا يتخلص منه، وتورط فلانٌ ببليةٍ، وورطه فيها، وأورطه شر مورطٍ.
قوله: (ونحوه ما حكاه عن فرعون)، وهو:{قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 51، 52]، فإن اللعين لما عد ما عد مما اختص به، وقد علم أن موسى عليه السلام لم يكن عنده من ذلك شيءٌ قال:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} للتبكيت والتهكم، يعني: ثبت عندكم واستقر أني خيرٌ مع هذه المملكة البسيطة من هذا الضعيف الحقير الذي ليس له شيءٌ منها.
قوله: (ثم عدد سبحانه وتعالى الخيرات والمنافع)، يعني: في قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40].
والحاصل أن هذا الأسلوب من إنكار الشيء ونفيه على وجه يعرف به الخصم،
ثم قال: (هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ). وقرئ: (يُشرِكُونَ) بالياء والتاء. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها يقول "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم".
[(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)].
فإن قلت: ما الفرق بين أم وأم في (أَمَّا يُشْرِكُونَ) و (أَمَّنْ خَلَقَ)؟ قلت: تلك متصلة، لأنّ المعنى: أيهما خير. وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله تعالى: آلله خير أم الآلهة؟ قال: بل أمّن خلق السماوات والأرض خير؟ تقريرا لهم بأن من قدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يأباه فإنه تعالى أثبت لوازم الألوهية لنفسه سبحانه وتعالى ونفاها عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها، مؤكدًا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان، ووقع عليه الوفاق والاتفاق، ولفظة "ثم" في كلام المصنف:"ثم عدد سبحانه وتعالى" عطف على مقدر، يعني: ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآيات آياتٍ ودلائل، ثم عدد الخبرات.
قوله: (وقرئ: {يُشْرِكُونَ} بالياء والتاء)، عاصمٌ وأبو عمر: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء.
قوله: (قال: بل أمن خلق السماوات والأرض)، بتخفيف الميم تفسير {أَمَّنْ خَلَقَ} بتثقيل الميم، لأن "أم" منقطعةٌ، وهي على تقدير: بل والهمزة، و"من" موصولةٌ، فكأن المعنى: بل أمن خلق السماوات والأرض خيرٌ.
قوله: (تقريراً لهم)، يعني: أضرب عن السؤال الأول إلى تقرير المعنى الثاني، أي: دعوا
على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء. وقرأ الأعمش: (أَمَنْ) بالتخفيف. ووجهه أن يجعل بدلا من الله، كأنه قال: أمّن خلق السماوات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت: أي نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله: (فَأَنْبَتْنَا)؟ قلت: تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد. لا يقدر عليه إلا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: (مَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك، ألستم تقرون أنه خالق السماوات والأرض، وأنه خيرٌ من جمادٍ لا يقدر على شيءٍ.
قوله: (ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص)، الأساس: أصل الرشح. ترشيح الظبية ولدها تعوده المشي فيرشح، ورشحت القربة الماء، ورشح الكوز، وكل إناءٍ يرشح بما فيه.
وفي الاصطلاح: هو أن يعقب الاستعارة بصفةٍ ملائمةٍ للمستعار منه، مبالغةً لتناسي التشبيه، وأن المستعار له دخل في جنس المستعار منه، حيث تفرع عليه ما تفرع على المستعار منه.
والخلاصة: أن الترشيح كالتربية لفائدة كلام بولغ فيه، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله:"رشح معنى الاختصاص" لا أنه ترشيحٌ اصطلاحيٌ، أما الاختصاص فهو مستفادٌ من الإضراب، ونفي الخيرية عن الشركاء، وإثباتها لله تعالى بعدما أثبتها له بقوله:{اللَّهُ خَيْرُ} على سبيل التبكيت.
وأما التوكيد فيه، فمن نقل الخطاب من الغيبة إلى التكلم، لأنه أقوى وأرسخ أصلًا منه، لأن الأصل أن يكون الخطاب بين الحاضرين، ولأن الأصل في الإخبار أن يخبر الإنسان عن نفسه، ثم عن نفسه وعمن معه، ثم عن المخاطب، ثم عن الغائب، ثم من
كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) ومعنى الكينونة: الانبغاء. أراد أن تأتي ذلك محال من غيره، وكذلك قوله:(بَلْ هُمْ) بعد الخطاب: أبلغ في تخطئة رأيهم. والحديقة: البستان عليه حائط: من الإحداق وهو: الإحاطة. وقيل (ذَاتَ)، لأنّ المعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت. والبهجة: الحسن، .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إيثار صيغة الجمع الدال على الكبرياء والعظمة، ثم رشح هذه المبالغة والتأكيد بقوله:{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} على أن معنى {مَا كَانَ} : ما ينبغي، يعني: لا ينبغي ولا يصح، ولا يستقيم منهم أن يفعلوها، بل هو من خصائص من عظم شأنه، وجل سلطانه، فإنهم أحقر من ذلك، وهو المراد من قوله:"معنى الكينونة: الانبغاء"، ثم رشح هذا التحقير بالنقل من الخطاب في قوله:{لَكُمْ} ، إلى الغيبة {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] لعكس المعنى الأول، وهو الطرد والبعد والتحقير.
فانظر إلى هذه الرموز التي تسلب العقول، ثم انظر إلى إدراك المصنف مكانها، ولله قوله في الخطبة:"دراكًا للمحةٍ وإن لطف شأنها".
قوله: (من الإحداق وهو الإحاطة)، الراغب: الحديقة: قطعةٌ من الأرض ذات ماءٍ سميت تشبيهًا بحدقة العين في الهيئة، وحصول الماء فيها، وجمع الحدقة: حداقٌ وأحداقٌ، وحقد تحديقًا: شدد النظر، وحدقوا به: أحاطوا به تشبيهًا بإدارة الحدقة.
قوله: (وقيل: {ذَاتَ}، لأن المعنى: جماعة حدائق)، قال صاحب "الفرائد": لا ضرورة في زيادة لفظ الجماعة، لأن "حدائق" مؤنثةٌ واحدة، من حيث إنها جمعٌ، وهي كالنساء، فيقال: إن المصنف يحقق الأصل، ويقرر وجه الإفراد.
قال الزجاج: ويجوز في غير وجه القراءة: "ذوات بهجةٍ"، لأنها جماعةٌ، كما تقول: نسوتك ذوات حسنٍ، وإنما جاز {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]، لأن المؤنث يخبر عنه في الجمع بلفظ الواحدة إذا أردت الجماعة، كأنك قلت: جماعةٌ ذات بهجةٍ.
لأنّ الناظر يبتهج به.
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ): أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. وقرئ: (أإلها مع الله)، بمعنى: أتدعون، أو أتشركون. ولك أن تحقق الهمزتين، وتوسط بينهما مدّة، وتخرج الثانية بين بين (يَعْدِلُونَ) به غيره، أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.
[(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)].
(أَمَّنْ جَعَلَ) وما بعده بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ) فكان حكمهما حكمه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن الناظر يبتهج به)، الراغب: البهجة: حسن اللون، وظهور السرور فيه، وقد بهج بهيجٌ، وقد ابتهج بكذا: سر به سرورًا بان أثره على وجهه، وأبهجه كذا.
قوله: (وقرئ: "أإلهًا مع الله")، فهي شاذة، وأما تحقيق الهمزتين بينهما مدة فقرأه هشامٌ عن ابن عامرٍ.
قوله: ({يَعْدِلُونَ} به غيره، أو يعدلون عن الحق)، عن بعضهم: عدل فلانًا بفلانٍ، أي: سوى يبنهما، والعادل المشرك يعدل بربه، وقالت امرأةٌ للحجاج: إنك لقاسطٌ، عادلٌ، وعدل عن الطريق وانعدل: حاد.
قوله: ({أَمَّنْ جَعَلَ} وما بعده بدلٌ من {أَمَّنْ خَلَقَ}) يعني: إذا أخذت مجموع الآيتين وخلاصتهما، وكونهما دالين على اختصاص الله بهذه الأفعال التي لا يقدر عليها
(قَراراً) دحاها وسوّاها بالاستقرار عليها (حَاجِزاً) كقوله: برزخا.
[(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)].
الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجأ. والاضطرار: افتعال منها. يقال: اضطرّه إلى كذا. والفاعل والمفعول: مضطر. والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو المجهود. وعن السدّي: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: المذنب إذا استغفر. فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله: (يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غيره، وأنها دالةٌ على التوحيد، ونفي الضد والند، كان حكم الثاني حكم الأول، فيصح الإبدال، ولا ينبغي أن يعتبر مفرداتهما في الإبدال لعدم استقامة المعنى.
ومما يؤيد أن الإبدال من المعنى تذييل الآيتين بقوله: {أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، وأن الثاني بيانٌ للأول تجهيلهم بقوله:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61]، أي: جاهلون في أن يعدلوا به غيره، أي: يسوون به غيره، أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد، ولأن الآثار السفلية أظهر من الآثار العلوية، وأقرب خطوًا عند الأغنياء، ولأن الدلائل كلما كانت أسهل مأخذًا كان أبين وأوضح، فصح إبدال الثانية من الأولى، والله أعلم.
قوله: ({قَرَارًا}: دحاها وسواها للاستقرار)، وقال القاضي: المعنى: بإبداء بعضها من الماء، وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها.
قوله: (قد عم المضطرين بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ})، يريد أن المضطر من لزته الضرورة إلى اللجأ إلى الله تعالى، وقد حكي بلام الاستغراق فيفيد العموم، وقد يوجد الدعاء من المضطر والإجابة متخلفة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وخلاصة الجواب: أن مدخول اللام مطلقٌ، واللام للجنس لا للاستغراق، والمطلق يحتمل الكل والبعض كاللفظ المشترك، كما سبق في أول الكتاب، فيحتاج في تعيين أحد مفهومية إلى القرينة، وقامت قرينة شريطة رعاية المصلحة في الإجابة فقيدت بها.
قال صاحب "الفرائد": ما من مضطر دعاه إلا أجيب، وأعيد نفع دعائه إليه، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وذلك أن الدعاء: طلب شيء، فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه، أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده.
وقال صاحب "الانتصاف": الإجابة مقرونةٌ بالمشيئة لا بالمصلحة.
والقدرية يوقفونها على المصلحة لإيجابهم رعاية المصالح، وقوله:"لا يحسن الدعاء من العبد إلا شارطاً فيه المصلحة" غلطٌ، فإن المشيئة شرطٌ باتفاقٍ، ومع ذلك كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت.
وقلت: التعريف للعهد، لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ} ، والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجؤون إلى الله تعالى دون الشركاء، والأصنام، ويدل على التنبيه قوله تعالى:{أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .
قال صاحب "المفتاح": كانوا إذا حزبهم أمرٌ دعوا الله دون أصنامهم.
وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب؟ قلت، الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة. وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقا، يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض؛ وهو الذي أجابته مصلحة، فبطل التناول على العموم. (خُلَفاءَ الْأَرْضِ) خلفاء فيها، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن. أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. وقرئ:(يذّكّرون) بالياء مع الإدغام. وبالتاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمعنى: إذا حزبكم أمرٌ أو قارعةٌ من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة، من يجيبكم على كشفها، ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء {أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ فلا يكون المضطرون عامًا، ولا الدعاء، فإنه مخصوصٌ بمثل قضية الفلك، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الآية [يونس: 22].
وقوله: (إلا شارطًا)، استثناء مفرغٌ، أي: لا يحسن دعاء العبد كائنًا على حالٍ من الأحوال إلا هذه الحال. وعليه دعاء الاستخارة: "إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري" إلى قوله: "فيسره لي" الحديث.
قوله: (أو أراد بالخلافة الملك والتسلط)، الجوهري: الخليفة: السلطان الأعظم، وقد يؤنث، وأنشد الفراء:
أبوك خليفة ولدته أخرى
…
وأنت خليفةٌ ذاك الكمال
قوله: (وقرئ: "يذكرون" بالياء) أبو عمرو وهشام: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء.
مع الإدغام والحذف. وما مزيدة، أي: يذكرون تذكرا قليلا. والمعنى: نفي التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.
[(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)].
(يَهْدِيكُمْ) بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض: إذا جنّ الليل عليكم مسافرين في البر والبحر.
[(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)].
فإن قلت: كيف قيل لهم: (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهم منكرون للإعادة؟ قلت:
قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والقلة تستعمل في معنى النفي)، وأنشد:
قليلٌ بها الأصوات إلا بغامها
أي: ليس بها صوتٌ إلا صوت الظباء، البغام- بالباء الموحدة والغين المعجمة- صوت الظبية، وعليه يحمل قول زهيرٍ:
قليل الألايا حافظٌ ليمينه
…
وإن سبقت منه الألية برت
(مِنَ السَّمَاءِ) الماء، وَمن (الْأَرْضِ) النبات. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّ مع الله إلها، فأين دليلكم عليه؟
[(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)].
فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السماوات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جاء على لغة بين تميم)، قال المالكي في "التسهيل": وأجاز التميميون إتباع المنقطع إن صح إغناؤه عن المستثنى منه، وليس من تغليب العاقل على غيره فيختص بأحد وشبهه، وقال في الشرح: لغة بني تميمٍ إعطاء المنقطع المؤخر من مستثنيات "إلا" في غير الإيجاب من الإتباع ما لمتصل، فيقولون: ما فيها أحدٌ إلا زيدٌ، كما يقول الجميع، وعلى لغتهم قول الراجز:
وبلدةٍ ليس بها أنيس
…
إلا اليعافير وإلا العيس
ويلحق بهذا إتباع أحد المتباينين الآخر، نحو: ما أتاني زيدٌ إلا عمروٌ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، وهما من أمثلة سيبويه. والأصل: ما أتاني أحدٌ إلا عمرٌو، وما أعانه أحدٌ إلا إخوانه، فجعل مكان "أحدٍ" بعض مدلوله، وهو زيدٌ وإخوانكم، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة، لكن ذكرا توكيدًا لقسطهما من النفي دفعًا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يعترض عليه هذا الذي أكد به، فذكره توكيدًا، وشرط الإتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه، والاستغناء عنه بالمستثنى، فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند الجميع، كقوله تعالى:{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] فـ "من رحم" في موضع نصبٍ على الاستثناء، ولا يجوز فيه الإتباع، لأن الاستغناء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
به عما قبله ممتنعٌ إلا بتكلفٍ. وعم المازني: أن إتباع المنقطع من تغليب ما يعقل على ما لا يعقل.
قال ابن خروف: وهذا فاسدٌ، لأنه لا يتوهم ذلك إلا في لفظٍ واحدٍ، والذي يبدل منه في هذا الباب ليس بلفظٍ واحدٍ، بل أكثر من أن يحصى.
ثم قال المالكي: زعم الزمخشري أن قوله تعالى: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} استثناءٌ منقطعٌ جاء على لغة تميمٍ لأن الله تعالى، وإن صح الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض، وإنما ذلك على المجاز، لأنه مقدسٌ عن الكون في مكانٍ، بخلاف غيره، فإنه إذا أخبر عنه بأنه في السموات أو في الأرض، فإنه كائنٌ فيهما حقيقةً، ولا يصح حمل اللفظ في حالٍ واحدٍ على الحقيقة والمجاز، والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصلٌ، وفي متعلقه بغير "استقر" من الأفعال المنسوبة عل الحقيقة إلى الله تعالى، وإلى المخلوقين كذكر ويذكر، فكأنه قيل: لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا الله تعالى.
ويجوز تعليق "في" بـ "استقر" مسنداً إلى مضافٍ حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله، ثم حذف الفعل والمضاف، واستتر الضمير لكونه مرفوعًا، هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حالةٍ واحدةٍ، وليس عندي ممتنعاً كقولهم: القلم أحد اللسانين، والخال أحد الأبوين، ولقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، ويمكن أن يكون {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في موضع نصبٍ {الْغَيْبَ} بدل الاشتمال، والفعل مفرغٌ لما بعد إلا. أي: لا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله.
وقلت: المصنف ما اختار المذهب التميمي اضطرارًا إليه، بل مراعاة لتلك النكتة، وتحقيقها على ما ذكره صاحب "المتفاح"، ومن البناء على هذا التنويع، أي: على الدعوى قوله: "تحية بينهم ضربٌ وجيعٌ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] وقوله:
وبلدةٍ ليس بها أنيس
…
إلا اليعافير وإلا العيس
قال في فصل المستثنى منه، أي: أنيسها ليسوا إلا إياها. وقال فيه:
وقفت فيها أصيلالًا أسائلها
…
عيت جوابًا وما بالربع من أحد
إلا أواري
…
أراد إن كان الأواري يعد أحدًا، فلا أحد فيه بها إلا إياه.
وعليه كلام المصنف: "إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب"، أي: المقصود من إدخال رب العزة في المستثنى منه بالدعوى، وجعله جنسًا منهم كما سبق، ثم الإخراج بالمستثنى قطع القول بنفي معرفة الغيب ممن في السماوات والأرض، وأن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله منهم، والفرق بين الآية والمثال: أنه في الآية أدخل الله عز وجل فيمن في السماوات والأرض، ليجعل غيره مثله في معرفة الغيب ادعاءً، وهو المراد بقوله:"فهم يعلمون الغيب"، وفي المثال عكسه، وذلك أن علم الله غامرٌ لكل عالمٍ، وسلطان الإنس غالبٌ على كل من دونه، وكذا المثالان، أعني:"القلم أحد اللسانين" و"الخال أحد الأبوين" أيضًا من البناء على الدعوى، كقوله:"تحية بينهم ضربٌ وجيعٌ". وقول الفرزدق:
أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي
…
متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر
حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأنّ أحدا لم يذكر. ومنه قوله:
عشيّة ما تغني الرّماح مكانها
…
ولا النّبل إلّا المشرفي المصمّم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهو إلى باب عموم المجاز أقرب من إرادة الحقيقة والمجاز معًا.
ومما يقوي هذا التأويل ما ذكره صاحب "التقريب"، وفي الكلام تعقيدٌ ينحل ببيان أمرين: الأول: توقف النكتة على لغة التميمي، والثاني: موازنة الآية بالبيت. أما الأول، فتلخيصه: إن كان الله ممن فيهما، وهو يعلم الغيب ففيهما من يعلم الغيب، أي: استحالته كاستحالته. وأما الثاني: فلتوقفها على تقدير شرطية مثل: إن كان اليعافير أنيسًا ففيها أنيسٌ، وهذا إنما يصح على التميمي، وجعله بدلًا من جنس الأول على سبيل الفرض والتقدير لتصح تلك الشرطية، وأما على الحجازي ونصبه على أنه مستثنى منقطعٌ، أي: مذكورٌ بعد "إلا" غير مخرجٍ، فليس فيه أنه من جنس الأول، لا حقيقةً ولا فرضًا، فقد انكشف المقصود، ولله الحمد.
قوله: (عشية ما تغني الرماح) البيت، النبل: اسم السهام العربية، والمشرفي: السيف، قال أبو عبيدة: نسب إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، يقال: سيفٌ مشرفيٌ، ولا يقال: مشارفي، لأن الجمع لا ينسب غليه.
مكانها: أي: مكان الرماح، وهي الحرب، وقيل: مكانها، أي: نفسها، وهو الوجه. والمصمم: المحدد الذي يصيب المفصل، وعادة المحاربين أن يتناضلوا أولًا، فإذا تقاربوا حاربوا بالرماح، وإذا التقوا ضاربوا بالسيوف.
يصف التحام الحرب، والتقاء الصفين، بحيث لا يغني النبل ولا الرماح، ولم يبق إلا الضرب بالسيوف، أي: ما يغني إلا السيف.
وقولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعت إليه نكتة سرية. حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعنى: أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت: إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتا للقول بخلوّها عن الأنيس. فإن قلت: هلا زعمت أنّ الله ممن في السماوات والأرض، كما يقول المتكلمون: الله في كل مكان، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بنى تميم؟ قلت: يأبى ذلك أن كونه في السماوات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيحة، على أنّ قولك: من في السماوات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد: فيه إيهام تسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى. ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نكتةٌ سرية)، الجوهري: واستريت الغنم والناس، أي: اخترتهم، وهي سري إبله وسراة ماله.
قوله: (ومن يعصهما فقد غوى)، روينا عن مسلم وأبي داود والنسائي عن عدي بن حاتمٍ: أن رجلًا خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" وذلك أن في الجمع بالضمير ما يوهم التسوية، والعطف بالواو وإن دل على الجمع والتسوية في الفعل، لكن في الإفراد وجعل أحدهما متبوعًا والآخر تابعًا ما يزيل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك التوهم، هذا ما يقتضيه ظاهر كلام المصنف، ولكنه يشكل بما رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي عن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" الحديث.
ووجهه القاضي: ثنى الضمير هاهنا إيماءً إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لأن كل واحدةٍ منهما وحدها ضائعةٌ لاغيةٌ، وأمر بالإفراد في حديث عديٍّ إشعارًا بأن كل واحدٍ من العصيانين مستقلٌ باستلزام الغواية، لأن العطف في تقدير التكرير، والأصل فيه الاستقلال في كل من المعطوفين في الحكم.
وقلت: يؤيد الأول قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] حيث جعل متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيةً على محبة الله، وسببًا لمحبته تعالى.
والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه". أخرجه مالكٌ عن أنس بن مالكٍ.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا أعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري، إما أمرت به أو نهيت عنه، وهو متكئٌ على أريكته فيقول: ما ندري ما هذا، عندنا كتاب الله، وليس هذا فيه، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما يخالف القرآن، وبالقرآن هداه الله". أخرجه رزينٌ عن أبي رافع،
"بئس خطيب القوم أنت"؟ وعن عائشة رضي الله عنها: "من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية"، والله تعالى يقول:(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ).
وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا، لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة (أَيَّانَ) بمعنى متى، ولو سمى: لكان فعالا، من آن يئين ولا نصرف. وقرئ:(إيان) بكسر الهمزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روى الترمذي وأبو داود عنه نحوه.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها وأوله: من زعم أنه يخبر ما في غدٍ.
النهاية: الفرية على الله: الكذب، يقال: فرى يفري فريًا، وافترى يفتري افتراءً: إذا كذب، وهو افتعالٌ منه.
قوله: (لكان فعالًا)، أي: لا تكون الألف والنون زائدتين، فيكون منصرفًا، قيل: أورد هذه المسألة لئلا يظن أنه من باب حسان، حيث يجوز صرفه وعدمه، لو جعل من الحسن أو الحس.
الجوهري: أيان، معناه: أي حين، وهو سؤالٌ عن زمانٍ مثل: متى، وإيان بكسر الهمزة: لغة سليم، حكاها الفراء، وبه قرأ السلمي "إيان يبعثون" [الحل: 21].
(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)[النمل: 66].
وقرئ: (بل أدّرك)، (بل ادّراك)، (بل ادّارك)، (بل تدارك)، (بل أأدرك) بهمزتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: بل أدرك)، إلى قوله:(فهذه ثنتا عشرة قراءةً)، قرأ ابن كثير وأبو عمرٍو:"بل أدرك" بقطع الهمزة، وإسكان الدال من غير ألفٍ على وزن أفعل، والباقون بوصل الألف وتشديد الدال وألف بعدها.
قال ابن جني: قرأ سليمان وعطاء ابنا يسار "بل أدرك" بفتح اللام ولا همزة ولا ألف. وروي عنهما: "بل أدرك" بفتح اللام، ولا همز وتشديد الدال، وليس بعد الدال ألف، وقرأ:"بل آدرك" الحسن وابن محيصن.
وقرأ: "بلى" بياء "آدرك" ممدوداً ابن عباسٍ، وقرأ "بل أدرك" مخفوض اللام، مشددة الدال الحسن، وقرأ:"بل تدارك" أبي بن كعب.
وقال الزجاج: من قرأ: "بل أدرك علمهم" فعلى التقرير والاستخبار، كأنه قيل: لم يدرك علمهم في الآخرة، أي: ليس يقفون في الدنيا على حقيقتها ثم بين ذلك بقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} . والقراءة الجيدة {ادَّارَكَ} على معنى: تدارك، بإدغام التاء في الدال فتصير دالًا ساكنةً، فلا يبتدأ بها، فيأتي بألف الوصل ليصل إلى التكلم بها. وإذا وقفت على "بل" وابتدأت قلت:"ادارك"، فإذا وصلت كسرت اللام في "بل" لسكونها وسكون الدال، وسقطت الألف، لأنها ألف وصل.
وقال ابن جني: أما "بل ادرك" فعلى تخفيف الهمزة بحذفها، وإلقاء حركتها على اللام الساكنة قبلها كقولك في {قَدْ أَفْلَحَ}:"قد أفلح"، وأما "بل ادرك" بفتح اللام، فكان قياسه "بل ادرك" بكسر اللام لسكونها وسكون الدال بعدها، إلا أنه فتحت اللام، لأن في ذلك
(بل آأدرك)، بألف بينهما. (بل أدرك) بالتخفيف والنقل. (بل ادّرك) بفتح اللام وتشديد الدال. وأصله: بل أدَّرك؟ على الاستفهام. (بلى أدرك)، (بلى أأدرك)، (أم تدارك)، (أم أدرك) فهذه ثنتا عشرة قراءة. و (ادّارك): أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال. وادّرك: افتعل. ومعنى أدرك علمهم: انتهى وتكامل. (ادّارَكَ) تتابع واستحكم. وهو على وجهين، أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون، وهو قوله:(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ): يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إزالةً لالتقاء الساكنين، وعدولًا إلى الفتحة لخفتها كما روينا عن قطرب: أن منهم من يقول: {قُمِ اللَّيْلَ} ، وبع الثوب.
وأما "بل آدرك" فإن "بل" استئنافٌ، وما بعدها استفهامٌ، كما تقول: أزيدٌ عندك؟ بل أجعفرٌ عندك؟ تركًا للأول إلى غيره لا تراجعًا عنه.
وأما "بلى" فكأنه جوابٌ، وذلك أنه لما قال:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} فكأن قائلًا قال: ما الأمر كذلك، فقيل له:"بلى"، ثم استؤنف فقيل:"آدرك علمهم في الآخرة".
قوله: (يريد المشركين ممن في السماوات)، يعني: الضمائر في قوله: {عِلْمُهُمْ} ، {بَلْ هُمْ} ، و {هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] للمشركين، وكلها راجعةٌ إلى قوله:{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 65] وفيهما المؤمنون، لكن لما كان المشركون في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع.
بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم. فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟
قلت: لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه، وكان هذا بيانا لعجزهم ووصفا لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بدّ أن يكون، وهو وقت جزاء أعمالهم لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك على سبيل الهزؤ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن الآية سبقت)، تلخيص السؤال: أن قوله: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ} الآية، دل على أنه تعالى هو وحده يعلم الغيب، وقوله:"بل أدرك علمهم" دل على تكامل علمهم واستحكامه في أن القيامة كائنةٌ، وأنهم مع ذلك منكرون، فأي مناسبةٍ بينهما حتى توسطت بينهما كلمة الإضراب؟
وأجاب بجوابين:
أحدهما: أن الثانية وردت مستطردةً، والمناسبة بينهما إثبات العجزين، الثاني أبلغ من الأول.
وثانيهما: أن الآية الأولى نافيةٌ لمعرفته علم الغيب العام عنهم مطلقًا، والثنية نافيةٌ لمعرفة العلم الخاص على وجهٍ أبلغ، لأن إثبات العلم على التهكم لإرادة النفي أبلغ من نفيه مطلقًا، وإليه الإشارة بقوله:"فضلًا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته" فجاء الترقي من الأدون إلى الأغلظ.
وفي: "أدرَكَ علمُهُم" و (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ): وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني، من قولك: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم: وقد فسره الحسن رضي الله عنه باضمحل علمهم وتدارك: من: تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك. فإن قلت، فما وجه قراءة من قرأ: بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك. وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. فإن قلت: فمن قرأ: بلى أدرك، وبلى أأدرك؟ قلت: لما جاء ببلى، بعد قوله:(وَمَا يَشْعُرُونَ) كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه: المبالغة في نفى العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها، فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون. وأما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي "أدرك علمهم" و {ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ}: وجهٌ آخر)، عطفٌ على قوله:"ومعنى" أدرك علمهم في الآخرة": انتهى وتكامل".
ويجوز أن يكون متفرعًا على الجواب الثاني، أي: أن "أدرك"و"ادارك" إما منفيان على التهكم، أو معناها: انتهى وفني، ليحصل الترقي من النفي إلى النفي.
قوله: (من: تدارك بنو فلانٍ، إذا تتابعوا في الهلاك)، ومنه بيت الحماسة.
أبعد بني أمي الذين تتابعوا
…
أرجي الحياة أم من الموت أجزع
قوله: (فما وجه قراءة من قرأ: "بل أأدرك"؟ )، الفاء دلت على الإنكار، يعني: هب أنك فسرتهما بمعنى: انتهى وفني، فما تفعل بالاستفهام الوارد على التقرير؟ وأجاب: أجعله إنكارياً، وهو نفيٌ أيضًا.
قوله: (فمن قرأ: "بلى")، إنكارٌ آخر على التأويل بالنفي، وأجاب بما يوافق النفي بالتهكم لقراءة، وبالإنكار على وجهٍ برهانيٍّ لأخرى.
من قرأ: بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. (فِي الْآخِرَةِ) في شأن الآخرة ومعناها فإن قلت، هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية؛ فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض: كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا. ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه؛ فلذلك عدّاه بـ "مِن" دون "عن"،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم أنكر علمهم بكونها)، أي: قال: "أدرك علمهم في الآخرة"، بمعنى: ما أدرك علمهم في نفس الآخرة، والمراد: نفي علمهم بمعرفة وقتها بالطريق البرهاني، وإليه الإشارة بقوله:"لأن العلم بوقت الكائن تابعٌ العلم بكون الكائن".
قوله: (ما هي إلا تنزيلٌ لأحوالهم)، أي: لجهلهم بأحوال القيامة، المعنى: كيف يشعرون وقتها، وهم لا يعلمون كيف كونها، وأن البعث والحشر ثابتٌ في نفسه؟ فإن الأول تابعٌ للثاني، بل كيف يشعرون كونها، وهم خابطون في ظلماء الشك؟ فإن الجاهل أهون حالًا من الشاك الذي يتخبط في شكه لما يحتاج الثاني إلى إزالة الشك، ثم تحصيل العلم بخلاف الجاهل، وكيف يزيلون الشك وهم كالبهائم في العمى؟ فقوله:"ثم بما هو أسوأ حالًا" عطفٌ على قوله: "ثم بأنهم يخبطون"، وقوله:"فلا يزيلونه" إلى قوله: "بين الحق والباطل" متفرع على قوله: "ثم بأنهم يخبطون" والأسلوب من باب الترقي من الأهون إلى الأغلظ.
قوله: (وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه)، يريد أن معنى "من" في "منها" في الموضعين الابتداء، ومرجعه الصدور والإنشاء، وفيه شائبةٌ من معنى السببية، وأن الكفر بالآخرة سببٌ للعمى.
لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون.
[(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)].
العامل في (إِذَا) ما دلّ عليه (أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) وهو "نخرج"، لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيه عقابا وهي همزة الاستفهام، و "إن" ولام الابتداء وواحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمعن؟
والمراد: الإخراج من الأرض. أو من حال الفناء إلى الحياة، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على (إذا) و (إن) جميعا إنكار على إنكار، وجحود عقيب جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والضمير في (إِنَّا) لهم ولآبائهم، لأنّ كونهم ترابا قد تناولهم وآباءهم. فإن قلت: قدّم في هذه الآية (هَذَا) على (نَحْنُ وَآباؤُنا)، وفي آية أخرى قدّم (نَحْنُ وَآباؤُنا) على (هَذَا)؟ قلت. التقديم دليل على أن المقدّم هو الغرض المتعمد بالذكر، وإن الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "التقريب": معناه: أن الكفر بالجزاء مبدأ عماهم، وسبب عدم تدبرهم، فإن لم يصرفه خوف العاقبة فعل ما يقتضيه هواه وشهوته، ودخل في زمرة البهائم.
قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
قوله: (بين يدي عمل اسم الفاعل)، أي: المفعول، وهو "مخرجون"، سمي به مجازًا، لأنه بني من: يخرج.
قوله: (التقديم دليلٌ على أن المقدم هو الغرض)، تلخيصه: أن التقديم إنما يتعمد به لاقتضاء المقام، وكون المقدم مهتماً بشأنه، ولما كان الإنكار في هذه السورة أبلغ منه في تلك السورة قدم المنكر هنا، وأقره في تلك السورة في مكانه.
دلّ على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبيانه: أنه تعالى لما وبخ المشركين إنكارهم الحشر بقوله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، ثم جهلهم بوقت البعث بقوله:{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وترقى فيه ذلك الترقي المذكور، حكى عنهم ما كانوا يتفوهون به في ذلك من قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا} ، وضع {الَّذِينَ كَفَرُوا} موضع المضمر، للإشعار بأن هذا القول إنما صدر عنهم لتماديهم في الكفر، حيث ضموا مع ذكرهم ذكر آبائهم، وجعلوهم ترابًا صرفًا لأجزاء هناك على صورة نفسه، وقدموا المنصوب على المرفوع في قولهم:{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا} ، وهو المراد من قوله:"دل على أن اتخاذ البعث"، وأما في سورة المؤمنين فلم يسبق من ذلك شيءٌ.
نعم حكى عنهم قولهم لينبه به على أن ذلك جرى من محض التقليد، ومتابعة أسلافهم في تكذيب الأنبياء في البعث، فأقر كلًا من المرفوع والمنصوب في مكانه، ولم يذكر آباءهم، وصرح بذكر العظام، وهو المراد من قوله:"دل على أن اتخاذ المبعوث" يعني: إنما قدموا هذا هنا والمشار إليه البعث ليؤذن بأنهم إنما اتخذوا البعث منكرًا، وقدموا "نحن" في المؤمنين ليعلم بأنهم إنما اتخذوا "المبعوث بذلك الصدد"، أي: هو الذي يعمد بالكلام اتخاذ المبعوث.
وكلام صاحب "المفتاح" يجب أن يحمل على هذا المحمل، وذلك قوله: فالجهة المنظور فيها هناك هي كون أنفسهم ترابًا وعظامًا، والجهة المنظور فيها هاهنا هي كون أنفسهم وكون آبائهم ترابًا لأجزاء هناك من بناهم على صورة نفسه، ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث، فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره.
وأما قوله: "وفي آية أخرى قدم {نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا} "، فمن باب المشاكلة، إذ ليس هناك تقديمٌ اصطلاحيٌ.
قوله: (دل على أن اتخاذ البعث)، عن بعضهم:"على" في الموضعين فاعل "دل"، أي: دل على جعل الله البعث معتمدًا في الكلام، وعلى جعله المبعوث معتمدًا فيه في الأخرى.
[(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)].
لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة، لأنّ تأنيثها غير حقيقي، ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين: الكافرين، وإنما عبر عن الكفر الإجرام ليكون لطفا للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها ألا ترى إلى قوله:(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ)[الشمس: 14] وقوله: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا)[نوح: 25]. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لأنهم لم يتبعوك، ولم يسلموا فيسلموا وهم قومه قريش، كقوله تعالى:(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)[الكهف: 6]. (فِي ضَيْقٍ) في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس. يقال: ضاق الشيء ضيقا وضيقا، بالفتح والكسر. وقد قرئ بهما. والضيق أيضا: تخفيف الضيق. قال الله تعالى: (ضَيِّقاً حَرَجاً)[الأنعام: 125] قرئ مخففا ومثقلا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: هذا تلخيص المعنى، لأجل التركيب، لأن "اتخذ" يقتضي مفعولًا ثانيًا كما في قوله تعالى:{وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، فالتقدير دل على أن اتخاذ البعث أصلًا هو الذي يعتمد في الكلام، أي: الذي قصد في الكلام جعل البعث أصلًا ومقدمًا، ويعضده قوله: إن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر.
قوله: (ضيقًا وضيقًا، بالفتح والكسر)، ابن كثير: بالكسر، والباقون: بفتحها.
ويجوز أن يراد: في أمر ضيق من مكرهم.
[(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)].
استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم: (عَسَى أَنْ يَكُونَ) ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ)[البقرة: 195] أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدى. بـ "من"، قال:
فلمّا ردفنا من عمير وصحبه
…
تولّوا سراعا والمنيّة تعنق
يعني: دنونا من عمير، وقرأ الأعرج:(ردف لكم)، بوزن ذهب، وهما لغتان، والكسر أفصح. وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يراد: في أمرٍ ضيقٍ)، عطفٌ على قوله:" في حرج صدرٍ"، يعني:{ضَيْقٍ} هنا مطلقٌ يجوز أن يقدر: ضيق صدرٍ، لاشتهاره فيه، أو يترك على إطلاقه، فيحمل على العموم، فالأمر بمعنى الشأن والحال.
قوله: (فلما ردفنا من عميرٍ)، البيت، تعنق من العنق: وهو السير السريع السهل، يقال: دابةٌ معناقٌ، ومعنق، يقول: لما دنونا من عميرٍ وصحبه للمحاربة، أدبروا مسرعين منهزمين، والمنية تسرع خلفهم.
قوله: (وعسى ولعل)، الراغب: عسى طمعٌ وترج، وكثيرٌ من المفسرين فسروا عسى ولعل باللازم، وقالوا: إن الرجاء والطمع لا يصح من الله، وفي هذا قصور نظر، وذلك أن الله عز وجل إذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإنسان منه على رجاءٍ لا أن يكون هو تعالى
وجدّه وما لا مجال للشكّ بعده، وإنما يعنون بذلك: إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أنّ عدوّهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.
[(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)].
الفضل والفاضلة: الإفضال. ولفلان فواضل في قومه وفضول. ومعناه: أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأنه لا يعاجلهم بها، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه، ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب: وهم قريش.
[(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ)].
قرئ (تَكُنّ). يقال: كننت الشيء وأكننته: إذا سترته وأخفيته، يعنى: أنه يعلم ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راجيًا. قال تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129]، أي: كونوا راجين في ذلك، {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52].
قوله: (لإذلالهم بقهرهم)، أي: لوثوقهم، يقال: هو يدل بفلانٍ، أي: يثق به.
الأساس: وأدل على قريبه، ومنه: أسدٌ مدلٌ.
قوله: (الفضل والفاضلة: الإفضال)، الراغب: الفضل: الزيادة عن الاقتصاد، وذلك إما محمودٌ كفضل العلم والحلم، وإما مذمومٌ كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه، والفضل في المحمود أكثر استعمالًا، والفضول في المذموم.
قوله: (قرئ: "تكن")، قال ابن جني: قراءة ابن السميفع، وابن محيصن "تكن" بفتح التاء وضم الكاف، والمألوف أكننت الشيء: إذا أخفيته في نفسك، وكننته: إذا سترته
يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه.
[(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)].
سمي الشيء الذي يغيب ويخفى: غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتهما في العافية والعاقبة.
ونظائرهما: النطيحة، والرمية، والذبيحة: في أنها أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالراوية في قولهم: ويل للشاعر من راوية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بشيءٍ، فأكننت كأضمرت، وكننت كسترت، فهذا القارئ أجرى الضمير مجرى الجسم الساتر لها. مبالغةً، ونحو قول القائل:
وحاجةٍ دون أخرى قد عرضت لها
…
جعلتها للتي أخفيت عنوانا
وقول الحماسي:
تغلغل حب عثمة في فؤادي
…
فباديه مع الخافي يسير
ألا تراه كيف وصفه بما توصف به الجواهر من السروب والتغلغل.
قوله: (ونظائرهما: النطيحة)، الجوهري: نطحه الكبش ينطحه وينطحه نطحًا، والنطيحة المنطوحة التي ماتت منه، وإنما جاءت الهاء لغلبة الاسم عليها، وكذلك الفريسة، والأكيلة، والرمية، لأنه ليس هو على نطحتها، فهي منطوحة، وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح، والشيء مما يفرس.
السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح. المبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة.
[(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)].
قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزابا، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضا، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، يريد اليهود والنصارى. (لِلْمُؤْمِنِينَ): لمن أنصف منهم وآمن، أي: من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يريد اليهود والنصارى)، أي: يريد بقوله: بني إسرائيل: اليهود والنصارى لا اليهودي وحدهم كما الظاهر.
والمراد بالاختلاف ما شجر بينهم في المسيح عليه السلام، لقوله تعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم: 37]، وهم اليهود والنصارى في وجهٍ دون الوجه الآخر، وهم فرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية، والملكانية.
والمقام يقتضي العموم، لأنه تعالى لما وبخ المشركين ووعدهم وهددهم بقوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} وبين شمول علمه المعلومات كلها، وأنها ثابتةٌ في اللوح المحفوظ، ذكر أن هذا القرن نسخةٌ من بعض ما هو مثبتٌ في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78].
ألا ترى كيف يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وهم يعلمون ذلك لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، لكن هم شر ذمةٌ مكابرةٌ مثلكم أيها المشركون. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} يوم القيامة {بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه من المبطلين {الْعَلِيمُ} بالفصل بينهم وبين المحقين.
والدليل على استطراد هذا الكلام العود إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} بعد قوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} ، وإلى تسمية المشركين بالموتى في قوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} .
بني إسرائيل. أو منهم ومن غيرهم.
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)[النمل: 78].
(بَيْنَهُمْ) بين من آمن بالقرآن ومن كفر به. فإن قلت: ما معنى يقضي بحكمه؟ ولا يقال:
زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت: معناه بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، فسمي المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته، وتدل عليه قراءة من قرأ:(بِحِكَمِه)؛ جمع حكمة. (وَهُوَ الْعَزِيزُ)؛ فلا يردّ قضاؤه (الْعَلِيمُ) بمن يقضى له وبمن يقضى عليه، أو (العَزِيزُ) في انتقامه من المبطلين، (العَلِيمُ) بالفصل بينهم وبين المحقين.
[(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ* إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)].
أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ. وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته. وأن مثله لا يخذل. فإن قلت:(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) يشبه أن يكون تعليلا آخر للتوكل، فما وجه ذلك؟ قلت: ؟ وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسببا عما كان يغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشركين وأهل الكتاب: من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالعداوة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو منهم ومن غيرهم)، هذا أولى من الأول، لقوله:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} ، وقد فسر بقوله:"من آمن بالقرآن ومن كفر به" ولما قررناه من بيان النظم، ولأن قوله:{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} تعريضٌ كالتذييل، فيدخل فيه بنو إسرائيل دخولًا أوليًا.
قوله: (وتشييع ذلك بالعداوة)، الأساس: ومن المجاز: شيعنا شهر رمضان بصوم
والأذى، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع: كانت حالهم لانتفاء جدوى السماع؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الستة وشيعت النار بالحطب، وشيع هذا بهذا: قواه به. المعنى: ويقويه ترك إتباعه بالعداوة والأذى.
قوله: (توكل متوكلٍ مثله)، كنايةٌ عنه صلوات الله عليه كأنه قيل: توكل متوكلٌ ممن هو بصددك في بذلك جهيداه في إيمان القوم حتى قيل له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ} [الكهف: 6]، وممن هو له ناصرٌ، مثل ناصرك، كأنه قيل له صلوات الله عليه: أعرض عنهم وتاركهم، لأنك بالغت في الإنذار، وأعذرت، وإنهم لا يؤمنون البتة، ولم يبق لك إلا الاستنصار، والتوكل على الغالب القاهر لأعدائه، الناصر والمتولي لأوليائه، لأن الأصل: فتوكل عليه، لقوله:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} ، فوضع اسم الذات موضع الضمير، فأفاد في هذا المقام هذا المعنى.
الراغب: التوكل يقال على وجهين: يقال: توكلت لفلانٍ بمعنى: توليت له، ويقال: وكلته فتوكل لي، وتوكلت عليه: اعتمدته.
قوله: (أقماع القول)، النهاية: الأقماع: جمع قمع، كضلع وأضلاع: وهو الإناء الذي يترك في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات من الأشربة والأذهان، شبه أسماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ويعملون به بالأقماع التي لا تعي مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها كما يمر الشراب في الأقماع.
قيل: إضافة أقماع إلى القول بمعنى اللام، كأن آذانهم للأقوال كالظروف التي لا يبقى فيها شيءٌ من المظروف.
كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع وكذلك تشبيههم بالصمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي؛ حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، ويجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)؟ قلت: هو تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته. وقرئ:(ولا يسمع الصمّ)(وما أنت بهاد العمى)، على الأصل. وتهدي العمي. وعن ابن مسعود: .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فقدوا مصحح السماع)، أي: الحياة.
قوله: (ولا يقدر أحدٌ أن ينزع ذلك عنهم، ويجعلهم هداةً بصراء إلا الله)، الحصر مستفادٌ من تقديم الضمير وإيلائه حرف النفي في قوله:{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} .
قوله: (هو تأكيدٌ لحال الأصم)، وهو من باب التتميم، كقول امرئ القيس:
حملت ردينياً كأن سنانه
…
سنا لهبٍ لم يتصل بدخان
فإن قوله: "لم يتصل بدخان" تتميمٌ.
قوله: (وقرئ: "ولا يسمع الصم")، ابن كثيرٍ:"يسمع" بالياء التحتانية مفتوحةً وفتح الميم، و"الصم" بالرفع، والباقون: بالتاء مضمومةً وكسر الميم، و {الصُّمَّ} بالنصب.
قوله: (بهادٍ العمي، على الأصل)، أي: بالتنوين.
قال الزجاج: هذا يجوز في العربية، وإن لم يثبت روايةً.
(وما إن تهدي العمي)، وهداه عن الضلال. كقولك: سقاه عن العيمة؛ أي: أبعده عنها بالسقي، وأبعده عن الضلال بالهدى.
(إِنْ تُسْمِعُ) أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أي: يصدقون بها؛ (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي: مخلصون من قوله تعالى: (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)[البقرة: 112] يعني: جعله سالما لله خالصا له.
[(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)].
سمي معنى القول ومؤداه بالقول، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه:
حصوله. والمراد: مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة. ودابة الأرض: الجساسة. جاء في الحديث: أنّ طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما إن تهدي العمي)، "إن" مقحمةٌ كقول امرئ القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ
…
لناموا فما إن من حديثٍ ولا صالي
قوله: (عن العيمة)، وهي شدة شهوة اللبن، عام عيمةً فهو عيمانٌ، والمرأة عيمى، وعلى هذا: رميت عن القوس، لأنه يبعد السهم عنها بالرمي.
قوله: (الجساسة)، النهاية: في حديث تميمٍ الداري: "أنا الجساسة"، والجساسة: الدابة التي رآها في جزيرة البحر، سيمت بذلك، لأنها تجس الأخبار للدجال، يقال: جسه واجتسه، مثل: جثه، أي: مسه، والمجسة: الموضع الذي يجسه الطبيب، وفي المثل: أفواها مجاسها، أي: الإبل، إذا أحسنت الأكل اكتفى الناظر بذلك في معرفة سمنها من أن يجسها.
ولا يفوتها هارب. وروي: لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن إبل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّ، وذنب كبش، وخف بعير. وما بين المفصلين: اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام. وروى: لا تخرج إلا رأسها، ورأسها يبلغ أعنان السماء، أو يبلغ السحاب. وعن أبي هريرة: فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب. وعن الحسن رضي الله عنه: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. وعن على رضى الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل: من أين تخرج الدابة؟ فقال "من أعظم المساجد حرمة على الله" يعنى المسجد الحرام. وروى: أنها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثم تتكمن، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بنى مخزوم عن يمين الخارج من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وزغب)، النهاية: الزغب: جمع الأزغب، من الزغب: صغار الريش أول ما يطلع، شبه به ما في القثاء من الزغب، وهو كالشعيرات الصفر على ريش الفرخ، والفراخ زغبٌ، وقد زغب الفرخ، قال الفرزدق يخاطب عمر رضي الله عنه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ
…
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ
…
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
قوله: (وقرن أيل)، الجوهري: الأيل- بضم الهمزة، وتشديد الياء-: الذكر من الأوعال، وكذلك بكسر الهمزة.
قوله: (أعنان السماء)، الجوهري: أعنان السماء: صفائحها، وما اعترض من أقطارها، كأنه جمع عننٍ، وقيل: أعالي السماء وآفاقها.
المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق فتقول: (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يعني: أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي، لأنّ خروجها من الآيات، وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وعن السدي: : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر رضي الله عنه: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المشرق، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. وروي: تخرج من أجياد. وروي: بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل، وينشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام، فتنكت نكتة بيضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بلسانٍ ذلقٍ)، النهاية: في الحديث: تكلمت بلسانٍ ذلقٍ طلقٍ، أي: فصيحٍ بليغٍ. وذلق كل شيءٍ: حده.
قوله: "تنفذه"، أي: تنفذ الصرخة من المغرب، وفي "المعالم": فتصرخ ثلاث صرخاتٍ يسمعها من بين الخافقين.
قوله: (أجياد)، النهاية: بفتح الهمزة وسكون الجيم، وبالياء المثناة من تحت: جبلٌ بمكة، وأكثر الناس يقولون: جياد، بحذف الهمزة وكسر الجيم، وقيل: اسم وادٍ بمكة من شق اليمن، وأنشد المصنف لنفسه:
أوادي إبراهيم بوركت من واد
…
وحييت من دارٍ على باب أجياد
قوله: (مسجده)، "مسجد" بفتح الجيم: موضع سجود الرجل، وهو الجبهة حيث يصيبه ندب السجود، والآراب السبعة: مساجد، والندب: الأثر إذا لم يرتفع عن الجلد.
فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درّى، وتكتب بين عينيه: مؤمن: وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه: كافر. وروى: فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، ثم تقول هم: يا فلان، أنت من أهل الجنة. ويا فلان، أنت من أهل النار.
وقرئ: (تَكلِمُهُم) من الكلم: وهو الجرح. والمراد به: الوسم بالعصا والخاتم. ويجوز أن يكون (تُكَلِمُهُمْ) من الكلم أيضا، على معنى التكثير. يقال: فلان مكلم، أي: مجرّح. ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم: التجريح، كما فسر:(َّنُحَرِّقَنَّهُ)[طه: 97]، بقراءة عليّ رضي الله عنه:"لَنَحرُقَنَّه"، وأن يستدل بقراءة أبىّ:"تُنَبِّئهُم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والحديث من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصى موسى، فتحلو وجه المؤمن، وتحطم وجه الكافر، حتى إن أهل الخوان يجتمعون عليه، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر". وبقية الروايات الله أعلم بصحتها.
قوله: (فتحلو)، بالتاء المثناة وسكون الحاء المهملة وفتح اللام وضم الهمزة، صح من المحدثين.
وفي نسخ "الكشاف": "فتجلو"، بالجيم، وكذا في "المطلع" و"المغرب": جلأ بالتحريك: إذا صار فيه التحلئ، على مفعل بالكسر: ما أفسده السكين من الجلد إذا قشر. تقول: حلأت الجلد، إذا قشرته، وأما "فتجلو" بالجيم غير مهموزٍ، فمن: جلوت السيف، جلاءً، أي: صقلته.
قوله: (كما فسر: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} [طه: 97]، وقد فسره في موضعه، قال: ذكر أبو علي في
وبقراءة ابن مسعود: "تُكَلِّمُهم بأنَّ النّاس"، على أنه من الكلام. والقراءة بـ "إن" مكسورة: حكاية لقول الدابة، إما لأنّ الكلام بمعنى القول. أو بإضمار القول، أى: تقول الدابة ذلك. أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك. فإن قلت: إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت: قولها حكاية لقول الله تعالى. أو على معنى بآيات ربنا. أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده، وأنها من خواص خلقه: أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقول بعض خاصة الملك: خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه وبلاده. ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار، أى: تكلمهم بأن.
[(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)].
(فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{لَنُحَرِّقَنَّهُ} أنه يجوز أن يكون "حرق" مبالغةً في "حرق"، إذا برد بالمبرد، وعليه قراءة علي رضي الله عنه "لنحرقنه".
قوله: (وبقراءة ابن مسعودٍ: "تكلمهم بأن الناس")، أي: يستدل بقراءته على أن المراد بقوله: "تكلمهم" بالتشديد: القول، لتعديته بالباء، وذلك أن "تكلمهم" بالتشديد كان يحتمل الكلام على حذف الياء، ويحتمل التكليم- أي: التجريح- على حذف اللام، أي: تجرحهم، لأن الناس ما كانوا يوقنون بخروجها، فإتيان الباء دليلٌ على أن المراد الكلام.
قوله: (والقراءة بـ "إن" مكسورة)، الكوفيون:{أَنَّ النَّاسَ} بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها.
قوله: (وأثرتها عنده)، الأثرة: البقية من الشيء المختار، يقال: استأثر الله بفلانٍ.
قوله: (فيكبكبوا)، عن بعضهم: كبه: صرعه على وجهه، وأصله "تكببوا"، فجعلت إحدى الباءات كافًا.
عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه، كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله:(فَوْجاً)، فإن الفوج الجماعة الكثيرة. ومنه قوله تعالى:(يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أبو جهل والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة: يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. فإن قلت: أى فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين، كقوله:(مِنَ الْأَوْثانِ).
[(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ)].
الواو للحال، كأنه قال: أكذبتم بها بادئ الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب؟ أو للعطف، أي: أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها؟ فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه. (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بها للتبكيت لا غير. وذلك أنهم لم يعملوا إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الواو للحال)، أي: في {وَلَمْ تُحِيطُوا} أو للعطف.
فإن قلت: ما الفرق بينهما؟
قلت: على الحال يكون المنكر التكذيب المقيد بقيد عدم التدبر، فلا يكون كل واحد من التكذيب وعدم النظر منكرًا على الاستقلال، بخلافه في العطف، أي: لم جمعتم بين هذين المنكرين؟ فإن أنكرتموه فهلا تفكرتم فيها لما عسى أن يكون ذلك يؤديكم على التصديق؟ فإن من جحد كتابًا فلا يمنعه الجحد من قراءته.
قوله: (وذلك أنهم لم يعملوا)، تعليلٌ لتفسيره قوله:{أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] بأنه للتبكيت لا غير، لأن التبكيت لز الخصم إلى الإقرار بالمدعى، وأن ليس لهم جوابٌ
التكذيب، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها، وليس إلا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك وقد عرفته رويعي سوء: أتأكل نعمي، أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدئ به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده، وترمى بقولك: أم ماذا تعمل بها؟ مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل، لتبهته وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها، وأنه لا يقدر أن يدعي الحفظ والإصلاح، لما شهر من خلاف ذلك. أو أراد: أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله، أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعني أنه لم يكن لهم عمل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] إلا الإقرار بالتصديق أو التكذيب، إذ لا ثالث.
ولما كان المقام مقام الصدق لا يقدرون أن يقولوا: قد صدقنا بها، فلابد لهم أن يقولوا: كذبنا بها، لأنهم لم يعملوا إلا بالتكذيب، فقوله في المثال:"لا يقدر أن يدعي الحفظ والإصلاح لما شهر من خلاف ذلك" تعيين لمقام الصدق.
قوله: (أو أراد: أما كان لكم عملٌ في الدنيا إلا الكفر والتكذيب)، عطفٌ على قوله:"أكذبتم بها" إلى قوله: " {أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بها للتبكيت، و"أم" على الأول: متصلةٌ، وقوله: "ماذا كنتم تعملون؟ عبارة عن التصديق، يدل عليه قوله:"وليس إلا التصديق بها أو التكذيب" والسؤال سؤال توبيخ في مقام يضطر المخاطب إلى الصدق كما مر، فإنك إذا جعلت في مثل هذا المقام ما صح وثبت عندك يلي الهمزة "ما"، وليس بثابت يلي "أم"، فلابد أن يوافقك المخاطب فيما هو الأصل، وعلى الثاني منقطعةٌ، والهمزة في {أَكَذَّبْتُمْ} للتقرير، وفي "أم" للإنكار.
ولهذا قال: أما كان لكم عملٌ في الدنيا إلا الكفر والتكذيب، ثم أضربه عنه، وابتداء {أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سائلاً عن العمل سوى التكذيب، لأنه هو المتهم بشأنه، فنفاه عن أصله، وإليه أشار بقوله:"لم يكن لهم عملٌ غيره" فإذا قرر التكذيب والكفر أولًا، ونفى غيرهما ثانيً، انحصر عملهم فيهما، إليه أشار بقوله:"كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية"
غيره، وكأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها، وذلك قوله:(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم. وهو التكذيب بآيات الله، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كقوله تعالى:(هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ)[المرسلات: 35].
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[النمل: 86].
جعل الإبصار للنهار وهو لأهله. فإن قلت: ما للتقابل لم يراع في قوله: (لِيَسْكُنُوا) و (مُبْصِراً) حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصرا: ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب.
[(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)].
فإن قلت: لم قيل: (فَفَزِعَ) دون فيفزع؟ قلت: لنكتة؛ وهي الإشعار بتحقق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والواو في "وإنما خلقوا" للحال، وفيه تقريرٌ لمذهبه.
وقدر بعض أهل السنة: "ماذا كنتم تعملون"، أي: ماذا أطقتم من غير ذلك حتى تعلموا، نزلهم منزلة العجزة عن خلاف الكفر والتكذيب، لأنهم مطبوعٌ على قلوبهم.
قوله: (هو مراعى)، أي: التقابل مراعى من حيث المعنى، وسيجيء تقريره في سورة "حم المؤمن" في مثل هذه الآية إن شاء الله تعالى.
قوله: (لم قيل: {فَفَزِعَ} ، الراغب: الفزع: انقباضٌ ونفار يعتري الإنسان من الشيء
الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، واقع على أهل السماوات والأرض، لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون (إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة، قالوا: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام. وقيل: الشهداء. وعن الضحاك: الحور، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر: منهم موسى عليه السلام، لأنه صعق مرّة. ومثله قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ ومَنْ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المخيف، وهو من جنس الجزع، ولا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه، وقوله عز وجل:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103]، أي: الفزع من دخول النار، وقوله تعالى:{إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23]، أي: أزيل، يقال: فزع إليه: إذا استغاث به عند الفزع، وفزع له: أغاثه، وقول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ
أي: صارخٌ أصابه فزعٌ، ومن فسره بأن معناه: المستغيث، فإن ذلك تفسيرٌ للمقصود من الكلام، لا للفظ الفزع.
قوله: (وعن جابر: منهم موسى عليه السلام لأنه صعق مرةً)، أشار إلى حديث أبي سعيد في حديث لطم الأنصاري اليهودي، قال صلى الله عليه وسلم:"لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى أخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أو جوزي بصعقة الطور". أخرجه البخاري ومسلم.
الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) [الزمر: 68]. وقرئ: (أتوه) و (أتاه) و (دخرين)، فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ. والداخر والدخر: الصاغر. وقيل: مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له.
[(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ* مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ* وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)].
(جَامِدَةً) من جمد في مكانه إذا لم يبرح. تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد (وَهِيَ تَمُرُّ) مرّا حثيثا كما يمر السحاب. وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد: إذا تحرّكت لا تكاد تتبين حركتها، كما قال النابغة في صفة جيش:
بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم
…
وقوف لحاج والرّكاب تهملج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "آتوه")، حفصٌ وحمزة:{آَتَوْهُ} بقصر الهمزة وفتح التاء، والباقون: بمد الهمزة وضم التاء.
قوله: (ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره)، عطفٌ على قوله:"وقيل: مع الإتيان حضورهم المواقف"، فعلى هذا يصح أن يكون هذا عند النفخ في الصور والفزع.
قوله: (بأرعن مثل الطود)، البيت، الرعن: أنف الجبل المتقدم، والجمع الرعون، والرعان، ثم يشبه به الجيش، فيقال: جيشٌ أرعن، وهو المضطرب لكثرته. والطور: الجبل العظيم.
قوله: (لحاجٍ)، الحاج: جمع الحاجة، والركاب لا واحد له من لفظه، والهملاج من
(صُنْعَ اللَّهِ) من المصادر المؤكدة، كقوله:(وَعَدَ اللَّهُ)[النساء: 122، الروم: 6]، و (صِبْغَةَ اللَّهِ) [البقرة: 138]، إلا أن مؤكدة محذوف، وهو الناصب لـ "يوم ينفخ"، والمعنى: ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين، ثم قال:(صُنْعَ اللَّهِ)، يريد به: الإثابة والمعاقبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البراذين، واحد الهماليج، ومشيها الهملجة فارسيٌ معربٌ، وهي مشيٌ سهلٌ، يقول: حاربنا العدو بجيشٍ مثل الجبل العظيم تحسب أنهم وقوفٌ لحاجٍ، والحال أن الركاب تهملج وتسرع.
قوله: ({صُنْعَ اللَّهِ} من المصادر المؤكدة)، الراغب: الصنع: إجادة الفعل، ولا ينسب إلى الحيوانات كما ينسب إليها الفعل، قال الله تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ} . وللإجادة يقال للحاذق المجيد: صنعٌ، وللمرأة: صناعٌ، قال الله تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} .
قوله: (والمعنى: يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين، وعاقب المجرمين، ثم قال: {صُنْعَ اللَّهِ} يريد به: الإثابة والمعاقبة)، قلت: هذا يؤذن بأن قبل {صُنْعَ اللَّهِ} إضماراً، وهو أثاب المحسنين وعاقب المجرمين. و {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكد للمعنى المقدر.
وقوله: "وكان كيت وكيت"، كناية عن قوله {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} إلى آخره، وأن قوله:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} إلى آخر الآيتين، تلخيصٌ لمعنى ذلك المقدر وقرينةٌ له.
وقال أبو البقاء: العامل في {يَوْمَ نَحْشُرُ} ، {يَوْمَ يُنْفَخُ}: اذكر، و {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرٌ عمل فيه ما دل عليه. {تَمُرُّ} ، لأن ذلك من صنع الله، كأنه قال: صنع ذلك صنعًا.
وقال الزجاج: {صُنْعَ اللَّهِ} نصب على المصدر، لأن قوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} دليلٌ على الصنعة، كأنه قيل: صنع الله ذلك صنعًا. وهذا أقرب مما ذكره المصنف، لكن يحتاج في تقريره إلى بيان النفختين وتسيير الجبال، وتبديل السماوات والأرض، والذي يفهم من الكتاب والسنة: أن النفخة الأولى كائنةٌ في الدنيا.
روينا عن مسلمٍ عن ابن عمر في حديثٍ طويلٍ: "وهم في ذلك دارٌ رزقهم، حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحدٌ إلا أصغًى ليتًا، وأول من يسمعه رجلٌ يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم [يرسل الله- أو] قال: ينزل الله- مطرًا كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيامٌ ينظرون".
وروى البخاري ومسلمٌ وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون". قيل: أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة: أبيت. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنةً؟ قال: أبيت. الحديث.
وأما تسيير الجبال ومرورها فبعد النفخة الثانية عند قيام القيامة.
قال محيي السنة: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} وهي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض، فتستوي بها.
وقال: سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمها، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه.
وينصره قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] إلى قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 4 - 6] وقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، وقوله تعالى:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] إلى قوله: {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 3].
وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال:(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) يعني أنّ مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب؛ من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة، أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله:(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) إلى آخر الآيتين، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا علم هذا فالحق أن يقال: إن قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} هو النفخة الأولى، وأن قوله:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] واقعٌ بعد النفخة الثانية على ما قال المصنف، وكذا عن محيي السنة. وقوله:{صُنْعَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكد عمل في ما دل عليه {تَمُرُّ} ، كما قال أبو البقاء والزجاج.
وقوله: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} تنبيهٌ على الشروع في الحساب، والأخذ في الجزاء على سبيل الاستئناف، وأنه جوابٌ لقول من يسأل: فماذا يكون بعد هذه القوارع؟ فقيل: إن الله خبيرٌ بعمل العاملين، فيجازيهم على أعمالهم، حسنها وسيئها، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوهم في النار، هذا هو النظم الذي أفزع إفراغاً واحدًا، ورص ترصيصًا متينًا، والحمد لله على ذلك.
قوله: (إنه عالمٌ بما يفعل العباد)، الراغب: الخبر: العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر، وخبرته خبرًا وخبرةً، وأخبرت: أعلمت بما حصل لي من الخبر، وقيل: الخبرة: المعرفة ببواطن الأمر، والخبار والخبراء: الأرض اللينة، وقد يقال ذلك لما فيها من الشجر، والمخابرة: مزارعة الخبار بشيءٍ معلوم، والخبير: الأكار فيه. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . أي: عالمٌ بأخبار أعمالكم، وقيل: أي: عالمٌ ببواطن أموركم، وقيل: خبيرٌ بمعنى مخبرٍ، كقوله:{خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
واحدا ولأمر مّا أعجز القوى وأخرس الشقاشق. ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب كلام، جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان. ألا ترى إلى قوله:(صُنْعَ اللَّهِ)، و (صِبْغَةَ اللَّهِ) [البقرة: 138]، و (وَعَدَ اللَّهُ) [النساء: 122، الروم: 6]، و (فِطْرَتَ اللَّهِ) [الروم: 30]: بعد ما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم، كيف تلاها بقوله:(الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة: 138] (لا يُخْلِفُ المِيعَادَ)[الروم: 6](لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)[الروم: 30] وقرئ: (تَفْعَلُونَ)، على الخطاب. (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. وقيل:(فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الشقاشق)، النهاية: الشقشقة: الجلدة الحمراء التي يخرجها الجمل العربي من جوفه، ينفخ فيها فتظهر من شدقه، شبه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته، وفي حديث علي رضي الله عنه:"إن كثيرًا من الخطب من شقاشق الشيطان" نسبها إلى الشيطان لما يدخل فيها من الكذب والباطل، وكونه لا يبالي بما قال. هكذا أخرجه الهروي عن علي.
وفي كتاب أبي عبيد وغيره من كلام عمر رضي الله عنه: ومنه حديث علي: "تلك شقشقةٌ هدرت ثم قرت".
قوله: {أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، متوافقان من حيث إن من حسن الصنعة إتقانه وإحكامه، وتسويته على ما ينبغي.
قوله: ({فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} يريد الأضعاف وأن العمل يتقضى)، قال القاضي:{فَلَهُ خَيْرٌ} إذ ثبت له الشريف بالخسيس، والباقي بالفاني، وسبع مئةٍ بواحدةٍ.
أي: له خير حاصل من جهتها وهو الجنة. وعن ابن عباس، الحسنة كلمة الشهادة. وقرئ:(يَوْمَئِذٍ) مفتوحا مع الإضافة، لأنه أضيف إلى غير متمكن. ومنصوبا مع تنوين (فَزَعٍ). فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأوّل: هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ، من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية. وأمّا الثاني: فالخوف من العذاب. فإن قلت: فمن قرأ (مِنْ فَزَعٍ) بالتنوين ما معناه؟ قلت: يحتمل معنيين. من فزع واحد وهو خوف العقاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم، فلا يخلون منه، لأنّ البشرية تقتضي ذلك. وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: له خيرٌ حاصلٌ من جهتها)، قال أبو البقاء:{خَيْرٌ مِنْهَا} ، أي: أفضل منها، فـ "من" في موضع نصبٍ، ويجوز أن يكون بمعنى فضل، وموضع "منها" رفعٌ صفةٌ لـ "خيرٌ"، أي: له خيرٌ حاصلٌ بسببها.
قوله: (وقلب وجاب)، النهاية: سمعت وجبة قلبه، أي: خفقانه، يقال: وجب القلب جيب وجيبًا، إذا خفق.
قوله: (وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه)، أي: على المعنى الأول في الجواب، أما الأخبار، فمنها حديث الشفاعة، روينا عن البخاري ومسلمٍ والترمذي عن أبي هريرة في حديثٍ طويل، وفيه:"يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون"، ثم ساق الراوي الحديث، إلى أن آدم يقول:"نفسي نفسي"، وكذا إبراهيم وموسى وعيسى.
ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف: وهو خوف النار. "أَمِنَ": يعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى:(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ)[الأعراف: 99]. وقيل: السيئة: الإشراك. يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة، فكأنه قيل: فكبوا في النار، كقوله تعالى:(فَكُبْكِبُوا فِيها)[الشعراء: 94] ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذانا بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين. (هَلْ تُجْزَوْنَ) يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول.
[(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ* وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)].
أمر رسوله بأن يقول: (أُمِرْتُ) أن أخص الله وحده بالعبادة، ولا أتخذ له شريكا كما فعلت قريش، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام. (وَأَنْ أَتْلُوَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومن فزعٍ شديدٍ مفرط الشدة)، هو المعنى الثاني في الجواب، والتنكير على الأول للوحدة شخصًا، وعلى هذا التهويل والتعظيم.
وقوله: "وأما ما يلحق الإنسان" إلى آخره، فمعناه: لابد من حمل التنكير على هذا النوع من الخوف، لأن سائر الأهوال والأفزاع البشر لا يخلون منه، أي: وهم من فزع العقاب، أو من خوف النار آمنون، لا مما يلحق الإنسان من التهيب، فقوله:"أما ما يلحق" إلى آخره، اعتراضٌ من الوجهين، وهو متعلقٌ بهما، أو استغني به عن تكريره، بعد الوجه الآخر، لأنه بين قوله:"من فزع شديد" بقوله: "وهو خوف النار" ومآل قراءة الإضافة أيضًا إلى هذين الوجهين، لأن الفزع الذي يختص بذلك اليوم هو العقاب، والنار وسائر الأفزاع مشترك.
قوله: ({أُمِرْتُ} أن أخص الله وحده)، اقتبس معنى التخصيص من لفظة:"إنما".
الْقُرْآنَ) من التلاوة أو التلوّ كقوله: (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ)[يونس: 109، الأحزاب: 2]. والبلدة: مكة حرسها الله تعالى: اختصها من بين سائر. البلاد بإضافة اسمه إليها، لأنها أحبّ بلاده إليه، وأكرمها عليه، وأعظمها عنده. وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره، فلما بلغ الحزورة استقبلها بوجهه الكريم فقال:"إني أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت" وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فلما بلغ الحزورة)، روينا عن الترمذي، عن عبد الله بن الحمراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحزورة، وهو يقول:"والله إنك لخير أرض الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".
النهاية: الحزورة: موضعٌ من مكة عند باب الحناطين، وهو بوزن قسورة، قال الشافعي رضي اله عنه: الناس يشددون الحزورة والحديبية، وهما مخففان.
"مهاجره" أي: زمان هجرته.
قوله: (إشارة تعظيمٍ لها وتقريبٍ)، أي: الإشارة بلفظ"هذه" إلى البلدة على طريقة قول القائل:
هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه
إيذانٌ بتعظيمها وشرفها، وما ذلك إلا أنها موطن نبيه ومهبط وحيه، ولذلك نزلت {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] تسليةً لقلبه، وتسريةً لكربه، أي: الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن لرادك على مكة.
ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25] لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها. واللاجئ إليها آمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها)، أي: وصف البلدة، يعني: كان من حق الظاهر أن يصف البلدة، ويقول: البلدة التي حرمها الله، فوصف نفسه بقوله: الذي حرمها، ليؤذن بتعظيمه.
فإن قلت: ما الفرق بين الوصفين؟
قلت: إذا قلت: رب هذه البلدة الذي حرم مكة، أعلمت أن مكة من جلالة قدرها، وعلو مرتبتها بحيث يصح أن يوصف بتحريمها ذو الجلال والإكرام، وأن الوصف به كالوصف بالأسماء الحسنى، وإليه الإشارة بقوله:"فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو"، وإذا قلت: رب هذه البلدة التي حرمها الله، لم يقع هذا الموقع.
قوله: (قسمها)، الأساس: أعطيته قسمه ومقسمه: نصيبه، وأعطيتهم أقسمهم ومقاسمهم، وأنشد أبو زيد:
ومالك إلا مقسمٌ ليس فائتًا
…
به أحدٌ فاعجل به أو تأخرا
قوله: (لا يختلي خلالها)، النهاية: الخلا مقصورٌ: النبات الرطب الرقيق ما دام رطبًا، واختلاؤه: قطعه، فإذا يبس فهو حشيشٌ. لا يعضد: لا يقطع، يقال: عضدت الشجر، أعضده عضدًا، والعضد- بالتحريك- المعضود.
وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما، وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا ملك مثل هذه البلدة لعظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء. اللهم بارك لنا في سكناها، وآمنا فيها شرّ كل ذي شرّ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك. وقرئ:"التي حرّمها"، و "اتل عليهم هذا القرآن": عن أبىي (وَأَنْ أَتْلُوا): عن ابن مسعود. (فَمَنِ اهْتَدى) باتباعه إياى فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الأنداد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجعل دخول كل شيءٍ تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما)، يعني: أضاف الرب إلى البلدة إضافة تمليكٍ، وهو بمعنى: مالك، ثم عقب ذلك بقوله:{وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} على وجه التتميم، ليؤذن بالفرق بين الملكين، وأن أحدهما كالتابع، والآخر كالمتبوع.
قوله: (وفي ذلك إشارة)، أي: في وصف ذاته عز وجل بالتحريم الذي هو وصفٌ خاصٌ للبلدة، وجعل كل الأشياء تابعًا لها في الملكية إشعارٌ بأن مالكها عظيم الشأن، قاهر السلطان، يرفع من مرتبة ما أراد رفعته، ويحط من منزلة ما أراد حطه، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قديرٌ.
قوله: ({فَمَنِ اهْتَدَى} بإتباعه)، يريد أن "اهتدى" مطلقٌ غير مقيدٍ، بشيءٍ، وقد ذرك هذه الخلال الأربع، فوجب تقيده بها.
واعلم أن هذه خاتمةٌ شريفةٌ واردةٌ على نمطٍ غريبٍ، وترتيبٍ أنيقٍ.
قال القاضي: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك بعدما بين المبدأ والمعاد، وشرح أحوال القيامة إشعارًا بأنه قد أتم الدعوة فكملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه، والاستغراق بعبادة ربه. يريد أن هذه الخاتمة كالمتاركة للمشركين.
ولعمري إنها من الخاتمة التي تدهش العقول، وتحير الأفهام، فإنه تعالى لما ختم الآيات الواردة في أمر البعث والحشر على أتم ما ينبغي بقوله:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علىّ من الوحي، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلىّ (وَمَنْ ضَلَّ) ولم يتبعني فلا علىّ، وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول إلا البلاغ. ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة، والإقرار بأنها آيات الله. وذلك حين لا تنفعهم المعرفة. يعني في الآخرة. عن الحسن وعن الكلبي: الدخان، وانشقاق القمر. وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا. وقيل: هو كقوله: (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)[فصلت: 53]. وكل عمل يعملونه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على الحصر، ووضع موضع حرف النفي الاستفهام، تأكيدًان أمر حبيبه صلوات الله عليه بخويصة نفسه من الاشتغال بعبادة ربه، فاختار له من الأمكنة أفضل البقاع، وخصها من الأوصاف ما كل وصفٍ دونها كما قال، وجعل دخول كل شيءٍ تحت ملكوته كالتابع لدخولها تحته.
ومن الملة خير الملل وأقومها، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
ومن الكتب أسمى الكتب وأسناها، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، ثم أمر بعد ذلك كله بالتحميد حمدًا على ما أولاه من نعم التبليغ، واستفراغ الطوق والجهد فيه، ومن اختصاص الله بالعبادة في أشرف البقاع، ومن الدخول في الملة الحنيفية، ومن تلاوة هذا الكتاب الكريم، ثم طبع الكتاب بالتهديد بقوله:{سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، يعني: حين أعرضوا عن واعظ الله، وأمرنا الرسول بالمتاركة، سنفرغ لهم وحدنا، ونلجئهم إلى المعرفة والإقرار بآياتنا حين لا تنفعهم المعرفة، كقوله تعالى:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 31 - 32]، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (وقيل: هو كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ} ، أي: لا يكون للتهديد بل للاستدلال.
فالله عالم به غير غافل عنه؛ لأنّ الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات، وهو من وراء جزاء العاملين. قرئ:(تَعْلَمُونَ)، بالتاء والياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الزجاج: أي: سيريكم الله آياته في جميع ما خلق، وفي أنفسكم.
والحمد على هذا التفسير على نعمة المعرفة التي دونها كل النعم. وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعد بإيصال الثواب إلى من شكر تلك النعمة.
وعلى الأول: {سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} كان وعيدًا وتهديدًا، وقوله:{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، تذييلٌ للوعيد، وتأكيدٌ له.
قوله: (على عالم الذات)، الانتصاف: سبق له جحد صفة العلم، وإيهام أن سلبها داخلٌ في تنزيه الله تعالى، لأنه يجعل استحالة الغفلة عليه معللةً بأن علمه بالذات لا بالعلم.
والحق أن استحالة الغفلة عليه تعالى، لأن علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، بل هو عالمٌ بعلمٍ قديمٍ، عام التعلق في الكائنات والممكنات والممتنعات، ولا يتوقف تنزيهه سبحانه وتعالى على تعطيل صفات كماله وجلاله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
قوله: (وراء جزاء العاملين)، هذا مثل، يعني: أنه تعالى لابد أن يجازي عامل الخير والشر، كما أن سائق الشيء لابد أن يوصله إلى ما يريد منه.
قوله: (قرئ: {تَعْمَلُونَ} بالياء والتاء)، بالتاء الفوقانية: نافعٌ وابن عامرٍ وحفصٌ، والباقون: بالياء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهودٍ) عطفٌ على "من صدق"، كأنه قيل: بعدد قوم سليمان وهودٍ.
تمت السورة
حامدًا الله، ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
***