المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورةُ القَصَص مكِّيّة، وهي ثمانٌ وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{طسم *تِلْكَ - فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) - جـ ١٢

[الطيبي]

فهرس الكتاب

‌سورةُ القَصَص

مكِّيّة، وهي ثمانٌ وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{طسم *تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*} 1 - 3]

{مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} مفعول {نَتْلُوا} ، أي: نتلُو عليكَ بعضَ خَبَرِهما {بِاَلْحَقِ} مُحِقِّين، كقوله:{تَنْبُتُ بِاَلدُّهْنِ} . {لِقَوْمِ يُؤْمِنُونَ} لِمَن سبقَ في عِلْمِنا أنّه يُؤمن، لأنَّ تنفعُ هؤلاءِ دُونَ غيرهِم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة القصص

مكية، وهي ثمانون وثمان آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

قولهُ: (نتلُو عليكَ بعضَ خَبَرِهما)، يريدُ أنّ {مِن} في {مِن نَّبَإِ مُوسَى} للتبعيض؛ وهُوَ مفعولُ {نَتْلُوا} [القصص: 3]. وقالَ أبو البقاء: {نَتْلُوا} مفعولُه محذوف، دلّتْ عليه صفتُه، تقديرُه: شيئاً مِنْ نَبِأ موسى؛ فـ {مِن} للبيان. وعلى قولِ الأخفشِ {مِن} زائدة.

قولُه: (لِمَنْ سبقَ في علمِنا أنه يؤمِنُ)، يريدُ أنّ إنزالَ الكتابِ على رسولِ الله صلى الله عليهم وسلم

ص: 5

[{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 4]

{إِنَّ فِرْعَوْنَ} جملةٌ مستأنَفةٌ كالتَّفسيرِ للمُجْمَل، كأنَّ قائلاً قالَ: وكيفَ كان نَبَؤُهُما؟ فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} يعني: أرضَ مملكتِه؛ قد طغى فيها وجاوزَ الحدَّ في الظُّلمِ والعَسْف. {شِيَعاً} فِرَقًا يُشَيِّعونه على ما يُريدُ ويُطيعونه، لا يملِكُ أحدٌ منهم أن يَلوِيَ عُنُقَه. قالَ الأعشى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنما كانَ لأنْ يتلوه على المؤمنينَ والكافرينَ جميعاً: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاَ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67]. لكن اختصاصُ المؤمنينَ بالذكرِ لانتفاعِهم به؛ فإذَنِ المرادُ بقولِه: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3] لقومٍ سيُؤمِنون، وعليه قولُه تعالى:{هُدًى لِلْمُتَقِينَ} [البقرة: 2] أي: الضالينَ الصائرينَ إلى التقوى، وهُوَ مجازٌ باعتبارِ ما يُؤوّل، وقال فيه:((إنّ الضالينَ فريقان؛ فريقٌ عُلِمَ بقاؤُهم على الضلالةِ وهُمُ المطبوعُ على قلوبِهم، وفريقٌ عُلِمَ أنّ مصيرَهم إلى الهُدى؛ فلا يكونُ هدًى للفريقِ الباقينَ على الضلالة؛ فبقى أنْ يكونَ هدًى لهؤلاء))، وإليهِ الإشارةُ بقولِه:((إنما ينفعُ هؤلاءِ دونَ غيرِهم)).

والمعنى: نتلو عليكَ مِن نَبَإِ موسى وفرعونَ وما جرى بينَهما بقوم عُلِمَ أنّ التلاوةَ تنفَعُ فيهم دونَ مَنْ عَداهم مِنَ المُصرِّين، ونحوُه قولُه تعالى:{فَذَكِرَ بِاَلْقُرْآَنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] قال: إنّ التذكيرَ لا ينفعُ إلا فيمنْ يخافُ الوعيدَ دونَ المُصِرِّ على الكُفر.

وقلت: هذا الإنباءُ العجيبُ الشأنِ متضمِّنٌّ لإثباتِ القضاءِ والقدر، وقد عَلِمَ الله سبحانه وتعالى أنّ بعضًا مِنَ الذينَ يدّعونَ الإيمانَ لا يؤمنونَ بالقدَر؛ فقال:{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تعريضاً بهم؛ فعلى هذا يمكنُ أنْ يُجعَلَ {بِاَلْحَقِّ} حالاً منَ المجرور؛ أي: نتلو عليكَ نبأَهُما مُلتبِسًا بالحقِّ على القضاءِ والقدر.

قولُه: (قد طغى فيها وجاوزَ الحدّ)، يعني: معنى {عَلَا فِي الأَرْضِ} طغى فيها؛ مِن قولِه تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُون عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ} [القصص: 83] أي: استِكبارًا وتجبُّرًا.

ص: 6

وبَلدةٍ يَرهَبُ الجَوّابُ دُلجتَها

حتّى تَراهُ علَيها يَبتَغي الشِّيَعا

أو يُشَيِّعُ بعضُهم بعضًا في طاعَتِه، أو أصنافًا في استخدامِه يتسخَّرُ صنفاً في بناءِ، وصنفًا في حَرْثٍ وصنفًا في حَفْر، ومن لم يستَعْمِلْه ضربَ عليه الجِزية، أو فِرَقًا مُختلفةً قد أغرى بينهمُ العداوةَ، وهم إسرائيلَ والقبطُ. والطّائفةُ المُستضعفة: بنو إسرائيل، وسببُ ذبحِ الأبناءِ: أنَّ كاهناً قالَ له: يولَدُ مولودٌ في بني إسرائيلَ يَذْهَبُ مُلكُكَ على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: العُلْوُ ضدُّ السُّفْل، والعُلْويُّ والسُّفْليُّ: المنسوبُ إليهما، والعُلُوّ: الارتفاع، وقد علا يَعْلُوا عُلُوًّا وعَلِيَ يَعْلي عَلاءَ فهو عَلِيٌّ؛ فـ ((علا)) بالفتحِ بالفتحِ في الأمكِنةِ والأجسامِ أكثر، قال تعالى:{عَلَيْهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} [الإنسان: 21]، ويُستعملُ في المحمودِ والمذموم؛ قال تعالى:{سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]، وقال:{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ} [يونس: 83]. والعليّ: رفيعُ القدرِ من ((عَلِيَ))، فإذا وُصِفَ به الله تعالى فمعناهُ أنّه يعلو أن يحيطَ بهِ وصفُ الواصفين، بل علمُ العارفين؛ وعلى ذلك يُقال: تعالى الله، وخُصّ التفاعلُ للمبالغةِ لا للتكلُّفِ كما في البَشَر. و {عُلُوًّا} في قوله:{عُلُوًّا كَبِيراً} ليسَ مصدرًا، كما أنّ قولَه:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] كذلك، و ((استعلى)) قد يكونُ للعلوِّ المذموم، وقد يكونُ طَلَبُ العلاء أي الرفعة، وقولُه تعالى:{وَقَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اَسْتَعْلَى} [طه: 64] يَحْتَمِلُ الوجهينِ. ولاعتبارِ العلو قيلَ للمكانِ المُشْرِفِ، وللشّرَفِ: العلياءُ، وعَلاوةُ الشيء: أعلاه؛ ولذلكَ قيلَ للرأسِ والعُنُق: عَلاوة، ولِما يُحمَلُ فوقَ الأحمال: عَلاوة.

قولُه: (وبلدةٍ يرهَبُ الجوّابُ دُلْجتَها) البيت: البلدة: المفازة، الجوّاب: القَطّاع،

دُلْجتها: مِن أَدْلَج: إذا سار آخِرَ الليل، والدُّلجة: الساعةُ منَ الليلِ.

تراه: أي الجوّاب. يقول: رُبّ بلدةٍ - يخافُ الجوّابُ أنْ يسيرَ فيها في الدُّلجةِ حتى تراهُ يطلبُ يمينًا وشمالاً مَن يُشَيِّعُه مِن خوفه- أنا قطعتها بلا شِيَع.

ص: 7

يدِه. وفيه دليلٌ بيِّنٌ على ثخانةِ حُمقِ فرعون؛ فإنَّه إنْ صدقَ الكاهنُ لم يدفعِ القتلَ الكائن، وإن كذَبَ فما وجهُ القَتْل؟ و {يَسْتَضْعِفُ} حالٌ من الضَّميرِ في {وَجَعَلَ} ، أو صفة لـ {شِيَعًا} ، أو كلامٌ مستأنَف. و {يُذَبِّحُ} بدلٌ من {يَسْتَضْعِفُ}. وقولهُ:{إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ} بيانُ أنَّ القتلَ ما كانَ إلاّ فعلَ المُفسِدِين فحسب؛ لأنه فعلٌ لا طائلَ تحتَه، صدَقَ الكاهن أو كذَب.

[{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ* وَنُمَكِنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 5 - 6]

فإن قلتَ: علامَ عُطِفَ قولُه: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} وعَطْفُه على {نَتْلُوا} و {يَستَضْعِفُ} غيرُ سديد؟ قلتُ: هي جملةٌ معطوفةٌ على قولِه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} ؛ لأنَّها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لأنه فعلٌ لا طائلَ تحته)، يعني: ذبحُ الأبناءِ واستحياءُ البناتِ منهُ لم يكُنْ إلاّ للفسادِ فحَسْب، ولو كانَ فيهِ نوعُ صلاحٍ أو متضمِّنًا لمصلحةِ نفسِهِ وخلاصِهِ مِمّا كانَ يخافُ منه رُبّما عُذِرَ ولمْ يُسمّ فسادًا بالنسبةِ إليه. ولَمّا كانَ خِلْوًا مِن ذلكَ عُدّ فسادًا صِرْفًا؛ ولذلكَ قال:{مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ} ، أي: الكاملينَ في الفسادِ والمعدودينَ في زُمْرتِهم، قالَ الله:{إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِ} [يونس: 23] قالَ المصنِّف: ((والبغيُ يكونُ بحقِّ كاستيلاءِ المسلمينَ على أرضِ الكَفَرةِ وهَدْمِ دُورِهم وإحراقِ زروعِهم وقلعِ أشجارِهم كما فعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِبَني قُرَيْظة)).

قولُه: (وعطفُه على {نَتْلُوا} و {يَسْتَضْعِفُ} غيرُ سديد)، أما على {نَتْلُوا} فإنّه لوْ عُطِف عليه لخرجَ عنْ أنْ يكونَ بعضَ المتلُوِّ ومِن نبأِ موسى وفرعون، وإنه مِنْ أَعجَبِ وأَهمِّ

ص: 8

نظِيرةُ تلك في وقُوعِها تفسيرًا لنَبأِ موسى وفِرْعَون، واقتِصاصًا له. {وَنُرِيدُ}: حكايةُ حالٍ ماضية، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من {يَسْتَضْعِفُ} ، أي: يستضعِفُهم فرعونُ، ونحنُ نريدُ أن نَمُنَّ عليهم. فإن قلتَ: كيف يجتمعُ استِضْعافُهم وإرادةُ الله المنّةَ عليهِم؟ وإذا أراد الله شيئًا كانَ، ولم يتوقّف إلى وقتٍ آخَرَ، قلتُ: لمّا كانتْ منّةُ الله شيئًا كانَ، ولم يتوقّفْ إلى وقتٍ آخَرَ، قلتُ: لمّا كانتْ منّةُ الله بخلاصِهم من فرعونَ قريبةَ الوُقوع، جُعِلتْ إرادةُ وقوعِها كأنَّها مقارِنةٌ لاستضعافِهم. {آَئِمَّةً} مُقَدَّمِين في الدِّين والدُّنيا، يطأُ النّاسُ أعقابَهم. وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: قادةً يُقتدى بهم في الخير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المُنبّأِ به؛ بلْ هوَ المقصودُ في الإنباء. وأما على {يَسْتَضْعِفُ} فلأنه: إما صفةٌ لـ {شِيَعًا} ، أو حالٌ مِنْ فاعِلِ {وَجَعَلَ} ، أو استئنافٌ، ولا كلامَ في فسادِ الأولين. وأما الثالثُ فيكونُ على سؤالِ سائل موردُه {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ، فلمْ يَنطَبِقْ عليه {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} [القصص: 5]، و {يُذَبِّحُ} و {وَيَسْتَحْيِ} بدلانِ مِن {يَسْتَضْعِفُ} وحُكمُهما حُكمُه؛ فبقِيَ أنْ يكونَ عطفًا على {إنَّ فِرْعَوْنَ} الآية، وإنْ اختَلَفتا اسميّةً وفعلية. وتأويلُه: إنّ فرعونَ فَعَلَ بهم ما فَعَلَ مِنَ الاستضعافِ والاستخدام والقتلِ والفَناء، ونحنُ قضَيْنا عَكْسَ ذلكَ مِنْ جَعْلِهم مُتمكِّنينَ في الأرضِ أقوياءَ أئمةً مُتمكِّنينَ في الأرضِ أقوياءَ أئمةً مُقدَّمينَ باقينَ بَعدَهم وارثينَ دِيارَهم، ولمْ يَكُنْ إلا ما أرَدْنا. هذا معنى قولِنا: هذا الإنباءُ مُتضَمِّنٌ لإثباتِ القضاءِ والقَدَر. ومعنى أنْ يكونَ ((نُريدُ)) حالاً منْ ((أن يستضعف)) يعودُ إلى هذا.

قولُه: (كيفَ يجتَمِعُ استضعافُهم وإرادةُ الله المِنّة؟ )، يعني: لَزِمَ مِنْ هذا التقريرِ الجمعُ بينَ المتنافِيَيْن. وخُلاصةُ الجوابِ: أنّ الله تعالى لَمّا أرادَ أنْ يَمُنّ على بني إسرائيلَ بعدَ هلاكِ فرعونَ ونجاتِهم مِنه، وكانتْ تلكَ قريبةَ الوقوع، جُعِلَتْ كأنّها واقِعةٌ مقارِنةٌ لاستضعافِهم. وقريبٌ منهُ قولُه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1، 2]. وقالَ صاحبُ ((المطلع)): أرادَ الله تعالى حالَ استضعافِهم إياهم أن يَمُنّ عليهم بالخلاصِ في وقتٍ قدّرَهُ الله وقضاه.

قولُه: (يطأُ الناسُ أعقابَهم)، العبارةُ كنايةٌ عن أنّهم كثيرٌ والأتباعُ مقدمون.

ص: 9

وعن مجاهدٍ رضي الله عنه: دُعاةً إلى الخير، وعن قَتادةَ رضي الله عنه: وُلاةً، كقولِه تعالى:{وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} [المائدة: 20]. {اَلْوَارِثِينَ} يرِثُون فرعونَ وقومَه مُلكَهم وكُلَّ ما كانَ لهم. مكَّن له: إذا جَعلَ له مكانًا يقعُدُ عليه أو يرقُد، فوطّأَهُ ومَهَّدَهُ، ونظيرُه: أرَّضَ له. ومعنى التَّمْكينِ لهم في الأرضِ وهي أرضُ مِصرَ والشّامِ: أن يجعَلَها بحيثُ لا تَنْبُو بهم ولا تَغِثُّ؛ كما كانتْ في أيّامِ الجبابرة، ويُنَفِّذَ أمْرَهم، ويُطلِقَ أيديَهم ويُسَلِّطَهم. وقُرئ:(ويَرى فرعونُ وهامانُ وجنودُهما)، أي: يرون منْهُمْ ما حُذِّرُوه: من ذهابِ مُلكِهم وهلاكِهم على يدِ مَوْلودٍ منهُم.

[{أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} 7]

اليمُّ: البحر. قيل: هو نِيلُ مِصْر. فإن قلتَ: ما المُرادُ بالخَوفَيْنِ حتّى أُوجِبَ أحدُهما ونُهي عنِ الآخَر؟ قلتُ: أمّا الأوّلُ فالخَوفُ عليهِ من القَتلِ؛ لأنه كان إذا صاحَ خافَ أن يسمَعَ الجيرانُ صوتَه فينِمُّوا. وأمّا الثّاني، فالخوفُ عليهِ من الغَرَقِ ومن الضَّياعِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أرّضَ له)، الأساس: تأرّضَ فلان: لَزِمَ الأرضَ؛ فلمْ يَبْرَح. فلانٌ إنْ رأى مطمعًا تعرّض، وإن أصابَ مطعمًا تأرّض.

قولُه: (ولا تَغِثُّ عليهم)، الأساس: أغَثّ فلانٌ في كلامِه؛ إذا تَكَلّمَ بما لا خيرَ فيه، وسمعتُ صبيًّا مِن هُذيلٍ يقول: غثّتْ علينا مكة؛ أي: لمْ نقدِرْ أنْ نعيشَ فيها؛ لقولِهم: اجتوى المكانَ؛ إذا لم يَستمرِئْ طعامَه وشرابَه، وكذلكَ استَوْخَم.

قولُه: (وقُرِئَ: ((ويَرى فرعونُ)))، حمزةُ والكسائي:((ويَرى)) بالياءِ التحتانيِّ مفتوحةً وفتح الراءِ ورفعِ الأسماءِ الثلاثة، والباقونَ: بالنونِ مضمومة وكسرِ الراءِ وفتحِ الياءِ ونصبِ الأسماء.

ص: 10

ومن الوُقوعِ في يدِ بعضِ العُيونِ المبثوثةِ من قِبَلِ فرعونَ في تطلُّبِ الوِلْدان، وغيرِ ذلك من المَخاوِف. فإن قلتَ: ما الفرقُ بينَ الخوفِ والحُزن؟ قلتُ الخوفُ غَمٌّ يلحَقُ الإنسانَ لِمُتوقَّع. والحُزن: غَمٌّ يلحقهُ لِواقِع؛ وهو فراقُه والإِخطارُ به، فنُهِيَت عنهُما جميعًا، وأُومِنَتْ بالوحِي إليها، ووُعِدَت ما يُسلِّيها ويُطامِنُ قلبَها ويملؤُها غِبطةً وسُرورًا؛ وهو ردُّه إليها وجعلُه من المُرسلِين. ورُويَ: أنّه ذُبِحَ في طلبِ مُوسى عليه السلام تسعون ألفَ وليد. ورُوي: أنّها حينَ أقْرَبت وضرَبَها الطَّلْقُ وكانتْ بعضُ القوابلِ المُوكَّلاتِ بحبالي بني إسرائيلَ مُصافِيةً لها، فقالتْ لها: لينفَعني حبُّكِ اليومَ، فعالَجَتها، فلمّا وقعَ إلى الأرضِ هالَها نورٌ بينَ عيْنَيه، وارتعش كُلُّ مَفصِلٍ منها، ودخلَ حبُّه قلبَها، ثمّ قالت: ما جئتكُ إلاّ لأقتُلَ مولودَك وأخبِرَ فرعون، ولكنِّي وَجَدْتُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وهو فِراقُه والإخطارُ به)، نَشْرٌ لِما سَبقَ على غَيرِ الترتيب. وقالَ الإمام: كأنه قيل: ولا تخافي مِن هلاكِه، ولا تحزني بسببِ فِراقِه؛ فإنّا رادُّوه إليكِ لتكوني أنتِ المرضِعةَ له، وجاعلوه مِنَ المرسلينَ إلى أهلِ مصرَ والشام.

قالَ أبو رجاءٍ أحمدُ بنُ عبدِ الله: حدثنا أبو الحسينِ عليُّ بنُ الصباحِ قال: سَمِعَ أعرابيٌّ رجلاً يقرأُ {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، قالَ للقارئ: أعِدْه؛ فأَعادها، فقال: أشهدُ أنّ هذا كلامُ ربِّ العالمين؛ في آيةٍ واحدةٍ أمرانِ ونهيانِ وخبرانِ وبشارتان: {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} خبر، و {أَنْ أَرْضِعِيهِ} أمر، ٍ {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ} أمر، {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} نهيان، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} بشارتان.

روي عنِ الأصمعي: كلّمَتِني جاريةٌ أعرابيةٌ فاستَفصحْتُ كلامَها؛ فقالت: أينَ أنتَ مِنْ كلامِ الله: {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} كيفَ جَمَعَ بينَ أمرينِ ونهيَيْنِ وبشارتَيْن؟ !

قولُه: (حينَ أقرَبَتْ)، الجوهري: أقْرَبَتِ المرأةُ؛ إذا قَرُبَ ولادُها، وكذلك الفرسُ والشاة؛ فهِيَ مُقْرِب، ولا يُقالُ للناقة.

ص: 11

لا بنِكِ حُبًّا ما وجَدَتُ مثلَه فاحفظيه، فلمّا خَرَجتْ جاءَ عيونُ فرعون، فلفَّتُه في خِرقةٍ ووضعَتْه في تَنُّورٍ مَسجُور، لم تعلمْ ما تصنعُ لمِا طاشَ من عقلِها، فطلبوا فلم يُلفُوا شيئًا، فخرجوا وهي لا تدري مكانَه، فسمعت بُكاءَه من التَّنُّور، فانطلقت إليه وقد جعلَ الله النّارَ عليه بَرْدًا وسلامًا. فلمّا ألحَّ فرعونُ في طَلَبِ الوِلْدانِ أوحى الله إليها فألقَتْه في اليمِّ. وقد رُوِيَ أنَّها أرضعتْه ثلاثةَ أشهُرٍ في تابُوتٍ من بَرْديٍّ مطليٍّ بالقار من دخِلِه.

[{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} 7]

اللاّم في {ليَكُونَ} هي لامُ كيْ؛ الّتي معناها التَّعليل، كقولِك: جئتُك لتُكرِمَني سواءً بسواءٍ ولكنّ معنى التَّعليلِ فيها وارِدٌ على طريقِ المجازِ دُونَ الحقيقة، لأنه لم يكُنْ داعيهم إلى الالتقاطِ لهم عدُوًّا وحَزَنًا، ولكن: المحبةُ والتَّبَنِّي، غيرَ أنّ ذلك لمّا كان نتيجةَ التقاطِهم له وثمرتَه، شُبِّهَ بالدّاعي الّذي يَفعلُ الفاعِلُ الفعلَ لأجلِه، وهو الإكرامُ الذي هو نتيجةُ المجيء، والتّأدّبُ الذي هو ثمرةُ الضَّربِ في قولِك: ضربته ليتأدّب. وتحريره: أنّ هذه اللّامَ حكمُها حُكْمُ الأسد، حيثُ استُعيرتْ لِمَا يُشبِهُ التّعليل، كما يُستعارُ الأسدُ لِمَنْ يُشبِهُ الأسد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (في تابوتٍ مِنْ بَردِيّ)، الجوهري: البَرْدِيُّ بالفتح: نباتٌ معروف، قيل: نبتٌ تُسَدُّ بهِ خَصاصاتُ البُيُوت، والخَصاصةُ بالفتحِ: الخَلَلُ والثّقْبُ الصغير.

قولُه: (وتحريرُه: أنّ هذهِ اللامَ حُكمُها حُكمُ الأسد؛ حيثُ استُعيرَتْ لِما يُشبِهُ التعليلَ كما يُستعارُ الأسَدُ لَمِنْ يُشبِهُ الأسد)، وتلخيصُ المعنى: شَبّهَ هذا الترتيبَ الذي ليسَ مطلوبًا بالأوّل الثاني وهُوَ التقاطُهُم لِيكونَ عَدوًّا لَهُم بالترتيبِ الحقيقيِّ وهُوَ أنْ يكونَ الثاني مطلوبًا بالأوّلِ كالإكرامِ بالمجيءِ في قولِك: جئتُكَ لتُكرِمَني، وأدْخَلَ المشبّهَ في جنسِ المشبّهِ به؛ فاستُعيرَ للترتيبِ المشبّهِ ما كانَ مستعمَلاً في الترتيبِ المشبّهِ به، وهُوَ لامُ ((كي)).

ص: 12

وقُرِئَ: (وحُزْنًا) وهُما لُغَتان: (كالعُدم) و (العَدم){كَانُوا خَاطِئِينَ} في كُلِّ شيء، فليس خَطَؤُهم في تربيةِ عدُوِّهم بِبِدْعٍ منهم. أو كانوا مُذنِبِين مُجرِمين، فعاقَبَهُم الله بأن رَبَّى عدُوَّهم ومن هو سببُ هلاكِهم على أيدِيهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: {فَاَلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ، فيكونُ استعارةً مُصرّحةً؛ لأنّ المذكورَ لفظُ المستعارِ منه، كاستعارةِ لفظِ الأسدِ للمِقْدام، وتبعيّةً؛ لأنّ الحروفَ مِنَ الاستعارةِ بمَعْزِل؛ لأنّها لمْ تقعْ موصوفات؛ فالاستعارةُ تقعُ في معانيها ثُمّ تسري مِنَ المعاني إليها، وتهكُّميةً؛ لأنّ لا يفعلُ هذا الفعل.

قولُه: (وقُرِئَ: ((وحُزْنًا)))، حمزةُ والكسائي:((حُزْنًا)) بضمِّ الواوِ وإسكانِ الزاي، والباقون: بفتحِهما.

قولُه: ({كَانُوا خَاطِئِينَ} في كلِّ شيء)، يريدُ أنّ قولَه:{فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} الآية تذييلٌ واعتراض؛ بدليلٍ قولهِ: ((فليسَ خطؤهم بِبِدْعٍ منهم)).

قولُه: (أو كانوا مُذنِبين)، فعلى الأوّل:{خَاطِئِينَ} ؛ مِنَ الخطأِ في الرأي، وعلى هذا؛ مِنْ: خَطِئ: أذْنَب. قالَ في ((الأساس)): خاطئينَ: مِن: أخطأَ في المسألةِ أو في الرأي، وخَطِئَ خطأَ عظيماً؛ إذا تعمّدَ الذّنْب. فالجملةُ استئنافٌ لبيانِ الموجب؛ بدليلِ قولِه:((ومَنْ هُوَ سَبَبُ هلاكِهم))؛ فعلى هذا معنى اللامِ على ظاهرِه، والتقدير: نريدُ أنْ نَمُنّ على بني إسرائيلَ بأنْ قدّرْنا ما قدَّرْنا ودبَّرْنا ما دبّرْنا؛ ليكونَ موسى عدوًّا لهم وحزنًا؛ لأنّهم كانوا خَطّائِين مُجرمِين، ويؤيِّدُه قولُه:((فعاقبَهم الله بأنْ رَبَّى عدوَّهم ومَنْ هُوَ سَبَبُ هلاكِهم)).

وهذا هوَ الوَجْهُ كما سيجيءُ تقريرُه.

ص: 13

وقُرِئَ: (خاطين)، تخفيفُ خاطِئِين، أو خاطينَ الصَّوابَ إلى الخطأ.

[{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 9]

رويَ أنَّهم حينَ التَقطوا التّابوتَ عالجُوا فتْحَة، فلمْ يقدِرُوا عليه، فعالجوا كَسْرَهُ فأعياهُم، فدنتْ آسيةُ فرأت في جَوفِ التّابوتِ نُورًا، فعالجتْهُ ففتحته، فإذا بصَبِيِّ نورُه بينَ عينَيْه وهو يمُصُّ إِبهامَه لبنًا فأحَبُّوه، وكانت لفرعونَ بنتٌ بَرصاء، وقالتْ له الأطباء: لا تبرأُ إلاّ من قِبَلِ البحر، يوجدُ فيه شِبهُ إنسانٍ دواؤُها ريقُه، فلطَّختِ البرصاءُ بَرَصَها بريقِه فَبَرأت. وقيل: لمّا نظرت إلى وجهِه بَرَأت، فقالت: إنّ هذه لنَسمةٌ مباركة، فهذا أحدُ ما عَطَفَهم عليه، فقالَ الغُواةُ من قومِه: هو الصَّبيُّ الذي نحذرُ منه، فَاذَن لنا في قتلِه، فهَمَّ بذلك فقالت آسيةُ {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقالَ فرعون: لكِ لا لي. وروي في حديث: ((لو قالَ هوَ قرّةُ عينٍ لي كما هُوَ لَكِ، لهداهُ الله كما هداهَا))، وهذا على سبيلِ الفَرْضِ والتّقدير، أي: لو كانَ غيرَ مطبوعٍ على قلبِه كآسية؛ لقالَ مثلَ قولِها، ولأَسْلَم كما أسلمت، هذا -إن صحَّ الحديثُ- تأويلُه، والله أعلمُ بصحَّتِه. ورُويَ أنَّها قالتْ له: لعلَّه من قومٍ آخرينَ ليسَ من بني إسرائيل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقُرِئَ: ((خاطِينَ))) وهيَ شاذّة. وقولُه: ((أو خاطِين الصوابَ)) هُوَ مِنَ الخَطْو: مُجاوَزةِ الصواب. الأساس: ومِنَ المجاز: لنْ يُخطِئَكَ ما كُتِبَ لك، وما أخطأَكَ لمْ يَكُنْ لِيُصيبَك، وما أصابكَ لمْ يَكُنْ ليُخطِئَك، وتخَطّأتْهُ النُّبْل: تجاوَزَتْه.

قولُه: (وهذا على سبيلِ الفَرضْ)، أي: هذا الحديث. وقولُه: ((هذا)) مبتدأ، و ((تأويلُه)) الخبر، و ((إنْ صحّ)) معَ جوابِه المقدّر مُعتَرِضة.

ص: 14

{قُرَّتُ عَيْنٍ} : خبرُ مُبتدأٍ محذوف، ولا يَقْوى أن تجعلَه مُبتدأً و {لَا تَقْتُلُوهُ} خبرًا، ولو نُصِبَ لكانَ أقوى. وقراءةُ ابنِ مسعودِ رضي الله عنه دليلٌ على أنّه خبر، قرأ:(لا تقتلوه قرّةُ عينٍ لي ولك)، بتقديمِ. {لا تقتلوه} . {عَسَى أَن يَنفَعَنَاَ} فإنّ فيه مخايلَ اليُمْنِ ودلائلَ النَّفْعِ لأهلِه، وذلك لِما عايَنَتْ من النُّورِ وارتضاعِ الإبهام وبَرْءِ البرصاءِ، ولعلَّها توسَّمت في سيمائِه النَّجابةَ المؤذِنةَ بكونِه نفّاعًا. أو نتبنّاه، فإنّه أهلٌ للتَّبنِّي، ولِأنْ يكونَ ولدًا لبعضِ المُلوك. فإن قلت:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حالٌ، فما ذو حالِها؟

قلتُ: ذو حالِها آلُ فرعون. وتقديرُ الكلام: فالتَقَطَهُ آلُ فرعونَ ليكونَ لهم عدُوًّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({قُرَّتُ عَيْنٍ} خبرُ مبتدإٍ محذوف)، وقالَ أبو البقاء: أي: هُوَ قُرّةُ عين، و {لِي وَلَكَ} صفتانِ لـ {قُرَّتُ عَيْنٍ} .

قولُه: (ولا يَقْوى أنْ تجعلَه مبتدأً و {لَا تَقْتُلُوهُ} خبرًا)، قالَ الزجّاج: يَقْبُحُ هذا التقدير؛ فيكونُ كأنّه قدْ عَرَفَ أنّه قُرةُ عينٍ له.

قولُه: (ولَوْ نُصِبَ لكانَ أقوى)، قالَ الزجّاج: ويجوزُ النصبُ؛ ولكنهُ لمْ يأتِ فيه روايةٌ على معنى: لا تقتلوا قُرّةَ عينٍ لي ولك، لا تقتلوه. كما تقول: زيدًا لا تضرِبْه.

قولُه: (توَسّمَتْ) يقال فيه الخير، أي: تفرّسْت، والتوسُّم: التأمُّلُ في وَسْمِ الشيء.

قولُه: (النجابة)، الجوهري: رجلٌ نجيبٌ، أي كريمٌ بَيِّنٌ النّجابة.

قولُه: (أو نَتَبَنّاه)، تفسيرٌ لقولِه تعالى:{أَوْ نَتَّخِذَهُ، وَلَدًا} . وقولُه: ((ولأنْ يكونَ ولدًا لبعضِ الملوك)) عطفٌ تفسيريٌّ لقولِه: ((للتبني)).

قولُه: (ذو حالِها آلُ فرعون)، قال القاضي: يجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِنَ القائلةِ والمقولِ له؛ أي: وهُمْ على الخطأِ في التقاطِهِ وفي طَمَعِ النفعِ منهُ والتبَنِّي له، أو مِنْ أحدِ ضميرَيْ {نَتَّخِذَهُ،} على

ص: 15

وحَزَنًا، وقالتِ امرأةُ فرعونَ كذا، وهم لا يشعرُونَ أنَّهم على خطأٍ عظيمٍ في التقاطِه ورجاءِ النَّفعِ منه وتبنِّيه.

وقولُه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} الآية: جملةٌ اعتراضيّةٌ بينَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه، مُؤَكِّدةٌ لمعنى خطئِهِم. وما أحسنَ نظمَ هذا الكلام عندَ المُرتاضِ بعلمِ محاسنِ النَّظْم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنّ الضميرَ للناس؛ أي: وهُمْ لا يشعرونَ أنّه لغيرِنا وقد تَبَنّيْناه.

قولُه: (وما أحسَنَ [نَظْم] هذا الكلامِ عندَ المُرتاضِ بعلمِ محاسنِ النظم)، وذلكَ أنّ قولَه:{إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي اَلْأَرْضِ} وقولَه: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} تفصيلٌ لقولِه: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} على ما سَبق. وما أجمَلَ ثم فَصّلَ وخَصّ بلفظِ الإنباءِ إلا لاشتمالِ هذا المُنبّأِ بهِ لهُ شأنٌ، وليسَ ذلكَ إلا لبيانِ أنّ ما قدّرَه الله كائنٌ لا محالة، وأنّ الحَذَرَ لا يُغنيِ عَنِ القَدَر، وإذا جاءَ القضاءَ عَمِيَ البَصَر؛ فإنّ فرعونَ وقومَه لَمّا قُضِيَ هلاكُهُم على يَدِ الكليمِ عليه السلام واجتهدوا في الدفعِ، فَعَلوا ما لا طائلَ تَحتَه بلْ عَكَسُوا؛ حيثُ أُفنِيَ البريءُ مِنْ قَتْلِ الأبناء، ورُبِّيَ مَنْ عليه دمارُه؛ فسُلِبَتْ عقولُهم وأيفت مشاعرُهم؛ فالتقطوه ليكونَ لهم عدوًّا وحزنًا وهُمْ لا يشعرون. فحَسُنَ لذلكَ أنْ يؤكِّدَ بقولِه:{إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} على التفصيل؛ ليؤذِنَ بأنّ ذلكَ الجَمّ الغفيرَ بعدَ ذلكَ التحذيرِ زَلُّوا عن دَفْعِ التقدير؛ فاللامُ في قولهِ: {ليَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} مُجْرَى على حقيقتِه.

وتمامُ تقريرِه أنْ يُقال: إنّا أرَدْنا أنْ نَمُنّ على المستضعَفين، وأنْ نجعَلَهُمُ الوارثين، وأنْ نُرِيَ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما ما كانوا يحذَرُون؛ دبّرْنا ما دبّرْنا {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ} ، فامتَثَلَتْ أمْرَنا وألقَتْهُ في اليَمّ وألقاهُ اليمُّ بالساحِل؛ فقَضَيْنا على آلِ فرعونَ التقاطَه؛ ليَظْهَرَ مِنْ لطِيفِ تقديرِنا عداوتُهُ وسَبَبُ حُزْنِه، وهُمْ لا يشعرونَ بذلك.

ص: 16

[{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 10 - 11]

{فَارِغًا} صِفرًا من العقل. والمعنى: أنّها حينَ سمعتْ بِوقُوعِه في يدِ فرعونَ طارَ عقلُها لِما دَهِمَها من فَرْطِ الجَزَع والدَّهَش. ونحوُه قولُه تعالى: {وَأَفْدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] أي: جُوَّفٌ لا عُقُول فيها، ومنهُ بيتُ حسّان:

ألا أَبْلِغْ أبا سُفْيانَ عَنِّي

فأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويؤيِّدُه قولُه تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَاخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ،} [طه: 39]؛ حيثُ جعلَ {يَاخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَّهُ،} جوابًا للأمر، ومسبّبًا عنِ الإلقاء. وقدْ سبقَ قُبَيْلَ هذا في كلامِ المصنَّفِ ما يعضُدُ هذا المعنى، ونبّهْناكَ عليه. فعلى هذا قولُه:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} عطفٌ على مُقدّراتٍ شَتّى بحسَبِ ما يقتَضيهِ الحالُ والقِصّة. وأقول: ما أحسَنَ نظْمَ هذا الكلامِ عندَ المرتاضِ بعِلْمِ محاسن النّظم، وما أظْهَرَهُ مِنْ سُلطانٍ على القولِ بالقضاءِ والقَدَر، والمصنفُ لو تنبَّه على هذه الدقيقة لما نبَّهنا عليها، والجملة على ذلك.

قولُه: (أي: جُوّفٌ لا عقولَ فيها)، وهوَ جَمْعُ أجْوَف. الأساس: رجلٌ أجوفٌ ومُجَوّف: جَبانٌ لا فؤادَ له، وقومٌ جُوّف.

قولُه: (ألا أَبْلِغْ أبا سُفْيانَ) البيت، ((نَخِبٌ)): الأساس: نَخِب: لا فؤادَ له، وقد نُخِبَ قَلْبُه كأنما نُزِعَ؛ مِنْ قولِهم: نَخَبْتُ الشيّءَ وانْتَخَبْتُه: إذا نَزَعْتُه، ومِنهُ الانتِخاب؛ كأنك

ص: 17

وذلك أنّ القُلوبَ مراكزُ العُقُول. ألا ترى إلى قولِه: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} ؟ ويدلُّ عليه قراءةُ مَن قرأ: (فَزِعًا). وقُرِئَ: (قَرِعًا) أي: خاليًا؛ من قولِهم: أعوذُ بالله من صُفْرِ الإناءِ وقَرَعِ الفناء، وفِرْغًا، من قولِهم: دماؤُهم بينَهم فِرْغٌ، أي: هَدْر، يعني: بَطَلَ قلبُها وذهب، وبقِيَتْ لا قلبَ لها من شدّةِ ما ورد عليها {لَتُبْدِي بِهِ} لَتُصْحِرُ به. والضَّميرُ لمُوسى والمرادُ: بأمرِه وقِصَّتِه، وأنَّه وَلَدُها {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بإلهامِ الصَّبر، كما يُربَطُ على الشَّيءِ المُنفَلِتِ ليَقِرَّ ويَطمئِنَّ {لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} من المُصدِّقين بِوَعْدِ الله، وهو قولُه:{إِنَّا رَأَىدُّوهُ إِلَيْكِ} ويجوز: وأصبحَ فؤادُها فراغًا من الهمّ، حينَ سمعتْ أنَّ فرعونَ عطفَ عليهِ وتبنّاه إن كادتْ لتُبدي بأنَّهُ ولَدُها؛ لأنّها لم تملكْ نفسَها فرَحًا وسُرورًا بما سمعتْ، لَولا أنّا طمأنَّا قلبَها وسكَّنّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تَنْتَزِعُه مِنْ بَيْنِ الأشياء. قال: ومِنَ المجاز: قولُهم للجَبان: إنّهُ لَهَواءُ خالي القلبِ مِنَ الجَرْأة {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] والأَصْل: الجَوّ.

قولُه: (ويَدُلُّ عليه)، أي: على أنّ معنى {فَارِغًا} : فارغًا مِنَ العقل.

قولُه: (مَنْ قَرَأَ: ((فَزِعًا)). وقُرِئَ: ((قَرِعًا)))، قالَ ابنُ جِنِّي: الحَسَنُ وابنُ قطيب: (فَزِعًا) بالفاءِ والزاي، ومعناه: قَلِقًا يكادُ يخرجُ مِنْ غِلافِه، فيُكشَفُ؛ منه {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أي: كُشِّفَ عنها. وقرأ ابنُ عباسٍ: ((قَرِعًا)) بالقافِ والراء، ومعناهُ راجعٌ إلى فارغًا؛ وذلكَ أنّ الرأسَ الأقرعَ وهوَ الخالي عنِ الشعر، وإذا خَلِيَ عن الشعرِ فقدْ انكَشَفَ منه. وعنهُ (فَرَغًا) أي: هَدَرًا وباطلاً. يؤكِّدُ ذلكَ كُلّه: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} .

قولُه: (لَتُصْحِرُ بهِ)، أي: لَتُبدِي به؛ مِنَ البَدْوِ وهوَ البَرِيّة، لا مِنَ البُدُوِّ بمعنى الظهور.

الأساس: ومِنَ المجاز: أصْحَرَ بالأمرِ وأصْحَرَه: أظْهَرَه.

ص: 18

قلقَهُ الذي حدثَ به من شِدّةِ الفرحِ والابتهاج، لِتكونَ من المُؤمنِينَ الواثِقِينَ بوعْدِ الله لا بتَبنِّي فرعونَ وتعطُّفِه. وقرئَ:(مؤسى)، بالهمزِ: جُعِلت الضَّمّةُ في جارةِ الواوِ وهي الميمُ كأنّها فيها، فهُمِزَتْ كما تُهمَزُ واوُ وجوه. و {قُصِّيهِ} اتّبعي أثره وتتّبعي خبَرَه. وقُرِئَ:(فَبَصِرَتْ) بالكسرِ، يُقالُ بَصُرَت به عن جُنُبٍ وعن جُنُبٍ وعن جنابة، بمعنى: عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لِيكونَ مِنَ المُؤمِنينَ الواثِقين بوَعدِ الله لا بتَبَنِّي فِرعونَ وتعطُّفِه)، فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بينَ هذه العبارةِ وبينَ ما سبقَ مِنَ المؤمنينَ مِنَ المصدِّقِينَ بوَعدِ الله؟ قلتُ: الأوّلُ مبنيٌّ على أنّ {فَارِغًا} بمعنى: فارغًا مِنَ العقلِ مِنَ العقلِ مِن فَرْطِ الجَزَعِ والدّهَش، فالمناسِبُ أنْ يُقال: كادتْ تُظْهِرُ بأَمْرِ مُوسى مِنَ الغَمّ؛ لولا أنّ الله تعالى ألْهَمَها الصّبرَ لِتَقَرّ وتكونَ مِنَ المصدِّقينَ بوَعدِ الله وهُو: {إِنَّا رَأَىدُّوهُ إِلَيْكِ} . والثاني مبنيٌّ على أنّ {فَارِغًا} بمعنى: فارغًا مِنَ الهَمِّ والحُزْن -عكسُ الأوّل-، فالمناسبُ أنْ يُقَال: كادتْ تُظْهِرُ بأمْرِ مُوسى مِنَ الفَرَح؛ لولا أنْ رَبَطْنا على قَلْبِها كَرامةً لها؛ ليكونَ فرحُها وابتهاجُها مِنَ الوثوقِ بوَعدِ الله وهُو: أنّهُ حافظُه وَرادُّه إليها، ولا يكونَ فرحُها مِن تَبَنِّي فِرعون؛ فإنّ هذا الفَرَحَ سَخْطةٌ مِنَ الله تعالى؛ فالإيمانُ على المعنى الأوّلِ بمعنى الأوّلِ بمعنى التصديق، وعلى الثاني بمعنى الوثوق. روى المصنِّفُ عن أبي زيد: ما آمنتُ أنْ أَجِدَ صحابة؛ أي: ما وَثِقْتُ، وحقِيقتُه: صِرْتُ ذا أمن؛ أي: ذا سكونٍ وطمَانينة.

قولُه: (يُقال: بَصُرَتْ به)، الراغب: البَصَر: يُقالُ للجارِحةِ الناظِرة؛ كقولِه تعالى: {كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ} [النحل: 77]، وللقُوّةِ التي فيها. ويُقالُ لِقوّةِ القلبِ المُدرِكة: بَصِيرةٌ وبَصَر؛ كقولِه تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، ولا يكادُ يُقالُ للجارِحة: بصيرة. ويُقالُ مِنَ الأول: أبْصَرْتُ، ومِنَ الثاني: أبْصَرْتُه وبَصُرْت به. وقلّما يُقال: بَصُرْت في الجارحة، ويقال: رأيته لَمْحًا باصِرًا؛ أي: نظرًا بتحديق. وقولُه تعالى: {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] أي: مضيئة، وقولُه:{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، أي: طالبينَ البصيرة. ويجوزُ أنْ يُستعارَ الاستبصارُ للإبصار، نحوُ استعارةِ الاستجابةِ للإجابة.

ص: 19

بُعْد. وقرئ: (عن جانب)، (وعن جنب). والجنْبُ: الجانِبُ. يقالُ: قعدَ إلى جنبهِ وإلى جانِبِه، أي: نظرتْ إليهِ مُزْوَرَّةً مُتجانفِةً مُخاتلةً. وهم لا يُحِسُّون بأنَّها أُختُه، وكان اسمُها مريم.

[{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 12 - 13]

التَّحريم: استعارةٌ للمَنْعِ؛ لأنَّ من حُرِّمَ عليه الشيءُ فقد مُنِعَه. ألا ترى إلى قولِهم: محظور، وحِجْر، وذلك لأنَّ الله منعَه أن يرضَع ثديًا، فكان لا يَقْبَلُ ثَدْيَ مُرضِعٍ قطّ، حتى أهمَّهم ذلك. والمراضع: جمعُ مُرضِع، وهي المرأةُ التي تُرضِع. أو جمعُ مَرْضَع، وهو موضِعُ الرَّضاعِ يعني: الثَّديَ، أو الرَّضاعُ. {مِن قَبْلُ} من قبلِ قَصَصِها أثرَه. رُوِيَ أنّها لمّا قالت:{وَهُمْ لَهُ، نَاصِحُونَ} قال هامان: إِنها لتَعْرِفُه وتعرفُ أهلَه، فقالتْ: إنّما أردتُ: وهُم للملِكِ ناصحون. والنُّصْح: إخلاصُ العملِ من شائِبِ الفساد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (مخاتلة)، الجوهري: خَتَلَه وخاتَلَه؛ إذا خادَعَه، التخاتُل: التخادُع.

قولُه: (قالَ هامان: إنها لَتعرِفُه وتعرِفُ أهلَه، فقالت: إنما أَرَدْت: وهُم للمَلِكِ ناصحون)،

الانتصاف: فخَلُصَتْ بهذهِ الكلمةِ مِنَ التهمةِ وأحسَنَت، وليسَ بِبِدْع؛ لأنها مِنْ بيتِ النُّبوّةِ وأختُ النبي؛ فحقيقٌ بها ذلك.

قالَ صاحبُ ((الإنصاف)): ما ذكرَه الزمخشريُّ وصاحبُ ((الانتصاف)) بعيد؛ لأنّ اللغةَ التي كانتْ تتكلمُ بها أختُ موسى غيرُ هذهِ اللغة؛ فالألفاظُ المتلُوّةُ في القرآنِ عبارةٌ عن معنى الألفاظِ التي قالتها، وهذا الاحتمالُ إنما نشأَ مِنْ تركيبِ الألفاظِ العربيةِ واحتمالِ الضميرِ للأمرَيْنِ فيها؛ فلا يَلزَمُ أنْ يكونَ لفظُها في لغتِها للأمرَيْن.

ص: 20

فانطلقَت إلى أُمِّها بأمرهم، فجاءتْ بها والصَّبيُّ على يدِ فرعونَ يُعلله شفقةً عليه وهو يبكي يطلُبُ الرَّضاعَ، فحينَ وجَدَ رِيحَها استأنَسَ والْتَقَم ثديَها، فقال لها فرعون: ومن أنتِ منه فقد أبي كُلَّ ثَدْيٍ إلاّ ثديَك؟ قالت: إنِّي امرأةٌ طيِّبةُ الرِّيحِ طيِّيةُ اللَّبَن، لا أُوتي بصبِيٍّ إلاّ قَبِلَني، فدَفَعَه إليها وأجرى عليها، وذهبتْ به إلى بيتِها، وأنجزَ الله وعدَه في الرَّدّ، فعندَها ثَبَتَ واستقرَّ في علمِها أن سيكونُ نبيًّا، وذلك قولُه:{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} يريدُ: وليثُبتُ علمُها ويتمكّنَ. فإن قلتَ: كيف حلّ لها أنْ تأخُذَ الأجرَ على إرضاعِ ولدِها؟ قلتُ: ما كانت تأخُذُه على أنّه أجرٌ على الرَّضاعِ، ولكنّه مالٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلتُ: هذا الأسلوبُ مِنَ الكلام الموجّهِ أو الإيهام وأيُّ بُعْدٍ في وقوعِ نحوِهِ في لغةٍ أخرى لا سِيّما في الضمير، وقد روى مُحيي السُّنةِ عنِ ابنِ جُرَيحٍ والسُّنةِ عنِ ابنِ جُرَيجٍ والسُّدِّيِّ نحوَه.

قولُه: (يُعلله شفقةً)، الجوهري: علله بالشيء: لهاهُ به؛ كما يُعلّلُ الصبيُّ بشيءٍ مِنَ الطعامِ يتجزّأُ بهِ عنِ اللّبن.

قولُه: (واستقرّ في علمِها أنْ سيكونُ نبيًّا)، وذلكَ أنّه تعالى وعَدَها بخَصلَتَيْنِ في قولِه:{إِنَّا رَأَىدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} فعِندَما أَنجَرَ الوعدَ بإحدى الخَصْلَتَيْنِ حقّقَتْ أنّ الأخرى ستكون؛ فكانَ الردُّ علةً لتحقيقِ حُصولِ الرسالة؛ ولهذا قال: إنّ الرّدّ إنما كانَ لهذا الغرضِ الدينيِّ وهُو عِلمُها بصدقِ وعدِ الله.

قولُه: (ما كانتْ تأخذُه على أنّه أجرٌ على الرضاع)، مذهبُ الشافعيِّ رحمه الله: جوازُ أخذِ الوالِدةِ مِنَ المولودِ لهُ أُجْرةَ الرضاع، وأبو حنيفة رحمه الله لا يجوِّزُه؛ فورودُ السؤالِ على مذهبِه.

ص: 21

حربيٌّ كانت تأخذُه على وجهِ الاستباحة. وقولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} داخلٌ تحتَ علمِها. المعنى: لنتعلمَ أنَّ وعدَ الله حقٌّ، ولكنّ أكثرَ النّاس لا يعلمون أنّه حقٌّ فيرتابون. ويُشْبِهُ التَّعريضَ بما فَرَطَ منها حينَ سمِعَتْ بخبرِ مُوسى، فَجزِعَتْ وأصبحَ فؤادُها فارغًا. يُروى أنّها حينَ ألقتِ التّابُوتَ في اليمِّ جاءَها الشَّيطان فقال لها: يا أُمَّ مُوسى، كرهتِ أن يَقْتُلَ فرعُون موسى فتُؤجَري، ثمَّ ذهبتِ فتولَّيتِ قتلَه؟ فلمّا أتاها الخبرُ بأنّ فرعونَ أصابَه قالتْ: وقَعَ في يدِ العَدُوِّ، فنسِيَتْ وعدَ الله. ويجوزُ أن يتعلَّقَ {وَلَكِنَّ} بقولِه:{وَلِتَعْلَمَ} ومعناهُ: أنَّ الرَّدَّ إنّما كانَ لهذا الغرضِ الدِّينيّ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ويُشبِهُ التعريض)، أي بِأُمِّ موسى؛ يعني: قولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلْنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} تنبيهٌ لها على أنّ ما دَهَمَها مِنْ فَرْطِ الجَزَعِ والدّهَشِ في أَوّلِ الأَمرِ كانَ من قِلّةِ العِلم، والجَهلِ بتدبيرِ الله؛ كما أنّ قولَه تعالى:{لَا يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ*إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا بَعْدَ سُوءِ} [النمل: 10، 11] كانَ تعريضًا بموسى مِن وَكْزةِ القِبْطيِّ وقولِه فيه: {إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16].

قولُه: (ويجوزُ أنْ يتعلّقَ {وَلَكِنَّ} بقولِه: {وَلِتَعْلَمَ} ، أي: يختصُّ بهِ دونَ المعطوفَيْن -يعني: {تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} - بشهادةِ إعادةِ حرفِ التعليل، وكانَ مُستغنًى عنهُ بالعاطِف؛ فدلّ ذلكَ على شِدّةِ العنايةِ به، وأنّهُ الغَرَضُ الأصلي؛ فاختصّ لذلكَ بهِ لأنّهُ لا يُستدرَكُ بذلك إلا في أمرٍ يَعزُّ الوصولُ إليه، ولأنّ كلّ أحدٍ يعلمُ ضرورةً أنّ فَرَحَ الثّكْلى وذَهابَ حُزْنِها إنما يكونُ بوِجْدانِ مَفْقودِها؛ ولكنْ لا يعرِفُ أنّ الردّ لصدقِ الوعدِ إلا الواقِفونَ على أسرارِ الله تعالى ودقائقِ حكمتِه؛ فعلى هذا جملةُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا

ص: 22

وهو عِلْمُها بصدْقِ وعدِ الله. ولكنَّ الأكثرَ لا يعلمونَ بأنّ هذا هو الغرضُ الأصليُّ الذي ما سِوَاهُ تَبعٌ له من قُرّةِ العَيْنِ وذهابِ الحُزن.

[{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 14]

{وَاسْتَوَى} واعتدل وتمّ استحكامُه، وبلَغَ المَبلَغَ الذي لا يُزادُ عليه، كما قال لقيط:

واستَحمِلوا أمرَكُم لله دَرُّكُمُو

سوء المرِيرَة لا قَحْمًا ولا ضَرَعَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يَعْلَمُونَ} معطوفةٌ على جملةِ العلةِ والمعلول، وعلى الأوّلِ عطفٌ على ما سدّ مَسدّ المفعولَيْنِ لِقولِه:{وَلِتَعْلَمَ} .

قولُه: (وبَلَغَ المبْلَغَ الذي لا يُزادُ عليه)، وعنْ بعضِهم: وفي الحديث: ((إذا بَلَغَ العَبْدُ أربِعينَ سنة؛ فقدْ أعذَرَ الله إليه))، قالت الحكماء: هي التي على العاقلِ اللبيبِ إذا شارَفَها أن يَسْتَوِي وعلى الأديبِ الأريبِ إذا أناخَ عليها أن يَرْعَوِي.

قولُه: (واستَحْمِلوا أمرَكُم) البيت، استحملتُه: سألتُه أنْ يحُمِّلَني أمرَكم؛ أي: أمرَ الخلافة. لله دَرُّكُم أي: خيرُكُم وصالحُ عَمَلِكُم؛ لأنّ الدرّ أفضلُ ما يُحتَلَب، وإذا ذَمُّوا قالُوا: لادَرّ الله دَرّه؛ أي: لا كَثّرَ خيرَهُ ولا زَكّى عَمَلَه. والشّزَرُ مِنَ الفَتْل: ما كانَ إلى فوق، خلافُ دورِ المِغْزَل؛ يُقال: حَبْلٌ مَشْزُور؛ أي: شَديدُ الفَتْل. والمرِيرة: العزِيمة، أو مِنْ المِرّةِ، وهي القُوّة، والمريرُ مِنَ الجِبال: ما لَطُفَ وطالَ واشتَدّ، ورجلٌ ذو مِرّة: إذا كانَ سليمَ الأعضاءِ صحيحًا. وشيخٌ قَحْم: هَرِم، مثلُ: قَحْل. والضَّرَع -بفتحتين-: الضعيف. يقول: قلِّدُوا أَمْرَ الخلافةِ رجلاً قادراً قويًّا غيرَ الهَرِم والضعِيفِ الذي لا رأيَ له، لا قَحْمًا ولا ضَرَعًا؛ كقولِه تعالى:{لاَّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68].

ص: 23

وذلك أربعونَ سنةً، ويُروى: أنّه لم يُبعثْ نبيٌّ إلاّ على رأسِ أربَعِينَ سنةً. العلم: التَّوراة. والحُكْم: السُّنّة. وحكمةُ الأنبياء: سُنَّتهُم. قالَ الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَايُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَاَلْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34] وقيل: معناهُ آتيناهُ سيرةَ الحُكماءِ العُلَماءِ وسَمْتَهُم قبلَ البَعْث، فكانَ لا يفعلُ فِعلاً يستَجْهِلُ فيه.

[{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} 15 - 17]

المدينةُ: مصرُ. وقيل: مدينةُ مَنْفَ من أرضِ مصر. وحينُ غَفْلَتِهم: ما بينَ العِشاءَيْن.

وقيل: وقتُ القائِلة. وقيل: يومُ عيدٍ لهم هم مُشتغِلُون فيه بلَهْوِهم. وقيل: لما شبَّ وعَقَل أخذَ يتكلَّمُ بالحقِّ وينْكِرُ عليهم، فأخافوه، فلا يدخلُ قريةً إلاّ على تَغَفُّلٍ. وقرأ سيبويهِ:(فاستعانَهُ). {مِن شِيعَتِهِ} ممّن شايَعَهُ على دينهِ من بَني إسرائيل. وقيل: هو السّامِرِيّ {مِنْ عَدُوِّهِ} من مُخالِفِيه من القِبْط، وهو فاتون، وكان يتسخَّرُ الإسرائيليَّ لحَمل الحطبِ إلى مَطبخِ فرعون. و (الوكز): الدّفعُ بأطرافِ الأصابع. وقيل: بجَمع الكفّ، وقرأ ابن مسعود:(فَلَكَزَهُ) باللاّم. {فَقَضَى عَلَيْهِ} فقتله. فإن قلتَ: لم جُعِلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (مدينةُ مَنْفَ)، مُنِعَ الصّرْف؛ لاجتماعِ التأنيثِ والعَلَميّةِ والعُجْعة، كماه وجور في اسمِ بلدَتَيْن.

قولُه: (وَقْتُ القائلة)، أي: الظّهيرة، وقد يكونُ بمعنى القيلولة؛ وهيَ النومُ في الظّهيرة.

قولُه: (فلَكَزه)، الجوهري: اللّكْزُ: الضّرْبُ بالجُمْعِ على الصّدْر، وقيل: على جميعِ الجسد.

قولُه: ({فَقَضَى عَلَيْهِ} فقتله)، الأساس: وقضى المريضُ نَحْبَه، قَضى عليه بضَرْبِه قضاه، وأَتَتْ عليه القاضِيةُ أي: المَنِيّة.

ص: 24

قتلُ الكافرِ من عَمَلِ الشّيطانِ، وسمّاه ظُلمًا لنفسِه واستُغْفِرَ منه؟ قلتُ: لأنّه قَتلَهُ قبلَ أن يؤذَنَ له في القتلِ، فكان ذَنَبًا يُستَغفَرُ منه. عن ابن جُرَيج:((ليس لنبيٍّ أن يَقتُلَ؛ ما لم يؤمرْ)). {بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يجوزُ أن يكونَ قَسَمًا جوابُه محذوفٌ، تقديرُه: أُقسِمُ بإنعامِكَ عليَّ بالمَغفِرةِ لأَتُوبنَّ؛ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ، وأن يكونَ استعطافًا، كأنَّه قال: ربِّ اعصمني بحقِّ ما أنعمتَ عليَّ من المغفرةِ، فلن أكُونَ، إن عصمتَني، ظهيرًا للمُجرِمِين. وأراد بمُظاهرةِ المُجرِمِين: إمّا صُحبةَ فرعونَ وانتظامَه في جُملتِه، وتكثيرَهُ سوادَهُ؛ حيثُ كان يَركبُ برُكُوبِه؛ كالوَلَدِ مع الوالد، وكان يُسمّى ابنَ فرعون. وإمّا مُظاهرةَ مَنْ أدّتْ مُظاهرتُه إلى الجُرمِ والإثمِ، كمُظاهرةِ الإسرائيليِّ المُؤديةِ إلى القتلِ الّذي لم يَحِلَّ له. وعن ابنِ عباسٍ: لم يَسْتَثنِ فابُتليَ به مرّةً أُخرى. يعني: لم يقل: {فَلَنْ أَكُونَ} إن شاءَ الله. وهذا نحوُ قولِه: {وَلَا تَرْكَنُوَا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وأنْ يكونَ استعطافًا)، قالَ ابنُ الحاجِب: القَسَمُ جملةٌ إنشائيّةٌ يُؤكّدُ بها جملةٌ أخرى؛ فإنْ كانتْ خبريّةً فهُوَ القَسَمُ لغيرِ الاستعطاف، وإنْ كانتْ طلبيةً فهُوَ للاستعطاف.

وقلتُ: الاستعطافُ يُستفادُ مِنَ اللفظِ الذي يُشعِرُنا بالعَطْفِ والحُنُوّ؛ فكأنّ الداعي يستعطفُ المدعُوّ بنعمةِ المغفِرة، ويجعلُها وسيلةً لطلبِ العِصْمة، وقدْ لَمحَ إليهِ في أولِ ((النساء)). ومما يدلُّ على أنّ الاستعطافَ ليسَ بقَسَمٍ أنّ المصنِّفَ جعلَهُ هاهنا قَسيمًا للقَسَم؛ لأنّ القائلَ إذا قال: تالله لأفعلَنّ كذا؛ انعَقَدَ اليمين، ولو قال: تاالله أفعَلُ كذا؛ لا يَنعِقد اليمين. وعلى الوجهِ الثالثِ- وهُوَ قولُه: ((بما أنعمتَ علىّ مِنَ القُوّة)) -: الباءُ سَبَبِيّة؛ فحينئذٍ لا يكونُ قَسَمًا، ولا استعطافًا؛ فالمعنى: بسببِ ما أنعمتَ عليّ مِنَ القُوّة؛ أشكُرُك، فلنْ أستعملَ القُوّةَ إلا في مُظاهَرةِ أوليائك. قالَ في قولِه تعالى:{رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} [الحجر: 39]: ((ويجوزُ أنْ لا يكونَ قَسَمًا، ويكونَ المعنى: بسببِ تَسْبيبِكَ لإغوائي أُقسِمُ لأفعلَنّ)).

ص: 25

وعن عطاءٍ رحمه الله: أنَّ رجُلاً قال له: إنّ أخي يَضرِبُ بقَلَمِه ولا يعدُو رِزقَه. قال: فَمَن الرّأسُ؟ يعني: مَن يكتُبُ له؟ قال: خالدُ بنُ خالدُ بنُ عبدِ الله القَسْريّ. قال: فأينَ قولُ موسى؟ وتلا هذه الآيةَ. وفي الحديثِ: ((ينادي منادٍ يومَ القيامة: أينَ الظَّلَمَةُ وأشباهُ الظَّلَمةِ وأعوانُ الظَّلَمة؟ حتّى من لاقَ لهم دَواةً أو بَرى لهم قلمًا، فيُجمعونَ في تابوتٍ من حديدٍ فيُرمى به في جهنّم)). وقيل معناه: بما أنعمتَ عليَّ من القُوّة، فلن أستَعْمِلَها إلاّ في مُظاهرةِ أوليائِك وأهلِ طاعتِكَ والإيمانِ بك، ولا أدعُ قِبْطِيًّا يَغْلِبُ أحدًا من بني إسرائيل.

[{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ*فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} 18 - 19]

{يَتَرَقَّبُ} المكروهَ وهو الاستقادةُ منه، أو الأخبار وما يُقال فيه، ووَصَفَ الإسرائيليَّ بالغَيِّ؛ لأنّه كان سببَ قتلِ رجل، وهو يقاتِلُ آخَر. وقرئ:(يَبْطُش)، بالضَّمّ. والذي هو عدوٌّ لهما: القِبْطِيّ؛ لأنّه ليسَ على دينِهِما، ولأنّ القِبْطَ كانوا أعداءَ بني إسرائيل.

والجبّارُ: الذي يفعلُ ما يريدُ من الضَّرْبِ والقَتلِ بظلم، لا ينظُرُ في العواقبِ، ولا يدفَعُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لا يعدو رزقَه)، أي: لا يتجاوزُ عما عُيِّنَ لهُ مِنَ الرزق، أي: الأُجْرةِ على عَمَلِه.

قولُه: (مَنْ لاقَ لهُمْ دَواة)، الجوهري: لاقَتِ الدواةُ تليق؛ أي: لَصِقَتْ، ولِقْتُها أنا؛ يتعدّى ولا يتعدّى، وهيَ مَلِيقة: إذا أَصلَحْتَ مِدادَها. الأساس: لِقْتُ الدّواة، وأَلَقْتُها؛ فلاقَت، وهذهِ لِيقةُ الدّواة؛ أي: بعضُ أخلاطِها.

قولُه: (والجَبّارُ: الذي يفعلُ ما يُريد)، الراغب: والجَبّارُ في صِفةِ الإنسان: مَنْ يَجْبُرُ نَقِيصتَهُ بادِّعاءِ مَنزِلةٍ مِنَ التعالي لا يَستَحِقُّها، وهذا لا يُقالُ إلا على طريقِ الذّمِّ؛ كقولهِ تعالى:{وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. وأمّا

ص: 26

بالّتي هي أحسن: وقيل: المُتعظِّمُ الذي لا يتواضعُ لأمرِ الله، ولمّا قالَ هذا أفشى على مُوسى؛ فانتشرَ الحديثُ في المدينةِ، ورَقَى إلى فرعونَ، وهمُّوا بقتلِه.

[{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} 20]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في وَصْفِهِ تعالى فقدْ قِيل: سُمِّيَ بذلكَ مِنْ: جَبَرْتُ الفقير؛ لأنّهُ تعالى هُوَ الذي يَجْبُرُ الناسَ بفائِضِ نِعَمِه، وقيل: لأنهُ يَجْبُرُ الناسَ أي: يَقْهَرُهم على ما يريد. ودفَعَهُ بعضُ أهلِ اللغةِ منْ حيثُ اللفظ؛ لأنّ ((فعّالاً)) لا يُبْنى مِنْ: أفْعَلْت؛ فأُجِيبَ بأنّ ذلكَ مِنْ لفظِ الجَبْرِ المرويِّ في قولِهم: لا جَبْرَ ولا تَفْويضَ، لا مِنَ الإجبار.

وأنكَرَ ذلكَ جماعةٌ مِنَ المُعتزِلةِ مِن حيثُ المعنى؛ فقالوا: يتعالى الله عنْ ذلكَ، وليسَ بمُنكَر؛ فإنهُ تعالى قد أَجْبَرَ الناسَ على أشياءَ لا انفكاكَ لهُمْ مِنها حَسْبَ ما تقتضِيهِ حكمتُهُ لا على ما تتوهّمُهُ الغُواةُ والجَهَلة؛ وذلكَ كإكراهِهِمْ على المَرَضِ والمَوْتِ والبَعْثِ، وسخّرَ كلاَّ منهمْ لصناعةٍ مِن الأخلاق، وجعلَهُ مُجْبَرًا في صُورةِ مُخَيّر؛ قالَ تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَواةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32]. وقد رُوِي عن عليٍّ رضي الله عنه: يا بارئَ المسموكاتِ وجبّارَ القلوبِ على فِطْرتِها شَقيِّها وسعيدِها.

وأصلُ الجَبْر: إصلاحُ الشيءِ بضربٍ مِنَ القَهْر؛ يُقال: جَبَرتُه فانْجَبَر، وقدْ يُقالُ تارةً في الإصلاح المجَرّد؛ كقولِ القائل: يا جابِرَ كلِّ كسير، ومُسَهِّلَ كلِّ عسير، وتارةً في القهرِ المجرّدِ كقولِه: لا جَبْرَ ولا تَفْوِيض.

قولُه: (ورقى إلى فرعون)، الجوهري: رقى عليه كلامًا يَرْقِيه: إذا رَفَع، وفي استعمالِه بـ ((إلى)) تضمينُ معنى الانتهاء.

ص: 27

قيل: الرَّجُل: مؤمنُ آل فرعون، وكان ابنَ عمِّ فرعون، و {يَسْعَى} يجوزُ ارتفاعُه؛ وصفًا لرجُل، وانتصابُه حالاً عنه؛ لأنّه قد تخصّص بأن وُصِفَ بقولِه:{مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ} ، وإذا جُعِلَ صلةً لـ ((جاء))، لم يَجُزْ في {يَسْعَى} إلاّ الوصف. والائتمار:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وإذا جُعِلَ- أي: {مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ} - صلةَ ((جاء)) لم يَجُزْ في {يَسْعَى} إلا الوَصْفُ)، لأنّ ذا الحالِ نكرةٌ صِرْفة. كأنّ ميلَ صاحِبِ ((المفتاح)) إلى هذا الوجه؛ حيثُ قال: ذَكَرَ المجرورَ بعدَ الفاعِلِ وهوَ مَوضِعُه، وفي ((يس)) قَدّمَه لِكونِهِ أَهَمّ؛ لأنّ الكلامَ هناكَ في سوءِ مُعامَلةِ أصحابِ القريةِ للرُّسُل، وكانَ لأنْ يجيلَ السامعُ في فكرِه: أكانتْ تلكَ القريةُ بحافّاتِها كَذلك، أَمْ كانَ هناكَ قَطْرٌ مُنبِتُ خَيْر؟ فانتَظَرَ مَساقَ حديثِهِ فَقَدّمَ لهذا العارضِ بخلافِه هاهنا؛ فإنّ المترتِّبَ إخبارُ مُخبِر، كما قالَ المصنِّفُ في قولِه تعالى:{فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ} : ((أي: الإخبارَ وما يُقالُ فيه)). بَقِيَ أنْ يُقال: لِمَ قَدّمَ المجرورَ على الوصفِ ومرتبتُه التأخير؟ والأظهرُ أنّ المجرورَ صلةُ {يَسْعَى} ، والجملةُ وصفٌ لـ {رَجُلٌ} ؛ لأنّ موسى عليه السلام كانَ مختفيًا في بعضِ أقطارِ المدينةِ وأكنافِها، مترقِّبَا لمُخبِرٍ يُخبِرُه، والرجلُ كانَ مؤمنًا مُعتَنِيًا بشأنِ نبيِّ الله؛ فحينَ أطرقَ سمعَه مؤامرةُ القومِ سعي مِن عندِهم إليهِ انتهازًا للفرصة؛ ومِن ثَمّ أتْبعَه بقولِه:{إِنّيِ لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} أي: مِنَ الذينَ لهُمْ مساهَمةٌ في النُّصح لك. وأكّدَه بأنّ قولَه: {لَكَ} بيانٌ وليسَ بِصِلةٍ للناصحِين؛ أي جوابٌ لِمَنْ يقولَ: لِمَنْ ينصَح؟ كقولِه تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ اَلْزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20].قالَ الزجّاج: {لَكَ} ليسَ مِن صِلةِ {اَلْنَّاصِحِينَ} ؛ لأنّ الصِّلةَ لا تتقدّمُ على الموصول، كأنّه قال: إني مِنَ الناصحِينَ ينصحونَ لك، وفي الكلام:((نَصَحْتُ لكَ)) أكثرُ مِنْ نَصَحْتُك.

ص: 28

التَّشاور. يقالُ: الرَّجُلانِ يتآمرانِ ويأتَمِران؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ منهما يأمرُ صاحبَه بشيءٍ، أو يُشيرُ عليه بأمرٍ. والمعنى: يتشاوَرُون بسبَبِك. {لَكَ} بيان، وليس بصلةِ النّاصحين. [{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 21]

{يَتَرَقَّبُ} التَعرُّضَ له في الطّريق، أو أن يُلْحَقَ.

[{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} 22]

{تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} قَصْدَها ونَحْوَها. ومَدْيَن: قريةُ شعيبٍ عليه السلام، سُمِّيتْ بمَدْيَنَ بنِ إبراهيم، ولم تكنْ في سُلطانِ فرعون، وبينها وبينَ مصرَ مسيرةُ ثمانٍ، وكان مُوسى صلى الله عليه لا يعرفُ إليها الطَّريقَ. قال ابنُ عباسٍ: خرجَ وليسَ لهُ علمٌ بالطريقِ إلاّ حُسنُ ظنِّه بربِّه. {سَوَآءُ اَلْسَّبِيلِ} وسطُه ومُعظَمُ نهْجِه. وقيل: خَرَجَ حافيًا لا يعيشُ إلا بورَقِ الشَّجَر، فما وصلَ حتّى سقَطَ خُفُّ قَدَمِه. وقيل: جاءَهُ مَلَكٌ على فرسٍ بيدهِ عَنَزةٌ، فانطلقَ بهِ إلى مَدْيَن.

[{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وليسَ لهُ عِلمٌ بالطريقِ إلا حُسنُ ظنِّهِ بربِّه)، هذا الاستثناءُ نحو:{لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبِ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].

قولُه: (عَنَزَة)، النهاية: العنَزَةُ: مِثلُ نِصفِ الرُّمحِ أو أكبرَ، وفيها سِنانٌ مِثلُ سِنانِ الرُّمح.

ص: 29

عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ *قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} 23 - 28]

{مَآءَ مَدْيَنَ} ماؤهم الذي يستَقُونَ منه، وكان بئرًا فيما روي. ووُرودُه: مجيئُه والوصولُ إليه. {وَجَدَ عَلَيْهِ} : وجد فوقَ شفيرِه ومُستَقاهُ، {أُمَّةً}: جماعةً كثيفةَ العدد، {مِنَ النَّاسِ} من أُناسٍ مختَلِفِين، {مِن دُونِهِمُ} في مكانٍ أسفلَ من مكانِهِم. والذَّودُ: الطَّرْدُ والدَّفعُ، وإنّما كانتا تذودان؛ لأنَّ على الماءِ مَن هو أقوى منهُما؛ فلا تتمكنان من السَّقْي. وقيل: كانتا تَكْرهانِ المُزاحمةَ على الماء. وقيل: لئلاّ تختَلِطَ أغنامُهُما بأغنامِهِم. وقيل: تذودانِ عن وُجوهِهِما نظرَ النّاظِرِ لِتَستُّرِهِما. {مَا خَطْبُكُمَا} : ما شأنُكُما؟ وحقيقتُه: ما مخطوبُكما؟ أي: مطلوبُكما من الذِّياد، فسمّى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({أُمَّةً} جماعةً كثيفةَ العددِ {مِّنَ اَلْنَّاسِ} مِنْ أُناسٍ مختلفِين)، أما تقييدُها بالكثيفة؛ فمِنْ تخصيص ذكرِ ((الأمة)).

النّهاية: يُقالُ لكلِّ جيلٍ مِنَ الناسِ والحيوان: أمة. وفي الحديث: ((لولا أنّ الكلابَ أمّةٌ تُسَبِّحُ لأَمَرْتُ بقتلِها)).

الراغب: الأمة: جماعةٌ يجمَعُهم أمرٌ ما؛ إما دينٌ واحد، أو زمانٌ واحد، أو مكانٌ واحد؛ سواء كانَ الأمرُ تسخيرًا أو اختيارًا. وأما معنى ((أناسٍ مختلفِين))؛ فمِنَ التعريفِ في ((الناسِ))، وهو ما تعورِفَ واشتُهِرَ أنّ مَنْ يجتمِعَ حوالَيْ شَفِيرِ البئرِ لأجلِ الاستقاءِ مِنهم. وقريبٌ منهُ قولُه تعالى:{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60، والأعراف: 160].

قولُه: (ما مخطوبُكما؟ )، أي: ما مطلوبُكما؟ مِنْ قولِهم: خَطَبْتُ المرأةَ خِطْبة؛ أي: طَلَبْتَ

ص: 30

المخطوبَ خطبًا، كما سمَّي المَشئُونَ شأنًا في قولِك: ما شأنُك؟ يقال: شَأَنْتُ شأنَه، أي: قَصَدْتُ قَصْدَه. وقرئ: (لا نُسقي) و {يُصْدِرَ} و (الرُّعاء)، بضمِّ النونِ والياءِ والرّاء. والرِّعاءُ: اسمُ جمعٍ كالرُّخال والثّناء. وأما {اَلْرِّعَاءُ} بالكسْرِ فقِياس، كصِيامٍ وقيامٍ. {كَبِيرٌ} كبيرُ السِّنّ. {فَسَقَى لَهُمَا} فسقى غَنَمَهُما لأجْلِهِما. ورُويَ أنَّ الرُّعاةَ كانوا يضعونَ على رأسِ البئرِ حجرًا لا يُقِلُّه إلاّ سبعةُ رجال. وقيل: عَشَرَة. وقيل: أربَعُون. وقيل: مئة، فأقلَّه وَحْدَه. ورُوِيَ أنّه سألَهُم دَلوًا من ماءٍ فأعطَوه دَلوَهُم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تَزَوُّجَها. الأساس: ومِنَ المجاز: فلانٌ يخطُبُ عَمَلَ كذا؛ يطلُبُه، وما خَطْبُك؟ وما شأنُكَ الذي تخطُبُه؟

قولُه: (وقُرِئَ: ((لَا نُسْقي)) و {يُصْدِرَ} )، المشهورة:{لَا نَسْقِي} بفتحِ النون، و ((يَصدُر)) بفتحِ الياءِ وضمَّ الدال: ابنُ عامرٍ وأبو عمرو، والباقون: بضمِّ الياءِ وكسرِ الدال. وسألَ بعضُهم عنِ الفرقِ بينَ يصدر بفتحِ الياءِ وضمِّها مِن حيثُ المعنى، وأُجيبَ: أنّ الأولَ دلّ على فرطِ حيائِهِما وتفادِيهِما مِنَ الاختلاطِ بالأجانب، وأنّ الثاني دلّ على إصدارِهِمُ المواشي، ولَمْ يُفْهَمْ مِنهُ صدورُهُم عنِ الماءِ.

قولُه: (كالرُّخال)، الجوهري: الرّخِلُ بكسرِ الخاء: الأنثى مِن أولادِ الضأن، والجمع: رخال. والثنا: جمعُ الثني؛ وهوَ الذي يُلقي ثنيّتَهُ مِن ذواتِ الظّلْفِ والحافِرِ في السنةِ الثالثة، وفي الخُفَّ في السنةِ السادسة. قال الحريريُّ في ((دُرّةِ الغَوّاص)): وقدْ جُمِعَ ((رَخِل)) بفتحِ الراءِ وكسرِ الخاءِ على ((رُخال)) بضمِّ الراء، وهوَ مِما جُمِعَ على غيرِ القياس. حُكِيَ أنّ أبا زيدٍ حَكى أنّ العَرَبَ تقولُ في مُلَحِها: قِيلَ للضَّان: ما أعْدَدْتِ للشِّتاء؟ قال: أُجَزُّ جُفالاً، وأُنْتِجُ رُخالاً، وأُحْلَبُ كُثَبًا ثِقالاً، ولنْ تَرى مِثلي مالاً. وفُسِّرَ أنّ الجُفال: الكثير، والكُثَب: جَمْعُ كُثْبة؛ وهِيَ ما انصَبّ ومار، ومِنهُ سُمِّيَ الكثيبُ مِنَ الرّمل.

قولُه: (لا يُقِلُّهُ)، النِّهاية: يقال: أَقَلَّ الشيءَ يُقِلُّهُ واستقلّهُ يستقلُّه؛ إذا رَفَعَهُ وحَمَلَه.

ص: 31

وقالوا: استقِ بها، وكانتْ لا ينزِعُها إلاّ أربعون، فاستقى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبَرَكة، وروّى عنهما وأصدَرَهما. ورُويَ أنّه دفَعَهُم عنِ الماءِ حتّى سقي لهما. وقيل: كانتْ بئرًا أُخرى عليها الصَّخْرة. وإنّما فعل هذا رغبةً في المعروفِ وإغاثةً للملهوف. والمعنى: أنّه وصلَ إلى ذلكَ الماءِ وقد ازدحَمتْ عليه أُمّةٌ من أناسٍ مختلفةٍ متكاثفةِ العَدَد، ورأى الضَّعِيفَتَيْنِ من ورائِهم مع غُنَيمتِهِما مُتَوقِّفَتَينِ لِفَراغِهم، فما أخْطَأَت همَّتُه في دينِ الله تلكَ الفُرصة، معَ ما كانَ من النَّصَبِ وسقوطِ خُفِّ القَدَمِ والجُوع، ولكنَّه رحِمَهُما فأغاثَهُما، وكفاهُما أمرَ السَّقْيِ في مثلِ تلك الزَّحمةِ بقُوَّةِ قلبِه وقوَّةِ ساعِدِه، وما آتاهُ الله من الفضلِ في متانةِ الفطرةِ ورصانةِ الجِبِلَّة، وفيه- مع إرادةِ اقتصاصِ أمره، وما أوتِيَ من البَطْشِ والقُوّةِ، وما لم يَغفُلْ عنه، على ما كانَ به من انتهازِ فُرصةِ الاحتساب- ترغيبٌ في الخير، وانتهازِ فُرَصِه، وبعثٌ على الاقتداءِ في ذلك بالصّالِحِين، والأخذِ بِسَيرِهِم ومذاهِبِهم. فإن قلتَ: لمَ تُرِكَ المَفعولُ غيرَ المَفعولُ غيرَ مَذْكُورٍ في قولِه: {يَسْقُونَ} و {تَذُودَانِ} و {لَا نَسْقِي} ؟ قلت: لأنَّ الغرضَ هو الفعلُ لا المفعول. ألا ترى أنّه إنّما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فما أخطأَتْ هِمّتُه)، أي: ما تجاوَزَتْ. الأساس: ومِنَ المجاز: تَخَطّاهُ المكروه.

قولُه: (تلكَ الفرصة)، الجوهري: الفُرصةُ هِيَ الشِّرْبُ والنّوْبة؛ يُقال: وَجَدَ فلانٌ فُرصة؛ أي نُهْزة، وانتَهَزَها إذا اغتَنَمَها.

قولُه: (وفيه)، خبر، والمبتدأُ ((ترغيب))، و ((ما أوتي)) عطفٌ تفسيريٌّ على ((أمره))، و ((ما لمْ يَغفُلْ عنه)) عطفٌ على ((البطش والقوة))، وهوَ عبارةٌ عنِ الجزمِ البليغ والتيقُّظِ التام؛ ولذلكَ أوقعَ ((على ما كانَ بهِ)) حالاً مِن فاعلٍ لمْ يفعلْ على وجهِ التتميم والمبالَغة؛ أي على ما كانَ بهِ مِنَ النّصَبِ وسقوطِ الخوفِ والجوع. و ((من)) - في ((مِن انتهازِ الفُرصة)) - بيانُ ((ما لمْ يَغفُلْ عنه))، المعنى: أَدْمَجَ في هذا الكلامِ- معَ اقتصاصِ أمرِ موسى عليه السلام مِنَ القُوّةِ والتيقُّظِ في تلكَ الحالةِ- ترغيبَ المؤمِنينَ في الخير، وانتهازَ الفُرصةِ فيه، والبعثَ على الاقتداءِ بسُنّةِ الصالحِينَ مِنَ المرسَلِين. ويجوزُ أنْ يكونَ ((وما لمْ يَغفُلْ عنه)) عطفًا على ((ما أوتي)).

قولُه: (لأنّ الغرضَ هوَ الفعلُ لا المفعول)، فإنْ قلتَ: هلْ مِنْ فَرقٍ بينَ هذا وما ذهبَ

ص: 32

رَحِمَهُما لأنَّهما كانَتا على الذِّيادِ وهُم على السَّقْي، ولم يَرحَمْهما لأنّ مذُودَهُما غَنَمٌ ومَسقِيَّهُم إبِلٌ مثلاً، وكذلك قولُهما {لَا نَسقِي حَتَّى يُصْدِرَ اَلرِّعَاءُ} المقصودُ فيه السَّقْيُ لا المَسْقِيُّ.

فإن قلتَ: كيفَ طابقَ جوابُهما سؤالَه؟ قلتُ: سألَهُما عن سببِ الذَّودِ فقالَتا: السَّبَبُ في ذلك أنّا امرأتانِ ضعيفتانِ مَسْتُورَتان لا نقدِرُ على مساجَلَةِ الرِّجالِ ومزاحَمَتِهم، فلابُدَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إليهِ صاحبُ ((المفتاح)) مِنْ أنّ القصدَ في تركِ المفعولِ إلى مجرّدِ الاختصار؛ لانصبابِ الكلامِ إلى إرادةِ: يسقونَ مواشيهم، إلى آخرِه؟

قلتُ: نعم؛ لأنهُ نَظَرَ إلى اللفظ، وأنّ التركَ لصونِ الكلام عنِ العبثِ لنيابة قرائن الأحوال. والمصنِّفُ نَظَرَ إلى المعنى وأنّ المفعولَ مرفوضٌ غيرُ مُلتَفَتِ إليه؛ فلِكُلِّ وِجْهة.

فإنْ قلتَ: فعلى هذا يكونُ مِن تنزيلِ المتعدِّي منزلةَ اللازِمِ إيهامًا للمبالَغة؛ فأينَ المبالَغة؟ قلتُ: وَهْمٌ بعيد؛ لأنّ معنى قولِه: ((الغرضُ هوَ الفعلُ لا المفعول)) أنّهمْ قدْ يقصِدونَ في الكلامِ المحتوِي على معانٍ إلى معنَى منها قصدًا أوليًّا، ويوهِمونَ أنّ ما سِواهُ مُطّرَح؛ ألا ترى إلى قولِه في تفسيرِ قولِه تعالى:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]: تَرَكَ المفعولَ به؛ لأنَّ الغرضَ المعزّزَ بهِ وإنْ كانَ الكلامُ مُنصَبًّا إلى غَرَضٍ مِنَ الأغراضِ جَعَلَ سياقَهُ لهُ وتوجُّهَهُ إليه، كأنّ ما سِواهُ مرفوضٌ مطروح.

قولُه: (كيفَ طابقَ جوابُهما سؤالَه؟ )، يعني أن موسى عليه السلام سألَهُما عنْ شأنِهِما ومطلوبِهِما بقولِه:{مَا خَطْبُكُمَا} وكانَ الظاهرُ أنْ يقولا: شأنُنا أنّنا نريدُ السّقي، ولا قُدرةَ لنا عليه مِنَ الزحمة. وأجاب: إنّ جوابَهما {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ اَلْرِّعَاءُ وأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} معناه: سَبَبُ ذَوْدِنا ضَعْفُنا وعَجْزُنا وضَعْفُ مُتَوَلِّي أَمْرِنا؛ وهُوَ أبونا. وفي اختصاصِهِما الأبَ بالذكرِ الدلالةُ على أنْ ليسَ لَهُمْ رَجُلٌ يقومُ بذلك؛ فأَوْجَبَ ذلكَ أنْ يُفَسّرَ قولُه: {مَا خَطْبُكُمَا} بقولِنا: ما سببُ ذَوْدِكما؟ لِيَتَطابَقا.

ص: 33

لنا من تأخِيرِ السَّقْيِ إلى أنْ يَفرَغُوا، ومالنا رَجُلٌ يقومُ بذلك، وأبونا شيخٌ قد أضعَفَهُ الكِبَر؛ فلا يَصْلُحُ للقِيامِ به: أبْلَتا إليهِ عُذْرَهُما في تولِّيهِما السَّقْيَ بأنفُسِهِما. فإن قلت: كيف ساغَ لنبيِّ الله الذي هو شُعيبٌ عليه السلام لأن يَرْضى لابنَتَيهِ بسَقْيِ الماشية؟ قلتُ الأمرُ في نفسِه ليسَ بمَحْظور؛ فالدِّينُ لا يأباه. وأمّا المروءة، فالنّاسُ مختلفون في ذلك، والعاداتُ مُتَبايِنةٌ فيه، وأحوالُ العربِ فيه خِلافُ أحوالِ العَجَم، ومذهبُ أهلِ البَدْوِ فيه غيرُ مذهبِ أهلِ الحَضَر، خُصوصًا إذا كانتِ الحالةُ ضَرورة. {إِنِّي} لأيِّ شيءٍ {أَنْزَلْتَ إِلَيَّ} قليلٍ أو كثيرٍ، غثٍّ أو سَمِينٍ لَ {فَقِيرٌ}؛ وإنّما عُدِّيَ {فَقِيرٌ} باللاّم؛ لأنّه ضمنَ معنى سائلٍ وطالب. قيل: ذَكَرَ ذلك وخضرةُ البَقْلِ تَتراءى في بطنِه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإنْ قلتَ: فَلِمَ عَدَلَ عنِ السؤالِ الظاهرِ إلى قولِه: ما مخطوبُكما؟ أي: ما مطلوبُكما من الذِّياد؟ قلتُ: مقصودُ نَبيِّ الله مِنْ قولِه: ما مطلوبُكما مِنَ الذياد؟ أنْ يُجابَ بطلبِ المعونةِ منه؛ لكرمِهِ ورحمتِهِ على الضعفاء. ولمّا كانتا مِنْ بيتِ النُّبُوّة؛ حَمَلْنا قولَه على ما يُجابُ عنهُ بالسّبَب، وفي ضِمنِهِ طلبُ المعونة؛ لأنّ إظهارَهُما العَجْزَ ليسَ إلا لذلكَ، هذا وإنهُ ليسَ في الكلامِ ما يدلُّ على ضعفِهِما؛ بلْ فيهِ أَماراتٌ على حيائِهِما وسترِهِما كما سَبَقَ في بيانِ اختلافِ القراءتَيْنِ في ((يصدر)). وكذا قولُه:{فَجَآءَتْهُ إحْدَيهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} على أنهما قالتا: {لَا نَسْقِي} دون: لا نقدِرُ على السقي. ومعنى {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} : أنّا معَ حيائنا إنما تصدّيْنا لهذا الأمر؛ لِكِبَرِهِ وضعفِه، وإلا كانَ عليهِ أنْ يتولاه.

قولُه: (أَبْلَتا إليه عُذْرَهُما)، الأساس: أبْلَيْتُه عذرًا؛ إذا بَيّنْتَهُ لهُ بيانًا لا لَوْمَ عليكَ بَعدَه.

وحقيقتُهُ: جَعَلْتُهُ بالِيًا بِعُذْري؛ أي: خابرًا لهُ عالمًا بكُنْهِه.

قولُه: (تتراءى في بطنِه)، الأساس: تراءى الجمعان، وتراءتْ لنا فُلانة: تصدّتْ لنا لِنَراها، وعلى وجهِهِ رُواءُ الحُمْق؛ وهوَ ما يُرى عليهِ مِنْ آياتِهِ البيِّنةِ التي لا تَخفى على الناظِرِ كأنها تتكلّمُ بهِ وتنادي عليه.

ص: 34

من الهُزال، ما سأَل الله إلاّ أكلةً. ويُحتَمَلُ أن يريد: إنِّي فقيرٌ من الدُّنيا لأجْلِ ما أنزلتَ إليَّ من خَيرِ الدّين؛ وهو النَّجاةُ من الظالمينَ؛ لأنَّه كان عندَ فرعونَ في مُلْكٍ وثَرْوة: قال ذلك رِضًا بالبَدَلِ السَّنِيِّ، وفَرَحًا به، وشُكْرًا له، وكان الظِّلُّ ظِلَّ سَمُرَةٍ. {عَلَى اسْتِحْيَآءٍ}: في موضعِ الحال، أي: مُستَحيِيَةً مُتَخَفِّرَةً. وقيل: قد استَتَرَت بِكُمِّ دِرعِها. رُوِيَ أنّهما رَجَعَتا إلى أبِيهٍما قبلَ النّاسِ، وأغنامُهُما حُفَّلٌ بطانٌ، قال لهُما: ما أعجَلَكُما؟ قالتا: وجدْنا رجُلاً صالحًا رحِمَنا فسقى لنا، فقال لإحداهُما: اذهبي فادعِيه لي، فتَبِعَها مُوسى فألزَقَتِ الرِّيحُ ثوبَها بجَسَدِها فوصَفَتْه، فقال لها: امشي خَلْفي وانعَتِي ليَ الطَّريق، فلّما قصّ عليه قصَّتَه قال له: لا تخفْ فلا سُلطانَ لفرعونَ بأرضِنا.

فإن قلت: كيف ساغَ لمُوسى أن يعملَ بقولِ امرأة، وأن يمشيَ معها وهي أجنبيَّة؟

قلتُ: أمّا العملُ بقولِ امرأةٍ؛ فكما يُعمَلُ بقولِ الواحدِ حرًّا كانَ أو عبدًا، ذكرًا كان أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (إني فقيرٌ مِنَ الدُّنيا لأجلِ ما أَنزَلْتَ إليّ)، ((ما)) _على هذا_ موصولةٌ، و ((من)) بيان، والتنكيرُ في ((خير)) للنوعِ والتعظيم؛ ولذلكَ أضافَهُ إلى الدِّين. وعلى الأوّلِ ((ما)) موصوفة، والتنكيرُ للشيوع؛ ومِن ثُمّ قُدِّرَ أوّلاً لأيِّ شيء، وثانيًا قليلٍ أو كثير، غَثٍّ أو سمين. وأما فائدةُ الماضي في ((ما أنزلت)) على التأويلِ الثاني؛ فظاهِر، وأما على الأَوّل؛ فللاستعطاف، أي: ربِّ إني سائلٌ الآنَ ما كنتُ أَعهَدُه في الأيامِ الماضيةِ مِمّا أَسُدُّ بهِ جَوْعتي مِن قليلٍ أو كثير، غثٍّ أو سمين؛ لأني مُحتاجٌ إليه؛ لأنّ معنى التضمينِ أنْ يُقال: أنا سائلٌ الطعامَ في حالِ كوني محتاجًا إليه. ويؤيِّدُ هذا التأويلَ قولُه: ((ما سألَ الله إلا أكلة))، وقولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: سألَ الله فلق خُبْزٍ بهِ صُلْبَه.

قولُه: (مُتَخَفِّرة)، الجوهري: الخَفَرُ- بالتحريكِ- شِدّةُ الحياء، تقولُ منه: خَفِرٌ - بالكسرِ-، وجاريةٌ خَفِرةٌ ومُتَخَفِّرة.

قولُه: (حُفَّل)، جَمْعُ حافِل. الجوهري: ضِرْعٌ حافِل؛ أي: مُمتَلِئٌ لبنًا.

قولُه: (فوَصَفَتْه)، الأساس: ومِنَ المجاز: وَجْهُها يَصِفُ الحُسْن، ومعناهُ ما سَبَقَ آنفًا، وهوَ ما يُرى عليهِ مِنْ آيتِهِ البيِّنةِ التي لا تَخفى على الناظر، إلى آخرهِ.

ص: 35

أُنثى في الأَخبار، وما كانتْ إلاّ مُخبِرةً عن أبِيها بأنّه يدعُوهُ ليَجْزِيَه. وأمّا مُماشاتُه امرأةً أجنبيةً؛ فلا بأسَ بها في نظائِرِ تلكَ الحال، مع ذلك الاحتياطِ والتَّوَرُّع. فإن قلتَ: كيفَ صحّ له أخذُ الأجرِ على البِرِّ والمعروف؟ قلتُ: يجوزُ أن يكونَ قد فعلَ ذلك لوجهِ الله وعلى سبيلِ البِرِّ والمعروف. وقيل: إطعامُ شعيبٍ وإحسانُه لا على سبيلِ أخذِ الأَجْر، ولكنْ على سبيلِ التَّقبُّلِ لِمعروفٍ مُبتَدَأٍ. كيفَ وقد قصَّ عليه قَصَصَهُ وعرَّفه أنه من بيتِ النُّبوَّة من أولادِ يعقوب؟ ومِثلُه حَقيقٌ بأن يُضَيَّفَ ويُكَرَّمَ؛ خصوصًا في دارِ نبيٍّ من أنبياءِ الله، وليسَ بمُنكرٍ أنْ يفعلَ ذلك لاضطرارِ الفَقْرِ والفاقَةِ طلبًا للأجر. وقد رُوِيَ ما يعضُدُ كِلا القَولَين: رُوِيَ أنَّها لمّا قالت: {ليَجْزِيَكَ} ، كَرِهَ ذلك، ولمّا قدّم إليه الطّعامَ امتنعَ، وقال: إنّا أهلَ بيتٍ لا نَبِيعُ دِينَنا بطِلاعِ الأرضِ ذهبًا، ولا نأخُذُ على المعروفِ ثمنًا، حتى قالَ شُعَيب: هذه عادتُنا مع كُلِّ من ينزلُ بنا. وعن عطاءِ بنِ السائب: رفع صوتَه بدُعائِه ليُسمِعَهما، فلِذلك قيل له:{ليَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ} ، أي: جزاءَ سَقْيِك. والقَصَصُ: مصدرٌ كالعَلَل، سُمِّيَ به المَقصُو. كُبراهُما: كانت تُسمَّى صفراء، والصُّغرى: صُفَيراء. وصفراءُ: هي التي ذهبتْ به وطلبت إلى أبيها أن يستأجِرَه، وهي التي تزوَّجَها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (بطِلاع الأَرْض)، أي: مِلْئِها. الأساس: وملأتُ لهُ القَدَحَ حتى كادَ يطلعُ مِنْ نواحِيه، ومنه: قَدَحٌ طِلاع: ملآن. وعنِ الحسن: لَأَنْ أَعلَمَ أني بريءٌ مِنَ النفاقِ أَحَبُّ إليّ مِنْ طِلاعِ الأرضِ ذهبًا.

قولُه: (وعنْ عطاءِ بنِ السائِب: رَفَعَ صوتَهُ بدعائِه)، وهوَ قولُه:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} هذا يَعْضُدُ القولَ الثاني، وهوَ قولُه:((وليسَ بمُنكَرٍ أنْ يَفْعَلَ ذلكَ لاضطِرارِ الفقر)).

قولُه: (والقَصَصُ مصدر)، يُقال: قَصّ يَقُصُّ قَصًّا وقَصَصًا، سُمِّيَ بهِ المقصوص؛ كالعَلَلِ وهوَ الشُّرْبُ الثاني، سُمِّيَ لِما يُعَلُّ به.

ص: 36

وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه: أنّ شُعيبًا أحفَظَتْه الغَيرةُ فقال: وما علمُكِ بقُوَّتِه وأمانتِه؟ فذَكرتْ إقلالَ الحجَرِ ونَزْعَ الدَّلو، وأنّه صوَّبَ رأسَه حتّى بلغَتهُ رسالَتَه، وأمَرَها بالمَشْيِ خلفَه. وقولُها:{إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَثْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} : كلامٌ حكيمٌ جامعٌ لا يُزادُ عليه؛ لأنّه إذا اجتمعتْ هاتانِ الخَصلتان؛ أعني الكفايةَ والأمانةَ في القائمِ بأمرِك فقد فَرَغَ بالُك وتمّ مُرادُك. وقد استَغْنَت بإرسالِ هذا الكلام الذي سياقُه سياقُ المَثَل والحِكمةِ أن تقولَ: استأجِرْهُ لقُوّتِه وأمانتِه. فإن قلتَ: كيف جُعِلَ {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} اسمًا لـ {إِنَّ} و {اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} خبرًا؟ قلتُ: هو مِثلُ قولِه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أحْفَظَتْهُ الغَيْرة)، الجوهري: الحَفِيظة: الغَضَب، وكذلكَ الحِفْظةُ بالكسر.

قولُه: (وقدِ استَغْنَتْ بإرسالِ هذا الكلام)، إشارةٌ إلى أنّ هذا الكلامَ معَ كونِهِ مِنَ الجَوامِعِ هوَ أيضًا دليلٌ على إثباتِ هذا المُدّعي؛ لأنّ الحُكْمَ أنّ مَنْ فيهِ هاتانِ الخُصلَتانِ فهوَ صالحٌ للاستِئجار، وقدْ شوهِدَ فيهِ ذلك؛ فوَجَبَ أنْ يُختارَ لذلك، فذَكَرَ الدليلَ العامّ وتركَ الخاصّ لاستغنائِهِ عنه؛ لأنّ الكلامَ سِيقَ له.

قولُه: (سياقُهُ سياقُ المَثَل)، أي أنّ قولَه:{خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} لعمومِهِ صارَ مثلاً.

قولُه: (كيفَ جعلَ {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} اسمًا؟ )، وخُلاصتُهُ أنّ المعرّفَ باللامِ أَوْغَلُ في التعريفِ مِنَ المضاف. وقيل: إنّ المضمَرَ أَعْرَفُ المعارف؛ لأنّ الشيءَ لا يُضمَرُ إلا وقدْ عُرِف، فهوَ بمنزلةِ وضعِ اليد؛ فلذا لا يُوصَفُ كسائِرِ المعارف، ثُمّ العَلَم؛ لأنّهُ موضوعٌ على شَيءٍ بعينِه، ثُمّ المُبْهَم؛ لأنّهُ يُعرَفُ بالعينِ والقلبِ نحوُ: هذا؛ للحاضر، ثُمّ المُحَلّى باللام؛ لأنّهُ يُعرَفُ بالقلبِ لا غير، ثُمّ المضاف؛ لأنّ تَعرُّفَه مِنْ غيرِه. ويمكنُ أنْ يُقال: إنّ {مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} موصولةٌ، وهوَ أعرَفُ مِنَ المعرّفِ باللام، ولَمّا أُضيفَ إليهِ ((أَفْعَل)) امتَزَجا. وقالَ هذا القائل: إنّ المضافَ لَمّا نُزِّلَ مَنزِلةَ التنوينِ مِنَ المضافِ صارَ بمنزلةِ شيءٍ واحد، فلما

ص: 37

أَلا إِنَّ خَيْرَ الناسِ حَيًّا وهَلِكا

أسِيرُ ثَقِيفٍ عِندهُم في السَّلاسلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

امتزجا معنًى كانَ معنى الامتزاجِ المعنويِّ على قدرِ امتزاجِ المعنى، والألفاظُ قوالبُ المعاني؛ فيُعتَبَرُ أمرُ المضافِ لِما أُضيفَ إليه.

وقلتُ: هذا إذا لَمْ يُنظَرْ إلى المقامِ، وأُجرِيَ التعريفُ في {اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} على الجنس، وأما إذا جُعِلَ مرادًا بهِ موسى عليه السلام و {مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} على عمومِهِ، لأنّ {مَن} موصولةٌ أو موصوفة؛ كأنه قيل: إنّ خَيْرَ مَنِ استأجرتَهُ موسى، لم يَصِحّ ما قاله. ويؤيِّدُ الثاني استشهادُهُ بالبيت؛ فإنّ التعريفَ في ((الناس)) للجنسِ قطعًا، والمرادُ بالأسيرِ في ((أسير ثقيف)) خالدُ بنُ عبدِالله؛ فصحّ ما ذهبَ إليهِ المصنِّفُ مِنْ أَنّ {القَوِيَّ الأَمِينَ} هوَ الاسمُ وأنّ الاهتمامَ هوَ سَبَبُ تقديم الخبرِ وجعلِهِ اسمًا، أو هوَ مٍنْ القلبِ للمبالَغة. ولَمّا كانَ مُقتضى الحالِ- أي شيخوختُهُ وحياؤُهُما- هوَ الذي أوجَبَ قيِّمًا يهتمُّ بها مستأجرًا يستأجرونه لها؛ كانَ ذلكَ مطلوبًا لذاتِه، وكانتِ القوةُ والأمانةُ تابعتين لهُ تُعرَفُ بالذوق. أو يُقال: إنّ الفاصلةَ هيَ التي استدعتْ تأخيرَ {اَلْأَمِينُ} ، و {اَلْأَمِينُ} استدعى مقارنةَ القويِّ معَه.

الانتصاف: هذا أجمَلُ في مدحِ النساءِ للرجالِ مِنَ المدحِ الخاصِّ وخصوصًا [إن كانت] فهمتْ أنّ أباها يزوِّجُها مِنه. وما أَحْسَنَ ما أَخَذَ الفاروقُ مِنْ هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضَعفَ الأمينِ وخيانةَ القوي، ففي ضِمنِ هذه الشكاية سؤالُ الله أنْ يُتحِفَهُ بقويٍّ أمينٍ يستعينُ به.

قولُه: (ألا إنّ خيرَ الناس حيًّا وميتًا) البيت، قالَهُ أبو الشغبِ في خالِدِ بنِ عبدِ الله القسريِّ وهوَ أسيرٌ في يدِ يوسفَ بنِ عمر، بالغَ في العمومِ وهوَ مِنَ الإغراقِ المذموم. قالَ أبو البقاء:((حَيًّا وميتًا)) يجوزُ أنْ يكونَ مِن ((خير)) ومِنَ الضمير فيه، والعاملُ ما دلً عليه

ص: 38

في أنّ العنايةَ هي سببُ التَّقدِيم، وقد صدَقَت حتّى جُعلَ لها ما هو أحقُّ بأن يكونَ خبرًا اسمًا، وورودُ الفِعلِ بلفظِ الماضي؛ للدَّلالِةِ على أنّه أمرٌ قد جُرِّبَ وعُرِف.

ومنه قولُهم: أهوَنُ ما أعمَلْتَ لسانٌ مُمِخّ. وعنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: أفرسُ النّاسِ ثلاثةٌ: بنتُ شُعَيبٍ، وصاحبُ يُوسُف، في قولِه:{عَسَى أَن يَنفَعَنَآ} [يوسف: 21]، وأبو بكرٍ في عُمَر. رويَ أنّه أنكَحَهُ صفراءَ. وقولُه:{هَاتَيْنِ} فيه دليل على أنّه كانتْ له غيرُهما. {تَاجُرَنِي} : من آجرتُه إذا كنتُ له أجيرًا، كقولك: أبَوْتُه إذا كنتَ له أبًا، و {ثَمَانِيَ جِجَجٍ} ظرفُه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((خير))؛ أي يَفْضُلُ الناسَ في حياتِهِ وموتِه. وأنْ يكونَ تمييزًا؛ أي أنّ أحياهُ وموتاهُ أفضلُ الأحياءِ والأموات، كقولِك: زيدٌ أَفْرَهُ الناسِ عبيدًا؛ أي: عبيدُه أَفْرَهُ العبيد.

قولُه: (وقدْ صَدَقَتْ)، أي العنايةُ التي أوجَبَتْ تغييرَ الكلام.

قولُه: (أهْوَنُ ما أعمَلْتَ لسانٌ مُمِخّ)، الأساس: ومِنَ المجاز: أمرٌ مُمِخّ؛ فيهِ فضلٌ وخير، وهذا لسانٌ مُمِخّ؛ حَسَنُ الشفاعة، ولهُ لسانٌ مُمِخّ؛ ذَلِقٌ قويٌّ على الكلام، والاستشهادُ بأنّ ((أَعمَلْتَ)) جاءَ بلفظِ الماضي. وفي ((مجمع الأمثال)): أَهْوَنُ مَرْزِئةٍ لسانٌ مُمِخّ، قالَ الميداني: أمخّ العَظْمُ إذا صارَ فيهِ المخ، والمعنى: أهونُ معونةِ على الإنسانِ أنْ يُعينَ بلسانِهِ دونَ المال؛ أيْ كلامٍ حَسَن. وقالَ المصنِّفُ في ((المستقصي)): مثلُه قولُه:

وأَيْسَرُ ما يَحْبُو بهِ المَرْءُ خِلّهُ

مِنَ العاهِنِ الموجودِ أنْ يتكلّما

يُقال: أعطاهُ مِنْ عاهِنِ مالِهِ وآهِنِه؛ أي: تالِدِه.

قولُه: (وأبو بكرٍ في عمرَ رضي الله عنهما، حيَن استَخْلَفَه.

ص: 39

أو مِن: أجرتُه كذا؛ إذا أثَبْتَه إيّاه. ومنه: تعزيةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (آجرَكُم الله ورَحِمكَم).

و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} : مفعولٌ به، ومعناه: رِعْيةُ ثماني حِجَجٍ، فإن قلتَ: كيف صحَّ أن يُنكِحَه إحدى ابنَتَيهِ من غيرِ تمييز؟ قلتُ: لم يكن ذاك عقدًا للنّكاح، ولكنْ مُواعدةً ومواصفةَ أمرٍ قد عَزَمَ عليه، ولو كانَ عقدًا لقالَ: قد أنكَحْتُك ولم يقل: {إِنِّي أَرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} . فإن قلتَ: فكيف صحَّ أن يُمْهِرَها إجارةَ نفسِه في رِعيةِ الغَنَم، ولابُدَّ من تسليم ما هو مالٌ؟ ألا ترى إلى أبي حنيفةَ كيف منعَ أن يتزوّجَ امرأةً بأن يخَدِمَها سنةً، وجوَّز أن يتزَوَّجَها بأن يُخدِمَها عبدَه سنةً، أو يُسكِنَها دارَه سنةً، لأنّه في الأوّل: مُسَلِّمٌ نفسَهُ وليسَ بمال، وفي الثّاني: هو مُسَلِّمٌ مالاً وهو العبدُ أو الدّار، قلتُ: الأمرُ على مذهبِ أبي حنيفةَ على ما ذكرت. وأمّا الشّافعيُّ: فقد جوّزَ التَّزوُّجَ على الإجارةِ لبعضِ الأعمالِ والخدمة، إذا كان المُستَأجَرُ له أو المخدومُ فيه أمرًا معلومًا، ولعلَّ ذلك كان جائزًا في تلكَ الشَّرِيعة. ويجوزُ أن يكونَ المَهْرُ شيئًا آخر، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أو مِنْ: أَجَرْتُهُ كذا؛ إذا أَثَبْتَهُ إياه)، الأساس: يجعلُها أَجرًا على التزويج؛ يريدُ المهرَ مِنْ قولِه تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25]، كأنهُ قال: على أنْ تُمهِرَني عملَ هذه المُدّة. وأصلُه: أَجَرَكَ الله على ما فَعَلْت، وأنتَ مأجور.

قولُه: (ومواصفةَ أمرٍ)، ((الأساس)): واصَفْتُهُ الشيءَ مُواصَفة، ونِهُيَ عنْ بيعِ المُواصَفةِ وهوَ أنْ يَبِيعَ الشيءَ بصفتِهِ وليسَ عندَه، ثُمّ يبتاعَهُ ويدفَعَه.

قولُه: (أنْ يُمهِرَها)، وفي بعضِ النسخ:((يَمْهُرَها)) بفتحِ الياء. يُقال: أَمْهَرَ المرأة: سَمّي لها مهرًا، ومَهَرَها: أعطاها مهرَها. وخُطّْئَ الحريريُّ في قولِه: وماهرًا لها كما مهرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمُّ سلمة؛ لأنّ حالةَ الخِطبةِ حالةُ التسمية، لا حالةُ إعطاءِ المهر.

ص: 40

وإنّما أرادَ أن يكونَ راعيَ غَنَمِه هذه المُدّةَ، وأرادَ أن يُنكِحَه ابنَتَه، فذكَرَ له المُرادَين، وعلَّقَ الإنكاحَ بالرِّعيةِ على معنى: أنِّي أفعلُ هذا إذا فعلتُ على وجهِ المُعاهدةِ لا على وجهِ المُعاقدة. ويجوزُ أن يستأجِرَه لرِعْيةِ ثماني سنينَ بمبلغٍ معلومٍ ويُوَفِّيَه إيّاه، ثمّ يُنكِحُه ابنَتَه به، ويجعلُ قولَه:{عَلَى أَن تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} عبارةً عمّا جرى بينَهما. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ} عَمَلَ عَشْرِ حِجَجٍ {فَمِنْ عِندِكَ} فإتمامُه من عندك. والمعنى: فهو من عِندِك لا من عِنْدِي، يعني: لَا أُلزِمُكَهُ ولا أَحتِمُه عليك، ولكنّك إنْ فعلتَه فهُوَ منكَ تَفَضُّلٌ وتَبرُّع، وإلاّ فلا عَلَيْك {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزامِ أتمِّ الأجَلَينِ وإيجابِه. فإن قلتَ: ما حقيقةُ قولِهم: شقَقْتُ عليه، الأمرُ؟ قلتُ: حقيقتُه أنَّ الأمرَ إذا تعاظَمَكَ فكأنَّه شقّ عليك ظنُّك باثنَيْنِ، تقولُ تارةً: أُطيقُه، وتارةً: لا أُطيقُه. أو وعَدَهُ المُساهَلةَ والمُسامحةَ من نفسِه، وأنّه لا يَشُقُّ عليه فيما استَاجَرَه له من رَعيِ غَنَمِه، ولا يفعل نحوَ ما يفعلُ المُعاسِرونَ من المُسترعِينَ، من المُناقشةِ في مُراعاةِ الأوقاتِ، والمُداقَّةِ في استيفاءِ الأعمال، وتكليفِ الرُّعاةِ أشغالاً خارجةً من حدِّ الشَّرْط، وهكذا كانَ الأنبياءُ عليهم السلام آخذينَ بالأسْمَحِ في مُعاملاتِ النَّاس.

ومنه الحديثُ: ((كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شريكي، فكانَ خيرَ شريكٍ لا يُدارِي ولا يُشارِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وإنما أرادَ أنْ يكونَ راعيَ غَنَمِه)، غايةُ ما يُقالُ: إنّ هذا عقدٌ فيهِ خطر؛ حيثُ عُلِّقَ بهِ عَقْدُ النكاح، وهذا لا يَقْدَحُ في بابِ النكاح؛ لأنّ النكاح لا يَفْسُدُ بالشروطِ الفاسدة.

قولُه: (فكأنّهُ شَقّ عليكَ ظنُّكَ باثنَيْن)، يريدُ أنّ أصلَ المَشَقّةِ مِنَ الشّقِّ كما قالَ في الأنفال: والمُشاقّةُ مُشتَقّةٌ مِنَ الشّقّ؛ لأنّ كلاًّ مِنَ المُتَعادِيَيْنِ في شَقٍّ خِلافَ شَقٍّ صاحِبِه.

قولُه: (أو وعده المساهلة)، عطفٌ على قولِه:((وما أريدُ أنْ أشُقّ عليكَ بإلزامِ أتمِّ الأجلَيْن)).

قولُه: (كانَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شريكي) الحديثُ رواهُ أبو داودَ عنِ السائبِ بنِ أبي السائبِ

ص: 41

ولا يُمارِي)) وقولُه: {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ اَلْصَّالِحِينَ} يدلُّ على ذلك، يريدُ بالصّلاح: حسنَ المُعاملةِ ووَطاءةَ الخُلُقِ، ولينَ الجانِب. ويجوزُ أن يريدَ الصَّلاحَ على العُموم. ويَدْخُلُ تحتَه حسنُ المُعاملة، والمُراد باشتراطِ مشيئةِ الله فيما وَعَدَ من الصَّلاح: الاتّكالُ على توفيقِه فيهِ ومَعُونَتِه، لا أنّه يستعملُ الصَّلاحَ إن شاءَ الله، وإن شاءَ استعملَ خِلافَه. {ذَلِكَ} مُبتدأ، و {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} خبرُه، وهو إشارةٌ إلى ما عاهَدَهُ عليه شُعَيب، يريد؛ ذلك الذي قلتُه وعاهدتَني فيه وشارطْتَنِي عليه قائمٌ بينَنا جميعًا، لا نَخْرُجُ كلانا عنه، لا أنا عمّا شرطتَ عليَّ ولا أنتَ عمّا شرطتَ على نفسِك. ثمّ قال: أيَّ أجلٍ قضيتُ من الأجَلَيْنِ: أطولَهما الذي هو العَشْر، أو أقصَرَهُما الذي هو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا يُثنونَ ويذكروني؛ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعلَمُكُم به)) فقلت: صدقتَ بأبي وأمي؛ كنتَ شريكي فنِعْمَ الشريك؛ كنتَ لا تُداري ولا تُماري. وفي روايةِ رزين: ((لا تُشاري)) بدلَ ((لا تُداري)). قالَ في ((الفائق)): المُماراة: المجادَلة، من: مَرْيِ الناقة؛ لأنُه يستخرجُ ما عندَهُ مِنَ الحُجّة. والمُداراة: المُخاتَلة، من: داراه؛ إذا خَتَلَه. ويكونُ تحقيقُ المداراةِ وهي مدافعةُ ذي الحقِّ عنْ حقِّه. والمشاراةُ: المُلاجّة.

قولُه: (لا أنّهُ يَستعمِلُ الصّلاح)، أي ليسَ معنى ((إنْ شاءَ الله)) التعليقَ كما هوَ على ظاهرِه؛ إنما هوَ التبرُّكُ واستنزالُ التوفيق. ونحوُهُ قولُ أصحابِ الشافعي: أنا مؤمِنٌ إنْ شاءَ الله.

قولُه: (قائمٌ بَيْنَنا)، خبرٌ لقولِه:((ذلكَ الذي قُلْتُه))، أي: مُراعًى بَيْنَنا نتعاهدُهُ أنا وأنت؛ فيكونُ كالقائم، وهوَ على منوالِ قولِه:{اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلْصَّلَواةَ} [المائدة: 55، الأنفال: 3، النمل: 3، لقمان: 4] إذا أُريدَ بالإقامةِ التجلُّد؛ مِنْ قولِهم: قامَ بالأمر، وقامتْ الحربُ على ساقِها.

قولُه: (لا يخرُجُ كِلانا)، ويجوز:((لا نخرُجُ)) بالنونِ على تأكيدِ ((كلانا)) للضمير؛ كقولِه: ((ويعلمُ سنلقاهُ كِلانا)) بالنونِ والياء.

ص: 42

الثَّمان {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: لا يُعتَدى عليَّ في طلبِ الزِّيادةِ عليه. فإن قلتَ: تصوُّرُ العُدوانِ إنَّما هو في أحدِ الأجَلَيْن الذي هو الأقصَرُ؛ وهو المُطالبةُ بَتتِمَّةِ العَشْر، فما معنى تعليقِ العُدوانِ بهما جميعًا؟ قلتُ: معناهُ كما أنِّي طُولِبْتُ بالزِّيادةِ على العَشْرِ كان عُدوانًا لا شكَّ فيه، فكذلك؛ إن طُولِبتُ بالزِّيادةِ على الثَّمان. أرادَ بذلك تقريرَ أمرِ الخيار، وأنّه ثابتٌ مُستقِر، وأنَّ الأجلين على السَّواءِ: إمّا هذا وإمّا هذا من غيرِ تَفاوُتٍ بينَهُما في القضاءِ، وأمّا التَّتمّةُ فموكُولةٌ إلى رأيي: إن شئتُ أتيتُ بها، وإلاّ لم أُجْبَرْ عليها. وقيل: معناه فلا أكونُ معتديًا، وهو في نفيِ العُدوانِ عن نفسِه، كقولِك: لا إثمَ عليَّ، ولا عليَّ. وفي قراءةِ ابنِ مسعودٍ:(أيَّ الأجلينِ ما قضيتُ). وقرئَ: (أيْما) بسُكونِ الياءِ، كقولِه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقُرِئَ ((أيْما)) بسكونِ الياء)، قالَ ابنُ جِنِّي: ((هيَ قراءةُ الحَسَن، وفي تخفيف هذهِ الياءِ طريقان:

أحدُهما: تضعيفُ الحرف، وقد امتدَّ عنهُمْ حذفُ أحدِ المثلَيْن؛ نحو: أحَسْتُ وأمَسْتُ.

والآخرُ: أنّ الياءَ حرفٌ ثقيلٌ مُنفَرِدة؛ فكيفَ بِها إذا ضُعِّف؟ واعلَمْ أنّ ((أيا)) عندَنا مِمّا عينُهُ واوٌ ولامُهُ ياء؛ فهوَ مِنْ بابِ ((أوَيْت)) قياسًا واشتقاقًا. أما القياسُ؛ فإنّ الأصلَ ((أوي)) فاجتمعَ الواوُ والياء، وسُبِقَتِ الواوُ بالسكونِ فقُلِبَتْ ياءً وأُدغِمَت. وأما الاشتقاقُ؛ فإنها أينَ وقَعَتْ هيَ بعضٌ مِنْ كل، كقولِنا: أيُّ الناسِ عندَك؟ وبعضُ الشيءِ آوٍ إلى جميعِه؛ فأصلُها على هذا ((أوي)) ثُمّ أُدغِمَتْ كما مضى. فإذا حُذِفَتِ الياءُ تخفيفًا؛ فإنها الثانية، فإذا زالتِ الثانية؛ أَوْجَبَ القياسُ أنْ تعودَ الأولى إلى أصلِها وهوَ الواو؛ فيُقال: أَوْ ما الأجَلَيْنِ قَضَيْت. والذي يَحْسُنُ عندِي إظهارُ العينِ ياء، وإنما حُذِفَتِ اللامُ تخفيفًا وهيَ مَنْوِيّةٌ مُرادة؛ فقُلِبَتِ العينُ ياءً لِيَدُلّ على إرادةِ الياءِ هيَ اللام، كما صَحّتِ الواوُ الثانيةُ في

ص: 43

تنَظَّرْتُ نَصرًا وَالسِّماكَينِ أيهُما

عَليَّ من الغَيثِ استُهِلَّت مَواطرُه

وعن ابنِ قُطيب: (عِدوان)، بالكَسْر. فإن قلتَ: ما الفرقُ بينَ موقِعَيْ (ما) المَزيدةِ في القِرَاءَتَيْن؟ قلتُ: وقعَتْ في المُستفيضةِ مؤكِّدةً لإبهام، أيْ: زائدة في شياعها، وفي الشّاذّةِ تأكيدًا للقضاء، كأنّه قالَ: أيّ الأجَلَينِ صمَّمْتُ على قضائِه وجرَّدْتُ عزِيمَتِي له. الوكيلُ: الذي وُكِلَ إليه الأمر، ولمّا استعملَ في موضعِ الشّاهدِ والمُهيمِنِ والمُقيت، عُدّيَ بعلي لذلك. رُويَ أنَّ شُعيبًا كانت عندَه عَصَا الأنبياءِ فقال لمُوسى باللَّيل: ادخُل ذلك البيتَ فخُذْ عصًا من تلكَ العصيّ. فأخذَ عصًا هبطَ بها آدمُ من الجنّة، ولم يزلِ الأنبياءُ يتوارثُونها حتّى وقعتْ إلى شعيب، فمسَّها وكان مكفوفًا، فضنَّ بها فقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولِه: ((وكَحّلَ العينَيْنِ بالعواور)) دَلالةً على الياءِ في ((العواوير))، وإنما حُذِفَتْ استحسانًا وتخفيفًا لا وجوبًا. وأنْشَدَنا أبو عليِّ للفرزدق:

تَنَظّرْتُ نَصْرًا والسّماكَيْن

البيت). تَمّ كلامُ ابنِ جِنِّي.

العوّار: الجبان، والجمع: العواوير، وإنْ شِئْتَ لَمْ تُعوِّضْ في الشعر، وقُلت: العواور. تَنَظّرْتُ: أي انتَظَرْت. والسّماكان: نجمان: الأعزل: وهو الذي لا شيءَ بَيْنَ يَدَيْه، والرامحُ: هوَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ الكواكب. وهلّ السحابُ واستَهَلّ: إذا انصَبّ شديدًا، و ((نصرًا)) اسمُ الممدوح، وأَيْهُما أصلُه: أَيُّهُما؛ فسَكّنَ الياءَ للضرورة، و ((من)) -في ((مِنَ الغَيْث)) - للبيان، والمواطِر: جمعُ ماطِرة؛ أي: سحابةٌ ماطِرة. المعنى: انتَظَرْتُ نصرًا ونَوْءَ السماكَيْن، أَيُّهُما استَهَلّتْ مَواطرُه عليّ مِنَ الغَيث؛ لأني لَمْ أُفرِّقْ بَيْنَ النّصْرِ وبَيْنَ السماكَيْنِ في الجُود.

قولُه: (وفي الشاذة)، أي قراءةِ ابنِ مسعود؛ لأنّ ((ما)) على المشهورةِ: تأكيدٌ للمفعول، وفيهِ إيهام؛ فزادَ في إيهامِه. وفي الشاذّةِ: تأكيدٌ للفعلِ فزادَ في تأكيدِ إسنادِه.

ص: 44

غيرَها، فما وقع في يدهِ إلاّ هي سبعَ مرات، فعَلِمَ أنَّ له شأنّا. وقيل: أخَذَها جبريلُ بعدَ موتِ آدم، فكانتْ معه حتّى لقيَ بها مُوسى ليلاً. وقيل: أودَعَها شُعيبًا مَلَكٌ في صورةِ رجُل، فأمر بِنتَه أن تأتِيَه بعصا، فأتتْه بها فردَّها سبعَ مرّات، فلم تقعْ في يدِها غيرُها، فدفَعَها إليه، ثمّ نَدِمَ لأنَّها وديعةٌ، فتَبِعَه فاختصما فيها، ورضيا أن يَحكُمَ بينَهُما أوَّلُ طالعٍ، فأتاهُما المَلَكُ فقالَ: ألقِياها؛ فمن رفعها فهي له، فعالجها الشَّيخُ فلم يُطِقْها، ورفعها مُوسى.

وعن الحسَنِ: ما كانتْ إلا عصًا من الشجر اعتَرَضَها اعتراضًا. وعن الكلبيّ: الشجرةُ التي منها نُوديَ شجرةُ العَوْسَج، ومنها كانت عصاهُ. ولمّا أصبحَ قال له شعيبٌ: إذا بلغتَ مَفرِقَ الطَّريقِ فلا تأخُذْ على يمينِك، فإنَّ الكَلأَ وإنْ كان بها أكثر، إلاّ أنّ فيها تِنِّينًا أخشاهُ عليك وعلى الغنم، فأخذتِ الغنمُ ذاتَ اليَمِين، ولم يقدرْ على كفِّها، فمشى على أثَرِها فإذا عشبٌ وريفٌ لم يَرَ مثلَه، فنامَ فإذا بالتِّنِّينِ قد أقبل، فحاربَتْه العصا حتّى قتلَتْه وعادت إلى جنبِ مُوسى داميةً، فلمّا أبْصَرَها داميةً والتِّنِّينُ مقتولاً ارتاحَ لذلك، ولما رجع إلى شعيبٍ مسَّ الغنم، فوجَدَها ملأي البُطونِ غزيرةَ اللَّبَن، فأخبَرَه مُوسى ففرِحَ، وعلِمَ لمُوسى والعصا شأنّا، وقال له: إنِّي وهبتُ لك من نَتاجِ غَنَمي هذا العامَ كُلَّ أدرَعَ وودرعاءَ، فأُوحيَ إليه في المنام: أن اضْرِبْ بعصاك مُستقى الغنم، ففعل، ثمّ سقي فما أخطأتْ واحدةً إلاّ وضعتْ أدرعَ ودرعاء، فَوَفى له بِشَرْطه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (اعتَرَضَها اعتراضًا)، أي: أخَذَها مِنْ عُرْضِ الشّجَر، أي: واحدٍ مِنَ الأشجار.

الجوهري: قولُهم: اضرِبْ عَرْضَ الحائط؛ أي: اعتَرِضْهُ حيثُ وَجَدْتَ منهُ أيّ ناحيةٍ مِنْ نَواحِيه.

قولُه: (أَدْرَعَ ودَرْعاء)، الجوهري: الأَدْرَعُ مِنَ الخيلِ والشاءِ: ما اسْوَدّ وابْيَضّ سائرُه، والأنثى: دَرْعاء.

ص: 45

[{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَأَىهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ *اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 29 - 32]

سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأجلَينِ قضَى موسَى؟ فقال: (أبعدَهما وأبطأهما).

وروي أنّه قال: (قَضى أوفَاهُما، وتزوَّج صُغرَاهُما)، وهذا خلافُ الرِّوايةِ التي سبَقَتْ. الجَذوَةُ- باللُّغاتِ الثّلاث، وقُرئَ بهنَّ جميعًا-: العُودُ الغَلِيظ، كانت في رأسِه نارٌ أو لم تَكُن، قال كُثَيِّرُ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الأجلَيْنِ قضى)، الحديثُ مِنْ روايةِ البخاريِّ عنْ سعيدِ ابن جُبير قال: سألَنِي يهودي: أيّ الأجلَيْنِ قضى موسى؟ فقُلْت: لا أدري، حتى أَقْدَمَ على حَبْرِ العرب، فسألتُ ابنَ عباس، فقال: قضى أكثَرهُما وأطيَبَهما؛ لأنّ رسولَ الله إذا قالَ فعل.

قولُه: (قضى أوفاهما)، أي: أطيَبَهما.

قولُه: (وهذا خلافُ الروايةِ التي سَبَقَتْ)، أي: تزوّجَ صُغْراهُما، فإنهُ قال: كُبْراهُما كانتْ تُسمّى ((صفرا)) والصُّغرى ((صفيرا))، وصفرا هيَ ذهبَتْ به، وهيَ التي تزوّجَها.

قولُه: (وقُرئَ بِهنّ جميعًا)، عاصم: بفتحِ الجيم، وحمزة: بضمِّها، والباقون: بكسرِها.

((الجذوة)) مبتدأ، والخبرُ ((العود))، وما بينهما معترضة.

ص: 46

باتَت حَواطِبُ ليلى يَلتمِسنَ لَها

جَزلَ الجُذي غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ

وقال:

وألقَى على قَبسٍ من النَّارِ جَذوَةً

شَدِيدًا عَليهِ حَرُّها وَالتِهابُها

{مِن} الأُولى الثّانيةُ لابتداءِ الغاية، أي: أتاهُ النِّداءُ من شاطِئ الوادي من قِبَل الشَّجرة. و {مِنَ اَلْشَّجَرَةِ} بدَلٌ من قولِه: {مِن شَاطِئِ أَلْوَادِ} ، بدلُ الاشتِمال؛ لأنّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: الجذوة: التي تبقى مِنَ الحطبِ بعدَ الالتهاب، الجمع: جُذّي بضمِّ الجيمِ وكسرِها. قالَ الخليل: يُقال: جَذا يجذو، نحو: جثا يجثو؛ إلا أنّ ((جذا)) أدلُّ على اللزوم، يُقال: جَذا القُرادُ في جنبِ البعير؛ إذا اشتدَّ التزاقُهُ به، ومنه: أجْذَتِ الشجرة: صارَتْ ذاتَ جَذْوَة، وفي الحديث:((كَمَثَلِ الأَرزةِ المُجذِية)).

الأرزةُ بفتحِ الراءِ وسكونِها: شجرةُ الأَرْزَن، وهوَ خشبٌ معروف، وقيل: هوَ الصنوبَر.

قولُه: (باتَتْ حَواطِبُ ليلى) البيت، الحواطِب: الجواري اللاتي يطلُبْنَ الحَطَب، والجزل: الحَطَبُ اليابِسُ العظيم، والخَوّار: الضعيف؛ مِنَ الخَوْر، يقال: رُمْحٌ خَوّار، ورَجُلٌ خَوّار. والدّعَر: مصدرُ دَعَرَ دَعَرًا؛ فهوَ عودٌ دَعِر: رديءٌ كثيرُ الدُّخان، ومنهُ أُخِذَتِ الدّعارةُ وهي: الفِسْقُ والخُبْث.

قولُه: (وألقى على قبس) البيت، الجَذْوة: القَبْسةُ مِنَ النار، والمرادُ بها النميمة؛ أي: ألقى على قبسٍ جَذْوةً مِنَ النميمة اشتدّ عليهِ حرُّها والتهابُها؛ لأنها هَيّجَتْ نارَ العداوةِ والفتنةِ بينَ القوم.

استشهدَ بالبيتِ الأوّلِ على أنّ الجذوة: العودُ الغليظُ وليسَ في رأسِهِ نار، وبالبيتِ الثاني على أنّ الجذوة: هي التي على رأسِها نار.

ص: 47

الشَّجرةَ كانتْ نابتةً على الشاطِئ، كقولِه تعالى:{لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِاَلرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] وقُرئَ: {اَلْبُقْعَةِ} بالضَّمِّ والفتح. و {اَلرَّهْبِ} بفتحَتَيْن، وضمَّتَيْن، وفتح ٍ وسُكون، وضَمِّ وسكون: وهو الخوف. فإن قلتَ: ما معنى قولِه: {وَاَضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ} ؟ قلتُ: فيه معنَيان، أحدُهما: أنَّ موسى عليه السلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (كقولِه: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِاَلرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ})، يعني: إبدالُ {مِنَ اَلشَّجَرَةِ} مِنْ قولِه: {مِن شَاطِئ اَلْوَادِ} بإعادةِ العاملِ بدلَ الاشتمالِ كإبدالِ {لبُيُوتِهِمْ} مِنْ قولِه: {لِمَن يَكْفُرُ بِاَلرَّحْمَانِ} .

قولُه: (وقُرِئَ: {اَلْبُقْعَةِ} بالضمِّ والفتح)، بالضمّ: سبعة، وبالفتح: شاذّة.

قولُه: (و {الرَّهْبِ} بفتحتَيْن، حفص:{اَلرَّهْبِ} بفتحِ الراءِ وإسكانِ الهاء، والحرميان وأبو عمرو: بفتحِهما، والباقون: بضمِّ الراءِ وإسكانِ الهاء.

الراغبك الرهب: مخافةٌ معَ تحرُّز.

قولُه: (ما معنى [قوله: ] {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ}؟ )، يعني: عَلّلَ الله تعالى قولَه: {وَلَا تَخَفْ} بقولِه: {إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ} وعقّبَهُ بقولِه: {أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} سدًّا يَعْضُدُ التعليل؛ فما موقعُ قولِه: {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ} ؟

وأجاب: أنّ موسى عليه السلام خافَ خوفًا شديدًا وأُزعِجَ إزعاجًا قويًّا، كأنهُ قبلَ التّوَلِّي ألقى العصا حينَ صارتْ حيّةً بيدِه؛ فلّما أرادَ الله أنْ يُؤَمِّنَ جَاشَهُ ويُزيلَ خَوْفَهُ بها ويَنْهاهُ عمّا صَدَرَ عنهُ مِنَ الاتِّقاءِ باليدِ لغضاضتِه، ويَمْنَحَه بَدَلَهُ مُعجِزةً أخرى؛ قالَ أوّلاً:{وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ} إزالةً للخَوْف، وقالَ ثانيًا:{أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} امتنانًا عليهِ بمَوْهِبةٍ أخرى؛ مزيدًا لانشراحِ صدرِه، وقالَ ثالثًا: {وَأضْمُمْ

ص: 48

لمّا قلبَ الله العصا حيّةً: فَزِعَ واضطربَ، فاتَّقاها بيدِه كما يفعلُ الخائفُ من الشَّيءِ، فقيلَ له: إنَّ اتِّقاءَك بيدِك فيه غَضاضةٌ عند الأعداء. فإذا ألقَيْتَها فكما تنقلِبُ حيّةً، فأدخِلْ يدَكَ تحتَ عَضُدِك مكانَ اتِّقائِك بها، ثُمَّ أخرِجْها بيضاءَ ليَحصُلَ الأمرانِك اجتنابُ ما هو غضاضةٌ عليك، وإظهارُ مُعجِزةٍ أُخرى. والمرادُ بالجَناحك اليدُ؛ لأنَّ يدَيِ الإنسانِ بمنزلة جناحَيِ الطّائر. وإذا أدخلَ يدَه اليُمنى تحتَ عَضُدِ يدِه اليُسرى، فقد ضمَّ جناحَه إليه. والثّاني: أن يرادَ جناحِه إليه: تجلُّدُه وضبطُه نفسَه. وتشدُّدُه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} تعليمًا لهُ مكانَ اتقائِه بها. وفي الحقيقةِ قولُه: {اسْلُكْ يَدَكَ} ، {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أمرٌ واحد؛ لأنّ معناه: اجعَلْ يَدَكَ اليُمْنى تحتَ عَضُدِكَ اليُسرى؛ لأنّ الجَناحَ عبارةٌ عنِ اليد، لكنْ صيّرَهُما شيئَيْن، ليُعَلِّقَ بكلٍّ غرضًا، وإليهِ الإشارةُ بقولِه:((وإنما كَرّرَ المعنى الواحدَ لاختلافِ الغرضَيْن؛ وذلكَ أنّ الغَرَضَ في أحدِهِما خروجُ اليدِ بيضاء، والثاني إخفاءُ الرهب)) والإمامُ نقلَ الجوابَيْنِ مِنْ غيرِ زيادةٍ ونقصان، وقال: أحسنُ الناسِ كلامًا فيهِ صاحبُ ((الكشاف)).

قولُه: (فاتّقاها بيدِه)، أي: جَعَلَ يَدَهُ حاجزةً بينَهُ وبيْنَ المخوفِ كما في حديثِ عليٍّ رضي الله عنه: ((كنا اتّقَيْنا إذا اتّقَيْنا برسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فلَمْ يَكُنْ إلى العدوِّ أقربُ مِنه)).

قولُه: (غضاضة)، يُقال: غَضّ مِنهُ يَغُضُّ غضاضة؛ أي: وَضَعَ ونَقَصَ مِنْ قَدْرِه. و ((كما)) -في قولِه: ((فكما تنقلِب)) - مثلُه في قولِ بعضِهِم: كما أنهُ لا يعلمُهُ فغفرَ الله له، نقلَهُ المالكيُّ عنْ سيبويهِ. وقالَ في ((اللُّباب)): الكافُ في قولِهم: كما حَضَرَ زيدٌ قامَ عمروٌ للقِرانِ في الوُقوع.

قولُه: (أنْ يُرادَ بضَمِّ جَناحِهِ [إليه]: تجلُّدُهُ وضبطُهُ نَفْسَه)، يعني: قولُه: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} كنايةٌ عنْ تجلُّدِهِ وضبطِه، وهوَ مأخوذٌ مِنْ فِعْلِ الطائرِ عندَ الأمنِ بعدَ الخوف؛ فيكونُ بهذا الوجهِ مستعارًا على التمثيل، والحاصلُ أنهُ في الأصلِ مستعارٌ مِنْ فعلِ

ص: 49

عندَ انقلابِ العصا حيّةً حتى لا يضطربَ ولا يرهَب؛ استعارةٌ من فعلِ الطّائر؛ لأنَّه إذا خافَ نشَرَ جناحَيْهِ وأرخاهُما. وإلاّ فجناحاه مضمومان إليه مُشَمَّران. ومنه ما يُحكي عن عمرَ بنِ عبدَ العزيزِ رحمه الله أنَّ كاتِبًا له يكتبُ بينَ يدَيْه، فانْفَلَتَتْ منه فَلْتَةُ رِيحٍ، فخَجِلَ وانكَسَر، فقامَ وضربَ بقَلَمِه الأرضَ، فقالَ له عمرُ: خُذ قَلَمَك، واضمُمْ إليك جناحَك، وليُفْرِخ رَوْعُك، فإنِّي ما سمِعْتُها من أحدٍ أكثرَ ممّا سمِعْتُها من نفسِي.

ومعنى قولِه: {مِنَ اَلْرَّهْبِ} من أجلِ الرَّهْب، أي: إذا أصابَكَ الرّهبُ عندَ رُؤيةِ الحيّةِ فاضمُمْ إليك جناحَك: جُعِلَ الرَّهَبُ الّذي كان يصيبُه سببًا وعِلّةً فيما أُمِرَ به من ضَمِّ جناحِه إليه. ومعنى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} ، وقولِه:{أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} على أحَدِ التَّفسِيرَينِ: واحدٌ؛ ولكن خُولِفَ بينَ العِبارَتَيْن، وإنِّما كُرِّرَ المعنى الواحدُ لاختلافِ الغَرَضَيْن؛ وذلك أنَّ الغرضَ في أحَدِهِما خروجُ اليَدِ بيضاءَ وفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الطائرِ عندَ هذهِ الحالةِ، ثُمّ كَثُرَ استعمالُهُ في التجلُّدِ وضَبْطِ النفسِ حتى صارَ مثلاً فيهِ وكنايةً عنه؛ فعلى هذا يكونُ تتميمًا لمعنى {إِنَّكَ مِنَ اَلْأَمِنِينَ} .

قولُه: (وليُفْرٍخْ رَوْعُك)، الأساس: ومِنَ المجاز: أَفْرَخَ رَوْعُك؛ أي: خلا قلبُكَ مِنَ الهَمِّ خُلُوّ البَيْضةِ مِنَ الفَرْخ، هذا ظاهر. وأما ((أفرخ روعك)) فمَنْ رواهُ بالفتح فوجهُهُ أنْ يُرادَ زوالُ ما يتوقعُهُ المُرْتاع؛ فإذا زالَ انقلبَ الرّوْعُ أمنًا. جَعَلَ زوالَ المتوقّعِ الذي هوَ مُتعلّقُ الرّوْع بمنزلةِ الفَرْخِ مِنَ البيضة، وكَثُرَ حتى صارَ في معنى الكشفِ والزوال.

قولُه: ((على أحد التفسيرَيْن)، وهوَ الوجهُ الأوّل؛ لأنّ المعنى على ما سَبَق: فأَدْخِلْ يدَكَ اليُمنى تحتَ عَضُدِكَ اليُسرى؛ فخُولِفَ بيْنَ العبارتَيْنِ بأنْ ذَكَرَ اليدَ أوّلاً والجناحَ ثانيًا، وإنما كرّرَ المعنى الواحدَ لِيُناطَ بكُلِّ مرّةٍ معنَى مُخالِف. وعلى الوجهِ الثاني قولُه:{أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} مُجْرى على حقيقتِهِ كما في الأوّل؛ لكنّ قولَه: {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} كنايةٌ عنِ التجلُّدِ والتشدُّد.

ص: 50

الثّاني: إخفاءُ الرَّهَب. فإن قلتَ: قد جُعِلَ الجناحُ وهو اليَدُ في أحَدِ المَوضِعَيْنِ مضمُومًا وفي الآخَرِ مَضمُومًا إليه، وذلك قولُه:{وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقولُه: {وَأضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَنَاحِكَ} [طه: 22] فما التّوفيقُ بينَهما؟ قلتُ: المرادُ بالجَناحِ المضموم: هو اليَدُ اليُمنى، وبالمَضْمُومِ إليه: اليدُ اليُسرى وكلُّ واحدةٍ من يُمنى اليَدَيْنِ ويُسراهُما: جَناحٌ. ومن بِدَعِ التّفاسير: أنَّ الرَّهْبَ: الكُمُّ، بلُغةِ حِمْيَرَ، وأنَّهم يقُولُون: أعطِني ممّا في رَهْبِك، ولَيْتَ شِعرِي كيفَ صحَّتُه في اللّغة؟ ! وهل سُمِعَ من الأثْباتِ الثِّقاتِ الّذينَ تُرتَضى عربِيَّتُهم؟ ثمّ ليتَ شعريْ كيفَ موقِعُه في الآية؟ وكيف تطبيقُه المَفْصِلَ كسائِرِ كلماتِ التَّنزيل؟ على أنّ موسى صلواتُ الله عليه ما كان عليهِ ليلةَ المُناجاةِ إلاّ زُرْمانِقةٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ومِنْ بِدَعِ التفاسير: أنّ الرّهْب: الكُمّ، بلُغةِ حِمْيَر)، قالَ مُحيي السُّنة: قالَ الأصمَعيّ: سمعتُ بعضَ الأعرابِ يقولُ: أعطني ما في رَهبِك؛ أي: في كُمِّك. أي: اضمُمْ إليكَ يَدَكَ وأخرِجْهُ مِنَ الكُم؛ لأنُه تناولَ العصا ويدُهُ في كُمِّهِ وهوَ بعيد؛ ولهذا قال: ((ليت شعري كيفَ موقِعُهُ في الآية؟ )).

قولُه: (مِنَ الأثبات)، الأساس: هوَ ثَبْتٌ مِنَ الأثبات؛ إذا كانَ ذا حُجّةٍ لِثِقَتِهِ في روايته، ووجدْتُ فلانًا مِنَ الثقاتِ والأعلامِ الأثبات.

قولُه: (زُرْمانِقة)، النِّهاية: وفي حديثِ ابنِ مسعود: أنّ موسى عليه السلام أتى فرعونَ وعليهِ زُرْمانِقة، أي: جُبّةُ صُوف. والكلمةُ أعجمية، قيل: هيَ عبرانية، وقيل: فارسية؛ أصلُه: أُشْتُرْبانهْ؛ أي: متاعُ الجَمّال.

ص: 51

من صُوفٍ لا كُمَّيْ لها. {فَذَانِكَ} قرئَ مُخفَّفًا ومُشدَّدًا، فالمُخَّففُ مُثنّى ذاك. والمُشدَّدُ مُثنّى ((ذلك)). {بُرْهَانَانِ} حُجَّتانِ بَيِّنَتانِ نيِّرَتان. فإنْ قلتَ: لمَ سُمِّيَتِ الحُجّةُ بُرهانًا؟ لبَياضِها وإنارَتِها من قولِهم للمرأةِ البيضاءِ: بَرَهْرَهةٌ، بتكريرِ العَيْنِ واللاّم معًا. والدَّليلُ على زِيادةِ النُّونِ قولُهم: أَبرَهَ الرَّجُلُ، إذا جاءَ بالبُرهان. ونظيرُه تسمِيَتُهُم إيّاها سلطانًا؛ من السُّليطِ وهو الزَّيتُ، لإنارَتِها.

[{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} 33 - 34]

يقالُ: رَدَاتُه: أَعَنتُهُ. والرِّدْءُ: اسمُ ما يُعانُ به، (فِعْلٌ) بمعنى (مفعولٍ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لا كُمّيْ لها)، مثل: لا غُلامَيْ لك، ولا أبا لك، في سقوطِ النونِ وإقحامِ اللامِ بيْنَ المضافِ والمضافِ إليهِ لتأكيدِ الإضافة.

قولُه: (قُرِئَ مُخفّفًا ومُشدّدًا)، ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو:((فذانِّك)) بتشديدِ النون، والباقون: بتخفيفِها.

قولُه: (والمُشَدّدُ مُثَنّى ((ذلك)))، قيل: أصلُه: ذانِ لك؛ قُلِبَتِ اللامُ نونًا وأُدغِمَتِ النونُ في النون. وقالَ الزجّاج: وكأنَّ ((ذانِّكَ)) مُشَدّدًا تثنيةُ ((ذلك))، و ((ذانِكَ)) مخفّفًا تثنيةُ ((ذاك))؛ جَعَلَ بَدَلَ اللام تشديدَ النونِ في ((ذانّك)).

قولُه: (بَرَهْرَهَة)، الأساس: أَبْرَهَ فلان: جاءَ بالبُرهان، وبَرْهَنَ مُوَلّد، والبُرهان: بيانُ الحُجّةِ وإيضاحُها؛ مِنَ البَرَهْرَهة، وهيَ البيضاءُ مِنَ الجواري؛ كما اشْتُقّ السلطانُ مِنَ السليطِ لإضاءتِه.

قولُه: (والرِّدْء: اسمُ ما يُعانُ به)، الراغب: الرِّدْءُ الذي يَتْبَعُ غيرَهُ مُعينًا له، وقد أردأني، والرِّدءُ في الأصلِ مثلُه؛ لكنْ تعورِفَ في المتأخِّرِ المذموم، يُقال: رَدَأَ الشيءُ رداءة؛ فهوَ رديء.

ص: 52

كما أنَّ الدِّفءَ اسمٌ لما يُدفَأُ به. قالَ سلامةُ بنَ جَنْدلٍ:

ورِدئي كُلُّ أبيضَ مَشرَفيٍّ

شَحِيذِ الحَدِّ عَضبٍ ذِي فُلُولِ

وقُرِئَ: (رِدًا) على التخفيف، كما قُرئَ (الخِبَ). {رِدْءًا يُصَدِّ قُنِي} بالرَّفْعِ والجَزْمِ صفةٌ وجوابٌ، ونحو:{وَلِيًّا يَرِثُنِي} سواء. فإن قلتَ: تصديقُ أخيه ما الفائدةُ فيه؟

قلتُ: ليسَ الغَرَضُ بتصديقِه أنْ يقولَ له: صدقتَ، أو يقولَ للناسّ: صدقَ مُوسى، وإنَّما هو أن يُلَخِّصَ بلسانِه الحقَّ، ويَبْسُطَ القولَ فيه، ويُجادِلَ به الكفَّارَ- كما يفعلُ الرَّجُلُ المِنْطِيقُ ذو العارِضةِ، فذلك جارٍ مَجرى التَّصديقِ المُقيَّدِ، كما يُصدَّقُ القَولُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (كما أنّ الدِّفْءَ اسمٌ لِما يُدْفَأُ به)، الجوهري: الدِّفْء: السخونة؛ تقولُ مِنه: دَفِئَ الرجلُ دَفاءة؛ مثل: كَرِهَ كَراهة، وكذلك: دَفِئَ دَفَأً؛ مثل: ظَمِئَ ظَمَأَ، والاسم: الدِّفْءُ، بالكسر، وهو: الشيءُ الذي يُدفِئُك، والجمع: الأَدْفاء.

قولُه: (ورِدْئي كلُّ أبيضَ) البيت، أي: عوني كلُّ سيفٍ مصقولٍ شحيذٍ حديدٍ عَضْبٍ ماضٍ، المَشْرَفيّ: منسوبٌ إلى مشارِفِ الشام، والفُلول: الكَسْرُ في حَدِّ السيف.

قولُه: (وقُرِئَ: ((رِدًا)) على التخفيف)، نافع:((رِدًا)) بفتحِ الدالِ مِنْ غيرِ همز، والباقون: بإسكانِ الدالِ وبالهمز، وحمزة: على مذهبِهِ في الوقف.

قولُه: ({يَصَدِّقُنِي} بالرفعِ والجزم)، عاصمٌ وحمزة، والباقون: بالجزم. وعلى قراءةِ الرفعِ: الجَوابُ محذوف.

قولُه: (ذو العارضة)، النِّهاية: في حديثِ عَمرِو بنِ الأهتم: قالَ للزِّبْرِقان: إنهُ شديدُ العارضة؛ أي: شديدُ الناحيةِ ذو جَلَدٍ وصرامة.

ص: 53

بالبُرهان؛ ألا تَرى إلى قولِه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} ، وفضلُ الفصاحةِ إنَّما يُحتاجُ إليه لذلك، لا لقولِه: صدقتَ؛ فإنَّ سَحْبانَ وباقلاً يستَوِيانِ فيه-، أو يَصلَ جناحَ كلامِه بالبيان، حتّى يُصدِّقَه الذي يَخافُ تكذيبَه، فأُسنِدَ التَّصديقُ إلى هرونَ؛ لأنَّه السببُ فيه إسنادًا مجازيًّا. ومعنى الإسنادِ المجازيِّ: أنَّ التَّصديقَ حقيقةٌ في المُصدِّقِ، فإسنادُه إليه حقيقةٌ، وليس في السَّببِ تصديقٌ، ولكنِ استُعِيرَ له الإسنادُ؛ لابَسَ التَّصديقَ بالتَّسَبُّبِ كما لابَسَهُ الفاعِلُ بالمُباشَرةِ. والدَّليلُ على هذا الوجهِ قولُه:{إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} وقراءة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ويصلَ جَناحَ كلامِهِ بالبيان)، شَبّهَ الكلامَ الماضي بالسّهْمِ المُرْسَل، فإذا وصلَ السّهْمُ بالجَناح؛ قَصَدَ الرّمِيّةَ فلا يلتوِي عندَها، كَذلكَ الكلامُ إذا بُيَنِّ وزِيدَ في بُرْهانِه؛ تَمَكّنَ عندَ السامعِ وأخذَ بمجامعِ قلبِه. والفرقُ بينَ هذا الوجهِ هوَ أنّ هارونَ في الأَوّلِ كانَ ناقلاً لكلامِ موسى عليهما السلام ومؤدِّيًا على وجهٍ أبْيَنَ وأكْشَف؛ فمعنى {يُصَدِّقُنِي}: يُلخِّصُ كلامي، فإنّ الكلامَ المُلَخّصَ مؤثِّر؛ فكأنّهُ يُصدِّقُهُ فيما ادّعاه، والمعنى على الثاني: يؤيّدُ كلامي بالبرهانِ والبيان؛ فيصدِّقني قومي بسَبَبِه. فالمصدِّقُ على الأوّلِ هارون، وعلى الثاني القوم. والأوّلُ مِنْ إطلاقِ المُسَبِّبِ على السّبَب، والثاني مِنَ الإسنادِ المجازي.

قولُه: (ومعنى الإسناد المجازي)، يعني: أنّ التصديقَ حقيقةٌ في القوم وهُمُ الذينَ يباشرونَهُ بأنفسِهم؛ فإسنادُ الفعلِ إليهم حقيقة، وليس في هارون تصديق؛ ولكنْ لمّا كانَ السببَ في التصديقِ استُعيرَ الإسنادُ له، ونحوُه: بني الأميرُ المدينة؛ والأميرُ إنما أمرَ بالبناء، فأسندَ إلى الحاملِ كما أسندَ إلى المباشر.

قولُه: (والدليل على هذا الوجه قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ})، لأنّ التقدير: أرسلْهُ

ص: 54

من قرأ: (ردءًا يُصَدِّقُوني)، وفيها تقوِيةٌ للقراءةِ بجَزْمِ (يُصَدِّقْني).

[{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} 35]

العَضُدُ: قَوامُ اليَدِ، وبِشِدَّتِها تشتَدُّ. قالَ طَرَفةُ:

أبَني لُبَينَى لَستُمُ بِيَد

إلاَّ يدًا ليسَتْ لَها عَضُدُ

ويُقالُ في دُعاءِ الخَير: شَدَّ الله عَضُدَك، وفي ضِدِّه: فتَّ الله في عَضُدِك. ومعنى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} سنُقَوِّيك به ونعينُك، فإِمّا أن يكونَ ذلك لأَنَّ اليَدَ تشتَدُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معي ليكونَ سببًا لأنْ يُصدِّقَني قومي. فقيلَ له: لِمَ ذلك؟ فأجاب: إني أخافُ أنْ يُكذِّبون. وهوَ الوجه؛ لأنُه مقابلٌ لقولِه: {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} . ولمّا كانَ جُلّ غَرَضِهِ عليه السلام الدينُ وكانَ يُؤْثِرُه على حظِّ نفسِه؛ جاءَ بـ ((أنْ)) في هذا التعليل، وبالفاءِ في الأوّل؛ لأنُه تعليلٌ لتصديقِ القوم، كأنُه قيل: أَرْسِلْهُ معي رِدْءًا لأَن يُصَدِّقْني قومي؛ لأني أخافُ أنْ يُكذِّبون.

قولُه: (وفيها)، أي: في قراءةِ ((يُصدِّقوني)) تقويةٌ لقراءةِ مَنْ جَزَم؛ لأنّ ((يُصدِّقوني)) لا يصلحُ أنْ يكونَ صفةً لقولِه: {رِدْءًا} ؛ لعَدَمِ المطابقة؛ فتعيّنَ أنْ يكونَ جوابًا؛ وذلكَ لأنّ كلتا القراءتَيْنِ تدلُّ على أنّ الإرسالَ علةٌ للتصديق، وتقريرُه: أنْ يُصدِّقوني؛ استئنافٌ كأنهُ قيل: لِمَ تَرسِلُه؟ فقيلَ في الجواب: يُصدِّقوني أي: لَأجْلِ أنْ يُصَدِّقوني؛ اعتمادًا على فهمِ السامِع. و ((يُصدِّقْني)) بالجزمِ جوابُ الأمر؛ فيكونُ معناه: أنْ تُرسِلَهُ معي يُصَدِّقْني؛ فالأوّلُ سببٌ للثاني.

قولُه: (أَبَني لُبَيْني) البيت، لُبَيْني: مُصَغّرٌ اسمُ أَمة؛ عَيّرَهُم بكَوْنِهم أبناءَ أَمة، ونَصَبَ ((يدًا))، والمستثنى منهُ مجرورٌ بالباء؛ فجعلَ الاستثناءَ مِنَ مَوضِعِ الباءِ لا مِنْ لفظِه.

قولُه: (ومعنى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}: سنُقَوِّيكَ بهِ ونُعينُك؛ فإمّا أنْ يكونَ)،

ص: 55

بِشِدّةِ العَضُد. والجملةُ تقوي بشِدّةِ اليَدِ على مزاوَلةِ الأُمور. وإمّا لأنَّ الرَّجُلَ شُبِّهَ باليَدِ في اشتِدادِها باشتدادِ العَضُد، فجُعِلَ كأنَّه يَدٌ مُشتدّةٌ بعَضُدٍ شديدةٍ. {سُلْطَانًا} غلبةً وتسَلُّطًا. أو حُجّةً واضِحةً {بِئَايَتِنَا} متعلِّقٌ بنحوِ ما تعلَّقَ به {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} ، أي: اذهبا بآياتِنا. أو بـ {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} ، أي: نسلِّطُكما بآياتِنا. أو بـ (لا يَصِلون)، أي: تمتنِعُون منهُم بآياتِنا. أو هو بيان لـ {اَلْغَالِبُونَ} لا صلةٌ، لامْتِناعِ تقدُّم الصِّلةِ على المَوْصُول. ولو تَأَخَّرَ لم يَكُنْ إلاّ صلةً له. ويجوزُ أن يكونُ قَسَمًا جوابُه:{فَلَا يَصِلُونَ} ، مُقدَّمًا عليه. أو من لَغْوِ القَسَم.

[{لَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 36]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعني: أنّ قولَه: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} عبارةٌ عنْ قولِنا: سنُقَوِّيك، وطريقُهُ وجهان: أحدُهما: أنْ يكونَ مجازًا مُرسلاً مِنْ بابِ إطلاقِ السّبَبِ على المُسَبّبِ بمَرْتَبَتَيْن؛ فإنّ الأصل: سنُقَوِّيك به، ثُمّ نُقَوِّي يَدَكَ به، ثُمّ سَنشُدُّ عَضُدَكَ به.

وثانيهما: أنْ يكونَ استعارة؛ شَبّهَ حالةَ موسى بالتّقَوِّي بأخيهِ بحالةِ اليدِ المُتَقَوِّي بالعَضُد؛ فجُعِلَ كأنُهُ يدٌ مُشتَدّةٌ بعَضُدٍ شديدة.

قولُه: (أو هوَ بيانٌ لـ {أَلْغَالِبُونَ} لا صِلة)، كأنُه قيل: بماذا نَغْلِبُ؟ وأُجيبَ: {بِئَايَتِنَا} .

قولُه: (قَسَمًا جوابُه: {فَلَا يَصِلُونَ})، فيهِ تساهُل؛ لأنّ جوابَ القَسَمِ لا يتقدّمُ عليه، ولا يكونُ فيهِ فاء. ولعلّ مُرادَهُ أنّ ما قبلَهُ يَدُلُّ على أنّ جوابَهُ محذوف.

قولُه: (أو مِنْ لَغْوِ القَسَم)، قيل: أيْ لا جوابَ له؛ يعني: مطلقًا لا لفظًا ولا تقديرًا؛ بلْ جيءَ بهِ مُقحَمًا لمجرّدِ التأكيد؛ كقولِك: زيدٌ وأبيكَ منطلق. قالَ صاحبُ ((الفرائد)): جوابُه محذوف؛ لأنّ التقديرك زيدٌ منطَلِقٌ والله إنّ زيدًا لمنطَلِق، تُرِكَتْ لِدَلالةِ الجملةِ المذكورة. وإنّما سُمِّيَ لَغْوًا؛ لأنّ القائلَ غيرُ قاصدٍ القَسَم، وإنّما أُجرِيَ على لسانِهِ بطريقِ العادة. وقلتُك هذا لا يجوزُ في كلامِ الله المجيدِ لا سيّما مِنَ الله تعالى.

ص: 56

{سِحْرٌ مُّفْتَرًى} سِحْرٌ تعمَلُه أنتَ، ثمّ تفتَرِيهِ على الله. أو: سحرٌ ظاهرٌ افتِراؤُه. أو: موصوفٌ بالافتراءِ أنواعِ السِّحرِ، وليسَ بِمُعجزةٍ من عندِ الله. {فِي آبَائِنَا} حالٌ منصوبةٌ عن هذا، أي: كائنًا في زمانِهِم وأيّامِهِم، يريدُ: ما حُدِّثْنا بكَونه فيهم، ولا يخلو من أن يكُونُوا كاذِبِينَ في ذلك، وقد سمِعُوا وعَلِمُوا بنَحْوِه. أو يريدوا أنَّهم لم يسمَعُوا في فَظاعتِه. أو: ما كانَ الكُهّانُ يُخبِرُون بظُهورِ مُوسى ومجيئهِ بما جاءَ به. وهذا دليلُ أنَّهم حُجُّوا وبُهِتُوا، وما وَجَدُوا ما يدفَعُون به ما جاءَهم من الآيات إلاّ قولهم: هذا سحرٌ وبِدْعةٌ لم يسمعوا بمِثْلِها.

[{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 37]

يقولُ: {رَبِّي أَعْلَمُ} منكم بحالِ مَن أَهَّلَهُ الله للفَلاحِ الأَعْظمِ، حيث جعلَه نبيًّا وبَعَثَهُ بالهُدى، ووَعَدَهُ حُسنَ العُقبى: يعني نفسَه، ولو كانَ -كما تزعمُون- كاذبًا ساحِرًا مُفتَرِيًا لما أهَّلَهُ لذلك؛ لأنّه غنِيٌّ حَكِيمٌ لا يُرسِلُ الكاذِبِينَ، ولا يُنَبِّئُ السَّاحِرِينَ، ولا يُفلِحُ عندَه الظّالمون. و {عَاقِبَةُ اَلْدَّارِ} هي العاقبةُ المحمودةُ. والدَّلِيلُ عليه قولُه تعالى:{أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ} وقولُه: {وَسَيَعْلَمُ اَلْكُفَّارُ لِمَن عُقْبَى اَلْدَّارِ} [الرعد: 42]، والمُرادُ بالدّارِ: الدُّنيا، وعاقِبتُها وعُقباها: أن تُختَمَ للعبدِ بالرَّحمةِ والرِّضوان وتَلَقِّي الملائكةِ بالبُشرى عندَ الموَت. فإن قلتَ: العاقبةُ المحمودةُ والمذمومةُ؛ كِلْتاهُما يصحُّ أنْ عاقبةَ الدّار؛ لأنَّ الدُّنيا إمّا أن تكون خاتِمتُها بخيرٍ أو بشرٍّ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أو موصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أنواعِ السِّحْر)، هذا بناءٌ على مذهبِهِ أنّ السِّحْرَ لا أَثَرَ في لهُ في نفسِه، وأنهُ حِيلةٌ وتَمْويه؛ كما نَصّ عليهِ في البقرةِ عندَ قولِه:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. فعلى هذا الوجهِ {مُّفْتَرًى} باقٍ على إطلاقِه، وهوَ صفةٌ مؤكِّدة، وعلى الوجهِ الأولِ صفةٌ مُخصّصةٌ مُقيّدةٌ بما ذكَره؛ أي: ما جئتَ بهِ ليسَ بمُعجِز؛ بلْ هوَ سِحْرٌ تفتريهِ أنتَ على الله، أو: ليسَ بمُعجِز؛ بلْ هوَ سحرٌ ظاهرٌ غيرُ خافٍ على أحد.

ص: 57

فَلِمَ اختُصّتْ خاتمتُها بالخَيْرِ بهذه التَّسميةِ دُونَ خاتِمتِها بالشَّرِّ؟ قلتُ: قد وضَعَ الله سبحانَه الدُّنيا مجازًا إلى الآخرة وأراد بعبادِه أن لا يعمَلُوا فيها إلاّ الخير، وما خلَقَهُم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (الدنيا مجازًا إلى الآخرة)، أي: موضعُ الجوازِ وممرٌّ إلى الآخرة.

قولُه: (وأرادَ بعباده أنْ لا يعملوا فيها إلا الخير)، وهوَ مدفوعٌ بقولِه:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. قالَ مُحيي السُّنة: {وَمَن تَكُونُ لَهُ، عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: العُقْبى المحمودة.

وقلتُ: لعلّ معنى كونِها محمودةً أنها مُقتَرِنةٌ بقولِه: {لَهُ،} ؛ فلَوْ قيل: ((عليه)) أو ما يجري مَجْراها -كما سيجيءُ بُعَيْدَ هذا {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةً الظَّالِمِينَ} - لانْقَلَبَتْ إلى السُّوء، ولوْ يُقيِّدْها بأحدِهِما جازَ أنْ تُقيّدَ بالمحمودة أو بالسُّوء.

الانتصاف: أما وَجْهُ العاقبةِ المطلَقةِ وإرادةِ الخيرِ بِها فهوَ أنّ الله هدى الناسَ إليها ووعدَهُمْ ما في سُلوكِها مِنَ النجاةِ- إذ هي المأمُور بها، وعوملت معاملةَ ما هو مراد، وإن لم تكن مرادة- والنعيم، ونهاهُمْ عَنْ ضِدِّها وتَوَعّدَ عليهِ بالعقابِ الأليم، وركّبَ فيهِمْ عقولاً تُرشِدُهمْ إلى عاقبةِ الخير، وأزاحَ عِللهم؛ فكانَ مِنْ حَقِّهِمْ أنْ يَسلُكُوا طريقَ الخير، وأنْ يَجعلُوها نُصْبَ أَعيُنِهِم؛ فأُطلِقَتِ العاقبةُ للخيرِ لذلك؛ إذْ هيَ المأمورُ بها، وعُومِلَتْ معامَلَةَ ما هوَ مرادٌ وإنْ لَمْ تكُنْ مُرادة. ثُمّ قال:((لولا قولُه تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ} [الرغد: 25] لقُلْتُ: استعمالُ اللامِ هوَ الدالُّ على كونِها خيرًا، واستعمالُ ((عليهم)) على كونِها شَرًّا)).

وقلتُ: الآيةُ غيرُ مانِعةٍ عنْ ذلك؛ فإنّ قرينةَ اللعنةِ والسُّوءِ مانِعةٌ عنْ إرادةِ الخير، وإنّما أتى بـ {لَهُ،} ليُؤذِنَ أنّهُما حقّانِ ثابتانِ لهُمْ لازمانِ إياهم. ويَعْضُدُهُ التقديمُ المفيدُ للاختصاص.

ص: 58

إلاّ لأجْلِه؛ لِيتَلقَّوا خاتِمةَ الخَيرِ وعاقِبةَ الصِّدقِ، ومَن عَمِلَ فيها خلافَ ما وضَعَها الله لهُ فقد حرّف؛ فإذن عاقبتُها الأصْليّةُ هي عاقِبةُ الخَيرِ. وأمّا عاقبةُ السُّوءِ فلا اعتِدادَ بها؛ لأنّها من نتائِج تحريفِ الفُجّار. وقرأَ ابنُ كثيرٍ:(قال موسى) بغيرِ واوٍ، على ما في مصاحفِ أهلِ مكّةَ، وهي قراءةٌ حسنةٌ؛ لأنَّ الموضِعَ مَوضِعُ سؤالٍ وبحثٍ عمّا أجابَهُم به مُوسى عليه السلام عند تسمِيتَهِم مِثْلَ تلك الآياتِ الباهرةِ سِحرًا مُفترى. ووجهُ الأُخرى: أنَّهم قالُوا ذلك. وقالَ مُوسى عليه السلام هذا، ليُوازِنَ النّاظِرُ بينَ القَوْلِ والقَوْلِ، ويتبصّرَ فسادَ أحدِهِما وصحّةَ الآخَر، وَبِضِدِّهَا تَتَبيَّنُ الأشياءُ. وقُرئَ:{تَكُونُ} بالياءِ والتّاء.

[{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 38]

رُويَ أنّه لمّا أَمَر ببِناءِ الصَّرح، جَمعَ هامانُ العُمّال حتّى اجتمعَ خمسونَ ألفَ بنّاءٍ سوى الأتباعِ والأُجَراء، وأمرَ بطَبْخِ الآجُرِّ والجِصِّ، ونَجَرَ الخشبَ وضَرَبَ المَسامِير، فشيَّدُوه حتّى ما لمْ يبلُغهُ بنيانُ أحدٍ من الخَلْق، فكان الباني لا يقدِرُ أن يقِفَ على رأسِه يبنى، فبعثَ الله تعالى جبريلَ عليه السلام عند غُروبِ الشَّمس، فضربَه بجَناحِه فقَطَعَه ثلاثَ قِطَع: وقعتْ قطعةٌ على عَسْكَرِ فِرعَونَ فقتلتْ ألفَ ألف رجُلٍ، ووقعتْ قطعةٌ في البحر، وقِطعةٌ في المغرِب، ولم يبقَ أحدٌ من عُمّالِه إلاّ قد هَلَك.

ويُروى في هذه القصّة: أنَّ فرعونَ ارتقى فوقَه فرمى بنُشّابِه نحوَ السّماء، فأرادَ الله أن يَفتِنَهم فرُدَّت إليه وهي ملطوخةٌ بالدَّم؛ فقالَ: قد قتلتُ إله موسى، فعندَها بعثَ الله جبريلَ عليه السلام لهَدْمِه، والله أعلمُ بصحّتِه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقُرِئَ {يَكُونَ} بالياءِ والتاء)، حمزةُ والكسائي: بالياءِ التحتانية، والباقون: بالتاء.

ص: 59

قَصَدَ بنفْي عِلْمِه بإلهٍ غيرِه: نفيَ وجودهِ، معناه: ما لكم من إلهٍ غيري، كما قال عز وجل:{قَلْ أَتُنَبِئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [يونس: 18] معناه: بما ليسَ فيهنَّ، وذلك لأنَّ العلمَ تابعٌ للمعلومِ لا يتعلّق به إلا على ما هو عليه، فإذا كان الشّيءُ معدومًا لم يتعلَّقْ به موجودًا، فمن ثمَّ كان انتفاءُ العلمِ بوُجودِه لانتفاءِ وجودِه. وعُبِّرَ عنِ انتفاءِ وُجودِه بانتِفاءِ العلمِ بوُجودِه. ويجوزُ أن يكونَ على ظاهرِه، وأنَّ إلهًا غيرَه غيرُ معلومٍ عندَه، ولكنَّه مظنونٌ بدليلِ قولِه:{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ، مِنَ أَلْكَاذِبِينَ} ، وإذا ظنَّ موسى عليه السلام كاذبًا في إثباتِه إلهًا غيرَه ولم يعلَمْهُ كاذبًا، فقد ظنَّ أنَّ في الوُجودِ إلهًا غيرَه، ولو يكُنِ المَخذُولُ ظانًّا ظنًّا كاليَقِين؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (قَصَدَ بنفي علمِهِ بإلهٍ غيرِه: نفيَ وجودِه)، الانتصاف: وَهِمَ فيهِ الزمخشري؛ لأنّ الله عبَّرَ عنْ نفيِ المعلومِ بنفيِ العلم في قولِه: {أَتُنَبِئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس: 18]؛ فظنّ أَنّ سِرّ التعبيرِ شاملٌ لكلِّ تعلُّقٍ بالمعلوم، وليسَ كذلك؛ بلْ هذا التعبيرُ لا يكونُ إلا في علمِ الله؛ لعمومِ تعلُّقِهِ بجميع المعلومات؛ حتى لا يعزُبُ عنهُ مِثقالُ ذَرّة، وعِلْمُ المخلوقينَ ليستْ لهُ هذهِ الدرجة.

وقلتُ: إنّ فِرعونَ كانَ يدّعي الإلهية؛ فعامَلَ بعِلْمِهِ معامَلَةَ عِلْمِ الله؛ ومِنْ ثَمّ طغى وتكبّرَ وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقال:{فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} ، ولمْ يَقُلْ: اطبخْ لي الآجُر؛ تعاظُمًا، كما قالَ مَنْ لَهُ العظَمةُ حقيقةً:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلْنَّارِ} [الرعد: 17]. ومِنْ تعاظُمِهِ نداؤُهُ لوزيرِهِ باسمِهِ وبحرفِ النداء، وتوسيطِ ندائِهِ خلالَ الأمر.

قولُه: (ويجوزُ أنْ يكونَ على ظاهرِه)، يعني أنّ قولَه:{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إلَهٍ} واردٌ على الشكِّ وإجرائِهِ مَجْرى سائرِ علوم الخلقِ في أنُهُ لا يلزمُ مِنْ نفيِ تعلُّقِهِ بوجودِ أمرٍ نفيُ ذلكَ الأمر؛ فهوَ أحقرُ مِنْ ذلك، ويؤيِّدُهُ استعمالُهُ ((لعلّ)) والظنّ. ويمكنُ أنْ يُقال: إنّ الظاهرَ أنّ كلامَه الأوّلَ كانَ تمويهًا وتلبيسًا على القوم، والثاني مُواضَعةٌ معَ صاحبِ سِرِّهِ هامان؛ فإثباتُ الظنِّ في الثاني لا يَدفَعُ أنْ يكونَ نفيُ العِلمِ في الأوّلِ لنفيِ المعلوم.

ص: 60

بل عالمًا بصحّةِ قَولِ مُوسى عليه السلام لقولِ مُوسى له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] لَمَا تكلَّفَ ذلك البُنيانَ العظيم، ولَمَا تعبَ في بنائِه ما تعِب، لعلّه يطَّلِعُ بزَعْمِه إلى إلهِ مُوسى عليه السلام، وإن كانَ جاهلاً مُفرِطَ الجهلِ به وبصِفاتِه؛ حيثُ حَسِبَ أنّه في مكانٍ كما كانَ هو في مَكان، وأنّه يُطلَعُ إليه كما كان يُطلَعُ إليه إذا قَعَدَ في عِلِّيَّتهِ، وأنه مَلِكُ السَّماء؛ كما أنَّه مَلِكُ الأرض. ولا ترى بيِّنةً أثْبَتَ شهادةً على إفراطِ جهلِه وغباوَتِه وجهلِ مَلَئِه وغباوَتِهِم؛ من أنّهم رامُوا نَيْلَ أسبابِ السّمواتِ بصَرحٍ يبنُونَه، وليتَ شِعري؛ أكانَ يُلَبِّسُ على أهلِ بلادِه ويضحكُ من عقولِهم، حيثُ صادَفَهم أغبى النّاسِ وأخلاقُهم من الفِطَنِ وأشبَهُهُم بالبَهائِم بذلك؟ أم كانَ في نفسِه بتلكَ الصِّفة؟ وإنْ صحَّ ما يُحكي من رُجوعِ النُّشّابةِ إليه ملطوخةً بالدَّم، فتهكَّمَ به بالفعل، كما جاءَ التَّهَكُّمُ بالقَول، في غَيْرِ موضِعٍ من كتابِ الله بنُظرائِه من الكَفَرة. ويجوزُ أنْ يُفَسَّرَ الظَّنُّ على القَولِ الأوَّلِ؛ باليَقِين، كقوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (يُطلَعُ إليه)، المَطْلَع: المأتى؛ يُقال: أينَ مَطْلَعُ هذا الأمر؟ أي: مأتاهُ الذي يُطلَعُ عليهِ مِنْ إشرافٍ إلى انحدار.

قولُه: (في عِلِّيّته)، أي: غُرْفتِه، هيَ فُعِّيلة؛ مثل: مُرِّيقة، وأصلُها: عُلِّيوة: وقيل: هيَ العِلِّيّةُ بالكسرِ على فِعِّيلة؛ جُعِلَ مِنَ المُضاعَف؛ إذْ ليسَ في الكلامِ فُعِّيلة.

قولُه: (على القولِ الأوّلِ)، أي: على أنْ يكونَ القصدُ بنفيِ عِلْمِهِ في قولِه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} نفيَ وجودِ إلهٍ غيرِه؛ أي: ما لَكُمْ مِنْ إلهٍ غيري البتّة، وإني على يقينٍ أنّ موسى كاذب؛ فحينئذٍ يتناقضُ الأمرُ ببناءِ الصّرْح، كما قالَ فيما سبق:((لوْ لمْ يَكُنِ المخذولُ ظانًّا؛ لَما تكلّفَ ذلكَ البُنيان)).

ص: 61

فقُلْتُ لهمْ ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ

ويكونُ بناءُ الصَّرح مناقضَةً لِما ادَّعاهُ من العلمِ واليَقِين، وقد خَفِيَتْ على قومِه لغباوَتِهم وبَلَهِهِم. أو لمْ تَخفَ عليهم، ولكنّ كلاًّ كانَ يخافُ على نفسِه سوطَه، وسيفَه، وإنّما قال:{فَأَوْقِدْلِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} ، ولم يقُل: اطبُخ لي الآجرَّ واتَّخِذْه، لأنَّه أوّلُ من عَمِلَ الآجُرَّ، فهو يُعَلِّمَه الصَّنعة، ولأنَّ هذه العبارةَ أحسنُ طِباقًا لفصاحةِ القُرآنِ وعلوِّ طبقتِه، وأشبهُ بكلامِ الجبابرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فقلتُ لهمْ ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجّجٍ)، تَمامُه:

سَراتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرّد

مُدَجّج: مُغطّى في السلاح؛ مِنْ: دَجّجَتِ السماءُ إذا تَغَيّمَت، والسّراة: الرؤساء، وظُنُّوا -بضمِّ الظاء-: أمر، الفارسي: الدِّرْعُ المنسوبُ إلى الفارس، وهوَ مَثَلٌ في الجودة. يُنذِرُ قومًا بهجومِ جيشٍ تامِّ السلاح؛ أي: قلتُ لهم: أَيْقِنُوا بإتيانِ ذلكَ الجيش.

قولُه: (أحسَنُ طِباقًا لفصاحةِ القرآن)، قالَ صاحبُ ((المثل السائر)): فانظرْ إلى قولِهِ تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} ؛ فإنُه لَمّا جيءَ بما يقتضي أنْ يَذكُرَ لفظَ ((الآجُرّ)) عَدَلَ مِنهُ إلى هذهِ العبارة، ولم يَذْكُرْ لفظَ ((القَرْمَد)) كما فَعَلَ النابغة:

أو دُمْيةٍ في مَرْمَرٍ مرفوعةٍ

بُنِيَتْ بآجُرٍّ يُشادُ بقَرْمَدِ

فإنّ أُولى العبارتَيْنِ مُبتَذَلةٌ سخيفةٌ متداوَلةٌ بينَ العامة، والثانيةُ متنافِرةٌ وحْشِيّةٌ غريبةٌ يضعانِ الكلامَ مِنْ قَدْرِه.

قولُه: (وأشبَهُ بكلامِ الجبابرة)، أي: أَوْقِدْ لي على هذا الشيءِ المسمّى بالطين؛ كأنُه شيءٌ حقيرٌ لا يصلُحُ مِنْ مثلِ الملوكِ أنْ يتلفّظَ به، ويَدخُلُ في تسميتِهِ في زُمْرةِ العامة؛ كما عَبّرَ الله

ص: 62

وأمْرُ هامانَ -وهو وزيرُه ورديفُه- بالإِيقادِ على الطِّين منادَى باسمه بـ ((يا)) في وسَطِ الكلام؛ دليلُ التّعظيمِ والتَّجَبُّر. وعن عُمرَ رضي الله عنه أنَّه حينَ سافَرَ إلى الشّام ورأي القُصورَ المُشَيَّدةَ بالآجُرِّ قال: ما علمتُ أنّ أحدًا بني بالآجُرِّ غيرُ فرعون. والطُّلُوعُ والاطِّلاع: الصُّعود. يقال: طَلَعَ الجبلَ واطَّلَع: بمعنى.

[{اسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} 39 - 40]

الاستكبارُ بالحقِّ: إنّما هو لله عز وجل، وهو المُتَكَبِّرُ على الحقيقة، أي: المُتبالِغُ في كبرياءِ الشَّأن. قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما حَكى عن ربِّه: ((الكبرياءُ ردائي، والعَظَمةُ إزاري؛ فَمن نازَعَني واحدًا منهُما ألقيتُه في النّار)). وكُلُّ مُستَكبِرٍ سِواهُ فاستكبارُه بغيرِ الحقِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعالى بقولِه: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ،} [الرعد: 17] عَنِ الفِلِز، ويناسبُهُ نداؤهُ هامانَ بـ ((يا)) وهوَ قريبٌ حاضر؛ لكنْ بعيدٌ مِنْ حيثُ المرتَبة.

قولُه: (بـ ((يا)) في وسطِ الكلام)، يعني أنّ هامانَ كانَ حاضرًا بينَ الملأ، وداخلاً في الخطاب؛ بلْ هوَ المخاطَبُ الأوّلُ لكونِهِ وزيرَهُ ومُشيرَه؛ فاختصاصُهُ مِنْ بينِهِم بالنداء، ثُمّ بـ ((يا)) الدّالةِ على البعيد، ثُمّ تصريحُهُ باسمِه- ما كانَ إلا إظهارًا للكبرياء. قالَ صاحبُ ((المفتاح)):((يا)) في مثلِ هذا المقامِ تبعيدٌ للمنادى وإيذانٌ بالتهاوُنِ به.

قولُه: (الكبرياءُ ردائي)، الحديثُ رواهُ أبو داودَ عن أبي هُريرةَ مع تغييرٍ يسير، ولمسلمٍ روايةٌ على غيرِ هذه العبارة.

ص: 63

{يُرْجَعُونَ} بالضَّمِّ والفَتْحِ {فَأَخَذْنَهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْنَهُمْ فِي اَلْيَمِ} من الكلامِ الفَخْمِ الذي دلَّ به على عظمةِ شأنهِ وكبرياءِ سُلطانِه. شبَّههمُ استِحْقارًا لهم واستِقْلالاً لعَدَدِهِم، وإنْ كانُوا الكَثْرَ الكثيرَ والجَمَّ الغفير، بحَصَياتٍ أخَذَهُنَّ آخذٌ في كفِّهِ فطرحَهُنَّ في البحر. ونحوُ ذلك قولُه:{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27]، {وَحُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَالجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةُ وَاحِدَةً} [الحاقة: 14]، {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ، يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وما هيَ إلاّ تصويراتٌ وتمثيلاتٌ لاقتدارِه، وأنّ كُلَّ مقدورٍ وإنْ عَظُمَ وجَلَّ، فهُو مُستَصْغَرٌ إلى جنبِ قُدرتِه.

[{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} 41 - 42]

فإن قلت: ما معنى قولِه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} ؟ قلت: معناه: ودَعَوناهم أئمّةً دُعاةً إلى النّار، وقُلنا: إنَّهم أئمِّةٌ دعاةٌ إلى النّار، كما يُدعى خلفاءُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({يُرْجَعُونَ} بالضمِّ والفتح)، نافعٌ وحمزةُ والكسائي: بالفتح، والباقون: بالضم.

قولُه: (دَعَوْناهُم أئمة

، وقُلنا: إنّهُمْ أئمةٌ دُعاةٌ إلى النار)، قالَ مُحيي السُّنّة:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قادةً رؤساءَ يَدْعُونَ إلى النار، وقالَ الإمام: قد تمسّكَ الأصحابُ بها في كونِهِ تعالى خالقًا للخيرِ والشر.

الانتصاف: لا فرقَ عِندَنا بينَ قولِه: {وَجَعَلَ لظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]{وَجَعَلْنَا اَلَّيْلَ والْنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] وبينَ هذهِ الآية؛ فمَنْ حَمَلَ الجَعلَ على التسميةِ هاهنا فهوَ بمثابةِ مَنْ حملَهُ على التسميةِ هناك.

ص: 64

الحَقِّ أئمّةً دُعاةً إلى الجنّة. وهو مِن قولِك: جعلَهُ بخِيلاً وفاسِقًا، إذا دعاهُ وقال: إنَّه بخيلٌ وفاسقٌ. ويقولُ أهلُ اللُّغةِ في تفسيرِ فسَّقَهُ وبَخَّلَهُ: جعلَه بخِيلاً وفاسقًا. ومنه قولُه عزّ وعَلا: {وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] ومعنى دعوَتِهم إلى النّار: دعوتُهم إلى موجِباتِها من الكُفْرِ والمعاصِي. {وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} كما يُنْصَرُ الأئِمّةُ الدُّعاةُ إلى الجنّة. ويجوز: خَذَلناهُم حتّى كانُوا أئمّةَ الكُفر. ومعنى الخُذلان: منعُ الألطاف، وإنّما يُمنَعُها من عُلِمَ أنَّها لا تنفَعُ فيه، وهو المُصمِّمُ على الكُفْرِ الذي لا تُغني عنهُ الآياتُ والنُّذُر، ومُجراهُ مُجرى الكِناية؛ لأنَّ منعَ الألطافِ يَردَفُ التَّصميم، والغرضُ بذِكْرِه: التَّصميمُ نفسُه، فكأنَّه قيل: صمَّمُوا على الكُفْرِ حتّى أئمّةً فيه، دُعاةً إليه وإلى سُوءِ عاقِبَتِه.

فإن قلت: وأيُّ فائدةٍ في تَرْكِ المَردُوف إلى الرّادِفة؟ قلت: ذِكرُ الرّادِفةِ يدُلُّ على وُجودِ المردُوف؛ فيُعلمُ وجودُ المَردُوفِ مع الدَّليلِ الشّاهدِ يوجُودِه، فيكونُ أقوى لإِثباتِه من ذكرِه. ألا ترى أنَّك تقول: لولا أنَّه مُصَمِّمٌ على الكُفر، مقطوعٌ أمرُه، مبتوتٌ حكمُه؛ لما مُنِعتْ منهُ الأَلطاف، فبذِكرِ منعِ الألطافِ يحصُلُ العِلمُ بوجودِ التَّصميمِ على الكُفرِ وزيادةٌ؛ وهو قيامُ الحُجّةِ على وجُودِه. وينصرُ هذا الوَجْهَ قولُه:{وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ويجوزُ: خذلناهُم حتى كانوا أئمةَ الكُفر)، الوجهُ الأوّلُ قولُ الجُبّائي، وهذا قولُ الكعبي. يريدُ: أنّ مُؤدّي قولِه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} مِنْ حيثُ التأويلِ إلى هذا المعنى؛ وهو: خذلناهُم حتى كانوا أئمة. وإنما قالَ: ((وإنما يمنعُها مِنْ عَلِمَ أنها لا تَنْفَعُ)) بناءً على أنّ رعايةَ الأصلحِ واجبة، وهوَ مَنْحُ الألطاف. وهُمْ إنما خُذِلوا ومُنِعَ عنهُم الألطافُ مِنْ جِهَةِ أنفُسِهِم؛ وهوَ تصميمُهم على الكفر. ورَجَعَ معنى قولِه:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} إلى قولِه: ((صَمّمُوا على الكُفْر))؛ لأنهُ رديفُهُ ولازمُه؛ فيكونُ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} كنايةً عنْ ((صَمّمُوا على الكُفر)). ولَعَمْري إنّ هذا التعسُّفَ لا يركَبُهُ إلا مَنْ عَمِيَ عنهُ الجادّة.

قولُه: (وينصُرُ هذا الوجه- أيْ: أنّ المراد: خذلناهم- قولُه: { .... لَا يُنصَرُونَ})؛ فإنهُ مِنْ بابِ ردِّ العَجُزِ على الصدرِ مِنْ حيثُ المعنى؛ لأنّ الخُذلانَ هوَ عدمُ النُّصْرة.

ص: 65

كأنه قيل: وخَذَلناهُم في الدُّنيا، وهم يومَ القِيامةِ مخذُولُون، كما قال:{وَأَتْبَعَنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: طردًا وإبعادًا عن الرَّحمة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: من المَطرُودِينَ المُبْعَدِين.

[{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 43]

{بَصَائِرَ} نصبٌ على الحال. والبصيرَةُ: نَورُ القلبِ الذي يَسْتَبصِرُ به، كما أنَّ البصرَ نورُ العَيْنِ الذي تُبصِرُ به، يريد: آتيناهُ التَّوراةُ أنوارًا للقلوب؛ لأنّها كانت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلتُ: ويمكنُ أنْ يُقال: وجعلناهُم في الدنيا قادةً رؤساءَ أقوياءَ ذَوِي سَلْطَنةٍ وغَلَبة، وانقلبَ في الآخرةِ الأمرُ فصارت تلكَ القدرةُ عَجْزًا، والتقدُّمُ نكوصًا؛ فلا ينصُرُهُم مِنْ ذلكَ ناصِر، {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: هلاكًا بالغَرَق، وبُعدًا عنْ رحمةِ الله. أو: لسانَ سُوءٍ بأنْ يلعنَهُمُ اللاعنونُ إلى قيامِ الساعة، {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِنَ المَقْبُوحِينَ} .

قولُه: ({هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: مِنَ المطرودِينَ المُبعَدين)، عبَّرَ عنِ الطردِ والبُعدِ بالقُبْح؛ إذْ لا ارتيابَ أنهُ لمْ يُرِدْ قُبْحَ الصورة؛ فإذنْ الآيةُ على وزانِ قولِهِ تعالى:{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ، لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ بِئْسَ الرِفْدُ المَرْفُودُ} [هود: 99].

روى مُحيي السُّنةِ عن ابنِ عباس: مِنَ المشوّهِينَ بسَوادِ الوجهِ وزُرْقةِ العيون؛ يُقال: قَبَحَهُ الله وقَبَّحَه؛ إذا جعلَهُ قبيحًا، وقَبَحَهُ قَبْحًا وقُبُوحًا؛ إذا أبْعَدَهُ مِنْ كُلِّ خير.

قولُه: (آتيناهُ التوراةَ أنوارًا للقلوب)، أي: مُشابهًا لأنوارِ القلوب؛ شَبّهَ التوراةَ بالأنوارِ التي تَستَبْصِرُ بها القلوب؛ فتعرِفُ بها حقيقةَ الأشياءِ فكَما أنّ فاقِدَ هذهِ الأنوارِ خابِطٌ في ظلماءِ التعسُّف؛ كذلكَ فاقدُها واقعٌ في مَهْواةِ الضلالة، تائهٌ في بيداءِ الكُفْر. فقولُه:((لأنها كانتْ عمياء)) تعليلٌ وجعلَ {بَصَائِرَ} وصفًا لـ {الْكِتَابَ} . ولذلكَ كانَ قولُه: ((لأنهم كانوا يخبطون)) تعليلاً لقولِه: ((إرشادًا))؛ يعني: إنما أَوقعَ {بَصَائِرَ} حالاً مِنَ

ص: 66

عُمْيًا لا تستبصرُ ولا تعرفُ حقًّا من باطلٍ. وإرشادًا؛ لأنَّهم كانُوا يَخبطُونَ في ضَلالٍ. {وَرَحْمَةً} ؛ لأنَّهم لو عملوا بها وصَلُوا إلى نيلِ الرَّحمة. {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إرادةَ أنْ يتذَكَّرُوا، شُبِّهتِ الإرادةُ بالتَّرجِّي فاستُعِيرَ لها. ويجوزُ أنْ يرادَ به: ترجِّي موسى عليه السلام لتَذْكرتِهم، كقولِه تعالى:{لَّعَلَّهُ، يَتَذَكَّرُ} [طه: 44]

[{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 44]

{الْغَرْبِيِّ} المكانُ الواقعُ في شِقِّ الغرب، وهو المكانُ الذي وقعَ فيه ميقاتُ موسى عليه السلام من الطُّور، وكتبَ الله له في الألواح. والأمرُ المقْضِيُّ إلى مُوسى عليه السلام: الوحيُ الذي أوحى إليه؛ والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما كُنتَ حاضِرَ المكانِ الذي أوحينا فيه إلى مُوسى عليه السلام، ولا كُنتَ مِنَ جُملةِ الشَّاهِدِينَ للوحيِ إليه، أو على الوحيِ إليه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{الْكِتَابَ} ؛ ليؤذِنَ بشدّةِ احتياجِ القومِ إلى ما تُفتَحُ بهِ قلوبُهُمُ العمياء. وإنما أَرْدَفَها بقولِه: {وَهُدًى} ؛ ليُنَبِّهِ على أنّهُمْ كانوا يخبِطون في ضلال، وعقّبَهُما بقولِه:{وَرَحْمَةً} لينادي بأنهُمْ كانوا بُعَداءَ مِنْ رحمةِ الله وما عَمِلوا بمقتضى الكتاب؛ لأنّهُمْ لو عَمِلوا بهِ لوصَلوا إلى رحمةِ الله. جَعَلَ ألفاظَ الآيةِ كلّها تعريضاتٍ باليهود، ودلّ على مكانِ التعريضِ قولُه:{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .

قولُه: (كقولِه تعالى: {لَّعلَّهُ، يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44])، يعني: شَبّهَ حالةَ إيتاءِ الكتابِ لاستبصارِ بني إسرائيلَ واهتدائِهِمِ، وترجِّي موسى منهُم التذكُّر، بحالةِ بَعْثِتِهِ وأخيهِ إلى فرعونَ وترجِّيهِما مِنهُ التذكُّرَ والخشية؛ فاستعمَلَ هاهنا كلمةَ الترجِّي كما استُعمِلَتْ هناك.

قولُه: (وما كنتَ حاضرَ المكان)، إلى قولِه:(حتى تَقِفَ مِنْ جهةِ المشاهدة) قد ذكَرْنا فائدةَ هذا الأسلوبِ في ((البقرة)) عندَ قولِه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133].

قولُه: (أو على الوحي إليه)، على هذا: الشاهدُ بمعنى القائم بالشهادة، وعلى الأوّل: بمعنى الحاضر.

ص: 67

وهم نقباؤُه الذين اختارَهم للميقات، حتّى من جهةِ المُشاهدةِ على ما جَرى من أمرِ مُوسى عليه السلام في ميقاتِه وكَتْبِه التَّوراةَ له في الألواح، وغيرِ ذلك.

[{وَلَكِنَّا أَنْشَانَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} 45]

فإن قلتَ: كيفَ يتَّصلُ قولُه: {وَلَكِنَّا أَنشَانَا قُرُونًا} بهذا الكلام؟ ومن أيِّ وجهٍ يكونُ استدراكًا له؟ قلتُ: اتِّصالُه به وكونُه استدراكًا له، من حيثُ أنّ معناه: ولكنّا أنشَانا بعدَ عهدِ الوحيِ إلى عهدِكَ قُرُونًا كثيرةً {فَتَطَاوَلَ} على آخِرِهم: وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (كيفَ يتصلُ قولُه: {وَلَكِنَّا أَنشَانَا قُرُونًا}؟ )، توجيهُ السؤال: أنّ وَضْعَ ((لكن)) على أنْ يكونَ ما بعدَها مخالفًا لما قبلَها نفيًا وإثباتًا؛ فكيفَ مَوْقِعُها هاهنا؟ وتلخيصُ الجوابِ أنْ ليسَ الاعتبارُ بصورةِ النفيِ والإثبات؛ وإنما المعتَبَرُ المعنى؛ فإنهُ تعالى لمّا نفي عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أوّلاً كونَهُ بجانبِ الغربيّ، وكونَهُ مشاهِدًا للوحيِ إلى موسى عليه السلام وقضاءِ الأمرِ لهُ مِنَ المُكالَمةِ وكِتْبةِ التوراةِ وغيرِهِما، والمرادُ نفيُ عِلمِهِ بذلك، أَثْبَتَ لهُ العلمَ ثانيًا بتلكَ القصةِ وبسائِر قِصَصِ الأنبياء؛ فكأنهُ قيل: ما كنتَ داريًا بذلكَ بطريقٍ مِنْ طُرُقِ العلم؛ لكنْ جعلناكَ داريًا بطريقِ الوحيِ بأنْ أرسلناكَ أحْوَجَ ما يكونُ الناسُ إلى إرسالِك؛ لفتورُ الوحي مُدّةً مُتطاوِلة. فَوَضَعَ قولَه: {أَنشَانَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص: 45] مَوْضِعَ ((أرسلناكَ وكَسَبْنا لكَ العِلم))؛ وضعًا للسّبَبِ مَوْضِعَ المُسَبّب؛ لأنّ إطالةَ فترةِ الوحي واندراسِ العلومِ سببٌ لإرسالِ الرُّسُلِ وكَسْبِهِمُ العلوم. ويدلُّ على هذا التأويلِ تصريحُ لفظِ {مُرْسِلِينَ} بعدَ حرفِ الاستدراكِ في قولِه: {وَمَا كُنتَ ثَوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} . وفي قصةِ موسى عليه السلام والطور: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِنْ رَّبِّكَ} ؛ ومِنْ عَلله بقولِه: {لِتُذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَهُم مِن نَّذِيرٍ} ، وإليهِ الإشارةُ بقولِه:((فإذنْ هذا الاستدراكُ شيبهُ الاستدراكَيْن)).

قولُه: ({فَتَطَاوَلَ} على آخرِهم)، أي: تطاولَ العمرُ على آخرِهِم؛ بمعنى: طالَ أمدُ انقطاعِ الوحيِ على القرنِ الذي أنتَ فيهِم. وقالَ في ((الأساس)): تطاوَلَ علينا الليل: طال،

ص: 68

القَرْنُ الذي أنت فيهم {اَلْعُمُرُ} أي: أمدُ انقطاعِ الوحيِ واندرستِ العُلوم، فوجَبَ إرسالُك إليهم، فأرسلناكَ وكسيناكَ العلمَ بقِصَصِ الأنبياءِ وقصّةِ موسى عليهم السلام، كأنّه قال: وما كُنتَ شاهدًا لمُوسى وما جرى عليه، ولكنّا أوحيناهُ إليك؛ فذكرَ سببَ الوحيِ الذي هو إطالةُ الفترة؛ ودلَّ به على المُسَبِّب على عادةِ الله عز وجل في اختصاراتِه؛ فإذن: هذا الاستدراكُ شبيهُ الاستدراكَيْنِ بعدَهُ {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} أي: مُقيمًا {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} ؛ وهم شُعيبٌ والمُؤمنون به. {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تقرؤُها عليهم تعلُّمًا منهم، يريد: الآياتِ التي فيها قِصّةُ شعيبٍ وقومِه، ولكنّا أرسلناكَ وأخبرناكَ بها وعلمناكَها.

[{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 46]

{إِذْ نَادَيْنَا} يُريدُ مناداةَ موسى عليه السلام ليلةَ المناجاةِ وتكليمَه، {وَلَكِن}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومِنَ المجاز: وطالَ عليهِ الطول؛ أي: طالَ عُمرُه.

الراغب: الأَمَدُ والأَبَدُ: متقاربان؛ لكنّ الأبدَ: عبارةٌ عنْ مُدّةِ الزمانِ الذي ليسَ لها حَدٌ محدودٌ ولا يتقيّد، ولايُقال: أَبَدَ كذا. والأَمَدُ: مُدّةٌ لها حدٌ مجهولٌ إذا أُطلِق، وقدْ تَنْحَصِرُ نحوُ أنْ يُقال: أَمَدَ كذا؛ كما يُقال: زَمانُ كذا. والفرقُ بيْنَ الزمانِ والأمد: أنّ الأمَدَ يُقالُ باعتبارِ الغاية، والزمانُ عامٌّ في المبدأِ والغاية. ولذلكَ قالَ بعضُهُم: الأَمدُ والمدى متقاربان.

قولُه: ({ثَاوِيًا} أي مقيمًا)، الراغب: الثّواء: الإقامةُ معَ الاستقرار، وقيل: مَنْ أُمُّ مَثْواك؟ كنايةٌ عمّنْ نَزَلَ بهِ ضيفًا، والثّوِيّة: مأوى الغَنَم.

ص: 69

علَّمناكَ {رَّحْمَةً} وقرئ: (رحمةٌ)، بالرَّفع، أي: هي رحمةٌ {مّا أَتَاهُم مِن نَّذِيرٍ} في زمانِ الفَتْرَةِ بينَك وبينَ عيسى؛ وهيَ خمسُ مئةٍ وخمسُونَ سنةً، ونحوُه قولُه:{لِتُنذِرَ قَوْمًا مّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6].

[{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 47]

{لَوْلَا} الأولى: امتناعيّةٌ وجوابُها محذوفٌ، والثانيةُ: تحضِيضِيّةٌ، وإحدى الفاءَيْنِ: للعطْف، والأُخرى: جوابُ {لَوْلَا} ، لكَونِها في حُكمِ الأمر، من قِبَلِ أنَّ الأمرَ باعثٌ على الفعل، والباعثُ والمُحضِّضُ من وادٍ واحدٍ. والمعنى: ولولا أنَّهم قائِلونُ إذا عُوقِبُوا بما قَدَّمُوا من الشِّرْكِ والمعاصي: هلاّ أرسلتَ إلينا رسولاً؟ محتجِّينَ علينا بذلك: لما أرسَلْنا إليهم، يعني: أنّ إرسالَ الرَّسُولِ إليهم إنّما هو ليُلْزِمُوا الحُجّة ولا يُلزِمُوها، كقولِه:{لئِلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]{أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19]، {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}. فإن قلت: كيفَ استقامَ هذا المعنى وقد جُعِلَتِ العُقوبةُ هي السّببَ في الإرسالِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (في زمانِ الفترةِ بينَكَ وبينَ عيسى وهيَ خمسُ مئةٍ وخمسونَ سنة)، روَيْنا عنِ البخاريِّ عنْ سلمانَ الفارسيَّ قال: فترةُ بَيْنَ عيسى ومحمدٍ صلواتُ الله عليهِما ستُّ مئةِ سنة.

قولُه: (وقدْ جُعِلَت العقوبةُ هيَ السببَ في الإرسالِ)، يعني: لَمّا جَعَلْتَ قولَه: {فَيَقُولُوا} عطفًا على {أَن تُصِيبَهُم} ، وجَعَلْتَ {فَنَتَّبِعَ} جوابَ {لَوْلَا} الثانية، وقدّرتَ الكلام: لولا أنْ تُصيبَهُم مصيبة؛ لمَا أرسلنا إليهِم، لَزِمَكَ أنْ تَجعَلَ العقوبةَ هيَ السببَ في الإرسالِ لولا القول. والقولُ في الحقيقةِ هوَ السبب؛ بدليلِ قولِه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا َ نَذِيرٍ} [المائدة: 19]. فأجابَ بقولِه: ((القولُ هوَ المقصودُ بأنْ يكونَ سببًا لإرسالِ الرُّسُل)).

قالَ صاحبُ ((الفرائد)): لا شكّ أنّ ((أنْ)) في {أَن تُصِيبَهُم} مصدرية، وهيَ داخلةٌ على {فَيَقُولُوا} ، وقدْ عُطِفَ على {تُصِيبَهُم} بالفاء؛ فالتقدير: لولا إصابتُهُم فيقولوا كذا؛ فيكونُ سببُ إرسالِ الرسلِ المجموعَ لا الواحدَ فحَسْب؛ فالواحدُ جزءُ السبب، وجزءُ السببِ لا يكونُ سببًا؛ فقولُه:((القولُ هوَ المقصودُ بأنْ يكونَ سببًا لإرسالِ الرسل)) ليسَ بمستقيم، وكذا قولُه:((جُعِلَتِ العقوبةُ كأنها سببُ الإرسالِ بواسطةِ القول)).

ويمكنُ أنْ يُقال: القولُ يكونُ سببًا على تقديرِ وجودِ العقوبة؛ فيكونُ القولُ سببًا لا المجموع. فالجوابُ أنْ يُقال: القولُ لمْ يكنْ سببًا في نفسِ الأمر، بلْ على التقدير، فإذا لمْ يكن القولُ بدونِ التقديرِ سببًا كانَ المجموعُ سببًا؛ لأنّا لا نعني بكوْنِ المجموعِ سببًا إلا تَوَقُّفَ المسببِ عليه، وقدْ كانَ متوقِّفًا عليه، وهوَ المطلوب. وقولُه:((إنما السببُ في قولِهم هذا هوَ العقابُ لا غير، لا التأسُّفُ على ما فاتَهُم مِنَ الإيمانِ بخالقِهِم)) هذا قولٌ مجرّدٌ عنِ الدليل؛ لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ السببُ هوَ المجموع؛ أعني: العقابَ والتأسف. تَمّ كلامُه.

وقلتُ: قولُ المصنِّف: ((هوَ المقصودُ بأنْ سببًا لإرسالِ الرسل)) لا يُنافي أنْ يكونَ لهُ سببٌ آخر، وأنّ المجموعَ ليسَ بسبب؛ بل المرادُ أنّ القولَ هوَ المقصودُ الأَوْلى مِنْ مجموع السبب. على أنّ هذهِ الآيةَ على وِزانِ قولِهِ تعالى:{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ}} [المائدة: 19]. ولا ارتيابَ في استقلالِ القولِ في السببية؛ فعلى هذا يحتاجُ في جَعْلِ العقوبةِ سببًا بإيلائه حرفَ الامتناعِ إلى عذر؛ ولهذا قال: ((لمّا كانتْ هيَ السببَ للقولِ

؛ جُعِلَتْ العقوبةُ كأنها سبب)) على التشبيه، ولابدّ لهذا العُدولِ والتشبيهِ مِنْ فائدة، وما هيَ إلا ما قال: إنهُم لَوْ لَمْ يُعاقَبوا على كُفرِهِم؛ لَمْ يقولوا ذلك.

الانتصاف: فإنْ قيل: كيفَ استقامَ جَعْلُ العقوبةِ سببَ الإرسالِ لا القول؛ لدخول حرفِ الامتناعِ عليها دُونَه؟ قلتُ: العقوبةُ سببُ القول؛ فهيَ سببُ السبب؛ فجُعلتْ سببًا.

ص: 71

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي عطفِهِ السببَ الأصليّ عليهِ مزيدُ العنايةِ بسببِ السبب؛ لكونِهِ مقصودَ السياق. وأيضًا في هذا النظمِ تنبيهٌ على سَبَبِيّةِ كلِّ واحدٍ منهما؛ أما الأوّلُ؛ فلاقترانِهِ بحرفِ التعليلِ وهوَ {أَن} . والثاني بالفاء، ولا يُعطي هذا المعنى إلا مِنَ المتلو. تمّ كلامُه.

وأما قضيةُ النظم؛ فإنّ قولَه: {وَمَا كُنتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ} ، {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} ، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} تخلُّصاتٌ مِنْ ذِكرِ موسى إلى إثباتِ نُبوّةِ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإلزامِ الحُجّةِ على المعانِدينَ مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين. يعني: إنكَ تُخبِرُ عنْ هذهِ الغيوبِ وهُمْ عالِمونَ أنكَ أُمِّيٌّ لَمْ تقرا ولَمْ تأخُذْ مِن أحد، ولا أنتَ حضَرْتَ هناكَ فتُخبِرُ عنها؛ بحيثُ لم تَخْرُم حرفًا، ولَمْ يكنْ ذلك إلا مِنْ طريقِ الوحي كما قال:{وَلَكِن رَّحْمَةً مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتاهُم مِن نَّذِيرٍ} . والقومُ الذينَ ما أتاهُمْ مِنْ نذيرٍ هُمْ مشرِكو العَرَب، ولابدّ مِنْ إرسالِكَ إليهم؛ وإلا فلهُمْ أنْ يقولوا- إذا عوقِبوا بما قدّموا مِنَ الشِّرْكِ والمعاصي-: هلاّ أرسَلْتَ إلينا رسولاً فنتّبعَ آياتِك؟ وإلى هذا المعنى ينظُرُ قولُه: ((ولولا قولُهُم هذا إذا أصابَتْهُم مصيبة؛ لَما أرسلنا)) ويَعْضُدُ هذا الترتيبَ الفاءُ في قولِه: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} ؛ فإنها نحوُ قولِ الشاعر:

قالوا: خُراسانُ أقصى ما يُرادبِنا

ثُمّ القفولُ، فقدْ جِئنا خُراسانا

وقولُه تعالى: {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا َ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]. ووضْعُ المُظهَرِ وهوَ {الْحَقُّ} مَوْضِعَ المُضْمَر؛ فإنّ فيهِ الإشعارَ بقطعِ الحُجّة، وأنُه المؤيّدُ بالمعجزاتِ القاهرةِ والآياتِ الباهرة، والهادي إلى ما يُزلِفُهُم إلى المقامِ الأَسنى والدرجاتِ الحُسنى، ويُبعِدُهم عما يُوقِعُهُم في وَرَطاتِ الرّدي، ونحوَها مما يدخلُ تحتَ معنى الحق. المعنى: فلمّا جاءَهُم مثلُ هذا الحقِّ الساطِعِ والنورِ اللامعِ عندما كانوا أفقرَ شيءٍ إليه؛ تعامَوْا وتصامُّوا واقترحُوا عليهِ مِنَ الآياتِ ما ظَهَرَ بهِ عِنادُهم وتمرُّدُهُم؛ فقالُوا: {لَوْلَا أُوتِيَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} .

ص: 72

لا القول، لدُخولِ حرفِ الامتناعِ عليها دُونَه؟ قلتُ: القولُ هو المقصودُ بأنْ يكونَ سببًا لإرسالِ الرُّسُل، ولكنَّ العقوبةَ لمّا هيَ السَّببُ للقول، وكانَ وجودُه بوُجودِها، جُعلتِ العقوبةُ كأنَّها سببُ الإرسالِ بواسطةِ القَول، فأُدخِلتْ عليها {لَوْلَا} ، وجِيءَ بالقَولِ معطوفًا عليها بالفاءِ المُعطِيةِ معنى السَّببِّية، ويؤولُ معناهُ إلى قولِك: ولولا قولُهم هذا إذا أصابَتْهُم مصيبةٌ لَمَا أرسَلْنا، ولكن اختِيرَتْ هذه الطَّريقةُ لنُكتةٍ، وهي: أنَّهم لو لمْ يُعاقَبُوا مثلاً على كُفرِهم وقد عايَنُوا ما أُلجِئُوا به إلى العلمِ اليَقِين؛ لم يَقُولُوا: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} وإنّما السَّببُ في قولِهم هذا هو العقابُ لا غيرُ؛ لا التَّأسُّفَ على ما فاتَهم من الإيمانِ بخالِقِهم. وفي هذا الشَّهادةِ القَوِيّةِ على استحكامِ كُفْرِهم ورسوخِه فيهم ما لا يخفى، كقولِه تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. ولمّا كانتْ أكثرُ الأعمالِ تُزاوَلُ بالأيدي جُعِلَ كُلُّ عَمَلٍ مُعَبَّرًا عنهُ باجتراحِ الأيدي، وتقديمِ الأيدي، وإن كانَ من أعمالِ القُلُوب، وهذا من الاتِّساعِ في الكلام، وتصييرِ الأقَلِّ تابِعًا للأكثر، وتغليبِ الأكثَرِ على الأقلِّ.

[{لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} 48]

{لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} وهو: الرَّسولُ المصَدَّقُ بالكتابِ المُعجِزِ، مع سائرِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (جُعِلَ كلُّ عملٍ مُعبّرًا عنهُ باجتراح الأيدي)، ((جَعَلَ)) بمعنى: صَيّر، ومعبّرًا: ثاني مفعولَيْه. المعنى: عَبّرَ عنْ كلِّ الأعمالِ- وإنْ لَمْ يَصدُرْ عنِ اليدِ- باجتراح الأيدي؛ لأنّ الأصلَ في المزاوَلةِ والمعالَجةِ الأيدي. ونحوُهُ في الأسلوب: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ،} [البقرة: 283].

قولُه: (وهوَ الرسولُ المصدّقُ والكتاب المعجِز)، يعني: وضَعَ {الْحَقُّ} موضِعَ

ص: 73

المُعجِزات، وقُطِعَتْ معاذِيرُهُم وسُدَّ طريقُ احتجاجِهم {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِي مُوسَى} من الكتابِ المُنزَلِ جُملةً واحدةً، ومِن قَلبِ العصا حيّةً، وفلقِ البحرِ، وغيرِهما من الآيات؛ فجاءُوا بالاقتراحات المبنِيّةِ على التَّعنُّتِ والعِناد، كما قالُوا: لولا أُنزِلَ عليه كَنْزٌ أو جاءَ معه مَلَك، وما أشْبَهَ ذلك. {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} يعني: أبناءَ جنسِهم، ومَن مَذهَبُهم مَذهَبُهم وعنادُهم عنادُهم، وهمُ الكفرةُ في زمنِ مُوسى عليه السلام {بِمَا أُوتِيَ مُوسَى} ، وعن الحسنِ رحمه الله: قد كان للعربِ أصلٌ في أيّامِ مُوسى عليه السلام، فمعناهُ على هذا: أو لم يكفرْ آباؤُهم؟ {قَالُوا} في مُوسى وهارون: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي: تعاوَنَا. وقُرِئَ: (اظّاهَرَا) على الإدغام. و {سِحْرَانِ} بمعنى: ذوا سِحْر. أو: جعلوهُما سِحْرَينِ مُبالغةً في وصفِهِما بالسِّحر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرسول؛ لأنّ التعريفَ فيهِ للعهد، والمعهودُ {رَسُولاً} في قولهِ:{لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَتِكَ} ؛ فينبغي أنْ يُحمَلَ على كلِّ ما يُتسَبُ ويضافُ إلى الرسولِ على وجهٍ يُزهِقُ كلّ باطلٍ ويَدْحَضُ كلّ حُجّة. ومِنْ ثَمّ قال: ((وقُطِعَتْ معاذيرُهُم، وسُدّ طريقُ احتجاجِهِم)).

قولُه: ({أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} يعني: أبناءَ جنسِهِم)، المعطوفُ عليهِ محذوف؛ أي: أَوَلَمْ يُؤْتَ موسى ما أُوتي مِنَ الآياتِ ولَمْ يكفُرْ قومُهُ المعاندون كهؤلاء.

قولُه: (قد كانَ للعربِ أصلٌ في أيام موسى)، أي: نسبةٌ مِنْ حيثُ الكُفر والعناد، كما أنّ مِنَ المسلمينَ إخوةً مِنْ حيثُ الإيمان. أو أنّ أبا العربِ إسماعيل، وأبا بني إسرائيلَ إسحاق. والفاءُ في ((فمعناه)) نتيجةٌ؛ بِناءً على هذا التقدير.

قولُه: (و {سِحْرَانِ} بمعنى: ذَوا سِحْر)، وهيَ قراءةُ عاصمٍ وحمزةَ والكسائي.

ص: 74

أو أرادُوا: نوعانِ من السِّحرِ. {بِكُلٍّ} بكُلِّ واحدٍ منهُما. فإن قلت: بم علَّقْتَ قولَه: {مِن قَبْلُ} في هذا التَّفسيرِ؟ قلت: بـ {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} ، ولي أنْ أُعلِّقَه بـ {أُوتِيَ} ، فينقلبُ المعنى إلى أنَّ أهلَ مكَّةَ الذينَ قالُوا هذه المقالةَ كما كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وبالقُرآنِ؛ فقد كفرُوا بمُوسى عليه السلام وبالتَّوراة، وقالُوا في مُوسى ومُحمَّدٍ عليهِما الصَّلاةُ والسَّلام: ساحِرانِ تظاهَرا. أو في الكتابين: سِحرانِ تظاهرا؛ وذلك حين بَعَثُوا الرّهطَ إلى رُؤَساءِ اليهودِ بالمدينةِ يسألونَهم عن مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فأخبَروهُم أنّه نعتُه وصِفَتُه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أو أرادوا نوعانِ مِنَ السِّحْر)، قالَ صاحبُ ((التقريب)): يعنُونَ التوراةَ والقرآن.

قلتُ: يؤيِّدُ قوله تعالى: {قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} .

قولُه: (بِمَ علّقْتَ {مِن قَبْلُ} في هذا التفسير؟ )، أيْ: في تفسيرِ الحَسَن؛ وهوَ قولُه: ((قدْ كانْ للعربِ أصلٌ في زَمَنِ موسى))، وكذا في الحاشية، وفيهِ تفصيل؛ وهوَ أنّ الضميرَ في {يَكْفُرُوا}: إما للكَفَرةِ في زَمَنِ موسى عليه السلام مِنْ بني إسرائيل؛ فيتعلّقُ {مِن قَبْلُ} بـ {يَكْفُرُوا} لا بـ {أُوتِيَ} ؛ لأنّ موسى عليه السلام ما أُوتيَ الكتابَ مِنْ قَبْلِهِم، وإنما وَبّخَ الحاضِرِينَ في زَمَنِ مُحمدٍ صلواتُ الله عليهِ بهِ؛ لأنّهُمْ أبناءُ جِنسِهِم في العِناد. وإما لآباءِ الكَفَرةِ الحاضِرة. فالتوبيخُ نحوُ التوبيخِ في قولِه تعالى:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51، 92].

ويجوزُ أنْ يُجعَلَ الضميرُ للكَفَرةِ الحاضِرة، ويُعلّقَ {مِن قَبْلُ} بـ {أُوتِيَ} ، كما قال:((ولي أنْ أُعلِّقَه بـ {أُوتِيَ} وفي كلامِهِ حذف؛ أي: ولي أنْ أُعلِّقَه بـ {أُوتِيَ} وأَجْعَلَ الضميرَ في {يَكْفُرُوا} للحاضرِينَ لا لآبائِهِم؛ فينقلبَ المعنى، إلى آخرِه. فعلى هذا: إذا قُرِئَ ((ساحران)) أو {سِحْرَانِ} وأُريدَ: ساحران؛ كانَ المرادُ محمدًا وموسى عليهما السلام، وإنْ أُريدَ نوعانِ مِنَ السِّحْر؛ فالمرادُ التوراةُ والقرآن.

قولُه: (فقالوا في موسى ومحمد: ساحِرانِ [تظاهرا]، أو في الكتابين: سِحْرانِ تظاهرا)،

ص: 75

وأنّه في كتابِهِم، فرجَعَ الرَّهْطُ إلى قُريشٍ فأخبروهُم بقَولِ اليهود، فقالُوا عندَ ذلك: ساحِران تَظاهرا.

[{قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 49]

{هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} ممّا أُنزِلَ على مُوسى عليه السلام وممّا أُنزِلَ عليَّ. هذا الشَّرْطُ من نحوِ ما ذكرتُ أنَّه شرطُ المُدِلِّ بالأمرِ المتَحَقِّقِ لصِحَّتِه؛ لأنَّ امتناعَ الإتيانِ بكتابٍ أهدى من الكِتابَيْنِ أمرٌ متَحَقِّقٌ لا مجالَ فيه للشَّكِّ. ويجوزُ أنْ يُقصَدَ بحرفِ الشَّكِّ: التَّهكُّمُ بهم.

[{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 50]

فإن قلت: ما الفرقُ بينَ فعلِ الاستجابةِ في الآية، وبينَهُ في قولِه:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا التفسيرُ بناءً على القراءةِ الثانية. قالَ الزجاج: والثاني أظْهَر؛ لقولِه تعالى: {قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} . ولقائلٍ أنْ يقول: لا يَمْنَعُ هذا مِنْ حَمْلِ {سِحْرَانِ} على محمدٍ وموسى عليهما السلام؛ لأنّ المعنى: قل فأتوا بكتابٍ مِنْ عندِ الله هوَ أهدى مِنْ كتابَيْهِما، ويؤيِّدُهُ قراءةُ مَنْ قرأ ((ساحران)).

قولُه: (هذا الشرطُ مِنْ نحوِ ما ذكرتُ)، أي في سورةِ الشعراء:{أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] قال: ((وهوَ الشرطُ الذي يجيءُ بهِ المُدِلُّ بأمْرِهِ المتحقِّقُ بصِحّتِه، ونظيرُهُ قولُ العامِلِ لمَنْ يُؤخِّرُ جُعْلَه: إنْ كنتُ عَمِلْتُ لكَ فوفِّني حقِّي)).

المُدلّ: الواثِق، وهوَ يُدَلُّ بفُلانٍ: يثقُ بِه.

ص: 76

فَلم يَسْتَجِبْهُ عِندَ ذاكَ مُجِيبُ

حيثُ عُدِّيَ بغيرِ اللاّم؟ قلت: هذا الفعلُ يتعدّى إلى الدُّعاء بنفسِه وإلى الدّاعي باللاّم، ويُحذَفُ الدُّعاءُ إذا عُدِّيَ إلى الدّاعي في الغالب، فيُقال؛ استجابَ الله دعاءَه، أو استجابَ له، ولا يَكادُ يقال: استجابَ له دُعاءَه. وأمّا البيتُ فمعناه: فلم يستجِبْ دُعاءَه، على حذفِ المُضاف. فإن قلت: فالاستجابةُ تقتضي دُعاءً ولا دُعاءَ هاهنا.

قلت: قولُه: {فَاتُوا بِكِتَابٍ} أمرٌ بالإتيان، والأمرُ بعْثٌ على الفِعلِ ودُعاءٌ إليه، فكأنّه قال: فإنْ لم يستجِيبُوا دُعاءَك إلى الإتيانِ بالكتابِ الأهدى، فاعلمْ أنَّهم قد أُلزِمُوا لهم حُجّةٌ إلاّ اتباعُ الهوى، ثمّ قال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ} لا يتّبعُ في دينِه إلاّ {هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} أي: مطبوعًا على قلبه، ممنوعَ الألطاف. {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي} أي: لا يلطُفُ بالقوم الثّابِتينَ على الظُّلم؛ الذين اللاّطِفُ بهم عابثٌ. وقولُه: {بِغَيْرِ هُدًى} في موضِع الحال، يعني: مخذُولاً مُخلًّى بينَه وبينَ هواه.

[{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 51]

قُرِئ: {وَصَّلْنَا} بالتَّشدِيد والتَّخفيف. والمعنى: أنَّ القُرآنَ أتاهُم مُتتابعًا مُتواصلاً، وعدًا ووَعيدًا، وقَصصًا وعِبَرًا، ومَواعِظَ ونصائِح: إرادةَ أن يتذكَّرُوا فيُفلِحُوا. أو:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فَلم يستجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيب)، أوّله:

وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى

أي: رُبّ داعٍ دعا: هلْ مِنْ مُجيبٍ إلى الندى؛ أي: هلْ أحدٌ يَمنَحُ المُستَمنِحِين؟ فلَمْ يُجِبْهُ أحد.

قولُه: ({وَصَّلْنَا} ، بالتشديد: السبعة، وبالتخفيف: شاذة.

قولُه: (متتابعًا متواصلاً، وعدًا ووعيدًا)، قالَ الزجّاج: وَصَّلْنا لهُمُ القول؛ أي: فصّلناهُ

ص: 77

نزلَ عليهِم نُزولاً مُتَّصِلاً بعضُه في أثرِ بعض. كقولهِ: {وَمَ يَاتِيهِمِ مِن ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5].

[{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} 52]

نزلتْ في مُؤمِنِي أهلِ الكتابِ. وعن رِفاعَةَ بنِ قَرَظة: نزلتْ في عَشَرةٍ أنا أحدُهم.

وقيل: في أربَعِينَ من مُسلِمِي أهلِ الإنجيل: اثنانِ وثلاثُونَ جاؤُوا مع جعفرٍ من أرضِ الحبشة، وثمانيةٌ من الشّام، والضّميرُ في {مِن قَبْلِهِ} للقُرآن.

[{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} 53]

فإن قلت: أيُّ فرقٍ بينَ الاستئنافَيْن: إنَّهُ وإنّا؟ قلت: الأوّلُ تعليلٌ للإيمانِ به، لأنّ كونَه حقًّا من الله حقيقٌ بأنْ يؤمِنَ به. والثّاني: بيانٌ لقولِه: {آمَنَّا بِهِ} ؛ لأنَّه يُحتَملُ أن يكونَ إيمانًا قريبَ العهدِ وبعيدَه، فأُخبِرُوا أنّ إيمانَهم به مُتَقادِمٌ؛ لأنَّ آباءَهمُ القُدَماءَ قَرؤُوا في الكُتُبِ الأُوَلِ ذكْرَه وأبناؤُهم من بعدِهم {مِن قَبْلِهِ}: من قَبْلِ وُجُودِه ونُزُولِه. {مُسْلِمِينَ} : كائِنينَ على دينِ الإسلام؛ لأنّ الإسلامَ صفةُ كُلِّ مُوَحِّدٍ مُصدِّقٍ للوَحْي.

[{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 54]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بأنْ وصَلْنا ذِكرَ الأنبياءِ أو أقاصيصَ مَنْ مضى، بعضَها ببعض. والحاصلُ أنّ الوصلَ يقتضي التتابُعَ وإنما يقال: وصل؛ إذا كانَ بينَ الكلامينَ اتصالٌ معنويٌ ومناسبة، أو اتصالٌ لفظيٌ بأنْ يكونَ الكلامُ متتابعًا مسرودًا لَمْ يقعْ بينَهُما فاصِلة.

قولُه: ({مِن قَبْلِهِ} مِنْ قَبْلِ وُجودِه)، قيل: أشارَ إلى مذهبِه.

ص: 78

{بِمَا صَبَرُوا} بصَبْرِهِم على الإيمانِ بالتَّوراةِ والإيمانِ بالقُرآن. أو: بصبْرِهِم على الإيمانِ بالقُرآنِ قبلَ نُزُولِه وبعدَ نُزُولِه. أو: بصبْرِهِم على أذى المُشرِكِينَ وأهلِ الكتاب.

ونحوهُ: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنٍ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28]. {بِالحَسَنَةِ السَّيِئَةَ} بالطّاعةِ المَعصيةَ المُتقدِّمة. أو: بالحِلمِ الأذى.

[{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} 55]

{سَلَامُ عَلَيْكُمْ} تودِيعٌ ومُتارَكة. وعن الحَسنِ رضي الله عنه: كلمةُ حِلمٍ من المُؤمِنين {لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} لا نُريدُ مخالطَتهُم وصُحبَتَهُم، فإنْ قلت: مَن خاطبوا بقولِهم {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} ؟ قلت: اللاّغِينَ الذينَ دَلَّ عليهِم قولُه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} .

[{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 56]

{لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لا تقدِرُ أن تُدْخِلَ في الإسلامِ كُلَّ مَن أحبَبتَ أنْ يدخُلَ فيه مِن قومِكَ وغيرِهم، لأنّك عبدٌ لا تعلمُ المَطبوعَ على قلبِه مِن غيرِه {وَلَكِنَّ اللهَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (توديعٌ وتارَكة)، نقلَ في ((المطلع)) عَنِ الزجّاج: لَمْ يريدوا بقولِهم: {سَلَامُ عَلَيْكُمْ} التحية؛ وإنما أرادوا: بيننا وبينَكُمُ المتاركةُ والتسليم، كأنهم قالوا: سَلِمْتُمْ مِنّا، لا نُعارِضُكُمْ بالشّتْمِ والأذى.

قولُه: ({لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}: لا تَقْدِر)، وإنما فسّرَهُ بهذا وعلله بقولِه:((لأنكَ عبدٌ لا تَعلَمُ))؛ لأنّ كلمةَ الاستداركِ وُضِعَتْ لتدخُلَ بينَ كلامَيْنِ متغايِرَيْنِ نفيًا وإيجابًا، فإذا دَلّ قولُه:((ولكنّ الله)) إلى آخرهِ على أنهُ تعالى يقدِرُ على الهدايةِ لعلمِهِ بالمهتدي، يجبُ أنْ يُفسّرَ قولُه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} بقولِه: لا تقدِرُ على الهدايةِ لأنكَ عبدٌ لا تعلمُ المهتدي.

ص: 79

يُدخِلُ في الإسلامِ {مَن يَشَاءُ} وهو الذي عَلِمَ أنَّه غيرُ مطبوعٍ على قلبِه، وأن الأَلطافَ تنفعُ فيه، فَيقْرُنُ به ألطافَه حتّى تدعُوه إلى القَبُولِ {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بالقابِلِينَ مِن الذينَ لا يقبَلُون. قال الزَّجّاج: أجمعَ المُسلِمُونَ أنَّها نزلتْ في أبي طالب، وذلك أنّ أبا طالبٍ قال عندَ موتِه: ((يا مَعشَرَ بنِي هاشِمٍ، أطيعُوا مُحمَّدًا وصدِّقُوه تُفلِحُوا وتَرْشُدُوا، فقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يا عَمِّ، تأمُرُهُم بالنَّصيحةِ لأنفُسِهم وتَدَعُها لنَفْسِك؟ فقالَ: فما تُريدُ يا ابنَ أخِي؟ قال: أريدُ منكَ كلمةً فإنَّكَ في آخرِ يَوْمٍ من أيّامِ الدُّنيا: أن تقولَ لا إلهَ إلاّ الله. أشهدُ لكَ بها عندَ الله. قال: يا ابنَ أخي، قد علمتُ إنَّك لصادِقٌ، ولكنِّي أكرَهُ أن يُقال: خَرِعَ عندَ المَوْت، ولولا أنْ تكُونَ عليكَ وعلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (قالَ الزجاج: أَجْمَعَ المسلمون)، والمذكورُ في ((تفسيرِه)): أجمعَ المفسرونَ أنها نزلتْ في أبي طالب. ثُمّ قال: وجائزٌ أنْ يكونَ ابتداءُ نزولِها بسببِ أبي طالب، وهيَ عامّةٌ لأنهُ لا يهدي إلا الله عز وجل، ولا يُرشِدُ ولا يُوفِّقُ إلا الله، وكذلكَ هوَ يُضِلُّ مَنْ يشاء.

رَوينا في ((صحيح البخاريِّ)) عنِ ابنِ المسَيّب، عنْ أبيه: أنّ أبا طالبٍ لمّا حَضَرَتْهُ الوفاةُ دخلَ عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعندَهُ أبو جهل؛ فقال: ((أي عمّ، قُل: لا إلهَ إلا الله؛ كلمةً أُحاجُّ لكَ بها عندَ الله)). فقالَ أبو جهلٍ وعبدُ الله بنُ أمية: يا أبا طالب، ترغبُ عنْ مِلّةِ عبدِ المطّلِب؟ فلَمْ يزالا يُكلِّمانِهِ حتى قالَ آخرَ شيءٍ كَلّمَهم به: على ملةِ عبدِ المطّلِب. فنزلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} .

وعنْ مسلم والترمذيِّ عنْ أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمِّهِ عندَ الموت: ((قل: لا إله إلا الله؛ أشهدُ لكَ يومَ القيامة))؛ فأنزلَ الله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} .

قولُه: (خرع عندَ الموت)، بالخاءِ المعجمةِ والراء. الجوهري: الخَرَعُ- بالتحريك-: الرّخاوةُ في كلِّ شيء؛ يُقال: خرع الرّجُلُ أي: ضَعُف. النِّهاية: ويُروى بالجيمِ والزاي؛ وهو:

ص: 80

بَنِي أبيكَ غضاضةً ومَسَبّةً بعدي، لقُلتُها، ولأقرَرْتُ بها عَيْنَك عندَ الفِراق، لِما أرى من شِدَّةِ وَجَدِكَ ونصيحَتِك، ولكنِّي سَوفَ أموتُ على ملَّةِ الأشياخِ عبدِ المُطَّلِبِ وهاشِمٍ وعبدِ مَناف)).

[{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 57]

قالت قريش- وقيل: إنّ القائِلَ الحارثُ بنِ نَوفَلٍ بنُ عبدِ مَناف-: نحنُ نعلمُ أنَّك على الحقِّ، ولكنّا نخافُ إِنِ اتَّبعناكَ وخالَفْنا العَرَبَ بذلك، وإنَّما نحنُ أَكَلَةُ رأسٍ، أي: قليلُون أن يتخطَّفُونا مِن أرضِنا، فألقَمَهُم الله الحَجَر. بأنّه مكَّنَ لهُم في الحَرَمِ الذي آمَنَهُ بحُرمةِ البيتِ وآمَنَ قُطّانَهُ بحُرمَتِه، وكانتِ العربُ في الجاهِليّةِ حولَهُم يتغاوَرُون ويتناحَرُون، وهُم آمِنُون في حَرَمِهِم لا يخافُون، وبِحُرمةِ البيتِ هُمْ قارُّونَ بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ، والثَّمَراتُ والأرزاقُ تُجبي إليهِم مِن كُلِّ أَوبٍ، فإذا خوَّلَهُم الله ما خوَّلَهُم مِنَ الأمنِ والرِّزقِ بحُرمةِ البيتِ وَحْدَها وهُم كفرةٌ عَبَدةُ أصنامٍ؛ فكيفَ يستقيمُ أن يُعرِّضَهم للتّخَوُّفِ والتَّخَطُّف، ويَسلُبَهمُ الأمنَ إذا ضَمُّوا إلى حُرمةِ البيتِ حُرمةَ الإسلامِ، وإسنادُ الأمنِ إلى أهلِ الحَرَم حقيقةٌ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخَوْف. وقالَ ثعلب: إنما هوَ بالخاءِ والراء.

قولُه: (غضاضة)، ذِلّةٌ ومَنقَصة.

قولُه: (أَكَلَةُ رأس، أي: قليلون)، يكفيهِمْ رأسٌ واحد، وهوَ جَمْعُ ((آكِل)).

قولُه: (أنْ يتخطّفونا مِنْ أرضِنا)، التخَطُّف: الانتزاعُ بسرعة.

قولُه: (فألقَمَهَم الله الحَجَرَ)، ألقَمَهُ الحَجَر: ألزَمَهُ الحَجّة؛ مِن: إلقامِ الأُمِّ الثدي.

قولُه: (يتغاورون)، الأساس: التغاور: التناحُر، وفلانٌ مغايرٌ ومغاور، ومغوارٌ مِنْ قومٍ مغاوير. والأَوْب: المرجع، كُلُّ أَوْب: كُلُّ وَجْه.

ص: 81

وإلى الحرمِ مجازٌ. {يُجْبي إِلَيْهِ} تُجلَبُ وتُجمَعُ. قُرِئَ بالياءِ والتّاء. وقرئَ: (تُجني)، بالنُّون، من الجَنْي. وتَعْدِيَتُه بـ ((إلى)) كقولِه: يَجنِي إليَّ فيه، ويَجْني إلى الخافة و ((ثُمْراتٌ)): بضمَّتَينِ وبضَمَّةٍ وسُكُون. ومعنى الكُلِّيّة: الكَثرةُ، كقولِه: {وَأُوِتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ

} [النمل: 23]{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} متعلِّقٌ بقولِه {مِّن لَّدُنَّا} أي: قليلٌ منهم يُقِرُّونَ بأنَّ ذلك رِزقٌ من عندِ الله، وأكثُرهم جَهَلةٌ لا يَعلَمُونَ ذلك ولا يَفْطِنُون له، ولو عَلِمُوا أنَّه من عندِ الله لعَلِمُوا أنَّ الخوفَ والأمنَ من عندِه. ولمَا خافُوا التَّخطُّفَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وإلى الحرم مجاز)، إذا جعلَ {ءَلمِنًا} صفةً لـ {حَرَمًا}. قالَ في البقرة:((أو آمنًا مَنْ فيه؛ كقولِك: نهارُهُ صائمٌ وليلُهُ قائم)).

قولُه: (قُرِئَ بالياءِ والتاء)، نافع: بالتاءِ الفوقانية، والباقون: بالياء، وبالنونِ: شاذ. والجني: قطعُ الثمر.

قولُه: (ويجني إلى الخافة)، الجوهري: الخافة: الخريطةُ مِن أدمٍ يُشتارُ فيها العسل.

قولُه: (و ((ثُمُرات)) بضمّتَيْن)، قالَ ابنُ جِنّي: هيَ قراءةُ أبانِ بنِ ثعلب، جُمِعَ ((ثَمَرةٌ)) على ((ثُمْرٍ))؛ نحو: خَشَبةٍ وخُشْب، وأكَمةٍ وأُكْم، ثُمّ ضُمّتْ الميمُ إشباعًا وتمكينًا، ثم جُمِعَ ((ثُمُرٌ)) على ثُمُراتٍ جمعَ التأنيث؛ فجرى ما لا يعقُل مجرى المؤنث، وعليهِ قالوا: يا ثاراتِ فلان؛ جمعُ ثأر.

قولُه: (ومعنى الكُلِّية: الكثرة)، عن بعضِهِم: كلمةُ ((كل)) للإحاطة؛ فاستُعيرتْ لنفسِ الكثير؛ لأنهُ مجموعُ المعنى مفردُ اللفظ.

قولُه: (ولا يَفطِنون)، الفِطْنةُ كالفَهْم؛ تقولُ: فطَنْتُ الشيءَ-بالفتح-، وقدْ فَطِنَ- بالكسر- فِطنةً وفَطانة. وفي حديثِ فاطمةَ رضي الله عنهما: فلَمْ يفطِنْ حتى فطِنْتُ لها.

ص: 82

إذا آمنوا به وخلعوا أنداده. فإن قلت: بم انتصب رزقاً؟ قلت: إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله؛ لأنّ معنى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) ويرزق ثمرات كل شيء: واحد، وأن يكون مفعولاً له. وإن جعلته بمعنى: مرزوق، كان حالاً من الثمرات لتخصصها بالإضافة، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.

[(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) 58]

هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر، فدمرّهم الله وخرّب ديارهم. وانتصبت (مَعِيشَتَها) إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله تعالى:(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وإمّا على الظرف بنفسها، كقولك: زيدٌ ظنى مقيم. أو بتقدير حذف الزمان المضاف، أصله: بطرت أيام معيشتها، كخفوق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وخلعوا أندادَه)، النهاية: هوَ مِن: خلعتُ الثوب؛ إذا ألقيتَهُ عنك. شُبِّهَتِ الطاعةُ واشتمالُها على الإنسانِ به، ومنهُ سُمِّيَ الأميرُ إذا عُزِل: خليعًا قَدْ لَبِسَ الإمارةَ ثُمّ خَلَعَها.

قولُه: (مِن إنعامِ الله عليهم بالرُّقودِ في ظلالِ الأمنِ وخفضِ العيش)، قال:

مَنْ كانَ بالدنيا أخا ثقةٍ بها

والأمنُ مذهبُ ليلهِ ونهارهِ

عطفتْ عليهِ مِنَ الردي بقوابل

قدْ نامَ عنها ناظرًا لحِذارِه

قولُه: (فغَمِطُوا)، أي: حَقّروا. وغمطُ الناس: الاحتقارُ لَهُمْ والإزراءُ بهم، قالُه الجوهري.

قولُه: (وإما على الظرفِ بنفسها)، سمّاهُ ظرفًا مجازًا؛ لأنهُ مصدرٌ مؤوّل. ويجوزُ أنْ يكونَ ((مفعلة)) للزمانِ والمكان؛ كقولِك: زيدٌ ظني مقيم؛ أي: في ظني، والعاملُ في ((ظني)) المنتَزَعُ مِنْ معنى الجملةِ كالإخبارِ والإسنادِ والحكم.

ص: 83

النجم، ومقدم الحاج. وإمّا بتضمين (بَطِرَتْ) معنى:(كفرت) و (غمطت). وقيل: البطر سوء احتمال الغنى، وهو: أن لا يحفظ حق الله فيه. (إِلَّا قَلِيلًا) من السكنى. قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً، أو ساعةًً، ويحتمل أنّ شؤم معاصى المهلكين بقي أثره في ديارهم، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لتلك المساكن من ساكنيها، أى: تركناها على حالٍ لا يكنها أحدٌ، أو: خرّبناها وسوّيناها بالأرض.

تتخلّف الآثار عن أصحابها

حينا ويدركها الفناء فتتبع

[(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ) 59]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وإما بتضمين {بَطِرَتْ} معنى ((كفرت)))، الأساس: ومِنَ المجاز: بَطِر فلانٌ نعمةَ الله؛ أي: استخفّها فكفَرَها، ولم يستَرْجِهْها فيشكُرْها. ومنهُ قولُه تعالى:{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} .

قولُه: (البَطَر: سوءُ احتمالِ الغِنى؛ وهوَ أنْ لا يحفظَ حقّ الله فيه)، النهاية: في الحديث: ((الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ)) هوَ أنْ يجَعَلَ ما جَعَلَهُ الله حقًّا مِنْ توحيدِهِ وعبادتِهِ باطلاً.

قولُه: ({إِلاَّ قَلِيلاً} مِنَ السُّكْنى)، يُقال: سَكَنْتُ داري وأسْكَنْتُها غيري، والاسمُ مِنه: السُّكْنى؛ كما أنْ العُتْبى مِنَ الإعتاب. فقولُه: ((إلا قليلاً مِنَ السكنى)) معناه: إلا سُكنى قليلاً.

قولُه: (أي: تركناها على حالٍ لا يسكُنُها أحد)، وذلكَ أنّ معنى أنهُ تعالى وارثٌ هو: أنّ الأشياءَ كلّها في العاقبةِ زائلةٌ عمّنِ ادّعى ملكَها، صائرةٌ إليهِ تعالى لمّا ينادِي: لِمَنِ الملكُ اليوم؟ فيُقال: لله الواحدِ القهار.

قولُه: (تتخلف الآثار) البيت للمتنبي، يعني: تتبعُ الآثارُ الأصحابَ، أي: الآثارُ تبقى بعدَ صاحبِها زمانًا مِنَ الدهر، ثم تفني وتتبعُ صاحِبَها في الفناء.

ص: 84

وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقتٍ (حَتَّى يَبْعَثَ فِي) القرية التي هي أمّها، أى: أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها (رَسُولًا) لإلزام الحجة وقطع المعذرة، مع علمه أنهم لا يؤمنون. أو: وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعنى: مكة رسولاً؛ وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وقرئ: (إمها) بضم الهمزة وكسرها لاتباع الجرّ، وهذا بيانٌ لعدله وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقَصَبتُها التي هيَ أعمالُها)، الجوهري: قصبةُ القرية: وسطُها، وقصبةُ السواد: مدينتُها.

قولُه: (لإلزامِ الحُجّةِ وقطعِ المعذِرة، معَ علمِهِ أنّهُمْ لا يُؤمنون)، هذا يَهدِمُ قاعدةَ مذهبِهِ؛ لأنّ لَهُمْ أنْ يعتذروا بسابِقِ علمِهِ فيقولوا: أليسَ في علمِكَ وحُكمِكَ أنّا لا نؤمِن؟ فكيفَ لنا أنْ نأتِيَ على خِلافِ علمِك؟ وليسَ الجوابُ عنهُ إلا أنْ يُقال: {لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23].

قولُه: (أو: وما كانَ في حُكم الله وسابقِ قضائه)، هذا الوجهُ مبنيٌّ على قولِه تعالى:{وَإِن مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ} [الإسراء: 58]، ومِنَ أمارات القيامةِ بعثةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال:((بُعِثتُ أنا والساعةُ كهاتين)). والوجهُ الأولُ أوفقُ لتأليفِ النّظْم؛ لأنهُ تعالى لمّا قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةِ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} بَيّنَ أنّ الإهلاكَ إنما كانَ لأنهم لم يشكروا الله على ما أوْلاهُمْ مِنَ النعمة، ومِنْ أَجَلِّ النعمةِ بعثةُ الرُّسُلِ وشكرُ الاقتداءِ بهداهُمْ والاقتفاءِ بآثارِهم.

قولُه: (إلا بعدَ تأكيدِ الحُجّةِ والإلزامِ ببعثةِ الرُّسُل)، الانتصاف: هذا سؤالٌ واردٌ على

ص: 85

ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال تعالى:(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)[هود: 117].

فنصّ في قوله: (بِظُلْمٍ) أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلماً منه، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافيةٌ للظلم، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه، كما قال الله تعالى:(وَما كانَ الله لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ)[البقره: 143].

[(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) 60]

وأى شيء أصبتموه من أسباب الدنيا؛ فما هو إلا تمتعٌ وزينةٌ أياماً قلائل، وهي مدة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القَدَريّة؛ إذْ لَوْ كانتِ العقولُ تحكُمُ بأحكامِ التكاليف؛ لقامتِ الحُجّةُ على الناس، وإنْ لَمْ يكُنْ بعثة، ولا يجدونَ عنهُ جوابًا.

قولُه: (ولا يجعلُ عِلْمَهُ بأحوالهِم حُجّةً عليهم)، يعني: أنّ الله تعالى لا يعامِلُ خلقَهُ بعِلْمِه؛ بلْ يعاملُهُم بفعلِهِم.

قولُه: (فنَصّ في قولِه: {بِظُلْمٍ} أنّهُ لوْ لأهلَكَهُم وهُمْ مصلِحون؛ لكانَ ذلكَ ظُلمًا مِنه)، فجوابُهُ أنهُ لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ معناه: ليسَ مِنْ شأنِهِ وعادتِهِ إلا التفضُّلُ والرحمة؛ فلا يُهلِكُهُم في حالِ صلاحِهِم، ولوْ فَرَضَ إهلاكَها فبِعَدِلِه؛ لأنهُ يتصرّفُ في مُلكِهِ؟ كما سَبَق.

قولُه: (وأيّ شيءٍ أصَبْتُموه)، أبرزَ الضميرَ المنصوبَ ليُؤذِنَ ((ما)) - في {وَمَا أُوتِيتُم} - موصولة، وقدْ بُيِّنَتْ بقولِه:{مِن شَيْءٍ} ؛ فأفادَتِ الشيوعَ فأُجِيبَ بالفاءِ في قولِه: {فَمَتَاعُ} على طريقِ الإخبارِ والتنبيه، كما في قولِه:{وَمَا بِكُم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]. ويؤيِّدُهُ قولُه: {وَمَا عِند اللهِ خَيْرٌ} ؛ لأنهُ قرينة، وليستْ {وَمَا} إلا موصولة.

وأما إفادةُ الحصرِ في قولِه: ((فما هوَ إلا تمتُّعٌ وزينة)) فمِنْ مفهومِ التركيب؛ لأنّ الآيةَ مِنَ

ص: 86

الحياة المتقضية. (وَما عِنْدَ الله) وهو ثوابه (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك (وَأَبْقى)؛ لأنّ بقاءه دائمٌ سرمدٌ. وقرئ: (يعقلون) بالياء، وهو أبلغ في الموعظة. وعن ابن عباسٍ رضى الله عنهما:"أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصنافٍ: المؤمن، والمنافق، والكافر؛ فالمؤمن يتزوّد، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع".

[(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) 61]

هذه الآية تقريرٌ وإيضاح للتي قبلها. و (الوعد الحسن): الثواب؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقسيمِ الحاضر، كأنُه قيل: إنّ ما يتصلُ بكُمْ ما هوَ مِنْ عندِ الله، أو غيرُ ذلك. فالأوّلُ باقٍ لا محالة، والثاني فانٍ ولا شكّ فيه.

قولُه: (وقُرِئَ: ((يعقلون)))، بالياءِ التحتانيّة: أبو عمرو، وهوَ أبلغُ في الموعظة؛ لأنّ الخطابَ معَ أهلِ مكة، كأنهُ لمّا عَدَلَ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبةِ آذَنَ بأنّ أولئك البُعداءَ مِنَ الخيرِ لا عقلَ لهم؛ حيثُ يُؤْثِرونَ الفاني على الباقي، والدنيءَ الحقيرَ على الشريفِ العظيم. روى الإمامُ عنِ الشافعيِّ رضي الله عنه: مَنْ بثُلُثِ مالِهِ لأعقلِ الناسِ صرفَ إلى المشتغِلينَ بطاعةِ الله؛ لأنّ أعقلَ الناسِ مَنْ أعطى القليلَ وأخذَ الكثير. فكأنهُ رضي الله عنه اقتبسَ المعنى مِنْ هذهِ الآية.

قولُه: (هذهِ الآيةُ تقريرٌ وإيضاح)، أما كونهُ تقريرًا فإنهُ ضَرَبَ المعنَيَيْنِ- أعني:{وَمَا أُوتِيتُم} ، {وَمَا عِندَ اللهِ} - مثلاً في هذهِ الآية، وأخرجَهُما مخرجَ المشبّهِ والمشبّهِ به، وأَدْخَلَ همزةَ الإنكارِ على فاءِ التعقيبِ العاطفةِ لهذهِ الجملةِ على الأولى. والمعنى: أَبَعْدَ هذا التفاوتِ الظاهرِ يستويان؟ أي: أبناءُ الدنيا والآخرة. وأما البيانُ فإنهُ تعالى ذكرَ أنّ ما أوتوا مِنْ شيءٍ فهوَ تمتُّعٌ وزينةٌ أيامًا قلائل. ولمْ يبيِّنْ في تلكَ الآيةِ مالَها وسوءَ مغبّتِها فبيّنَ في هذهِ الآيةِ أنّ المالَ أنّهُمْ يُحضَرونَ النار، وذكَرَ فيها أنّ ما عندَ الله خيرٌ وأبقى. ولمْ يبيِّنْ العاقبةَ فيه؛ فبيّنَ في

ص: 87

لأنه منافع دائمةٌ على وجه التعظيم والاستحقاق، وأى شيء أحسن منها؟ ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى. و (لاقِيهِ) كقوله تعالى:(ولقاهم نضرة وسروراً)، وعكسه (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59] (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) من الذين أحضروا النار، ونحوه:(لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[الصافات: 57]، (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات: 127] قيل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى جهل. وقيل: في على وحمزة وأبى جهل. وقيل: في عمار ابن ياسرٍ والوليد بن المغيرة. فإن قلت: فسر لي الفاءين وثم، وأخبرنى عن مواقعها. قلت: قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما، ثم عقبه بقوله:(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) على معنى: أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا؟ فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها. وأمّا الثانية فللتسبيب: لأن لقاء الموعود مسببٌ عن الوعد الذي هو الضمان في الخير. وأمّا (ثم) فلتراخى حال الإحضار عن حال التمتيع، لا لتراخى وقته عن وقته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذهِ أنّ الموعودَ الجنّة، وإليهِ الإشارةُ بقولِه:((والوَعْدُ الحَسَن: الثواب)) إلى قولِه: ((ولذلكَ سَمّي الله الجنةَ بالحسنى)).

قولُه: (لأنُه منافِعُ دائمة)، تعليلٌ لتفسيرِ الوعدِ الحسنِ بالثواب. وإنّما قَيَّدَ التعريفَ بقولِه:((على وجهِ التعظيم))؛ لأنّ المنافعَ الدينيويةَ ليستْ للتعظيم؛ أكثرُها بلْ جُلُّها استدراج، قالَ الله تعالى:{إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]. وقيّدَ الاستحقاقَ إشارةً إلى مذهبِه؛ فإنهُ عندَنا على وجهِ التفضُّل.

قولُه: (وأما {ثُمَّ} فلتراخي حالِ الإحضارِ عنْ حالِ التمتيع، لا لتراخي وقتِهِ عنْ وقتِه)، لأنهُ أبلَغُ وأكثرُ إفادةً لأنّ تأخُّرَ زمانِ الإحضارِ عنْ زمانِ التمتيعِ ظاهرٌ بَيِّن، لا يحتاجُ إلى التنبيهِ عليه. قالَ صاحبُ ((الفرائد)): لا مانعَ أنْ تكونَ مستعمَلةً في حقيقتِها وهوَ التراخي في الزمان، والحملُ على المجازِ بدونِ المانعِ باطل. ويمكنُ أنْ يُقال: متّعناهُ زمانًا وهوَ زمانُ حياتِه، ثُمّ أُحضِرَ يومَ القيامة.

ص: 88

وقرئ: (ثُمَّ هُو) بسكون الهاء، كما قيل (عضدٌ) في (عضدٍ)؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء -في (فهو)، (وهو)، (ولهو) - أحسن؛ لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده؛ فهو كالمتصل.

[(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) 62]

(شُرَكائِيَ) مبنى على زعمهم، وفيه تهكمٌ. فإن قلت:(زعم) يطلب مفعولين، كقوله:

ولم أزعمك عن ذاك معزلا

فأين هما؟ قلت: محذوفان، تقديره: الذين كنتم تزعمونهم شركائي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلتُ: مَنْ مُنِحَ الذّوْقَ السليمَ والطّبْعَ المستقيمَ فلْيَذُقْ ما أثرُهُ معَ قولِنا: متّعناهُ أيامًا قلائلَ ثُمّ أَوْقَعناه في مشاقِّ الأبد، على نحوِ قولِه:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]؛ هلْ يَجِدُ لهُ رَوْنَقًا وبهاء؟ ولنحقق أنّ أربابَ البلاغةِ وأصحابَ الفصاحةِ إذا وجدوا الطريقَ إلى المجازِ عَدَلوا عنِ الحقيقة؛ لِتضمُّنِهِ مثلَ هذهِ اللطائف.

قولُه: (وقُرِئَ: ((ثُمَّ هْوَ)) بسكونِ الهاء)، قرأها قالونُ والكسائي.

قولُه: (ولم أزعُمْكِ عنْ ذاكَ معزلاً)، أولُه:

وإنّ الذي قَدْ عاشَ يا أُمّ مالكٍ

يموتُ

ويُروى:

عَددتَ قُشيرًا إذْ فَخَرْتَ فلَمْ أُسَا

بِذاكَ

ص: 89

ويجوز حذف المفعولين في باب "ظننت"، ولا يصح الاقتصار على أحدهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ويجوزُ حذفُ المفعولَيْنِ في بابِ ((طننت))، ولا يصحُّ الاقتصارُ على أحدِهما)، وذكرَ في ((المفصّل)): وليسَ لكَ أنْ تقول: حَسِبْتُ زيدًا، وتَسْكُت؛ لِفَقْدِ ما عَقَدْتَ عليهِ حديثَك، فأمّا المفعولانِ معًا فلا عليكَ أنْ تسكُتَ عنهما. وذكرَ في فاتحةِ سورةِ العنكبوت: أنّ الحُسبانَ لا يصحُّ تعلُّقُهُ بمعاني المفرداتِ ولكنْ بمضامينِ الجُمَل، إلى آخرهِ.

وقالَ بعضُهم: فمَنْ قرأَ ((الكاشفيةَ)) وضح الفرق بَين امتناعِ طرحِ أحدِ المفعولَينِ وبينَ جوازِ طرح أحدِ الشطرَيْنِ في بابِ المبتدأ والخبر، معَ أنَّ البابَيْنِ مِنْ حيثُ المعنى سِيّان؛ وذلكَ أنَّ تعَلُّقَ تلكَ الأفعالِ بمضامينِ الجُمَلِ وهيَ أمورٌ خَفِيّةٌ في نفسِها؛ إذْ هيَ مِنَ المعقولاتِ الذهنيةِ لا مِنَ الملفوظات، والتعلُّقُ بها أمرٌ خَفِيّ، ولوْ طُرِحَ أحدُ الشطرَيْنِ لتراكَمَ الخفاء، بخلافِ الجملةِ الخبرية؛ فإنّ مراتبَ الخفاءِ فيهِ أقل، فاعرِفْه. وأما جوازُ طرحِ المفعولَيْن؛ فلأنّ عندَ طرحِهما ينتفي المضمونُ وتعلُّقُ الفعلِ به، ويصيرُ الغرضُ نفسَ إحداثِ ذلكَ الفعل.

وقلتُ: هذا كلامٌ حسن؛ فإنّ قولَهُ تعالى: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12] حينئذٍ بمنزلةِ: فلانٌ يعطي ويمنعُ في الشياع في جميع ما فسدَ مِنَ الظنّ. وقولُ القائل: مَنْ يسمعْ يَخَلْ؛ أي: مَنْ يسمعْ يَخَلِ المسموعَ صحيحًا؛ إذْ معنى ((مَنْ يسمع)): مَنْ يركَنْ إلى السماع. والآيةُ واردةٌ على هذا.

وقالَ صاحبُ ((التحفة)): معنى الاقتصارِ أنْ لا يكونَ أحدُ المفعولَيْنِ مرادًا، فأما إذا حُذِفَ لقرينةٍ دَلّتْ عليهِ وهوَ مُرادٌ معنًى؛ فليسَ اقتصارًا، كما لا يُسمّى حذفُ الخبرِ اقتصارًا على المبتدأ؛ لأنّ الحذفَ لا يجوزُ إلا بدليل. وأما بابُ ((كسوت)) فيجوزُ الاقتصارُ بدليلٍ وبغيرِ دليل؛ لأنّ الأولَ منهما غيرُ الثاني. فأما قولُ الأخفش: إذا دخلَتْ هذهِ الأفعالُ على ((أنّ))

ص: 90

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نحْوَ: ظننتُ أنكَ قائم؛ فالمفعولُ الثاني منهما محذوف، والتقدير: ظننتُ قيامَكَ كائنًا؛ لأنّ المفعولَ مع ((أنّ)) المفتوحة بتأويلِ المفرد. وأما سيبويهِ فيرى أنها سَدّتْ مَسَدّ المفعولَيْن، وأجازَ الكوفيّونَ الاقتصارَ على الأوّلِ إذا سَدّ شيء مَسَدّ الثاني كما في بابِ المبتدأِ، نحو: أقائمٌ أخواك؟ فيقولُ على هذا: ظننتُ قائمًا أخواك. وقالَ المالكي: إذا دَلّ دليلٌ على أحدِهِما جازَ حذفُه، كقولِه:

كأنْ لَمْ يكنْ بَيْنٌ إذا كانَ بعدَهُ

تلاقٍ ولكنْ لا أَخَالُ تلاقيا

أي: لا أَخالُ الكائنَ تلاقيًا، أو: لا أخالُ بعدَ البَيْنِ تلاقيًا. وعليهِ قولُ المصنّفِ في قولِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَا} [آل عمران: 169]: ويجوزُ أنْ يكونَ {الَّذِينَ قُتِلُوا} فاعلاً؛ المعنى: ولا تحسَبَنّهُمُ الذينَ قتلوا أمواتًا؛ أي: أنفسَهُم. إنما جازَ حذفُهُ لأنهُ في الأصلِ مبتدأ؛ فحُذِفَ كما حُذِفَ المبتدأُ في قولِهِ: {أَحْيَاءُ} [آل عمران: 169]؛ أي: هُمْ أحياء. وقولُه: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور: 57] الأصل: لا تحسَبَنّهُمُ الذينَ كفروا مُعجِزِين، ثُمَّ حُذِفَ الضميرُ الذي هوَ المفعولُ الأوّل. وكانَ الذي سَوّغَ ذلكَ أنّ الفاعلَ والمفعولَيْنِ لمّا كانا كشيءٍ واحد؛ اقتنعَ بذكرِ الاثنَيْنِ عنْ ذِكرِ الثالث.

وقلتُ: في هذا القيدِ إعلامٌ بشدةِ الاهتمامِ بمضامِينِ الجُمَلِ دُونَ مفرداتِها، ولعلّ السرّ أنّ هذهِ الأفعالَ قيودٌ للمضامينِ تدخلُ على الجملةِ الاسميةِ لبيانِ ما هيَ عنه؛ لأنّ النسبةَ قدْ تكونُ عنْ عِلْمٍ وقدْ تكونُ عنْ ظنٍّ، فلَوِ اقْتَصَرَ على أحدِ طرفَي الجملةِ لقيامِ قرينةٍ يوهِمُ أنّ الذي سيقَ لهُ الكلامُ والذي هوَ مهتمٌّ بشأنِهِ الطرفُ المذكور، وليسَ المضمونُ مما يُعتني به. نعمْ إذا كانَ الفاعلُ والمفعولُ لشيءٍ واحدٍ يهونُ الخَطْب.

ويؤيِّدُهُ ما ذكرَهُ صاحبُ ((الإقليد)): أنك إذا قلتَ: حسبتُ زيدًا منطلقًا؛ فقدْ عقدْتَ الحديثَ على أنّ زيدًا مظنونٌ انطلاقُهُ عندَك، فلَوْ قلتَ: حسبتُ زيدًا، وسَكَتّ؛ فقدْتَ ما

ص: 91

[(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّانا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) 63]

(الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الشياطين أو أئمة الكفر ورءوسه. ومعنى (حق عليهم القول): وجب عليهم مقتضاه وثبت، وهو قوله:(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[هود: 119]، [السجده: 13] و (هؤُلاءِ) مبتدأ، و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) صفته،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوَ فيهِ الفائدةُ العظمى وهوَ الثاني؛ لأنهُ هوَ الذي وقعَ فيهِ الشك، وقصدُكَ بهذا التركيبِ أنْ تُخبِرَ بذلكَ لا الإخبارُ بذاتِ زيد؛ وإنما تذكرُ ((زيدًا)) ليترتّبَ الثاني عليه. ولوْ قلتَ: حسبتُ منطلقًا وسَكَتّ؛ خَرَجَ مِنْ يَدِكَ ما يفيدُهُ الأولى، وهوَ أنهُ هوَ الذي انطلاقُهُ مظنونٌ عندَك؛ فإذنْ لابدّ مِنْ ذِكْرِ كِلَيْهما. وأما قولُ القائل: إنّ تَعَلُّقَ تلكَ الأفعالِ بمضامينِ الجُمَل، وهيَ أمورٌ خَفِيةٌ، إلى آخرِه؛ فمدفوعٌ بجوازِ حَذْفِ أحدِ شطرَيِ اسمِ إنّ وخبرِه، وأنها لتوكيدِ مضمونِ الجملة.

قولُه: (و {هَؤُلَاءِ} مبتدأ، و {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} صفتُه)، روى صاحبُ ((الكشف)) عن أبي عليٍّ أنه قال:{هَؤُلَاءِ} مبتدأ، و {الَّذِينَ أَغْوَيْنآ} خبرُ مبتدأ آخر، والتقدير: هؤلاءِ همُ الذّين أغويناهم، و {أَغْوَيْنَاهُم كَمَا غَوَيْنَا} استئنافٌ، ولا يكونُ ((الذين أغويناهم)) صفةً لـ {هَؤُلَاءِ} ويكونُ {أَغْوَيْنَاهُمْ} خبرًا؛ لأنهُ حينئذٍ لا يكونُ مُفيدًا بقولِه:{أَغْوَيْنَاهُمْ} زيادةً لم تُستَفَدْ بالصفةِ والموصوف.

قال: فإنْ قلتَ: فلِمَ لا يكونُ قولُه: {أَغْوَيْنَاهُمْ} خبرًا، وجازَ لتعلُّقِ قولِه:{كَمَا غَوَيْنَا} به؛ فيكونُ مفيدًا فائدةً زائدةً ليستْ في الصفةِ والموصوف؟ والجواب: إنّ ذلكَ يُوجبُ أنْ يكونَ قولُه: {غَوَيْنَا} جاريًا مجرى ما لابدّ مِنهُ مِنْ أحدِ جُزَئيِ الجملة، وهذا لا يجوز؛ لأنهُ ظرف، والظروفُ فَضَلاتٌ في الكلامِ بمنزلةِ المفعول، فكما لا يجوز: زيدًا ضَرَب؛ بنصبِ ((زيد)) على أنهُ مفعولُ ((ضَرَب))، وفي ((ضَرَبَ)) ضميرٌ يعودُ إليه؛ لأنهُ يؤدي إلى أَنْ يكونَ الفَضْلةُ لابدّ منهُ لِعَوْدِ الضميرِ إليه؛ فكذا لا يجوزُ هذا هاهنا. هذا كلامُه.

ص: 92

والراجع إلى الموصول محذوفٌ، و (أَغْوَيْناهُمْ) الخبر، والكاف صفة مصدرٍ محذوف، تقديره: أغويناهم، فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون: أنا لم نغو إلا باختيارنا، لا أنّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد قالَ [أبو] عثمان: إنا رأَيْنا الظرفَ الذي يدّعِيهِ فضلةً لابدّ مِنه، كقولهِم: زيدٌ قائمٌ عمروٌ في دارهِ؛ فلابدّ مِنْ قولِك: في دارِه؛ ليعودَ مِنَ الجملةِ إلى ((زيد)) ضمير، وهوَ فَضْلةٌ في الكلام؛ فكذا هاهنا ينبغي أنْ يكونَ {أَغْوَيْنَا} خبرًا؛ لتعلُّقِ قولِهِ:{كَمَا غَوَيْنَا} بهِ وإنْ كانَ فَضْلة.

وأما المصنفُ فقدْ خالفَ أبا عليٍّ وأبا عثمانَ أيضًا، وذهبَ إلى أنهُ كَرّرَ {أَغْوَيْنَا} في الخبر؛ ليعلِّقَ بهِ المصدرَ الذي يُوجِبُ إضمارَ فعلٍ يطابِقُه؛ لأنّ {كَمَا غَوَيْنَا} غيرُ مطابِقٍ لـ {أَغْوَيْنَا} ، فيفيدُ تشبيهَ الغواية بالغواية؛ ولذلكَ قال: إنّا لَمْ نُغْوَ إلا باختيارِنا؛ لأنّ فَوْقَنا مُغوِين. ومِثْلُ في تكرير الخبرِ للتوكيدِ والتعليقِ قولُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] إذا قيل: استزلالُهم الشيطان هوَ التّوَلِّي كما سَبَق، وفائدةُ التكريرِ والتعليقِ وتقديرِ فاءِ التعقيبِ الإيذانُ بتسجيلِ استحقاقِ العذابِ مِنْ إمهال؛ إذِ المعنى: أغويناهُمْ فَغَوَوْا، ولَمْ تتخلّفْ غوايتُهُمْ عنْ إغوائِنا إياهم؛ أي: أطاعونا بسُرعةٍ مِنْ غيرِ رَوِيّةٍ وتَفَكُّر.

والذي يقتضيهِ النّظْمُ أنْ يُرادَ بقولهِ: {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الشركاءُ مِنَ الشياطينِ والجنِّ بشهادةِ قولهِ: {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} ، وقولِه:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} بعدَه؛ وذلكَ أنّ الشركاءَ لمّا خَذَلوهُمْ وتَبَرّؤوا مِنهُمْ قيلَ لَهُمْ مُوَبِّخًا: هؤلاء شُركاؤُكُمُ الذينَ كنتُمْ تزعمونَ أنّهُمْ يشفعونَ لَكُمْ وينصرونكم؛ فادْعُوهُمْ لِيستجيبوا لكُم. فحينئذٍ المعنى: هؤلاءِ الذينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهُمْ فَغَوَوْا كما غَوَيْنا نحنُ بإغواءٍ قاهر. لأنّ الأصلَ في التشبيهِ أنْ يكونَ الوجهُ شاملاً للطرفَيْن؛ فلا بدّ مِنْ تقديرِ ((قاهر)). ويَعضُدُهُ قولُه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُستَقِيمَ} [الأعراف: 16].

ص: 93

فوقنا مغوين أغرونا بقسرٍ منهم وإلجاء. أو دعونا إلى الغىّ وسوّلوه لنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسةًًً وتسويلاً لا قسراً وإلجاءً، فلا فرق إذا بين غينا وغيهم. وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان، وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان (إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم: 22] والله عز وجل قدّم هذا المعنى أوّل شيء، حيث قال لإبليس (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر: 42]. (تَبَرَّانا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ناهيكَ بذلكَ صارفًا)، عنْ بعضِهم: نَاهِيكَ ونَهاكَ ونَهْيُك؛ أي: حَسْبُك، يُقال: هذا رجلٌ ناهِيكَ مِنْ رَجُل، وأَنْهاكَ مِنْ رَجُل. وتأويلُهُ أنهُ بِجِدِّهِ وغَنائِهِ يَنْهاكَ عنْ تَطَلُّبِ غيرِه. قال:

هوَ الشيخُ الذي حدّثْتَ عنه

نهاكَ الشيخُ مكرمةً وفخرَا

وهذه امرأةٌ ناهيكَ مِنَ امرأة؛ تُذكّرُ وتُؤنّث، وتُثَنى وتُجمَع؛ لأنهُ اسمُ فاعل. وإذا قلتَ: نَهْيُكَ مِنْ رَجُل، كما تقول: حَسْبُكَ مِنْ رَجُل؛ لَمْ تُثَنّ ولَمْ تُجْمَع؛ لأنهُ مصدر. وتقولُ في المعرفة: هذا عبدُ الله ناهيكَ مِنْ رَجُل؛ فتَنْصِبُ ((ناهيك)) على الحال.

قولُه: (والله تعالى قدّمَ هذا المعنى)، وهوَ أنّ إغواءَ الشيطانِ لمْ يكنْ إلا وَسْوَسةً وتسويلاً، لا قَسْرًا وإلجاءً.

قولُه: (أول شيء)، أي: أولُ قصةٍ حكاها عنْ إبليس، كقولِه تعالى:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيّكُم مِن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي} [إبراهيم: 22].

ص: 94

بأنفسهم، هوى منهم للباطل ومقتاً للحق، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطانٍ (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم. وإخلاء الجملتين من العاطف؛ لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى.

[(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ *وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ *فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) 64 - 66]

(لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لوجهٍ من وجوه الحيل يدفعون به العذاب. أو: لو أنهم كانوا مهتدينمؤمنين، لما رأوه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وإخلاءُ الجملتيْنِ مِنَ العاطف؛ لكونهما مُقرِّرتيْنِ لمعنى الجملةِ الأولى)، إحداهُما:{تَبَرَّانَا إِلَيْكَ} ، وثانيهِما:{مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} ، كما قال الشاعر:

وقدْ رَكِبتُمْ صماءَ معضلةً

تفري البراطيلَ تفلقُ الحَجَرا

وذلكَ أنّ الشركاءَ لمّا سَمِعوا: {أَيْنَ شُرَكَاءِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تبرّؤوا عنهُمْ بقولِهم أولاً: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذينَ أَغْوَيْنَا أغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} ؛ أي: غَوَوْا باختيارِهِم؛ لأنّ إغواءَنا لم يكنْ إلا وسوسةً وتسويلاً لا قسرًا، ولا فرقَ بينَ غَيَّنا وغَيِّهم.

قولُه: ({لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} لِوَجهٍ مِنْ وجوهِ الحيلِ يدفعونَ بهِ العذاب)، فالجوابُ محذوفٌ، ودلّ عليهِ سياقُ الكلام.

قولُه: (أوْ لوْ أنهُمْ كانوا مهتدِينَ مؤمِنين؛ لَمَا رَأَوْه)، والجوابُ أيضًا محذوفٌ يدلُّ عليهِ قولُه:{وَرَأَوْا العَذَابَ} . ولوْ أنهُمْ كانوا مُهتَدينَ في الدنيا لَمَا رَأوا العذاب في الآخرة؛ فقولُه: ((لَمَا رَأَوْه)) متعلقٌ بالوجهِ الثاني، ويجوزُ أنْ يتعلّقَ بالوجهيْن.

ص: 95

أو تمنوا لو كانوا مهتدين. أو تحيروا عند رؤيته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أو تَمَنّوْا لو كانوا مُهتدِين)، وَلّدَ ((لو)) معنى التمنِّي لجامعِ الامتناع، ولمْ يَحتَجْ إلى الجواب. قالَ صاحبُ ((التقريب)): وفيهِ نظر؛ إذْ حقُّهُ أنْ يُقال: لوْ كُنا، إلا أنْ يكونَ على الحكاية؛ كأقْسَمَ لَيَضْرِبَن، أو على تأويل: ولوْ مُتَمَنِّينَ هدايتَهُم.

قولُه: (أو تحيّرُوا عند رؤيتِه)، يعني وَضَعَ {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مَوضِعَ ((تحيّرُوا لرؤيتِه)) على إرادةِ التمني؛ إما مِنْ كلِّ أحدٍ لشدةِ ما رَأَوْا، أوْ مِنَ الله على المجازِ كما في قولِهِ تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} [البقرة: 103].

قالَ المصنف: ويجوزُ أنْ يكونَ {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} تمنِّيًا لإيمانِهِم على سبيلِ المجاز؛ كأنهُ قيل: وليتَهُمْ آمنوا، وعلى إرادةِ التحيُّرِ النظم؛ وذلكَ أنهُمْ لمّا خُوطِبوا بقولِه:{أَيْنَ شُرَكَاءِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] والشركاءُ أظهَرُوا البراءةَ مِنهُم، ثُمّ قيلَ لهم تهكُّمًا: أينَ شركاؤُكُم؟ أي: ناصِرُكُمْ ومُعينُكُم، فادعُوهُمْ فإذا دَعَوْهُمْ ولمْ يستجيبوا لهُمْ وَرَأَوُا العذابَ قدْ دَنا؛ تحيّرُوا وبُهِتُوا ولَحِقَهُمْ ما لا يُوصَفُ كُنْهُه؛ فعندَ ذلكَ يُقالُ بلسانِ الحالِ ترحُّمًا عليهِم: ليتَهُم كانوا مُهتَدِين. فهوَ مِنْ إطلاقِ المُسَبّبِ على السّبَب؛ لأنّ تحيُّرَهُمْ سببٌ حاملٌ على هذا القول. وفي قولهِ: ((حكي أولاً ما يُوبِّخُهُم)) إشعارٌ بهذا النظم. قالَ الحِيريُّ: في قولِه: ((لوْ كانوا مُهتدِينَ في الدنيا؛ لَما رَأَوُا العذابَ في الآخرة)) نظرٌ؛ لأنّ الدالّ على المحذوفِ {وَرَأَوُا العذابَ} وهوَ مُثَبت؛ فلا يجوزُ أنْ يُقدّرَ المحذوفُ منفِيًّا. والصوابُ والله أعلم: لوْ أنهُمْ كانوا يَهتَدُونَ لَرَأَوُا العذاب؛ أي: لوْ لمْ يكونوا ضالِّينَ في الدنيا لَعلِمُوا العذابَ موجودًا موعودًا. وجوابُهُ سبقَ في قولِه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّتُصِيبَنَّ} [الأنفال: 25] في مسألة: لا تَدْنُ مِنَ الأسدِ يأكُلك؛ لأنّ المعنى: إنْ دَنَوْتَ يأكُلْك؛ لأنهُمْ يميلونَ إلى المعنى كلّ الميل، حتى إنهُمْ لا يلتَفِتونَ إلى إيجابِ اللفظِ ونَفْيه.

ص: 96

وسدروا فلا يهتدون طريقاً. حكى أوّلاً ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم؛ لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم وزينوا لهم عبادتها، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم، وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدى إليهم (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات؛ لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وسَدِرُوا)، الجوهري: السادِر: المتحيٍّر، والسَّدَر: تحيُّرُ البَصَر.

قولُه: (حكي أولاً)، يعني قولَه:{أَيْنَ شُرَكَاءِيَ} الآية، وقوله:((ثم ما يقوله الشياطين)) يعني به قوله: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الآية، وقوله:((ما يشبه الشماتة))؛ أي قوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} وهو كما يقول لمن استظهر بغيره في النصرة واعتمد عليه ثم خذله عند الحاجة إليه: ادع ناصرك ينصرك، وقوله:((ثم ما يُبكَّتون به))، أي: قوله {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} .

قولُه: (لأنهُمْ إذا وُبِّخُوا بعبادةِ الآلهة)، تعليلٌ لتقديمِ حكايةِ الله ما يوبِّخُهُمْ به، وهو:{وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِيَ} على حكايةِ ما تقولُهُ الشياطين؛ وهو قولُه: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ} .

قولُه: (فصارتِ الأنبياءُ كالعمى)، هذا التشبيهُ إشارةٌ إلى أنّ ((الأنباءَ)) في قولِه:{فَعَمْيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ} استعارةٌ مَكنِية، يدلُّ عليهِ قولُه:((لا تهتدي إليهم)). قالَ القاضي: أصلُه: فَعمُوا عنِ الأنباء؛ لكنهُ عكسَ مبالغةً، يريدُ مِنْ بابِ القلب؛ كقولهِ:

لُعابُ الأفاعي القاتلاتِ لُعابُهُ

ص: 97

والعجز عن الجواب. وقرئ: (فعميت)، والمراد بالنبأ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال، ويفوّضون الأمر إلى علم الله، وذلك قوله تعالى:(يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة: 109] فما ظنك بالضلال من أممهم.

[(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) 67]

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) من المشركين من الشرك، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح (فَعَسى أَنْ) يفلح عند الله، و (عسى) من الكرام تحقيقٌ. ويجوز أن يراد: ترجى التائب وطمعه، كأنه قال: فليطمع أن يفلح.

[(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ الله وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) 68]

الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير: تستعمل بمعنى: المصدر هو التخير، وبمعنى: المتخير كقولهم: محمدٌ خيرة الله من خلقه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (يتتعتعون)، النهاية: في الحديث: ((يقرأُ القرآنَ ويَتَتَعْتَعُ فيه))، أي: يَتَردَّدُ في قراءتِهِ وَيَتَبلَّدُ فيها لسانُه.

قولُه: (الخيرةُ مِنَ التخيُّر)، النهاية: الخيرُ ضِدُّ الشر؛ تقولُ منه: خِرتَ يا رجل؛ فأنتَ خاير، وخَيِّر. خارَ الله لك؛ أي: أعطاكَ ما هوَ خيرٌ لك. والخِيرةُ -بسكونِ الياءِ- الاسمُ منه، والخِيرَةُ -بالفتح- الاسمُ مِنْ قولِك: اختارَهُ الله، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم خيرةُ الله مِنْ خَلْقِه؛ تُقالُ بالفتحِ والسكون.

ص: 98

(ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بيان لقوله: (وَيَخْتار)؛ لأنّ معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف. والمعنى: أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحدٍ من خلقه أن يختار عليه. قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة: (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف: 31] يعنى: لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وقيل: معناه: ويختار الذي لهم فيه الخيرة، أى: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقيل: معناه: ويختارُ الذي لهم فيهِ الخيرة)، عطفٌ على قولِه:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} بيانٌ لقولِه: {وَيَخْتَارُ} . و {مَا} على الأوّلِ نافية؛ لا ينبغي لأحدٍ مِنْ خلقِهِ أنْ يختارَ عليه؛ فيكون تفسيرًا لقولِه: {وَيَخْتَارُ} ؛ لأنّ معناه: يختارُ ما يشاء؛ لعطفِهِ على {يَخْلُقُ} . قالَ مكيُّ بنُ أبي طالب: و {مَا} على أنْ تكونَ موصولةً ليسَ بمختار؛ لأنهُ لا عائدَ يعودُ على {مَا} ، وهوَ أيضًا بعيدٌ في المعنى والاعتقاد؛ لأنّ كونَها للنفيِ يُوجِبُ أنْ يَعُمّ جميعَ الأشياء، وأنها حدَثتْ بقدرةِ الله واختيارِه، وليسَ للعبدِ فيها شيءٌ غيرُ اكتسابِهِ بقَدَرٍ مِنَ الله. وكونُها موصولةً لمْ يَعُمّ جميعَ الأشياء؛ فإنها مختارةٌ لله تعالى؛ بل إنهُ تعالى يختارُ ما لهمْ فيهِ الخيرةُ وما ليسَ لهمْ فيهِ لهمْ فيهِ خيرةٌ موقوفة، وهوَ مذهبُ القَدَريةِ والمعتزلة.

وقيل: معنى الآية: وربُّكَ يا محمد يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ لولايتِهِ ورسالتِهِ مَنْ يريد. ثُمّ ابتدأَ بنفيِ الاختيارِ عنِ المشركين، وأنهُ لا قُدرةَ لهم؛ فقال:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي: ليسَ الولايةُ والرسالةُ وغيرُ باختيارِهِمْ ولا بمُرادِهِم.

وقالَ القاضي: فظاهرُهُ نفيُ الاختيارُ عنهمْ رأسًا، والأمرُ كذلكَ عند التحقيق؛ فإنّ اختارَ العبادِ مخلوقٌ باختيارِ الله، منوطٌ بدواعٍ لا اختارَ لَهُمْ فيها.

وقلتُ: والذي يقتَضِيهِ النظمُ هذا؛ لأنّ قولَهُ تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} مُتّصلٌ بقولِه: {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ} ، وأحوالُ الشركاءِ

ص: 99

من قولهم في الأمرين: ليس فيهما خيرةٌ لمختارٍ. فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت: أصل الكلام: ما كان لهم فيه الخيرة، فحذف «فيه» كما حذف منه في قوله:(إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان: 17] لأنه مفهومٌ. (سُبْحانَ الله) أى: الله بريءٌ من إشراكهم، وما يحملهم عليه من الجرأة على الله، واختيارهم عليه ما لا يختار.

[(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ *وَهُوَ الله لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 69 - 70]

(ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله وحسده (وَما يُعْلِنُونَ) من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلا اختير عليه غيره في النبوّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مُستطرَدةٌ بينهما للذكرِ الإحضار، وقولُه:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} كالتذييل، وبيانْ أنهُ هوَ الذي يخلُقُ ما يشاء؛ يُضلُّ مَنْ يشاءُ ويهدي مَنْ يشاء، ليسَ لأحدٍ أنْ يتصرّفَ في ملكِهِ ويشاركَهُ في خَلقِه. ولهذا ختمَهُ بقولِه {سُبْحَانَ اللهِ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ويدخُلُ في هذا العامِّ حديثُ سببِ النزولِ أيضًا.

قولُه: (مِنْ قولِهم في الأمرَيْن: ليسَ فيهما خيرةٌ لمختار)، يعني: إذا جعلَ {مَا} موصولةً والمراد المتخير؛ فلابدّ مِنْ وجودِ شيئيْن ليُختارَ أحدُهُما مِنَ الآخر. والمثالُ يحتَمِلُ وجهَيْن: أحدُهُما أنّ الأمرَيْنِ مختارانِ فليسَ لأحدٍ أنْ يترُكَ أحدَهُما ويختارَ الآخر، وأنهما سِيّانِ في الكراهة؛ فليسَ فيهما مختارٌ يختارُهُ المختار.

قولُه: (واختيارهم عليه)، قيل: هوَ عطفٌ على ((ما)) في ((وما يحمِلُهُم))، أو على الضميرِ المجرورِ في ((عليه))؛ أي: الله بريءٌ مِما يحمِلُهُم على إشراكِهِم وعلى اختيارِهم على الله ما لا يختار؛ نحو: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1]. وقلتُ: ويجوزُ أنْ يكونَ عطفًا على ((الجرأةِ على الله)) على سبيلِ التفسير؛ لأنّ اختيارَهُم على الله ما لا يختارُ جُرْأةٌ على الله مِنْ قولِهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].

ص: 100

(وَهُوَ الله) وهو المستأثر بالإلهية المختص بها، و (لا إِلهَ إِلَّا هُو) َ تقرير لذلك، كقولك: الكعبة القبلة، لا قبلة إلا هي. فإن قلت: الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت: هو قولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)[فاطر: 34]، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر: 74] (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)[الزمر: 75] والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة. وفي الحديث: "يلهمون التسبيح والتقديس"(وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء بين عباده.

[(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ الله يَاتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ *قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ الله يَاتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ *وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 71 - 73]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (المستأثرُ بالإلهية)، يُقال: استأثرَ بكذا: اختصّ بهِ واستبد، والاسم: الأثَرةُ بالتحريك.

النهاية: الاستئثار: الانفرادُ بالشيء. وإفادةُ التركيبِ هذا المعنى مِنْ جَعْلِ اسمِ {اللهُ} خبرًا لـ {وَهُوَ} ؛ ولهذا كانَ {لَا إلَهَ إِلاَّ هُوَ} تقريرًا له.

قولُه: (وفي الحديث: ((يُلهَمُونَ التسبيح)))، الحديثُ مِنْ روايةِ مُسلمٍ وأبي دوادَ عنْ جابرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ أهلَ الجنةِ يأكلونَ فيها ويشربون، ولا يتفلونَ ولا يبولونَ ولا يتغوّطونَ ولا يتمخّطون)) قالوا: فما بالُ الطعام؟ قالَ: ((جُشاءٌ ورشحٌ كرشحِ المِسْك، يُلهَمُونَ التسبيحَ والتحميدَ كما يُلهَمُونَ النّفَس)).

النهاية: الإلهامُ: أنْ يُلقِي الله في النّفْسِ أمرًا يَبْعَثُهُ على الفعل أو التّرْك، وهوَ نوعٌ مِنَ الوحي.

ص: 101

(أَرَأَيْتُمْ) وقرئ: (أريتم): بحذف الهمزة، وليس بحذف قياسي. ومعناه: أخبرونى من يقدر على هذا؟ والسرمد: الدائم المتصل، من السرد وهو المتابعة. ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثةٌ سردٌ، وواحدٌ فردٌ، والميم مزيدة. ووزنه (فعمل). ونظيره. دلامصٌ؛ من الدلاص. فإن قلت: هلا قيل: بنهارٍ تتصرفون فيه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقُرِئَ: ((أريتم)) بحذفِ الهمزة)، الكسائي.

قولُه: (ومنهُ قولُهم في الأشهُرِ الحُرُم)، الجوهري: قيلَ لأعرابي: تعرفُ الأشهُرَ الحُرُم؟ قال: نعم، ثلاثةٌ سَرْدٌ وواحدٌ فَرْد؛ فالسردِ: ذو القعدة، ذو الحجة، والمحرم. والفرد: رجب.

قولُه: (دُلامِص؛ مِنَ الدّلاص)، الجوهري: الدّليصُ والدِّلاص: البَرّاق؛ يُقال: دِرعٌ دِلاص، وأدْرُعٌ دِلاص. والدّلامِص: البَرّاقُ والميمُ زائدة.

قولُه: (هلاّ قيل: بنهارٍ تتصرّفون فيه- أي: بدلَ قولِهِ: {بِضِيَاءٍ} - كما قيل: {بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ})، يريدُ أنّ الآيتينِ متقابِلتان؛ ففي الثانية جيءَ بقولِه:{بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} وهوَ مطابقٌ لسائرِ الآيات؛ فلِمَ عَدَلَ في الأولِ عن الظاهرِ إلى خلافِه؟ وأجابَ عنهُ أنهُ إنما وَضَعَ {بِضِيَاءٍ} مَوْضِعَ ((بنهار تتصرّفون فيه))، والضياءُ ضوءُ الشمس؛ لقولِهِ تعالى:{جَعَلَ الشَّمْسَ ضْيَاءً} [يونس: 5]، ليُؤذِنَ بأنّ منافعَ النهارِ ليستْ مقصورةً على التصرُّف؛ فإنّ منافِعَهُ متكاثرة، ولهذا لا يطّلِعُ عليهِ كلُّ أحد؛ كأنهُ قيل: أتيناكُمْ بضياءِ الشمس؛ ليتسهّلَ لكُمْ جميعُ ما تفتَقِرونَ إليهِ مِنَ التصرُّفِ في المعاشِ وغيره. ولهذا أتى بقولِه: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} تتميمًا لهذا المعنى؛ لأنّ مُدرَكَ السّمْعِ أكثرُ مِنْ مُدرَكِ البصر، واستفادةُ العقلِ مِنَ السمعِ أَجَلُّ مِنَ استفادتِهِ مِنَ البصر، وبقولِه:{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} تتميمًا لذلك؛ لأنّ أعظمَ فوائدِ الليلِ الهدوءُ فيهِ والسكون، ولهذا صرّحَ بهِ في الآية، وهوَ شيءٌ قليل؛ ولهذا يطّلِعُ عليهِ كلُّ أحد، والناسُ في إدراكِهِ بالبصرِ مستوون.

فإنْ قلتَ: فلِمَ لَمْ يقُل: بظلام؟ قلتُ: لأنهُ وإنْ لمْ يُوهِمْ أنّ فائدةَ الليلِ متكاثرة؛ إذْ كلُّ أحدٍ يعلمُ فائدتَه، لكنهُ مِمّا يكرَهُهُ الطبعُ ويتنفّرُ عنه، بخلافِ الضوء؛ فإنهُ نعمةٌ في ذاتِه،

ص: 102

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقصودٌ بِنَفْسِه. ثُمّ الذي أَبْعَدُ مِنَ التكلُّفِ أنْ يُجعَلَ {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} تذييلاً للتوبيخِ الذي يعطيهِ قولُه: {أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ} إلى آخرهِ، وكذا في الثانيةِ- على ما في ((المعالم)):{أَفَلَا تَسْمَعُونَ} سماعَ فهمٍ وقبول، {أفَلَا تُبْصِرُونَ} ما أنتم عليهِ مِنَ الخطأ.

تَمّ كلامُه- ليجتمِعَ لهمُ الصّمَمُ والعمي مِنَ الإعراض عنْ سماعِ البراهين، والإغماضِ عنْ رؤيةِ الشواهد.

ولَمّا كانتِ استدامةُ الليلِ أشقّ مِنَ استدامةِ النهار؛ لأنّ النومَ الذي هوَ أجَلُّ الغرضِ فيهِ شبيهٌ بالموت، والابتغاءُ مِنْ فضلِ الله الذي هوَ بعضُ فوائدِ النهارِ شبيهٌ بالحياة، قيلَ في الأول:{أَفَلَا تَسْمَعُونَ} أي: سماعَ فَهْم، وفي الثانية:{أفَلَا تُبْصِرُونَ} ما أنتمْ عليهِ مِنَ الخطأ؛ ليُطابِقَ كلٌّ مِنَ التذييلَيْنِ الكلامَ السابقَ مِنَ التشديدِ والتوبيخ، كأنهُ قيل: أخبروني إنْ جعلَ الله عليكُم الليلَ سرمدًا إلى يومِ القيامة؛ مَنْ إلهٌ غيرُ الله يأتيكمْ بضياء؛ أفلا تسمعونَ مثلَ هذهِ الدلائلِ الباهرةِ والنصوصِ المتظاهرةِ لِتعرِفوا أنّ غيرَ الله لا يقدرُ على شيءٍ من ذلك؟ وأخبروني إنْ جعلَ الله عليكم النهارَ سرمدًا إلى يومِ القيامة؛ مَنْ إلهٌ غيرُ الله يأتيكمْ بليلٍ تسكنونَ فيه؟ أفلا تبصرونَ الشواهدَ المنصوبةَ الدالّةَ على القدرةِ الكاملةِ لتقِفُوا على أنّ غيرَ الله لا قدرةَ لهُ على ذلك؟ وفيهِ أنّ دَلالةِ النصِّ أوْلى وأقْدَمُ مِنَ العقل.

وقالَ الراغبُ في ((غُرّةِ التنزيل)): إنّ نسخَ اليلِ بالنّيِّرِ الأعظم أبلغُ في المنافعِ وأضمنُ للمصالحِ مِنْ نسخِ النهارِ بالليل؛ ألا ترى أنّ الجنةَ نهارُها دائمٌ لا ليلَ معه؟ لأنّ اللَيلَ في دارِ التكليفِ للاستراحةِ والاستعانةِ بالجَمام والراحةِ على ما يلزَمُ مِنَ الكُلَفِ المتعِبةِ والمشاقِّ المُنْصِبة، ودارُ يُستَغنى فيها عنْ ذلك؛ لأنها مقصورةٌ على سبيلِ المشتهى وعلى ما تَلَذُّ الأعينُ وتهوى الأنفُس؛ فتقديمُ ذِكْرِ الليلِ لانكشافِهِ عنِ النهارِ الذي يُمَكِّنُ مِنَ التصرُّفِ في المعايشِ بالسعي في المصالحِ إلى ما لا يُحصى كثرةً مِنَ المنافعِ المتعلّقةِ بالشمسِ أَحَقُّ وأوْلى.

ص: 103

كما قيل: (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ)؟ قلت: ذكر الضياء وهو ضوء الشمس؛ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثمة قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ)؛ لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ)؛ لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره وأنت؛ من السكون ونحوه (وَمِنْ رَحْمَتِهِ): زاوج بين الليل والنهار، لأغراض ثلاثة: لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار، ولإرادة شكركم.

[(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) 74]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومعنى قولِه: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} : أفلا تسمعونَ سماعَ مَنْ يتدبّرُ المسموعَ ليستدرِكَ مِنهُ قصدَ القائل، ويحيطَ بأكثرِ ما جَعَلَ الله في النهارِ مِنَ المنافع، أمْ أنتمْ صُمٌّ عنْ سماعِ ما ينفعُكُم؟ وقولُه:{يَاتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} معناه: أفلا تستدرِكونَ مِنْ ذلكَ ما يجبُ استدراكُه؟ فإنّ عَقِيبَ السماعِ استدراكُ المرءِ المرادَ بالمسموعِ إذا كانَ هناكَ تدبُّرٌ لهُ وتفكُّرٌ فيه، ولمْ يجعلْهُ السامعُ دبرَ أُذُنِه، والله أعلم.

قولُه: (زاوَجَ بينَ الليلِ والنهار)، يُروى بالراءِ والحاءِ المهملة، و ((زاوجَ)) بالزاي والجيم.

الجوهري: المُراوَحةُ في العملَيْن: أنْ تعملَ هذا مرًة وهذا مرة، وتقول: راوَحَ بينَ رجلَيْه؛ إذا قامَ على إحداهُما مرًة وعلى الأخرى مرة.

النهاية: وفي الحديثِ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يُراوِحُ بينَ قدَمَيْه؛ لِطولِ القيام. أي: يعتمدُ على إحداهُما مرًة وعلى الأخرى مرة؛ ليُوصِلَ الراحةَ إلى كلٍّ منهما. ومنهُ حديثُ ابن مسعودٍ أنهُ أبصرَ رجلاً صافًّا قدمَيْه؛ فقال: لوْ راوَحَ كانَ أفْضَل.

ص: 104

وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ؛ باتخاذ الشركاء: إيذانٌ بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك، فأدخلنا في الناجين من وعيدك.

[(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) 75]

(وَنَزَعْنا): وأخرجنا، (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدا) وهو نبيهم: لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم، يشهدون بما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول (فَعَلِمُوا) حينئذٍ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) ولرسوله، لا لهم ولشياطينهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب والباطل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (في تكريرِ التوبيخِ باتخاذِ الشُّركاء)، يريد: كرّرَ هذه الآيةَ بعينِها قُبَيْلَ هذه لتوكيدِ المعنى المقصودِ وتقريرِه؛ ومِنْ ثَمّ جُعِلَ خاتمةً للآياتِ وتخلُّصًا إلى قصةِ قارون. وفي صحيفةِ سُليمانَ عليه السلام: وما أحسنُ الأشياءِ وما أقبحُ الأشياء؟ قالَ سليمان: أحسنُ الأشياءِ الإيمانُ بالله بعدَ الشِّركِ، وأقبحُ الأشياءِ الكُفرُ بعدَ التوحيد. قالَ القاضي: الأولُ لتقريرِ فسادِ رأيِهِم، والثاني لبيانِ أنهُ لمْ يكنْ عنْ سَنَد؛ وإنما كانَ محضَ تَشَهٍّ وهوًى.

قولُه: (فكما أَدْخَلْتَنا) الفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ متصلٍ بما قبلَه؛ أي: إذا كانَ الأمرُ كما ذكرتَ فأدخِلْنا. والفَهْمُ معترضٌ نحوَ قولِهِ تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].

قولُه: (وغابَ عنهمْ غَيْبةَ الشيءِ الضائع)، أيْ:{ضَلَّ} مستعارٌ لمعنى غاب؛ فلما كانتْ تلكَ الغَيْبةُ بحيثُ لا يمكِنُ إحضارُ ما غابَ وأنهُ كالشيءِ الضائع؛ قيل: ضَلّ.

الأساس: ومِنَ المجاز: ضلّ عنْ كذا: ضاع.

ص: 105

[(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *وَابْتَغِ فِيما آتاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) القصص: 76 - 77]

(قارُونَ) اسم أعجمى مثل هرون، ولم ينصرف للعجمة والتعريف، ولو كان (فاعولاً) من قرن لانصرف. وقيل: معنى كونه من قومه أنه آمن به. وقيل: كان إسرائيلياً ابن عم لموسى: هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل: كان موسى ابن أخيه، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أقرأ بنى إسرائيل للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام، والمذبح والقربان إلى هرون فما لي؟ وروى: أنه لما جاوز بهم موسى البحر، وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرّب القربان، ويكون رأساً فيهم، وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه؛ وجد قارون في نفسه وحسدهما، فقال لموسى: الأمر لكما ولست على شيء، إلى متى أصبر؟ قال موسى: هذا صنع الله. قال: والله لا أصدق حتى تأتى بآية، فأمر رؤساء بنى إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحى ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورقٌ أخضر،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (والحبورة)، في الحاشية: الحبورة: الإمامة، وهيَ مصدَرُ الحَبْر؛ يُقال: حبرَ الرجلُ حُبُورة.

قولُه: (وَجَدَ [قارونُ] في نَفْسِه)، أي: حَزِن. الجوهري: وَجَدَ في الحُزنِ وَجْدًا بالفتح، ووَجَدَ في المالِ وُجْدًا؛ أي: استغنى.

قولُه: (فحَزَمَها)، الجوهري: حَزَمْتَ الشيءَ حَزْمًا؛ إذا شَدَدْته، والحزم: ضبطُ الرجُلِ أمرَهُ وأخذُهُ بالثِّقة.

ص: 106

وكانت من شجر اللوز، فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر (فَبَغى عَلَيْهِمْ): من البغي؛ وهو الظلم. قيل: ملكه فرعون على بنى إسرائيل فظلمهم. وقيل: من البغي وهو الكبر والبذخ: تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده. قيل: زاد عليهم في الثياب شبراً. المفاتح: جمع مفتح بالكسر: وهو ما يفتح به. وقيل هي الخزائن، وقياس واحدها: مفتح بالفتح. ويقال: ناء به الحمل، إذا أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة، والعصابة: مثلها. واعصوصبوا: اجتمعوا. وقيل: كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً، لكل خزانةٍ مفتاحٌ، ولا يزيد المفتاح على أصبع، وكانت من جلود. قال أبو رزين: يكفى الكوفة مفتاحٌ، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ: الكنوز، والمفاتح، والنوء، والعصبة، وأولى القوة. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء. ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال، كقولك: ذهبت أهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (تبذّخَ عليهمْ بكثرةِ مالِه)، الأساس: ومِنَ المجاز: تبذّخَ فلان: تطاولَ، وهوَ بذاخٌ وفيهِ بَذَخ.

قولُه: (أبو رَزِين)، ((جامِعُ الأصول)): هوَ أبو رَزِين العقيلي، صحابيٌّ، واسمُهُ لقيطُ بنُ عامر، رَزين: بفتحِ الراءِ وكسرِ الزايِ وسكونِ الياءِ وتحتَها نقطتان.

قولُه: (يكفي الكوفةَ مِفتاح)، قيل: معناه: يكفي الكوفةَ كنزٌ واحدٌ مِنْ كنوزِهِ معَ كثرةِ أهلِ الكوفة.

قولُه: (ووجهُهُ أنْ يُفسِّرَ المفاتِحَ بالخزائن)، قيل: إنما يُفسّرُ بالخزائنِ ليكونَ متصلاً بالكنوزِ المرادةِ بما في قوله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} ؛ فيكتسبُ منهُ التذكيرَ كما يكتسبُ المضافُ مِنَ المضافِ إليهِ التأنيثَ في مثلِ قولِهم: ذهبَتْ أهلُ اليمامة. وأما إذا فُسِّرَ بجمعِ ((المِفْتح)) بالكسر، وهوَ ما يُفتَحُ به؛ فلا يكونُ متصلاً به؛ لأنّ المفتاحَ لا يكونُ متصلاً بالكنوز، وإذا لمْ يكنْ متصلاً بهِ لا يكتسبُ منهُ التذكيرَ بإضافتِهِ إليهِ كما يكتسبُ الاسمُ التأنيثَ بمثلِ هذهِ الإضافة؛ لأنّ اتصالَ الظرفِ بالمظروفِ أَمَسُّ مِنَ اتصالِ المفتاحِ بالكنوز.

ص: 107

اليمامة. ومحل إذ منصوب بتنوء. (لا تَفْرَحْ) كقوله: (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)[الحديد: 23] وقول القائل:

ولست بمفراحٍ إذا الدّهر سرّني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقالَ ابنُ جِنِّي: ذهبَ بالتذكيرِ إلى ذلكَ القَدْرِ والمبْلَغ؛ فلاحظَ معنى الواحدِ فحَمَلَ عليه. ونحوُهُ قولُ الراجز:

مثلُ الفراخِ نتفت حواصلَه

أي: حواصَل ذلكَ أو حواصَل ما ذكَرْنا.

وقلتُ: هذا أَوْلى وأنسَبُ للقراءةِ المشهورة؛ لأنّ المرادَ أنّ مفاتحَ خزائنِهِ هيَ التي لتنوءُ بالجماعةِ مِنَ الناس، لا الخزائن، عَلى أنّ الخزائنَ نفسَها لا تثقلُ بالعُصْبة. وإنْ أُريدَ بهِ الأموالُ فيؤدِّي إلى خلافِ المرادِ مِنَ المبالغة، ويلزمُ إضافةُ الأموالِ إلى الكنوز. قالَ أبو البقاء:{ما} بمعنى: الذي، في موضِع نصبٍ بـ ((آتينا))، و ((إنّ)) واسمُها وخبرُها صلةُ ((الذي))؛ ولهذا كُسِرَتْ {إِنَّ} ، والباءُ في {بِالعُصْبَةِ} مُعَدِّيةٌ مُعاقِبةٌ للهمزةِ في ((أنَأته))، يُقال: أنَاتُهُ ونُؤْتُ به، والمعنى: لتُنِيءُ: أي: تُثقِلُ العُصْبة. وقيل: هيَ على القلب؛ أي: لَتَنُوء بهِ العُصْبة.

قالَ صاحبُ ((الكشف)): وُصِلَتْ {مَا} هاهنا بـ {إِنَّ} وكُسِرَتْ {إِنَّ} لأنّ الموصولةَ تُوصَلُ بكلتا الجملتَيْن الاسمية والفعلية.

قولُه: (ولستُ بِمفراحٍ إذا الدّهرُ سَرّني)، تمامُه:

ولا جازعٍ مِنْ صَرْفِهِ المتقلِّب

ص: 108

وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن. وأمّا من قلبه إلى الآخرة، ويعلم أنه مفارقٌ ما فيه عن قريب، لم تحدّثه نفسه بالفرح. وما أحسن ما قال القائل:

أشد الغمّ عندي في سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالا

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ الله) من الغنى والثروة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تفعل فيه أفعال الخير؛ من أصناف الواجب والمندوب إليه، وتجعله زادك إلى الآخرة (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ) وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ) أو: أحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك. والفساد في الأرض: ما كان عليه من الظلم والبغي. وقيل: إن القائل موسى عليه السلام. وقرئ: (واتبع).

[(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) 78]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البيتُ ينظرُ إلى قولِهِ تعالى: {لِكَيْلَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَكُمْ} [الحديد: 23].

قولُه: (أَشَدُّ الغَمِّ عندي في سُرورِ) البيت، يقولُ: السرورُ الذي تَيَقّنَ صاحبُهُ الانتقالَ عنهُ هوَ أشدُّ الغمِّ؛ لأنهُ يُراعي وقتَ زوالِهِ فينتَفِضُ كلما ذكرَ زوالَه. وروي: والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، إِنَّ ما أوتيتم مِنَ الدنيا كإناخةِ ناقة؛ فعلامَ تفرحون، وإلامَ تنتظرون؟ ولله درُّ القائل:

إنما الدنيا كظلٍّ زائلٍ

أو كضيفٍ نازلٍ ثُمّ ارتَحَلْ

ص: 109

(عَلى عِلْمٍ) أي: على استحقاق واستيجاب؛ لما فىّ من العلم الذي فضلت به الناس؛ وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل بالتوراة. وقيل: هو علم الكيمياء. عن سعيد بن المسيب: "كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء، فأفاد يوشع بن نونٍ ثلثه، وكالب بن يوفنا ثلثه، وقارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً". وقيل: علم الله موسى علم الكيمياء، فعلمه موسى أخته، فعلمته أخته قارون. وقيل: هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة وسائر المكاسب. وقيل: (عِنْدِي) معناه: في ظنى، كما تقول الأمر عندي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({عَلَى عِلْمٍ} أي: على استيجابٍ واستحقاق) قالَ القاضي: {عَلَى عِلْمٍ} في موضِع الحال، و {عِندِي} صفةٌ للعلم، وإلى هذا أشارَ بقولِه:((على استحقاقٍ لِما فيَّ مِنَ العلمِ الذي فَضَلْتُ بهِ الناسَ)).

قولُه: (هوَ علمُ الكيمياء)، قالَ الزجاج: هذا لا يصح؛ لأنّ الكيمياءَ باطلٌ لا حقيقةَ له. وقلتُ: لعلّ ذلكَ كانَ مِنْ قَبيلِ المعجزة.

قولُه: (وقيلَ: {عِندِي} معناه: في ظني)، قالَ القاضي: وعلى هذا {عِندِي} يتعلّقُ بـ {أُوتِيتُهُ} صلةً له؛ كقولِك: جازَ هذا عندي؛ أي: في ظنِّي واعتقادي. وعنْ بعضِهِم: على ذلكَ قولُ القائل:

ومَنْ أنتمُ حتّى يكونَ لكُمْ عِنْدُ؟

وكلمةُ ((عِندَ)) بيانُ الحُكْم؛ كما تقول: هذا عندَ أبي حنيفةَ والشافعي؛ أي: في حُكمِها.

ص: 110

كذا، كأنه قال: إنما أوتيته على علم، كقوله تعالى:(ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ)[الزمر: 49] ثم زاد (عِنْدِي) أى: هو في ظنى ورأيى هكذا. يجوز أن يكون إثباتاً لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام. كأنه قيل:(أَوَ لَمْ يَعْلَمْ) في جملة ما عنده من العلم هذا، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته. ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك؛ لأنه لما قال: أوتيته على علمٍ عندي، فتنفج بالعلم وتعظم به. قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبةً لكل نعمةٍ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال، أو: أكثر جماعةً وعدداً. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله: (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) بما قبله؟ قلت: لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى، قال على سبيل التهديد له: والله مطلعٌ على ذنوب المجرمين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ويجوزُ أنْ يكونَ نفيًا لعلمِهِ بذلكَ)، يريدُ أنّ الهمزةَ في قولِهِ:{أَوَلَمْ يَعْلَمْ} إذا كانَ للتقريرِ أفادَ إثباتَ عِلمِ قارون، وإذا كانَ للإنكارِ كانَ نفيَ عِلمِه. وعلى التقديرَيْنِ المعطوفُ عليهِ محذوف؛ أي: ألم يَقْرَأِ التوراةَ ولمْ تُعلِّمْه الأحداثُ والوقائع؟ أي: قرأَ وعَلِم؛ أي: اغترّ بما عندَهُ مِنَ العلم، ولمْ يعلمْ ذلكَ ليعتَبِرَ ويُمسِكَ عنْ ذلكَ القول.

قولُه: (فتَنَفّجَ)، يُروى بالخاءِ والجيم. الأساس: ومِنَ المجاز: فلانٌ نفّاجٌ وفيهِ نَفَج، وسمعتُ مَنْ يقول: فيهِ نفاجة. وفي الأساس أيضًا: ومِنَ المجاز: انتَفَخَ النهار: علا، ونفخَ شِدْقَيْه: تَكَبّر.

قولُه: (لَمّا ذَكّرَ قارونَ مَنْ أُهلِكَ مِنْ قَبْلِه .... ، قالَ على سبيلِ التهديدِ له: والله مُطّلِعٌ على ذنوبِ المجرمين)، يريدُ أنّ هذهِ الجملةَ تذييلٌ للسابق؛ فإنّ قولَه:{[أَوَلَمْ] يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ} تهديدٌ لقارونَ ووعيدٌ لهُ بالهلاك، وقولُه: {وَلَا يُسْئَلُ عَن

ص: 111

لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم. وهو قادرٌ على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى:(وَالله خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)[آل عمران: 153]، (بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقره: 283، المؤمنون: 51، النور: 28] وما أشبه ذلك.

[(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) 79]

(فِي زِينَتِهِ) قال الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلةٍ شهباء عليها الأرجوان وعليها سرجٌ من ذهب، ومعه أربعة آلافٍ على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلامٍ، وعن يساره ثلاثمائة جاريةٍ بيضٌ عليهنّ الحلي والديباج. وقيل: في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات، وهو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر: كان المتمنون قوماً مسلمين، وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر. وعن قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله ولينفقوه في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} كقولِه: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283، النور: 28] في كونِهِ عالمًا بها لا يحتاجُ إلى سؤالِهم عنها. وفيهِ تهديدٌ بالهلاكِ بسببِ الإجرامِ لكلِّ مجرم، وهؤلاءِ منهم؛ فكانَ تأكيدًا له. وجيءَ بالواوِ فعُدّ تذييلاً أو معترضة.

قالَ القاضي: كأنهُ لمّا هَدّدَ قارونَ بذِكْرِ إهلاكِ مَنْ قَبْلَهُ أكّدَ ذلكَ بأنْ بَيّنَ أنهُ لمْ يكنْ ما يخصُّهم؛ بَلِ الله مُطّلِعٌ على ذنوبِ المجرمينَ كُلِّهمْ مُعاقِبُهُمْ عليها.

قولُه: (الأُرجوان)، النهاية: هوَ مُعرّبٌ مِنْ ((أُرغوان)) وهوَ شجرٌ له نَوْرٌ أحمر. وكلُّ لونٍ يُشبِهُهُ فهوَ أُرجوان. وقيل: هوَ الصّبْغُ الأحمر، وقيل: عربيةٌ والألفُ والنونُ زائدتان. وذكرهُ الجوهري في مُعتلِّ اللام.

ص: 112

سبل الخير. وقيل: كانوا قوماً كفاراً. الغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه. والحاسد: هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه، فمن الغبطة قوله تعالى:(يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) ومن الحسد قوله: (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)[النساء: 32] وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال: «لا؛ إلا كما يضر العضاه الخبط» ، والحظ: الجدّ، وهو البخت والدولة: وصفوه بأنه رجلٌ مجدودٌ مبخوت، يقال: فلانٌ ذو حظ، وحظيظٌ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظٍ وجدودٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ومِنَ الحَسَدِ قولُه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32])، وذلكَ أنّ تَمَنِّي ما فُضِّلَ البعضُ على بعضٍ المُتمنّي عَيْنُ ما فُضِّلَ به، ولا يُتَوَصّلُ إلى ذلكَ إلا بزوالِهِ عَنِ المحسود.

قولُه: (وقيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: هلْ يَضُرُّ الغَبط؟ قال: ((لا، إلا كما يَضُرُّ العِضاهَ الخَبْط)))، النهاية: الغَبْط: حَسَدُ خاص؛ يُقال: غَبَطْتُ الرجُلَ أَغبِطُهُ غَبْطًا. أراد صلى الله عليه وسلم أنّ الغَبْطَ لا يَضُرُّ ضَرَر الحَسَد، وأنّ ما يَلْحَقُ الغابِطَ مِنَ الضررِ الراجعِ إلى نُقصانِ الثوابِ دونَ الإحباطِ بقَدْرِ ما يَلْحَقُ العِضاهَ مِنْ خَبْطِ وَرَقِها الذي هوَ دونَ قَطْعِها واستئصالها، ولأنهُ يعودُ بعدَ الخبط؛ فهوَ وإنْ كانَ فيهِ طَرَفٌ مِنَ الحسد؛ فهوَ دونَهُ في الإثم.

والعِضاهُ: شَجَرُ أُمِّ غَيْلان، وكلُّ شَجَرٍ عظيم لهُ شَوْك، الواحدة: عِضةٌ بالتاء، والخَبْط: ضَرْبُ الشّجَرِ بالعصا ليتناثرَ ورقُها لعلفِ الإبل.

قولُه: (وما الدنيا إلا أحاظٍ وجُدود)، مِنْ قولِ الحماسي:

وليسَ الغني والفقرُ مِنْ حِيلَةِ الفتي

ولكنْ أَحاظٍ قُسِّمَتْ وجُدودُ

ص: 113

[(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ الله خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ *فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) 80 - 81]

ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى، كما استعمل: لا أبا لك. وأصله: الدعاء على الرجل بالإقراف في الحث على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: الحظ: النصيبُ والجَدّ، وجمعُ القِلّة: أَحُظٌّ، والكثير: حظوظٌ وأحاظٍ كأنهُ جَمْعُ أَحْظٍ، وأنشدَ البيت. الراغب: الحظ: النصيبُ المقدّر.

قولُه: (ويلك: أصلُهُ الدعاءُ بالهلاك)، الراغب: قالَ الأصمعي: وَيْل: قبوح، وقدْ يُستعمَلُ على التحسُّر، ووَيس: استصغار، ووَيْح: ترحُّم. ومَنْ قال: ويل: وادٍ في جَهنّمَ لمْ يُرِدْ أنّ ((ويلاً)) في اللغةِ هوَ موضوعٌ لهذا؛ وإنما أراد: مَنْ قالَ الله فيهِ ذلك؛ فقدْ استحقّ مقرًّا مِنَ النارِ وثبتَ لهُ ذلك؛ {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهمْ ووَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79])).

قولُه: (كما استُعمِل: لا أبا لكَ وأصلُهُ الدعاءُ على الرجل)، وعنْ نَضْرِ بنِ شُمَيلٍ أنهُ قال: سألتُ الخليلَ عنْ قولِهم: لا أبا لك؛ فقال: معناه: لا كافيَ لك، وقيل: معناه: بعثٌ وتحضيض، وليسَ بنفيِ الأبُوة.

قولُه: (الدعاءُ على الرجلِ بالإقراف)، أي: بالهُجْنة.

الأساس: وأُقْرِفَ: أُدْنَي للهجْنة، ويُقال: الإقراف مِنْ جهةِ الأب. قال:

ص: 114

الفعل. والراجع في (وَلا يُلَقَّاها) للكلمة التي تكلم بها العلماء. أو للثواب؛ لأنه في معنى المثوبة أو الجنة، أو للسيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح (الصَّابِرُونَ) على الطاعات، وعن الشهوات، وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير.

كان قارون يؤذى نبى الله موسى صلي الله عليه كل وقتٍ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف دينارٍ على دينار، وعن كل ألف درهمٍ على درهمٍ، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال: إنّ موسى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإنْ نُتِجَتْ مُهرًا كريمًا فبِالحري

وإنْ يكُ إقرافٌ فَمِنْ قِبَلِ الفَحْلِ

وقيل: هوَ مِقْرف، بالكسر، وقدْ أقرفَ الهُجْنةَ وقارَفَها: قارَبَها وخالَطَها. أما قولُه: ((في الحثِّ)) ليسَ بمتّصِلٍ بالإقراف؛ بلِ استُعمِلَ كما استُعمِلَ ((لا أبا لك)) في الحث.

نحوُه في الحثِّ قولُه تعالى: {حَرِضِ المُؤْمِنينَ عَلَى القِتَالِ} [الأنفال: 65]. قال: أي: سَمِّهِ حرضًا وقُلْ له: لا أراكَ إلا ممرضًا في هذا الأمر؛ لتُهيِّجَهُ وتُحرِّكَ منه.

قولُه: (للكلمةِ التي تكلّمَ بها العلماء)، وهيَ قولُه:{وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} .

قولُه: ({الصَّابِرُونَ} على الطاعاتِ وعنِ الشهوات)، عنْ بعضِهِم:{الصَّابِرُونَ} لهُ متعلِّقان: الذي انقطعَ بهِ عنه، والذي اتصلَ به. والأولُ مَدْخَلُ ((عن)) وهوَ المعصية، والثاني مَدْخلُ ((على)) وهوَ الطاعة. و ((عَنْ)) هذهِ كـ ((مِنْ)) في قولِهِ:{لَن تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِنَ اللهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10، 116، المجادلة: 17] أي: بدلَ طاعتِه. أي: صابرونَ على الطاعاتِ بدلَ الشهواتِ ومقيموها مقامَها، وكذلكَ القليلُ مِنَ الكثير. مثلُهُ قولُه تعالى:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِ} [المائدة: 48] أي: بدلَ ما جاءَك. وجمهورُ المفسرينَ على أنّ معناه: مُنحرِفًا عما جاءَكَ أو متنحِّيًا؛ كقولِك: رميتُ عَنِ القَوْس.

ص: 115

أرادكم على كل شيءٍ، وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، فمر بما شئت، قال: نبرطل فلانة البغىّ، حتى ترميه بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار. وقيل: طستاً من ذهب. وقيل: طستاً من ذهب مملوءةً ذهباً. وقيل: حكمها، فلما كان يوم عيدٍ قام موسى فقال: يا بنى إسرائيل، من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصنٍ جلدناه، وإن أحصن رجمناه، فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها موسى بالذي فلق البحر، وأنزل التوراة أن تصدق، فتداركها الله فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك لنفسي، فخرّ موسى ساجداً يبكى وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى إليه: أن مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعةٌ لك. فقال: يا بنى إسرائيل، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معنى فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم، وموسى لا يلتفت اليهم لشدّة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم. وأوحى الله إلى موسى: ما أفظك! استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم، أما وعزتي لو إياى دعوا مرةً واحدةً لوجدوني قريباً مجيباً، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من المنتقمين من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أرادَكُمْ على كلِّ شيء)، ضُمِّنَ ((أرادَ)) معنى ((قَهَرَ)) فعُدِّيَ تعديتَه؛ أي: قهرَكُمْ على كلِّ شيءٍ يريدُه.

قولُه: (نُبَرْطِلُ)، أي: نرشو؛ مِنَ البِرْطيل.

قولُه: (وقيل: حَكَّمَها)، أي: جَعَلَها حاكِمًا لنفسِها بما شاءتْ مِنَ المال. ويروي: ((حُكْمَها))؛ أي: ما حَكَمَتِ البغيُّ في مالِه.

ص: 116

موسى عليه السلام، أو من الممتنعين من عذاب الله تعالي. يقال: نصره من عدوه فانتصر، أى: منعه منه فامتنع.

[(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ الله عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) 82]

قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة، (مَكانَهُ) منزلته من الدنيا. (وي) مفصولةٌ عن كأن، وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم. ومعناه: أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم: (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) وتندموا ثم قالوا: "ْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ" أى: ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح، وهو مذهب الخليل وسيبويه. قال: .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (على طريقِ الاستعارة)، أي: الاستعارةِ اللفظية، نحوُ استعارةِ المَرْسِن- وهوَ أنفٌ فيهِ رَسَن- لمُطلَقِ الأنف. وكذلكَ استعارَ ((الأمس)) وهوَ وقتٌ محدودٌ متعارَفٌ للزمانِ المستقرَب.

قولُه: (أي: ما أشبهَ الحالَ بأنّ الكافرينَ لا ينالونَ الفلاح)، قالَ ابنُ جِنِّي: يُروى على قياسِ مذهبِ الخليلِ وسيبويهِ اسمٌ سُمِّيَ بهِ الفعلُ في الخبر؛ فكأنهُ اسمُ أَعْجَبُ، ثُمّ ابتدأَ فقال:((كأنه))، ((كأن)) فيهِ عاريةٌ مِنْ معنى التشبيه. أنشدَ أبو علي:

كأَنّني حينَ أُمسِي لا تُكلِّمُني

مُتَيّمٌ يَشتَهِي ما ليسَ موجودا

وفي ((المطلع)): قالَ عليُّ بنُ عيسى: شُبِّهتْ حالُ الكافرينَ بحالِ مَنْ لا يُفلِح؛ لأنكَ

ص: 117

وي كأنّ من يكن له نشبٌ يحـ

ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ

وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وى كأنه وراء البيت. وعند الكوفيين أنّ «ويك» بمعنى: ويلك، وأنّ المعنى: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومةً إلى وى، كقوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا قلتَ: كأنّ هذا الكافرَ لا يُفلِح؛ فُهِمَ مِنكَ أنّ حالَهُ حالُ مِنْ لا يُفلِح. هذا تقريرُ كلامِ المصنِّف، لكنْ يفتقرُ إلى مزيدِ بيان؛ فتقول: إنهُ أبرزَهُ مَبرَزَ فِعلِ التعجُّب؛ لِما في ((وَيْ)) مِنْ معنى التعجب. وأشارَ بقولِه: ((حال)) إلى أنّ الضميرَ في ((كأنه)) للحال، والباءُ في ((بأنّ)) صلةُ ((أشْبَهَ))؛ يعني: ظَهَرَ لنا مِنْ حالِ قارونَ- وهوَ استمتاعُهُ بالدنيا واغترارُهُ بزهرتِها، ثُمّ خسفُهُ بالأرضِ- مشابِهٌ لما تقرّرَ بأنّ الكافرينَ لا يُفلِحون.

قولُه: (أنّ ((وَيْكَ)) بمعنى: وَيْلَك)، وأنّ المعنى: ألم يعلم أنّه لا يُفْلحُ الكافرون. وحكي صاحبُ ((المَطْلعِ)) عن خلفٍ الأحمرِ أنّ ((وَيْكَ)) بمعنى ((وَيْلك)) فحُذِفَ اللامُ استخفافًا، ونُصِبَ ((أنّ الله)) بفعلٍ مُضمَرٍ تقديرُه: وَيْلَك، اعلَمْ أنّ الله. قالَ الزجاج: هذا الخطأُ مِنْ غيرِ وجه؛ إذْ لوْ كانَ كما قال؛ لكانتْ ((إن)) مكسورةً ولمْ يُحذَفِ اللامُ منه؛ لأنهُ يقال: وَيْلَك، إنهُ لا يُفلِح. والصحيحُ ما ذكَرَهُ سيبويه عنِ الخليلِ ويونس: أنّ ((وَيْ)) مفصولةٌ مِنْ ((كأن))، والقومُ تنبّهُوا فقالوا: وَيْ؛ مُتندِّمِينَ على ما سَلَفَ مِنهم، وكلُّ مَنْ تَندّمَ أو نَدِم؛ فإظهارُ ندامتِهِ أو تندُّمه أنْ يقول: وَيْ، كما يعاتَبُ الرجُلُ على ما سلفَ مِنهُ فيقول: وَيْ كأنكَ قصدتَ مكروهي. قال العرجيّ:

سَالتاني الطلاقَ أنْ رأتاني

قلّ مالي قدْ جِئتُماني بنُكْرِ

ويكأنْ مَنْ يكنْ لهُ نَشَبٌ يُحْـ

ـبَبْ ومَنْ يفتقِرْ يَعِشْ عيش ضُرّ

ص: 118

ويك عنتر أقدم

وأنه بمعنى لأنه، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو لأنه لا يفلح الكافرون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النّشَب: المال، و ((يُحْبَبْ)) جوابُ ((مَنْ)) وفيهِ معنى الإنكار؛ أيْ أنّ الغَنِيّ محبوبٌ في الناس، والفقيرُ يعيشُ في الناسِ عَيْشَ ذُلٍّ وضُر.

قالَ ابنُ جِنِّي: ومَنْ قال: إنها ((ويك))؛ فكأنهُ قال: أَعْجَبُ لأنهُ لا يُفلِحُ الكافرون، وأَعْجَبُ لأنّ الله يبسُطُ الرزقَ، وهوَ قولُ أبي الحسن.

وينبغي أنْ يكونَ الكافُ حرفَ خطابٍ لا اسمًا بمنزلةِ الكافِ في ((ذلك، وأولئك))؛ لأنّ ((وي)) ليستْ مِما يُضاف. والاستشهادُ بالبيتِ مِنْ أَجْلِ أنّ الكافَ لا يجوزُ أنْ تكونَ ضميرًا أو حرفَ خِطاب؛ لفُقدانِ المطابقةِ لأنّ البيتَ السابقَ خطابٌ لمؤنثَيْن. وكذا قولُ الزوجِ للأعرابية؛ لأنهُ لوْ كانَ الكافُ خطابًا لكانَ مكسورًا لتأنيثِ المخاطَب.

وأما قولُ عنتَرةَ فلا يُحمَلُ على ((ويلك))؛ لأنهُ زَجْرٌ ورَدْعٌ وبَعْثٌ على تركِ ما لا يرضى، وهوَ حَثٌّ وبعثٌ على الإقدام؛ لأنهُ في مقامِ مدحِ نفسِهِ بالشجاعة. وتلخيصُهُ أنّ ذاكَ زَجْرٌ عما لا يرضى وهذا حثٌّ على ما يرضى.

قولُه: (ويكَ عنترَ أَقْدِمِ)، أولُه:

ولقدْ شفى نفسي وأبرأَ سُقْمَها

قيلُ الفوارسِ ويكَ عنترَ أَقْدِمِ

قولُه: ((عنتر)) مُرخّم، يقول: لقدْ شفى نفسي قولُ الفوارسِ لي: يا عنترةُ أقدِمْ نحوَ العدوِّ واحمِلْ عليهِم. يريدُ أنّ تعويلَ أصحابِهِ عليه والتجاءَهُمْ إليهِ شفى نفْسَهُ ونفى هَمّه.

قولُه: (واللامُ لبيانِ المقولِ لأجلِهِ هذا القول)، نحو:{هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]؛ فإنهُ لمّا قيل: وي؛ قيل: لَمِنْ؟ وأجيب: لك.

ص: 119

كان ذلك، وهو الخسف بقارون، ومن الناس من يقف على «وى» ويبتدئ «كأنه» ، ومنهم من يقف على «ويك». وقرأ الأعمش:(لولا منّ الله علينا). وقرئ (لَخَسَفَ بِنا) وفيه ضمير الله. ولا نخسف بنا، كقولك: انقطع به. ولتخسف بنا.

[(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) 83]

(تِلْكَ) تعظيمٌ لها وتفخيمٌ لشأنها، يعنى: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها. لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال:(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)[هود: 113] فعلق الوعيد بالركون. وعن على رضى الله عنه: إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال:"ذهبت الأمانى هاهنا". وعن عمر بن عبد العزيز كان يردّدها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون، والفساد لقارون،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (مَنْ يقفُ على ((وي)))، يعني: الكسائي، وعلى ((ويك)): أبو عمرو.

قولُه: (وقُرِئَ: {لَخَسَفَ بِنَا})، أي: على بناءِ الفاعل؛ قرأَها حفص. قالَ ابنُ جِنِّي: وهيَ قراءةُ الأعرجِ وغيرهِ، الفاعلُ ((الله))، والمفعولُ محذوف؛ أي: لخَسَفَ بنا الله الأرض.

قولُه: (ولا نُخسِفُ بنا)، قالَ ابنُ جِنِّي: قرأَ بها الأعمشُ وطلحةُ وابنُ مسعود. ((بنا)) مرفوعةُ المَوْضِع؛ لإقامتِها مقامَ الفاعِل، نحو: انقطعَ بالرجُل، وسِيرَ بزَيْد. وإنْ شئتَ أضمرتَ المصدرَ مقامَ الفاعل، ولا يكونُ للفعلِ الواحدِ فاعلانِ قائمانِ مقامَهُ إلا على وجهِ الاشتراك.

قولُه: (ومِنَ الطّماعِ مَنْ يجعلُ العُلُوّ لفِرعَون، والفسادَ لقارون)، قالَ صاحبُ ((الانتصافِ))

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهوَ يُعرِّضُ بأهل السُّنةِ في أنّ كلّ مُوحِّدٍ مِنْ أهلِ الجنة، وإنما طَمِعوا فيما أطمَعَهُمُ الله تعالى على لسانِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال:((مَنْ قالَ: لا إله إلا الله؛ دخلَ الجنةَ وإنْ زَنى وإنْ سَرَق)) ثلاثًا، وفي الثالثة:((وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذَرّ)).

وقلتُ: لا شكّ أنّ العُلوّ في الأرضِ هوَ الاستكبارُ على الله تعالى، والاستطالةُ على الناس، والإفسادُ: إخراجُ الشيءِ مِنْ كونِهِ مُنتَفَعًا به.

روى مُحيي السُّنة: {عُلُوًّا} : استكبارًا عنِ الإيمان، واستطالةً على الناسِ وتهاونًا بهم. و {فَسَادًا}: أخذُ أموالِ الناسِ بغيرِ حَق، والعملُ بالمعاصي. وأما ما رواهُ عنْ عليٍّ رضي الله عنه: إِنَّ الرجُلَ لَيُعجِبُهُ أنْ يكونَ شِراكُ نعلِهِ أجودَ مِنْ شِراكِ نعلِ صاحِبهِ فيدخلُ تحتَها؛ فإنهُ مناقضٌ لِما رواهُ داودَ عنْ أبي هريرة: أنّ رجلاً أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكانَ جميلا؛ فقال: يا رسولَ الله، إني رجُلٌ حُبِّبَ إليّ الجمالُ وأُعطِيتُ منهُ ما ترى حتى ما أُحِبُّ أنْ يفوقَني أحدٌ -إما قال: بشِراكِ نَعْل، وإما قال: بشِسْعِ نعل- أفَمِنَ الكِبْرِ ذلك؟ قال: ((لا، ولكنّ الكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الحقّ وغَمَطَ الناس)). وروى مسلمٌ وأبو داودَ والترمذيُّ عنِ ابنِ مسعود: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كانَ في قلبِهِ مِثقالُ ذَرّةٍ مِنْ كِبْرِ))؛ فقالَ رجُل: إنّ الرجُلَ يُحبُّ أنْ يكونَ ثوبُهُ حسنًا ونعلُه حسنًا! قال: ((إنّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال؛ الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناسِ)).

هذا وإنّ التأويلَ الذي يُعتمدُ عليهِ هوَ ما يساعدُهُ النظم؛ فإنّ هذهِ الآيةَ كالتخلُّصِ مِنْ قصةِ موسى عليه السلام وقومِهِ معَ قارونَ وبَغْيِهِ واستطالتِهِ عليهم، ثُمّ هلاكِهِ ونُصْرةِ أهلِ الحقِّ عليه، إلى قصةِ سيدِنا صلواتُ الله عليهِ وأصحابِهِ معَ قومِهِ واستطالتِهم وإخراجِهم إياهُ مِنْ مَسقَطِ رأسِه، ثُمّ إعزازِهِ بالإعادةِ إلى مكةَ وفَتْحِه إيّاها منصورًا مُكرّمًا وذلكَ قولُه

ص: 121

متعلقا بقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ)، (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله:(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كما تدبره علىّ والفضيل وعمر.

[(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 84]

معناه: فلا يجزون، فوضع (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) موضع الضمير؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً. فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيضٍ للسيئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا مثل ما كانوا يعملون، وهذا من فضله العظيم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعالى: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} . روى محيي السُّنة: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} لَرَدُّكَ إِلَى مَعَاد: إلى مكة، وهيَ روايةُ العوفيِّ عنِ ابنِ عباس. قالَ القتيبي: معادُ الرجُل: بلدُه؛ لأنُه ينصرفُ منهُ ثُمّ يعودُ إليه. وقالَ الإمام: {مَن جَاءَ بِالهُدَى} : الإعزازُ بالإعادةِ إلى مكة.

وإذا تقرّر هذا فينبغي أنْ يُفسّرَ العلوُّ والفسادُ بما اشتملَ عليهِ قصةُ قارون؛ فالعلوُّ فَرحُهُ بالدنيا؛ مِنْ قولِهِم: {لَا تَفْرَحْ} ، وبَطَرُ الحق؛ مِنْ قولِه:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ، وغَمْطُه الناس في قولِه:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . والفساد: البغيُ والظلمُ كما قالَ المصنِّفُ في قولِه: {وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ} ، لا سيما ما أدخلَهُ في خروجِهِ على القومِ بتلكَ الزينة؛ حتى قالَ قائلُهُم:{يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتيَ قَارُونُ إِنَّهُ، لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ؛ فإنهُ إفسادٌ عظيمٌ في الدين؛ فقولُه: {والعَاقِبةُ لِلْمُتَّقِينَ} لا ينافي تفسيرَهُ المنقولَ مِنْ أهلِ السُّنة؛ لأنّ المرادَ مَنْ لمْ يكنْ مِثلَ فرعونَ وقارونَ مِنَ المؤمنين. والمتّقِي هاهنا هوَ المتّقي مِن عُلُوِّ فرعونَ وفسادِ قارون؛ لأنّ قولَه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} تذييل.

ص: 122

وكرمه الواسع؛ أن لا يجزى السيئة إلا بمثلها، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها وبسبع مئةٍ، وهو معنى قوله:(فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها).

[(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) 85]

(فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعنى: أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف. و (لَرادُّكَ) بعد الموت (إِلى مَعادٍ) أى معادٍ، وإلى معادٍ ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك. وقيل: المراد به مكة، ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأنٌ، ومرجعاً له اعتدادٌ؛ لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه. والسورة مكيةٌ، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبةٍ من أهلها: أنه يهاجر به منها، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره، وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم، فنزل جبريل فقال له: أتشتاق إلى مكة؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. فإن قلت: كيف اتصل قوله تعالى: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) بما قبله؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أَوْجَبَ عليكَ تلاوتَه)، أي: أوجبَ تلاوتَهُ عندَ تبليغِ الوحي؛ كقولِهِ تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [العنكبوت: 45]، لا في جميعِ الأوقات. والعملُ عاقِبُهُ؛ أيْ: مِنَ الفرائض، وأما الاستماعُ على الأمة ففي حالةِ الصلاة؛ قالَ تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204].

قولُه: ({إِلَى مَعَادٍ} أي: معاد)، الراغب: قيل: أرادَ بالمعادِ مكة، والصحيحُ ما أشارَ إليهِ عليٌّ رضي الله عنه وذكَرَهُ ابنُ عباسٍ أنّ ذلكَ الجنةُ التي خلقَهُ فيها بالقُوّةِ في ظَهْرِ آدمَ وأَظْهَرَهُ مِنه؛ حيثُ قال:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذَرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172].

ص: 123

قلت: لما وعد رسوله الردّ إلى معادٍ، قال: قل للمشركين: (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعنى نفسه، وما يستحقه من الثواب في معاده (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنيهم، وما يستحقونه من العقاب في معادهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لمّا وعدَ رسولَهُ الردّ إلى معاد)، هذا إذا أُريدَ بالمعادِ الإثابةُ والرجوعُ إلى مقاماتِهِ العاليةِ في الآخرة، والاتصالُ كما قالَ ظاهر. وأما إذا أُريدَ بالمعادِ مكة؛ فالمعنى: إنّ الذي حَباكَ نعمةَ الدين- لا سيما هذا الكتابَ الكريمَ الذي دُونَهُ كلُّ نعمة- يَمنَحُكَ فَتْحَ مكة، ويَرُدُّكَ إلى مَسْقَط رأسِك؛ كما قالَ تعالى:{إِنَّا فَتَحِنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} إلى قولِه: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّستَقِيمًا} [الفتح: 1، 2]. فقُلْ لأعدائِك: موتوا كَمَدًا؛ ربي أعلمُ مَنْ جاءَ بالهدى مِنّا ومِنكُم، ومنْ هوَ في ضلالٍ مبين، يَنصُرُ المهتدي ويَخذُلُ الضال، وهوَ مالكُ الملك، يُعِزُّ مَنْ يشاءُ ويُذِلُّ مَنْ يشاء. وكما كنتَ غيرَ راجٍ أنْ يُلقي إليكَ هذا الكتاب، لكنّ الله لرحمتِهِ الواسعةِ ألقاهُ إليك، كذلكَ يَنصُرُكَ على أعدائكَ هوَ وحدَه، ويردُّكَ إلى معاد؛ فتوكّلْ عليهِ لا على غيره، ولا تَعتَمِدْ إلا عليه، ولا تكونَنّ ظهيرًا للكافرين. ويَنصُرُ هذا النّظْمَ قولُ القاضي: سيردُّكَ إلى معادٍ كما أَلقى إليكَ الكتاب، وما كنتَ ترجوه؛ ولكنْ ألقاهُ رحمةً مِنه.

قولُه: (وما يستحقُّهُ مِنَ الثوابِ في معادِه، وما يستحقُّونَهُ مِنَ العقابِ في معادِهِم)، هذا يَحتَمِلُ المعنَيينِ في تفسيرِ {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ؛ أمّا حملُهُ على يوم القيامةِ فظاهر، وأمّا على الإعادةِ إلى مكة؛ فالهدى والضلال والحقُّ والباطل، أو العِزُّ والنُّصرةُ والخِذْلانُ والذل؛ كما روينا عنِ الإمام:{مَن جَاءَ بِالهُدَى} : الإعزازُ بالإعادةِ إلى مكة.

وقالَ أهلُ التحقيق: هذا أَحَدُ ما يَدُلُّ على نُبُوّتِه؛ فإنهُ إخبارٌ عنِ الغَيْب. وقالَ مُحيي السُّنة: ربي أعلم من جاء بالهدى هذا جوابٌ لأهلِ مكةَ [لمّا قالوا] إنك في ضلال.

ص: 124

[(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) 86]

فإن قلت: قوله (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمةً من ربك. ويجوز أن تكون (إلا) بمعنى (لكن) للاستدراك، أى: ولكن لرحمة من ربك ألقى إليك.

[(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 87]

وقرئ: (يصدنك)، من أصدّه بمعنى صدّه، وهي في لغة كلب. وقال:

أناس أصدوا النّاس بالسّيف عنهم

صدود السّواقى عن أنوف الحوائم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (محمولٌ على المعنى)، يعني: مَنْ رأى نفسَهُ أهلاً لشيءٍ وأُشعِرَ بأمارةٍ أو تَوهّمَ مَخيلةً رُبما تعلّقَ رجاؤُهُ بحصولِه؛ فإذا نُفِيَ الرجاءُ انتفى حصولُهُ بالكلية؛ فكانَ معنى {ومَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} : ما أُلقِيَ إليكَ الكتابُ لأمرٍ مِنَ الأمورِ إلا للرحمة؛ فانتَصَبَ {رَحْمَةً} على المفعولِ له.

قولُه: (أناسٌ أصدُّوا الناس) البيت، السواقي: جمعُ الساقية؛ وهيَ الجماعاتُ التي تَسقِي الإبل، والحوائم: الإبلُ الغرائب، وقيل: العِطاش. والسوافي -بالفاء-: الرياح. ويُروى: ((أنوفِ الخرائم)) وهيَ أنوفُ الجِبال، والأولُ أصّحُّ صاحبُ ((ديوانِ الأدب)): يقول: صَرَفوا الناسَ بالسيفِ عنْ أنفُسِهِم؛ يعني أنَّهمْ هَزَمُوهُمْ كما تَطْرُدُ السواقي غرائبَ الإبلِ عنْ إبِلِهِم، وكما يصدُّ السُّقاةُ عنِ الحوضِ غيرَها.

ص: 125

(بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) بعد وقت إنزاله، و (إذ) تضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذٍ وليلتئذٍ ويومئذٍ وما أشبه ذلك. والنهى عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سبق ذكره.

[(وَلا تَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 88]

(إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه. والوجه يعبر به عن الذات.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ "طسم القصص" كان له الأجر بعدد من صدق موسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا أن كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({إِلاَّ وَجْهُهُ،}: إلا إيّاه)، قالَ مكي: انتصبَ ((الوجه)) على الاستثناء، ويجوزُ الرفعُ على الصفة؛ أي: غيرُ وجهِه.

كما قال:

وكلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ

لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ

وقالَ الإمام: فُسِّرَ الهلاكُ بالعَدَم؛ أيْ أنّ الله يُعدِمُ كلَّ شيء، وقدْ فُسِّرَ بإخراجِ الشيءِ عنْ كونِهِ مُنتَفَعًا به؛ إمّا بالإماتة، أوْ بتفريقِ الأجزاءِ وإنْ كانتْ باقية؛ كما يُقال: هلكَ الثوب، وهلكَ المتاع.

وقيل: معنى كونِهِ هالكًا كونُهُ قابلاً للهلاكِ في ذاتِه.

قولُه: (أنْ كلّ شيءٍ هالكٌ)، الوَجْهُ أنْ يكونَ ((أن)) مُخفّفةً مِنَ الثقيلة، وضميرُ الشأنِ

ص: 126

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محذوف؛ أي: أنهُ كلُّ شيءٍ هالك؛ كقولِهِ تعالى: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ} [يوسف: 3].

تَمّتِ السُّورة، حامدًا لله ومصلِّيَا على رسوله.

ص: 127

‌سورة العنكبوت

مكية، وهي تسعٌ وستونٌ آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[(الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) 1 - 3]

الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل. ألا ترى أنك لو قلت: حسبت زيداً وظننت الفرس:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورةُ العنكبوت

مكِّيّة، وهي تسعٌ وستُّون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (الحِسْبانُ لا يَصِحُّ تَعليقُه بمعاني المفرَدات، ولكنْ بمَضامينِ الجُمَلِ) سَبَقَ في ((سُورة القَصَص)) تحقيقُ هذا الكلام.

الراغب: الحِسْبانُ: أن يُحكمَ لأحدِ النقيضَيْن من غيرِ أنْ يخطرَ الآخرُ بباله فيَحْسِبُه ويعْقِدُ عليه الأَصِبع، ويكونُ بمَعرضٍ أن يعتريَه شَكٌّ، ويقاربُ ذلك الظنُّ، لكن الظنَّ أنْ يُخطرَ النقيضَيْن بباله، فيُغلِّبَ أحدَهما على الآخَر.

ص: 128

لم يكن شيئاً؛ حتى تقول: حسبت زيداً عالماً؛ وظننت الفرس جواداً، لأنّ قولك: زيدٌ عالم، أو الفرس جواد: كلامٌ دال على مضمون، فإن أردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لم يكنْ شيئَا) أي: كلامًا مفيدًا، والضميرُ في ((يَكُنْ)) يعودُ إلى القولِ الَّذي يدلُّ عليه قولُه:((لَوْ قُلْتَ)).

قولُه: (ثابتًا عندَك) حالٌ إمَّا مِنْ فاعلِ ((أَردْتَ))، أوْ ((عن ذلك المَضمونِ))، وقيل: هو منصوبٌ عن كونِ مقدَّرٍ، أوْ عنَ كونِ ((ذلكَ المضمونِ ثابتًا عندَك))، يدلُّ عليه قولُه:((فلمْ تَجدْ بُدًّا في العبارةِ عن ثَباتِه عندَك))؛ لأنَّه مِنَ التَّركِ الَّذي هو بِمعنى التَّصيير؛ يعني: يتعدَّى على مفعولَيْن، يشهدُ له الاستشهاد، وما سبقَ في أوَّلِ ((البقرةِ)) في قوله:{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17]، وفيهِ نَظَر؛ لأنّ قولَه:{وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} حالٌ، الواوُ صادَّةٌ عن جعلِ الجُمْلة ثاني مفعولَيْ: تَرك.

والظاهرُ أنَّه ممَّا يَتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ بمعنى يُخَلَّوا أو يُطرَحوا، ولعلَّه مالَ إلى مذهب الأخفش، حيث جوَّز دخولَ الواوِ في خبرِ ((كانَ)) وأخوَاتِها.

قالَ شارحُ أبياتِ ((المفصَّل)): حُكيَ عن الأخفشِ: أنَّه كانَ يُجوِّز كان زيدٌ وأبوهُ قائِمٌ؛ على نُقصانِ ((كان)) وجَعْلِ الجملةِ خبرًا معَ الواو، وتَشبيهِها لخبرِ ((كانَ)) بالحال، وهذا كأنَّه التفاتٌ إلى مذهبِ الكوفيِّ، أنّ عندَه خبرُ ((كانَ)) حالٌ لا خبرٌ، وعليه قولُ المَعرّي:

وَكَانتْ كالنَّخِيلِ وظَلَّ كُلٌّ

وَمُشْبِهَةً مِنَ الضُّمْرِ الإِهَانُ

المِصْراعُ الأخيرُ جملةٌ معَ الواوِ وخبر ظل.

وأبطلَ أبو عليٍّ قولَ الكوفيِّ: تقولُ العرب: كنتُ إيَّاه وكنتُه، فالضمير الجامد لا يقعُ حالاً، إذْ هو لازمُ التَّعريف. لعلَّ مذهبَه كمذهبِ يُونس، إذْ هوَ يجوِّزُ تعريفَ الحال.

ص: 129

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقالَ صاحبُ ((التَّقريب)) في قولِه: ((أَحسِبوا تَركَهُم غيرَ مفتونِين كقولهِم: {آمَنَّا})) نَظَر؛ لأنَّه يؤدِّي إلى تُركوا غيرَ مفتُونِين. وإنّما الكلامُ في العلِّةِ وليسَ كذلكَ لما ذكر من معنى الآية: أي أَحَسِبَ الذين نَطقُوا بكلمة الشهادة أنّهم يُتركون غيرَ مُمتَحَنين، بل يُمتَحنون ليتميَّزَ الراسخُ في الدِّين من غيرِه. ولسَبَبِ النُّزولِ.

فالوجهُ أن يُجعلَ {أَن يُتْرَكُوا} سادًّا مَسدَّ مفعوليَ ((حَسِبَ)) كما سَيذكر في {أَن يَسْبِقُونَا} بعدَ ((حَسِبَ)) ونظائرِه، و {أَن يَقُولُوا} علَّةً للحِسْبان؛ أي: أَحَسِبوا كقولهم: {آمَنَّا} أن يُتركوا غيرَ مفتُونين بسبب قولِهم هذا لا بسببٍ آخَر، وليس الكلامُ إلاّ في أنْ جَعَلوا قولَهم علَّةً لقولهم:{لَا يُفْتَنُونَ} .

وأما سَببُ النُّزولِ: فهو أنَّ ناسًا من الصحابة جَزِعوا من أذى المشركين، إلى آخره.

وأُجيبَ: أنَّ ذلك إنّما لَزِم أنْ لو كان التقديرُ ما ذَكَره، أمّا لو قُدِّر: أَحَسِبُوا تَرْكُهُم غيرَ مفتُونينَ يحصلُ لقولهم: {آمَنَّا} ، كما نصَّ عليه المصنِّفُ بقوله:((على تقدير: حاصِلٌ ومستقرٌّ، قَبلَ اللاّم)) استقام، كأنّه قيل: لا ينبغي أن تَحسَبُوا أنَّ إجراءَ كلمةِ الشهادةِ على ألسنَتِكُم سببٌ لأنْ لا تُفتَنُوا؛ لأنّه مُقتَضٍ لازدياد الفتنةِ على ما سيجيءُ في حديث خبّابِ ابنِ الأَرتِّ، فإن لم يجعلوه مقتضيًا له فَلأَنْ لا يَجعلُوه لِعَدمِه أَولى.

والحاصل أنّ دلالة المفهوم الذي ذَكَره، وأن الكلام في العلَّة مهجور؛ لأنَّ الكلام مع قومٍ مخصوصينَ؛ كقوله تعالى:{لَا تَاكُلُوا الرِّبوَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، وقال الزَّجاجُ: في قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} معنى التَّقريرِ والتَّوبيخِ؛ أي: أَحَسِبوا أن نقنعَ منهم بأن يقولوا: إنّا مؤمنون فقط ولا يُمتَحنون بما تَتبيَّنُ به حقيقةُ إيمانِهم، وموضعُ ((أَنْ)) الأُولى نصبٌ؛ لأنَّه اسمُ ((حَسِبَ)) وخبرُه، وموضعُ ((أَنْ)) الثانية إما نصبٌ بـ {يُتْرَكُوا} .

المعنى: أَحَسِبَ النّاسُ أن يُتركوا لأنْ يَقولوا أو بأنْ يقولوا، ثم حُذِفَ الجارُّ وأُوصِلَ، وإمّا أن يكونَ العاملُ فيها {أَحَسِبَ} ، كأن المعنى: أَحَسِب الناسُ أن يقولوا: آمنّا وهم لا يُفتنون. والأوَّلُ أجودُ.

ص: 130

على وجه الظن لا اليقين، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه، من ذكر شطرى الجملة مدخلاً عليهما فعل الحسبان، حتى يتم لك غرضك. فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية؟ قلت: هو في قوله: (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وذلك أن تقديره: أحسبوا تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، فالترك أول مفعولي "حسب"؛ ولقولهم: آمنا، هو الخبر. وأما «غير مفتونين» فتتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:

فتركته جزر السّباع ينشنه

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان، تقدر أن تقول: تركهم غير مفتونين، لقولهم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فتَرَكْنَهُ جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ)، تَمامُه:

يَقْضُمْنَ حُسْنَ بَنانِهِ والمْعْصَمِ

وفي روايةٍ: ((يَقْضَمْنَ قُلَّةَ رأسِه)).

جزَرَ السِّباعِ: اللَّحمُ الذي تأكلُه، وهو مفعولٌ ثانٍ إن كان التَّرْكُ بمعنى التَّصييرِ، وإلاّ فحالٌ؛ أي: تَركنَه وهو جَزَرُ السِّباعِ. النَّوْشُ: التَّناوُلُ. القَضْمُ: الأكلُ بطَرَف الأسنانِ. يصف مقتولاً. إذا كانت الروايةُ بالنُّون فالضَّميرُ في ((تَرَكنه)) للخيل، وإذا كانت بالتاء فللشاعِر، والمسموعُ بالنُّون.

الراغب: التَّرْكُ: رفضُ الشيءِ قَصْدًا واختيارًا، أو قَهْرًا واضطِرارًا، فمِنَ الأوَّلِ {وَتَرَكْنَا بَعْضُهْمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99]، ومِنَ الثاني قولُه:{كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 25]. ومنه: تَرِكُةُ فلانٍ؛ لِمَا يُخلِّفُه بعدَ موتِه.

وقد يُقال في كلِّ فعلٍ ينتهي به إلى حالةٍ ما؛ نحو: تَرِكَتُه كذا، أو يَجري مَجْرى: جَعلتُه كذا، نحو: تَركتُ فلانًا.

ص: 131

آمنا، على تقدير: حاصلٍ ومستقر، قبل اللام. فإن قلت:(أَنْ يَقُولُوا) هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول خروجه لمخافة الشر، وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت مخافة الشر، وضربته تأديباً: تعليلين. وتقول أيضا: حسبت خروجه لمخافة الشر، وظننت ضربه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً. والفتنة: الامتحان بشدائد التكليف: من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ، وبالفقر والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان: أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم، وثبات أقدامهم، وصحة عقائدهم، ونصوع نياتهم، ليتميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب، والمتمكن من العابد على حرف، كما قال: ) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ([آل عمران: 187]، وروى أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين. وقيل في عمار بن ياسر: وكان يعذب في الله. وقيل: في ناسٍ أسلموا بمكة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم، فلما نزلت كتبوا بها إليهم؛ فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا. وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أوّل قتيلٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في مِهْجَع بنِ عبدِ الله) وفي ((الاستيعاب)): مِهْجَعُ بنُ صالح، مولى عمرَ بنِ الخطّابِ، شهد بدرًا، وهو أوَّل من قُتل من المسلمين بينَ الصَّفَّينِ، أَتاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فقتَله، فقال ابنُ إسحاقَ: هو من اليمن. وقال ابن هشام: هو من عَكٍّ، أصابَه سِبَاءٌ فمَنَّ عليه عمرُ ابنُ الخطابِ.

ص: 132

من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " فجزع عليه أبواه وامرأته. (وَلَقَدْ فَتَنَّا) موصول ب- (أحسب) أو ب- لا يفتنون، كقولك: ألا يمتحن فلانٌ وقد امتحن من هو خير منه، يعنى: أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم، أو ما هو أشدّ منه فصبروا، كما قال:(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا) الآية [آل عمران: 146]، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سَهْمٌ غَرْبٌ: أن لا يُعرفَ راميه، يُضاف ولا يُضاف.

قوله: ({وَلَقَدْ فَتَنَّا} موصولٌ بـ {أَحَسِبَ} أو بـ {لَا يُفْتَنُونَ})، فإذا اتَّصل بـ {لَا يُفْتَنُونَ} دخل في حيِّز متعلِّق الحِسْبانِ المُنكَرِ؛ أي: أَحَسِبُوا أن لا يكونوا كغَيرِهم، وليس لهم أُسوةٌ بالأمم السالفةِ، فيكون حالاً من فاعل {لَا يُفْتَنُونَ} ، وإذا اتصل بـ {أَحَسِبَ} كان حالاً مقرِّرةً لجهةِ الإنكار؛ أي: أَحَصَل الحِسْبانُ والحالةُ هذه، وفي هذا تنبيهٌ على الخطأ وفي الأول تخطئةٌ.

قوله: ({وَكَأَيِّن مِن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146]) تمهيدٌ لعُذْره في قوله: ((مَنْ هو خيرٌ منه))، فإنه تُوُهِّمَ منه أنَّ أتباعَ الأنبياءِ خيرٌ من هذه الأمَّةِ، فقال: المراد منه النبيون مع الربيِّين، فهو تتميم لصيانة المكروه.

قوله: (قد كان مَنْ قَبلَكُم يؤخذ)، الحديثُ من رواية البخاريِّ وأبي داودَ والنَّسائيِّ، عن خبّابِ بن الأَرتِّ قال: شَكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد لَقينا من المشركينَ شدَّةً فقلنا: ألَا تَستنصِرُ لنا، أَلا تَدعو لنا؟ فقال:((قَدْ كانَ مَنْ قَبلَكُمْ يُؤخَذُ الرجل فيُحفَرُ له في الأَرضِ فيُجعَلُ فيها، ثُمَّ يُؤتَى بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ على رَاسِه فيُجعَلُ نِصفَينِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِه وعَظْمِه مَا يَصُدُّه ذلكَ عن دِينِه)).

ص: 133

دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه» (فَلَيَعْلَمَنَّ الله) بالامتحان (الَّذِينَ صَدَقُوا) في الإيمان (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه. فإن قلت: كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت: لم يزل يعلمه معدومًا، ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد، والمعنى: وليتميزن الصادق منهم من الكاذب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لم يَزَلْ يَعلمُه مَعدومًا ولا يَعلمُه موجودًا إلا إذا وُجِدَ)، الانتصاف: هذا يُوهِم مَذهبًا فاسدًا، وهو أنَّ العلمَ بالكائن غيرُ العلمِ بما سيكون، والحقُّ أنَّ علمَ اللهِ واحدٌ يتعلَّق بالموجودِ، زمانَ وجودِه وقبلَه وبعدَه على ما هو عليه. وفائدةُ ذِكْرِ العلمِ التَّنبيهُ بالسَّبب على المُسبِّب، وهو الجزاء؛ أي: لَيَعلَمَنَّهم فلَيُجازِيَنَّهُم بسَبب علمِه فيهم، هذا هو الوجهُ الثاني في الجوابِ.

وقال الإمام: عِلْمُ اللهِ صفةٌ يظهرُ فيها كلُّ ما هو واقع، فقَبْلَ التَّكليفِ كان اللهُ سبحانه وتعالى يعلمُ أنَّ زيدًا سيُطيعُ وأنَّ عمرًا سَيعصي، ثمَّ وَقْتَ التَّكليفِ والإتيانِ يعلمُ أنه مطيعٌ والآخَرَ عاصٍ، وبعدَ الإتيانِ يعلمُ أنّه أطاعَ والآخَرَ عَصى، ولا يتغيَّرُ علمُه في شيءٍ منَ الأحوالِ، وإنّما المتغيٍّرُ المعلومُ، ويتبيَّن هذا بمثالٍ [منَ الحِسِّيّاتِ]- ولله المثلُ الأَعلى- وهو أنَّ المرآة الصَّقِيلةَ إذا عُلِّقت قُوبِلَ بها جهةٌ، فعَبَر عليها زيدٌ وعليه ثوبٌ أبيضُ، ثم عمروٌ وعليه ثوبٌ أصفرُ، فتَشكّلا فيه على حَسْب ما هُما عليه، فهل يُتصوَّر أنَّ المرآة من كَونها حديدًا أو مدورًا أو صَقِيلاً اختَلفت، بل يُقطع أن المتغيِّرَ الخارجُ، بل علمُ الله أعلى وأجلُّ، فإنَّ المرآة مخلوقةٌ، وعِلْمُ الله قديمٌ.

وقال مُحيي السُّنة: ولَيُظهرنَّ اللهُ الصادقينَ من الكاذبينَ، حتى يُوجِدَ مَعلُومَه؛ لأنَّ الله تعالى عالمٌ بهم قَبل الاختبارِ.

ص: 134

ويجوز أن يكون وعدًا ووعيدًا، كأنه قال: وليثيبن الذين صدقوا وليعاقبنّ الكاذبين. وقرأ على رضى الله عنه والزهري: "وليعلمنّ"، من الإعلام، أى: وليعرفنهم الله الناس من هم. أو ليسمنهم بعلامةٍ يعرفون بها؛ من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)] 4 [

(أَنْ يَسْبِقُونا) أي: يفوتونا، يعنى: أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة، وهم لم يطمعوا في الفوت، ولم يحدّثوا به نفوسهم، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي: في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويَجوز أن يكونَ وَعْدًا ووَعِيدًا)، قال ابن جِنِّي: فإنَّه من إقامةِ السَّبَبِ مقامَ المُسبِّب، والغرضُ فيه: ليُكافِئنَّ اللهُ الذين آمنوا، وذلك أن المكافآتِ على الشيء إنّما هي مُسبَّبة عن علم.

قوله: (أو لَيَسِمَنَّهُم بعلامةٍ) قال ابن جنِّي: ((ولَيُعلِمَنَّ اللهُ)) بضمِّ الياءِ وكسرِ اللاّمِ؛ معناه: وَليُعَرِّفَنَّ الناسَ مَنْ هُم؟ فحُذف المفعولُ الأوَّلُ، ولك أنْ لا تحذفَه على أنَّه من قولهم: ثَوبٌ مُعْلَم، وفارسٌ مُعْلَم؛ أي: أَعلَمَ نفسَه في الحرب بثوب أو غيره. المعنى: ولَيُشْهِرنَّ اللهُ الذين صَدَقوا.

قوله: (وهم لم يَطْمَعُوا في الفَوْت، ولكنّهم لِغَفلَتِهم وإصرارِهم على المعاصي: في صُورة مَن يُقدِّرُ ذلك)، يعني أنّه تعالى أَوقَعَ الحُسْبانِ على السَّبْق والفَوْتِ وهم لا يَعلمون ذلك، بل خلافُه مُتيقَّنٌ وُقوعُه، وهو لُحوقُ الجزاءِ بهم؛ لأنَّ قولَه:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} في المؤمنين بدليل تَعْقِيبِه قولَه: أَحَسِبَ الناسُ أن يُترَكُوا وهم لا يَشُكُّونَ في الجزاء

ص: 135

ونظيره: (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)] العنكبوت: 22 [، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)] الأنفال: 59 [. فإن قلت: أين مفعولا (حسب)؟ قلت: اشتمال (صلة أن) على مسنٍد ومسنٍد إليه سدّ مسدّ المفعولين؛ كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)] البقرة: 214 [، ويجوز أن يضمن (حسب) معنى (قدر) و (أم) منقطعة. ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ): بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكمًا يحكمونه حكمهم هذا، فحذف المخصوص بالذم.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)] 5 [

لقاء الله: مثل للوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت، والبعث، والحساب،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لكن تَرَكَهُم بسَببِ جَرْيهم على غيرِ موجبِ العلم، وهو غَفلتُهم وإصرارُهم على المعاصي، منزلةَ مَنْ لم يتيقّن الجزاء؛ أي: لو اعتَقَدُوا ما أَصرُّوا على المعاصي.

قوله: (ونَظيرُه {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [العنكبوت: 22]، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59] أي: تَنْزيل المُتيقِّن منزلةَ الشّاكِّ. هذا إذا خُوطب الرسولُ صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون.

قوله: (بئسَ الذي يحكمونَه حُكْمُهم). قال مَكِّيٌّ: ((ما)) في موضع نَصْبٍ وهي نكرة؛ أي: ساء شيئًا يَحكُمونَه. وقيل: ((ما)) في موضع رفعٍ وهي معرفة؛ أي: ساء الذي يَحكُمونَه. وقال ابنُ كَيْسانَ: ((ما)) مع الفعل مصدرٌ في موضع رفعٍ؛ أي: ساء حُكْمُهم.

ص: 136

والجزاء: مثلت تلك الحال بحال عبٍد قدم على سيده بعد عهٍد طويل، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب؛ لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخطه منها، فمعنى قوله:(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ الله) من كان يأمل تلك الحال، وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشرى (فَإِنَّ أَجَلَ الله) وهو الموت (لَآتٍ) لا محالة؛ فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه، ويحقق أمله، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه، فهو حقيق بالتقوى والخشية. وقيل:(يَرْجُوا): يخاف من قول الهذلي في صفة عسال:

إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها

فإن قلت: (فإن أجل الله لآت)، كيف وقع جوابًا للشرط؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لم يَرْجُ لَسْعَها)، تمامُه:

وخالَفَها في بيتِ نُوبٍ عَوامِلِ

الدَّبْرُ: جماعةُ النَّحْلِ. قيل: سمِّيت بذلك لِتَدْبيرها وحُسن نَيْقَتِها في العَمَل، ومن كلام سُكَينة بنتِ الحُسين- رضي الله عنها قالت لأُمِّها: يا أُمَّاه، مرَّت بيد ُبَيْرة فلَسَعَتْنِي بأُبَيْرَةٍ لم يَرْجُ: لا يخافُ. والنُّوبُ: ضَربٌ منَ النَّحلِ قيل: سمّيت بذلك لأنها تَنُوبُ إلى أهلِها، والهاءُ في ((لَسَعَتْهُ)) يعودُ إلى العَسّال المتقدِّمِ ذِكْرُه. والعَسّالُ: الذي يَشُورُ العَسَلَ.

قوله: ({فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَأَتٍ} كيف وقع جوابًا للشرط)، تلخيصه ما ذكره الإمام: أن قوله: {مَن كَانَ يَرْجُوا} شرط، وجزاؤه:{فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ} ، والمعلَّق بالشرَّطِ عَدَمٌ عند عَدَم

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّرْطِ، فيَلزمُ منه أنَّ مَن لا يَرجُو لقاءَ الله، لا يكونُ أَجَلُ الله آتيًا له، والأجلُ آتٍ لكلِّ أحدٍ لا مَحالَةَ. وخُلاصةُ جوابِ المصنِّف أنَّ هذا الكلامَ واردٌ في حقِّ من عَلِمَ، بدليل قوله:((إذا عُلِمَ أنَّ لقاءَ الله عُنيت به تلكَ الحالُ المُمثَّلةُ)) يعني: هذا إنّما يَصِحُّ أنْ يقعَ جوابًا للشَّرط إذا عَلِمَ المُخاطَبُ أن المرادَ بلقاء الله تعالى ما هو، ووقتُه متى هو، والمراد بلقاء الله تعالى ووَقْتِه: هو ما قال: ((مَثَلٌ للوُصُولِ إلى العاقبةِ))؛ أي: يلقى مَلَكَ الموتِ والبَعْثَ والحسابَ والجزاءَ، وهو المراد من قوله:((تلك الحالُ المُمثَّلةُ)) وإذا لم يَعلمِ المُخاطَبُ ذلك لا يُقال له ذلك، أَلا تَرى كيف استَشهد بقوله:((إذا عَلِمَ أنه يَقعدُ للنّاسِ يومَ الجُمعةِ))؛ يعني: من كان يرجو نَيْلَ ثوابِ الله ويخافُ عقابَه، فلْيَعلَمْ أنَّ وقوعَ ذلك لا بدَّ منه، وهذا لا يَصِحُّ في حقِّ الكافرِ.

ويَنصرُه أنَّ هذه الآيةَ قد عُقِّبت بها {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} وسَبقَ أنّها في حقِّ المؤمنين، وفائدة هذا التَّنبيهِ الحَثُّ على طاعة الله تعالى وما يُنالُ به ذلك الثَّوابُ، والرَّدْعُ عن المعاصي والتأهُّبُ لأخْذِ الزادِ لذلك اليوم المَهُولِ، وإليه أشار بقوله:((فلْيُبادِرِ العملَ [الصالحَ] الذي يُصدِّق رجاءَه، ويُحقِّق أَملَه ويَكتَسِبُ به القُربةَ عند الله والزُّلْفى))، وسبيلُ هذه الطريقةِ سبيلُ الكِنايةِ؛ لأنّه إذا حَصَل العلمُ بأنَّ لقاءَ الله مُستَلْزِمٌ للأجل المَضْرُوبِ، كان ذِكْرُ الأَجَلِ شاهدًا على حُصول اللِّقاءِ بوَجْهٍ بُرْهانٍّي، ولذلك علَّل قولَه:((إنَّ لقاءَ الله لآتٍ)) بقوله: ((لأنَّ الأَجَلَ واقعٌ قيه))، وإلى هذا المعنى نَلْمَحُ ما روينا عن البخاريِّ ومسلم عن عبادةَ بن الصّامِتِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أَحَبَّ لقاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لقاءَ الله كَرِهَ اللهُ لقاءَهُ، والموتُ قبل لقاءِ الله)) الحديثَ.

فعلى هذا: الموتُ أحدُ الأسبابِ المُوصِلَة إلى النَّعيم الأَبَدِيِّ، والكَمالِ السَّرْمَدِيِّ، ثمَّ قولُه:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تَذْيِيلٌ لتحقيق حُصولِ المَرْجُوِّ والمَخُوف وَعْدًا ووَعِيدًا، وإليه أشار بقوله:((الذي لا يخفي عليه شيءٌ ممّا يقولُه عبادُه ومِمّا يَفعلُونَه، فهو حَقيقٌ بالتَّقوى والخَشيةِ))، وتَرَكَ ذِكْرَ الوَعْدِ؛ وهو أن يُقالَ: فهو جَديرٌ بأنْ يؤمَّل ويُناطَ بكَرَمِه

ص: 138

قلت: إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة، والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت، فكأنه قال: من كان يرجو لقاء الله؛ فإن لقاء الله لآت، لأن الأجل واقع فيه اللقاء، كما تقول: من كان يرجو لقاء الملك؛ فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة.

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)] 6 [

(وَمَنْ جاهَدَ) نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه (فَإِنَّما يُجاهِدُ) لها، لأن منفعة ذلك راجعة إليها، وإنما أمر الله عز وجل ونهى، رحمةً لعباده وهو الغنى عنهم وعن طاعتهم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)] 7 [

إما أن يريد قومًا مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم، وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم، أى: يسقط عقابها بثواب الحسنات، ويجزيهم أحسن الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرجاءُ؛ إيجازًا واختصارًا.

وأما ((إذا)) في قوله: ((إذا عَلِمَ أنَّ لقاءَ اللهِ عُنيتْ به))، فهي كـ ((إذا)) في قوله:((إذا عُلِمَ أنَّه يَقْعُدُ))، فكما أنَّ جزاءَ المِثالِ ما دلَّ عليه بقوله:((مَن كان يَرجو لقاءَ المَلِكِ)) كذلك يقدَّر له الجزاءُ. والفاءُ في ((كأنَّه)) جوابُ شرطٍ محذوفٍ؛ أي: إذا كان كذلك فكأنَّه قال.

قوله: (صالحين قد أَساؤوا في بعض أعمالِهم، وسيِّئاتُهم مَغْمُورةٌ بحَسناتِهم)، الانتصاف: هذا من تحجُّرِ رحمةِ الله الواسعةِ بناءً على مذهبِه في وَعِيد أصحابِ الكَبائِر، وقد سَبَق إبطالُه.

وقلت: قد مَرَّ أنَّ الآياتِ واردةٌ في حقِّ المؤمنينَ تَعْييرًا على اجتِراحِ السَّيِّئاتِ، وتَحريضًا على اكتساب الحَسَناتِ، وأعلَمَهمُ اللهُ أنّ نَفْعَ ذلك كلُّه عائدٌ إليهم، بقوله: {وَمَن جَاهَدَ

ص: 139

كانوا يعملون، أى: أحسن جزاء أعمالهم؛ وإما قومًا مشركين آمنوا وعملوا الصالحات، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم؛ بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 8 [

(وصى) حكمه حكم (أمر) في معناه وتصرفه. يقال: وصيت زيدًا بأن يفعل خيرًا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. ومنه بيت "الإصلاح":

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}، وأكَّدَه بقوله:{إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، ثمَّ أتى بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، تَذْييلاً لذلك على سبيل التَّفضُّل، فلا بدَّ من إثبات أمرٍ يَعظُم شأنُه، فيُحمل قولُه:{لَنُكَفِرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} على الكبائر، ولذلك أتى بالقَسَمِيَّة وأَوقعَه في مقابل {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، كأنَّه قيل: لَنُكَفِّرَنَّ عنهم أَسوأ الذي كانوا يعملون، ولَنَجزِيَنَّهم أحسَنَ الذي كانوا يعملون؛ وهذا المعنى لا يَستقيمُ في حقِّ المشركينَ؛ لأنَّ التَّكفيرَ يَحصُل بمُجرَّد الإيمانِ، ولا مَدخَلَ فيه.

وقال مُحيي السُّنةِ: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} لَنُبْطِلَنَّها حتّى تَصيرَ بمنزلة ما لم يُعمل، فالتَّكفيرُ إذهابُ السَّيئةِ بالحَسَنة. وقد مرَّ في ((الفرقان)) نحوٌ من هذا التَّقدير وأيَّدْناه بالحديث الصَّحيح.

قال الإمامُ: ذَكَر الله تعالى ممّا يَختَصُّ بالعَبد شيئَينِ: الإيمانَ والعملَ الصَّالح، وذَكَر في مُقابَلَتِهما ممّا يَختصُّ بالله شيئَينِ: التَّكفيرَ والجزاءَ، فتكفيرُ السَّيِّئاتٍ في مُقابَلَة الإيمانِ، والجزاءُ بالأحسنِ في مُقابَلَة العملِ الصالحِ، وهذا يَقتضي أنَّ المؤمنَ لا يُخلَّد في العذاب.

قوله: (بيتُ ((الإصلاح))) وهو كتاب ((إصلاح المَنْطِق)) لابن السِّكِّيتِ. ((كَذَبَ))؛ أي:

ص: 140

وذبيانيّة وصّت بنيها

بأن كذب القراطف والقروف

كما لو قال: أمرتهم بأن ينتهبوها. ومنه قوله تعالى: (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ)] البقرة: 132 [أى: وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك: وصيت زيدًا بعمرو، معناه: وصيته بتعهد عمرٍو ومراعاته ونحو ذلك، وكذلك معنى قوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً): وصيناه بإيتاء والديه حسنا، أو بإيلاء والديه حسنا؛ أى: فعلا ذا حسن، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)] البقرة: 83 [وقرئ: (حسنا)، و (إحسانا)، ويجوز أن تجعل (حُسْناً) من باب قولك: زيدًا، بإضمار (أضرب) إذا رأيته متهيئًا للضرب، فتنصبه بإضمار:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وَجَبَ نَهْبُ هذه الأشياء.

الجوهريُّ: قال ابن السِّكِّيت: كَذَبَ [هاهنا] إغراءٌ؛ أي: عليكم به. وهي كلمة نادرةٌ جاءت على غير القياسِ، والقَراطِفُ جمعُ القَرْطَفِ: وهي القَطِيفةُ. والقَرْفُ- بالفتح: وِعاءٌ من جِلْد يُدْبَغُ بالقِرْفَةِ؛ أي: قُشُور الرُّمّانِ ويُجْعَل فيه الخَلْعُ، وهو لَحمٌ يُطبخ بتَوابِلَ فيُفْرَغُ فيه. والبيت لِمُعَقِّرِ بن حِمارٍ البارِقيِّ، يَصِفُ امرأةً ذُبْيانيَّةً أَمَرَت بَنِيها بأنْ يَنتَهِبُوها؛ أي: عليكم بها فاغتَنِموها.

قوله: (وقرئ: {حُسْنًا} و ((إحسانً)))، الأُولى: مشهورةٌ، والثانيةُ: شاذَّةٌ. قال الزَّجّاجُ: {حُسْنًا} معناه: ووصينا الإنسان أن يَفعلَ بوالِدَيْه ما يَحسُنُ، و ((إحسانًا)) معناه: ووَصَّينا الإنسانَ أن يُحسِنَ إلى والِدَيْهِ إحسانًا. والأُولى أعمُّ في البِرِّ. وقيل: يَعُمُّ الفعلَ والقولَ.

قوله: (أن تَجعلَ {حُسْنًا} من باب قولك: زيدًا، بإضمار: اضرِبْ) عطفٌ على قوله: ووَصَّيناهُ بإيتاء والِدَيهِ حُسنًا، وعلى الأوَّل المضافُ محذوفٌ وهو العاملُ في {حُسْنًا}

ص: 141

أولهما، أو: افعل بهما، لأن التوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، كأنه قال: قلنا: أولهما معروفًا، ولا تُطِعْهُما في الشرك إذا حملاك عليه. وعلى هذا التفسير إن وقف على (بِوالِدَيْهِ) وابتدأ (حُسْناً) حسن الوقف، وعلى التفسير الأول لابد من إضمار القول، معناه: وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أى: لا علم لك بإلهيته. والمراد بنفي العلم؛ نفى المعلوم، كأنه قال: لتشرك بى شيئًا لا يصح أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على تقدير: فعلاً ذا حُسْنٍ، أو على المُبالغةِ، وعلى الثاني: العاملُ فعلٌ آخَرُ مضمَرٌ بقَرينة المَقامِ، وهو أَوْلِهِمَا منَ الإيتاء والإعطاءِ، والجملةُ مُستأنَفةٌ، كأنَّه لمّا قيلَ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} فقيل: ما تلك الوَصِيَّةُ؟ فأُجيب قلنا: أَوْلِهِمَا مَعروفًا ولا تُطِعْهُما، وإليه الإشارةُ بقوله:((إن وقف على {بِوَالِدَيْهِ} وابتدأ {حَسْنًا} حَسُنَ الوَقْفُ)).

قوله: (وما بعدَه مطابقٌ له) يعني: النَّهْيَ في قولِه: {فَلَا تُطِعْهُمَا} مطابقٌ للأمرِ؛ لأنَّهما من وادي الإنشائيّاتِ.

قوله: (وعلى التفسيرِ الأول لابدَّ من إضمارِ القول)، يعني عند قوله:{وَإِن جَاهَدَاكَ} ، لأنّ المعنى: أَمَرْنا الإنسانَ بإيلاء والِدَيْهِ ذا حُسْنٍ وقلنا: {إِن جَاهَدَاكَ} ؛ أي: وعلى الثاني: القولُ مقدَّرٌ. قيل: عاملُ {حُسْنًا} : {وَإِن جَاهَدَاكَ} إلى آخره، عطفٌ على هذا العاملِ فلا يقدَّر القولُ عند قولِه:{وَإِن جَاهَدَاكَ} لاستغنائه بذلك عنه، ومِنْ ثَمَّ قُدِّر هاهنا: أَوْلِهِمَا معروفًا ولا تُطِعْهُما في الشِّرك إذا حَمَلاكَ عليه.

قوله: (والمراد بنَفْي العِلْمِ نَفْيُ المَعْلُوم)، يعني هو من الكِنَايةِ، نَفْيُ الشَّيءِ بالبُرْهان؛ لأنَّ هذا الأسلوبَ يُستعمل غالبًا في حقِّ الله تعالى؛ نحو: أَتُعَلِّمون اللهَ بما لا يَعلَمُ. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ نَفْيَ الشِّرك منَ العلمِ الضَّروريِّ، وأنَّ الفِطْرةَ السَّليمةَ مَجْبولةٌ عليه على ما وَرَد:((كلُّ مَوْلودٍ يُولدُ على الفِطْرةِ))، وذلك أنَّ المُخاطَبَ بقوله:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ} جنسُ الإنسانِ، واللهُ أعلم.

ص: 142

إلهًا ولا يستقيم: وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكر، على أن كل حق وإن عظم ساقط؛ إذا جاء حق الله، وأنه لا طاعة لمخلوٍق في معصية الخالق، ثم قال: إلىّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق جزائكم. وفيه شيئان: أحدهما: أن الجزاء إلىّ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما؛ لشركهما، ولا تحرمهما برك ومعروفك في الدنيا، كما أنى لا أمنعهما رزقي. والثاني: التحذير من متابعتهما على الشرك، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد. روى: أن سعد بن أبى وقاص الزهري رضى الله عنه حين أسلم قالت أمّه، وهي حمنة بنت أبى سفيان بن أمية بن عبد شمس: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الفيح والريج؛ وإن الطعام والشراب علىّ حرام حتى تكفر بمحمد، وكان أحبّ ولدها إليها، فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك، فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه، فنزلت هذه الآية، والتي في "لقمان"، والتي في "الأحقاف"، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان. وروى: نزلت في عياش بن أبى ربيعة المخزومي، وذلك: أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضى الله عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة، فخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة: امرأة من بنى تميم من بنى حنظلة، فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمٍد صلة الأرحام وبر الوالدين، وقد تركت أمّك لا تطعم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (رُويَ أنَّ سعدَ بنَ أبي وقّاصٍ) الحديثَ؛ من رواية مسلمٍ والتِّرمذيِّ، عن سعدٍ قال: أُنزلت فيَّ أربعُ آياتٍ منَ القرآنِ، قال: حَلفَتْ أُمُّ سعدٍ لا تُكلِّمُه أبدًا حتّى يَكْفُرَ بدِينِه، ولا تأكلُ ولا تَشربُ، قالت: زَعَمتُ أنَّ اللهَ وَصّاكَ بوالِدَيْكَ، فأنا أُمُّكَ وأنا آمُرُكَ بهذا، فمَكَثَتْ ثلاثًا حتّى غُشِيَ عليها من الجَهْدِ، فقام ابنٌ يُقال له: عُمارة فسَقاها، فجَعَلت تَدْعو على سَعدٍ، فأَنزلَ اللهُ:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ، وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]؛ يعني: التي في ((لقمان)).

ص: 143

ولا تشرب ولا تأوي بيتًا حتى تراك، وهي أشدّ حبا لك منا فاخرج معنا، وفتلا منه في الذروة والغارب، فاستشار عمر رضى الله عنه فقال: هما يخدعانك، ولك علىّ أن أقسم مالى بيني وبينك، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر، فقال له عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي، فليس في الدنيا بعير يلحقها، فإن رابك منهما ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك. قال: نعم، فنزل ليوطئ لنفسه وله، فأخذاه وشدّاه وثاقًا، وجلده كل واحٍد منهما مائة جلدة، وذهبا به إلى أمه فقالت: لا تزال في عذاٍب حتى ترجع عن دين محمد، فنزلت.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)] 9 [

(فِي الصَّالِحِينَ) في جملتهم. والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى أنبياء الله. قال الله تعالى حكايةً عن سليمان عليه السلام: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفَتَلا منه في الذِّرْوَة والغارِبِ)، فَتَل منه في الذِّرْوَة والغارِبِ: مَثَلٌ يُضرَبُ لمَن يَتَحَيَّلُ في مَيْل صاحبِه إلى ما كان يمتَنعُ منه؛ أي: لم يَزلْ يَرْفُقْ به رِفْقًا يُشبه مَنْ يَفْتِلُ الشَّعْرَ في ذِرْوَة الجَمَلِ الصَّعْبِ وغارِبِه حتّى يَستأنِسَ.

قوله: (والصَّلاحُ مِن أَبلَغ صفاتِ المؤمنينَ) وذلك أنَّ الصَّلاحَ ضِدُّ الفسادِ، والفسادُ: خروجُ الشَّيءِ عن كُوْنه مُنتفَعًا به، ولا كمالَ للإنسان أكملَ من حُصولِه على ما خُلِقَ له منَ البقاءِ، ولا يَحصُل ذلك في الدُّنيا؛ غايتَها الفَناءُ، وأيُّ فساد وراءَهُ؟ ! فإذن ليس له ذلك إلا {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55]، ولهذا كان طَلبُ الصَّلاحِ مُتَمنّى أنبياءِ الله، اللَّهمَّ أدخِلْنا في زُمرتهم.

قال الإمام: الصَّالِح باقٍ والصّالحونَ باقونَ، وبقاءُهم ليس بأَنفُسِهم، بل بأعمالِهُم الباقيةِ والمَعْمولُ له- وهو وَجْهُ اللهِ-[باقٍ]، والعاملونَ باقون ببقاء أعمالِهم. هذا على خلافِ

ص: 144

عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)] النمل: 19 [، وقال في إبراهيم عليه السلام: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] البقرة: 130، النحل: 122، العنكبوت: 27 [أو في مدخل الصالحين وهي الجنة، وهذا نحو قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ) الآية] النساء: 69 [.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله فَإِذا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ الله وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)] 10 - 11 [

هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا مسهم أذًى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس، كان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارٌف للمؤمنين عن الكفر. أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفًا، وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا:(إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أى: مشايعين لكم في دينكم، ثابتين عليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأمورِ الدُّنيويةِ، فإنَّ في الدُّنيا بقاءَ الفعلِ بالفاعلِ، وفي الآخرة بقاءَ الفاعِلِ بالفعلِ. كأنَّه أَخذَ المعنى من قوله:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرُ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [الكهف: 46].

قوله: (كان ذلك صارِفًا لهم عنِ الإيمانِ، كما أنَّ عذابَ الله صارفٌ للمؤمنينَ). قال الإمامُ: قيل: جَزِعُوا من عذاب النّاسِ كما جَزِعُوا من عذابِ الله. وبالجُملة معناه: جَعَلُوا فِتنةَ النّاسِ معَ ضعفها وانقِطاعِها موضعَ عذابِ الله الأليمِ الدائم، حتّى تَردَّدُوا في الأمرِ، وقالوا: إنْ آمَنّا نَتعرَّضُ لتأذِّي الناسِ، وإنْ تَركْنا الإيمانَ نتعرَّضُ لِمَا تَوَعَّدَنا به محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ولا يكونُ التَّردُّدُ إلاّ عند التَّساوي. فقد أَبعَدوا المَرْمى.

قوله: (أو كما يَجبُ أن يكونَ عذابُ الله صارفًا) أي: عن الكُفر من حيث هو هو وإن لم يَلتَفِتْ إليه الكافرُ ولم ينصرف.

ص: 145

ثباتكم، ما قدر أحد أن يفتننا، فأعطونا نصيبنا من المغنم. ثم أخبر سبحانه أنه أعلم (بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من العالمين بما في صدورهم، ومن ذلك ما تكنّ صدور هؤلاء من النفاق، وهذا إطلاع منه للمؤمنين على ما أبطنوه، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين، وقرئ:(ليقولنّ) بفتح اللام.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)] 12 - 13 [

أمروهم باتباع سبيلهم؛ وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا: ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن تحمل خطاياكم. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، وهذا قول صناديد قريش: كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأرادوا: لِيجتمعَ هذان الأمران) يُريد أنَّهم عَطَفوا {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَكُمْ} ، وهو أمرٌ لأنفُسِهم لِحَمْلِ خَطايا الأتباع على أمرِ المؤمنينَ باتباعِهم إرادةً للمُبالَغةِ، وأنَّ كِلَيْهما لا بدَّ منَ الحُصول والإدخالِ في الوُجود على طريقةِ قولهِ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَوَودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] في تَعْويل استعارة الرَّتْبِ إلى الذِّهن. ولو جيءَ بهما على ظاهرِهِما. وقيل: إن اتَّبعتمُونا حَملْنا خطاياكُم؛ على الشَّرطِ والجزاء كما قال، والمعنى: تعليقُ الحَمْل بالاتِّباع لم يكن منَ التحقيق في شيءٍ.

قال القاضي: وإنّما أَمَرُوا أنفُسَهم بالحَمْلِ عاطفين على أمرِهم بالاتِّباع مبالغةً في تعليق الحَمْلِ بالاتِّباع والوعدِ بتخفيف الأوزارِ عنهم إن كانت، تشجيعًا لهم عليه، وبهذا الاعتبار ردَّ عليهم كَذِبَهُم بقوله:{وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَهُم} .

ص: 146

فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. ونرى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم: افعل هذا وإثمه في عنقي. وكم من مغروٍر بمثل هذا الضمان من ضعفة العامّة وجهلتهم، ومنه ما يحكى أنّ أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه، فلما قضاها قال: يا أمير المؤمنين، بقيت الحاجة العظمى. قال: وما هي؟ قال: شفاعتك يوم القيامة، فقال له عمرو بن عبيٍد رحمه الله: إياك وهؤلاء، فإنهم قطاع الطريق في المأمن. فإن قلت: كيف سماهم كاذبين، وإنما ضمنوا شيئًا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذبا؛ لا حين ضمن، ولا حين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإن عسى كان ذلك) قيل: التقدير: فإن كان ذلك فإنّا نَتَحمَّلُ، وذَكَر ((عسى)) قبل ذِكْر الشَّرِطِ إشارةً إلى أن ذلك مبنيٌّ على رجائكم لا عن تَحقيقٍ، واسمُ ((عسى)) ضميرٌ يعود إلى ما دلَّ عليه قولُه:((كان ذلك)) فإنه مقدَّمٌ معنًى؛ لأنَّ حرفَ الشَّرطِ داخلةٌ عليه، وخبرُه محذوفٌ، كأنَّه قيل: عسى كَوْنُ ذلك أن نَتَحمَّل، وقد أجاز ذلك ابنُ الحاجبِ في ((شرح المفصَّل)) في باب التَّنازُعِ، وفيه نظرٌ، والظاهرُ أنَّ ((عسى)) مُقْحَمٌ مؤكِّد بمعنى الفَرْض، والتقدير: ولذا رُتِّب على قولِه: ((لا نُبعث نحن ولا أنتُم)).

قوله: (فقال له عَمْرو بنُ عُبيد: إيّاكَ وهؤلاءِ، فإنَّهم قُطّاعُ الطَّريق في المَامَنِ)، الإنتصاف: عَمْرُو بنُ عبيد أوَّلُ القَدَريَّةِ المُنكِرينَ للشَّفاعةِ، والزَّمخشريُّ بَني كلامَه على أنه لا فَرق بين اعتقادِ أنَّ الكُفّارَ يَحملون خَطايا أتباعِهِم، فساقَهُما سِياقًا واحدًا، وفي الآيةِ نُكتةٌ وهي أنَّ الأمرَ قد يجيءُ بمعنى الخَبَرِ، فإنَّ بعضَ النّاسِ أنكَرَه والتَزم تَخريجَ جميعِ ما وَرَد في القرآن على الأمرِ، ولا يَتِمُّ له ذلك هاهُنا؛ لأنَّ التَّكذيبَ إنَّما يتطرَّق إلى الخَبَرِ.

وقلت: قد مَرَّ أنَّ أَصلَ الكلامِ على التَّعليقِ، فإنَّ المرادَ: إنِ اتَّبعتُمونا نَتَحمَّلُ خَطاياكُم. والعُدولُ للمُبالغةِ.

ص: 147

عجز؛ لأنه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب، وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ قلت: شبه الله حالهم -حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون- بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه. ويجوز أن يريد أنهم كاذبون، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف.

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أى: أثقال أنفسهم. (َأَثْقالًا) يعنى: أثّقالًا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها، وهي: أثقال الذين كانوا سببًا في ضلالهم. (وَلَيُسْئَلُنَّ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإنَّهم قُطَّاع الطَّريقِ في المامَنِ)، ((في المامَنِ)) تتميمٌ؛ لأنَّ قُطّاعَ الطَّريقِ إنّما يكونون في البَراريِّ والمَخاوَفِ.

قوله: (ويَجوز أن يُريد أنَّهم كاذبون، لأنَّهم قالوا ذلك وقلوبُهم على خِلَافِه) عطفٌ على قولِه: ((شَبَّه الله حالهم))، الجوابان مَبيّان على الاختلاف في أنَّ الكَذِبَ هل هو الإخبارُ عنِ الشَّيءِ خلافَ ما هو به في الواقع؟ أَمْ على خلافِ مُعتَقَد القائِلِ؟ والجوابُ الأوَّلُ مبنيٌّ على المذهب الأوَّلِ، لكن على التَّشبيه، واستعارةُ الكَذِب لضمانِهم عندَ الله لا على ما عليه المَضْمونُ.

قال صاحب ((الفرائد)): قولُه: ((شَبَّه الله تعالى)) منظورٌ فيه؛ لأنَّ الواقعَ أنَّهم غيرُ حاملينَ من خطاياهم شيئًا؛ لقوله تعالى و: {وَلَا تَزِرُ وَازْرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 164]، فكانوا مُخبِرينَ عن شيءٍ لا على ما عليه، فظَهَر أنَّه تَركَ الحقيقةَ إلى المجاز بدون المانِعِ.

قوله: (أثقالاً أُخَرَ غيرَ الخَطايا التي ضَمْنُوا للمؤمنين) وإنَّما قَيَّده به لِما عَلِمَ من قولهِ تعالى: {وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِن شَيْءٍ} نَفَى حَمْلَ خَطايا المؤمنينَ على سبيل الاستغراقِ.

ص: 148

سؤال تقريع (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أى: يختلقون من الأكاذيب والأباطيل. وقرئ: (من خطيآتهم).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)] 14 - 15 [

كان عمر نوح عليه السلام ألفًا وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمئة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفًا وأربعمئة سنة. فإن قلت: هلا قيل: تسع مئةٍ وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم؛ لأنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلتَ: ما فائدةُ {أَثْقَالَهُمْ} ؟ إذْ لو قيلَ: ولَيَحْمِلُنَّ أثقالاً معَ أثقالِهم لأفادَ.

قلت: أُريد بيانُ استقلالِ أثقال أنفُسِهم، وأنها بَهظَتْهُم واستَفرغَت جُهدَهُم، ومع ذلك جُعلت أثقالُ الذين يُضِلُّونَهم كالعَلاوَةِ عليها. نحوهُ قولهُ تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقْيَامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} [النحل: 25]. ومعنى التَّنكيرِ في {وَأَثْقَالاً} كمعنى ((مِن)) في {وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} [النحل: 25]. قال: وبعضُ أوزارِ مَنْ ضَلَّ بضَلالِهم، وهو وِزْرُ الإضلالِ.

قوله: (كان عُمُر نوحٍ عليه السلام إلى آخره، وفي ((جامع الأصول)): كانت مدَّةُ نُبوَّتِه تسع مئةٍ وخمسين سنةً، وعاش بَعد الغَرَقِ خمسينَ سنةً، وقيل: مئتي سنةٍ، وكانت مدَّةُ الطُّوفانِ ستةَ أشهرٍ آخرُها يومُ عاشُوراءَ.

قوله: (ما أَورَدَه اللهُ أَحكمُ)؛ لأنَّه لو قيلَ كما قلتَ لجاز أن يُتَوهَّمَ إطلاقُ هذا العَدَدِ على أكثَرِه.

وقال الزَّجّاجُ: الاستثناءُ مستعملٌ في كلامِهم، وتأويلُه توكيدُ العَدَدِ وكمالِه؛ لأنَّك قد تَذكُر الجُملةَ ويكونُ الحاصلُ أكثَرَها، فإذا أردتَ التَّوكيدَ في تمامِها قلتَ كلَّها، وإذا أردتَ

ص: 149

لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمئة وخمسين سنةً كاملةً وافية العدد، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظًا وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى: وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتًا له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره. فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلًا بالسنة وثانيًا بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم؛ من تفخيم، أو تهويل، أو تنويه، أو نحو ذلك. و (الطُّوفانُ) ما أطاف وأحاط بكثرةٍ وغلبة، من سيٍل أو ظلام ليٍل أو نحوهما. قال العجاج:

وغمّ طوفان الظّلام الأثأبا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التوكيدَ في نُقصانها أَدخلْتَ الاستثناءَ تقول: جاءَني إخوتُكَ، يعني أن جميعَهم جاؤوكَ، وجائزٌ أن تعني أنَّ أَكثَرَهم جاءكَ، فإذا قلتَ: كلُّهم أكَّدتَ معنى الجماعةِ، وأَعلمتَ أنَّه لم يتخلَّفْ منهم أحدٌ، وإذا قلتَ: إلاّ زيدًا أكَّدتَ أنَّ الجماعةَ تَنقُصُ زيدًا، وكذلك رؤوسُ الأعدادِ مُشبَّهةً بالجماعة تَحتَمِلُ النُّقصانَ والتَّمامَ.

وعن بعضِهم: الصَّحيحُ أنَّ العددَ لا يَقبلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، والمعدودُ يَقبَلُهما. قال تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، فإنَّه سَمّى بعضَ الشَّهرِ شهرًا خلافًا لمالكٍ، فإنَّ المعنى المُعَوَّلَ عليه أنَّ ما نَصَّ اللهُ مشتملٌ على الإيجابِ والنَّفْي، وما أورَدَه السائلُ إيجابٌ مَحْضٌ، والأوَّل أوكدُ.

قوله: (وغَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأَثْأَبا) أوله:

ص: 150

(وأَصْحابَ السَّفِينَةِ) كانوا ثمانيةً وسبعين نفسًا: نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، منهم أولاد نوح عليه السلام: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم. وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجاٍل وخمس نسوة. وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «كانوا ثمانية: نوح وأهله وبنوه الثلاثة» . والضمير في: (وَجَعَلْناها) للسفينة أو للحادثة والقصة.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [16 - 18]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنَّ النَّهارَ المُسْتَبينَ قد مَضَى

ويُروى أوَّلُه:

حتّى إذا ما يَوْمُها تَصَبْصَبا

بعده:

وأطاء مِنْ دَعْسِ الحَميرِ نَيْسَبَا

يومها يومُ العانَةِ. وهي القَطيعُ منَ الحُمُرِ الوَحْشِ، وتَصَبْصَبَ الشيَّءُ: انمَحَقَ وذَهَب، وأطاء هذا الحمار طريقًا لينًا تَدْعسُه الحميرُ وتَطَؤُه. والنَّيْسَبُ: الطَّريقُ اللَّيِّنُ. عَمَّ؛ أي: غَطّى. الأَثْابُ: شَجَرٌ الواحدةُ: الأَثابة.

الراغب: الطُّوفان: كلُّ حادثةٍ تُحيط بالإنسان، وصار متعارفًا في الماء المُتَناهي في الكَثرة؛ لأنَّ الحادثةَ التي نالَتْ قومَ نوحٍ عليه السلام كانت ماءً.

ص: 151

نصب (إِبْراهِيمَ) بإضمار (اذكر)، وأبدل عنه (إِذْ) بدل الاشتمال؛ لأنّ الأحيان تشتمل على ما فيها. أو هو معطوف على (نُوحاً) وإذ: ظرف لـ (أرسلنا)، يعنى: أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغًا صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم، ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله:(وإبراهيم)، بالرفع على معنى: ومن المرسلين إبراهيم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى: إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم. أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء؛ علمتم أنه خير لكم. وقرئ: (تخلقون) من: (خلق) بمعنى التكثير في (خلق)، و (تخلقون) من:(تخلق) بمعنى: تكذب وتخرص. وقرئ: (أفكا)، وفيه وجهان:

أن يكون مصدرًا، نحو: كذب ولعب. والإفك: مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن يكون صفةً على (فعل)، أى: خلقًا إفكًا، ذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو إنْ نَظرتُم بعَينِ الدِّرايةِ المُبصِرَةِ) وعلى هذا {تَعْلَمُونَ} يجري مجرى اللاّزِم؛ نحو: فلانٌ يُعطي ويَمنعُ، وعلى الأوَّل المتعلِّق محذوفٌ بقرائنِ الأحوالِ، ولهذا قال:((علمتُم أنه خير لكم))، وقوله:((علمتم أنه خير لكم)) جزاءٌ على التَّقديرَينِ يدلُّ عليه ما قبلَ الشَّرطِ.

قوله: (وقرئ: ((تُخَلِّقُون))) قال ابن جِنِّي: قرأها السُّلَميُّ وزيد بن عليّ. وقرأ فُضَيل ابنُ مروانَ: ((تَخْلِقُون أَفِكَاً)) بفتح الهمزةِ وكسرِ الفاء، وأمّا ((تَخْلِقُونَ)) فعَلَى وَزْنِ: تَكْذِبُون، ومعناه.

وأمّا ((أَفِكًا))، فإمّا أن يكونَ مصدرٌ كالكَذِبِ والضَّحِكِ، وإمّا أن يكون صفةَ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: تَكْذبون كَذِبًا أَفِكًا، فحُذف وأُقيمتِ الصِّفةُ مقامَه؛ نحو: قمتُ مِثلَ ما قامَ زيدٌ؛ أي: قيامًا مثل قِيامِ زيدٍ. و ((أَفِكَ)) على هذا صفةٌ كبَطِرَ وأَشَرِ، ويجوز أن يكون بمعنى ((آفِك)) اسمُ فاعلٍ.

ص: 152

إفك وباطل. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهةً وشركاء لله أو شفعاء إليه. أو سمى الأصنام إفكًا، وعملهم لها ونحتهم: خلقًا للإفك. فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد: لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله. فإنه هو الرزاق وحده؛ لا يرزق غيره. (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقرئ: بفتح التاء، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وإن تكذبونني فلا تضروننى بتكذيبكم، فإنّ الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضرّوهم؛ وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل: وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشكّ، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته. أو: وإن كنت مكذبًا فيما بينكم؛ فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا، وعلى الرسول أن يبلغ، وما عليه أن يصدق ولا يكذب، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله:(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضةً في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش؛ بين أوّل قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: إذا كانت من قول إبراهيم؛ فما المراد بالأمم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يستطيعون أن يَرزُقوكم شيئًا منَ الرِّزقِ، فابتَغُوا عند الله الرِّزقَ كلَّه) يعني: إنَّما نكّر أوَّلاً للتعليل مبالغةً في النَّفي وعَرِّفَ للاستغراقِ ليشملَ كلَّ ما يُسمّى رزقًا، وهذا من المواضع التي وَرَدت فيه المعرفةُ بعدَ النَّكرةِ، ولم يُرِد بالثاني الأَوَّلَ ذهابًا إلى معنى التَّقابُلِ وفَرْقًا بين الرِّزقَينِ.

قوله: (وإن تُكذِّبوني فلا تَضُرُّونَني بتَكذيبكُم، فإنَّ الرُّسلَ قَبْلي) إشارةٌ إلى أن الجزاءَ مقدَّرٌ، والمذكورُ علَّة، ويجوز أن يكونَ المذكورُ جزاءً متضمِّنًا للإخبار والإعلامِ، يعني: تكذيبُكم إيّايَ سببٌ لأنْ أُخبرَكُم بأنْ كَذَّبت أُممٌ قبلكم، وأنَّ لي أُسوةً بالأنبياء من قَبْلي؛ نحو قولِهم: إنْ تُكْرِمْني الآنَ فقد أكرمتُك أَمْسِ؛ مرادًا به: إنْ تَعْتَدَّ بإكرامك إيّايَ الآنَ فاعتدَّ بإكرامي إيّاكَ أمسِ.

ص: 153

قبله؟ قلت: قوم شيٍث وإدريس ونوح وغيرهم، وكفى بقوم نوٍح أمّةً في معنى أمم جمةٍ مكذبة، ولقد عاش إدريس ألف سنةٍ في قومه إلى أن رفع إلى السماء. وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه، وأعقابهم على التكذيب.

(أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)] 19 - 22 [

فإن قلت: فما تصنع بقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)؟ قلت: هي حكاية كلام الله حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه، كما يحكى رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن. فإن قلت: فإذا كانت خطابًا لقريش فما وجه توسطهما بين طرفى قصة إبراهيم؛ والجملة أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصاٍل بما وقعت معترضةً فيه؟ ألا تراك لا تقول: مكة وزيد أبوه قائم خير بلاد الله؟ قلت: إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاةً له ومتفرجًا بأنّ أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوّا بنحو ما مني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وإن تكذبوا، على معنى إنكم يا معشر قريش: إن تكذبوا محمدًا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمةٍ نبيها؛ لأن قوله: (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) لا بد من تناوله لأمّة إبراهيم، وهو كما ترى؛ اعتراض واقع متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها، لكونها ناطقةً بالتوحيد ودلائله، وهدم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إيرادُ قصَّةِ إبراهيمَ عليه السلام ليس إلاّ إرادةً للتَّنفيسِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ....

إلى آخره، هذه قاعدةٌ شريفةٌ يُبنى عليها أكثرُ النَّظْمِ، وجُلُّ القَصَصِ واردٌ على هذا النَّهْجِ كما سَرَدْنا الكلامَ عليه مِرارًا.

قوله: (كان مَمنُوًّا) أي: مُبْتلًى. الجوهري: مَنَوْتُه ومَنَيْتُه: إذا ابتَليتُه.

ص: 154

الشرك وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضوح حجته وبرهانه قرئ:(يَرَوْا) بالياء والتاء. و (يبدئ) و (يبدأ). وقوله: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ليس بمعطوف على (يبدئ)، وليست الرؤية واقعةً عليه، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت، كما وقع النظر في قوله تعالى:(كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) على البدء دون الإنشاء، ونحوه قولك: ما زلت أوثر فلانًا وأستخلفه على من أخلفه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ {يَرَوْا} بالتّاءِ والياءِ) أبو بكرٍ وحمزةُ والكسائيُّ: بالتّاءِ الفَوقانيّةِ، والباقون: بالياءِ.

قوله: (ليس بمَعْطُوفٍ على {يُبْدِئُ} وليست الرُّؤيةُ واقعةً عليه، وإنّما هو إخبارٌ على حِيالِه)، الجوهريُّ: بحِيالِه بإزائه، وأصلُه الواو؛ يعني لا يجوزُ العطفُ على {يُبْدِئُ} ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ وَقعتْ على البَدْءِ لا على الإعادة.

قال صاحب ((المطلع)): وإن جعلتَ الرُّؤيةَ بمعنى العِلْمِ لِتَمكُّنِهم من تَحصيله بالبحث عن دلائله والاستدلالِ بها، فلا حاجةَ إلى هذا التَّكليفِ في التَّقصِّي عن عُهدة العَطفِ.

وقال صاحب ((الانتصاف)) أيضًا: ولقائلِ أن يقول: وإنْ لم تقعِ الرُّؤيةُ عليه إلاّ أنّها إخبار الله وهي كالماتيِّ به، فعُومِلَت معاملةَ المأتيِّ به.

وقال الإمام: الآيةُ الأُولى إشارةٌ إلى العِلْم الحَدْسِيِّ، وهو حاصلٌ فلمْ يَحتجْ إلى الاستفهام، فاستَفهمَ ليُفيدَ استبعادَ عَدَمِه، والثانيةُ إشارةٌ إلى العلم الفكريِّ، كأنَّه قيلَ: إن كنتم لستم من قَبيل الأوَّل فسَيِّروا فِكْرَكُم في الأرض، وأَجِيلُوا ذِهْنَكُم في الحوادث الخارجةِ عن أنفُسِكم لتعلموا بَدْءَ الخَلْقِ وإعادته، والرُّؤيةُ أقوى منَ النَّظَر؛ لأنَّ النَّظرَ يُفْضي إلى الرُّؤية، يُقال: نَظَرتُ فرأيتُ.

قوله: (ونحوُه قولك: ما زلتُ أُوثِرُ فلانًا وأستَخلِفُه)، وإنَّما لم يَحسُنْ عطفُ ((أستَخلفُه))

ص: 155

فإن قلت: هو معطوف بحرف العطف، فلا بد له من معطوف عليه، فما هو؟ قلت: هو جملة قوله: (أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ) وكذلك: وأستخلفه، معطوف على جملة قوله: ما زلت أوثر فلانًا، (ذلِكَ) يرجع إلى ما يرجع إليه "هو" في قوله:(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)] الروم: 27 [من معنى يعيد.

دل بقوله: (النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) على أنهما نشأتان، وأن كل واحدةٍ منهما إنشاء، أى: ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأول ليست كذلك. وقرئ:(النشأة) و (النشاءة) كالرأفة والرآفة. فإن قلت: ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله: (ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) بعد إضماره في قوله: (كيف بدأ الخلق)؟ وكان القياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت: الكلام معهم كان واقعًا في الإعادة، وفيها كانت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على ((أُوثر))؛ لأنَّ في تعلُّق ((ما زلت)) بـ ((أُوثِرُ)) دلالةً على استمرار إيثاره غيرَه من غير انقطاعٍ، وليس حُكم استخلافِه على مَنْ يَخلفُه بهذه المنزلة، فإنَّ ذلك لا يقع إلاّ نادرًا وأحيانًا.

قوله: ({ذَلِكَ} يَرجعُ إلى ما يَرجعُ ((هو))) يعني: موقعُ ذلك في هذه الآية لفظًا وحُكمًا موقعُ ((هو)) في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] في أنَّ معناه: أنَّ الإعادةَ على الله أَيْسَرُ من الإبداء فيما يجب عندكم، وَينْقاسُ على أصولكم وتَقْتَضيه عُقولُكُم.

قوله: (دلَّ بقوله: {النَّشْأةَ الأَخِرَةَ}) يعني لمّا عَطَف {يُنشِئُ النَّشْأَةَ الأَخِرَةَ} على قوله: {بَدَأَ الخَلْقَ} دلَّ على أنَّ الإبداءَ إنشاءٌ، والإنشاء إبداءٌ، لا تَفاوُتَ بينهما، وكلاهما إخراجٌ منَ العَدَم إلى الوجودِ.

قوله: (وقُرئ: {النَّشْأَةَ} بالمَدِّ: ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ، والباقون:{النَّشْأَةَ}

ص: 156

تصطك الركب، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من الله، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى؛ هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن، وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب.

(تُقْلَبُونَ) تردون وترجعون. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ربكم أى: لا تفوتونه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تَصْطَكُّ الرُّكَبُ) وهي كنايةٌ عن موضع الخلافِ، ومَقامِ جُثُوِّ المُناظِرينَ للجِدالِ حتى تَصْطَكَّ رُكَبُهم.

قولهُ: (فلّما قَرَّرهُم) أي: جَعلَهم مُقرِّين مُعترفينَ.

قوله: (فكأنه قال: ثمَّ ذاكَ الذي أنشأَ النَّشأَة الأُولى هو الذي يُنشئُ النشأةَ الآخِرةَ)

يعني: إنّما أعادَ في عَجُزِ الآيتَينِ ما بدأَ في صَدرِهِما ليكونَ كلُّ من صَدْر الآيتَينِ وعَجُزِهِما مُسَجّلاً بالاسم المُتَجلِّي في هذا المقام، لِمَعْنى القادرية التامَّةِ والعالِمِيَّة الكاملةِ، والمعنى: فلمّا قرَّرهم في قوله: {يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ} بأنَّه منَ الله القادرِ العالِمِ، ثم احتجَّ عليهم في قوله:{ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الأَخِرَةَ} بأنه أيضًا منه ولا فَرْقَ بينهما.

قال الإمام: أشار في الآية الأُولى إلى الدَّليل النَّفْسيِّ، وفي الثانية إلى الآفاقيِّ، يعني قوله:{سِيرُوا فِي الأَرْضِ} ، وعندَه تَمَّ الدَّليلانِ، فأكَّده بإظهار اسمِ الذاتِ الذيَ يُفْهِمُ المسمّى بصفاتِ كَمالِه، ونُعُوتِ جَلالِه؛ ليقعَ في الذِّهن كمالُ قُدرتِه، وشُمولُ علمِه، ونُفوذُ إرادتِه. هذا تلخيص كلامه مُفَسَّرٌ مُبَيَّنٌ في مواضعَ، فَسره في ((النساء)) عند قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] مُستوفٍي على مذهبه، وأَجبْنا عنه.

ص: 157

إن هربتم من حكمه وقضائه (فِي الْأَرْضِ) الفسيحة (وَلا فِي السَّماءِ) التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها، كقوله تعالى:(إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا)] الرحمن: 33 [، وقيل: ولا من في السماء كما قال حسان رضى الله عنه:

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: ولا مَنْ في السَّماء) أي: على حَذْف المَوْصُولِ، فالموْصُولُ المحذوفُ عطفٌ على ((أنتُم)).

قال الزَّجاجُ: أي: ليس يُعجِزُ الله سبحانه وتعالى خَلْقٌ في السَّماء ولا في الأرض.

المعنى: ما أنتم بمُعجِزينَ في الأرض، ولا أهلُ السَّماء. هذا من قول ابن عبّاسٍ والكَلْبيِّ.

قوله: (أَمَنْ يَهْجُو) البيتَ، في ((المطلعِ))؛ أي: ومَن يَمدحُه، وهذا كما يقال: أَكْرِمْ مَنْ أتاكَ، وأتى أباك؛ أي: وأكرِمْ من أتى أباكَ. وقيل: لو لم يقدِّر ((مَنْ)) لكان ((يَمدحُه)) عَطْفًا على ((يهجوه)) وكان داخلاً في حَيِّزِ الصِّلةِ، فكانَ الهاجي والمادحُ شخصًا واحدًا، وفَسَد المعنى ولا يَصحُّ قولُه:((سَواءُ)).

وقيل: إنَّ أبا سفيانَ بن الحارثِ هجا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعارَضَه حسانُ بنُ ثابتٍ بقصيدةٍ هذا البيتُ منها، ولمّا انتهى إلى قوله:

هَجْوتَ محمّدًا فأَجبتُ عنه

وعندَ الله في ذاكَ الجَزاءُ

قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((جزاكَ اللهُ الجنَّةَ))، فلمّا بلغَ منها قولَه:

فإنَّ أبي ووالِدَه وعِرْضي

لعِرْضِ محمَّدٍ منكم وِقاءُ

قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وقاكَ اللهُ حَرَّ النّارِ))، ثم لمّا بلغ إلى قولِه:

ص: 158

ويحتمل أن يراد: لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله تعالى:(وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)] النساء: 78 [أو: لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجرى عليكم، فيصيبكم ببلاٍء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ الله وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)] 23 [

(بِآياتِ الله) بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) وعيد، أى: ييأسون يوم القيامة، كقوله:(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أَتَهْجُوه ولستَ له بكُفْءٍ

فشَرُّكُما لِخَيرِكُما فِداءُ

قال مَنْ حَضَر: هذا أَنصَفُ بيتٍ قالتْهُ العربُ. وفيها:

هَجَوْتَ مطَهَّرًا بَرًّا حَنيفًا

أَمين الله شِيمَتُه الوَفاءُ

قوله: (في مَهاوي الأرضِ) المَهْوى: بُعْدُ ما بَيْنَ الشَّيئينِ المُنتَصِبَيْنِ، حتى يُقال لِبُعْدِ ما بَين المَنكِبَيْن: مَهْوًى. قال:

أَكَلتُ دمًا إنْ لم أَرُعْكِ بضَرَّةٍ

بَعِيدَةِ مَهْوى القُرْطِ طَيِّبةِ النَّشْرِ

قوله: ({يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} وَعِيدٌ)؛ أي: سَيُعاقَبُونَ يومَ القيامةِ، وحاصلُ الوُجوهِ: أنَّ الكافر لا يُوصَفُ باليأس؛ لأنه مسبوقٌ بالرّجاء والكافرُ لا رجاء له لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7]، ففيه وُجوهٌ:

أحدُها: أنَّه كِنايةٌ عن الوعيدِ؛ أي: يحصلُ لهمُ اليأسُ منَ الرَّحمة يومَ القيامةِ.

وثانيها: أن يكونَ وصفًا لهم كما يُوصف المؤمنُ بـ ((صَبّار شكور))، كأنه قيل: والذين كفروا بآيات الله أولئك همُ الكامِلُون في الكُفرِ، فوُضِعَ مَوْضِعَه:{أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي}

ص: 159

[الروم: 12]. أو هو وصف لحالهم؛ لأنّ المؤمن إنما يكون راجيًا خاشيًا، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف. أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة، وعن قتادة رضى الله عنه: إن الله ذمّ قومًا هانوا عليه فقال: (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) وقال: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأَخِيهِ ولا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)] يوسف: 87 [فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته، وأن لا يأمن عذابه وعقابه.

صفة المؤمن أن يكون راجيًا لله عز وجل خائفًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثالثها: أن يكونَ تَمثيلاً، مُثِّلت حالُ هؤلاءِ الذين كَفروا بآيات الله ولقائه بحالِ قومٍ قُدِّرَ وجودُهم آيِسِينَ من رحمة الله، كما قال في {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] مُثِّلت حالُ قلوبِهم بحال قلوبٍ مقدَّرٍ خَتْمُ الله عليها، أو يُقال: شُبِّه حالُهم بحال مَن مات على الكُفر؛ مبالغةً في انتِفاءِ الرَّحمةِ عنهم، لأنَّ مَنْ عاشَ يُرجى إيمانُه فلا يكون مِمَّن أَيِسَ من رحمة اللهِ؛ أَبَرزَهُم في صورة الآيسينَ من رحمة اللهِ، وقريبٌ منه ما مَرَّ في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]، فإنَّ قولَه:{يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} نحوَ قولِه: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90].

قال: كَنّى عنِ الموتِ على الكُفر بقولهِ: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]، وفائدتُه: إبرازُ حالِهم في صورة الآيِسِينَ منَ الرَّحمة التي هي أغلظُ الأحوالِ وأَشدُّها.

قال الإمام: أضافَ الرَّحمةَ إلى نفسِه عز وجل، ونَسَب العذابَ إليهم؛ لِيُؤذِنَ بأنَّ رحمتَه سَبقَت غَضبَه.

وقلت: وفيه تنبيهٌ على أنَّهم حين لم يَلتفتوا إلى آيات الله، ولم يُؤمنوا بالآخرةِ، ولم يَعْملوا ما يَرْجُون به رحمةَ الله؛ حَرَّموا على أنفُسِهم ما وَسِعَت كلَّ شيءٍ، واستَحقُّوا العذابَ الأليمَ.

ص: 160

[(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ الله مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)] 24 [

قرئ: (جَوابَ قَوْمِهِ) بالنصب والرفع، (قالُوا): قال بعضهم لبعض، أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين، فكانوا جميعًا في حكم القائلين. وروى أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار، نعنى: يوم ألقى إبراهيم في النار، وذلك لذهاب حرّها.

[(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ الله أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَاواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)] 25 [

قرئ على النصب بغير إضافة وبإضافة، وعلى الرفع كذلك، فالنصب على وجهين: على التعليل، أى: لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم. وأن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قُرئ {جَوَابَ قَوْمِهِ} بالنَّصْبِ) وهي مشهورةٌ، والرَّفعُ: شاذَّةٌ.

قوله: (على النَّصْب بغير إضافةٍ) يعني: ((مَوَدَّةً بَيْنَكم))؛ قرأها نافعٌ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ، وبإضافةٍ: حفصٌ وحمزةُ، وبالرفعِ: ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ.

قوله: (على التَّعليل) فعلى هذا ((ما)) في {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} كافَّةٌ. قال مَكِّي في ((إعرابه)): ((ما)) يجوز أن تكون كافَّةً، ومفعول {اتَّخَذْتُم}:{أَوْثَانًا} ، واقتصر على مفعولٍ واحدٍ كقوله تعالى:{إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ} [الأعراف: 152] و {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} مفعول من أجله؛ أي: اتَّخذتُمُ الأوثانَ من دُونِ الله للمَودَّة فيما بَينِكُم، لا لأنَّ عند الأوثانِ نَفْعًا وضَرًّا.

ص: 161

يكون مفعولا ثانيًا، كقوله:(اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)] الفرقان: 43 [، ] الجاثية: 23 [أى: اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم، على تقدير حذف المضاف. أو اتخذتموها مودّة بينكم، بمعنى: مودودة بينكم، كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله)] البقرة: 165 [وفي الرفع وجهان: أن يكون خبرًا لـ (إنّ) على أن (ما) موصولة. وأن يكون خبر مبتدأ محذوف. والمعنى: أنّ الأوثان مودّة بينكم، أى: مودودة، أو سبب مودّة. وعن عاصم: (مودّة بينكم) بفتح (بينكم) مع الإضافة، كما قرئ: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)] الأنعام: 94 [ففتح وهو فاعل. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: (أوثانًا إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا)، أى: إنما تتوادّون عليها، أو تودّونها في الحياة الدنيا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقوم بينكم التلاعن والتباغض والتعادي؛ يتلاعن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يكون خبرًا) قال مَكِّيٌّ: ((ما)) بمعنى ((الذي))، والعائدُ محذوف وهو المفعولُ الأوَّلُ، و {أَوْثَانًا} المفعولُ الثاني، و ((مَوَدَّةُ)) الخبرُ. وقيل: هي رفعٌ بإضمارِ: هي ((مودّة)).

وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون ((ما)) مصدريةً، و ((مَوَدَّةُ)) الخبرَ، ولا حذفَ إلاّ في اسم ((إنَّ))؛ أي:[إنَّ] سببَ اتِّخاذِكُم مودةٌ.

قوله: (أو تَوَدُّونَها في الحياة الدُّنيا) قال أبو البَقاء: يجوز أن يَتَعلَّقَ في {فِي الْحَيَوَاةِ الدُّنْيَا} بنَفْس {مَّوَدَّةَ} إذا لم يُجعل {بَيْنِكُمْ} صفةً لها؛ لأنَّ المصدرَ إذا وُصِفَ لا يَعملُ.

وقال مَكِّي: وإذا جُعِلَت {بَيْنِكُمْ} صفةً لـ {مَّوَدَّةَ} كان في {فِي الْحَيَوَاةِ} في موضعِ الحالِ من الضَّمير في الظرف الذي هو صفة، والعاملُ الظَّرفُ، ولا يجوز أن يعملَ في الحال {مَّوَدَّةَ} ؛ لأنَّك قد وصفتَها ومعمولُ المصدر متَّصلٌ به، فتكون قد فَرَّقتَ بينَ الصِّفةِ والموصوفِ بالصِّفة وأيضًا لو جعلتَه حالاً من الضَّمير في {بَيْنِكُمْ} يكونَ العاملُ الظَّرفَ

ص: 162

العبدة والأصنام، كقوله تعالى:(وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)] مريم: 82 [.

[(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 26 [

كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه (وَقالَ) يعنى إبراهيم:(إِنِّي مُهاجِرٌ) من كوثى، وهي من سواد الكوفة إلى حرّان ثم منها إلى فلسطين، ومن ثمة قالوا: لكل نبى هجرة، ولإبراهيم هجرتان، وكان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأنَّ العاملَ في ذِي الحالِ هو العاملُ في الحال، ولو قَدَّرْنا أن يكون العاملُ فيها {مَّوَدَّةَ} لَزِمَ أن يجتمعَ عاملانِ على معمولٍ واحدٍ، ويجوز أن يكونَ {فِي الْحَيَاةٍ} صفةً أخرى لـ {مَّوَدَّةً}. والتقدير: إنّما اتَّخذتم مِن دُون الله أوثانًا مودَّةً مستقرَّةً بينكم، ثابتةً في الحياة الدُّنيا، فلمّا حُذف العاملانِ تحوَّل الضميرُ إلى الطَّرفَينِ. هذا تلخيصُ كلامِه. ثم قال: فافهَم هذه المسألةَ، فإنَّها من أسرار النَّحو وغرائبِه.

وقال صاحب ((الكَشْف)): يجوز عندي أن تَعملَ المودَّة الموصوفة {فِي الْحَيَاةِ} ؛ لأنَّه ظرفٌ، والظَّرفُ يُفارق المفعولَ به.

وقال أبو البَقاءِ: ويجوز أن يتعلَّق {فِي الْحَيَاةِ} بـ {اتَّخَذْتُم} إذا جعلتَ ((ما)) كافَّة.

قوله: (كان لوط ابن أخت إبراهيم). وفي ((جامع الأُصول)): هو لُوط بن هاران بن تارِح- بالحاء المهملة- وهاران هو أخو إبراهيمَ الخليلِ- عليه السلام ولوطٌ ابنُ أخيهِ، آمَنَ بإبراهيمَ وشَخَص معه مهاجرًا إلى الشام، فنَزل إبراهيمُ فلسطينَ، وأَنزلَ لوطًا الأردنَّ، فأرسلَه اللهُ إلى أهل سَدُوم.

قوله: (ولإبراهيمَ هِجْرتانِ) عن أبي داودَ، عن عبدالله بن عمرٍو قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سَتكون هجرةٌ بعدَ هجرةٍ، فخِيارُ أهلِ الأرضِ أَلْزَمُهم مُهَاجَرَ

ص: 163

معه في هجرته: لوط، وامرأته سارّة، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة (إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرنى بالهجرة إليه (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الذي يمنعني من أعدائى (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرنى إلا بما هو مصلحتي.

[(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] 27 [

(أَجْرَهُ) الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، والذرية الطيبة والنبوّة، وأن أهل الملل كلهم يتولونه. فإن قلت: ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر، وذكر إسحاق وعقبه؟

قلت: قد دلّ عليه في قوله: (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وكفى الدليل لشهرة أمره وعلوّ قدره. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: قصد به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إبراهيمَ، ويَبْقى في كلِّ أرضٍ إذْ ذاكَ شِرارُ أهلِها، تَلْفِظُهم أَرْضُوهم، تَقْذَرُهُم نَفْسُ الله، وتَحشُرُهمُ النارُ معَ القِرَدةِ والخَنازيرِ)).

قوله: (قد دلَّ عليه في قولِه: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ والْكِتَابَ} فكفى الدَّليلُ لشُهرةِ أمرِه، وعُلوِّ قَدْرِه) يُريد أنَّهم قد يُخففون ذِكْرَ بعضِ المُشتَهِرينَ، ويَكتَفُونَ برَمْزِهِ عن ذِكْره لشُهرتِه إعلاءً لقَدْرِه، ورَفعًا لمنزلتِه، وإيذانًا بأنَّه العلمُ المُشارُ إليه الذي لا يَلْتَبِسُ على كلِّ أحدٍ، كما قال تعالى:{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] مُريدًا به نَبيَّنا صلى الله عليه وسلم وهاهنا لمّا عَطَف {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ} على {وَوَهَبْنَا} عُلِمَ أنَّ الثاني هو المَوْهُوبُ الأعظمُ، والمَطلُوبُ الأوَّلُ، لا سِيَّما [إذا] جُعلت الذُّريةُ مكانًا للنُّبوةِ وظَرْفًا لها.

ولا يَلتبسُ على كلِّ ذي بَصيرةٍ أنَّ النُّبوةَ والكتابَ لم يستقرَّا في أحدٍ منَ الأنبياءِ استقرارَهُ لِنبيِّنا صلى الله عليه وسلم فكان في ذِكْره ذِكرُ جَدِّه إسماعيلَ صلواتُ الله عليهما، فقولُه:((لِشُهرة أَمْرِه)) تعليلٌ لقوله: ((فكَفى الدَّليلُ)) من حيث المعنى كما قَرَّرناه.

ص: 164

جنس الكتاب، حتى دخل تحته ما نزل على ذرّيته من الكتب الأربعة التي هي: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.

[(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَاتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ الله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ)] 28 - 30 [

(وَلُوطاً) معطوف على "إبراهيم"، أو على ما عطف عليه. والْفاحِشَة: الفعلة البالغة في القبح. و (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة، كأن قائلًا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحدا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازًا منها في طباعهم لإفراط قبحها، حتى أقدم عليها قوم لوط؛ لخبث طينتهم وقذر طباعهم. قالوا: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط. وقرئ: (إنكم)، بغير استفهام في الأوّل دون الثاني، قال أبو عبيدة: وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء، ورأيت الثاني بحرفين: الياء والنون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وَلُوطًا} معطوفٌ على ((إبراهيمَ))، أو على ما عُطِفَ عليه) أي: إبراهيمَ، وهو {نُوحًا} في قوله:{أَرْسَلْنَا نُوحًا} يؤيِّد الأوَّلَ أن قصَّة لوطٍ عليه السلام لا تكادُ تُوجد إلا مقرونةً بقصَّة إبراهيمَ عليه السلام؛ لأنَّه ابنُ أخيهِ ومُهاجِرٌ معه. والثاني قولُه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} ، فإنَّه معطوفٌ على قصَّة نوح عليه السلام لا غيرُ؛ لأنَّ التَّقديرَ: ولقد أرسَلْنا إلى مَدينَ أخاهم شُعيبًا، فيكون كلٌّ مِنَ القَصَص مُستَقِلاًّ بنفسه.

قوله: (اشمئزازًا) أي: انقِبَاضًا.

قوله: ({إِنَّكُمْ} بغير استفهام) نافعٌ وابنُ كثيرٍ وابنُ عامرٍ وحَفصٌ.

ص: 165

قطع السبيل: عمل قطاع الطريق، من قتل الأنفس وأخذ الأموال. وقيل: اعتراضهم السابلة بالفاحشة. وعن الحسن: قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث. والْمُنْكَرَ عن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الخذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الإزار، والسباب، والفحش في المزاح. وعن عائشة رضى الله عنها:"كانوا يتحابقون". وقيل: السخرية بمن مرّ بهم. وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل، وكل معصية، فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء: من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له. ولا يقال للمجلس: ناٍد، إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديًا. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تعدناه من نزول العذاب. كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعًا وكرهًا، ولأنهم ابتدعوا الفاحشة وسنوها فيمن بعدهم، وقال الله تعالى:(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)] النحل: 88 [. فأراد لوط عليه السلام أن يشتد غضب الله عليهم، فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه.

[(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [31 - 32]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يتحابقون) أي: يَتضارَطُونَ.

قوله: (ولأنَّهم ابتَدَعُوا الفاحشةَ) عطفٌ على مقدَّرٍ مَدْلُولٍ عليه بقوله: ((كانوا يُفْسِدونَ النّاسَ)) إلى آخره، يعني: إنّما لوطٌ صفةَ المُفسِدينَ؛ لأنَّهم كانوا يَحمِلُونَ النّاسَ على الإفسادِ، ولأنَّهم ابتَدَعوا الفاحشة؛ أي: فَعَلوا الفاحشةَ وحَمَلُوا النّاسَ عليها، وسَنُّوها فيمَن بعدَهم، والكافرُ إذا وُصِفَ بالفسقِ أو الإفسادِ كان مَحْمولاً على غُلَوائه في الكُفر. أَلَا ترى كيف رتَّب الوَعيدَ بزيادة العذابِ في الآية المُستَشْهَدِ بها على الإفساد دُونَ الكُفرِ، ومِنْ ثَمَّ جَعلَ نبيُّ الله أيضًا الإفسادَ عَلَمَه لاستنزالِ شدَّةِ غَضَبِ الله بدُعائه. وفي إتيان الفاءِ في قوله:(فأراد لوطٌ) إشارةٌ إلى قولنا: ((ومِن ثمَّ جَعَل نبي .... )) إلى آخره.

ص: 166

(بِالْبُشْرى) هي: البشارة بالولد والنافلة، وهما: إسحاق ويعقوب. وإضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف. والمعنى: الاستقبال. والقرية: سدوم التي قيل فيها: أجور من قاضى سدوم. (كانُوا ظالِمِينَ) معناه: أنّ الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة، وهم عليه مصرون، وظلمهم: كفرهم وألوان معاصيهم. (إِنَّ فِيها لُوطاً) ليس إخبارًا لهم بكونه فيها، وإنما هو جدال في شأنه: لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم: اعترض عليهم بأن فيها من هو بريء من الظلم، وأراد بالجدال: إظهار الشفقة عليهم، وما يجب للمؤمن من التحزن لأخيه، والتشمر في نصرته وحياطته، والخوف من أن يمسه أذًى أو يلحقه ضرر. قال قتادة: لا يرى المؤمن ألا يحوط المؤمن، ألا ترى إلى جوابهم بأنهم أعلم منه (بِمَنْ فِيها) يعنون: نحن أعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أَجوَرُ من قاضي سَدُومَ). قال المَيْدانيُّ: سَدُومُ- بفتح السِّينِ-: مدينةٌ من مدائنِ قومِ لُوطٍ.

قال أبو حاتم: إنّما هو سَذُومُ؛ بالذالِ المُعجَمةِ، والدّالُ خطأ.

قال الأزهريُّ: هذا عندي هو الصحيحُ.

قال الطَّبريُّ: هو ملكٌ من بقايا اليُونانيةِ غَشُومٌ كان بمدينة سَرْمِينَ من أرض قِنَّسْرِين.

قوله: ({إِنَّ فِيهَا لُوطًا} ليس إخبارًا لهم بكَوْنِه فيها، وإنَّما هو جِدالٌ) يعني: أنَّ مضمونَ هذه الجملةِ كان معلومًا عند الرُّسلِ، ففائدةُ الإخبار ما اقتضاه المقامُ منَ الاعتراضِ والجدالِ كما قال تعالى:{يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] لا سِيَّما وقد صُدِّرتِ الجملةُ بـ (إنَّ) المؤكِّدةِ، فكأنَّهم لمّا قالوا:{إنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وفيها ابنُ أخيه لوطٌ اعتَرضَ عليهم بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} إظهارًا للشَّفَقةِ عليه.

قوله: (لا يرى المؤمنُ أنْ لا يَحُوط المؤمنَ) أي: لا ينبغي للمؤمن أن يتَّصفَ بهذا الوصفِ وهو أنْ لا يَحُوط أخاه، وهو معنى قوله:((ومِمّا يجب للمؤمن مِنَ التَّشَمُّرِ في حِياطَة المؤمنِ؛ أي: في نُصْحه وكلامِه)).

ص: 167

منك وأخبر بحال لوٍط وحال قومه، وامتيازه منهم الامتياز البين، وأنه لا يستأهل ما يستأهلون، فخفض على نفسك وهوّن عليك الخطب. وقرئ:(لَنُنَجِّيَنَّهُ) بالتشديد والتخفيف، وكذلك (منجوك).

[(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)] 33 [

(أَنْ) صلة أكدت وجود الفعلين مترتبًا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما؛ كأنهما وجدا في جزٍء واحٍد من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث، خيفة عليهم من قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم. ذرعه: أى: طاقته، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع: عبارة عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: {لَنُنَجِّيَنَّهُ،} بالتَّشديد والتَّخفيف) حمزةُ والكسائيُّ: بالتخفيف، والباقون: بالتَّشديد.

قوله: (أَكَّدت وُجودَ الفِعْلَينِ مُتَرتِّبًا أحدُهما على الآخر)، ((مُتَرتِّبًا)) حالٌ من الفعلينِ، والعاملُ فيه الوُجودُ، لا ((أَكَّدت))، وذلك أن المساءَةَ في قوله:{وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سْيءَ بِهِمْ} مُتَرتِّبٌ على مجيء الرُّسلِ، وأُقحِمَت ((أنْ)) توكيدًا للتَّرتُّبِ، فلا يجوز أن يكون العاملُ (أَكَّدت)؛ لأنَّ التأكيدَ في حالِ تَرتُّب أحدِهما على الآخَرِ.

قوله: (ذَرْعُه؛ أي: طاقتُه)، الراغب: ضاقَ بكذا ذَرْعِي، نحو: وضاقَتْ به يَدي، وذَرَعْتُه: ضرَبتُ ذِراعَه، وذَرَعْتُ: مَدَدْتُ الذِّراعَ، ومنه: ذَرَع البَعيرُ في سَيْرِه؛ أي: مَدَّ ذِراعَه، وفَرسٌ ذَرِيعٌ وذَرُوعٌ: واسِعُ الخَطْوِ، وذَرَعَه القَيءُ: سَبقَه من قولهم: ذَرَعَ الفَرسُ.

ص: 168

فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع بكذا، إذا كان مطيقًا له، والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع، فضرب ذلك مثلًا في العجز والقدرة.

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)] 34 - 35 [

الرجز والرجس: العذاب، من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب، لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب. وقرئ:(مُنْزِلُونَ) مخففًا ومشدّدًا. (مِنْها) من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) هي: آثار منازلهم الخربة. وقيل: بقية الحجارة. وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض. وقيل: الخبر عما صنع بهم (لِقَوْمٍ) متعلق بـ (تركنا) أو بـ (بينة).

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا الله وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)] 36 - 37 [

(وَارْجُوا) وافعلوا ما ترجون به العاقبة. فأقيم المسبب مقام السبب. أو: أمروا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقُرئ: {مُنزِلُونَ} مخفَّفًا ومشدَّدًا) ابنُ عامرٍ: مشدَّدًا، والباقون: مخفَّفًا.

قوله: (وافعلوا ما تَرْجُون به العاقبةَ، فأُقِيمَ المُسبِّبُ مَقامَ السَّببِ) أي: اعبُدوا اللهَ واعملوا صالحًا حتى تَتمكَّنُوا على رجاءِ أنْ يُثِيبَكُمُ اللهُ الجنَّةَ؛ لأنَّ مَنْ لم يَعملْ منَ الصالحات لم يَرْجُ الثَّوابَ الذي في الدار الآخرةِ، فالأعمالُ سببٌ للتَّمكُّن على الرَّجاء، فيكون عطفُ {وَارْجُوا} على {اعْبُدُوا اللهَ} للبيان والتَّفسيرِ.

وقريبٌ منه ما مرَّ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَاتِ اللهِ وَلِقَاءِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} ، ويجوزُ أن يكونَ العطفُ للحُصول والوُجودِ، ويُفوَّضُ الترَّتُّبُ إلى الذِّهْنِ.

ص: 169

بالرجاء: والمراد: اشتراط ما يسوّغه من الإيمان، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط. وقيل: هو من الرجاء بمعنى الخوف. والرجفة: الزلزلة الشديدة. وعن الضحاك: صيحة جبريل عليه السلام؛ لأنّ القلوب رجفت لها (فِي دارِهِمْ) في بلدهم وأرضهم. أو في ديارهم، فاكتفى بالواحد؛

لأنه لا يلبس. (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)] 38 [

(وَعاداً) منصوب بإضمار (أهلكنا) لأن قوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) يدل عليه، لأنه في معنى الإهلاك، (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) ذلك: يعنى: ما وصفه من إهلاكهم (مِنْ) جهة (مَسْكَنِهِمْ) إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها. (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) عقلاء متمكنين من النظر والافتكار. ولكنهم لم يفعلوا. أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم؛ لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمرادُ اشتراطُ ما يُسَوِّغُه) يعني: أمرَهم بالرَّجاء على سَنَن طَلَب مُقدِّمةِ الواجبِ بالواجبِ.

قوله: ({مِّن} جِهَةِ {مَّسَاكِنِهِمْ} إشارةٌ إلى أنَّ ((مِنْ)) في {مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} ابتدائيَّةٌ.

قوله: (أو كانوا مُتَبيِّنِينَ أنّ العذابَ نازلٌ بهم) عطفٌ على ما ((كانوا مُستَبْصرينَ عُقلاءَ))؛ أي: كان أهلُ مكَّةَ وقد تبيَّن لهم من مساكِنِ الظَّلَمةِ من قوم عادٍ وثَمودَ هلاكُهم بشُؤم كُفرِهِم، إمّا بطريق النَّظَرِ والاستدلالِ، وإمّا بطريق الإخبارِ مِنَ الرُّسل، لكنْ لم يَعتبروا، فلمْ يفعلوا بمُوجب العقلِ، ولا التَفَتُوا إلى النصِّ القاهرِ.

ص: 170

ولكنهم لجوا حتى هلكوا.

[(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)] 39 - 40 [

(سابِقِينَ) فائتين، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه.

الحاصب: لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء. وقيل: ملك كان يرميهم. والصيحة: لمدين وثمود. والخسف: لقارون. والغرق: لقوم نوح وفرعون.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ الله يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 41 - 42 [

الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلًا ومعتمدًا في دينهم وتولوه من دون الله، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لَجُّوا)، لَجَّ: مِنْ باب عَلِمَ، لَجَاجًا ولَجَاجَةً: تَمادي في الخُصومةِ، والَّجَّةُ بالفتح: الأصواتُ، وفي أمثالهم: لَجَّ فلانٌ حتّى حَجَّ؛ أي: غَلَب.

قوله: (الغَرَضُ تَشبيه ما اتَّخذُوه مُتَّكَلاً ومُتَعمدًا في دينهم وتَولَّوْهُ من دُون الله بما هو مَثَلٌ عند النّاسِ في الوَهْن وضَعْفِ القُوَّةِ) اعلَمْ أنَّ الغَرضَ في التَّشبيه في الأَغلَب يكونُ عائدًا إلى المُشَبَّه، ويكون ذلك تَقويةَ شَانِه في نَفْس السامِعِ وزيادةَ تَقريرِه عندَه، كما إذا كنتَ معَ صاحبِكَ في تقريرِ أنَّه لا يحصلُ مِن سَعْيه على طائلٍ قلتَ كما قال:

ص: 171

وهو نسج العنكبوت. ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فأَصبحتُ من ليلى الغَداةَ كقابضٍ

على الماءِ خانَتْهُ فُروجُ الأَصابِعِ

ولمّا كانت حالُ الآلهةِ التي جَعلَها الكُفّارُ أندادًا لله لا حالَ أحقَرَ منها وأقلَّ، جُعل بيتُ العنكبوتِ مثلاً لها في الضَّعْفِ والوَهْنِ، وفي هذا التَّقرير إشارةٌ إلى تقدير مضافٍ في كلام المصنِّفِ عند المُشبَّه؛ أي: تَشبيه حالِ ما اتَّخذوه مُتَّكلاً، وعند المشبَّهِ به؛ أي: بحال ما هو مَثَلٌ عند الناسِ، وذِكْرُ المَثَلَينِ في التَّنزيل أيضًا يُوجبُ هذا الإضمارَ.

قوله: (ألا تَرى إلى مَقْطَعِ التَّشبيهِ) أي: كيف دلَّ قولُه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} على أنَّ الغَرَضَ مِنَ التَّشبيه ما ذَكَرْنا.

وكلامُه يَجمعُ أمورًا:

أحدها: أنْ يكونَ قولُه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} كالتَّذييلِ للتَّشبيه كما يُفهَمُ مِنَ الوجه الأوَّلِ مِنَ الوُجوهِ المَذكورةِ في جوابِ ما معنى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .

وذلك أنَّ التَّشبيهَ عندَ قولِه: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} ثُمَّ ذُيِّل بقولِه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} كما مَرَّ في قولهم: فلانٌ يَنطِقُ بالحقِّ، والحقُّ أَبْلَجُ. وحَدَثتِ الحوادثُ، والحَوادثُ جَمَّةٌ. فالتَّشبيهُ حينئذٍ يَحتملُ أن يكون مركَّبًا عقليًّا، إذا جُعِلَ الوجهُ الوَهْنَ كما أشار إليه في قوله:((بما هو مَثَلٌ عند النّاسِ في الوَهْنِ))؛ لأنَّه هو الزُّبدةُ والخُلاصةُ المأخوذةُ مِنَ المجموعِ، أو وَهْمِيًّا بأنْ يكونَ الوجهُ مُنْتَزَعًا من عدَّة أمورٍ مُتوهَّمة، وفي قوله:((وأنَّ أَمْرَ دينهِم بالغٌ إلى هذه الغايةِ مِنَ الوَهْن)) إيماءٌ إليه.

وثانيها: أن يكونَ التَّمثيلُ بجُملته كالمقدِّمة الأولى، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} كالثانية، والنتيجةُ محذوفةٌ لشُهرتِها، ولذلك أتى بالفاء، وفي قولِه:((فقد تبيَّن أن دِينَهم أَوْهَنُ الأديانِ))، فالكلامُ متضمِّنٌ للكناية الإيمائيَّةِ.

وثالثها: أن يكونَ {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} استعارةً تَمثيليَّةً، وذِكْرُ

ص: 172

لبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)؟ فإن قلت: ما معنى قوله: (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وكل أحٍد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المشبَّهِ والمُشبَّهِ به كالتَّسَبُّبِ والتَّوطئةِ لِذِكْرها؛ لأنَّ الاستعارةَ مسبوقةٌ بالتَّشبيه، وإليه الإشارةُ بقوله:((أو أخرجَ الكلامَ بعدَ تَصْحيحِ التَّشبيه مخرجَ المَجازِ))، فعلى هذا الجملةُ أيضًا تذييلٌ مقرِّر لمعنى المُشبَّهِ كما كان مُقرَّرًا في الأوَّلِ للمُشبَّه به، نَحوُه التَّجريدُ والتَّرشيحُ في الاستعارةِ.

ورابعها: أن يكونَ من تتمَّة التَّشبيهِ، داخلاً في حَيِّز المُشبَّه به حالاً منَ المنصوبِ، والعاملُ {اتَّخَذَتْ} ، أو مِنَ المرفوعِ المُستَكِنِّ الراجعِ إلى العنكبوتِ، وعلى التَّقديرَينِ وُضِعَ موضعَ الرّاجعِ في الجُملة المُظْهَرِ، واللاَّمُ في {الْبُيُوتِ} استغراقيَّةٌ، يشهدُ له قولُه:((إذا استَقْرَيْتَها بيتًا بيتًا))، والتَّشبيهُ حينئذٍ إمّا مِنَ التَّشبيهاتِ المُفرَّقة أو التَّمثيليَّةِ التي يكون وجهُها المُشبَّهُ مُنْتَزَعًا مِنَ الأمور المُتعدِّدة الوَهْميَّةِ، ولذلك قال:((بالإضافة إلى رَجلٍ يبني بيتًا بآجُرِّ وجِصٍّ)) فالعنكبوتُ التي تَتَّخِذُ بيتًا في مُقابِلِ الكافرِ الذي يَعْبُدُ الوَثَنَ، والرَّجُلُ الذي يبني بيتًا بآجُرٍّ وجِصٍّ في مُقابِلِ المؤمنِ الذي يَعبُدُ اللهَ، وإنَّ أَوْهَنَ البيوتِ بيتًا بَيتًا وهو بيتُ العنكبوتِ، مقابلٌ لضَعْفِ دِين عَبَدةِ الأوثانِ دِينًا دِينًا، وإنَّ أقوى البيوتِ بيتًا بيتًا هو البيتُ المبنيُّ بالآجُرِّ والجَصِّ، مقابلٌ لقوَّةِ دين عِبادِ الرَّحمنِ دِينًا دِينًا، وكلُّ هذه التَّقريراتِ المُلتَزِمَةِ إدخالَ هذه الفَقْرَةِ في حَيِّزِ التَّشبيهِ.

وأما قولُه: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فإيغالٌ لأنَّ مَن وَقَف على قُبح القَبيحِ ربَّما أَقلَع عنه. وعن بغضِهم: الوَقْفُ على قولِه: {الْعَنكَبُوتِ} لازِمٌ، وهو قولُ الأَخفَشِ؛ لأنَّ جوابَ ((لو)) محذوفٌ، تقديرُه: لو كانوا يَعلمون وَهْنَ دِينِ عَبَدةِ الأوثانِ لَمَا اتَّخذوها أولياءَ، ولو وُصِل صار وَهْنُ بيتِ العنكبوت معلَّقًا بعِلْمِهم، وهو مطلَقٌ، والجملةُ لا تَصْلُح صفةً للمعرفةِ.

وعن الفَرّاء: إنَّ الموصولَ محذوفٌ كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا} [الجمعة: 5]؛ أي: الذي يَحملُ الأسفارَ؛ وعلى هذا لا يُوقَفُ، وهو اختيارُ ابنِ دَرَسْتَوَيه في حَذْف المَوصُولِ.

ص: 173

يعلم وهن بيت العنكبوت؟ قلت: معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن. ووجه آخر: وهو أنه إذا صحّ تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون. أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون.

ولقائٍل أن يقول: مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوٍت يتخذ بيتًا، بالإضافة إلى رجل يبنى بيتًا بآجر وجص أو ينحته من صخر، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتًا بيتًا؛ بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينًا دينًا؛ عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. قرئ:(يدعون) بالتاء والياء. وهذا توكيد للمثل وزيادة عليه، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئًا (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيه تجهيل لهم؛ حيث عبدوا ما ليس بشيء؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحبُ ((الفرائد)): يُمكن أن يكونَ المعنى مَثَلُ مَنْ أَشرَكَ وطَمِعَ في نَفْعِهم والإغناءِ عنها في الدّارَين كمَثَلِ العنكبوتِ جَعَلت لِنفسِها بيتًا وطَمِعَت في نَفْعِها مِنْ دَفْع الحَرِّ والبَرْدِ والإغناءِ عنها، فكما لا يَفي بذلك بيتُ العنكبوتِ كذلك اتِّخاذُهمُ الأوثانَ.

قوله: (برئ {يَدْعُونَ} بالتاء والياء) بالياء التحتانية: أبو عمروٍ وعاصمٌ، والباقون: بالتاء.

قوله: (وهذا توكيدٌ للمَثَل وزيادةٌ عليه) أي: تَتْمِيمٌ له للمبالغة فيه؛ لأنَّه أَثْبَتَ في المَثَلِ وَهْنَ دِين عابدِ الوَثَنِ وضَعْفَه، وجُعل هنا عَدَمًا صِرْفًا، فـ ((ما)) في {مَا يَدْعُونَ} نافيةٌ.

قال أبو البقاء: يجوزُ أن تكونَ استفهاميّةً منصوبةً بـ {يَدْعُونَ} ، و {مِن شَيْءٍ}:

تَبْيِينٌ، ويجوز أن تكونَ نافيةً، و ((مِنْ)) زائدةً، و {شَيْئًا} مفعول {يَدْعُونَ} .

ص: 174

لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلًا، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيم الذي لا يفعل شيئًا إلا بحكمةٍ وتدبير.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ)] 43 [

كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون: إنّ ربّ محمٍد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلذلك قال:(وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أى: لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم، لأنّ الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار؛ حتى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ليس معه مُصَحِّحُ العِلْمِ والقُدْرةِ)، أي: الحياة، يريدُ أنَّ قولَه:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تتمِيمٌ لمعنى التَّجهيلِ الذي يُعطيه قولُه: {يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} يعني: ما عَرَفوا أنَّ ما يَدْعونَه ليس بشيءٍ، ولا عَلِموا أنَّه {الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} حيث تَرَكوا عبادةَ القادِرِ الحَكيمِ إلى ما ليس معه مُصحِّحُ العِلْمِ والقُدرةِ.

قوله: (العالِمُ مَنْ عَقَل عن الله فعَمِلَ بطاعتِه واجتَنبَ سَخَطَه) الحديثَ، أورَدَه محيي السُّنة في ((معالم التنزيل)) عن جابرٍ.

الجوهريُّ: قولُهم: ما أَعقِلُه عنك شيئًا، أي: دَعْ عنكَ هذا الشَّكَّ. هذا حرفٌ رواه سيبويه كأنه قال: ((ما أعلم شيئًا ممّا تقول، فدع عنك الشكّ)). وعن بعضِهم في الكلام حَذْفٌ، أي: الذي تقول ما أَعْقِلُه عنك شيئًا؛ ما أَعْقِل منه.

وقلت: خلاصتُه أنَّ مِثْلَ هذا التَّركيبِ لا يُستعمل إلاّ في معنًى دقيقِ المَسْلَكِ، صَعْبِ المُرْتَقى.

ص: 175

[(خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)] 44]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومِنْ ثَمَّ جيء بقوله: ((العالمِ)) بلام الجِنْسِ؛ أي: العالِمُ الكامِلُ، الحكيمُ الحازمُ، ذو الدُّرْبَةِ والكِياسَةِ، مَنْ يَعقِلُ ويَعرِفُ ما صَدَر عنِ الله، ومِنْ ثَمَّ طبَّق التأويلُ النَّبويُّ التَّنزيلَ الإلهيَّ {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} حيث جَمعَ العَقْلَ والعِلْمَ معًا على سبيل الحَصْرِ.

ومِثْلُه: ((الكَيِّسُ مَنْ دانَ نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ))، فإذن الواجبُ أنْ يُتَركَ قولهُ تعالى:{أَوْلِيَاءَ} - في قولِه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ} - على الإطلاقِ ليتناوَلَ سائرَ الولاياتِ التي يَجبُ على الموحِّد الاجتنابَ عنها، ويَشْتملَ على دقائق الشِّركِ ومَكامِنِه، ويَنْفي الحَوْلَ والقوَّةَ عمَّن سِواهُ إلى غير ذلك. وفيه مَسْحةٌ من معنى قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

في ((حقائق السُّلَميِّ)): قال ابنُ عطاءٍ: مَنِ اعتَمَد شيئًا سوى اللهِ فهو هَباءٌ لا حاصِلَ له، وهَلاكُه في نَفْسِ ما اعتَمَده، ومَنِ اتَّخذ سِواهُ ظَهيرًا قَطَع عن نَفسِه سبيلَ العِصْمَةِ ورُدَّ إلى حَوْله وقُوَّتِه، كالعنكبوتِ اتَّخذت بيتًا ظَنَّه أنَّه يَكُنُّه. وأنشَدَ البُسْتِيُّ:

مَنِ استَعانَ بغير الله في طَلَبٍ

فإنَّ ناصِرَه عَجْزٌ وخِذلانُ

والله أعلمُ.

ص: 176

(بِالْحَقِّ) أي بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل، وهو أن تكونا مساكن عباده وعبرةً للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته، ألا ترى إلى قوله:(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ونحوه قوله تعالى: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا)] ص: 27 [ثم قال: (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)] ص: 27 [.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)] 45 [

الصلاة تكون لطفًا في ترك المعاصي، فكأنها ناهية عنها. فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت: الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو بالغَرَض الصَّحيح)، الانتصاف: اللَّفظُ والمعنى فاسدٌ، ولو فُرض أنَّ المعنى صحيحٌ لَكانَ الواجبُ اجتنابَ هذه الألفاظ الرَّديئةِ.

قوله: (ونحوُه [قوله تعالى]: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27]) وذلك أنَّ الباطلَ في مُقابلِ الحقِّ، وأنَّ قولَه:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] في مُقابِلِ قولِه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وأمّا ظَنُّ الكافرِ أنَّه باطلٌ فلأنَّه لم يَجعلِ الدَّلائلَ مَسارِحَ نَظَرِه ومطارِحَ فِكْرِه، لِيستَدِلَّ به على وُجودِ مُبدِعٍ فاطِرٍ، مُستَحِقٍّ لأنْ يُعبَدَ ويُطاعَ في أوامِرِه ونَواهِيه، كما أنَّ معنى يَقينِ المؤمنِ أنّه نَظَر وعَرَف فعَبَد وأطاعَ وانتَفَع بها، فكأنَّه أقَرَّ بحقِّيَّتِها.

وفيه: أنَّ صاحبَ عِلْمِ الهيئةِ الذي لا عبادةَ له كأنَّه ما نظَرَ فيها ولا عَرفَها حقَّ مَعرفتِها.

ص: 177

الثواب: أن يدخل فيها مقدّمًا للتوبة النصوح، متقيًا؛ لقوله تعالى:(إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ)] المائدة: 27 [، ويصليها خاشعًا بالقلب والجوارح، فقد روى عن حاتم: كأنّ رجلي على الصراط، والجنة عن يمينى، والنار عن يساري، وملك الموت من فوقى، وأصلى بين الخوف والرجاء؛ ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما:"من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر؛ لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا". وعن الحسن رحمه الله: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه". وقيل: "من كان مراعيًا للصلاة جرّه ذلك إلى أن ينتهى عن السيئات يومًا ما، فقد روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ فلانًا يصلى بالنهار ويسرق بالليل، فقال:«إنّ صلاته لتردعه» .

وروى أنّ فتًى من الأنصار كان يصلى معه الصلوات، ولا يدع شيئًا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له فقال:«إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وعلى كل حاٍل فإنّ المراعى للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها. وأيضًا فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضى أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها، كما تقول: إنّ زيدًا ينهى عن المنكر؛ فليس غرضك أنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واللَّفظُ لا يَقْتضي أنْ لا يَخرُجَ واحدٌ) يعني: ليس التَّعريفُ في الصَّلاة للاستغراقِ لِيستوعِبَ جميعَ المُصلِّينَ، بل هو للجنسِ، فهو مُطلَقٌ في تَناوُلِه، ومعناه: مِنْ شأنِ الصَّلاةِ أنْ تَنهى عنِ الفحشاءِ والمُنكَرِ، فقد وُجد في صُوَرٍ كثيرةٍ هذا الحُكْمُ، فلا يجبُ أن لا يَخرُجَ أحدٌ منَ المصلِّينَ عن قَضيَّتِها.

والحاصلُ أنَّ تَعريفَ الجِنسِ- الذي هو المعهودُ الذِّهنيُّ- كالنَّكرة في الشِّياع، والنَّكرةِ في سياق الإثباتِ، لا يُفيد العُمومَ.

ص: 178

ينهى عن جميع المناكير، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه، وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم. (وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ) يريد: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله كما قال:(فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ الله)] الجمعة: 9 [وإنما قال: ولذكر الله: ليستقلّ بالتعليل، كأنه قال:

وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو: ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته (وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)] 46 [

(بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بالخصلة التي هي أحسن، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والسورة بالأناة، كما قال:(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)] المؤمنون: 96 [،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ليستقلَّ بالتعليل) أي: لِيرَفعَه ويكونَ حاملاً له.

الأساس: أقلَّه واستَقَلَّ به: رَفَعَه، يعني إنَّما عَدَل عنِ الظاهِرِ وهو قولُه:((ولَلصَّلاةُ أكبر))؛ ليكونَ اللَّفظُ دالاًّ على المقصود بالمَجازِ ومُتضمِّنًا للتَّعليل؛ كأنَّه قيلَ: ولَلصَّلاةُ أكبرُ؛ لأنَّها ذِكْرُ الله، وقد عُلم أنَّ ذِكْرَ الله أكبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ.

تلخيصُه: أنه مِنْ وَضْعِ المُظهَرِ موضعَ المُضمَرِ من غير لفظِه السابقِ؛ للإشعار بالعِلِّيَّة، ولو جيءَ بظاهِرٍ لم يُفِدْ هذا المعنى.

قوله: (مِنَ اللُّطْف الذي في الصَّلاة) المراد باللُّطف على اصطلاحهم: ما يُقرِّب إلى الطاعة ويَزْجُر عنِ المعصيةِ، يعني: تأثير الزّاجِرِ بذِكْر الله، وذِكْرُ نَهْيِه ووَعِيدِه أكثرُ مِنْ تأثير الزّاجِرِ بالصَّلاة.

قوله: (والسَّوْرَة)، الجوهريُّ: سَوْرَةُ السُّلطانِ: سَطْوَتُه واعتداؤه، و ((الأَنَاةُ)) بوزن القَنَاةِ: الحِلْمُ والوَقارُ.

ص: 179

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق. فاستعملوا معهم الغلظة، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا: يد الله مغلولة. وقيل: معناه: ولا تجادلوا الداخلين في الذمّة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمّة ومنعوا الجزية، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)] التوبة: 29 [ولا مجادلة أشدّ من السيف: وقوله: (قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) من جنس المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: معناه: لا تُجادلوا الدّاخِلينَ في الذِّمَّةِ) عطفٌ على قوله: ((وهي مُقابَلَةُ الخُشُونةِ باللِّينِ))، وعلى الأوَّل: المُجادَلَةُ بالحُجَّة، وعلى الثاني: بالسَّيفِ، والحاصلُ من الوُجوه أنَّ قولَه:{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} مُطلَقٌ؛ إمّا أن يجريَ على إطلاقِه، فهو المرادُ من قولِه:((إلاّ الذينَ ظَلَموا فأَفرَطُوا في الاعتداء))؛ لأنَّ الكافرَ إذا وُصِفَ بالفِسْق أو الظُّلم حُمِلَ على المُبالغة فيما هو فيه، ولذلك أتى بالفاء في ((فأَفْرَطُوا)) ليكونَ سببًا في الإفراط، أو يُقيَّدُ بما يُوجد منهم مِنَ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من قولهم: ما أنتَ بصاحِبنا، ولا نجدُ في كتابنا ذِكْرَكَ، وهو المرادُ من قوله:((آذَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) والقَرينةُ خارجيَّةٌ، أو القَرينةُ ما يُفهَمُ مِنْ قولِه:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ وأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ} وهو المرادُ من قوله: ((الذين أَثَبَتُوا الولدَ والشَّريكَ))، أي: منَ النَّصارى، ((وقالوا: يدُ الله مغلولة))، أي: منَ اليهودِ، أو يكونُ المرادُ من المُجادَلَةِ التَّعرُّضَ والقتالَ، لا المُقاوَلَةَ والظُّلمَ. على هذا أيضًا باقٍ على إطلاقِه، ونتيجتُه نَبْذُ العَهْدِ؛ لذلك جيءَ بالفاء في ((فنَبَذُوا الذِّمَّةَ)).

قوله: (ما حدَّثَكُم أهلُ الكتابِ) الحديثَ؛ أخرجَه أبو داودَ، عن أبي نَمْلةَ الأنصاريِّ، وروى البخاريُّ عن أبي هريرةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُصَدِّقوا أهلَ

ص: 180

بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلًا لم تصدّقوهم، وإن كان حقًا لم تكذبوهم».

[(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ)] 47 [

ومثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أى: أنزلناه مصدّقًا لسائر الكتب السماوية، تحقيقًا لقوله:(آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم). وقيل: وكما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا إليك الكتاب (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم عبد الله بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكتابِ بما يُحدِّثُونَكُم عن الكتابِ ولا تُكذِّبوهم، وقولوا:{آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]))؛ لأنَّ الله أخبرَ بأنهَّم كَتَبوا بأيديهم وقالوا: هذه من عندِ الله.

قوله: (وكما أنزَلْنا الكُتُبَ إلى مَنْ كان قَبلَكَ)، يعني: أنَّ ((الكافَ)) منصوبُ المَحَلِّ على المصدر، والمشارُ إليه بـ ((ذلك)): إمّا ما دلَّ عليه قولُه: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} ، وهو المرادُ من قوله:((تحقيقًا لقوله: {آمَنَّا})) و ((تحقيقًا)) مفعولٌ له لمقدَّرٍ؛ أي: أشار بذلك تَحقيقًا له، أو المُشارُ إليه ما في الذِّهْنِ؛ أي: مثلَ ذلك الإنزالِ المَعلُومِ الذي أُنزل على الأنبياء من قَبلِكَ أَنزلْنا إليك.

والمِثْلُ على الوجه الثاني: بمعنى النَّظيرِ والشَّبيهِ، وعلى الأوَّل: مُستعارٌ للصِّفة العَجيبةِ الشَّانِ. والفاءُ في ((فالذين آتيناهُم)) تفصيليَّةٌ؛ أي: مثلَ ذلك الإنزالِ العَجيبِ الشَّأنِ الداعي إلى الإيمان بجميع الكُتبِ المنزَّلَةِ وإلى التَّوحيد أَنزَلْناه، ثُمَّ النّاسُ مع ذلك تفرَّقوا فِرَقًا أربعًا؛ لأنَّ المبعوثَ إليهم إمّا أهلُ الكتابِ أو المشركون، فقولُه:{فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} المرادُ به بعضُ مَنْ آمَنَ من أهل الكتاب. وقولُه: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ} هم بعضُ المشركينَ. وقولُه: {وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} مُؤذِنٌ بأنَّهم الفريقانِ الباقيانِ من

ص: 181

سلام ومن آمن معه (وَمِنْ هؤُلاءِ) من أهل مكة، وقيل: أراد بالذين أوتوا الكتاب: الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب. (ومن هؤلاء) ممن في عهده منهم. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه. وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ)] 48 - 49 [

وأنت أمىّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاٍب ولا خط، (إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) لو كان شيٌء من ذلك، أى: من التلاوة والخط (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) من أهل الكتاب وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمى لا يكتب ولا يقرأ وليس به. أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده. فإن قلت: لم سماهم مبطلين، ولو لم يكن أمّيًا وقالوا: ليس الذي نجده في كتبنا، لكانوا صادقين محقين؟ ولكان أهل مكة أيضًا على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارئ كاتب؟ قلت: سماهم مبطلين لأنهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أُولئكَ، وهمُ تَوغَّلُوا في الكُفر وصَمَّمُوا عليه ولم يَفتحوا آذانَهم الصُّمَّ وأَعيُنَهم العُمْيَ، ولم يَلْتفتوا إلى الآيات البَيِّناتِ، والمرادُ بقوله:{بِئَايَتِنَا} الآياتُ المُنزَّلةُ في هذا الكتابِ الكريمِ، أو هو نفسُه آياتُ الله الباهرةُ، وحُجَّتُه القاهرةُ، واللهُ أعلمُ.

قوله: (لِمَ سَمّاهُم مُبْطِلينَ) تَوجيهُ السُّؤالِ: لمَ سمّاهُم مُبْطِلِينَ في حال كَوْنِه كاتبًا قارئًا؛ لكونهم حينئذ محقين، وكونهم مبطلين إنما يصح أن لو لم يكن كاتبًا قرئًا؛ لِكَونِهم جينئذٍ عَلِموا الحقَّ وجَحَدوا؟

وخُلاصةُ الجوابِ: أنَّ التَّعريفَ في {الْمُبْطِلُونَ} للعَهْد، وهم قومٌ مَعْلُومونَ بدَليل قولِه:((هؤلاء المُبْطِلُونَ))، يعني: هؤلاء المُجادلونَ المُبْطِلُونَ. تَزضيحُه: أنَّ {الْمُبْطِلُونَ} على تأويلِ مفهومِ اللَّقَبِ لا الصِّفةِ، كأنَّه قيل: هؤلاء الأشخاصُ الذين حَصَل لهمُ الإبطالُ.

ص: 182

كفروا به وهو أمىّ بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّيًا لارتابوا أشدّ الريب؛ فحين ليس بقارئ كاتٍب فلا وجه لارتيابهم. وشيءٌ آخر: وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين، ووجب الإيمان بهم وبما جاءوا به، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين ليسا بمعجزين، وهذا المنزل معجز، فإذن: هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمى، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمى. فإن قلت: ما فائدة قوله: (بيمينك)؟ قلت: ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط: زيادة تصويٍر لما نفى عنه من كونه كاتبا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وشيءٌ آخَرُ) يعني: سَمّاهُم مُبْطِلينَ؛ لأنَّهم لم يَنظروا إلى الدَّليل، وما يُثبتُ به رسالتَه من إظهار المُعجزةِ بعد سَبْقِ الدَّعوى كما ثَبتَتْ رسالةُ سائرِ الأنبياءِ، وحينئذٍ لم يَفْتقروا إلى النَّظَر في كَوْنه أُمِّيًّا أو غيرَ أُمِّيٍّ، وهو المرادُ من قوله:((فما لهم لم يُؤمنوا به مِنَ الوَجْهِ الذي آمَنُوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام)، ومعَ هذا انضَمَّ معه ما يَزيدُ به الدَّليلُ إيضاحًا، وهو أنَّه أُمِّيٌّ لم يقرا ولم يَكتبْ، فهو أَولى بالقَبُولِ، وعلى كلِّ حالٍ إنَّهم مُبْطِلُونَ، سواءٌ كان أُمِّيًّا أو لم يَكنْ.

وهذا إنَّما يَستقيمُ معَ المشركينَ؛ لأنَّ أهلَ الكتاب يُثْبتون نُبوَّتَه بأماراتٍ يَجِدُونها في كُتبهم، وهي أنَّه أُمِّيٌّ لا يكتبُ ولا يقرأُ، فلَهُم أن يقولوا: أنت نبيٌّ، لكنْ لستَ بصاحِبنا. وإلى هذا يُنْظَر قولُ صاحبِ ((التَّقريب)): هذا الوجهُ إنَّما يَرِدُ على المشركين لا على أهل الكتابِ، إذْ نَعْتُه عندَهم أنَّه أُمِّيٌّ.

قوله: (زيادةُ تَصْويرٍ لِمَا نُفِيَ عنه من كَوْنه كاتبًا) يعني: هو مِنْ أُسلوب قولِهم: نَظَرتُه بعَيني، وأَخذتُه بيَدي، وقلتُه بفَمِي.

فإن قلتَ: كيف جَمَعَ بينَ هذا وبينَ ما رَوى البخاريُّ ومسلمٌ والإمامُ أحمدُ والدارميُّ عن البَراء بن عازبٍ، قال: اعتَمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وساقوا الحديثَ إلى قوله: فلما كَتبوا الكتابَ

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كَتبوا: هذا ما قاضى عليه محمَّدٌ رسولُ الله، قالوا: لا نُقِرُّ بهذا، فلو نَعلمُ أنك رسولُ الله ما مَنَعْناك، ولكن أنتَ محمّدُ بنُ عبد الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((أنا رسول الله، وأنا محمّدُ بنُ عبدِ الله))، ثم قال لعليٍّ رضي الله عنه:((امْحُ رسولَ الله))، قال: لا والله لا أمحوكَ أبدًا، فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وليس يُحسِنُ يكتب، فكتب:((هذا ما قاضي عليه محمّدُ بنُ عبد الله، لا يُدْخِلُ مكَّةَ السِّلاحَ إلا السَّيفَ في القِرَابِ، وأنْ لا يَخرُجَ من أهلِها بأَحَدٍ إن أراد أنْ يَتْبَعَه، وأن لا يَمْنَعَ من أصحابه أَحدًا إذا أراد أن يُقِيمَ بها)). الحديثَ.

والجواب ما قال مُحيي السُّنة: يعني: لو كنتَ تَكْتبُ أو تَقرأً قبل الوحي لشَكَّ المُبْطِلُونَ.

قلت: ويؤيِّدهُ قولُه تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} ؛ أي: من قَبْلِ إنزالِنَا إليكَ الكتابَ.

وقال الشيخ مُحيي الدِّين النَّواوي في ((شرح صحيح مسلم)): وكما جاز أن يتلوَ جاز أنْ يَخُطَّ، ولا يَقْدَحُ هذا في كونه أُمِّيًّا، إذ ليستِ المُعجزةُ مجرَّدَ كونِه أُمِّيًّا، فإنَّ المعجزةَ حاصلةٌ بكَوْنه أوَّلاً كذلك، ثم جاء بالقرآن وبعُلومٍ لا يَعلَمُها الأُمِّيُّونَ. وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى علَّمَه ذلك حينئذٍ، حِينَ كَتَب، وجَعَل هذا زيادةً في مُعجزتِه، فإنَّه كان أُمِّيًّا، فكما علَّمَه ما لم يكن يَعْلم منَ العلمِ وجَعَله يقرأُ ما لم يَقرا، ويَتْلو ما لم يَتْلُ، كذلك عَلَّمه أن يَكتُبَ ويَخُطَّ ما لم يَخُطَّ بعدَ النُّبوةِ. واحتَجُّوا أيضًا بآثار جاءتْ في هذا عن الشَّعبيِّ وبعضِ السَّلفِ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَمُتْ حتّى كَتَب. تَمَّ كلامُه.

ويمكنُ أن يُقالَ سبيلُ هذه الكتابةِ مع هذه الآيةِ سبيلُ قولِه:

هل أنتِ إلاّ أُصْبَعٌ دَمِيتِ

وفي سَبيل الله ما لَقِيتِ

ص: 184

ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات: رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته، فكذلك النفي (بَلْ) القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ) العلماء به وحفاظه، وهما من خصائص القرآن: كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظًا في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهرًا؛ بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونحوُه قولُه تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 29]، قال المصنف:((ما هو إلاّ كلامٌ من جِنْس الكلامِ الذي يُرْمى به على السَّليقةِ من غير صَنْعَةٍ وقَصْدٍ إلى ذلك، ولا التفاتٍ منه إليه))، ويَعضُدُه قولُ راوي الحديثِ:((وليس يُحسِن يَكْتُبُ)).

قال في تفسير قولِه تعالى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]: ((حقيقتُه: يحسن معرفته؛ أي: يَعرِفُه معرفةً حسنةً بتحقيق وإتقان)).

وفي ((الروضة)): وممّا عُدَّ منَ المحرَّماتِ الشِّعرُ والخَطَّ، وإنّما يَتَّجهُ القولُ بتحريمهما لمَنْ يقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يُحْسِنُهما، وقد اختُلف فيه؛ فقيل: كان يُحسنهما لكنه يمتنع منهما. والأصحُّ: أنه كان لا يُحسنهما. ثم قال صاحبُ ((الروضة)): ولا يمتنع تحريمهما وإن لم يُحسنهما، والمرادُ تحريمُ التَّوصُّلِ إليهما.

قوله: (وهما من خصائص القرآنِ) مفسَّرٌ بقوله: ((كَوْنُ آياتِه بَيِّناتِ الإِعجازِ)) وبقوله: ((كَوْنُه محفوظًا في في الصُّدور))، يدلُّ عليه قوله:((بخلاف سائرِ الكُتبِ))، فعلى هذا ((بل)) إضرابٌ عن مفهوم الآيتَينِ السابقتَينِ. المعنى: وكذلك أنزَلْنا إليكَ الكتابَ، والحال أنَّك أُمِّيٌّ ما كنتَ تَتْلُو مِنْ قَبلهِ من كتابٍ ولا تَخُطُّه بيَمينِكَ، بل ذلك الإنزالُ معجزةٌ خارقةٌ للعادات، وهي كَوْنُها في نفسِها آياتٍ بيِّناتٍ؛ لبلاغَتِها وفَصاحَتِها، وكَوِنُه اختُصَّ بأنْ حُوفِظَ [عليه] في صُدور العلماءِ دونَ سائر الكُتبِ.

قوله: (صُدورُهم أَناجِيلُهم)، النهاية: في صفة الصَّحابة: ((معه قومٌ صُدورُهم

ص: 185

(وَما يَجْحَدُ) بآيات الله الواضحة، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون.

[(وقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِالله أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)] 50 - 52 [

قرئ: (آية) و (آيات) أرادوا: هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام، ونحو ذلك (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ الله) ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس لي أن أتخير على الله آياته فأقول: أنزل علىّ آية كذا دون آية كذا، مع علمى أنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة، والآيات كلها في حكم آيةٍ واحدةٍ في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أناجيلُهم)): هي جمعُ إنْجِيلٍ، وهي اسمُ كتابِ الله المنزَّلِ على عيسى- صلواتُ الله عليه- وهو عِبْرانيٌّ وسُريانيٌّ، وقيل: عربيٌّ، يريد أنَّهم يقرؤون كتابَ الله عن ظَهْر قُلوبِهم، ويَجمعُونَه في صُدورِهم حِفْظًا. وفي روايةٍ:((وأَناجِيلُهم في صُدورِهم))؛ أي: كتبهم محفوظة فيها.

ورُويَ في بعض كُتب التَّفسير في الكتابَينِ في صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِه: يجتزئ بالبُلْغَةِ، ويَلْبَسُ الشَّمْلَةَ مع عَصَابَةٍ، وأَناجِيلُهم في صُدُورِهم. ورُويَ في بعض كتب التفسير:((وقَرابينهُم من نُفوسِهم)).

قوله: (قرئ: ((آيةٌ))، و {آيَاتٌ} )، ((آيةٌ)): ابنُ كثيرٍ وأبو بكرٍ وحمزةُ والكسائيُّ، والباقون:{آيَاتٌ} .

ص: 186

ذلك، ثم قال:(أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ) آيةً مغنيةً عن سائر الآيات -إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين- هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكاٍن وزمان فلا يزال معهم آيةً ثابتةً لا تزول ولا تضمحلّ. كما تزول كل آيةٍ بعد كونها، وتكون في مكاٍن دون مكان.

إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكاٍن وزماٍن إلى آخر الدهر (لَرَحْمَةً): لنعمةً عظيمةً لا تشكر، وتذكرةً (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وقيل: أو لم يكفهم، يعني: اليهود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هذا القرآنُ الذي تَدُوم تلاوتُه عليهم في كلِّ مكانٍ) إلى آخره، هذه المُبالَغاتُ إنَّما نَشأتْ من وضع {إِنَّا أَنزَلِنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} موضعَ ((القرآنِ))؛ لأنَّه مشتملٌ على صيغة التَّعظيمِ، فدلَّ على عظمة المنزَّل، واللاّم في {اَلْكِتَابَ} للجنس، فدلَّ على الكمالِ، أو للعهد فدلَّ على ما عُرف واشتُهر في البلاغة.

ثم في استئنافِ {يُتْلَى} وتَخصِيصِه بالمضارع وجَعْلِه علَّةً للمنزَّل الدلالةُ على الاستمرار زمانًا ومكانًا، وإليه الإشارةُ بقوله:((هذا القرآن الذي تَدُوم تِلاوتُه عليهم في كلِّ مكانٍ وزمانٍ))، ثم تعليل الجملة بقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} تَتْمِيمٌ لذلك المعنى.

قوله: (إنَّ في مِثْل هذه الآيةِ الموجودةِ) المِثْلُ: يُستعمل كنايةً عن ذات الشَّيء إذا كان متَّصفًا بأوصافٍ يَشترك فيها غيرُه تحقيقًا أو فرضًا، وهاهنا لمّا وَصَف القرآنَ بتلك الصفاتِ الفائقةِ وعقَّب بقوله ذلك لِيُستحضرَ بجميع صفاتِه، وآذَنَ بأنَّ القرآنَ جديرٌ بأنْ يكونَ رحمةً وذِكْرى، لِمَا له تلك الخِصَالُ الكاملةُ على سبيل التَّعليل. والقولِ الكُلِّيّ، حَسُنَ أن يُقالَ: إنَّ في مثل هذه الآيةِ كذا وكذا، ونَظيرُه في الكناية قولُهم: العَربُ لا تَخْفِرُ الذّْمَمَ.

قوله: ({لَرَحْمَةً} لَنِعْمَةً عظيمةً لا تُشْكَرُ) يُريد: أَنَّ التَّتكيرَ في {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى} للتَّعظيم، وأنَّها رحمة لا يُقادَرُ قَدْرُها، وتَذكرةٌ؛ أي: تَذْكرة للمؤمنينَ. وفيه تعريضٌ بمَن لم يَرفعْ به رأسًا، ويقترحُ آياتٍ غيرَها، لا نِسْبةَ بينَها وبينَها، يعني: أَوْلَيناهُم تلكَ النِّعمةَ المُتكاثِرةَ الفوائدِ لِيَشْكُروها ويَعْرفوا حقَّها بأنْ يؤمنوا، وهم عَكَسوا وكَفَروا بها وقالوا: لولا نُزِّل عليه آيةٌ.

ص: 187

أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. وقيل: إنّ ناسًا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتٍف قد كتبوا فيها بعض ما تقول اليهود، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوٍم أو ضلالة قوٍم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، فنزلت. والوجه: ما ذكرناه. (كَفى بِالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وأنكم قابلتمونى بالجحد والتكذيب، (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مطلع على أمرى وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) منكم، وهو ما تعبدون من دون الله (وَكَفَرُوا بِالله) وآياته (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) المغبونون في صفقتهم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إنَّ ناسًا منَ المسلمينَ) الحديثَ، من رواية الدارميِّ عن يَحيى بنِ جَعْدةَ قال: أُتَي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكَتِفٍ فيه كتابٌ، فقال:((كفى بقومٍ ضَلَالاً أنْ يَرْغَبُوا عمّا جاء به نَبيُّهم، إلى ما جاء بع غيرُ نَبيِّهم، أو كتابٍ غيرِ كتابِهم))، فأَنزلَ اللهُ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} الآيةَ.

قوله: (والوَجْهُ ما ذَكَرِنا) أي: المعنى: أوَلَم يَكْفِهِم آيةٌ مُغْنيةٌ عن سائر الآياتِ؟ لأنَّه لا يلزمُ منَ الوَجْه الثاني كَوْنُه معجزةً بالغةً حَدَّ الإعجازِ والكَمالِ، ومِنَ الثالث كَونُه معجزةً أصلاً، والكلامُ في المُعجِزَة كقولهم:((لولا أُنزل عليه آيةٌ))، يدلُّ عليه ما في ((المعالم)) و ((المطلع)): هذا جوابٌ لقولهم: ((لولا أُنزِلَت عليه آيةٌ من ربِّه)).

قوله: (المَغْبُونونَ في صَفْقَتِهم) إشارةٌ إلى أنَّ قولَه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ} استعارةٌ للاشتراء والبيع تقديرًا، و {الْخَاسِرُونَ} قرينةٌ للاستعارة، فإنَّ الخُسْرانَ لا يُستعمل حقيقةً إلاّ في التِّجارة المُتعارَفةِ. شَبَّه استبدالَ الكُفرِ بالإيمان المُستَلْزِمِ للعقابِ بالاشتراء المُستَلْزِمِ للخُسْرانِ.

ص: 188

حيث اشتروا الكفر بالإيمان، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف، كقوله:(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)] سبأ: 24 [، وكقول حسان:

فشر كما لخير كما الفداء

وروى أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد، من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلاَّ أنَّ الكلامَ وَرَدَ مَوْرِدَ الإنصافِ) أي: على أُسلوبِ الاستدراج والكلامِ المُنْصِفِ، وذلك أنَّ قولَه:{قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالبَاطِلِ} الآيةَ كلامٌ فيه وَعيدٌ شديدٌ، وتهديدٌ عظيمٌ، لكن لم يُكافِحْ به مَنْ خُوطِبَ بأنْ لم يَقُلْ: والذين آمنوا بالباطلِ منكم، بل جيءَ به عامًّا على الغَيْبةِ، ولم يُصرِّحْ بما كان منهم من الجَحْد والتَّكذيبِ ليتفكَّروا فيه، ويَنظُروا: هل هم منَ الجاحِدينَ للحقِّ أو مِنَ المُنصِفِينَ، أو مِنَ الذين آمنوا بالله وكَفَروا بالطَّاغوتِ أو خلافِه، أو كانوا مُحِقِّينَ أو مُبْطِلِينَ؟ فحينئذٍ يُنْصَفُون من أنفُسِهم ويُذعنون للحقِّ، كما أنَّ حسّانَ وَبَّخ المخاطَبَ في صَدر البيت بقولِه:

أتَهْجُوهُ ولستَ له بكُفْءٍ

ثم أَبرزَ الكلامَ على الإنصافِ حيث لم يُبَيِّنِ الشِّريرَ والخَيِّرَ بقوله:

فشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ

فقولُه: ((إلا أنَّ الكلام وَرَد)) متعلِّقٌ بقوله: ((فهو مُطَّلِعٌ على أَمْري)) إلى آخِره؛ يعني: كان مِنْ ظاهرِ ما يَقتضيه الكلامُ أنْ يُقالَ: عالمٌ بحَقِّي وباطِلِكُم، والذين آمنُوا بالباطِلِ منكم، إلى آخِره، ولكنَّ الكلامَ وَرَدَ مَورِدَ الإنصافِ.

قوله: (من يشهد لك بأنَّك رسولُ الله؟ فنَزلتْ) أي: قولُه: {قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} .

ص: 189

[(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَاتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 53 - 55 [

كان استعجال العذاب استهزاًء منهم وتكذيبًا، والنضر بن الحارث هو الذي قال: اللهم أمطر علينا حجارةً من السماء، كما قال أصحاب الأيكة:(فأسقط علينا كسفا من السماء)] الشعراء: 187 [. (وَلَوْلا أَجَلٌ) قد سماه الله وبينه في اللوح لعذابهم، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلًا. والمراد بالأجل: الآخرة، لما روى أنّ الله تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة. وقيل: يوم بدر. وقيل: وقت فنائهم بآجالهم، (لَمُحِيطَةٌ) أى: ستحيط بهم (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أو هي محيطة بهم في الدنيا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإنْ قلتَ: كيف الجمعُ بين هذا وبينَ قولِه تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ} [البقرة: 23]؟ لا تَسْتَشْهِدُوا بالله، ولا تقولوا: اللهُ يَشهدُ أنَّ ما نَدَّعِيه حقٌّ، كما يقولُه العاجِزُ عن إقامة البَيِّنةِ.

قلت: المراد بالشَّهيد في هذه الآية: إظهارُ المُعجزةِ القاهرة على يَدِه، وإنزالُ هذا الكتاب الذي لا يزال معه آيةً ثابتةً في كلِّ مكانٍ وكلِّ زمانٍ يَشهدُ بذِلك الآيةُ السابقةُ.

قوله: ({لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} عاجلاً) يدلُّ على هذا المقدَّر قولُه: {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى} ، وقولُه:{وَلَيَاتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} عطفٌ تفسيريٌّ على {لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} ؛ نحو: أَعجَبَني زيدٌ وكرمُه.

قوله: (أي: سَتُحيطُ بهم) أي: أصلُ الكلامِ هذا، ولكن جيءَ بالجملة الاسميَّةِ مؤكَّدةً باللاّم، و ((إنَّ)) لِيُؤذنَ بأنَّ إخبارَ الله عن الكائنِ واقعٌ البَتَّةَ، لِصِدْق وَعْدِه ووَعيدِه؛ نحو قولِه تعالى:{إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1]، وعلى هذا:{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} منصوبٌ بـ ((مُحِيطةٌ)).

قوله: (أو هي مُحِيطةٌ بهم في الدُّنيا) تُنزَّلُ إحاطةُ أسبابِ العذابِ بهم منَ الكُفر والمعاصي

ص: 190

لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم. أو: لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم. و (يَوْمَ يَغْشاهُمُ) على هذا منصوب بمضمر، أى: يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت. (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) كقوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)] الزمر: 16 [، وَ (يَقُولُ) قرئ بالنون والياء (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى: جزاءه.

[(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)] 56 [

معنى الآية: أنّ المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلٍد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر عنه إلى بلٍد يقدّر أنه فيه أسلم قلبًا وأصح دينًا وأكثر عبادةً وأحسن خشوعًا. ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جرّبنا وجرّب أوّلونا، فلم نجد فيما درنا وداروا أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة، وأجمع للقلب المتلفت، وأضم للهم المنتشر، وأحث على القناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد من كثير من الفتن، وأضبط للأمر الديني في الجملة؛ من سكنى حرم الله وجوار بيت الله، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب، ورزق من الصبر وأوزع من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منزلةَ إحاطةِ العذاب نَفْسِه؛ إطلاقًا لاسم المسبَّب على السَّببِ.

قوله: (أو لأنَّها مآلُهم ومَرْجِعُهم لا مَحالَة) يريد أنَّ ((ما)) للوُقوع كالواقعِ لِتَظاهُرِ أسبابِه؛ نحو: مُتْ، وهو من باب المَجازِ باعتبار ما يَؤُولُ.

قوله: (كَيْتَ وكَيْتَ) كنايةٌ عمّا يَقْصُر الوَصفُ عن بَيانِه؛ أي: حَدَثَ ووَقَع أمرٌ عظيمٌ، وخَطْبٌ جَسيمٌ، منَ الانتقام منَ المستهزئين وقَهْرِ المُكذِّبينَ، وتَشَفِّي غَليلِ المؤمنينَ، إلى غير ذلك، ولو قيل: واذكُرْ يومَ يغشاهُم، لم يُفِدْ هذه الفوائدَ.

قوله: ({وَيَقُولُ} قُرئ بالنُّونِ والياءِ) بالنُّون: ابنُ كثيرٍ وأبو عَمرٍو وابنُ عامر، والباقون: بالياء.

ص: 191

الشكر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرٍض إلى أرٍض وإن كان شبرًا من الأرض؛ استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد» وقيل: هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)] النساء: 97 [وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة، (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) في المتكلم، نحو: إياه ضربته، في الغائب وإياك عضتك، في المخاطب. والتقدير: فإياى فاعبدوا فاعبدون. فإن قلت: ما معنى الفاء في (فَاعْبُدُونِ)

وتقديم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف؛ لأنّ المعنى: إنّ أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإيّاكَ عَضَّتْكَ) بالعين المُهملة والضّادِ المُعجَمةِ، والفاعلُ مقدَّرٌ، وهو الحربُ، ((وإيّاك)) منصوبٌ على شَرِيطة التَّفسير.

الأساس: مِنَ المُستعار: عَضَّه الأمرُ: اشتدَّ عليه، وعضَّتْهُ الحربُ.

قوله: (فإيّايَ فاعبُدوا فاعْبُدون)، يُريد أنَّ ((إيايَ)) لا يجوزُ أن يكون مَعْمولاً لهذا المَذْكورِ؛ لأنَّه اشتَغَل عنه بضَميرِه، فوَجَب تقديرُ مُفسِّرٍ، وهو قولُه:((فاعبُدوا)) وهو العاملُ في ((إيّايَ))، والفاءُ الأُولى جوابُ شرطٍ محذوفٍ والثانية كذلك، لكن أُنِيبَ مَنابَه تقدُّمُ المفعول، المعنى: يا عبادي إنَّ أرضي واسعةٌ. وإذا كان كذلك فأَخْلِصُوا لي العبادةَ أينما كنتُم، فإنْ لم تَتمكَّنوا منَ الإخلاص في أرضٍ تَتمكَّنون منه فيها.

قال الزَّجاجُ: ((إيّايَ)) منصوبٌ بفعل مضمَرٍ يُفسِّرُه الظّاهرُ؛ أي: فاعبُدوا إيّايَ فاعبدوني، ولا يجوز انتصابه بالمذكور؛ لأنه مشغول بالضمير. وإذا قلت:((فإيّايَ فاعبُدوا)) فـ ((إيّايَ)) منصوبٌ بما بعدَ الفاءِ، ولا تَنصبه بفعل مُضمَرٍ، كما إذا قلتَ: بزيدٍ فامْرُرْ، فالباء متعلِّقة بـ ((امْرُرْ))، وإذا قلتَ: زيدًا فاضربْ، فالفاء لا يَصلُح إلا أن تكونَ جوابًا للشَّرط، كأن قائلاً قال: أنا لا أضربُ عمرًا، ولكنّني أضربُ زيدًا. ثم قلتَ: زيدًا فاضْرِبْ، فجعلتَ تقديمَ الاسم بَدَلاً من لفظك بالشَّرطِ، كأنك قلت: إذا كان الأمر على ما قَصَدتَ فاضرِبْ زيدًا. هذا مذهبُ جميع البَصريِّينَ.

ص: 192

أرٍض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.

[(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ)] 57 [

لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعت، أتبعه قوله:(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أى: واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم حَذِفَ الشرطُ وعُوِّضَ مِنْ حَذْفِه تقديمُ المفعولِ، مع إفادةِ تَقْديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاص) يعني: لمّا حُذف الشَّرطُ لدلالة الفاعليَّةِ، وعند الحَذْف خَفِيَ أمرُ المقدَّرِ أنَّه مِنْ أيِّ جنسٍ هو، فعُوِّض من ذِكْره تقديمُ المفعولِ معَ إفادةِ تَقْديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاصِ، يعني: لمّا حُذف لدلالة الفاعليَّةِ وعندَ الحَذْفِ خَفِيَ أمر المقدَّر أنَّه من أيِّ جنس هو فعوض من ذِكْره تقديمُ المفعولِ، فإنَّه يُفيد الإخلاصَ ضِمْنًا لدلالتِه على الاختصاصِ، والاختصاصً والإخلاصُ من وادٍ واحدٍ، وإنّما أَخَّرْنا المفسَّرَ على المنصوبِ ليُفيدَ الاختصاصَ لاقتِضَاء المَقام، وهو قولُه:((لأنَّ أَمْرَ دِينِهم ما كان يَسْتَتِبُّ لهم بينَ ظَهْرانَيِ الكَفَرة)).

قوله: (وإنْ شَسَعَتْ) أي: بَعُدَتْ. الأساس: سَفَرٌ شاسِعٌ، وقد شَسِعَ شُسُوعًا.

قوله: (كما يَجِدُ الذائقُ طَعْمَ المَذُوقِ)، الراغب: الذَّوْقُ: وُجودُ الطَّعم بالفَمِ، وأصلُه فيما يَقِلُّ تَناولُه دُونَ ما يَكْثُر منه، فإنَّه يُقال له الأكلُ، واخْتِيرَ في القرآن لفظُ الذَّوْقِ في العذابِ؛ لأنَّ ذلك- وإن كان في التَّعارُفِ للقليل- فهو مُسْتَصْلَحٌ للكثير، فخَصَّه بالذِّكر لِيَعُمَّ الأمرَينِ، وكَثُرَ استعمالُه في العذاب نحو:{لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]؛ وقد جاء في الرَّحمةِ؛ نحوُ {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9].

ص: 193

ومعناه: إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده.

[(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)] 58 - 59 [

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ) علالي. وقرئ: (لنثوّينهم) من الثواء، وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومعناه: إنَّكم مَيِّتون فواصِلُون إلى الجزاء) فإنْ قلتَ: لِمَ خالَفَ التِّلاوةَ حيث أَتى بالفاء، وفيها ((ثم))، وشَتّانَ ما بينَهما؟

قلت: الفاءُ الكاشفيَّةُ فَصيحةٌ، وليست للتَّعقيبِ المذكورِ؛ لأنَّ بينَ الموتِ والمُثُولِ بَيْن يَدَي المَلِكِ الجبّارِ في دار الجزاء تَراخِيًا؛ ولهذا جيءَ في التَّنزيل بـ ((ثُمَّ))، كأنَّه قيل: ثمَّ إنَّكم مَيِّتون فتُقبرون، ثم تُنشَرون فواصِلُون عَقِيبَه إلى الجزاء؛ كقوله تعالى:{وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]. وفائدةُ العُدُولِ الإشعارُ بأنَّ ما هو آتٍ أت، كأنَّ مَنْ مات فقد قامَت قيامتُه، وتَرتَّب عليه الجزاءُ على نحوِ ما مرَّ في قوله:{وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ} .

ويُمكن أن تُحملَ ((ثُمَّ)) على التَّراخي في الرُّتبة، المعنى: يا عبادي الذين آمنُوا، إنْ يَصْعُب عليكم مُفارقةُ الأَوطانِ والهِجْرةُ إلى دار الغُربة للتَّخلِّي لعبادتي، فاعلَمُوا أنَّ الفُرْقَةَ العُظمى -وهي الموت- لابدَّ منها؛ لأنَّها مكتوبةٌ على كلِّ نَفْسٍ، ثُمَّ أصعبُ منها الحصولُ في دار الجزاء بَين يَدَي جبّار السَّماواتِ والأرضِ، يومَ نَضَع الموازينَ القِسْطَ، يومَ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، ومَن كانت عاقبتُه هذه لم يكنْ له بُدٌّ من التَّزوُّد لها وأخْذِ الأُهْبَةِ لها بمَجْهُوده.

قوله: (لَنُثوِيَنَّهُم) حمزةُ والكسائيُّ: بالثاء، مِنَ الثَّواءِ، وهي الإقامةُ؛ ساكنة من غير همز، والباقون: بالباء مفتوحة مع الهمزِ.

ص: 194

النزول للإقامة. يقال: ثوى في المنزل، وأثوى هو، وأثوى غيره وثوى: غير متعد، فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولًا واحدًا، نحو: ذهب، وأذهبته. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إمّا إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم. أو حذف الجار وإيصال الفعل: أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. وقرأ يحيى بن وثاب: (فنعم)، بزيادة الفاء (الَّذِينَ صَبَرُوا) على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، وعلى الطاعات، وعن المعاصي، ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله.

[(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)] 60 [

لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة، خافوا الفقر والضيعة. فكان يقول الرجل منهم: كيف أقدم بلدةً ليست لي فيها معيشة، فنزلت. والدابة: كل نفٍس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل. (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تطيق أن تحمله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال مَكِّيٌّ: من قرأ بالثاء المثلَّثة من الثَّواء فـ {غُرَفًا} منصوبٌ بحَذْف حرف الجرِّ؛ لأنَّه لا يتعدَّى إلى مفعولين. ولا يَحسُن أن يُنصبَ ((الغُرَف)) على الظَّرف؛ لأنَّ الفعل لا يتعدَّى إلى مفعولَينِ، يقول: بَوَّاتُ زيدًا منزلاً. وأما قوله: {وَإِذْ بَوَّانَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، فاللاّم زائدةٌ كزيادتها في {رَدِفِ لَكُم} [النمل: 72] أي: رَدِفَكُم.

قوله: (أو تَشبيهُ الظَّرفِ المؤقَّتِ بالمُبْهَمِ) أي: المعيَّنِ المَحْدودِ، وهذا أسْهَلُ في المُنكَّر منه في المُعرَّف في قول القائل:

كما عَسَل الطَّريقَ الثَّعلَبُ

لِمَا فيها منَ الإبهام، ومثل {غُرَفًا} في مجيئه ظرفًا منكرًا ((أرضًا)) في قوله:{أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9]. في ((المطلع)).

ص: 195

لضعفها عن حمله (الله يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أى: لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: لا يرزق تلك الدَّوابَّ الضِّعافَ إلا الله) هذا الحَصْرُ مُستفادٌ من بناء {يَرْزُقُهَا} على الاسم الجامع، ومثل هذا التَّركيبِ يُفيدُ التَّخصيصً عنده كما مرَّ في ((سورة الرعد)) عند قوله تعالى:{اللهُ يَبْسُطُ الرِزْقَ} [الرعد: 26].

قوله: {وَإيَّاكُمْ} تتميم ومبالغة لمعنى الرازقية في قوله: {اللهُ يَرزُقُهَا} ، ومِنْ ثَمَّ قال:((ولا يَرزُقكُم أيضًا أيُّها الأقوياءُ إلاّ هو وإن كنتم مُطِيقينَ))، ويُمكن أن يُستنبَطَ معنى التَّخصيص من مَضْمون الكلامِ، وذلك أنَّه تعالى ما حَرَّض المؤمنينَ على المُهاجِرَةِ بقوله:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} إلى قوله: {كَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} إلاّ وأنَّهم اعتَقَدوا الضَّياعَ وخافوا الفقرَ، يَدلُّ عليه قولُه تعالى:{وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} .

وتأويلُ المصنِّف {وَهُوَ السَّمِيعُ} لقولكم: نخشى الفقرَ والضَّيعةَ، {العَلِيمُ} بما في ضمائركم، فمعنى قولِه تعالى:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} ، أي: إنْ كان أمرُ دينِكُم لا يَسْتَتِبُّ بينَ الكَفَرةِ، فاعلَموا أنَّ أرضي واسعةٌ، فهاجروا إلى ما يَتَمكَّنُ فيه لكم ذلك الأمرُ. وفي لفظ {وَاسِعَةٌ} إشعارٌ بالوَعد من الضِّيق إلى السَّعَة، وقد أنجَزَ اللهُ وَعْدَه في المدينة.

ولما أراد الوَعْدَ بالتَّوسعةِ في الآخرةِ والتَّسليةِ عن مُفارقَةِ الوطنِ قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وعقَّبَه بقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، وبَنىَ عليه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ} ولمّا أَتمَّ أمرَ التَّسليةِ في مُفارقةِ الأوطان وأراد أن يُزيلَ عنهم خوفَ الفقرِ أتى بقوله: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ؛ ليكونَ كالتَّخلُّصِ من حديث التَّوسعةِ في الأَمكِنَةِ إلى حديث التَّوسعةِ في الرِّزق، وهو قولُه:{كَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} .

ومِنْ ثَمَّ فسَّر المصنِّف الصَّبْرَ بقوله: ((صَبَروا على مُفارَقَة الأوطانِ))، فيكون هذا الكلامُ نفيًا لِمَا أَضْمَرُوا في أنفُسِهم من استشعارِ الخوفِ على الفقرِ إذا فارَقُوا أوطانَهم، وإثباتًا

ص: 196

ولا يرزقكم أيضا أيها الأقوياء إلا هو، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل، وعن الحسن:(لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تدّخره، إنما تصبح فيرزقها الله. وعن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة.

وعن بعضهم: رأيت البلبل يحتكر في حضنيه. ويقال: للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم: نخشى الفقر والضيعة، (الْعَلِيمُ) بما في ضمائركم.

[(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)] 61 [

الضمير في (سَأَلْتَهُمْ) لأهل مكة، (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) فكيف يصرفون عن توحيد الله وأن لا يشركوا به، مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لِرازقيَّةِ الله تعالى على التَّوكيد البَليغِ، فيحصلُ الحَصْرُ من معنى نَفْي مُعتَقَدِهم وإثباتِ ما يُخالِفُه.

قوله: (لو لم يُقْدِرْكُم ولم يقدِّرْ لكم)، أَقْدَرَهُ: جَعَلَه قادرًا، وقدَّره له: هَيّأهُ له، وهذا المعنى إنّما استُفِيدَ من عطفِ ((إيّاكم)) على ضمير الدَّوابِّ، وأنَّهم مشتركونَ معها في العَجْزِ.

قوله: (في حِضْنَيهِ)، الأساس: الحِضْنُ: ما دُون الإبطِ إلى الكَشْحِ، حَضَنتِ المرأةُ وَلدَها، والحمامةُ بيضَها ومِحْضَنَةُ الحمامةِ، شِبْه قَصعتَينِ مُرَوَّحتينِ تُعمل من الطِّينِ.

قوله: (فكيف يُصرفونَ عن توحيدِ الله)، الجوهريُّ: صَرَفْتُ الرَّجلَ عنِّي فانصَرَفَ، وصَرَف اللهُ عنك الأَذى.

و((أن لا يشركوا به)) عطفٌ على سبيل التَّفسير على قوله: ((تَوْحيدِ اللهِ))، و ((معَ إقرارِهم)) حالٌ من فاعل ((يُصْرَفون)).

ص: 197

[(الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)] 62 [

قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه. فإن قلت: الذي رجع إليه الضمير في قوله: (وَيَقْدِرُ لَهُ) هو: من يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد؟ قلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الفاءَ في {فَأَنَّى} جوابُ شرطٍ محذوفٌ مقدَّرٌ بعد جوابِ القَسَمِ السادِّ مَسَدَّ جواب الشَّرطِ، وهو:{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ؛ أي: إذا كان جوابُهم عن قولِه: {مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، والاستفهامُ ولَّد التَّعجُّبُ، يعني: كيف يُمنَعون عنِ التَّوحيدِ وهُم مُقِرُّون بأنَّه خالقُ السَّماواتِ.

قوله: (قَدَرَ الرِّزقَ وقَتَرَه) هذه الآيةُ- أعني قولَه: {للَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} -تكميلٌ لمعنى قولِه: {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ، لأنَّ الأوَّلَ الكلامُ في المَرْزُوقِ وعُمومِه، وهذا في الرِّزقِ وبَسْطِه وقَتْرِه.

وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} مُعتَرِضٌ لتوكيدِ معنى الآيتينِ، وتَعرُّضٌ بأنَّ الذين اعتَمدتُم عليهم في الرِّزق مقرِّونٌ بقُدرتِنا؛ كقوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

قوله: (الذي رجع إليه الضَّميرُ) يعني: إنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله عائد إلى ((مَنْ))، فيَلْزمُ منه أن يَجعلَ القَبْضَ والبَسْطَ لواحدٍ.

وأجاب أن الضَّميرَ غيرُ عائدٍ إلى ((مَنْ))، بل وَضعَ موضعَ ((من يشاء))، بجامع كونهما مبهمتين فيتعدد المرزوق، ويجوز أن يرجع إلى ((من))، ويُرادَ به شخصٌ واحد، فيتعدد بحَسْبِ أحواله فيبسطُ له تارةً ويُقدِّر له أخرى.

وقلت: يمكنُ أن يرجعَ إلى ((مَنْ))، ويرادَ به العمومُ بدليل بيانِه بقوله:{مِنْ عِبَادِهِ} ، فيكونَ التعددُ بحَسبِ أشخاصِه، فالمعنى: إنَّ الله يبسطُ رزقَ بعضٍ ويُقدِّرُ رزْقَ بعضٍ، كما يقول: أكرمْتُ بني تميمٍ وأهنتُهم، ويريد البعضَ بقرينةِ المقام.

ص: 198

يحتمل الوجهين جميعًا: أن يريد ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع "من يشاء"؛ لأن "مَنْ يَشاءُ" مبهم غير معين، فكان الضمير مبهمًا مثله، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحٍد على حسب المصلحة (إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.

[(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)] 63 [

استحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به؛ ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الأنداد والشركاء عنه، ولم يكن إقرارًا عاطلًا كإقرار المشركين؛ وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم؛ حيث نسبوا النعمة إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم، ثم قال:(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد. أو: لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يحتمل الوجهين جميعًا) اللام للعهد؛ أي: الوجهين المذكورين في السؤال منطوقًا ومفهومًا؛ لأن قوله: ((فكأنَّ بَسْطَ الرزقِ وقَدْرَه جعلا لواحد))، والحال أنهما للاثنين.

قوله: (استحمدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أي: طلب منه أن يحمده.

الأساس: واستحمدَ الله على خلقِهك بإحسانِه إليهم وإنعامه عليهم.

قوله: ({بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ما يقولون) هذا مبنيٌّ على الوجه الثاني، وهو أنهم أقروا بما هو حُجّةٌ عليهم، وقوله: أو لا يعقلون ما تريد، بينيٌّ على الوجهِ الأول، وهو قوله:((إنه أقر بنحو ما أقروا به)، والأول أظهر لمُقْتضى بل من الترقي، كأنه قيل: احمَدِ الله على ما أقروا بما هو حُجّةٌ عليهم، وعلى تبكيتِهم وإلزامِهم، بل على جهلهم، وأن ما قالوه دلّ على سَلْبِ عقولهم.

ص: 199

[(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)] 64 [

(هذِهِ) فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة، يريد: ما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعةً ثم يتفرقون. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أى: ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان: مصدر "حي"، وقياسه حييان، فقلبت الياء الثانية واوًا، كما قالوا: حيوة، في اسم رجل، وبه سمى ما فيه حياة: حيوانًا. قالوا: اشتر من الموتان ولا تشتر من الحيوان. وفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهي لا تزِنُ عنده جناحَ بعوضة) مقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)). أخرجه الترمذي عن سهل بن سعد.

قوله: (وقياسه: حَيَيان) قال أبو البقاء: فقُلبت الياءُ واوًا؛ لئلا يلتَبسَ بالتثنية، ولم يَقلب الفاء لتحرُّكِها وانتفاحِ ما قبلها؛ لئلا يحذف أحد الألفين.

قوله: (وبه سُمِّيَ ما فيه حياةٌ: حيوانًا) قال صاحب ((الكشف)): أما قولهم: الحيوان للنفس، فإنه في الأصل مصدر، وسمي به الشخص على تقدير أنه ذو الحياة.

قوله: (اشْتَر من المَوَتان)، الجوهري: الموتَانِ بالتحريكِ خلافُ الحيوان؛ أي: اشْترِ الأرضِينَ والدورَ، ولا تشتر الرقيقَ والدوَاب. والنَّزَوان من نزا نزوانًا، ونزا الذكر على الأنثى نِزا بالكسر، يقال ذلك في الحافر والظلف والسباع. والنفَضان: التحرك، نفضَ رأسَه ينفضُ نفضًا ونفوضًا. واللَّهَبان بالتحريك: إيقاد النار، وكذلك اللهيبُ واللُّهبان بالضم.

ص: 200

بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، كالنزوان والنفضان واللهبان، وما أشبه ذلك. والحياة: حركة، كما أن الموت سكون، فمجيئه على بناٍء دال على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ): فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها.

[(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)] 65 - 66 [

فإن قلت: بم اتصل قوله (فَإِذا رَكِبُوا)؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم، معناه: هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كائنين في صورة من يخلص الدين لله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع) أي: لما فيه من المبالغة اختيرت، وأن المقام يقتضي المبالغة؛ لأنه واقع في مقابل حياة الدنيا، فكما بولغَ في قلّةِ ثباتها وسرعة تقضيها حيث جعلت لهوًا ولعبًا تشبيهًا بلعب الصبيان، يلعبون ساعة ثم يتفرقون؛ بولغ في دوامها وثباتها، كما قال:((ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة .... فكأنها في ذاتها حياة)).

قوله: (هم على ما وُصِفوا به من الشرك والعناد {فَإِذَا رَكِبُوا} ، يريد: أن الفاء للتعقيب، وفي الكلام معنى الغاية، كما في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} إلى قوله: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22]، يعني: هم مصروفون عن توحيد الله مع إقرارِهم بأنه الخالقُ مُقِرّون بما هو حجة عليهم في قولهم {لَيَقُولُنَّ اللهُ} حين سئلوا {مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ} لاهون بالدنيا، مشتغلون بما هو في وشك الزوال، ذاهلون عن الحياة الأبدية حتى إذا ركبوا في الفلك فحينئذ يرجعون إلى أنفسِهم داعين خاضعينَ مُخلصين له الدين.

يدل على هذا الترتيب قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} ، فإنه نَشْرٌ لمضمون

ص: 201

من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلهًا آخر. وفي تسميتهم مخلصين ضرب من التهكم، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) وآمنوا عادوا إلى حال الشرك: واللام في (لِيَكْفُرُوا) محتملة أن تكون لام "كى"، وكذلك في (وَلِيَتَمَتَّعُوا) فيمن قرأها بالكسر. والمعنى: أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة: إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعةً إلى ازدياد الطاعة، لا إلى التمتع والتلذذ، وأن تكون لام الأمر، وقراءة من قرأ:(وليتمتعوا) بالسكون تشهد له. ونحوه قوله تعالى: (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)] فصلت: 40 [. فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا، وهو ناهٍ عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية. ومثاله أن ترى الرجل قد عزم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآيات السابقة من الشرك الذي بَيَّنَ عنه قوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ومن التمتع بالدنيا المُومَأ إليه بقوله: {مَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} .

قوله: (من قرأ: ((وَلْيَتَمتَّعُوا)) بالسكون) ابن كثير وقالون وحمزة والكسائي، والباقون: بكسر اللام.

قال مكي: مَنْ كَسرها جَعلَها لام ((كي))، ويجوز أن يكون لام أمر، ومن أسكنَها فهي لامُ أمرٍ لا غير. ولا يجوز أن يكون مع الإسكان لام ((كي))، لأنّ لام ((كيْ)) حُذِفَتْ بعدها ((أن))، فلا يجوزُ حذْفُ حركتِها أيضًا لضعفِ عواملِ الأفعال.

قوله: ({اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَت: 40])، فالأمر للتهديد.

قوله: (مُتسخَّط)، الأساس: سَخِط عليه سُخْطًا، وهو مَسْخوطٌ عليه، وأسخطه: أعطاه قليلاً، فَتسخَّطه: لم يرضه، والبِرُّ مَرضاة للربِّ مَسْخَطةٌ للشيطان، ولا يَتعرّضُ لسُخْطةِ الملك.

ص: 202

على أمر، وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ، وأنه يؤدى إلى ضرٍر عظيم، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم، حردت عليه وقلت: أنت وشأنك وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر. وكيف والآمر بالشيء مريد له، وأنت شديد الكراهة متحسر، ولكنك كأنك تقول له: فإذ قد أبيت قبول النصيحة، فأنت أهل ليقال لك: افعل ما شئت وتبعث عليه، ليتبين لك إذا فعلت صحة رأى الناصح وفساد رأيك.

[(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ)] 67 [

كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضًا، ويتغاورون، ويتناهبون، وأهل مكة قارّون آمنون فيها، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب، فذكرهم الله هذه النعمة الخاصة عليهم، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة، وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده، مكفورة عندهم.

[(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)] 68 [

افتراؤهم على الله كذبًا: زعمهم أن لله شريكًا. وتكذيبهم بما جاءهم من الحق: كفرهم بالرسول والكتاب. وفي قوله: (لَمَّا جاءَهُ) تسفيه لهم، يعني:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والآمِرُ بالشيء مريدٌ له) يعني: أمر الكافر بالإيمان، فلا يكون مريدًا للكفر منه. هذا مذهبه. وعند أهل السنة: يجوز أن يكون الأمر على خلاف المراد؛ لأن الله تعالى أمر فرعون بالإيمان ولم يرد منه إلا الكفر.

قوله: (وتُبعَثُ عليه)، الأساس: بعثه على الأمر، وتباعثوا عليه.

ص: 203

لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه، ولم يفعلوا كما يفعل المراجيح العقول المثبتون في الأمور: يسمعون الخبر فيستعملون فيه الروية والفكر. ويستأنون إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه، (أَلَيْسَ) تقرير لثوائهم في جهنم، كقوله:

ألستم خير من ركب المطايا

قال بعضهم: ولو كان استفهامًا ما أعطاه الخليفة مئةً من الإبل. وحقيقته: أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير، فهما وجهان، أحدهما:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لم يَتَلَعثَموا)، الجوهري: أبو زيد: تلعثم الرجل في الأمر: إذا مكث فيه وتأني.

وقال الخليل: نكل عنه وتبصَّر.

قوله: (المراجيح العقول)، ومن المجاز: رجل راجح العقل، وفلان في عقله رجاحة، وفي خُلقه سَجاحة.

قوله: (ويَسْتَأنون)، تأني في الأمر واستأنى، يقال: تأنَّ في أمرك: اتَّئِد، واستأنيت فلانًا: لم أعجله، واستأنى: رفق. في ((الأساس)). هذا كُله معنى {لَمَّا} في {لَمَّا جَاءَهُ}

قوله: (ألستُم خيرَ مَن ركبَ المَطايا)، تمامه:

وأندى العالمين بطونَ راح

يقال: نَدِيَتْ كفُّه بكذا؛ أي: جادت، يعني أكثرهم عطاء. قيل لما مدح الشاعر الخليفة بهذه القصيدة وبلغ البيت متكئًا فاستوى جالسًا فرحًا، وقال: مَنْ مَدحَنا فليمْدَحْنا هكذا، وأعطاه مئة من الإبل.

قوله: (وفيها وجهان) ويروي: ((فهما)) بغير واو. قيل: ضميرُ التثنية مُبْهَمٌ فُسِّرَ بقوله: ((وجهان))، كقوله تعالى:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، فقوله: ((وألا

ص: 204

ألا يثوون في جهنم، وألا يستوجبون الثواء فيها، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله، وكذبوا بالحق هذا التكذيب والثاني: ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا مثل هذه الجرأة؟ .

[(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)] 69 [

أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول؛ ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين، (فِينا) في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصًا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يستوجبون الثواءَ فيها وقد افتروا)) هذا مستفاد من جعل التعريف في ((الكافرين)) للعهد، وتنزيله منزلة المضمر إشعارًا بالعِلّيّة.

قوله: (والثاني: ألم يصحَّ عندهم أن في جهنم مثوىً للكافرين) على أن التعريف للجنس، فيلزم منه إدخالهم في ذلك الحكم بطريق برهاني.

قوله: ({فِينَا} في حَقِّنا ومن أجلِنا ولوَجهنا) أكّد تفسيرَ ((فينا)) وترقّي فيه، وذلك لاستعمالِ ((في)) وإدخالها على صيغةِ التعظيم، كأنه أريد أنّ حَقيقة المجاهدة مكانُها ومستقَرّها أن تكونَ في الله وفي ذاته لا يتجَزّأُ منها شيءٌ إلى مكانٍ آخر، وهو كناية إيمائية.

قال خُبيبٌ الأنصاريُّ المقتول صَبْرًا:

فلستُ أبالي حين أُقتلُ مُسلمًا

على أيِّ شِقٍّ كان لله مَصْرعي

وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يشَا

يُباركْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمزَّع

الممزَّع: المُفرَّق، والمقسَّم والشِّلْوُ: العضْوُ، وحديثُه بطولهِ مذكور في ((صحيح البخاري)) و ((سنن أبي داود)) عن أبي هريرة. ألا ترى كيف أظهَر الإخلاصَ حتى علّق البركةَ بالمشيئة.

وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: المجاهدةُ صدقُ الافتقارِ، وهو انفصالُ العبدِ من نفسهِ واتصالُه بربه. وقال: من جاهَد بنفسِه لنفسِه وصلَ إلى كرامةِ ربه، ومن جاهد بنفسهِ لربِه وصل إلى ربه.

ص: 205

(لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) لنزيدنهم هدايةً إلى سبل الخير وتوفيقًا، كقوله تعالى:(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً)] محمد: 17 [، وعن أبى سليمان الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وعن بعضهم: من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم. وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم (لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) لناصرهم ومعينهم.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مَنْ عمِلَ بما يعلمُ وُفِّق لما لا يعلم) مثله قولهم: العلم علمان: علم وراثةٍ وعلمُ دراسة، العارفون صدقَتْ مجاهداتهم فنالوا علومَ الدراسة، العارفون صدقَتْ مجاهداتهم فنالوا علومَ الدراسة، وصفَتْ معاملتُهم فمُنحوا علم الوارثة.

قوله: ({لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} لَناصِرُهم ومعينهم)، أفادت النصرةَ المعيّةُ فطابق {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} لَناصِرُهم ومعينهم)، أفادت النصرةَ المعيّةُ فطابق {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. قوله:{جَاهَدُوا} لفظًا ومعنى، أما اللفظ فمن حيث الإطلاق، وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى معين وناصر، ثم إن جملة قوله:{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} تذييلٌ للآية مؤكَّدٌ بكلمَتي التوكيد، محكيٌّ باسم الذات؛ ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشرهِ في ذاته تجلَّى له الربُّ عن اسمهِ باسمهِ الجامع في صفةِ النصرة والإعانةِ تجليًّا تامًّا.

هذه خاتمةٌ شريفةٌ للسورة؛ لأنها مجاوبةٌ لمُفتتَحِها ناظرةٌ إلى فريدةِ قلادتِها {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} لامحةٌ إلى واسطةِ عِقْدِها {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} ، وهي في نفسها جامعة فاذة، ولهذا قال: ليتناولَ كل ما يجبُ مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء والشيطانِ وأعداءِ الدين.

تمت السورة، حامدًا لله ومُصَلِّيًا ومسلِّمًا

ص: 206

‌سورة الروم

مكية، وآياتها ستون

بسم الله الرحمن الرحيم

[(الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)] 1 - 5 [

القراءة المشهورة الكثيرة: (غُلِبَتِ) بضم الغين، و (سيغلبون) بفتح الياء. والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. أو: أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أى: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال مجاهد: هي أرض الجزيرة، وهي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورةُ الرُّوم

مكِّيّةٌ، وآياتُها ستُّون

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (في أَدنى أرضِ العربِ منهم)((منهم)) متعلِّق بـ ((أدنى))، والضَّميرُ للرُّوم.

قوله: (على إنابة اللاَّم مَنابَ المضافِ إليه) فعَلى هذا: الأرضُ أرضُ الرُّوم، وإنّما نَسَب الأدنى إلى عدوِّهم في هذا الوجه؛ لأنَّ ((أدنى)) من الأمور النِّسبية، فإذا لم يُرد بها أرضَ العرب لابدَّ مِن أرضٍ أخرى، وليست إلا أرضَ عدوِّهم، وهو فارسُ، والقرينةُ {غُلِبَتِ} .

ص: 207

أدنى أرض الروم إلى فارس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الأردن وفلسطين. وقرئ: (في أدانى الأرض)، والبضع ما بين الثلاث إلى العشر. عن الأصمعى. وقيل: احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى، فغلبت فارس الروم، فبلغ الخبر مكة فشق على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لأن فارس مجوس لا كتاب لهم، والروم أهل الكتاب، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنّ نحن عليكم، فنزلت. فقال لهم أبو بكر رضى الله عنه: لا يقرّر الله أعينكم، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبى بن خلف: كذبت يا أبا فصيل، اجعل بيننا أجلًا أنا حبك عليه. والمناحبة: المراهنة، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل. فجعلاها مائة قلوٍص إلى تسع سنين. ومات أبىّ من جرح رسول الله، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبى، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تصدّق به. وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يا أبا فَصيل) بالفاءِ والصادِ المُهْمَلة، أكثرُ ما يُطلق ((فَصيل)) في الإبل ((فَعيل)) بمعنى مفعول، وهو ولدُ الناقةِ إذا فُصِل عن أمِّه، ولم تسمع هذه الكنية فيه رضي الله عنه لا في الجاهلية ولا في الإسلام. ولعل هذا القائل ذهب إلى أنَّ ((أبا بَكَرٍ)) بالفتح في ((أبي بَكْر)) هو الفَتِيُّ من الإبل، بمنزلةِ الغلامِ من الإنسان، فوُضِع موضعَه الفَصِيل تلميحًا، والله أعلم.

قوله: (ومادَّه في الأَجَل)، النهاية: المُدَّة: طائفةٌ مِن الزَّمانِ تقعُ على القليل والكثير، ومادَّ فيها، أي: أطالَها، وهي فاعَل من المدِّ، ومنه الحديث:((إن شاؤوا مادَدْناهم)).

ص: 208

على صحة النبوّة، وأن القرآن من عند الله؛ لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وقرئ:(غلبهم) بسكون اللام. والغلب والغلب مصدران كالجلب والجلب، والحلب والحلب. وقرئ:(غلبت الروم) بالفتح، وسيغلبون، بالضم. ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون في بضع سنين. وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم، وإضافة (غلبهم) تختلف باختلاف القراءتين، فهي في إحداهما إضافة المصدر إلى المفعول. وفي الثانية إضافته إلى الفاعل. ومثالها:(مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ)] البقرة: 85 [، (وَلَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ)] الحج: 47 [. فإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: ((غَلَبَتِ الرُّومُ)) بالفتح)، روى الترِّمذيُّ، عن أبي سعيد: لما كان يومُ بدرِ ظهرت الرُّوم على فارسَ، فأعجب ذلك [المؤمنين] فنزل:{أَلَم*غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ} قال: ففرح المؤمنون بظُهور الرُّوم على فارسَ.

قال التَّرمذيُّ: وهكذا قرأَ نصرُ بن عليٍّ: ((غَلَبَت)). قال الزَّجاج: قرأ أبو عمرو وحدَه: ((غَلبت الرُّوم)) بفتح الغين، والمعنى على {غُلِبَتِ} ، وهي إجماع القرّاء، وذلك أن فارسَ كانت قد غلبتِ الرُّومَ في ذلك الوقت، فالرُّوم مغلوبة، فالقراءة {غُلِبَتِ} .

وقلت: التِّرمذيُّ من الثقات، والتَّوفيقُ بين الرِّوايتينِ أن يُقالَ: إنها نزلت مرَّتين، مرةً في مكَةّ؛ {غُلِبَتِ} بالضِّم، وأخرى يومَ بدرٍ؛ بالفتح.

وتأويل الفتح ما ذَكَره المصنِّف أن الرُّومَ غَلبوا على رِيف الشّام، وسَيغلبهم المؤمنون في بضع سنين. والرِّيف: أرضٌ فيها زَرعٌ وخَصْب.

ص: 209

قلت: كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ قلت: عن قتادة رحمه الله تعالى أنه كان ذلك قبل تحريم القمار. ومن مذهب أبى حنيفة ومحمد: أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار. وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر بينه وبين أبىّ بن خلف.

(مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أى: في أوّل الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين، وهو وقت كونهم مغلوبين. ومن بعد كونهم مغلوبين. وهو وقت كونهم غالبين، يعنى: أن كونهم مغلوبين أوّلًا وغالبين آخرًا ليس إلا بأمر الله وقضائه، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)] آل عمران: 140 [وقرئ: (من قبل ومن بعد) على الجرّ من غير تقدير مضاٍف إليه واقتطاعه. كأنه قيل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مِنْ قَبْلِ كَوْنهم غالبينَ)، وهو وقتُ كَونِهم مغلوبينَ ومِن بَعْدِ كونِهم مغلوبين، وهو وقتُ كونِهم غالبين؛ وذلك أنَّ كلاًّ مِن الوقتين، أَعني: وقتَ كَوْنِهم مغلوبين ووَقْتَ كَونِهم غالبين بالنِّسبة إلى الآخَرِ له اعتبارُ القَبْليَّةِ والبَعْديَّة، فأنَّ الرُّومَ كانوا في أوَّل الأمرِ مغلوبينَ، وفي ثاني الحالِ صاروا غالبينَ، فكَونهم مغلوبينَ قبلَ كونِهم غالبينَ، وكونهم غالبينَ بعدَ كونِهم مغلوبينَ، وذلك أن ((قَبْل)) و ((بَعْد)) من الغايات، فلا بدَّ من تقدير المضافِ إليه.

قوله: (وقرئ: ((مِنْ قَبْلِ ومِنْ بَعْدِ)) على الجرّ)، قال الزَّجاجُ:((إنهم يُجيزون بالتَّنوين، وبعضُهم بغير التَّنوين، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ ((قَبْل)) و ((بَعْد)) أصلُهما هاهنا الخفضُ، ولكن بُنِيَتا على الضمِّ؛ لأنَّهما غايتانِ، ومعنى الغايةِ أنَّ الكلمةَ حُذفت منها الإضافة وجُعلت غايةُ الكَلِمة ما بقيَ بعدَ الحَذْف، وإنما بُنِيَتا على الضَّمِّ؛ لأنَّ إعرابَهما في الإضافة النَّصْبُ والخفضُ ولا يُرفعان؛ لأنهما لا يُحدَّث عنهما، استُعملا ظرفَينْ، فلما عُدِلا عن بابهما حُرِّكا

ص: 210

قبلًا وبعدًا، بمعنى أوّلًا وآخرًا، وَ (يَوْمَئِذٍ) ويوم تغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله عز وجل من غلبتهم (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له. وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم، وقيل: نصر الله أنه ولى بعض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بغير الحَركتين اللَّتينِ كنتا له يَدخلانِ بحقِّ الإعراب، وأما وجوبُ بنائهما وذهاب وإعرابهما فلأنَّهما عُرِّفا من غير جهةِ التَّعريف؛ لأنه حُذف منهما ما أُضيفتا إليه.

وأما الخفضُ والتنوينُ فعلى جَعْلهما نَكرتَينِ، المعنى: للهِ الأمرُ مِنْ تَقَدُّمٍ ومِنْ تأخُّرٍ.

وأما الكسر بلا تنوين، فذَكر الفرّاءُ أنه تُرك على ما كان عند الإضافة، واحتَجَّ بقوله:

بين ذِراعَيْ وجبهَة الأسدِ

وليس هذا القولُ مما يُعرَّج إليه؛ لأنَّ ذِكْرَ المضافِ إليه في البيت يَدلُّ على الآخَر.

وقال مكيُّ: ((قبلُ)) و ((بعدُ)) بُنِيا؛ لأنَّهما تَعرَّفا بغير ما تتعرَّفُ به الأسماءُ؛ لأنَّ الأسماءَ تتعرف بالألفِ واللاّمِ، وبالإضافة إلى المعرفة، وبالإضمار ونحوها، وليس في ((قبل)) و ((بعد)) شيءٌ من ذلك، فلما تَعرَّفا بخلاف ما تتعرَّف به الأسماءُ- وهو حَذفُ ما أُضِيفَ إليهما- خالفا الأسماءَ وشابَها الحروفَ، فبُنِيَتا كما تُبنى الحروفُ، وإنّما بُنِيَتا على الضمِّ لمُشابهتِهِما المنادى المفرد، إذِ المُنادى يُعرب إذا أضيف.

وقال بعضُهم: إنَّما بُنِيَا؛ لأنَّهما تعلَّقا بما بعدَهما فأَشْبَها الحروفَ إذ الحروفُ مُتعلِّقة بغيرها.

ص: 211

الظالمين بعضًا وفرق بين كلمهم، حتى تفانوا وتناقصوا، وفل هؤلاء شوكة هؤلاء؛ وفي ذلك قوّة للإسلام. وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه: وافق ذلك يوم بدر، وفي هذا اليوم نصر المؤمنون، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ينصر عليكم تارةً وينصركم أخرى.

[(وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)] 6 - 7 [

(وَعْدَ الله) مصدر مؤكد، كقولك: لك علىّ ألف درهم عرفًا: لأنّ معناه: أعترف لك بها اعترافًا، ووعد الله ذلك وعدًا؛ لأنّ ما سبقه في معنى (وعد). ذمّهم الله عز وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا، بله في أمر الدين، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجاراٍت ومكاسب. وعن الحسن: بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بإصبعه، فيعلم أرديء هو أم جيد. وقوله:(يَعْلَمُونَ) بدل من قوله: (لا يَعْلَمُونَ) وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي هذا الإبدالِ من النُّكتة) إلى آخره، إرشادٌ إلى طريق استنباط المعاني الفائقةِ منَ العُدول عن مقتضى الظاهرِ واجتِنَاءِ ثمراتِ المَزايا من فُنون الكِناياتِ، وذلك أنَّ الأصلَ: ولكنّ أكثر الناس يعلمون ظاهرَ ما يتعيَّشون به في الدُّنيا من التِّجارات والمكاسب، ولا يعلمون باطِنَها من تجاراتِ الآخرةِ والفوزِ بالفلاح، فوُضِع {لَا يَعْلَمُونَ} - هو مطلَقٌ، فيُفيد سَلْبَ العلم رأسًا- موضِعَ {يَعْلَمُونَ} ، ونُكِّر {ظَاهِرًا} ووُضِع موضِعَ {لَا يَعْلَمُونَ} بإظهارِ قوله:{وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ؛ ليُفيدَ تلك الفوائدَ.

وقلت: الَاوْلى أن يُقالَ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ ((وَعْدَ الله حقٌ))، وأنَّ ((لله

ص: 212

لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله:(ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة: يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. وفي تنكير الظاهر: أنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا واحدًا من جملة ظواهرها. و (هم) الثانية يجوز أن يكون مبتدأ. و (غافِلُونَ) خبره، والجملة خبر (هم) الأولى، وأن يكون تكريرًا للأولى، و (غافلون) خبر الأولى. وأية كانت فذكرها مناٍد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأمرَ من قبلُ ومن بعدُ))، وأنَّه ينصرُ المؤمنينَ على الكافرين، ويَقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فيَدمغُه؛ ليكونَ الدِّينُ كلُّه لله؛ لأنَّهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدُّنيا كما قالوا:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]، وهم عن أسرار الله- من أنَّه تعالى ما خَلَق الخلقَ للَّهوِ واللَّعِبِ، بل خَلَقهم لِيَعرفُوه ويعبدُوه ويتزوَّدوا لدارِ القرارِ- غافلون كما قال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]. ومِنْ ثَمَّ أَتبَع ذلك بقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الروم: 8] وخَتَمه بقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} والنّاسُ النّاسُ، فعلى هذا {يَعْلَمُونَ} الجملة استئنافيةٌ لبيانِ مُوجِب جَهْلِهم بوَعْد الله، واللهُ أعلم.

قوله: (ومَعلَمها)، الأساس: يقول: هو مَعلَمُ الخيرِ، مِنْ مَعالِمِه؛ أي: من مَظانِّه، وخَفِيت معالمُ الطريقِ؛ أي: آثارُها.

قوله: (وأنَّها منهم تَنْبعُ وإليهم ترجعُ)، أي: مصدرُها عنهم ومَورِدُها إليهم، وذلك أن ((هم)) الأوَّلَ دلَّ على الاختصاص؛ أي: هم الغافلون لا غيرهم، والثاني على التأكيدِ؛ أي:

ص: 213

[(أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ)] 8 [

(فِي أَنْفُسِهِمْ) يحتمل أن يكون ظرفًا، كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أى: في قلوبهم الفارغة من الفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك، وأن يكون صلة للتفكر، كقولك: تفكر في الأمر وأجال فيه فكره. و (ما خَلَقَ) متعلق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل: معناه: فيعلموا، لأنّ في الكلام دليلًا عليه، (إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أى: ما خلقها باطلًا وعبثًا بغير غرٍض صحيٍح وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة: وإنما خلقها مقرونةً بالحق مصحوبة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هم الذين استقرَّ وثبتَ فيهم الغَفْلةُ بالتَّحقيق، فبالاعتبار الأوَّل يُعلمُ أنَّ ليس للغَفْلة محلٌّ سِواهم، وأنها إليهم ترجعُ، وبالثاني تحقَّق أنهم مَعْدِن الغَفْلة ومَعْلَمُها ومَقَرُّها، ومنهم تَنبعُ.

قوله: (وقيل: معناه: فيَعلموا، لأنّ في الكلام دليلاً عليه)، أي: على تقدير (فيَعلَموا)؛ لأنَّ العلمَ نتيجةُ الفِكْرِ.

قوله: (بغير غَرَضٍ صحيحٍ)، مذهبُه، جَعَلَ الحقَّ في مقابل الباطِل، وفسَّره بالعَبَث، والعبثُ: أن لا يكونَ في الخَلْق فائدةٌ، ولمّا عُلم أنَّ الفائدةَ غيرُ راجعةٍ إلى الله بل إلى المكلَّفين، يجبُ أن يُقالَ: ما خَلَقها إلاّ بأنْ تكونَ مساكنَ المكلَّفين ومسارحَ نَظَرِ المتفكِّرين؛ ليعرفُوه فيعبُدوه. فلا يُقالُ: لغرض صحيح؛ لئلاّ يُوهم النُّقصان.

قوله: (ولا لتبقى خالدة وإنَّما خَلَقها مقرونةً بالحقِّ) إلى آخره، مَشعرٌ بأنَّ قولَه:{وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} عطفٌ تفسيريٌّ على قوله: {بِالحَقِّ} ، ولذلك استَشهد بقوله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وذلك أنَّ هذا في حقِّ مُنكِري البعثِ، بدليل تَعْقيبه بقوله:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} تقريعًا وتوبيخًا.

ص: 214

بالحكمة، وبتقدير أجٍل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله تعالى:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)] المؤمنون: 115 [كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثًا. والباء في قوله: (إِلَّا بِالْحَقِّ) مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، فإن قلت: إذا جعلت (فِي أَنْفُسِهِمْ) صلة للتفكر، فما معناه؟ قلت: معناه: أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فيتدبروا ما أودعها الله ظاهرًا وباطنًا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بد لها من انتهاٍء إلى وقٍت يجازيها فيه الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانًا وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك؛ أمرها جاٍر على الحكمة والتدبير، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى.

[(أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)] 9 [

(أَوَ لَمْ يَسِيرُوا) تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاٍد وثمود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (حتى يَعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخَلائق كذلك) قال القاضي: لأنَّ نَفْسَ الإنسان مرآةٌ يتجَلّى للمُستَبصِر فيها ما يَتجلّى له في المُمْكِنات بأسرها، فإذا تفكَّر فيها تحقَّق له قُدرةُ مُبدِعِها على إعادتها كما أَبدأَها.

ص: 215

وغيرهم من الأمم العاتية، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) وحرثوها قال الله تعالى:(لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ)] البقرة: 71 [، وقيل لبقر الحرث: المثيرة. وقالوا: سمى ثورًا لإثارته الأرض. وبقرة؛ لأنها تبقرها؛ أى تشقها، (وَعَمَرُوها) يعنى أولئك المدمّرون (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) من عمارة أهل مكة، وأهل مكة: أهل واٍد غير ذى زرع، ما لهم إثارة أرٍض أصلًا ولا عمارة لها رأسًا فما هو إلا تهكم بهم، وبضعف حالهم في دنياهم؛ لأنّ معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة، وهم أيضًا ضعاف القوى، فقوله: (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أى: من عاٍد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل، كقوله: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)] فصلت: 15 [وإن كان هذا أبلغ؛ لأنه خالق القوى والقدر. فما كان تدميره إياهم ظلمًا لهم، لأنّ حاله منافية للظلم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم.

[(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ الله وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)] 10]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من هذا القبيل) خبرٌ لقولِه: ((فقوله وقوله))؛ أي: أراد بقوله: ((من هذا القَبِيل)) قَبِيلَ التَّهكُّم في قوله: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} يريد أنه كما أسنَدَ العِمَارةَ إلى أهل مكّةَ وهم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرعٍ تهكُّمًا بهم. كذلك نَسَب إليهم القُوَّةَ في قوله: {أَشَدَّ مِنْهُمْ} حيث شارَكَهم مع عادٍ وثمودَ في القوَّة وهم ضِعافُ القُوى تَهكُّمًا، وعلى التَّهكُّم وَرَد قولُه تعالى:{وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فُصِّلَت: 15]، وإن كان هذا في التَّهكُّم أبلغ؛ لأنَّه لا يُتصوَّر التَّفاوُتُ بينَ البَشَرِ في القوَّةِ.

قال صاحبُ: ((الفرائد)): يُمكن أن يكونَ المرادُ من العِمارةِ الأَبنيةَ من الدُّور والقُصور والحُصون، فعلى هذا لم يكن تَهكُّمًا.

قلت: أين يذهب عليه قولُه تعالى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} .

ص: 216

قرئ (عاقبة) بالنصب والرفع. و (السُّواى) تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن. والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كانت عاقبتهم السوأى؛ إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أى: العقوبة التي هي أسوأ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: {عَاقِبَةَ} بالنَّصب والرفع) نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمروٍ: بالرفع، والباقون: بالنَّصب.

قوله: (ثم كانت عاقبتُهم السُّوأى) تقريرٌ لقراءة الرَّفعِ، ووُضع {الَّذِينَ أَسَاءُوا} موضعَ الضَّمير لبيان العلَّة، ثم أُضِيف إليه اسمُ {كَانَ} ، والخبرُ)) السوأي ((، وكذا على الوجه الثاني، لكنَّ {السُّوَأي} داخلٌ في حيِّز الصِّلةِ، والخبرُ مقدَّرٌ، ولم يَذكر وَجْهَ قراءة النَّصب.

قال أبو البقاء: مَن نَصَب {الْعاقِبَةَ} جعلها خبرَ ((كان))، والاسمُ {السُّوأَى} أو {أَن كَذَّبُوا} . ويجوز أن يكون {أَن كَذَّبُوا} بَدَلاً من {السُّوأَى} أو خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، و {السُّوأَى} فُعلى؛ تأنيث الأَسوأ، صفة مصدرٍ محذوفٍ؛ أي:((أساؤوا الإساءةَ السُّوأي))، وإن جعلتَها اسمًا أو خبرًا كان التقديرُ:((العقوبة السّوأي))؛ أي: الفعلة السُّوأي.

قال صاحب ((الفرائد)): على تقدير قراءةِ النَّصب هو الخبرُ، والاسمُ {أَن كَذَّبُوا} المعنى: كان عاقبةُ الذين فَعَلُوا الفِعْلةَ السَّوأي؛ أي: التَّكذيب؛ أي: لقّاهم شؤم أفعالهم في الكُفر؛ كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ} [التوبة: 77]، فعلى هذا ليس المُظْهَرُ واقعًا مَوقِعَ المُضمَرِ، بل هو كلامٌ يَدخل فيه المَذكورون.

وقلت: لا بدَّ منَ القولِ بوضع المُظْهَرِ موضعَ المُضمَرِ؛ لأنَّ {ثُمَّ} هاهنا للاستبعاد؛

ص: 217

العقوبات في الآخرة، وهي جهنم التي أعدّت للكافرين. و (أَنْ كَذَّبُوا) بمعنى: لأن كذبوا، ويجوز أن تكون (أن) بمعنى: أى؛ لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء؛ كانت في معنى القول، نحو: نادى. وكتب، وما أشبه ذلك. ووجه آخر: وهو أن يكون (أَساؤُا السُّواى) بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا، و (أَنْ كَذَّبُوا) عطف بياٍن لها، وخبر (كان) محذوف كما يحذف جواب (لما) و (لو)؛ إرادة الإبهام.

[(الله يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)] 11 [

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أى: إلى ثوابه وعقابه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] يعني: أيقظناهم من غَفْلتهم بقولنا: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ودَلَلْناهم على طريق الإيقاظ.

والعِبْرةُ بقولنا: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ؛ لِيُقلعوا عمّا كانوا عليه منَ العِنَاد والتَّكذيب، ثمَّ بعدَ ذلك لم يكن عاقبتُهم إلاّ الفَعْلةَ السَّوأي والتَّكذيب، والله أعلم.

قال القاضي: وُضِع الظّاهرُ مَوضِعَ المُضمَر للدَّلالة على أنَّ ما اقتَضى أن تكونَ تلك عاقبتَهم هو أفعالُهم السّوأي، بمعنى اقتَرفوا الخطيئةَ.

فعلى هذا: الإساءةُ أعمُّ من أن تكون قوليةً أو فعليةً، وعلى أن تكون ((أن)) مفسِّرة يجب أن تكونَ قوليَّةً لا فعليةً؛ ليصحَّ جَعْلُها بمعنى القولِ، وإليه الإشارةُ بقوله:((تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء)).

ص: 218

وقرئ بالتاء والياء.

[(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ)] 12 - 13 [

الإبلاس: أى يبقى بائسًا ساكنًا متحيرًا. يقال: ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتجّ. ومنه الناقة المبلاس التي لا ترغو. وقرئ "يبلس" بفتح اللام، من أبلسه إذا أسكته، (مِنْ شُرَكائِهِمْ) من الذين عبدوهم من دون الله (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أى: يكفرون بإلهيتهم ويجحدونها. أو: وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ بالياء والتاء) أي: {تُرْجَعُونَ} ، قرأ أبو بكر وأبو عمروٍ: بالياء التَّحتانية، والباقون: بالتاء.

اعلَمْ أنَّه تعالى لمّا استَبعدَ فِعْلتَهم السوأي جاء بالوعيد والتَّهديد، يعني: لا بدَّ من الرُّجوع إلى القادر العظيمِ الشأنِ الذي بدأَ خَلقَكُم ثم يُعيدكم، فعند ذلك لا مجالَ للتَّكذيب، بل تَبْقون آيسِينَ ساكتينَ متحيِّرين، فوَضَعَ المجرمين في قوله:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} موضعَ الضَّميرِ، يدلُّ عليه قولُه تعالى:{وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} .

قوله: (وقرئ ((يَبْلَسُ)) بفتح اللام)، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ ((أَبْلَسَ)) لا يُستعمل متعدِّيًا، ومخرجه أن يكونَ أقام المصدرَ مقامَ الفاعِلِ وحَذَفه، وأقام المضافَ إليه مقامَه؛ أي:((يُبْلس إبلاسَ المجرمين)).

ص: 219

وكتب (شفعواء) في المصحف بواٍو قبل الألف، كما كتب (علمؤا بنى إسرائيل)] الشعراء: 197 [، وكذلك كتبت (السوأى) بألٍف قبل الياء؛ إثباتًا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.

[(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)] 14 - 16 [

الضمير في (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) للمسلمين والكافرين، لدلالة ما بعده عليه. وعن الحسن رضى الله عنه: هو تفرّق المسلمين والكافرين: هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين. وعن قتادة رضى الله عنه: فرقة لا اجتماع بعدها، (فِي رَوْضَةٍ) في بستان، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب: كل أرٍض ذات نباٍت وماء. وفي أمثالهم: أحسن من بيضةٍ في روضة، يريدون: بيضة النعامة. (يُحْبَرُونَ) يسرون. يقال: حبره؛ إذا سرّه سرورًا تهلل له وجهه، وظهر فيه أثره، ثم اختلفت فيه الأقاويل؛ لاحتماله وجوه جميع المسارّ؛ فعن مجاهد رضي الله عنه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكتب {شُفَعَاءُ} في المصحف بواوٍ قَبْل الألفِ

، و {السُّوأَى} بألفٍ قَبل الياء؛ إثباتًا للهمزة على صُورة الحرف الذي منه حركتُها) قال صاحب ((التقريب)): وفيه نظرٌ، إذِ الثانيةُ لا تختصُّ بالمصحفِ، بل هو قياس الخطِّ، وذلك العذرُ لا يستمرُّ في الأُولى، إذ مُقتضاه تأخيرُ الواو عن ألف {شُفَعَاءُ} .

قوله: (تَهلَّل له وجهُه وظَهر فيه أثرُه)، الراغب: الحِبْرُ: الأثرُ المُستَحسَن، ومنه ما روى:((يَخرجَ مِن النّارِ رَجُلٌ ذهبَ جِبْرُه وسِبْرُه))؛ أي: جمالُه وبهاؤه. ومنه سمِّي الحَبُرْ، وشاعر

ص: 220

يكرمون، وعن قتادة: ينعمون. وعن ابن كيسان: يحلون وعن أبى بكر بن عياش: التيجان على رءوسهم. وعن وكيع: السماع في الجنة. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم، وفي آخر القوم أعرابىّ فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟ قال:«نعم يا أعرابى، إنّ في الجنة لنهرًا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية، يتغنين بأصواٍت لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك أفضل نعيم الجنة» . قال الراوي: فسألت أبا الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروى: «إنّ في الجنة لأشجارًا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحًا من تحت العرش؛ فتقع في تلك الأشجار، فتحرّك تلك الأجراس بأصواٍت لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربًا» ، (مُحْضَرُونَ) لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم، كقوله:(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها)] المائدة: 37 [، (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ)] الزخرف: 75 [.

[(فَسُبْحانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)] 17 - 19 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محبِّر، وشعر مُحبَّر، وثوبٌ حَبِير محسَّنٌ، والحَبْر: العالم؛ لما يبقى من أثر علومهم في قلوب الناس، ومن آثار أفعالهِم الحَسَنةِ المقتدى بها، وإليه أشار عليٌّ رضي الله عنه بقوله: العلماءُ باقون ما بقيَ الدهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ، وآثارُهم في القلوب موجودةٌ. وقولُه تعالى:{فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي: يفرحون حتّى يظهر عليهم حَبارُ نَعِيمِهم.

قوله: (من كل بيضاء خُوْصانيةٍ) مشابهةٌ بخُوص النَّخل؛ أي: وَرَقه في اللِّين والرِّقة، وقيل: رقيقه الخضر. الأساس: هَضبة خَوْصاء: مرتفعة.

ص: 221

لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجى من الوعيد، والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء، والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعمة الله الظاهرة. وقيل: الصلاة. وقيل لابن عباس رضى الله عنهما: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية. (تُمْسُونَ) صلاتا المغرب والعشاء، و (تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر، (وَعَشِيًّا) صلاة العصر. و (تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر. وقوله:(وَعَشِيًّا) متصل بقوله: (حِينَ تُمْسُونَ)، وقوله:(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراض بينهما. ومعناه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لما ذكر الوَعْدَ والوَعِيدَ أتبعَه ذِكْرَ ما يُوصِل إلى الوَعْد ويُنجِّي منَ الوعيدِ) بيانٌ لاتصال {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} الآية بالآياتِ السابقة.

وفيه أنَّ الفاءَ فيه جزاءُ شرطٍ محذوفٍ، وأنَّ قولَه:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} تفصيلٌ لما أجملَ في قوله تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: إذا كان الأمر كما تقرَّر فاستعدُّوا لما تَسعَدوا به في ذلك اليوم وتَفُوزوا برَوْضات الجِنَانِ، وبما تتخلّصوا به من الشَّقاوة الأبديَّةِ والحُضورِ في دَرَكاتِ النِّيرانِ، وهو استغراقُ الأوقاتِ في ذِكْر الله وطاعاتِه التي أوجَبَها عليكم، وفي النِّداء على الجميل لما أَوْلَيناكم من نعمة الإرشاد إلى الفلاح والنَّجاة.

ثم بيَّن على طريق الاستئناف مُوجِبَ التَّسبيح والتّحميد لله عز وجل بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} إلى آخر الآيات الدّالَّةِ على الفَرْدانيَّة، وعلى اختصاصِه بالعُبوديَّة؛ أي: اعبُدوه واحمَدُوه؛ لأنَّه يُحيي ويُميت، وله الآياتُ الباهرةُ المتظاهرةُ، فظهَر من هذا البيانِ أنَّ المصدرَ أُنيب مَنابَ الأمرِ، ورَجَح به تأويلُ حَبْر الأُمَّة رضي الله عنه من إيجاب الصَّلواتِ الخمسِ بإشارة النَّصِّ، والله أعلم.

ص: 222

إنّ على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه. فإن قلت: لم ذهب الحسن رحمه الله إلى أنّ هذه الآية مدنية؟ قلت: لأنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة، وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقٍت معلوم. والقول الأكثر: أنّ الخمس إنما فرضت بمكة. وعن عائشة رضى الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) الآية. وعنه عليه السلام: «من قال حين يصبح (فَسُبْحانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إن على المميِّزين كلِّهم من أهل السَّماوات والأرضِ أن يَحمَدُوه) فيه معنى الوُجوب، وذلك أنَّ الاعتراضَ تأكيدٌ لمعنى المعتَرض فيه، ولما دلَّ ذلك على وُجوب الصَّلوات على المميِّزين لقول ابن عباس، كان التأكيدُ مِثْلَ المؤكَّد، وكما أن يعبَّر عن الصَّلاة بالتَّسبيح لأنها مشتملةٌ عليه، جاز أن يُعبَّر عنها بالتَّحميد لذلك.

قوله: (أنّ الخَمْسَ إنّما فُرضت بمكَّةَ) وهو الصَّحيحُ لحديث المِعْراج، مُراجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع موسى عليه سلام على ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ والنسائيُّ، عن أنسٍ في آخِره:((يا محمدٌ، إنَّهنَّ خَمسُ صَلَواتٍ كلَّ يومٍ وليلَةٍ)) الحديثَ.

قوله: (فُرضتِ الصَّلاةث ركعتَين) روينا عن البخاريِّ ومسلمٍ ومالكٍ وأبي داودَ والنسائيِّ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فَرضَ اللهُ الصَّلاةَ حينَ فَرضَها رَكعتينِ ركعتين في الحَضَر والسَّفرِ، فأُقِرَّت صلاةُ السَّفرِ، وزِيدَ في صلاةِ الحَضَرِ.

وفي أخرى قالت: فُرضتِ الصَّلاةُ رَكعتينِ، ثمَّ هاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَفُرضت أربعًا، وتُرِكَت صَلاةُ السَّفرِ على الفَريضة الأُولى.

قولُه: (من قال حين يُصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الحديثَ بتمامِه أخرجَه

ص: 223

إلى قوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسى أدرك ما فاته في ليلته، وفي قراءة عكرمة:(حينا تمسون وحينا تصبحون)، والمعنى: تمسون فيه وتصبحون فيه، كقوله:(يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)] البقرة: 48 [بمعنى: فيه، (الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الطائر من البيضة، و (الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): البيضة من الطائر. وإحياء الأرض: إخراج النبات منها (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون. والمعنى: أنّ الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس؛ من إخراج الميت من الحىّ وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي.

وقرئ: (الميت) بالتشديد، و (تخرجون) بفتح التاء.

[(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)] 20 - 21 [

(خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبو داودَ عن ابن عبّاسٍ.

قوله: (وقرئ: {الْمَيِّتِ} بالتَّشديد) نافعٌ وحفصٌ وحمزةُ والكسائيُّ، و ((تَخْرُجون)) بفتح التاء: حمزة والكسائي.

ص: 224

لأنه خلق أصلهم منه. و (إِذا) للمفاجأة. وتقديره: ثم فاجأتم وقت كونكم بشرًا منتشرين في الأرض. كقوله: (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً)] النساء: 1 [، (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)؛ لأن حوّاء خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال، أو من شكل أنفسكم وجنسها، لا من جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر، (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) التوادّ والتراحم بعصمة الزواج، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، ولا لقاء، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم. وعن الحسن رضى الله عنه: المودة كناية عن الجماع، والرحمة عن الولد، كما قال: (وَرَحْمَةً مِنَّا)] مريم: 21 [، وقال: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ)] مريم: 2 [. ويقال: سكن إليه، إذا مال إليه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنَّه خَلَق أصلَهم منه)، أي: إنَّما صحَّ الخطابُ للخَلْق بقوله: {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} لذلك، والمعنى: خَلَق أصلَكم من تُرابٍ ليتَّصلَ به قولُه:

{ثُمَّ} ؛ أي: ثُمَّ فاجأتُم وقتَ كونِكُم بَشَرًا، و {ثُمَّ} للتَّرَاخي في الرُّتبة لا في الزَّمان، فإنَّ المفاجأةَ تدفعُه.

قوله: (كقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]) وَجهُ التَّشبيه أنَّ قولَه: {أَنتُم} مبتدأٌ، و {بَشَرٌ} جنسٌ وقع خبرًا له، و {تَنتَشِرُونَ} صفةٌ لـ {بَشَر} ، فـ {بَشَرٌ} مِثلَ قولِه:{رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، و {تَنتَشِرُونَ} مثل قوله:{وَبَثَّ مِنْهُمَا} [النساء: 1].

قال صاحب ((المطلع)): ثم إذا أنتُم خلقٌ كثيرٌ من لحمٍ ودَمٍ تَنبسطونَ في الأرضِ.

قوله: (كما قال: {وَرَحْمَةً مِّنَّا})، أي: في قوله تعالى: {لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً} [مريم: 21]، والمراد بالرَّحمة: عيسى عليه السلام.

قوله: ({ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ} [مريم: 2] وتقريرُه: أنَّ {ذِكْرُ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وهو مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، و {عَبْدَهُ} مفعولُ {رَحْمَتِ} و {} بَدَلٌ مِنْ {عَبْدَهُ} ، و {إِذْ نَادَى} ظرفٌ لـ {رَحْمَتِ} أو لـ {ذِكْرُ}؛ أي: هذا إنَّ ذِكْرَ ربِّك رحمتَه

ص: 225

كقولهم: انقطع إليه، واطمأن إليه، ومنه السكن. وهو الإلف المسكون إليه. فعل بمعنى مفعول. وقيل: إن المودة والرحمة من قبل الله، وإن الفرك من قبل الشيطان.

[(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ)] 22 [

الألسنة: اللغات، أو أجناس النطق وأشكاله. خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همٍس واحد، ولا جهارة، ولا حدّة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت، وكانت ضربًا واحدًا لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحلىّ؛ وفي ذلك آية بينة؛ حيث ولدوا من أٍب واحد، وفرّعوا من أصٍل فذ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لعَبدِه زكريا وَقْتَ طَلَبَه الولدَمن ربِّه. هذا يُفهم من تقديرِ أبي البقاء، فعلى هذا: الرحمةُ هي الولدُ.

قوله: (وإنَّ الفِرْكَ من قِبَل الشَّيطانِ) الفِرْك: بُغْضُ أحدِ الزَّوجين للآخَر.

قوله: (فيَعْروك الخطأُ في التَّمييز بينهما) أي: يُغشيك. الجوهريُّ: عَراني هذا الأمرُ واعتَراني: إذا غَشِيكَ.

ص: 226

وقرئ: (للعالمين) بفتح اللام وكسرها، ويشهد للكسر قوله تعالى:(وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)] العنكبوت: 43 [.

[(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)] 23 [

هذا من باب اللفّ، وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين. لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيٍء واحد، مع إعانة اللفّ على الاتحاد. ويجوز أن يراد:(منامكم) في الزمانين، (وابتغاءكم) فيهما،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: {لِّلْعَالِمِينَ} بفَتْح اللاّمِ وكَسْرها) بالكسر: حفصٌ وحدَه، والباقون: بفتحها.

قوله: (فَصَلَ بينَ القرينَينِ الأوَّلَين) أي: {مَنَامُكُم} و {وَابْتِغَاؤُكُم} (بالقرينَين الآخِرَينِ) أي: {اللَّيْلِ} و {النَّهَارِ} . وإنّما جاز ذلك؛ لأنَّ الليلَ والنهارَ ظرفانِ، والوقعان فيهما المنامُ والابتغاءُ، والظرفُ والمظروف كشيء واحدٍ، فلا فَصْلَ بالأجنبيِّ.

ومعنى قولِه: (مع إعانة اللَّفٍّ على الاتِّحادِ) هو أن اللَّف يُعين السامعَ على أن يَرُدَّ كلَّ واحد من القرينينِ إلى مآلهِ، ويَتَّحد به من النشر.

قوله: ({مَنَامُكُم} في الزَّمانينِ {وَابْتِغَاؤُكُم} فيهما) فعلى هذا: لا يكون من باب اللَّفِّ، بل من المُقابلةِ، فحذَفَ في إحدى المتقابلينِ ما يُقابل الآخَر لدلالةِ التَّقابُلِ، قال:

عجبتُ لهم إذ يَقتُلونَ نُفوسَهم

ومقتَلُهم عندَ الوَغى كانَ أعذَرا

ص: 227

والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن، وأسدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية.

[(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)] 24 [

في (يُرِيكُمُ) وجهان: إضماران، وإنزال الفعل منزلة المصدر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: يقتلون نفوسَهم عند السِّلم، فحُذف لدلالة الوَغَى في المشطور الثاني عليه.

قوله: (لتكرُّره في القرآن) نحو قولِه تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، وقولِه:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10، 11]، وغيرها.

قوله: (إضمارانِ، وإنزالُ الفعل منزلةَ المصدرِ) هو بيانٌ لقوله: ((وجهانِ))، أمّا قولُه:((وبهما فُسّر المَثَل: ((تَسْمعَ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أنْ تَراه))، وقول القائلِ))، فيَحتمل وجهَيْن:

أحدهما: أن يُرادَ اللَّفُّ والنَّشْرُ، وعليه ظاهرُ كلام صاحب ((اللُّباب))؛ حيث قال نحو:((تَسمعُ بالمُعيديِّ خيرٌ مِنْ أن تَراه)) محمولٌ على حذف ((أنْ)) مثلها في قوله:

ألا أَيّهذا اللاّئمِي أحضُرَ الوَغى

فيمَن روى مرفوعًا، أو على تنزيل الفعل منزلةَ المصدرِ، مثلُه في قوله:

وقالواما تشاءُ فقلتُ أَلْهُو

وثانيهما: أن يكونا مثالين، لكن البيت لا يساعد عليه على ما ذهب إليه الشارحُ.

ص: 228

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: ونحوُ ((تَسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أن تَراهُ)) محمولٌ على حذف ((أنْ))، أو على تنزيل الفعل منزلةَ المصدر، مِثْلُه في قوله:((وقالوا ما تشاء))، أي:((سماعُك بالمُعِيديِّ))، كما كان الفعلُ منزّلاً منزلةَ المصدرِ في قوله:((فقلت أَلْهُو)).

وثالثهما: أن يكونا مثالَيْن، لكن البيت لا يُساعِدُ عليه على ما ذهب إليه الشارح، قال:((وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه)) محمول على حذف ((أنْ)) أو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، أي: الفعل ((سماعك بالمعيدي))، كما كان الفعل منزلاً منزلة المصدر في قوله:((فقلت ألهو)) وهو متعيُنِّ فيه؛ لأنَّ معنى قوله: ((ما تشاء)): أيُّ شيءٍ تشاءُ، فهو سؤال عن مفردٍ؛ لأنَّ ((ما)) مفردٌ، وهو مفعول ((تشاء)) مقدَّمًا، فحقُّه أن يُجابَ بالمفرد، و ((أَلْهو)) جملة منزَّلةٌ منزِلةَ المفرد ليكونَ مطابقًا للمسؤولِ عنه.

فإن قلت: لو حُمل على حذف ((أنْ)) لكان أيضًا بتقدير مفردٍ، فَلِمَ لمْ يُحمل عليه؟

قلت: لأنَّ قولَه: ((ما تشاء)) سؤالٌ عمّا تشاؤه في الحال ظاهرٌ، كما إذا قلتَ: ما تريدُ؟ أي: الآنَ، فلو قُدِّر:((أن أَلْهُو)) لكان مستقبَلاً، فكأنَّه سأله عمّا يشاؤه في الحال، فأجابَه بما يشاؤه في المستقبل لا في الحال، فلا ظاهرًا، فلذلك حَملَه على المصدر بدون حذف ((أنْ))؛ لأنَّ ((أنْ)) عَلَمٌ للاستقبال، وفيه بحثٌ، وهو ما ذَكَره الإمامُ عند قوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قال: قال تعالى هاهنا: {أَن تَقُومَ} وقبلَه: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} ولم يقل: وأنْ يُريكم، وذلك أنَّ القيامَ لما كان غير مُتعيّن أخرجَ الفعل بـ ((أنْ)) وجَعل في تأويل المصدر ليدلَّ على الثُّبوت وإِراءَةُ البرقِ لما كانت من الأمورِ المتجَدّدة، لم يَذكر معها ما يدلُّ على المصدر.

ص: 229

وبهما فسر المثل: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". وقول القائل:

وقالوا ما تشاء فقلت ألهو

إلى الإصباح آثر ذى أثير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب ((الكَشف)): تقدير الآية: {وَمِنْ آيَاتِهِ} آيةُ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} ، فحَذف الموصوفَ وأقام الصفةَ مقامَه، وكان أبو عليٍّ يحملُها على حذف ((أنْ))؛ أي: ومِن آياتِه أنْ يُريكم البَرْقَ، كقوله:((أحضُرُ الوغي)) وأراد أن يأخذَ على أبي إسحاقَ حَذْفَ ((أنْ)) في قوله: ((أعبُد))، فنقل كلامَه ثم تذكَّر هذا الموضعَ فأمسَكَ.

وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون الموصوفُ محذوفًا؛ أي: ((ومن آياته آيةٌ يُريكم فيها البَرْقَ))، فحَذَف الموصوفَ والعائد؛ أي:((ومن آياته شيءٌ أو سحاب))، ويكون فاعل {يُرِيكُمُ} ضميرَ شيءٍ المحذوف.

قوله: (تَسمعُ بالمُعيديِّ) قيل: هو تصغيرُ ((معدِّيٍّ))، أو ((مَعَدٍّ))، خَفَّف الدالَ استثقالاً للجمع بين التشديد مع ياء التصغير. يُضربُ للرَّجل الَّذي له صِيتٌ في الناس، فإذا رأيتَه ازدرَيْتَه. قالَه المنذر لشِقّةَ، مضى شرحُه مستوفًى في ((الأعراف)).

قوله: (وقالوا ما تَشاء) البيت لعروة بن الورد قبله:

أَرِقتُ وصُحْبتي بمَضيقِ عمقٍ

لبرقٍ من تِهامةَ مُستطيرِ

سَقَوْني الخَمرَ ثمَّ تَكنَّفوني

عُداةَ اللهِ من كَذِبٍ وزُورِ

آثَرَ من الإيثار، من: آثرت فلانًا على نفسي.

قوله: (ذي أَثير) من قولك: فلانٌ أثِيري؛ أي: خُلْصاني، أي: آثَرَ اللَّهْوَ أوَّلَ كلِّ شيء.

قال الميداني في قولهم: ((افعل ذاك آثِرًا مّا)) قالوا: معناه: افعل أوّلَ كل شيء، أي:

ص: 230

(خَوْفاً) من الصاعقة أو من الإخلاف، (وَطَمَعاً) في الغيث. وقيل: خوفًا للمسافر، وطمعًا للحاضر، وهما منصوبان على المفعول له. فإن قلت: من حق المفعول له أن يكون فعلًا لفاعل الفعل المعلل؛ والخوف والطمع ليسا كذلك. قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن المفعولين فاعلون في المعنى، لأنهم راءون، فكأنه قيل: يجعلكم رائين البرق خوفًا وطمعًا. والثاني: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى: إرادة خوٍف وإرادة طمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكونا حالين، أى: خائفين وطامعين. وقرئ: (ينزل) بالتشديد.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)] 25 - 26 [

قيام السماوات والأرض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

افْعَله مؤثرًا له. وقال الأصمعيُّ: معناه افعل ذلك عازمًا عليه و ((ما)) تأكيد، ويقال أيضًا:((افعلْه آثرَ ذي أثير))، أي: أوّلَ كلِّ شيء. وقيل: معناه: وقالوا: ما تشاءُ، فقلت: أن أَلْهو، واللَّهو إلى الصُّبح آثَرُ كلِّ شيءٍ يُؤثَرُ فِعْلُه.

قوله: (من حقِّ المفعول له أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلَّل)، الانتصاف: الخوفُ والطمعُ مخلوقان لله تعالى، فيلزم اجتماعُ شرائطِ النَّصب فيهما، وهو كونُهما مصدرَيْنِ مقارَنيْن، والفاعل والخالقُ واحدٌ، فلا بدَّ من تخريجه على هذا الوجه، وهو أنَّ قولَ النُّحاة: أنَّ يكونَ فِعلاً لفاعل الفعلِ المعلَّلِ، وأن يكون مُتّصِفًا به، فإذا قلت: جئتك إكرامًا لك، فقد وصفتَ نفسَك بالإكرام؛ أي: جئتك مُكْرِمًا لك، واللهُ تعالى وإن خَلَق الخوفَ والطمعَ، إلاّ أنه تعالى مُقدَّسٌ عن الاتِّصاف بهما، فاحتِيجَ إلى تأويلِ الزَّمخشريِّ على المذهَبينِ.

ص: 231

واستمساكهما بغير عمٍد (بِأَمْرِهِ) أى بقوله: كونا قائمتين. والمراد بإقامته لهما: إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال. وقوله: (إِذا دَعاكُمْ) بمنزلة قوله: يريكم، في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوةً واحدة: يا أهل القبور اخرجوا. والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقٍف ولا تلبث، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه، كما قال القائل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واستمِساكُهما) قيل: هو من قولهم: هو لا يَستمسكُ على الرَّاحلة؛ أي: لا يقدر على إمساكِه نفسَه وضبطِها والثباتِ عليها.

قوله: ({بِأَمْرِهِ} أي: بقوله: كونا قائمتَيْن) أي: قيل: بأمره، وأُريد هذا القول، ولم يُرد بالقول حقيقتَه، بل المرادُ إقامتُه لهما وإرادتُه لحدوثهما قائمتين، فقوله:((إرادته لكونِهما)) خبرٌ، و ((المراد بإقامتهِ لهما)) مبتدأٌ، كذا صحّ، واللامان صِلَتانِ، وهذا كقوله تعالى:{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. والمراد: أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنّما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناعٍ ولا قَوْلَ ثَمَّةَ، كذلك معنى قوله:((كونا قائمتينِ)) حصولُهما على صفة القيام على وَفْق إرادتِه من غير توقُّفٍ ولا قَوْلَ ثَمَّةً، وإليه الإشارةُ بقوله:((والمراد به سرعةُ وجودِ ذلك من غير توقُّف ولا تَلبُّثٍ)).

قال الإمام: قوله: {بِأَمْرِهِ} أي: بقوله: قوما، أو بإرادته قيامهما، وذلك أن الأمرَ عند المعتزلةِ موافقٌ للإرادة، وعندنا ليس كذلك، ولكن النزاعَ في الأمر الذي في التَّكليف لا في الأمر الذي في التَّكوينِ، فإننا لا نُنازعُهم في أنّ قولَه:((كن))، و ((كونا))، و ((كونوا)) موافقٌ للإرادة.

ص: 232

دعوت كليبا دعوة

فكأنّما دعوت به ابن الطّود أو هو أسرع

يريد بابن الطود: الصدى، أو الحجر إذا تدهدى، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بـ"ثم"؛ بيانًا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر، كما قال عز وعلا:(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)] الزمر: 68 [. قولك: دعوته من مكان كذا، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك، تقول: دعوت زيدًا من أعلى الجبل فنزل علىّ، ودعوته من أسفل الوادي فطلع إلىّ. فإن قلت: بم تعلق (مِنَ الْأَرْضِ) أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. فإن قلت: ما الفرق بين إذا وإذا؟ قلت: الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وقرئ:(تخرجون) بضم التاء وفتحها، (قانِتُونَ) منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه.

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 27 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (دعَوتُ كُليْبًا) البيت، قوله:((دعوتُ به))، أي: بكُلَيب، وهو من التجريد، جُرِّد منه شيءٌ يسمى بابن الطّوْدِ، وهو نفسُه.

قوله: (تدَهدى) أصله: تَدَهْدَه، أبدلت الهاء ياء، كما في تَظَنَّيْتُ، أصله: تَظَنَّنتُ.

قوله: (هيهاتَ) وهو اسم فعلٍ فاعلُه ضميرٌ مستترٌ يعود إلى ما دلَّ عليه الكلامُ المتقدِّم؛ أي: بعد تعلُّقه بالمصدر مع وجود الفعل.

قوله: (بَطَلَ نهْرُ مَعْقِل)، الاستيعاب: هو مَعقل بن يسار المُزني، سكن البصرة، وإليه يُنسب نهر معقل الذي بالبصرة، شهد بيعةَ الحُديبية، وتوفي بالبصرة في آخر خلافة معاوية.

ص: 233

(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم؛ لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء؛ كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم: أوّل الغزو أخرق، وتسمون الماهر في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم) وتحقيقُه أنَّ الإنسانَ الضعيفَ العاجزَ الذي لا يُطيق حَمْل معاني الحكمة الإلهيَّةِ والأسرارِ الرُّبوبيةِ، إذ لو كُوشفوا ببعضِها لاضمَحَلَّت قُواهم وتلاشَتْ عقولُهم. ولله درُّ الإمامِ حُجّةِ الإسلامِ وقولِه في ((الإحياء)): لا طاقةَ للبَشَر أن ينفذوا غَوْرَ الحكمةِ، كما لا طاقةَ لهم أن ينفذُوا بأبصارهم ضوءَ عينِ الشَّمسِ، ولكنَّهم ينالون منها ما تحيي به أبصارُهم، ويستدلُّون بع على حوائجهم فقط.

وقد تأنَّق بعضُهم في التعبير عن وجه اللُّطفِ في إيصالِ معاني كلامِ اللهِ المجيدِ مع علوِّ درجتِه إلى فَهْم الإنسان مع قُصورِ رُتبته، وضربَ له مثلاً ولم يُقصِّر فيه، قال: إنّا رأينا الناسَ لمّا أرادوا أن يُفهِموا بعضَ الدَّواب والطيرِ ما يُريدون من تقديمِها وتأخيرها، ورَأَوا الدَّوابَّ تَقصُر عن فَهْمِ كلامِهم الصادرِ عن أنوار عقلِهم مع حُسنه وترتيبِه، فنزلوا إلى درجةِ تمييزِ البَهائم وأوصلوا مقاصِدَهم إلى بواطنِها بأصواتٍ يضعونها لائقةٍ بها من النَّفيرِ والصَّفير والأصواتِ القريبةِ من أصواتِهم، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائمِ التي تُطيقُ حملَها، وكذلك الناسُ يعجَزون عن حملِ كلام الله المجيد بكُنْهه وكمال صفاتِه، فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات، ولا يمنع ذلك معاني الحكمة المخْبوءةِ في تلك الصفات.

قوله: (أوّل الغزوِ أخْرق)، يعني: أنّ صاحَبه غِرٌّ لم يَصْطَلِ بنارِه، ويُضرَبُ لمن ابتدأ أمرًا وهو لا يَحْذَقُه. قال الميداني: قال أبو عبيد: يُضَربُ في قلّةِ التجارِب. قال الشاعر:

الحَربُ أوّلُ ما تكونُ فَتيَّةً

تسعى بزينتِها لِكلِّ جَهولِ

حتى إذا استعرت وشبَّ ضِرامُها

عادت عجوزًا غيرَ ذاتِ حَليلِ

ص: 234

صناعته معاودًا، تعنون أنه عاودها كرّةً بعد أخرى؛ حتى مرن عليها وهانت عليه. فإن قلت: لم ذكر الضمير في قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، والمراد به الإعادة؟ قلت: معناه: وأن يعيده أهون عليه. فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وقدّمت في قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)] مريم: 21 [؟ قلت: هناك قصد الاختصاص وهو محزه، فقيل: هو علىّ هين، وإن كان مستصعبًا عندكم أن يولد بين هم وعاقر؛ وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء؛ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله: (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ) حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ووصف الغزو بالخُرْق؛ لخَرْقِ الناس فيه كما قيل: ليل نائم.

قوله: (مُستَصعِبًا) صحّ بكسرِ العين؛ لأنه لازم، الجوهري: استَصعَبَ عليه الأمرُ؛ أي: صَعُب.

قوله: (بين هِمٍّ وعاقر)، النهاية: الهِمُّ بالكسر: الكبير الفاني.

قوله: (وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص)، يعني: اقتضى مقامُ خَرْقِ العادة هناك التَّقديمَ كأنَّ العادة تأبى أن يحصُلَ الولدُ بين الهِمِّ والعاقِرِ لِما جُرِّبَ وعُلِمَ بالاستقراء، فقيل: أنا القادر وحدي أن أخرق العادة دون غيري، وهاهنا العادة حاكمة قاطعةٌ بأنَّ منَ أعاد صَنعةَ شيءٍ كانت أسهلَ عليه وأهونَ من إنشائها، لكن الدُّهْريَّ المخذولَ يُنكِرُ فعلَه، فجيء بالجملة المفيدة لتقوي الحُكمَ على مجرى العُرف والعادة.

قوله: (ما بالُ الإعادة استُعْظِمت)، يعني: عطف قولِه: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} على قوله: {أَن تَقُومَ السَّمَاءُ} بحرف التَّراخي في الرُّتبة، فأفاد عظمةَ الثاني، فإنَّ الأوّلَ أَدْونُ حالاً

ص: 235

ثم هوّنت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء. وقيل: الضمير في (عليه) للخلق. ومعناه: أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام والتمام أهون عليه وأقل تعبًا وكبدًا، من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منه. ثم قيل في هذه الآية: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ففهم منه أنه أَدْوَنُ منه، وأجاب بما يدلُّ على أنّ اعتبارَ التعظيمِ في الأولِ لكونِ الإعادة في نفسِها عظيمةً؛ لأنّها الغايةُ في الإيجاد والمقصودُ في الإنشاء، وبها يستقرُّ كلٌّ من السُّعداء والأشقياء في درجاتهم ودَرَكاتِهم، واعتبارُ الأَهْوَنِ بحَسَب الإيجاد والقَصْد في الخَلْق.

وبهذا التقرير يُتخلَّص من إشكالِ صاحب ((الانتصاف)) حيث قال: {ثُمَّ} على بابها في تراخي الزَّمان أو يُسَلِّمُ تراخي المراتبِ على أن مرتبةَ المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا تأكيدًا في مجيئها، فإن المعطوف بها في أكثر المواضع أرفع درجة من المعطوف عليه.

وقلت: ويجوز أن يُحملَ {ثُمَّ} على مجردِ البُعْدِ مجازًا، فيُعتَبرُ التراخي في الزمانِ والمَرْتبةِ معًا.

قوله: (لأنَّ تكوينَه في حدِّ الاستِحكامِ والتَّمامِ أهونُ عليه وأقلُّ تَعَبًا وكبَدًا، يعني: بالنِّسبة إلى الخَلْق.

قال الإمام: لأنَّ في البَدْء يكون عَلَقةً، ثم مضغةً، ثم لَحمًا، ثم عَظْمًا، ثم يُخلق بَشَرًا، ثم يَخرج طفلاً، ثم يَترعرعُ إلى غير ذلك، فَيصعب عليه كلُّ ذلك. وأمّا في الإعادة فيَخرج بَشرًا سَوِيًّا بِكُن فيكون، فهو أهونُ عليه.

ص: 236

أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ. وقيل: الأهون بمعنى: الهين. ووجه آخر: وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بدّ له من فعله، لأنها لجزاء الأعمال، وجزاؤها واجب، والأفعال: إما محال، والمحال ممتنع أصلًا خارج عن المقدور، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارٌف وهو القبيح، وهو رديف المحال؛ لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة. وإما تفضل والتفضل حالة بين بين؛ للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله. وإما واجب لا بدّ من فعله، ولا سبيل إلى الإخلال به، وكان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: الأَهْوَنُ بمعنى: الهين) روى الزَّجاج عن أبي عُبيدة وكثيرٍ من أهل اللغة: أنَّ {أَهْوَنُ} هاهنا ليس معناه: أنَّ الإعادةَ أهونُ عليه من الابتداء؛ لأنهما سهل عليه، ومثلُه في قوله:

لَعَمرُكَ ما أدري وإنّي لأوْجَلُ

على أيِّنا تَعدُو المَنيَّةُ أوّلُ

أي: لَوَجِلٌ. وقالوا: اللهُ أكبر، أي كبيرٌ.

قوله: (لأنَّها لجزاءِ الأعمالِ، وجزاؤها واجبٌ)، قال صاحب ((التقريب)): وفيه نظرٌ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الوُجوب العقليِّ، ولأنَّ الوُجوبَ إن كان في الذات نَافَى القُدرةَ كالامتناع، وإلاّ كان ممكنًا، فتساوى النقيضانِ؛ لاشتراكهما في مصحح المقدوريَّة، وهو الإمكانُ.

وقال صاحب ((الانتصاف)): هذا على أُصولهم أيضًا غيرُ مستقيم، فإنَّ مقتضاها وجوبُ الإنشاء إذْ لولا مصلَحة اقتَضت الإنشاءَ لما وقعَ، وتلك المصلحةُ تُوجبُ متعلِّقها، فوَضَح أنَّ الزَّمخشريِّ لا إلى تَرقّى ولا على مذهب الاعتزالِ بَقِيَ.

ص: 237

الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول. فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب، كانت أبعد الأفعال من الامتناع. وإذا كانت أبعدها من الامتناع، كانت أدخلها في التأنى والتسهل، فكانت أهون منها. وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أى: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيٍء من إنشاٍء وإعادة وغيرهما من المقدورات، ويدل عليه قوله تعالى:(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى: القاهر لكل مقدور، (الحكيم) الذي يجرى كل فعٍل على قضايا حكمته وعلمه. وعن مجاهد (المثل الأعلى) قول لا إله إلا الله، ومعناه: وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية. ويعضده قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ)] الروم: 28 [، وقال الزجاج:(وله المثل الأعلى في السماوات والأرض) أى: قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قد ضربه لكم مثلًا فيما يصعب ويسهل. يريد: التفسير الأوّل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويَعضُده قوله: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ})؛ لأنَّ الكلام فيه لنَفْي الشَّريكِ وإثباتِ التَّوحيدِ، وتلخيصُ معناه يعودُ إلى معنى كلمةِ التَّوحيدِ، فصَحَّ أن يُسمَّى القولُ بكلمةِ التَّوحيدِ بـ {الْمَثَلُ الْأَعْلَى} .

قال الزَّجاج: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} للعهد، وأن قوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: معناه كالمثل المشهور بين الناس، أي: المسلمين منهم في كل زمان، نحو الأمثال المضروبة عند العرب، ويَقرُبُ منه قول المصنِّف:((أي: الوصفُ الأعلى الذي ليس لغيرهِ مثلُه قد عُرف به ووُصِفَ في السّماواتِ والأرضِ)) إلى آخره، لكن الزَّجاج أجرى المَثلَ كالقولِ السَّائر على حقيقته وجعلَه المصنِّف مجازًا عن الوصف العَجيب الشأنِ ليشملَ القولَ وغيرَه، ولذلك قال:((على ألسِنةِ الخلائق وأَلْسِنَةِ الدّلائلِ))، وخصَّ قَوْلَ الزَّجاجِ بالقول.

قوله: (يُريد التَّفسيرَ الأوّلَ)، أي: لقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وهو أن يكون الضَّميرُ-

ص: 238

[(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)] 28 [

فإن قلت: أى فرق بين (من) الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)، (مِنْ شُرَكاءَ)؟ قلت: الأولى للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلًا وانتزعه من أقرب شيٍء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد، والثانية للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. ومعناه: هل ترضون لأنفسكم؛ وعبيدكم أمثالكم بشر كبشٍر وعبيد كعبيد، أن يشارككم بعضهم (فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال وغيرها، ما تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفضلةٍ بين حرّ وعبد: تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبيٍر عليهم كما يهاب بعضكم بعضًا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في {عَلَيْهِ} - لله؛ أي: ضرَب اللهُ قولَه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مثلاً فيما يَصعُب ويَسهُل عندكم، وينقاسُ على أُصولِكُم، لا التفسير الثاني، وهو أن يَرجِعَ الضَّميرُ إلى الخَلْقِ.

قوله: (أن يَشارِكَكُم بعضُهم) مفعول ((تَرضونَ))، و ((عبيدكم أمثالكم)) حالٌ من فاعلِه.

قوله: (تكونون أنتُم وهم فيه على السَّواء) والجملةُ بيانُ: ((أنْ يُشارِكَكُم)).

قوله: (تَهابُون أن تَستَبِدُّوا) تفسيرٌ لقولِه: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} .

وقال أبو البقاء: {تَخَافُونَهُمْ} في موضع الحالِ من ضمير الفاعل في {سَوَاءٌ} ؛ أي: فتساوَوْا خائفًا بعضُكم بعضًا مشاركتَه له في المال، أي: إذا لم ترضَوْا أن يُشارِكَكم عبيدُكم في المال، فكيف تشرِكون في عبادة الله مَن هو مصنوعٌ لِله تعالى؟ !

قوله: (وأن تفتاتوا بتدبير عليهم)، الأساس: فاتني بكذا: سبقني به وذهب به عني،

ص: 239

ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ (كَذلِكَ) أى: مثل هذا التفصيل (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أى: نبينها؛ لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وافتاتَ فلانٌ عليكم برأيه: سبَقكم به ولم يُشاوِرْكم، وفلانٌ لا يُفات عليه، ولا يُفتاتُ عليه؛ أي: لا يُستَبدُّ برأيٍ دونَه.

النهاية: قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي بكرٍ: ((أَمِثْلي يُفتاتُ عليه في بَناتِه))، فهو افْتَعل من الفَواتِ: السبق، يُقال لكلِّ مَن أحدثَ شيئًا في أمرِك: قد افتات عليك فيه.

قوله: (ألا ترى كيف صوَّر الشرك بالصُّورة المشوَّهة)؛ أي: القبيحة. يريد أن الغرض مِن ذِكْر التَّمثيل تقبيحُ شأنِ الشِّركِ وإبرازُه في ذِهن السّامع بصُورة يَشْمئِزُّ منها، وذلك بأن يَتصوَّر حالَة سَيدٍ له رقيقٌ مستبدٌّ متصرفٌ في أمواله تصرُّفَ الشُّركاءِ من غير تَفْصِلةٍ، بحيث إن أراد السَّيدُ التَّصرفَ هابَ منه.

ولما كان ضربُ الأمثالِ لإدْناء المتوهَّم إلى المعقول وإرادة المتخيَّلِ في صورة المحقَّق، أتى في هذه الفاصلة بقوله:{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، وكذلك في الآية السابقة:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ؛ لأن ذلك تمثيل لإحياء النّاس وإنشارِ الموتى.

وأمّا الفاصلةُ بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} لقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، لأنَّ القصدَ في خَلْق الأزواج السُّكونُ إليها وإلقاءُ المحبَّة بينَ الزَّوجينِ ليس لمجرَّد قضاء الشَّهوة التي يَشترك فيها البهائمُ، بل لتكثير النَّسْل وبقاءِ نَوع المُتفكِّرين الذين يؤدِّيهم الفِكرُ إلى المعرفةِ والعبادة التي ما خُلقت السَّماواتُ والأرضُ إلاّ لها، فناسَب ذلك التَّفكُّر.

وخُصَّ قولُه: {مَنَامُكُم} بالليل، {وَابْتِغَاؤُكُم} بالنهار بالسَّمع؛ لأنَّ أكثرَ الناس

ص: 240

[(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)] 29 [

(الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى: أشركوا، كقوله تعالى:(إنّ الشرك لظلم عظيم)] لقمان: 13 [، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى: اتبعوا أهواءهم جاهلين؛ لأنّ العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه. وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء، (مَنْ أَضَلَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مُنْسدِحون باللَّيل كالأمواتِ ومتردِّدون كالبهائم بالنهار، لا يَدرون فيمَ هم ولم ذلك، لكن من ألقى السَّمعَ وهو شهيدٌ يَتنبَّه لواعظِ الله ويصغي إليه؛ لأنَّ مَرَّ اللَّيالي وكَرَّ النَّهار يناديانِ بلسانِ الحالِ:((الرَّحيلَ الرحيلَ من دارِ الغرور إلى دار القرار))، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].

وأمّا اختصاصُ قولِه: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} بالعلم الذي هو يُوجب تمييزًا؛ فلأنَّ كلَّ مَنْ له أدنى مُسْكَةٍ يُمَيِّزُ بين مخلوقٍ بالمَنطِق واللَّونِ، وكذا دلالةُ خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ على وُجود الصانعِ أظهرُ الأشياء وأَبيَنُها لا تخفى على كلِّ مَنْ له تمييزٌ، ولما فيه مِنَ العُموم. وقرئ {لِّلْعَالِمِينَ} بالفتح والكسر.

ثم جيء بعدَ آيات بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، وفصَل بقوله:{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إيذانًا بأنه تعالى ذلك بمَحْضِ مشيئته، وبأنَّ ليس الغِنى بفعل العبد وجهده ولا العُدْمُ بعَجْزه وتقاعده، ولا يَعرفُ ذلك إلاّ مَنْ آمَن بأنَّ ذلك تقديرُ العزيز العليمِ كما قال:

كم من أديبٍ فَهِمٍ قَلْبُه

مستكملِ العقلِ مُقِلٍّ عَديمْ

ومِن جهولٍ مُكثَرٍ مالُه

ذلك تقديرُ العزيزِ العليمْ

ص: 241

الله) من خذله ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له، فمن يقدر على هداية مثله. وقوله:(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان.

[(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)] 30 - 32 [

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) فقوّم وجهك له وعدّله، غير ملتفٍت عنه يمينًا ولا شمالًا، وهو تمثيل لإقباله على الدين، واستقامته عليه، وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} دليل على أنَّ المرادَ بالإضلالِ: الخذلانُ) كأنه قيل: من يَنصرُ من خذَله اللهُ ومَنع الإلطافَ عنه، والحالُ أنه لا ناصرَ له.

وقلت: ليس الكلامُ في النُّصرةِ والخِذلانِ، بل في الهدايةِ والضَّلالِ {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} كالتتميم لمعنى إرادة الإضلال والمَنْع من الهداية، وذلك أنّه تعالى عَقِيب ما عَدَّد الآياتِ البيِّناتِ والشواهدَ الدّالَة على الوحدانيّةِ ونَفْي الشَّريكِ وإثبات القول بالمَعاد وضَربَ المَثَل، وفَصَل ذلك بقوله:{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

أراد أن يُسَلِّيَ حبيبَه صلى الله عليه وسلم ويُوطِّنَه على اليأس من إيمانهم، فأضرَبَ عن ذلك وقال:{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم} وجَعل السَّبب في ذلك أنه تعالى ما أراد هدايتَهم وأنه مختوم على قلوبهم، ولذلك رتَّب عليهم قوله:{فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} على التَّقريع والإنكارِ، ثم ذَيَّل الكُلَّ بقولِه:{وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} يعني: إذا أراد اللهُ منهم ذلك لا مَخْلَص لهم منه، ولا أحدَ يُنقذهم لا أنتَ ولا غيرُك، فلا تذهب نفسُكَ عليهم حسرات، فاهتَمّ بخاصّةِ نفسك ومَنْ تَبِعَك، وأقِمْ وجهَك معهم للدِّين حنيفًا.

قوله: (فقوِّم وجهكَ له وعدِّله)، الأساس: وقوَّمَ العُودَ وأقامه، فقام واستَقامَ وتقوَّم، ورُمحٌ قويم.

ص: 242

بالشيء عقد عليه طرفه، وسدّد إليه نظره، وقوّم له وجهه، مقبلًا به عليه. و (حَنِيفاً) حال من المأمور، أو من الدين (فِطْرَتَ الله) أى: الزموا فطرة الله. أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ومنيبين: حال من الضمير في: الزموا. وقوله: (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصلاة وَلا تَكُونُوا) معطوف على هذا المضمر. والفطرة: الخلقة. ألا ترى إلى قوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله) والمعنى: أنه خلقهم قابلين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: الزَمُوا فِطرةَ اللهِ، أو عليكم فِطرةَ اللهِ) قال مكيُّ: {فِطْرَتَ اللَّهِ} نصب بإضمار فعلٍ؛ أي: ((اتَّبِعْ فطرةَ الله))، ودلَّ عليه قولُه:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ؛ لأنَّ معناه: ((اتَّبعِ الدِّينَ))، وقيل:{فِطْرَتَ اللَّهِ} انتَصبَ على المصدر؛ لأنَّ الكلامَ دَلَّ على فَطْرِ الله [الخلقَ] فِطرةً. والتَّقديرُ الأوَّل أقربُ إلى تأليف النَّظْم؛ لأنَّه موافقٌ لقوله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم} ، ولترتُّبِ قولِه:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} عليه بالفاء.

وأما قولُه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} فهو حالٌ من الضَّمير في {أَقِمْ} ، وإنَّما جُمع لأنَّه مردودٌ على المعنى؛ لأنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمّتِه؛ أي: أَقيمُوا وُجوهَكُم مُنيبِينَ إليه.

وقال الفرّاءُ: أي: ((أقِمْ وَجهَكَ ومَنِ اتَّبعكَ))؛ كقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] فلذلك قال: {مُنِيبِينَ} .

وفي ((المرشد)): أنَّ {مُنِيبِينَ} متعلِّق بمُضْمَرٍ، أي: كُونوا مُنيبينَ؛ لقوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: كونوا منيبين ولا تكونوا مشركين وقال: هذا حَسَنٌ.

قوله: (أَلا تَرى إلى قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} يعني دلَّ قولُه: {لِخَلْقِ اللَّهِ} على أنَّ معنى فِطْرةَ الله: الخَلْقُ، وأنه من إقامة المُظْهَرِ موضعَ المُضْمَرِ من غير لفظِه السابقِ، وفائدتُه

ص: 243

للتوحيد ودين الإسلام، غير نابين عنه ولا منكرين له، لكونه مجاوبًا للعقل، مساوقًا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينًا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإشعارُ بأنَّ أصلَ الجِبِلَّةِ السَّليمةِ المتهيئةِ لقَبولِ الحَقِّ أن لا تُغيٍّرَ ولا تَتْرُكَ لِمَحْضِ التَّقليد، فإنه مُجاوِبٌ للعقل.

هذا معنى ما روينا عن البخاريِّ ومسلمٍ وغيرِهما، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مولودٍ إلاّ ويولَد على الفِطرةِ، فأَبواهُ يهوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتِجُ البهيمةُ بهيمةً جَمعاءَ، هل تُحسُّون فيها من جَدعاءَ)). ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .

الجَمعاءُ: التي لم يذهب من بدنها شيءٌ. والجَدْعاء: المقطوعةُ الأُذنِ والأَنف أو الشَّفة أو اليد، ونحو ذلك. والمعنى: أن المولودَ يُولدُ على نوعٍ مِن الجِبِلَّة، وكونِه متهيِّئًا لقبول الحقِّ طبعًا لو خَلَّته شياطينُ الإنسِ والجنِّ، كما أن البَهيمة تولَد سَويَّةَ الأطرافِ، لولا النّاسُ وتعرُّضهم إليها لبَقِيَت كما وُلِدت سَلِيمةً.

قوله: (مساوقًا للنَّظر)، الأساس: هو يًساوقُه ويُقاودُه، وتَساوقَتِ الإبلُ: تَتابعت.

قوله: (كلُّ عبادي خَلَقتُ حُنَفاءَ) هذا حديث طويلٌ رواه عياضٌ بن حِمار رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:((إنِّي خَلَقتُ عبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإنِّهمْ أَتتْهُمُ الشَّياطينُ فاجتَالَتْهُم عن دِينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهُم أن يُشركوا بي)). أخرجه مسلم.

ص: 244

عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بى غيرى» وقوله عليه السلام: "كل مولوٍد يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه»، (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله) أى: ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغير. فإن قلت: لم وحد الخطاب أولًا، ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص، (مِنَ الَّذِينَ) بدل من المشركين، (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) تركوا دين الإسلام. وقرئ:(فرّقوا دينهم) بالتشديد، أى: جعلوه أديانًا مختلفة لاختلاف أهوائهم (وَكانُوا شِيَعاً) فرقًا، كل واحدةٍ تشايع إمامها الذي أضلها، (كُلُّ حِزْبٍ) منهم فرح بمذهبه مسرور، يحسب باطله حقًا ويجوز أن يكون (مِنَ الَّذِينَ) منقطعًا مما قبله، ومعناه: من المفارقين دينهم كل حزٍب فرحين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اجتالَتْهُم: استخفَّتهم، فجالُوا معهم، يُقال للقوم إذا تَرَكوا القَصْدَ والهُدى: اجتالَتْهُمُ الشَّياطينُ؛ أي: جالُوا معهم في الضَّلالة.

قوله: (وقرئ: {فَرَّقُوا}، حمزة والكسائي: ((فارقوا))، والباقون:{فَرَّقُوا} .

قوله: (ويجوز أن يكون {مِنَ الَّذِينَ} منقطعًا ممّا قبلَه) أي: لم يكن بَدَلاً من المشركين بإعادة الجارِّ، ويكون خبرًا، والمبتدأ:{كُلُّ حِزْبٍ} ، و ((فرحون بما لديهم)) وصفُه؛ فعلى هذا الآيةُ عامَّةٌ.

روى الواحديُّ عن مقاتل: كلُّ أهل مكّةَ بما عندهم من الدِّين راضون.

وسبيل الآية مع قولِه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} الآية، سبيلُ قولِه تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]؛ لأن وِزانَ الآيةِ الآخرة ووزِانَ الآيةِ الآخرة وزِانُ قولهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].

ص: 245

بما لديهم، ولكنه رفع (فرحون) على الوصف لكل، كقوله:

وكل خليل غير هاضم نفسه

[(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)] 33 - 34 [

الضر: الشدّة من هزاٍل أو مرٍض أو قحٍط أو غير ذلك. والرحمة: الخلاص من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روينا عن التِّرمذيِّ، عن عبدِ الله بنِ عَمرٍو رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:((إنَّ بَني إسرائيلَ تَفرقت ثنتين وسَبعِين مِلَّةً، وتَفترق أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبعِين مِلَّة، كلهم في النّار إلاّ مِلَّة واحدةً)) قالوا: ومَن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)).

وعلى الوجهِ الأوّلِ: الآيةُ خاصَّةٌ، ومِن ثمَّ جاءَ بضمير المشركين في قوله:((كلُّ حزبٍ منهم)).

قوله: (ولكنّه رفع {فَرِحُونَ}) قيل: يعني: كان مِنْ حقِّ الظاهر أن يَجرَّ {فَرِحُونَ} ؛ لكونه صفةَ {حِزْبٍ} ؛ لأنَّ الصِّفةَ في الأعداد وما هو من قَبِيلها ينبغي أن تكون للمضاف إليه؛ لقوله تعالى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 43]، ولكنَّه وصفَ هاهنا المضافَ ليبيِّنَ أنَّ الفرحَ شاملٌ للكلِّ وهو أبلَغُ.

قوله: (وكلُّ خلِيلٍ غَيرُ هاضِمِ نَفسِه) تمامه:

لِوصلِ خلِيلٍ صارمٌ أَو مُعَارِز

((غيرُ هَاضِمِ نَفسِه)) صفة لـ ((كُلُّ خَلِيلٍ)). ((مُعَارِز)) أي: مجانب، بالرّاء والزاي بَعْدَه يقول: كلُّ خليلٍ لا يكسِرُ نفسَه ولا يَحمل أذى صاحبِه، فهو لا محالةَ مُصارِمُه أو مُعاتِبُه.

وقيل: تمامُه:

ص: 246

الشدّة. واللام في (لِيَكْفُرُوا) مجاز مثلها في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا)] القصص: 8 [. (فَتَمَتَّعُوا) نظير (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)] فصلت: 40 [(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال تمتعكم. وقرأ ابن مسعود: (وليتمتعوا).

[(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)] 35 [

السلطان: الحجة، وتكلمه: مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن. ومعناه الدلالة والشهادة، كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته. و (ما) في (بِما كانُوا) مصدرية أى: بكونهم بالله يشركون. ويجوز أن تكون موصولةً ويرجع الضمير إليها. ومعناه: فهو يتكلم بالأمر الذي يسببه يشركون، ويحتمل أن يكون المعنى: أم أنزلنا عليهم ذا سلطان، أى: ملكًا معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون.

[(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)] 36 [

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أى: نعمةً من مطٍر أو سعةٍ أو صحةٍ (فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أى: بلاء من جدب أو ضيق أو مرض، والسبب فيها شؤم معاصيهم، قنطوا من الرحمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فبالصدِّ والإعراضِ عنه جَديرُ

قوله: (اللام في {لِيَكْفُرُوا} مجاز)؛ لأن المعنى: ثم أذاقهم منه رحمةً ليشكروا ما أَوْلاهم من رحمته ولا يُشرِكوا به شيئًا، فعكسوا وأشركوا ليكفروا. وتحريرُه: أنَّهم ما قَصَدوا في اتِّخاذهم كُفرانَ النِّعمة، بل قَصَدوا بذلك أنْ يكونوا لهم شفعاءَ، فأدَّى ذلك إلى الكُفران، كما في قصّةِ موسى وفرعون.

ص: 247

[(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)] 37 [

ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته.

[(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)] 38 [

حق ذى القربى: صلة الرحم. وحق المسكين وابن السبيل: نصيبهما من الصدقة المسماة لهما. وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. وعند الشافعي رحمه الله: لا نفقة بالقرابة إلا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقد احتَجَّ أبو حنيفةَ رضي الله عنه بهذه الآية في وُجوب النَّفقةِ للمَحارم إذا كانوا محتاجينَ) قال القاضي: وهو غير مُشْعِرٍ به {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ؛ أي: آتِهِما ما وُظِّف لهما منَ الزَّكاة، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أو لمَن بُسِطَ له، ولذلك رُتِّبَ على ما قبله بالفاء.

وقال الإمام: لمّا بيَّن الله تعالى أنه يبسطُ [الرزق] ويَقدِر، فلا ينبغي أن يتوقَّفَ الإنسان في الإحسان، فإنَّ اللهَ إذا بَسطَ الرِّزقَ لا ينقصُ بالإنفاق، وإذا قَدَرَ لا يزداد بالإمساك.

وقلت: إنه تعالى لمّا حَكى في جنس الناس أنَّهم إذا أذاقَهم منه رحمةً فرحوا بها بَطِرِينَ أَشِرِينَ، وإنْ تُصبْهم سيِّئةٌ قَنَطُوا من رحمة الله، أَنكَر عليهم ذلك، ونَبَّههُم على أنَّ تلك الإذاقة والإصابة من بَسْط الله الرِّزقَ وقَبْضِه، وقال: فلا يكن منكم بَطَرٌ عند البَسْطِ بل

ص: 248

على الولد والوالدين: قاس سائر القرابات على ابن العم؛ لأنه لا ولاد بينهم. فإن قلت: كيف تعلق قوله: (فَآتِ ذَا الْقُرْبى) بما قبله حتى جيء بالفاء؟ قلت: لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اشكُروا اللهَ، وأنفِقُوا ممّا رَزَقكمُ اللهُ في سبيله ووَجْهِه، في الأقربينَ واليَتامى والمساكين ليزيدَكم من فَضْله، وتفوزوا بالفلاح عاجلاً وآجلاً، فلا يُوجد منكم يأس أيضًا عند القَبْض، بل ارجِعُوا إلى الله مُنيبينَ؛ لأنَّ ذلك من شؤم معاصيكم.

وإليه الإشارةُ بقوله: ((لما ذكر أن السَّيئةَ أصابتْهُم بما قدَّمت أيديهم أتبعَه ذِكْرَ ما يَجبُ أن يُفْعلَ وما يَجِبُ أن يُتركَ))، ولعلَّ وجهَ استدلال أبي حنيفة رضي الله عنه رتَّب الأمرَ بإيتاء ذي القُربى على الوَصْف المناسبِ، وهو إصابةُ السَّيئةِ باجتراحِ المعاصي بعد أن ضَمَّ معَ الإيتاء لفظة:{حَقَّهُ} فيكون للوجوب، وأيضًا علَّل إثبات الفلاح باسم الإشارة إلى ذلك الوَصْفِ، وهو إيتاءُ ذي القُربى.

والشافعيُّ رضي الله عنه رأى عطفَ {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} على {ذَا الْقُرْبَى} أمارةً لاشتراكهم في وُجوب الزَّكاة دُون النَّفقةِ؛ لأنَّ حُكمَ المعطوفينَ في النَّفقة خارجٌ بالاتِّفاقِ؛ لأنَّ مَنِ استحقَّ الزَّكاة سَقَطت نفقتُه.

قوله: (قاس سائرَ القَرابات على ابنِ العَمَّ)، قال صاحب ((الهداية)): النَّفقةُ لكلِّ ذِي رَحِمٍ محرَّم منه، ويُعلَمُ منه أنَّ مَن كان ذا رَحِمٍ ولم يكن محرَّمًا كأولاد العَمِّ والخال، فلا تَجبُ النفقةُ عليه؛ لأنَّ الصِّلةَ في القَرابةِ واجبةٌ دونَ البعيدةِ.

وأمّا قول المصنف: ((للمَحارم إذا كانوا محتاجين)) فمحمولٌ على المَحارم من النَّسَبِ دونَ الرَّضاعِ والمصاهَرة؛ لأن سياقَ الكلامِ في ذي القربى.

ص: 249

أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك (يُرِيدُونَ وَجْهَ الله) يحتمل أن يراد بوجهه: ذاته أو جهته وجانبه، أى: يقصدون بمعروفهم إياه خالصًا وحقه، كقوله تعالى:(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى)] الليل: 20 [أو يقصدون جهة التقرّب إلى الله لا جهةً أخرى، والمعنيان متقاربان، ولكن الطريقة مختلفة.

[(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ الله وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)] 39 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أتبعَه ذِكْر ما يَجِبُ أن يُفعل وما يَجبُ أن يُترك) يعني: إذا تَقرَّر أن ما يُصيبهم من مصائبَ دنيويَّةٍ ودِينيَّةٍ بسَببِ معاصِيهم، فعلى كلِّ ذي لُبٍّ أن يعتبرَ العاقبة ويتحرّى إيتاءَ معروفِه في أهله ومُستَحقِّه، ويجتنبَ إيتاءَ ما يَمحَقُه الله في الدُّنيا من الرِّبا والسُّخط على صاحبه في العُقبى منَ الرِّياء، وممّا يدلُّ على أنَّ الآيتينِ متقابلتان تَكريرُ {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} فيهما، وتخصيصُ كلٍّ منَ الآيتينِ باسم الإشارة الدَّالٌ على أنَّ ما قبلَه جديرٌ بما بعدَه لأجل ذِكْرِ مُوجبه.

قوله: (أي: يَقْصدون بمعروفهم إيّاه [خالصًا] وحقَّه) عطفٌ على إياه؛ نحو: أعجَبَني زيدٌ وكَرمُه، وقيل: إنّما جاء بالضَّمير منفصلاً لما أهمَّه تقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول به، فيتعذَّر الاتصالُ. هذا على تقدير أنْ يُرادَ بوجهه ذاتُه، فيُفيدُ الاختصاصَ والإخلاص، وبقوله:((أو يقصدون جهةَ التقرُّب على أن يُراد بوجهِه جهتُه وجانبُه)) فيه نَشْرٌ لما لفَّ في قولِه: ((يَحتملُ أن يُرادَ بوجهه ذاتُه أو جهتُه))، أو لِمَا في الثاني من معنى الكناية عن الذاتِ؛ لأنه تعالى مقدَّسٌ عنِ الجانبِ؛ كقوله تعالى:{مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 56] ورجع المعنى إلى ذاته عز وجل معَ مُراعاة العَظَمة، قال: و ((المعنيان متقاربانِ، ولكنَّ الطريقةَ مختلفةٌ)).

ص: 250

هذه الآية في معنى قوله تعالى: (يَمْحَقُ الله الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)] البقرة: 276 [سواًء بسواء، يريد: وما أعطيتم أكلة الربا (مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي) أموالهم: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله، ولا يبارك فيه (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أى: صدقةٍ تبتغون به وجهه خالصًا، لا تطلبون به مكافأةً ولا رياًء وسمعة، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذوو الأضعاف من الحسنات. ونظير المضعف: المقوي والموسر، لذي القوّة واليسار: وقرئ بفتح العين. وقيل نزلت في ثقيف، وكانوا يربون. وقيل: المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدى له، ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى، فليست تلك الزيادة بحرام، ولكن المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة. وقالوا: الربا ربوان: فالحرام: كل قرٍض يؤخذ فيه أكثر منه: أو يجرّ منفعة. والذي ليس بحرام: أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها. وفي الحديث: «المستغزر يثاب من هبته» وقرئ: (وما أتيتم من ربا)، بمعنى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي الحديث: ((المُستَغْزِرُ يُثابُ من هِبَتِه)))، النهاية: عن بعض التابعين: الجانبُ المُستغزِرُ يُثاب من هِبَتِه.

المُستغزِرُ: الذي يطلبُ أكثرَ مما يُعطي، وهي المُغازرَة؛ أي: إذا أهدى لك الغريبُ شيئًا يَطلبُ أكثرَ مِنه فأعطِه في مقابلة هديتِه. وأما قولُه تعالى: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدَّثر: 6] فمخصوصٌ.

قوله: (قرئ: ((ما أتيتم من رِبًا))) قرأها ابنُ كثير مقصورًا، وهو يعود في المعنى إلى المشهورة، يقال: أتى معروفًا وأتى قبيحًا إذا فَعلَهما. وقرأ نافع: ((لتُربوا)) بالتاء مضمومة؛

ص: 251

وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا. وقرئ: (لتربوا)، أى: لتزيدوا في أموالهم، كقوله تعالى:(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أى يزيدها. وقوله تعالى: (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) التفات حسن، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم: هم المضعفون. فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون. والمعنى: المضعفون به؛ لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما، ووجه آخر: وهو أن يكون تقديره: فمؤتوه أولئك هم المضعفون. والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وهذا أسهل مأخذًا، والأوّل أملأ بالفائدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: لتصيروا ذوي زيادةٍ. من قولهم: أقوى الرَّجلُ وأضعَفَ: إذا صار ذا دابَّة قويٍّ وضعيفٍ في ((المطلع)).

قوله: (فهو أمدحُ لهم من أن يقول: فأنتُم المُضْعِفُون)؛ لأنَّه إذا التفت إلى الغير شاكرًا لصنيعهم واستحمادًا منه لهم وترغيبًا له فيما نالوا به هذه المنزلة، كان أبلغَ وأبلَ ممّا لو قال لهم: فأنتم المُضعِفُون. وإليه الإشارةُ بقوله: ((كأنّه قال لملائكتِه وخواصِّ خَلْقِه: فأولئك [الذين] يُريدون وَجْهَ الله)) مباهاةً بهم.

وأيضًا فيه إشعارٌ بأنَّ أولئك محقُّون بأنْ يكونوا مُضعِفيَن لاكتسابهم تلك الفضيلةَ، وليس في ((فأنتم المُضْعِفُون)) من ذلك شيءٌ.

قوله: (فمُؤْتُوه) روي بضمِّ التاء؛ اسمُ فاعِلٍ من الإيتاء، ورويَ بفتحها؛ اسم مفعولٍ.

وفي الحاشية: الصوابُ: ((فمُؤتَوْهُ)) بفتح التّاء، والمراد به: أخْذُ الزَّكاة تفضيلاً لهم على أخذِ الرِّبا.

قوله: (وهذا أسهلُ مأخذًا والأوّل أملأُ بالفائدة)، قال صاحب ((التقريب)): والأوَّلُ أملأُ بالفائدة لدقيقةِ الالتفاتِ، والثاني أسهلُ مأخذًا؛ لأنَّ حَذْفَ المبتدأ أكثرُ في الكلام،

ص: 252

[(الله الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)] 40 [

(الله) مبتدأ وخبره (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أى: الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيٍء منها أحد غيره، ثم قال:(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) الذين اتخذتموهم أندادًا له من الأصنام وغيرها (مَنْ يَفْعَلُ) شيئًا قط من تلك الأفعال؛ حتى يصح ما ذهبتم إليه، ثم استبعد حاله من حال شركائهم. ويجوز أن يكون (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة للمبتدأ، والخبر:(هل من شركائكم) وقوله: (مِنْ ذلِكُمْ) هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ؛ لأن معناه: من أفعاله، و (من) الأولى والثانية والثالثة: كل واحدةٍ منهنّ مستقلة بتأكيد، لتعجيز شركائهم، وتجهيل عبدتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولأنَّ الضَّميرَ في ((به)) راجعٌ إلى ((ما))، فلابُدَّ من تقدير مضافٍ؛ أي: بإيتائه، فيَكثُر الإضمارُ.

وعن بعضِهم: عُرُوُّ الثاني عن دقيقةِ الالتفاتِ لعُمومه.

قوله: (والخبر: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم}) أي: الله الموصوفُ بكونِه خالقًا ورازقًا ومحييًا ومميتًا، مَقولٌ في حقّه:{هَلْ مِن شُرَكَائِكُم} مَن هو موصوفٌ بما هو موصوفٌ به.

قوله: (لأن معناه: من أفعاله) أي: المشار إليه بـ ((ذلك)): الخَلْقُ والرِّزقُ والإماتةُ والإحياء، وقد عُلِمَ أنّها من أفعال الله.

قوله: (كلُّ واحدةٍ منهنَّ مستقلةٌ بتأكيد لتَعْجيز شركائهم)، أما أولاً: فإنَّ ((مِن)) لبيان ((مَنْ يفعل))، ومتعلِّقُه محذوفٌ؛ أي: هل جصل واستقرَّ مَنْ يفعلُ كائنًا من شركائكم؟ ! أَنكر أن يكونَ لهم شركاءُ تَفْعَلُ ما يفعل الباري.

وأما ثانيًا: فقيل: {مِن ذَلِكُم} و ((مِن)) للتَّبعيض؛ أي: يفعل بعضَ ما يفعلُه الباري ولو أقلَّ شيءٍ، كلاّ {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].

ص: 253

[(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)] 41 [

(الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) نحو: الجدب، والقحط، وقلة الريع في الزراعات، والريح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدواب، وكثرة الحرق والغرق، وإخفاق الصيادين والغاصة، ومحق البركات من كل شيء، وقلة المنافع في الجملة، وكثرة المضارّ. وعن ابن عباس: أجدبت الأرض وانقطعت مادّة البحر. وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر. وعن الحسن أنّ المراد بالبحر: مدن البحر وقراه التي على شاطئه. وعن عكرمة: العرب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما ثالثًا: فهي زائدة لتأكيد النَّفي معنًى، وقيل:((مِنْ)) الأُولى والثانيةُ للتبعيض.

قوله: (الحَرَق)، المغرب: الحَرَقُ: اسمٌ منَ الإحراقِ، كالشَّفَقِ مِن الإشفاقِ، ومنه: الحَرَقُ والغَرَقُ والشَّرَق.

قوله: (وإخفاق الصَّيادين)، الأساس: أخفَق الصّائد والغازي: لم يَظْفَرْ. قال:

فيُخفقُ مَرَّةً ويصيدُ أخرى

ويَفجعُ ذا الضَّغائن بالأريب

قوله: (والغاصَة) روى صاحب ((المطلع)): عن فُضَيلِ بنِ مرزوقٍ، قلت لعطية: أيُّ فسادٍ في البحر؟ قال: يقال: إذا قَلَّ المطَرُ قَلَّ الغَوْصُ؛ لأنَّ الأصداف تفتح أفواهَها إذا مطرت [السماء]، فما وقع فيها من ماء السَّماء فهو لؤلؤ. وروى محيي السُّنة عن عكرمة نحوه.

ص: 254

تسمي الأمصار البحار. وقرئ: (في البر والبحور)، (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بسبب معاصيهم وذنوبهم، كقوله تعالى:(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)] الشورى: 30 [. وعن ابن عباس: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ) بقتل ابن آدم أخاه. وفي البحر بأن جلندى كان (يأخذ كل سفينة غصبا)، وعن قتادة: كان ذلك قبل البعث، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم. ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك. فإن قلت: ما معنى قوله: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؟ قلت أمّا على التفسير الأول فظاهر، وهو أنّ الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه، وأمّا على الثاني فاللام مجاز، على معنى أنّ ظهور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تسمي الأمصارَ البِحارَ) ومنه حديثُ عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ: اصطلح أهلُ هذهِ البُحَيرَةِ أن يُعصِّبوه بالعصابة. البُحيَرة: المدينة.

قوله: (رجع راجعون) أي: رجع قوم راغبون في الإسلام رجوعًا.

قوله: (وأمّا على الثّاني فاللاّمُ مجاز)؛ لأنَّ المراد بالفساد حينئذ ظهورُ الشَّرِّ والمعاصي في الأرض بسبب كَسْبِ النّاس ذلك وقوله: {لِيُذِيقَهُم} عِلَّة لكَسْب الناس المعاصي وليس غرضُهم في كسبها أن يُذيقَهم اللهُ وبالَ ما كَسَبوا، فاللاّمُ حينئذٍ كاللاّم في قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

وأمّا على الأوَّل فهي عِلَّة لظُهور الفَسَادِ، والمراد بالفساد: الجَدبُ والقَحْطُ ومَحْقُ البَركاتِ وأمثالُها، وهي فعلُ اللهِ زجرًا لهم ورَدْعًا من ذلك الكَسْب، وإليه أشار بقوله:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عمّا هم عليه.

قال أبو البقاء: {لِيُذِيقَهُم} متعلِّق بـ {ظَهَرَ} أي: ليصيرَ حالُهم إلى ذلك. وقيل: التقدير: ((عاقَبهم ليُذيقَهُم)).

ص: 255

الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشوّ المعاصي في الأرض لأجل ذلك. وقرئ:(لنذيقهم) بالنون.

[(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)] 42 [

ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله، حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم، وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم، ودل بقوله:(كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون سببًا لذلك.

[(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)] 43 [

القيم: البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج، (مِنَ الله) إمّا أن يتعلق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (((لنذيقهم)) بالنون) قرأها ابن كثير.

قوله: (ثم أكَّد تَسبُّبَ المعاصي لغَضَبِ الله ونكالِه حيث أمرَهم بأنْ يَسيروا) هذا مبنيٌّ على قوله: ((أنَّ اللهَ تعالى قد أفسَد أسبابَ دُنياهم ومَحقَها؛ ليُذيقَهم وَبَالَ بَعضِ أعمالِهم في الدُّنيا)).

وقال الإمامُ: لمّا بيّن حالَهم بظُهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم، بيَّن لهم هلاك أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالُهم كأفعالهم، فقال:{قُلْ سِيرُوا} . ويجوز أن يكون مبنيًّا على الوجهِ الثاني، واللاّمُ في قول المصنِّف:((لغضب الله)) تتعلّق بـ ((المعاصي)) على التَّهكُّميَّة؛ أي: أكَّد تسبُّبَ أن يعصوا لأجل غضب الله.

ص: 256

بـ (يأتي)، فيكون المعنى: من قبل أن يأتى من الله يوم لا يردّه أحد، كقوله تعالى:(فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها)] الأنبياء: 40 [أو بـ (مردّ)، على معنى: لا يردّه هو بعد أن يجيء به، ولا ردّ له من جهته. والمردّ: مصدر بمعنى الردّ، (يَصَّدَّعُونَ) يتصدّعون: أى يتفرّقون، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)] الروم: 14 [.

[(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)] 44 - 45 [

(فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضارّ؛ لأنّ من كان ضاره كفره؛ فقد أحاطت به كلّ مضرّةٍ (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أى: يسؤون لأنفسهم ما يسوّيه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغص

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو بـ {مَرَدَّ} أي يتعلق قوله: {مِنَ اللَّهِ} بـ {مَرَدَّ}، و {مِنَ} ابتدائيةٌ؛ ولهذا قال: ((من جهتِه))، والوجهُ الأوّلُ أبلغُ لإطلاق الردِّ وتَفخيمِ اليومِ، وإن إتيانَه من جهة عظيمٍ قادرٍ ذي سلطان قاهرٍ.

قوله: ({فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} كلمةٌ جامعةٌ) أي: قليلةُ الألفاظِ عظيمةُ المباني وافرةُ المعاني ونظيرُه ما وَردَ في الحديث يومَ بدرٍ: ((هذا يومٌ له ما بعدَه))، أي: ما يعدهُ من الظفر والنُّصرة؛ إذ هو فتحُ الفتوح، وبه يدخل الناس في دِين الله أفواجًا إلى قيام القيامة. ومنه قوله تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].

قوله: (لئلاّ يُصيبَه في مَضْجَعِه ما يُنيبه عليه) من النُّبُوّ، أي: يجعله نابيًا، يقال: نَبَا على المَضْجَع: إذا لم يستقرَّ عليه، وأنباه عليه غيرُه: وتقول العرب: الصِّدقُ يُنبي عنك لا الوعِيد، أي: يُبعِدُ عنك العدوَّ.

الأساس: نَبَا به منزله وفِراشُه. قال:

فأقم بِدارٍ ما أصبتَ كرامةً

وإذا نَبا بك منزلٌ فتحوَّلِ

ص: 257

عليه مرقده: من نتوٍء أو قضض أو بعض ما يؤذى الراقد. ويجوز أن يريد: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق: أمّ فرشت فأنامت. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعدّاه. ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه. (لِيَجْزِيَ) متعلق بـ (يمهدون) تعليل له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو قضض)، الأساس: وقعنا في قَضَّةٍ وقَضَض: في حصًى صغارٍ مُكسَّرة، وفي فِراشِه قَضَضٌ، وأقَضَّ عليه المَضْجعُ، أي: تَترَّب وخَشُنَ، وأقضَّ اللهُ عليه يتعدَّى ولا يتعدَّى.

قوله: (أمّ فرشت فأنامت) مَثلٌ يضربُ في بر الرَّجلِ صاحِبه وحُنوِّه عليه. قال قُراد ابن غَوِيّة:

وكنت له عَمًّا لطيفًا ووالدًا

رَؤُوفًا وأمًّا فَرَّشَتْ فأنامت

ورواية الميداني: مهدت فأنامت، فعَلى هذا قولُه:{فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} كنايةٌ إيمائيةٌ عن الشَّفقةِ والمَرْحمةِ، وعلى الأوَّل استعارةٌ تبعيَّةٌ، شبَّه حالة الملكَّف مع عَمَله الصالحِ وما يتحصَّل به من الثَّوابِ ويَتخلَّص منَ العقاب، بحالة مَن يُمهِّدُ فراشَه ليستريحَ عليه، ولا يُصيبه في مَضجَعِه ما يُنغِّص عليه.

قولُه: ({لِيَجْزِيَ} متعلِّق بـ {يَمْهَدُونَ} تعليلٌ له) قال القاضي: هو عِلَّة لـ {يَمْهَدُونَ} أو لـ {يَصَّدَّعُونَ} ، والاقتصار على جزاء المؤمن للإشعار بأنه المقصودُ بالذات، والاكتفاء على فحوي قولِه:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ، فإنَّ فيه إثباتَ البُغْضِ لهم والمحبَّة للمؤمنينَ ومَنْ فَضْلُه دالٌّ على أنَّ الإثابةَ تَفضُّلٌ مَحْضٌ، وتأويلُه بالعطاء أو الزيادةِ على الثَّواب عُدولٌ عنِ الظاهرِ.

ص: 258

(مِنْ فَضْلِهِ) مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب؛ وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب؛ فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له: أو أراد من عطائه وهو ثوابه؛ لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب. وتكرير. (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: الظاهِرُ أن قولَه تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} -الآيةُ بتمامِها- كالمُوردِ للسّؤال، والخطابُ لكلِّ أحدٍ من المكلَّفين. وقولُه:{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} -الآية- واردٌ على الاستئنافِ، مُنْطَوٍ على الجواب، فكأنَّه لمّا قيلَ: أَقيمُوا على الدِّين القيِّم، قَبْلَ مجيءِ يومٍ يتفرَّقون فيه، فقيل: ما للمُقيمين على الدِّين وما على المُنحرفين عنه، وكيف يتفرَّقون؟ فأُجيبَ:{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} الآية.

وأمّا قولُه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} -الآية- فينبغي أن يكونَ تعليلاً للكلِّ ليفصل ما ترتَّبَ على ما لهم وعليهم، ولكن يتعلَّقُ بـ {يَمْهَدُونَ} وحدَه لشدَّة العنايةِ بشأن الإيمانِ والعمل الصالحِ وعَدَم العَبْءِ بعمل الكافرِ، ولذلك وُضِع مَوضِعَه {نَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .

قال الإمام: {نَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وعيد، ولم يُفَصِّله، وهذا الإجمالُ فيه كالتفصيل، فإنَّ عدمَ المحبةِ مِن اللهِ تعالى غايةُ العذابِ.

قوله: (وهذا يشبه الكناية)، يعني: استعمال الفضل هنا من الكناية، وليست بكنايةٍ تامَّةٍ؛ لأنَّه لم يُرِد بِالفَضْل الأجرَ الواجبَ على مَذهبِه، بل الزِّيادةَ ولكن بعد حُصول مَتْبُوعِه، فهو بهذا الاعتبار كناية، ولَعَمْري هذا تَعسُّفٌ، والوجه الثاني أشدُّ تَعسُّفًا منه.

قوله: (لأنَّ الفُضولَ) عن بعضِهم: الفُضول: جَمعُ الفَضْلِ، يُستعملُ في الذَّمّ، والواحد في المَدْح، بخلاف الرِّيح والرِّياح، فإنهما عكس هذا.

ص: 259

الصالح. وقوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) تقرير بعد تقرير، على الطرد والعكس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على الطَّرد والعَكْس) وهو كلُّ كلامَين يُقَرِّرَ الأوَّلُ بمنطوقِه مفهوم الثّاني وبالعكس. قال ابن هانئ:

فما جازَهُ جودٌ ولا حلَّ دونَه

ولكن يَصيرُ الجودُ حيثُ يصيرُ

قال المالكيُّ في ((المصباح)): متى انتَفى كونُ الجُود يتقدَّم شخصًا ويتأخَّر عنه، فقد ثَبَت كونُه معه وبالعكس.

وأما تنزيلُ الآيةِ عليه على ما قرَّره المصنِّفُ، فإنَّه تعالى قال أولاً:{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، ثم علَّله بقوله:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} ، وكان من حقِّ الظاهر:(لِيَجْزِيَهم) فوُضع المُظهَرُ موضِعَ المضمَرِ إشعارًا بالعِلِّيةِ، وأنَّ الإيمانَ والعملَ آذنا بأنَّ الله وليُّ صاحبِهما حيثُ يَجزيه من فَضْله، فيكون مفهومُ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} الموافقُ أنَّه يُحب المؤمن الصالح، مفهومُه المخالفُ أنَّه لا يحبُّ الكافرَ، فقولُه:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} بمَنطُوقه مقرِّرٌ لمفهوم السّابِق وبالعكس.

وفي بعض الحواشي المغربية: أنَّ كُلَّ مؤمنٍ صالحٍ مفلحٌ عندَه وعَكسُه في ضِمنه، وهو مَن ليس بمؤمنٍ صالحٍ لا يُفلح عندَه، وكذلك قوله:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} طَرْدُه كلُّ كافرٍ غير محبوبٍ عندَه وعكسه في ضِمنه، وهو مَن ليس بكافر محبوبٌ عندَه؛ لأنه مؤمنٌ، والعكس ملزومُ الطَّردِ؛ لأنَّ العكسَ يحتاج إلى الطَّردِ قطعًا، بخلاف الطَّردِ فإنه لا يحتاج للعكس.

قال الإمام: وفي الآية لطيفةٌ، وهي أنَّ الله تعالى عندما أسندَ الكُفر والإيمانَ إلى العبدِ قدَّم الكافرَ، وعندما أسنَدَ الجزاءَ إلى نفسه قدَّم المؤمنَ؛ لأنَّ قولَه:{مَن كَفَرَ} وعيدٌ للمكلَّف ليمتنعَ عمّا يَضرُّه فيُنقذه من الشرِّ. وقولُه: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} تحريضٌ له وتَرغيبٌ في الخير ليُوصِلَه إلى الثَّواب، والإيعادُ مُقدَّم، وأمّا عند الجزاء ابتدأَ بالإحسان إظهارًا للكَرم والرَّحمة.

ص: 260

[(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)] 46 [

(الرِّياحَ) هي الجنوب والشمال والصبا، وهي رياح الرحمة، وأما الدبور فريح العذاب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» وقد عدد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({الرِّياَحُ} هي الجنوبُ والشَّمالُ والصَّبا) قال المرزوقيُّ في كتاب ((الأزمنة والأمكنة))، روى ابنُ الأعرابيِّ عن الأصمعي وغيره قالوا: الرِّياح أربعة: الجنوبُ والشَّمال والصَّبا والدَّبور. قال ابن الأعرابي: وكلُّ ريحٍ بينْ ريحينِ فهي نَكباءُ، والجمع: نَكْبٌ.

وأما مَهبُّهنَّ فقال ابن الأعرابيِّ: مَهبُّ الجنوب مِن مَطلعِ سُهيلٍ إلى مطلع الثُّريّا، والصَّبا من مطلع الثُّريّا إلى بنات نَعْشٍ، والشَّمال مِن بَنات نَعْشٍ إلى مسقط النَّسْر الطائرِ، والدَّبُور من مَسقط النَّسر الطَّائِر إلى مَطلعِ سُهَيل.

وعن أبي عُبيدَة: الشمال عند العرب للرَّوح، والجنوب للأمطار والأنداء وللشِّقّ والعُمْق، والدّبُور للبَلاء، وأهونُه أن يكون غُبارًا عاصفًا يُقذي العينَ، وهي أقلُّهن هُبوبًا، والصّبا لإلقاح الأشجار.

قوله: (اللَّهم اجعلها رياحًا ولا تَجعلها رِيحًا)، النهاية: العربُ تقول: لا تَلقَحُ السَّحاب إلا من رِياح مختلفة؟ يريد: اجعَلْها لَقاحًا للسَّحاب ولا تَجعلْها عذابًا، ويُحقِّقُ ذلك مجيءُ الجَمعِ في آيات الرَّحمةِ، والواحدِ في قِصصِ العذابِ؛ كـ {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] و {رِيحًا صَرْصَرًا} [فُصِّلَت: 16].

الراغب: الريحُ معروف، وهي فيما قيل الهواءُ المتحرِّك، وعامَّة المواضعِ التي ذكر [الله تعالى] فيها إرسالَ الريح بلفظ الواحد فعبارةٌ عن العذاب؛ كقوله: {نَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا

ص: 261

الأغراض في إرسالها، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض» . وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك، (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) في البحر عند هبوبها. وإنما زاد (بِأَمْرِهِ) لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت فأغرقتها، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يريد تجارة البحر؛ ولتشكروا نعمة الله فيها. فإن قلت: بم يتعلق (وليذيقكم)؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون معطوفًا على (مبشرات) على المعنى، كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم. وأن يتعلق بمحذوف تقديره: وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلناها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صَرْصَرًا} [القمر: 19] وكلُّ موضعٍ ذُكر فيه بلفظ الجمع عبارةٌ عن الرَّحمة؛ كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} .

قوله: (إذا كَثُرت المؤتَفِكاتُ زَكَتِ الأرضُ)، الأساس: أَفِكَه عن رأيه: صَرَفهُ، ورأيتُ أن أفعَلَ كذا فأَفكْتُ عن رأيي، وائتفكت الأرض بأهلها: انقلبت، وإذا كَثُرت المؤتَفِكات زَكَتِ الأرضُ، وهي الرِّياحُ المختلفاتُ المهابِّ.

قوله: (لأنَّ الريحَ قد تهبُّ ولا تكونُ مؤاتيةً)، قال صاحب ((المطلع)): يعني هبوبُها مواتيةً أمرٌ من أمورِه التي لا يقدر عليها غيرُه. وإليه الإشارةُ: بقوله {إِن يَشَا يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33]، ثم قال:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: 34] أي: بالغَرَق إذا اشتدَّت الرِّيح وقيل: الحاصلُ أنّه قد يُجرى الرِّيح على وَجْهٍ لا تكونُ مواتيةً أي: موافقةً للمُراد، فيحتاج الملاَّحون إلى حَبْس السُّفنِ، ولو كان بطبيعة الرِّيح لما اختَلفت، فعُلم أن ذلك بإرادة الله وأمْرِه.

قوله: (ولِيُذيقكم وليكونَ كذا وكذا أرسلناها)((كذا وكذا)) كنايتان عن قوله: {وَلِتَجْرِيَ

ص: 262

[(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)] 47 [

اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، والمحذوفُ المقدَّر:((أرسلناها))، والمحذوفُ المقدَّر:((أرسلناها))، فيكون عطفَ جملةٍ على جملةٍ.

قال القاضي: {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} وهي المنافع التابعة لها من الخِصْب والرَّوح، وهو عطفٌ على علَّة محذوفةٍ دلَّ عليها {مُبَشِّرَاتٍ} ، أو عليها باعتبار المعنى، أو على {يُرْسِلَ} بإضمار فعلٍ معلَّلٍ دل عليه {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} .

قوله: (اختَصَرَ الطريقَ إلى الغَرَض) إلى آخره، لخَّصَه صاحبُ ((المطلع)) وقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} كما أرسلناك إلى هؤلاء {فَجَاءُوهُم} بالدَّلالاتِ الواضحاتِ على صِدْقِ دَعْواهم كما أَتيتَ هؤلاءِ بالمُعجزات الدَّالةِ على صدقكَ {فَانتَقَمْنَا} أي: انتصرنا {مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} وهم المكذِّبون {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} اختَصَر الطَّريقَ إلى الغَرَض بأنْ أدرج تحتَ ذِكْر الانتصار والنصر ذِكْرَ الفريقَينِ-أعني المكذِّبين والمصدِّقين- وقد أَخْلى الكلامَ أولاً عن ذكرهما، وفي هذا تبشير للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ بالنَّصرِ في العاقبةِ على المكذبينَ، وأكَّد ذلك بقوله:{حَقًّا} ومعنى حَقًّا أنَّه تعالى أَخْبر به، وإذا أَخبر بشيء حُقَّ ذلك الشَّيءُ ووُجد ما أخبرَ به.

قوله: (بأن أَدرَجَ تحتَ ذكرِ الانتصار)، الأساس: أَدْرجَ الكُتيب في الكتاب: جعلَه في دُرْجِه؛ أي: في طَيِّهِ وثَنِيِّه.

وقلت: هاهنا ثلاثةُ مَقامات: أولها: قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} وليس فيه أنَّ هذا القوم من هم؟ المصدِّقون أم المكذبون؟ وإليه الإشارة بقوله: ((وقد أخلي الكلامُ أولاً عن ذِكرهما)).

ص: 263

وقد أخلي الكلام أوّلًا عن ذكرهما. وقوله: (وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية؛ حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم، وقد يوقف على (حقًّا)، ومعناه: وكان الانتقام منهم حقًا، ثم يبتدأ: (علَيْنا نَصْرُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثانيها: قوله: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} ، صرَّح فيه ذكر المجرمين، وأَدرج فيه ذِكْر المؤمنين، لأنَّ المُراد: انتقمنا للَّذين آمنوا من الذين أجرموا.

وثالثها: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} صرَّح بذكر المؤمنين، وأدرج ذكر المكذبين؛ لأنَّ المعنى: كان حقًّا علينا نصرُ المؤمنين على الكافرين، وإليه الإشارةُ بقوله:((أدرجَ تحتَ ذِكْر الانتصارِ والنَّصر ذِكْر الفريقين))، صرَّح في الانتقام بذِكْر المجرمينَ، وفي النَّصر بذِكْر المؤمنين تعظيمًا للمؤمنين وازدراءً بالمكذِّبين، ورَفْعًا لشأن أولئك، وحَطًّا من منزلة هؤلاء، والله أعلم.

قوله: (وقد يُوقَفُ على {حَقًّا}، ومعناه: وكان الانتقامُ منهم حقًّا) قال صاحبُ ((الكواشي)): أُوْلِعَ جماعةٌ بالوَقْف على {حَقًّا} وليس بمُختارٍ؛ لأنَّ الوَقْفَ على {حَقًّا} يُوجب الانتقامَ ويُوجبُ نَصْرَ المؤمنين، ولا يَلزم أنه تعالى يَنتقمُ من كلٍّ، بل قد يعفو، وتَرْكُ الوَقْف على {حَقًّا} إنّما يُوجب نَصْرَ المؤمنين، ولا يحتاج إلى تقديرِ محذوفٍ؛ أي: كان الانتقامُ.

ذَكَر هذا المعنى صاحبُ ((المُرشد)) وزاد: أنه تعالى قد يعفو ولا ينتقمُ كما فَعَل بقوم يونسَ مِنْ صَرْف العذابِ، ولا بدَّ أن يَنْصُرَ المؤمنين على كلِّ حالٍ.

وقلت: وفي القول بإيجاب نَصْرِ المؤمنينَ إيجابُ القولِ بالانتقام من الكافرين، وبالعكس كما مَرَّ الكلامُ في الإدراج، والأسلوبُ من باب الطَّردِ والعَكسِ أو التَّذييل.

فإن قلت: لِمَ ذهب إلى الإدراج؟ وهَلاّ جَعل القرينتَينِ مستقلَّتينِ في الدّلالةِ كما قالا.

ص: 264

الْمُؤْمِنِينَ)، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا قوله تعالى: (كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

[(الله الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)] 48 - 49 [

(فَيَبْسُطُهُ) متصلًا تارةً (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أى: قطعًا تارةً (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في التارتين جميعًا. والمراد بالسماء: سمت السماء وشقها، كقوله تعالى:(وَفَرْعُها فِي السَّماءِ)] إبراهيم: 24 [، وبإصابة العباد: إصابة بلادهم وأراضيهم (مِنْ قَبْلِهِ) من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها)] الحشر: 17 [. ومعنى التوكيد فيه: الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلتُ: لا بُدَّ من القولِ به؛ لأنَّ موقعَ قولِه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} موقعُ التوكيدِ والتَّذييلِ والتعليل من قوله: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} ؛ لأنَّ المعنى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ} فكذَّبوهم واستهزؤوا بهم وقَصَدوا الفَتْكَ بهم، {فَانتَقَمْنَا} منهم ونَصَرْنا المؤمنين، وقد جَرت سُنَّةُ الله بالانتقام والنَّصر.

قوله: (ما من امرئ مسلم) الحديث بتمامه مذكورٌ في ((شرح السُّنة)) عن أبي الدَّرداء.

قوله: (وشِقّها) أي: ناحيتها. الأساس: قعد في شِقٍّ من الدّار؛ أي: ناحيةٍ منها.

قوله: (وتمادي إبلاسُهم)، الأساس: ناقةٌ مِبْلاس: لا تَرْغو من شِدّة الضَّبَعَة، وقد أبلَسَتْ، ومنه أبلَسَ فلانٌ: إذا سَكت من يأس، {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .

ص: 265

[(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)] 50 [

قرئ: "أثر" و (آثار) على الوحدة والجمع. وقرأ أبو حيوة وغيره: (كيف تحيى)، أى: الرحمة (إِنَّ ذلِكَ) يعنى: إنّ ذلك القادر الذي يحيى الأرض بعد موتها: هو الذي يحيى الناس بعد موتهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: ((أَثَرِ)) و {آثَارِ} على الوحدة والجمع) على الوحدة: نافعٌ وابن كثيرٍ وأبو عمرٍو وأبو بكرٍ، والباقون: على الجمع.

قوله: (وقرأ أبو حَيوةَ وغيرُه: ((كيف تُحيي))؛ أي: الرحمة) قال ابن جِنِّي: قرأها الجَحْدريُّ وابنُ السَّميفع وأبو حيوة ذهب بالتأنيث إلى لفظ الرَّحمةِ، ولا يقول على هذا: أما ترى إلى غلامِ هندٍ كيف تَضْرِب زيدًا؟ بالتاء. والفَرقُ أنَّ الرحمةَ قد يقوم مقامَها أَثرُها، فإذا ذكَرتَ أثرَها فكأنَّ الغرضَ إنما هو هي، وليس كذلك غلامُ هندٍ.

وقوله: {كَيْفَ يُحْيِي} جملة منصوبةُ المحَلِّ على الحال حملاً على المعنى لا على اللَّفظ، وذلك أن اللّفظ استفهامٌ، والحال ضربٌ من الخبر، والاستفهام والخبر متدافعان.

وتلخيص كونه حالاً قولُك: فانظر إلى أَثرِ رحمةِ الله مُحييةً للأرضِ بعد موتها.

قوله: (الذي يحيي الأرض بعد مَوتها: هو الذي يُحيي الناسَ بعد موتِهم)، ((يحيي)) الأول حكايةُ حالٍ ماضيةٍ بشهادة قولِه:{فَانظُرْ} ؛ لأنَّ الأمر بالنَّظرِ مسبوقٌ بوجود المنظورِ إليه، وإنّما عَدَل إلى المضارع لإحضارِ تلك الحالةِ العَجيبةِ الشأنِ في مشاهدة السامِع، وهي اخضرارُ الأرضِ بآثار رحمةِ الله بعد جَفافِها نَحْوَ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ

ص: 266

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المقدورات قادر، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء.

[(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)] 51 - 53 [

(فَرَأَوْهُ) فرأوا أثر رحمة الله؛ لأنّ رحمة الله هي الغيث، وأثرها: النبات. ومن قرأ بالجمع: رجع الضمير إلى معناه؛ لأنّ معنى آثار الرحمة النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. (ولئن): هي اللام الموطئة للقسم، دخلت على حرف الشرط، و (لَظَلُّوا) جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين، أعنى: جواب القسم وجواب الشرط، ومعناه: ليظلنّ، ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السماء ماء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]. قال: صُرِفَ من الماضي إلى لفظ المضارع لنُكتةٍ فيه، وهي إفادةُ بقاء أثَرِ المطر زمانًا بعدَ زمانٍ.

وأما ((يُحيي)) الثاني فمضارعٌ، ولمّا كان وَعْدُ الله مقطوعَ الحصولِ جيءَ به في التنزيل اسمًا مع اللام خبرًا لـ (أنَّ) واسمُه اسمُ الإشارةِ، والمشارُ إليه ما يُفهم من الكلام السابق الدالِّ على القُدرة الباهرة، ولذلك قال:((ذلك القادر))، وذُيِّلَتْ بقوله:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

قوله: ({عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من المَقدُورات قادرٌ)، الراغب: القديرُ: هو الفاعلُ لِمَا يشاءُ على قَدْر ما تَقتضيه الحكمةُ لا زائدًا ولا ناقصًا، ولهذا لا يصحُّ أن يُوصفَ به إلاّ الله تعالى.

قوله: (ومعناه: ليَظَلُّنَّ)، قال أبو البقاء:{لَّظَلُّوا} بمعنى: لَيَظَلُّنَّ؛ لأنَّه جوابُ الشَّرط، وكذلك {أَرْسَلْنَا} بمعنى: يُرسل.

ص: 267

القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر؛ استبشروا وابتهجوا، فإذا أرسل ريحًا فضرب زروعهم بالصفار، ضجوا وكفروا بنعمة الله، فهم في جمع هذه الأحوال على الصفة المذمومة؛ كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله، فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، فلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب ((الكشف)): الماضي بمعنى المستقبل؛ كقوله تعالى: {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ} ، ثم قال:{لَا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88].

وقال مكّي: {لَّظَلُّوا} معناه: لِيَظَلُّوا، فالماضي في موضع المستقبَل، وحَسُن هذا؛ لأنَّ الكلامَ بمعنى المجازاةِ، والمجازاةُ لا تكونُ إلا بمُستقبَل. هذا مذهبُ سيبويه.

قوله: (بالصُّفار) والصُّفار بالضم: صُفْرةٌ تعلو اللَّونَ والبَشَرة، وصاحبه مَصْفورٌ.

الأساس: رجلٌ مَصْفُورٌ وبه صُفار: داءٌ يَصفر منه.

قوله: (فهم في جميع هذه الأحوال) نتيجة قوله: ((ذمَّهم الله)).

وقوله: ((كان عليهم أن يتوكَّلوا)) إلى آخِره، بيانٌ لتعكيس أُمورِهم في جميع ما به ذَمَّهم اللهُ تعالى في الآيات الثلاث:

إحداها: قولُه: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، وهو المراد من قوله:((إذا حَبسَ عنهمُ القَطْرَ قَنَطُوا من رحمته))، وبيانٌ لتعكيسِهم فيه قوله:((كان عليهم أن يتوكَّلوا على اللهِ فقَنَطُوا)).

وثانيتها: قولُه تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ} الآية، وبه عني بقوله:((فإذا أصابَهم برحمتِه)) إلى آخِره، وبيانُ التَّعكيسِ فيه قولُه:((وأن يَشكُروا نِعْمتَه فلم يَزيدوا على الفَرَح)).

وثالثتُها: قولُه تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} الآية، ويُفَسِّره:((فإذا أرسلنا عليهم ريحًا)) إلى آخِره، وبيانُ التَّعكيس قولُه:((وأن يَصْبروا على بلائه فكَفَروا)).

ص: 268

يزيدوا على الفرح والاستبشار، وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. والريح التي اصفرّ لها النبات: يجوز أن تكون حرورًا وحرجفًا، فكلتاهما مما يصوح له النبات ويصبح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلتَ: مُقتضى الظاهر أن يُوضعَ موضعَ: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لم يَحمَدُوا؛ لقوله: ((وأن يَشْكُروا نِعمتَه))، ومَوضِعَ {لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} لضَجُّوا وجَزِعُوا؛ لقوله:((وأن يصبروا على بلائه)).

قلت: إنما عَدَل في الأوَّل ليُؤذِنَ بأنَّ الفرحَ المُفرِطَ بَطَرٌ وأَشَرٌ وليس ذلك من شأن الشّاكر الحامِدِ، بل من دَيْدَنِ الكافر، وأشعَرَ بالثاني أنَّ فقدانَ الصَّبرِ عند نزول البلاء دليلٌ على عدم الرِّضى بالقضاء، وهو إخراجٌ لِرِبْقَةِ العُبوديَّةِ، كما قيل:((من لم يَصبرْ على بلائي؛ فلْيَتَّخذ ربّاً سِواي)).

فإن قلتَ: قد عُلم من تقديم المصنِّف معنى الإبلاس على الاستبشار أنه راعي معنى لفظ ((قبل)) في الآية الثانية، فما فائدة تأخيرِه في التَّنزيل وتكرير ((قبل)

قلت: أخَّرَ الإبلاسَ عن الاستبشار، وأبرزَه في صُورة الشَّرطيَّة إرادةً للمبالغة وتثنيةً للتَّقريع، إذ لو أُريدَ الظاهرُ لقيل: فإذا أصاب به القانطينَ فَعَلوا كذا؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] ولذلك قَطَع ما هو متَّصلٌ بأصل الكلام من قوله: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} ، وعلَّق به نوعًا آخَر من التَّوبيخ إشعارًا بتعديد النِّعَم وتكرير تَلقِّيهم إيّاها بالكفران. ألا ترى كيف عقَّب ذلك بقوله:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآيةَ.

قوله: (حَرورًا) وهي الرّيحَ الحارَّة، وهي باللّيل كالسَّمُومِ بالنَّهار، والحَرْجَف: الرِّيحُ الباردَةُ.

ص: 269

هشيمًا. وقال: مصفرّا؛ لأنّ تلك صفرةٌ حادثة. وقيل: فرأوا السحاب مصفرًا، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر.

[(الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)] 54 [

قرئ بفتح الضاد وضمها، وهما لغتان. والضم أقوى في القراءة، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما: قال: "قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعف، فأقرأنى من ضعف". وقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) كقوله: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)] الأنبياء: 37 [، يعنى: أنّ أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)] النساء: 28 [،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصَوَّحَ البقل: إذا يبس أعلاه وفيه نُدُوّة، وصَوَّحتْهُ الرِّيحُ أيبسَتْهُ. كلها في ((الصِّحاح)).

قوله: (وقال مصفرّاً) أي: لم يقل: ((أصفر)).

قوله: (قُرِئَ بفَتْح الضادِ وضَمِّها) أبو بكر وحمزةُ: بالفتح، وعن حفصٍ وجهان، والباقون: بضمِّها.

قوله: (لِما روى ابنُ عمرَ) روينا عن الترمذيِّ وأبي داودَ، عن ابنِ عمرَ. قال عطيَّة ابن سعد العوفي: قرأتُ على عبد اللهِ بنِ عمرَ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} قال: ((من ضُعْفٍ))، قرأتُها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتَها عليَّ، فأخَذَ عليَّ كما أخذتُها عليكَ.

في ((المعالم)): الضمُّ لغةُ قريشٍ، والفتح: لغةُ تميمٍ. قال الزَّجاج: الاختيارُ الضمُّ؛ للرِّواية.

ص: 270

أي: ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافًا. وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة، وتلك حال القوّة إلى الاكتهال وبلوغ الاشدّ، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم. وقيل: من ضعف من النطف، كقوله تعالى:(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)] السجدة: 8، المرسلات: 20 [وهذا الترديد في الأحوال المختلفة، والتغيير من هيئةٍ إلى هيئةٍ وصفةٍ إلى صفة: أظهر دليٍل وأعدل شاهٍد على الصانع العليم القادر.

[(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ)] 55 [

(السَّاعَةُ) القيامة، سميت؛ بذلك لأنها تقوم في آخر ساعةٍ من ساعات الدنيا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: ابتدأناكم في أوَّل الأمر ضعافًا) فـ {مِّن} لابتداء الغاية، نحو قول القائل: فلانٌ ربّي فلانًا من فَقْره وجعله غَنيًّا؛ أي: من حالة فقرِه، فقوله:{مِّن ضَعْفٍ} أي: من حالةٍ كان فيها جَنينًا وطِفلاً مولودًا ورضيعًا.

قوله: (وبلوغ الأَشُدِّ) قيل: هو ما بين ثماني عشرةَ إلى ثلاثين، وهو واحدٌ على بناء الجمع. وقيل: هو جَمعٌ لا نظير له من لفظه. وكان سيبويه يقول: واحِدُه: شِدَّة.

الرّاغب: ويَدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ من قوله: {ضَعْفٍ} إشارةٌ إلى حالةٍ غيرِ الحالةِ الأُولى؛ ذِكْرُهُ مُنكَّرًا.

قوله: (وقيل: من ضُعْف) من النُّطَف، أي: أنشأكم من ماءٍ ذي ضعْف، وهو قِلَّتُه وحَقارتُه كقوله تعالى:{مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} .

قوله: ({السَّاعَةُ}: القيامة)، الراغب: السَّاعة جزءٌ من أجزاء الزَّمانِ، ويعبَّر به عن القيامة كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] سُمِّيت بذلك لسرعةِ حسابها،

ص: 271

أو: لأنها تقع بغتةً وبديهة. كما تقول: في ساعةٍ لمن تستعجله، وجرت علمًا لها كالنجم للثريا، والكوكب للزهرة. وأرادوا: لبثهم في الدنيا، أو في القبور، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. وفي الحديث:«ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون» قالوا: لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أو لِما نَبَّه عليه بقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35].

وقيل: السّاعاتُ التي هي القيامةُ ثلاثة:

السّاعة الكبرى، وهي بَعْثُ النّاس للمُحاسَبة المَشَار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:((إنَّ مِن أشراطِ السّاعة: أن يَتقاربَ الزمانُ، ويَنقُصَ العِلمُ، وتَظهرَ الفِتنُ، ويُلقي الشُّحُّ، ويَكثُرَ الهَرْجُ؛ أي: القَتْلُ)). أخرجه البخاريٌّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ عن عبد الله وأبي موسى.

والسّاعة الوسطى: وهي موتُ أهل القَرْنِ الواحدِ نحوَ ما روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن ابن عمرَ قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ العِشاءَ في آخر حياتِه، فلما سلَّم قال:((أَرأيتُكم ليلَتكم هذه، فإنَّ على رأس مئة سَنَةٍ لا يَبقى ممَّن هو اليومَ على ظَهر الأرضِ أحد)). وزاد الترمذيُّ وأبو داودَ: وقال ابنُ عمرَ: وإنَّما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبقى اليومَ ممَّن هو على ظَهْر الأرضِ)) يريد بذلك أن يَنخَرِمَ ذلك القَرْنُ.

والسّاعةُ الصُّغرى، وهي موتُ الإنسانِ، فساعةُ كلِّ إنسانٍ موتُه. وذلك نحو ما روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان الأعرابُ إذا قَدِموا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن السّاعةِ: مَتى السّاعةُ؟ فنَظَر إلى أحدَثِ إنسانٍ منهم، فقال:((إن يَعِشْ هذا لم يُدركْهُ الهَرَمُ حتى تَقومَ عليكم ساعتُكم)). قال هشامٌ: يعني: موتَهم.

قوله: (وفي الحديث: ((ما بينَ فَناءِ الدُّنيا إلى وَقْت البَعْثِ أربعونَ))) الحديثَ، من رواية

ص: 272

يعلم أهي أربعون سنةً أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم، وإنما يقدّرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون. أو يخمنون (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أى: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق. أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البخاريِّ ومسلمٍ وغيرِهما، عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بَين النَّفخَتَينِ أربعونَ)) قالوا: أربعونَ يومًا؟ قال أبو هريرة: أَبَيتُ. قَالوا: أربعونَ شهرًا؟ قال: أبَيتُ.

قالوا: أربعونَ سَنةً. قال: أبَيتُ. الحديثَ.

قوله: (أو يُخمِّنون)، الأساس: التَّخمينُ: الوَهْم والتَّقديرُ، وخَمَّن كذا، أي: حَزَره، وخَمَّنَه يَخمِنُه خَمْنًا.

الرّاغب: التَّخمين: أن يَتوهَّم في الشيء أمرًا ما لا عَن أمارةٍ.

قوله: (وهكذا كانوا يبنون أمرَهم) عطفٌ تفسيريٌّ على الجملة قبلَه.

الراغب: الإفكُ: كلُّ مصروفٍ عن وَجْهِه الذي يحقُّ أن يكونَ عليه، ومنه قيل للرِّياح العادلةِ عن المَهابِّ: مُؤتفِكَة. قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة: 9]. وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]؛ أي: يُصرفون عن الحقِّ في الاعتقادِ إلى الباطل، ومن الصِّدقِ في المقال إلى الكَذبِ، ومن الجَميل في الفعل إلى القَبيحِ.

ومنه قولُه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9]، ورجلٌ مَافوكٌ. مصروفٌ عن الحقِّ إلى الباطلِ.

وقال الواحديُّ: أَفَكَ فلانٌ إفكًا إذا صُرِف عن الصِّدقِ وعن الخيرِ.

ص: 273

بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة.

[(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ الله إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)] 56 - 57 [

القائلون: هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون. (فِي كِتابِ الله) في اللوح. أو في علم الله وقضائه، أو فيما كتبه، أى: أوجبه بحكمته. ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه، وأطلعوهم على الحقيقة تم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم:(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. فإن قلت: ما هذه الفاء؟ وما حقيقتها؟ قلت: هي التي في قوله:

فقد جئنا خراسانا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الكلبيُّ: كَذَبوا في قولهم: {غَيْرَ سَاعَةٍ} كما كذبوا في الدنيا.

وقال مقاتلٌ: يقول: هكذا كانوا يُكذِّبون بالبعثِ كما كذبوا أنَّهم لم يلْبَثُوا في قُبورهم إلاّ ساعةً، والمعنى: أنَّ اللهَ أرادَ أن يفضَحَهم فحَلَفُوا على شيءٍ يتبيَّنُ لأهلِ الجمعِ من المؤمنين أنّهم كانوا كاذبينَ في ذلك، ويستدلُّون بكذبِهم هناك على كِذبِهم في الدُّنيا، وكان ذلك مِنَ قضاء الله وقَدَرِه. يعني كما صُرفوا عن الصِّدق في حَلِفِهم حين حَلَفوا كاذبين، صُرِفُوا في الدُّنيا عن الإيمان، ثم ذَكَر إنكارَ المؤمنين عليهم كَذِبَهم بقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [الروم: 56].

قوله: (بما تَبيَّن) صلةُ ((الاغترار))، و ((ما)) موصوفةٌ أو موصولةٌ، يعني: مثل ذلك الإفكِ مطلقًا كانوا يؤفكُون في اغترارهم بشيءٍ ظَهر لهم الآنَ أنَّه ما كان إلاّ ساعةً، وهو طُولُ مُكْثِهم الذي غرَّهم بأنْ كذَّبوا بالبَعث والجزاء، وهو معنى قول مقاتلٍ: هكذا كانوا يكذِّبون بالبَعث.

قوله: (فقد جِئنا خُراسانا)، تمامُه:

ص: 274

وحقيقتها: أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان، وآن لنا أن نخلص، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث، أى: فقد تبين بطلان قولكم. وقرأ الحسن: (يوم البعث)، بالتحريك، (لا يَنْفَعُ) قرئ بالياء والتاء، (يُسْتَعْتَبُونَ) من قولك: استعتبني فلان فأعتبته، أى: استرضانى فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيًا عليه. وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله:

غضبت تميم أن تقتّل عامر

يوم النّسار فأعتبوا بالصّيلم

كيف جعلهم غضابا، ثم قال: فأعتبوا، أى: أزيل غضبهم. والغضب في معنى العتب. والمعنى: لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبةٍ وطاعة، ومثله قوله تعالى:(لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)] الجاثية: 35 [. فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها، وهو قوله: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)] فصلت: 24 [؟ قلت: أما كونهم غير مستعتبين: فهذا معناه. وأما كونهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قالوا: خُراسانُ أقصى ما يُرادُ بنا

ثمَّ القُفُولُ، فقد جِئنا خُراسَانا

قوله: (وقرأ الحسَنُ: ((يوم البَعَثِ))) قال ابن جنِّي: ((البَعَث)) بفتح العين، حرَّك العين لكونهما حرفَ حَلْقٍ.

قوله: ({لَّا يَنفَعُ} قرئ بالياء)، عاصمٌ وحمزةُ والكسائيُّ، والباقون: بالتاء الفوقانيّةِ.

قوله: (إذا كنت جانيًا) أي: إذا دُمتَ على جنايتك عليه، فيسترضيك المجني عليه بعَفْوٍ عنه وتَصْرِفُ جنايتَكَ عنه.

ص: 275

غير معتبين، فمعناه: أنهم غير راضين بما هم فيه، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه، فإن يستعتبوا الله: أى يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته.

[(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)] 58 - 60 [

(وَلَقَدْ) وصفنا لهم كل صفةٍ كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصةٍ عجيبة الشأن، لصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة إذا جئتهم بآيةٍ من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزوٍر وباطل، ثم قال: مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة. ومعنى طبع الله: منع الألطاف التي تنشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدى عليه ولا تغني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فشُبِّهت حالُهم بحال قومٍ)، هذا على معنى كونهم غيرَ مُعتَبين، وعلى معنى كونهم غيرَ مُستَعْتَبِينَ وهو جارٍ على الحقيقة؛ لأنَّهم بحيث لا يقال لهم: أرضُوا ربَّكم بالتَّوبة والطاعة.

قوله: (يَطبعُ اللهُ على قلوب الجَهَلَةِ) يعني: قولُه: {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وُضِعَ موضعَ الراجعِ إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، أو أنَّه عام يَدخلُ أولئك فيه دُخولاً أَوَّليًّا؛ وكلامُه محتَمِلٌ المعنَيينِ.

وقال القاضي: {لَا يَعْلَمُونَ} لا يطلبون العلمَ، ويُصرُّون على خُرافاتٍ اعتَقَدوها، فإنَّ الجهلَ المركَّب يَمنعُ إدراكَ الحَقِّ، ويُوجب تكذيبَ المُحِقِّ.

وقلت: كأنَّه ذَهب إلى الاحتمال الأوَّل.

ص: 276

عنه، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه، فوقع ذلك كنايةً عن قسوة قلوبهم وركوب الصدأ والرين إياها، فكأنه قال: كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة، حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة، (فَاصْبِرْ) على عداوتهم (إِنَّ وَعْدَ الله) بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله (حَقٌّ) لا بدّ من إنجازه والوفاء به، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعًا مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وقرئ بتخفيف النون. وقرأ ابن أبى إسحاق ويعقوب:(ولا يستحقنك)، أى: لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسناٍت بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا يَحملَنَّك على الخِفَّة والقَلَق جَزَعًا)، فاعل ((لا يَحمِلَنَّك)):{الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ، على مِنْوال: لا أرَينَّكَ هنا و ((جَزَعًا)) تمييزٌ، والظاهر أنه مفعولٌ له، وإن لم يكن فعلاً لـ {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ؛ لأنه لمّا كان المنهيُّ في الحقيقة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاز ذلك، و ((مما يقولون)) متعلِّق بـ ((جزعًا)). المعنى: لا يَحمِلَنَّك الذين لا يُوقنون على ما يَدخُلُكَ منه خفّة؛ لأن يُجزع من قولهم؛ أي: لا تكُن بحيث يَحمِلُكَ الجَزَعُ على الخِفَّة والعَجَلة، فَتَمْنعَكَ من تبليغ الرِّسالة؛ كقوله تعالى:{فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2]. والله أعلم.

تَمَّتِ السُّورة بحمد الله وعَوْنه، وبالله المُستعان.

ص: 277

‌سورة لقمان

مكية، وهي أربع وثلاثون آية، وقيل: ثلاث

بسم الله الرحمن الرحيم

[(الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)] 1 - 5 [

(الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ذى الحكمة. أو: وصف بصفة الله تعالى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة لقمان

مكية، وهي أربع وثلاثون آية، وقيل: ثلاث وثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ({الْحَكِيمِ} ذي الحكمة) عن بعض المَغاربةِ: وصْفُ الكتابِ الحكيمِ بذي الحكمة مجازٌ أيضًا على طريق التَّضْمينِ؛ لأنَّ الوَصفَ بـ ((ذو)) للتَّمَلُّك، والكتاب لا يملك الحكمةَ بل يَتضمَّنُها، فلأَجْل تَضمُّنِه الحكمةَ وُصِفَ بالحكيم على معنى ذِي الحكمةِ، والظاهرُ أنه منَ الاستعارة المَكْنيَّة كما في قوله تعالى:{إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41].

ص: 278

على الإسناد المجازي. ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعًا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة (هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب على الحال عن الآيات، والعامل فيها: ما في (تلك) من معنى الإشارة. وبالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. (لِلْمُحْسِنِينَ): للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس:

الألمعى الّذى يظن بك الظّ

ـنّ كأن قد رأى وقد سمعا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على الإسناد المجازيِّ) عن بعضهم: أنَّ ((الحكيم)) من صفات الله تعالى لا من صفات الكتاب، فأسَنَد صفةَ الله تعالى إلى الكتاب مجازًا؛ لأنَّ الكتابَ منه بدء وهو بسَبَبه.

قوله: (فحُذِفَ المضافُ) أي: قائلٌ في قائلِه، وأُقيمَ الهاءُ الذي هو المضافُ إليه مقامَ قائل، وبقي الهاء المتصل به مُنفردًا فانقلبت إلى ((هو)) المنفصِل، فصار مرفوعًا؛ لأنه فاعلٌ بعد أن كان مجرورًا؛ لأنه كان مضافًا إليه ثمَّ استَكَنَّ هذا الهاءُ المُنقَلِبُ من الجرٍّ إلى الرَّفع في {الْحَكِيم} الذي هو الصِّفةُ المُشبَّهةُ، كما يَستَكِنُّ في: يضرب.

قوله: (بالنَّصب على الحال عن الآيات، والعاملُ فيها: ما في {تِلْكَ} من معنى الإشارةِ) فقد سَبق في أوَّل ((البقرة)) عند قوله: {هَدًى} [البقرة: 2] الخلافُ فيه.

وردَّ ابنُ الحاجِبِ قولَ الزَّجَّاجِ وغيرِه. وأما أبو البقاء فذَكَر هاهنا ما ذكره المصنِّف.

قوله: ({وَرَحْمَةً} بالنصب، وبالرفع على أنه خبر) حمزةُ: بالرَّفع، والباقون: بالنَّصب.

قوله: (الألمَعيُّ الذي يَظُنُّ بك) البيت، قبلَه:

ص: 279

حكي عن الأصمعي: أنه سئل عن الألمعى فأنشده ولم يزد. أو: للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث لفضل اعتداد بها.

[(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)] 6 - 7 [

اللهو: كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنَّ الذي جَمَع السَّماحةَ والنْـ

نَجْدَةِ والبأسَ والتُّقى جَمعَا

النَّجْدة بفتح النُّون: الشَّجاعة والبلوغُ في الأمر بحيث يَعجِزُ منه غيرُه، والبأسُ: الحربُ، و ((الألمعيُّ)) خبرُ ((إنَّ))، وفي النُّسخ المصَّححة:((الألمعيَّ)) بالنَّصب.

الأساس: رجل أَلْمَعيٌّ ويَلْمَعي: فَرّاسٌ. وعن ابن الأعرابيِّ: الألمعيُّ: الذي إذا لَمَع له أوَّلُ الأمرِ يكتفي بظنِّه دون يَقِينهِ، وهو منَ اللَّمع، وهو الإشارة الخَفيَّة والنَّظر الخَفِيّ.

قوله: (ثم خصَّ منهمُ القائمينَ بهذه الثّلاثِ)، فعلى الأوَّل:((المُحسنين)) معبِّرٌ عن الذوات، و {الَّذِينَ} وصفٌ مجرورٌ جارٍ عليه على سبيلِ الكشفِ والبيان، وعلى الثاني: ذواتٌ مخصوصةٌ مُيِّزت تمييزَ جبريلَ وميكائيلَ عن ملائكته، يشهد له الضَّميرُ في قوله:((خصَّ منهم)). ويجوز أن يكون منصوبًا بتقدير: أَعْني، أو: أَذْكُر على الاختصاصِ؛ لأناقةِ المذكوراتِ وفَضْلِ مَنِ اتَّصف بها.

ص: 280

بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يتجر إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشًا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاٍد وثمود؛ فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستمنحون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشتري المغنيات،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بالخرافات)، المغرب: الخرافاتُ: الأحاديثُ المُستَمْلَحةُ، ومنه: الفُكاهةُ من الفاكهة.

قوله: (مِنْ كان وكان) كناية عن الأحاديث التي لا يُعتنى بها من فضول الكلام، كما أنّ ((كَيْتَ وكَيْتَ)) كِنايةٌ عمّا لا يُعتنى بشأنه.

قوله: (الموسيقار)) وفي بعض الحواشي: هو عِلْمُ الألحانِ، روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ وأبي داود، عن نافعٍ قال: كنتُ مع ابن عمرَ في طريقٍ فسمعَ مِزْمارًا، فوَضَع إصبَعيه في أُذنيهِ، ونَأَى عن الطَّريق إلى الجانب الآخَرِ، ثم قال لي بَعد أنْ بَعُدنا: يا نافعُ، هل تسمعُ شيئًا؟

قلت: لا، فرفعَ أُصبَعيهِ من أُذنيهِ، وقال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمِعَ صوتَ يَراعٍ، فصنع مثلَ ما صنعتُ. قال نافع: كنتُ إذ ذاك صغيرًا.

النهاية: اليَرَاعُ: قَصَبةٌ كان يُزْمَرُ بِها.

قوله: (فيستمنحون)، أي: يَسْتَحْسِنون من المَنْحِ، وهو العطاء. وفي بعض النسخ:((يَسْتَمْلِحون)).

ص: 281

فلا يظفر بأحٍد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهنّ ولا أثمانهنّ" وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت"، وقيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب. فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت: معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى (من)، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفة خز وباب ساجٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يَحِلُّ بيعُ المُغنِّيات) الحديث من رواية الإمام أحمد بن حنبل والترمذيّ وابن ماجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تَشْتروا القَيْناتِ ولا تَبيعُوهنَّ، ولا خيرَ في تجارتِهنَّ، وثَمنُهنَّ حرامٌ)).

وفي مثل ذلك أُنزلت هذه الآيةُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} جعل الله القَيناتِ نَفْسَ لَهْوِ الحديثِ مبالغةً، كما جَعل النّساءَ في قوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} نفس الزينة.

قوله: (صُفّة خَزّ) بضم الصاد المهملة.

الأساس: أصْلِحْ صُفَّةَ سَرْجِكَ، وأصفَفتُ السَّرجَ: جعلت له صُفَّةً.

المغرب: صُفَّة السَّرج: ما غُشِّيَ به بين القَرَبوسَيْنِ، وهما مقدَّمُه ومؤخَّرُه.

ص: 282

والمعنى: من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث: الحديث المنكر، كما جاء في الحديث:«الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى (من) التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله: (يَشْتَرِي) إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم، أو من شراء القيان. وإما من قوله:(اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ)] آل عمران: 177 [أى: استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه: استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ:(لِيُضِلَّ) بضم الياء وفتحها. و (سَبِيلِ الله) دين الإسلام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الإضافة بمعنى ((مِن)) التَّبعيضيةِ) فعلى الأوَّل: يُشبِهُ أن يكونَ من إضافة العامِّ إلى الخاصِّ، كما قال: اللهوُ يكون منَ الحديث وغيرِه. وعلى الثاني: عكسه؛ لأنَّ الحديثَ قد يكون لَهْوًا وغيرَه كما قال: ((بعض الحديثِ الذي هو اللهو منه))، والضميرُ المجرورُ راجعٌ إلى ((الحديث)).

قوله: (قُرئ: {لِيُضِلَّ} بضَمِّ الياءِ وفَتْحِها) ابنُ كثير وأبو عمرو: بالفَتح، والباقون: بالضَّم.

قال الزَّجاجُ: من قرأ بالضَّم فمعناه: لِيُضِلَّ غيرَه، وإذا أَضلَّ غيره فقد ضَلَّ هو أيضًا. ومن قرأ بالفتح فمعناه: لِيَصيرَ أمرُه إلى الضَّلال، فَدلَّ بالرَّديفِ على المَرْدوف.

قال صاحب ((الفرائد)): هذا لا يَخْلو عن نَظَرٍ، فإنَّ الرَّديفَ لا يدلُّ على المَرْدوفِ؛ لأنَّ الضّالَّ لا يلزمُ أن يكون مُضِلاًّ.

قلت: لمّا جعلَه من الكِناية لَزِمَ أن تكونَ الملازَمةُ مساويةً، إمّا أنَّها كذلك حقيقةً أو

ص: 283

أو القرآن. فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه. والثاني: أن يوضع (ليضل) موضع (ليضل) من قبل أن من أضل كان ضالًا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: ما معنى قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) قلت: لما جعله مشتريًا لهو الحديث بالقرآن قال: يشترى بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق. ونحوه قوله تعالى:(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)] البقرة: 16 [أى: وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها: وقرئ (وَيَتَّخِذَها) بالنصب والرفع عطفًا على (يشترى). أو (ليضل)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ادعاءً للشُّهرةِ، وكان المَخذُول أي: النَّضْرُ مشهورًا في إضلال الناسِ باشتراء اللهو، فإذا قيل له: ضالٌّ، جاز أن يكون منه الإضلال بقرائن الأحوال.

قوله: (لمّا جعله مشتريًا لهْوَ الحديثِ بالقرآن) إلى آخره. تلخيصُه: أنَّه لما استُعير استبدالُ الضّلالِ بالهدى، والباطلِ بالحقِّ: الشِّراءُ، نُظِر إلى المُستعار له، وجيء بوَصْفٍ ملائمٍ له، فكان تجريدًا للاستعارة كما أنَّ قولَه:{رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] ترشيحٌ لتلك الآيةِ {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] تجريدٌ لها، وقد سَبَق في ((البقرة)) تقريرُه.

قوله: ({وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصبِ والرَّفع) بالنَّصب: حفصٌ وحمزةُ والكسائيُّ، والباقون: بالرَّفع.

قال صاحب ((الكشف)): النَّصبُ على العطف على {لِيُضِلَّ} ، والرَّفعُ على {يَشْتَرِي}؛ أي: مَنْ يشتري لَهْوَ الحديثِ ويتَّخذُها هُزُوًا، وما بين ((يشتري)) و ((يتَّخذ)) مِنَ الصِّلة ليس

ص: 284

والضمير للسبيل؛ لأنها مؤنثة، كقوله تعالى:(وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً)] الأعراف: 86 [. (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) زامًا لا يعبأ بها، ولا يرفع بها رأسا: تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أى: ثقلًا ولا وقر فيهما، وقرئ بسكون الذال. فإن قلت: ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت: الأولى حال من (مستكبرا) والثانية من (لم يسمعها)، ويجوز أن تكونا استئنافين، والأصل في (كأن) المخففة: كأنه، والضمير ضمير الشأن.

[(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ الله حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)] 8 - 11 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بأجنبيٍّ، والباقي {بِغَيْرِ عِلْمٍ} للحالِ؛ أي:{لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} جاهلا.

قوله: (زامًّا) الجوهري: زمَّ لأنْفِه، أي: تكَبَّر، فهو زَامٌّ.

قوله: (وقُرئ بسكون الذّال) قرأها نافعٌ.

قوله: (والأُولى حالٌ من {مُسْتَكْبِرًا}) أي: من المُسْتَكِنِّ فيه يدلُّ عليه.

قوله: (والثانية مِنْ {لَّمْ يَسْمَعْهَا}) يكون حالانِ مُتَداخلانِ.

قال أبو البقاء: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حالٌ، والعاملُ {وَلَّى} أو {مُسْتَكْبِرًا} ، و {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} ، {وَقْرًا}: إما بدلٌ من الحال الأُولى، أو تَبيينٌ لها، أو حالٌ من فاعل ((يسمع)).

ص: 285

(وَعْدَ الله حَقًّا) مصدران مؤكدان، الأوّل: مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره؛ لأن قوله: (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) في معنى: وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما (حَقًّا) فدال على معنى الثبات: أكد به معنى الوعد، ومؤكدهما جميعا قوله:(لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ). (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه، يقدر على الشيء وضده، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء، وهو (الْحَكِيمُ) لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل، (تَرَوْنَها) الضمير فيه للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودةٍ على قوله:(بِغَيْرِ عَمَدٍ) كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيٍف ولا رمٍح تراني. فإن قلت: ما محلها من الإعراب؟ قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة. أو هي في محل الحرّ صفة للعمد أى: بغير عمد مرئية، يعنى: أنه عمدها بعمٍد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته (هذا) إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. و (الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) آلهتهم، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه. (فأرونى) ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ)] 12 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على قوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ}) متعلِّقٌ بقوله: ((استشهاد))، و {بِغَيْرِ عَمَدٍ} في التَّنزيل حالٌ من {السَّمَاوَاتِ} ، و {تَرَوْنَهَا} جملةٌ مستأنفةٌ مُبيِّنة؛ لأنَّ السَّماوتِ خُلقت بغير عَمَدٍ.

كأنَّه لمّا قيلَ: خَلَق السَّماواتِ والأرضَ بغير عَمَدٍ، قيل: وما الدَّليلُ عليه؟ فقيل: رؤيةُ النّاس لها غيرَ مَعْمُودةٍ، وكذلك لما قلت: أنا بغير سيفٍ ولا رُمحٍ، فقيل: ما الذي يدلُّ عليه؟

أجبت: لأنَّك تراني بلا سيفٍ ولا رُمحٍ. ويجوز أن يكون من باب نَفْي الشيءِ بنَفْي لازِمِه.

ص: 286

هو لقمان بن باعورا: ابن أخت أيوب أو ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفى إذا كفيت؟ وقيل: كان قاضيًا في بنى إسرائيل، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًا، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لقمان لم يكن نبيًا ولا ملكًا، ولكن كان راعيًا أسود، فرزقه الله العتق، ورضى قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيًا. وقيل: خير بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة. وعن ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطًا، وعن مجاهد: كان عبدًا أسود غليظ الشفتين متشفق القدمين. وقيل: كان نجارًا. وقيل: كان راعيًا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمةً. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وروى أن رجلًا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الذي ترعى معى في مكان كذا؟ قال: بلى. قال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وروى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: خُيِّر بين النُّبوة والحكمة فاختار الحِكمةَ)، الانتصاف: وفيه بُعْدٌ بيِّنٌ، فإنَّ الحكمةَ قَطْرةٌ من بحر النُّبوةِ، وأعلى درجاتِ الحكمةِ يَنْحَطُّ عن أَدنى مراتبِ النُّبوةِ، وليس من الحِكمة اختيارُ الحكمةِ المجرَّدة على النُّبوة.

قوله: (الصَّمت حُكْمٌ وقليلٌ فاعلُه) قال المَيْدانيُّ: الحُكم: الحِكْمةُ، ومنه قوله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، ومعناه: استعمالُ الصَّمتِ حِكمةٌ، ولكن قَلَّ مَنْ يَستعملُها.

ص: 287

فقال له داود: بحق ما سميت حكيمًا. وروى أن مولاه أمره بذبح شاةٍ، وبأن يخرج منها أطيب مضغتين، فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب، فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا.

وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر، ولقمان.

"أَنِ" هي المفسرة؛ لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي: هو العمل بهما، وعبادة الله، والشكر له،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بحقٍّ ما)، ((ما)) صفةُ ((حقّ))، وهي إبهاميَّةٌ، وهي التي إذا اقتَرنت باسمٍ نَكِرةٍ أَبْهَمَتْهُ إبهامًا وزادتُه شِياعًا وعُمومًا.

قوله: (بلال ومِهْجَع)، الاستيعاب: بلالٌ هو مولى أبي بكر، [كان] لبعض بني جَمُح، مُولَّدًا من مُوَلَّدِيهم، وقيل: من مُولَّدي مكةَ. وقيل: من مولَّدي السَّراة، اسمُ أبيه رَباحٌ وأُمُّه حَمامة.

ومِهْجَع: هو ابن صالح مولى عمر بن الخطاب، وقال ابن إسحاق: هو من اليَمنيِّينَ.

وقال ابن هشام: هو من عَكٍّ، أصابه سِباءٌ، فمَنَّ عليه عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه.

قوله: (((أنْ)) هي المفسٍّرةُ) في ((المطلع)): عن المُبرِّد {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تأويلَ الحكمةِ، كقولك: قد قدَّمتُ إليه أنْ ائتِ عَمرًا؛ أي: ائتِ عَمْرًا. المعنى: اشكرِ الله فيما أعطاكَ من الحكمة بالتَّوحيد والعبادةِ له.

قوله: (أنَّ الحكمةَ الأصليَّةَ والعِلْمَ الحقيقيَّ هو العملُ بهما) أي: بالحكمة والعلم،

ص: 288

حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر (غَنِيٌّ) غير محتاٍج إلى الشكر (حَمِيدٌ) حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.

[(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)] 13 [

قيل: كان اسم ابنه (أنعم) وقال الكلبي: (أشكم) وقيل: كان ابنه وامرأته كافرين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فعَطْفُ العلمِ الحقيقيِّ على الحكمة الأصليَّةِ عطفُ تفسيرٍ، وكذا عطفُ ((وعبادة الله)) على ((العمل بهما))، وكذلك الشُّكر لله على العبادةِ؛ لأنَّ الشُّكرَ: تعظيمُ المُنْعِمِ في القلب، وثناؤه باللِّسان، وتحقيقُ مَراضِيهِ بالجوارح.

النهاية: الحكيم: ذو الحكمة، والحِكمةُ: عبارة عن معرفة أفضلِ الأشياء بأفضلِ العلوم. وقال: الحُكمُ: العلمُ والفقهُ، وهو مصدرُ حَكَم يَحكُم، ومنه الحديث:((الخِلافَةُ في قُريشٍ، والحُكمُ في الأنصار)) خصَّهم بالحُكم؛ لأنَّ أكثرَ فقهاءِ الصَّحابةِ منهم.

المُغرب: الحِكمةُ: ما يمنعُ من الجَهْل. وقيل: كلُّ كلامٍ وافقَ الحقَّ. وعلى حَسْب ظاهرِ الحكمةِ فمعنى الآيةِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي: المعرفةَ بأفضلِ الأشياءِ، فلمّا عَدَل منه إلى العمل والشُّكرِ، عُلم أنَّ الحكيمَ كلَّ الحكيمِ مَنْ عَمِل بمُقتضى الحكمةِ، ولا يَكتفي بالمعرفة فحَسْبُ.

وقال ابن يُونسَ: أمّا الحكمةُ فتُطلق بإزاء مَعْنَييْن: أحدهما: أنّها عبارةٌ عن الإحاطة المجرَّدة بنَظْم الأمور ومعانيها الدَّقيقة والجَليلةِ. والثاني: وُقوع الأفعال متقنةً بحَسْب عِلْم الفاعلِ.

ص: 289

فما زال بهما حتى أسلما (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه، ومن لا نعمة منه البتة -ولا يتصوّر أن تكون منه- ظلم لا يكتنه عظمه.

[(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 14 - 15 [

أى (حَمَلَتْهُ) تهن (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) كقولك: رجع عودًا على بدٍء، بمعنى؛ يعود عودًا على بدٍء، وهو في موضع الحال. والمعنى: أنها تضعف ضعفًا فوق ضعف، أى: يتزايد ضعفها ويتضاعف؛ لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلًا وضعفًا. وقرئ:(وهنا على وهن) بالتحريك. عن أبى عمرو. يقال: وهن يوهن، ووهن يهن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ظلمٌ لا يُكْتَنهُ عِظَمُه) خبرٌ لـ ((أنّ)) وقوله: ((ولا يُتصوَّر أن يكونَ منه)) اعتراضٌ توكيدٌ لقوله: ((لا نعمةَ إلا هي منه)).

قوله: (رجع عَوْدًا على بدء)، وأصله قولهم لمن يستأنف العمل: رجع عَودَه على بَدْئه؛ أي: رجع يَعودُ عودًا على بدئه، ثم حُذف الفعل وجُعل المصدر دليلاً عليه، وأُضيف إلى ضمير ذي الحال. والمثالُ تُرِكَ فيه الضَّمير، والمصدرُ ليس بحالٍ، وإنّما الحالُ مَدْلوله، وهو الفعل.

قال أبو البقاء: المصدر هنا حالٌ، أي: ذاتُ وَهْنٍ، أو مَوْهُونة.

قوله: (((وَهَنًا على وَهَن))؛ بالتَّحريك عن أبي عمرو) أي: في قراءته الشاذة. روى ابن جِنِّي عن أبي عمرو وعيسى الثَّقفيِّ: ((وَهَنًا على وَهَنٍ)) فيهما، والكلام فيه كالكلام في قوله:{يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56]، وهو أنهم يحركون الساكن في حروف الحَلْق في مثل هذه المواضع.

ص: 290

وقرئ: (وفصله)، (أَنِ اشْكُرْ) تفسيٌر لـ (وصينا)(ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أراد بنفي العلم به نفيه، أى: لا تشرك بى ما ليس بشيء، يريد الأصنام، كقوله تعالى:(ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)] العنكبوت: 42 [. (مَعْرُوفاً) صحابًا، أو مصاحبًا معروفًا حسنًا بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة، وما يقتضيه الكرم والمروءة، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) يريد: واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفَصْلُه) بسكون الصاد، قال ابن جنِّي: وهي قراءة الحسن وغيره، والفَصْل أعمُّ من الفِصَال، والفِصَالُ هاهنا أوقع؛ لأنه موضع يختص بالرَّضاع، وهو مصدر ((فاصلتُه))، فعبَّر عن هذا المعنى، وإن كان الأصل واحدًا.

قوله: (أراد بنَفْي العمل به نَفْيَه) أو هو من باب نَفْي الشيء بنَفْي لازِمِه، وذلك أنَّ العلمَ تابعٌ للمعلوم، فإذا كان الشيءُ معدومًا لم يتعلَّق به موجودًا.

الانتصاف: هو من باب

على لاحِبٍ لا يُهتدى بمَنارِهِ

أي: لا تشرك بي ما ليس بإلهٍ، فيكون لك به علم، وليس من باب ما ذكره في قوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].

قال ابن الحاجب: لا يستقيم أن يكونَ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بدلاً عن {بِي} ؛ لأنه يقال: أشرك زيدٌ كذا بكذا؛ أي: جعلَه شريكًا له، وهم كانوا يجعلون لله شُركاءَ، وجعلوا لله شركاءَ، فالوجهُ أنه مفعول {تُشْرِكَ} ، فلو جُعل {تُشْرِكَ} بمعنى: تكْفُر، وجُعلت ((ما)) نكرةً أو بمعنى ((الذي)) بمعنى: كُفْرًا، أو الكفر، ويكون نصبًا؛ لكان وجهًا حسنًا.

ص: 291

وإن كنت مأمورًا بحسن مصاحبتهما في الدنيا، ثم إلىّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما: من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الإخلال بها، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة. وروى: أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمّه. وفي القصة: أنها مكثت ثلاثًا لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاها بعود. وروى أنه قال: لو كانت لها سبعون نفسًا فخرجت، لما ارتددت إلى الكفر. فإن قلت: هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت: هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد، تأكيدًا لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. فإن قلت: فقوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة، إيجابًا للتوصية بالوالدة خصوصًا. وتذكيرًا بحقها العظيم مفردا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص) تقدَّم سببُ نزوله في العنكبوت.

قوله: (حتى شَجَروا فاها)، النهاية: أي: أدخلوا في شَجْرها عُودًا حتى يفتحوه به، والشَّجْر: مَفتحُ الفم، وقيل: هو الذَّقَنُ.

قوله: (لما وصّى بالوالدَينِ ذكر ما تُكابده الأمُّ) يريد أن جملةَ قولِه: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} جملةٌ مستأنفةٌ على سبيل التَّعليل تذكيرًا.

الانتصاف: هذا من قول الفقهاء: تعليلُ الحُكمِ يُفيده تأكيدًا.

قوله: (وتذكيرًا بحقِّها العظيم مفردًا)، قيل: مفردًا يجوز أن يكون حالاً من قوله: ((ما تُكابِدُه)) أي: ذكر ما تُكابِدُه مفردًا، وأن يكون حالاً من ((بحقِّها)) والأصوب أن يكون صفة لـ ((تذكيرًا))؛ أي: إيجابًا خصوصًا وتذكيرًا مفردًا، يعني: إنما أدخل ذكر ما تكابده الأُمُّ

ص: 292

ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ «أمّك ثم أمّك ثم أمّك» ثم قال بعد ذلك «ثم أباك» . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه:

أحمل أمّى وهي الحمّاله

ترضعنى الدرّة والعلالة

ولا يجازى والد فعاله

فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت: المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم: إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه، ويدل عليه قوله تعالى:(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)[البقرة: 233] وبه استشهد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بين المفسِّر والمفسَّر اهتمامًا بشأن التَّوصية في حقها؛ ليكون إيجابًا للتوصية في حقها؛ ليكون إيجابًا للتوصية خصوصًا وتذكيرًا بحقِّها مستقلاًّ.

قوله: (لمن قال له: مَنْ أبرُّ؟ ) روينا عن الترمذيِّ، عن بَهْزِ بن حَكيم، عن أبيه، عن جَدِّه قال: قلتُ يا رسول الله، من أَبَرُّ؟ قال:((أُمَّك)). قال: قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قال: ((أمَّكَ)) قال: قلت: ثمَّ مَن. قال: أمَّكَ. قال: قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قال: ((ثمَّ أباكَ، ثمَّ الأقربَ فالأقربَ)). ولأبي داودَ قريبٌ منه.

قوله: (تُرضِعُني الدِّرَّة والعُلالة) الدِّرَّةُ: كثرةُ اللَّبنِ وسَيلانُه، والعُلالة: بقيَّة اللَّبن، والحَلْبة بين الحَلْبتينِ، وبقيَّةُ جَرْيِ الفرس.

ص: 293

الشافعي رحمه الله على أن مدة الرضاع سنتان، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما، وهو مذهب أبى يوسف ومحمد. وأما عند أبى حنيفة رحمه الله فمدة الرضاع ثلاثون شهرًا. وعن أبى حنيفة: إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته، لم يكن رضاعًا. وإن أكل أكلًا ضعيفًا لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته، فهو رضاع محرم.

[(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَاتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ)] 16 [

قرئ (مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالنصب والرفع، فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة أو الإحسان، أى: إن كانت مثلًا في الصغر والقماءة كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلى (يَاتِ بِهَا الله) يوم القيامة فيحاسب بها عاملها (إِنَّ الله لَطِيفٌ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأمّا عند أبي حنيفة فمدَّة الرَّضاع ثلاثون شهرًا) قالوا: إن الآية عنده لبيان الرَّضاع المستحقِّ على الأُم، لا لبيان مدَّة الرَّضاع؛ لأن مدة الرَّضاع عنده ثلاثون شهرًا.

قوله: (الضمير للهنَة)، المُغرب: الهَنُ: كناية عن كلِّ اسم جنس، وللمؤنث هَنَةٌ، ولامُه ذاتُ وجهين، فمن قال:((واو))، فالجمع هَنَوات، والتصغير هُنَيَّة. ومن قال:((ها)) قال: هُنَيهةٌ، فقول المصنف:((من الإساءة أو الإحسان)) إشارة إلى جنسيها.

قوله: (والقَماءة) الجوهري: وقَمُؤ الرَّجل بالضم قَماءً وقَماءة صار قَميئًا، وهو الصغير الذليل.

ص: 294

يتوصل علمه إلى كل خفى (خَبِيرٌ) عالم بكنهه. وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها. ومن قرأ بالرفع: كان ضمير القصة، وإنما أنث المثقال؛ لإضافته إلى الحبة، كما قال:

كما شرقت صدر القناة من الدّم

وروى أنّ ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أى: في مغاصه يعلمها الله؟ فقال: إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة؛ لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء. وقيل: الصخرة هي التي تحت الأرض، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار. وقرئ:(فتكن) بكسر الكاف. من وكن الطائر يكن: إذا استقر في وكنته، وهي مقره ليلا.

[(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)] 17 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما شَرِقَت صَدرُ القَناةِ مِن الدَّمِ) أوله:

وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذْعْته

قوله: الشَّرَقُ: الشجا والغُصَّة، وقد شَرِق برِيقِه، أي: غَصَّ. أنَّث ((شَرِقَت)) لإضافة ((الصدر)) إلى ((القناة))، وصدر القناة: هو ما فوقَ نصفِه.

قوله: (إنَّ الله يعلمُ أصغرَ الأشياءِ في أخفى الأمكِنةَ). الانتصاف: هذا من باب التَّتميم البديع، تَمّم خفاءَها في نفسها بخَفاءِ مكانِها من الصَّخرة. قالت الخنساء:

وإنَّ صَخرًا لَتاتَمُّ الهُداةُ بِه

كأنَّه علَمٌ في رأسِه نارُ

قوله: (((فتكِنْ)) بكسرِ الكاف)، قال ابن جنِّي: هي قراءة عبد الكريم الجَزَريّ، كأنه منَ

ص: 295

(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) يجوز أن يكون عامًا في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصًا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر (إِنَّ ذلِكَ) مما عزمه الله من الأمور، أى: قطعه قطع إيجاب والزام. ومنه الحديث: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» أى لم يقطعه بالنية: ألا ترى إلى قوله عليه السلام: «لمن لم يبيت الصيام» ومنه: «إنّ الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» ، وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه: عزمات الملوك، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده: عزمت عليك إلا فعلت كذا، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه. وحقيقته: أنه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور، أى: مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرًا في معنى الفاعل، أصله: من عازمات الأمور، من قوله تعالى:(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ)] محمد: 21 [كقولك: جد الأمر،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقلوب؛ لأن الكون الاستقرارُ، وعليه قالوا: قد تكَوَّن في منزله واستقرَّ.

قوله: (وأصلُه من معزوماتِ الأمور، أي: مقطوعاتِها ومفروضاتها)، النهاية: ومنه حديث: ((الزكاةُ عَزْمةٌ من عَزَماتِ الله))؛ أي: حقٌّ من حُقوقِه، وواجبٌ من واجباته.

ص: 296

وصدق القتال. وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورًا بها في سائر الأمم، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في الأديان كلها.

[(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)] 18 - 19 [

"تصاعر" و (تصعر): بالتشديد والتخفيف. يقال: أصعر خدّه، وصعره، وصاعره: كقولك أعلاه وعلاه وعالاه: بمعنى. والصعر والصيد: داء يصيب البعير يلوى منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعًا، ولا تولهم شق وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون. أراد:(وَلا تَمْشِ) تمرح (مَرَحاً)، أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا. ويجوز أن يريد: ولا تمش لأجل المرح والأشر، أى لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك، لا لكفاية مهم دينى أو دنيوى. ونحوه قوله تعالى:(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ)] الأنفال: 47 [. والمختال: مقابل للماشي مرحًا. وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبرًا (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) واعدل فيه حتى يكون مشيًا بين مشيين؛ لا تدب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وصَدَقَ القتالُ)، الأساس: رجل صادقُ الحَمْلةِ، وذو مَصدَقٍ في القتال، وصدقوهم القتال.

قوله: (و {تُصَعِّرْ} بالتشديدِ والتخفيف) ابنُ كثيرٍ وعاصمٌ وابنُ عامرٍ: بالتشديدِ من غيرِ ألف، والباقون: بالألف وتخفيف العين.

ص: 297

دبيب المتماوتين، ولا تثب وثيب الشطار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سرعة المشي نذهب بهاء المؤمن» ، وأما قول عائشة في عمر رضى الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت.

وقرئ: (وأقصد) بقطع الهمزة، أى: سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه واقصر؛ من قولك: فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه، (أَنْكَرَ الْأَصْواتِ): أوحشها، من قولك:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (دبيبَ المُتماوتين)، النهاية: يقال: تَماوتَ الرَّجلُ إذا أظهَر من نفسه التَّخافُتَ والتَّضاعُفَ من العِبادة والزُّهد والصَّوم.

ومنه حديثُ عمرَ رضي الله عنه؛ رأى رجُلاً مطأطِئًا رأسه، فقال: ارفع رأسَك، فإن الإسلام ليسَ بمريض. ورأى رجُلاً متماوِتًا فقال: لا تُمِتْ علينا دينَنا أماتَك الله.

قوله: (كان إذا مشى أسرع)، النهاية: أن عائشة رضي الله عنها نظرتْ إلى رجلٍ كادَ يموتُ تَخافُتًا، فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنَّه من القُرّاء، فقالت: كان عُمرُ سيِّدَ القُرّاء، وكان إذا مَشى أسرَعَ، وإذا قال أسمَعَ، وإذا ضَربَ أوجَعَ.

قوله: (إذا قصَّرَ به) أي: نَسَبه إلى التقصير أو القُصور، والباء علم المجاز، لأنَّ المجاز يكون بالزيادة كما يكون بالنقصان، والأصل: قصره، و ((وضع منه))؛ أي: حَطَّ من درجته، والتَّواضُع: التذلُّل، وهو من الوَضْع الذي خلافُ الرفعِ، والأصل وضعه، وحرف الجر علم المجازية كأشاد بذكره وجَذَب بضَبُعِه.

ص: 298

شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردًا وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عدّ في مساوي الآداب: أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوٍم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافًا وإن بلغت منه الرجلة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرًا وصوتهم نهاقًا؛ مبالغة شديدة في الذم والتهجين، وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأساس: وضَع منه: غَضَّ منه ونقَض، يقال: عليك في هذا غَضاضَة؛ أي: نَقصٌ وعَيبٌ، وفُلانٌ غَضِيضٌ: ذليلٌ بَيِّنُ الغَضاضَة.

الراغب: الغَضُّ: النُّقصان من الطَّرْفِ والصوتِ وما في الإناء، يقال: غَضَّ وأغَضَّ.

قال عز وجل {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وقال: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} [لقمان: 19] وغَضَضْتُ السِّقاءَ: نقصت ممّا فيه. والغَضُّ: الطَّرِيُّ: الذي لم يَطُل مُكْثُه.

وقوله: (وتَفاديهم) الأساس: ومن المجاز تَفادي منه: تَحاماه.

قوله: (وإن بَلغت منه الرُّجْلَة) أي: أعْيَتْهُ. الأساس: فلان راجلٌ بيِّنُ الرُّجلة، وحَملَك الله عن الرُّجْلَة.

قوله: (مبالغةٌ شديدةٌ في الذَّم والتَّهجين) إشارة إلى أنّ قوله: {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ} تعليلٌ للأمر بغَضِّ الصَّوت على الاستئناف، كأنَّه قيل: لمَ أَغضُّ الصَّوتَ؟ فأجيبَ: لأنَّك إذا رفعتَ صوتكَ كنتَ بمنزلةِ الحمارِ في أخسِّ أحوالِه. ثم ترك المشبَّه وأداة التشبيه ووجهه، وأخرجَ المشبَّه به مخرجَ الاستعارةِ المصرِّحة المركَّبة العقلية أو التمثيلية.

ص: 299

على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحٍد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنٍس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.

[(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)] 20 [

(ما فِي السَّماواتِ) الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك (وَما فِي الْأَرْضِ) البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى، (وَأَسْبَغَ) قرىّ بالسين والصاد، وهكذا كل سيٍن اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ: صلخ، وفي سقر:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من الحيوان الناطِقِ) أي: ذي الصَّوت، يقال: مالٌ صامِتٌ، ومالٌ ناطِقٌ.

قوله: (صَوْتُ هذا الجنسِ، فوجبَ توحيده) يريد: أن التعريف فيه تعريفُ الماهيَّةِ والحقيقةِ من حيثُ هي هي، وتمييزها من بين سائر الحقائق؛ نحو: الرجلُ خيرٌ من المرأة، فلا معنى للجمع.

قال صاحب ((الفرائد)): فعلى هذا ينبغي أن يقال: ((لصَوْتُ الحمارِ))، ويمكن أن يُجابَ: أن المقصودَ في الجمع التَّتميمُ والمبالغةُ في التَّنفير، فإنَّ الصوتَ إذا تَوافقت عليه الحميرُ كان أنكَرَ.

قوله: ({وَأَسْبَغَ}، قرئ بالسِّين والصّاد) وبالصَّاد شَاذٌّ.

قال ابنُ جنِّي: هي قراءة يحيي بن عُمارة، وأصلُها السِّين إلا أنها أُبدلت للغَيْنِ صادًا، كما قالوا في سالغ: صالغ، وذلك أن حروفَ الاستعلاءِ تجذبُ السِّيَن عن

ص: 300

صقر، وفي سالخ: صالخ. وقرئ: (نعمه)، و (نعمةً)، (ونعمته). فإن قلت: ما النعمة؟ قلت: كل نفع قصد به الإحسان، والله تعالى خلق العالم كله نعمةً، لأنه إما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سِفالتِها وحكى يونس عنهم في السّوق: الصوق.

سَلَغتِ البقرةُ والشاة تَسْلغُ سُلُوغًا: إذا أسقطَتِ السِّنَّ التي خَلْفَ السَّديس، يقال: سلغَت وصلَغتْ، ورجل سالغٌ وصالغ.

قوله: ({نِعَمَهُ} و ((نِعْمةً)))، نافع وأبو عمرو وحفص:{نِعَمَهُ} على الجمع والتذكير، والباقون: على التوحيد.

قال الزَّجاج: من قرأ ((نعمة)) فعلى معنى: ما أعطاهم من التوحيد، ومن قرأ:{نِعَمَهُ} فعلى: جميع ما أنعَمَ به عليهم. وقيل: التَّوحيد على الجنس؛ كقوله تعالى: {إِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، وعليه كلامُ المصنِّف.

قوله: (كل نَفْعٍ قُصِدَ به الإحسانُ) قال الإمام: النِّعمةُ عبارةٌ عن المنفعةِ المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. وقالوا: إنما زدنا هذا القيد؛ لأنَّ النِّعمةَ يُستحقُّ بها الشَّكر، وإذا كانت قبيحةً لا

ص: 301

حيوان، وإما غير حيوان، فما ليس نعمةٌ على الحيوان، والحيوان نعمةٌ من حيث أنّ إيجاده حيًا نعمةٌ عليه؛ لأنه لولا إيجاده حيًا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمةٌ. فإن قلت: لم كان خلق العالم مقصودًا به الإحسان؟ قلت: لأنه لا يخلقه إلا لغرض، وإلا كان عبثًا، والعبث لا يجوز عليه، ولا يجوز أن يكون لغرٍض راجع إليه من نفع؛ لأنه غنى غير محتاٍج إلى المنافع، فلم يبق إلا أن يكون لغرٍض يرجع إلى الحيوان؛ وهو نفعه. فإن قلت: فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت: الظاهرة: كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو: لا يعلم أصلًا، فكم في بدن الإنسان من نعمةٍ لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها، وقد أكثروا في ذلك: فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء، والباطنة: الإمداد من الملائكة. وعن الحسن رضى الله عنه: الظاهرة: الإسلام. والباطنة: الستر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يستحقُّ بها الشُّكر. والحقُّ أن هذا القَيْدَ غيرُ معتَبرٍ؛ لأنه يجوز أن يُستحقَّ الشكرُ بالإحسان وإن كان فِعْله محظورًا؛ لأن جهةَ استحقاقِ الشُّكر غيرُ جهةِ استحقاقِ الذَّم والعقابِ، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟

ألا ترى الفاسق يستحقُّ الشُّكرَ لإنعامِه، والذمَّ لمعصيةِ الله تعالى، فلمَ لا يجوز أن يكون الأمرُ هاهنا كذلك؟

أما قولنا: ((المنفعة))، فلأنَّ المضرَّةَ المَحْضَةَ لا تكون نعمةً. وقولنا:((المفعولة على جهة الإحسانِ))؛ لأنه لو كان نفعًا وقَصَد الفاعل به نَفْع نَفْسِه لا نَفْعَ المفعولِ به، لا يكون نعمةً، وذلك كمن أحسَنَ إلى جاريته ليربحَ عليها.

قوله: (الظاهرة: الإسلامُ، والباطنة: السَّترُ) قال في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]: مَن أنعَمَ الله تعالى عليه بنعمة الإسلام لم تَبْقَ نعمةٌ إلا أصابتْهُ. وفي قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]: فيه دليلٌ على أن كَشْف العَوْرةِ من عظائم

ص: 302

وعن الضحاك: الظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء. والباطنة:

المعرفة. وقيل: الظاهرة: البصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة:

القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام:"إلهى، دلني على أخفى نعمتك على عبادك؛ فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس". ويروى أن أيسر ما يعذب به أهل النار: الأخذ بالأنفاس.

[(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ الله قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)] 21 [

معناه أَيتبعونهم وَلَوْ (كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أى: في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.

[(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى الله عاقِبَةُ الْأُمُورِ)] 22 [

قرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: (ومن يسلم) بالتشديد، يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله. فإن قلت: ماله عدّى بـ (إلى)، وقد عدّى باللام في قوله:(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)] البقرة: 112 [؟ قلت: معناه مع اللام: أنه جعل وجهه، وهو ذاته ونفسه سالمًًًا لله؛ أى: خالصًا له. ومعناه مع (إلى): أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) من باب التمثيل؛ مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأمورِ، ولم يَزلْ مُستَهجَنًا في الطِّباعِ، مُستَقْبَحًا في العقول، فنعمةُ الإسلامِ نعمةٌ جزيلةٌ، ونعمةُ التَّستُّرِ نعمةٌ جميلةٌ، وتلك مَوفُورة ظاهرةٌ، وهذه مَستورةٌ ساترة.

قوله: (الظاهرة: البصر) البَصَرُ: تحقُّقُ الشيء الباصِرَة، والنَّظر: تقليب الحَدَقةِ نحو المَرئيِّ التماسًا لرؤيته، والأعمى له نَظرٌ وليس له بَصَرٌ.

ص: 303

شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروةٍ من حبٍل متيٍن مأموٍن انقطاعه (وَإِلَى الله عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أى: هي صائرة إليه.

[(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)] 23 - 24 [

قرئ: "يحزنك" و (يحزنك) من: حزن وأحزن. والذي عليه الاستعمال المستفيض: أحزنه ويحزنه. والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن الله عز وجل دافع كيده في نحره، ومنتقم منه، ومعاقبه على عمله (إِنَّ الله) يعلم ما في صدور عباده، فيفعل بهم على حسبه. (نُمَتِّعُهُمْ) زمانا (قَلِيلًا) بدنياهم (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)؛ شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرّ إلى الشيء الذي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: ((يُحْزِنْكَ)) و {يَحْزُنكَ} )، الأولى: لنافعٍ، والثانية: لغيره.

قوله: (والذي عليه الاستعمال) أي: يستعملون ((أَحزَنَ)) في الماضي، و ((يَحزُنُ)) في المستقبل.

قوله: (شَبَّه إلزامَهم التَّعذيبَ) وقوله: (الغِلَظُ: مُستعارٌ من الأجرام) يؤذن أن في هذه الفاصلة استعارتينِ تَبَعيَّتينِ:

إحداهما: في قوله: {نَضْطَرُّهُمْ} فإنّه شبَّه إلزامَهم التعذيبَ باضطرارِ المُضطَرِّ إلى الشيء، فاستُعير له الاضظرار ثم سَرَى منه إلى الفعل.

وثانيتهما: وَصْفُ العذاب بالغَليظ، وهو صفةٌ مشبَّهةٌ تُوصَفُ بها الأجسام. والاستعارةُ الأُولى واقعةٌ على سبيل التَّمثيل، ومن ثَمَّ اعتبر أمورًا متوهَّمة.

ص: 304

لا يقدر على الانفكاك منه. والغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة. والمراد. الشدّة والثقل على المعذب.

[(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ)] 25 - 27 [

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه) إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الانتصاف: تفسير هذا الاضطرار هو أنهم لشدَّة ما يُكابدون من النار يطلبون البرد، فيُسَلِّطُ عليهم الزَّمْهَرير، فيكون أشدَّ عليهم من اللهب، فيسألون العَوْدَ إلى اللهب اضطرارًا، فهو اختيار عن اضطرارٍ.

وبأذيالِ هذه البلاغة تعلَّق الكنديُّ في قولِه:

يروْنَ الموتَ قُدّامًا وخلفًا

فيختارون والموتُ اضطرارُ

فيختارون؛ أي: الموت.

قوله: ({قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلزامٌ لهم على إقرارِهم) يعني: لما اعترفتم بأنّ خالق السّماوات والأرض هو الله، يَجبُ عليكم أن تعرفوا أنَّ العبادةَ مختصَّةٌ به؛ لأنَّ كلَّ فضيلةٍ ونعمةٍ منه لا من غيره، فلا تشكروا إلاّ إيّاه، فيكون قولُه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} تَتْميمًا للتَّبكيت المستَفادِ من قوله: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وقَوْلُه:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} إيغالٌ؛ لأنَّ النُّكتةَ فيه تجهيلُهم؛ وأن جَهْلَهم انتهى إلى أنهم لا يعلمون أنَّ الحمدَ لله إلزامٌ لهم.

وقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تَهاونٌ بهم، وإبداءٌ أنّه تعالى مُستَغْنٍ عنهم

ص: 305

هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر. وأن لا يعبد معه غيره، ثم قال:(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا (إِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ) عن حمد الحامدين المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه.

قرئ: (والبحر) بالنصب عطفًا على اسم (أنّ)، وبالرفع عطفًا على محل (أن) ومعمولها؛ على: ولو ثبت كون الأشجار أقلامًا، وثبت البحر ممدودًا بسبعة أبحٍر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن حَمْدِهم، ولذلك علله بقوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وإليه الإشارةُ بقوله:((وإن لم يَحْمَدُوه)).

قوله: (قرئ: ((والبحرَ)) بالنَّصب)، أبو عمرو، وبالرفع: غيرُه.

قوله: (عطفًا على محلِّ ((أنّ)) ومعمولها؛ على: ولو ثبت كون الأشجار) قال الزَّجاجُ: لأن ((لو)) تطلب الأفعالَ.

وقال ابن جِنِّي: وأما رفعُ {لْبَحْرُ} ، فإن شئتَ كان معطوفًا على موضع ((أنَّ)) واسمِها، وإن كانت مفتوحةً كما عُطف على موضعها في قوله تعالى:{نَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3].

وقال ابن الحاجب في ((الأمالي)): ((من قرأ ((والبحرَ)) بالنَّصب فمعطوفٌ على اسم ((أنَّ))، و {يَمُدُّهُ} خبرٌ له؛ أي: لو ثبت أنَّ البحرَ ممدودٌ من بَعْدِه بسبعةِ أبحُرٍ، ولا يستقيم على هذا أن يكون {يَمُدُّهُ} حالاً؛ لأنه يؤدِّي إلى تقييد المبتدأ الجامدِ بالحال؛ لأنها بيانٌ لهيئة الفاعل والمفعول، والمبتدأُ ليس كذلك، ويؤدِّي أيضًا إلى أن يبقى المبتدأ لا خَبرَ له. ولا يستقيمُ أن يكونَ {أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] خبرًا له؛ لأنه خبرُ الأوَّل.

ص: 306

أو على الابتداء والواو للحال، على معنى: ولو أنّ الأشجار أقلاٌم في حال كون البحر ممدودًا، وفي قراءة ابن مسعود: و (بحر يمدّه) على التنكير،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأمّا مَن قرأ بالرَّفع فمعطوفٌ على فاعل ((ثبت)) المُرادُ بعد ((لو))، وهو ((أنَّ)) واسمُها وخبرُها جميعًا، يُقَدَّرُ بالمفرد، فـ ((البحر)) معطوفٌ على ما هو في معنى الكَوْن المقدَّر، فعلى هذا:{يَمُدُّهُ} لا يصحُّ أن يكون خبرًا، فيجب أن يكون حالاً؛ أي: لو ثبت البحر في حال كونِه ممدودًا بسبعة أبحُرٍ. ولا يستقيمُ أن يُقالَ: إن ((البحرَ)) معطوفٌ على موضع ((أن))؛ لأنَّ العطفَ على الموضع في ((أن)) شَرطُه أن تكون مكسورة، ومثلِ:{نَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] لوُقوعه بعدَ قولِه: {وَأَذَانٌ} [التوبة: 3] بمعنى: وإعلامٌ، وهو مثل: عملتُ أنَّ زيدًا قائمٌ وعمروٌ، وإنَّما لم يعطف على المفتوحة لفظًا ومعنىً؛ لأنَّها واسمَها وخبرَها بتأويل جزءٍ واحدٍ، فلو قدَّرْتَ أنها في حُكمِ العَدَم لأَخلَلتَ بموضوعها بخلاف ((إنَّ)) المكسورةَ؛ لأنها لا تغير المعنى، فجاز تقديرُ عَدَمِها لكونها للتأكيد المَحْضِ، كما جاز تقديرُ عَدَم الباء المؤكِّدة في قوله:

فلسْنا بالجبالِ ولا الحديدا)).

قوله: (أو على الابتداء) عطفٌ على قوله: ((عطفًا على محلِّ ((أن)) ومعمولها))، وإنما قيَّد هذا الوجهَ بقوله:((والواوُ للحال))؛ لأنّ العطفَ يُوجِبُ المحذورَ الذي أشار إليه ابنُ الحاجبِ.

قوله: (ولو أنَّ الأشجارَ أقلامٌ) على تأويل: لو ثبتَ أنَّ الأشجارَ أقلامٌ؛ ليكون عاملُ الحالِ ((ثَبت)).

ص: 307

ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل. وقرئ: (يمدّه) و (يمدّه) وبالتاء والياء. فإن قلت: كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلاٌم، والبحر مداد. قلت: أغنى عن ذكر المداد قوله: (يمدّه)، لأنه من قولك: مدّ الدواة وأمدّها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويَجب أن يُحمل هذا على الوجه الأوّل) وهو أن يكونَ ((البحرُ)) مرفوعًا عطفًا على محل ((أن)) ومعمولها، وذلك بأن يكونَ في تقديرِ الفاعلِ للفعلِ المقدَّر؛ أي: لو ثبت بحرٌ ممدود، ويفهم منه عدمُ جوازِ الحال؛ لأن بحرًا نكرة إذن.

ولهذا قال صاحب ((التقريب)): ((بحر)) عطف على موضع ((أن))، لا مبتدأ.

قال ابن جني: قرأ طلحةُ بن مُصَرِّف: ((ويَحْرٌ يَمُدُّه)) رفع ((بحرٌ)) بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ؛ أي: هناك بحرٌ يمدُّه من بعدِه سبعةُ أبحُرٍ، فالواوُ واوُ الحالِ لا مَحالةَ، ولا يجوز أن يَعطفَ ((وبحرٌ)) على ((أقلام))؛ لأنّ البحرَ وما فيه ليس من حديثِ الشَّجرِ والأقلام، وإنّما هو من حديث المدَادِ.

وقال أبو البقاءِ: {مِن شَجَرَةٍ} حالٌ من ضميرِ الاستقرارِ ومن ((ما)).

قوله: (وقُرئ: {يَمُدُّهُ} و ((تَمدُّه)) بالياء والتاء) بالياء التَّحتانيّةِ: المشهورةِ، وبالتّاءِ: الشّاذةِ.

وقال ابن جِنّي: وأمّا ((يُمدُّه)) بضمِّ الياءِ فتشبيه بإمدادِ الجيشِ، يقال: مَدَّ النهرُ ومدَّهُ نَهرٌ آخَرُ، وأمَدذتُ الجيشَ بمدَدٍ.

قوله: (أغنى عن ذِكرِ المِداد قولُه: {}) يعني: ذَكرَ فيه ما يَدلُّ على المقصود مع ما

ص: 308

جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءةً مدادًا، فهي تصب فيه مدادها أبدًا صبًّا لا ينقطع. والمعنى: ولو أنّ أشجار الأرض أقلاٌم، والبحر ممدوٌد بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد، كقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي)] الكهف: 109 [فإن قلت: زعمت أنّ قوله: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) حال في أحد وجهى الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت: هو كقوله:

وقد اغتدى والطّير في وكناتها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يزيدُ في المبالغةِ، وهو تصويرُ الإمدادِ المستمرِّ حالاً بعد حالٍ، وتعليقُ {مِن بَعْدِهِ} ، وذكر السَّبعة؛ ليكون على وِزانِ قولِه:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] في إفادة الشُّمولِ والإحاطةِ، وإليه الإشارةُ بقوله:((فهي تَصُبُّ فيه مِدادَها أبدًا صَبًّا لا ينقطعُ)). ولو قيل: ((والبحرُ مِدادًا)) لم يُفِد هذه الفائدةَ.

قوله: (وكُتِبَتْ بتلك الأقلام وبذلك المِدادِ كلماتُ الله) يشير إلى أنَّ في الكلام حذفًا.

قال ابنُ جنّي: في الآية حذفٌ تقديرُه: فكُتبتْ بذلك كلماتُ الله ما نَفِدَتْ، فحُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه؛ كقولهِ تعالى:{مَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]؛ أي: فحَلَقَ فعَلَيْه فِدية، فاكتفى بالمُسَبِّبِ- وهو الفِدْية- عن السَّببِ وهو الحَلْق.

قوله: (وقد أغتَدي والطَّيرُ في وُكُناتِها) تمامُه:

بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ

قولُه: الاغتداءُ: الغُدوُّ. والوُكْنَةُ: موقعة الطَّير. وانجَردَ في سيره؛ أي: مضى، أي: أن المنجردَ لسرعتِه يقيِّدُ الوحشَ لا يدعُه يبْرحُ، والهيكلُ مِن الخيلِ: الفرَسُ الطَّويلُ الضَّخمُ،

ص: 309

و: جئت والجيش مصطٌف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. ويجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. فإن قلت: لم قيل: (مِنْ شَجَرَةٍ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبَيتُ النّصارى يُسمَّى هيكلاً، وقيل: بمُنْجَرِدٍ: قصيرِ الشَّعرِ. والمعنى: أغتَدي في السَّحَرِ للصَّيدِ، ـ والحالُ أنَّ الطَّيرَ بَعدُ مستقرةٌ في أوكارِها.

قوله: (جئتُ والجيشُ مصطَفٌّ) أي: جئتُ القومَ والحالُ أنَّ الجيشَ قد اصطَفَّ للقتال.

وفي ((التَّهذيب)): بحقيقةِ أنّه إذا رجَعَ إلى معنى الظَّرفِ يكون متضمِّنًا للضَّمير؛ أي: جئتُ كائنًا في حالِ اصطفافِ الجيش، وتقديرُ الحالِ الأُولى: أَتيتُ بُكْرةً باكرةً، وتقدير الحال الثانية: والجيشُ مصطَفٌّ عندي.

قوله: (مِنَ الأحوالِ التي حُكْمها حُكْمُ الظرّوف) أي: الظروف الملغاة.

قال في ((المُفصَّل)): شَبَّهَ الحالَ بالمفعولِ من حيثُ أنّها مفعولٌ فيها.

قال صاحب ((التخمير)): الحال يُشبِه الظَّرفَ مِنْ حَيْثُ إنَّك إذا قلتَ: ((جاء زيدٌ راكبًا))، فمعناه: جاء زيد حالَ كونِه راكبًا، فقولك: حال كونِه راكبًا ظرفٌ. وقال: عندي أنّه يجوز أنْ يكون الواو في مثل: ((جئتُ والشَّمسُ طالعةٌ)) واوَ الظرفِ؛ لاستقامة: جئتُ وقتَ طلوعِ الشَّمسِ، والظَّرفُ والحالُ مشتبهان جدًّا، ولذلك اشتَبها في قولِك: جاءا معًا وذهبا معًا.

قال عليُّ بن عيسى: نَصْبُ ((معًا)) على الحالِ، كأنه قيل: ذهبا مجتمعَين، ويجوز على الظرف، كأنه قيل: ذَهَبا في وقتِ اجتماعِهما.

قوله: (ويجوز أن يكون المعنى وبحْرُها) أي: بكَوْنِ الراجعِ إلى ذي الحال الألفَ واللامَ اللَّذينِ أُقيما مقامَ الضَّميرِ المضافِ إليه؛ كقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50].

فإن قلتَ: على الأوَّل كانتِ الجملةُ حالاً من المستقرِّ في الظَّرف الراجعِ إلى الموصولِ المعنيِّ به الشَّجرة، والمعنى ظاهر، فما المعنى على هذا التقدير؛ وهو أن يكونَ ذو الحالِ الأرض؟

ص: 310

على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجٌر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرةً شجرةً، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلامًا. فإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: الحالُ في الحقيقة صفةٌ لصاحبها، فيكون المعنى: لو ثَبَت كونُ الأشجارِ المستقرَّةِ في الأرض التي بَحْرُها كالدَّواة يَمُدُّها أبحرٌ سبعةٌ أقلامًا. وهذا أبلغُ لاحتمالِ التّعريفِ في البحر على الأوَّلِ العهدَ، وهو الحِصَّةُ المعلومةُ عند المخاطَبِ فلا يَعُمّ، وإليه أشار بقوله:((جَعَلَ البحرَ الأعظمَ بمنزلة الدَّواةِ)) بخلاف الإضافة والنِّسبةِ، فإنّها تَستَغرقُ جميعَ ما يُنسَب إليها، سواءً عَلِمَه المخاطَبُ أم لا. وأيضًا أن يَفرضَ الأبحُرَ الممدودةَ بها خارجةً ممّا هو فيها بخلاف الأوَّلِ.

قوله: (وتَقصِّيها شجرةً شجرةً)، الأساس: واستقصيتُ الأمرَ وتقصَّيتُه: بَلغْتُ أَقصاهُ في البحث عنه.

قوله: (ولا واحدِهِ) يروي بكسر الدّال والإضافة إلى ضمير الجِنْسِ، ويروي بالتاء وضمِّها، والأول أظهر من حيث اللفظ والمعنى. أما الأول: فإن الاستثناءَ مفرَّغٌ، وقوله:((وقد بُرِيَتْ أقلامًا)) حال، والمذكورُ نكرةٌ لا يَصْلُحُ أنْ يكونَ ذا حال المُقَدَّر؛ لأنَّ التقديرَ حينئذٍ لا يبقى من جنسِ الشَّجرِ أفرادٌ ولا واحدةٌ بخلاف الأَوَّل، فإنَّ التقدير: لا يبقى من جنس الشَّجر البقيّةُ، ولا من واحدِ الجنس. وأمّا الثّاني: فإنّ قولَه: ((ولا واحدةٌ)) جيء به مؤكِّدًا لشمول الماهيَّةِ؛ أي لم تبق مِن هذه الحقيقة بقيَّة، ولا كذلك الأول لأنّ من نَفْيِ الفرد لا يَلزمُ نَفْيُ بقيَّةٍ منه، كلُّ هذه الفوائد إنّما تُستفادُ من جعل اسمِ ((أَنَّ)) موصولاً لا مبهمًا، ثمَّ البيان بالماهيّة وحَمْل أقلامٍ -وهو جَمعٌ- عليه كأنَّ هذا السؤالَ والجوابَ من تَتمَّةِ سؤاله السّابقِ؛ لأنّه سأل عن شيئينِ: عن الشّجرِ أقلَامٌ وعن البحرِ مدادٌ، فأجاب عن الثاني وترك الأَوَّلَ.

ص: 311

قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار، فكيف بكلمة؟ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها نزلت جوابًا لليهود لما قالوا: «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة» ، وقيل: إن المشركين قالوا: إنّ هذا -يعنون الوحي- كلام سينفد، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية، وأنها نزلت بعد الهجرة، وقيل هي مكية، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تتلو فيما أنزل عليك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء. (إِنَّ الله عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) لا يخرج من علمه وحكمته شيء، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه.

[ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِير)] 28 [

(إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) إلا كخلقها وبعثها؛ أى: سواء في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إنَّ هذا- يَعنونَ الوحْيَ- كلامٌ سينفَدُ) فسَّر هذا بالوحي دون القرآنِ؛ لأنّ الوحيَ غيرُ نافذٍ والقرآنُ نافذٌ عندَه، ومَنْ قال: المُشارُ إليه القرآنُ؛ أراد أنَّ مدلولَه لا يَنفدُ، وهو الكلام النَّفْسيُّ.

قوله: (ومثلُه لا تَنفَدُ كلماتُه وحِكَمُه)، ((مِثْلُ)) هاهنا كناية؛ نحوُ: مِثْلُك لا يَبخلُ، ليس هذا إثباتَ مِثْلٍ، وإنَّما المرادُ أنت لا تبخل، فقوله:{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} كالتَّعليلِ لإثبات العِلمِ الواسع، كأنَّه قال: لانفادَ لعلمِه الواسع؛ لأنَّ المعلوماتِ إمّا كثيفةٌ تحتاج في إدراكها إلى علم متينٍ، فهو عزيزٌ لا يُعجِزُه شيءٌ عمّا يُريدُه، وإمّا لطيفةٌ يَفتقِرُ لإدراكِها إلى عِلْم دقيق، فهو حَكيمٌ يُدركُ بدقيق حكمتِه تلك المعانيَ والجواهرَ اللَّطيفةَ، فتكون الفاصلةُ كالتَّتميمِ لِما سَبقَ؛ لأنَّ بعض التعليلِ يُجاء به للمبالغة والتَّأكيدِ، ولذلك قالتِ الفقهاء: تَعليلُ الحَكيمِ يفيده تأكيدًا.

ص: 312

الكثيرة العدد؛ أن لو شغله شأٌن عن شأٍن وفعٌل عن فعل، وقد تعالى عن ذلك. (إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع كل صوٍت ويبصر كل مبصٍر في حالةٍ واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض، فكذلك الخلق والبعث.

[أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ الله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)] 29 - 30 [

كل واحد من الشمس والقمر يجرى في فلكه، ويقطعه إلى وقٍت معلوم؛ الشمس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فكذلكَ الخَلقُ والبَعث) أي: كما أنَّ المعلوماتِ لا يَشغَلُه إدراكُ بعضِها عن إدراكِ بعضِ، كذلك المخلوقاتُ لا تَتفاوتُ فيما يراد منها مِنَ الإيجادِ والإعدامِ، فلا يَشْغَلُه فِعْلٌ عن فِعْل، فشبَّه المقدوراتِ فيما يراد منها بالمعلوماتِ فيما يُدرَكُ منها.

والظّاهر أنَّ قولَه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تعليلٌ لإثباتِ القُدرةِ الكاملةِ بالعِلْمِ الواسعِ، وأنَّ شيئًا مِنَ المقدوراتِ لا يَشْغَلُه فيما يراد منه عن الآخَرِ؛ لأنّه تعالى عالم بتفاصيلها وجزئيّاتها يَتصرَّفُ فيها كيف شاء، كما يقال: فلان يُجيد تلك الصَّنعَةَ وهو ماهرٌ فيها؛ لأنه عارفٌ بدقائقها ومتمِّماتها. والمقصودُ من إيرادِ الوَصْفَين إثباتُ الحَشْرِ والنَّشْرِ؛ لأنَّهما عُمْدَتان فيه.

ألا ترى كيف عَقَّبَ بقوله: {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} إلى قوله: {أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تقريرًا له؛ فَدَلَّ بالأَوَّلِ على عِظَم قُدْرَتِه، وبالثّاني على شمول عِلمِه. وإليه الإشارةُ بقوله:((على عِظَمِ قُدرتِه وحكْمتِه)) فإنّه نَشْرٌ لقوله: ((أيضًا باللَّيلِ والنَّهارِ))، وقوله:((وبإحاطته بجميع أعمال الخَلْقِ))، وذلك أنَّ قولَه:{أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عَطْفٌ على {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، فَدَلَّ بالأَوَّلِ على القُدرةِ الكاملة، وبالثَّاني على الحكمةِ البالغة، فقولُه:((وبإحاطته)) عطفٌ على ((باللَّيلِ والنَّهار))، وقولُه:((وكلُّ ذلك)) مبتدأٌ، و ((على تقديرٍ وحساب)) خبره، والجملةُ معترِضةٌ.

ص: 313

إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وعن الحسن: الأجل المسمى: يوم القيامة؛ لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئٍذ. دلّ أيضًا بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما -كل ذلك على تقديٍر وحساب- وبإحاطته بجميع أعمال الخلق: على عظم قدرته وحكمته. فإن قلت: يجرى لأجٍل مسمى، ويجرى إلى أجٍل مسمى: أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن، ولكن المعنيين -أعنى الانتهاء والاختصاص- كل واحٍد منهما ملائٌم لصحة الغرض؛ لأنّ قولك: يجرى إلى أجل مسمى معناه: يبلغه وينتهي إليه. وقولك: يجرى لأجٍل مسمًّى: تريد يجرى لإدراك أجٍل مسمًّى، تجعل الجري مختصًّا بإدراك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أهو مِن تعاقبِ الحَرفَين) يعني: جاء في ((فاطر)): {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} [فاطر: 13]، و ((إلى)) هاهنا، و ((اللام)) هناك أهما مما يَتعاقبُ كلُّ واحدةٍ منهما مكانَ صاحبَتها مِنْ غيرِ تفرقةٍ؟ أو بينَهما تفاوتٌ؟

وأجاب: أن بينهما بَونًا بعيدًا من حيث الوضع؛ لأنّ أحدَهما للانتهاء والآخَرُ للاختصاص، وكلُّ واحدٍ منهما ملائمٌ لصحَّة الغَرضِ في موضعهِ الخاصّ.

ويمكن ان يقال: إنَّ الغرضَ منهما الغايةُ، وهو حاصلٌ بهما؛ لأنّ الغاياتِ يَجمعُها معنى انتهاءِ الغايةِ والعِلَّة؛ لأنَّ {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} معناه: يجري إلى ما ينتهي إليه أجلُه، ويبلغ ما ضَربَ له من الحدِّ، و {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} [فاطر: 13] معناه: يجري لإدراك أجلٍ معيَّن سُمّي له.

ولذلك فسَّر القاضي {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} بقوله: إلى منتهى الشَّمسِ إلى آخِرِ السَّنةِ والقمر إلى آخِر الشَّهر. كما فَسَّر المصنِّفُ {لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} [فاطر: 13] بهذا المعنى؛ لأنَّ مآلَ المعنَيَين إلى واحد.

ص: 314

أجٍل مسمًّى. ألا ترى أن جرى الشمس مختٌّص بآخر السنة، وجرى القمر مختص بآخر الشهر؛ فكلا المعنيين غير ناٍب به موضعه. (لِكَ) الذي وصف -من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله- إنما هو بسبب أنه هو (الحق) الثابت إلهيته، وأنّ من دونه باطل الإلهية (وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ) الشأن (الْكَبِيرُ) السلطان. أو: ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق، وأنّ إلهًا غيره باطٌل، وأنّ الله هو العلىّ الكبير عن أن يشرك به.

[لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ الله لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [31]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: {ذَلِكَ} الذي وصَفَ مِن عجائب قدرتِه وحِكمتِه) إلى قوله: (إنَّما هو بسبب أنَّه الحقُّ) يعني: أتى باسم الإشارة بعد إجراء تلك الصفات على الذات المُتميِّزة؛ ليؤذن بأنَّ تلك الصِّفاتِ إنَّما تَثْبُتُ له لأنَّه هو الإلهُ الثَّابتُ الإلهيّة؛ لِمَا تقرَّر أَنَّ مَنْ كان إلهًا كان قادرًا خالقًا عالمًا معبودًا رازقًا، فهذه الآيةُ كالفَذْلَكَةِ لتلك الآيات من لَدُنْ قوله:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} ، وكُلٌّ مِنْ فواصِلِها نحو:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} مُتضمنةٌ لأسرارٍ لا يعلم كُنهَها إلا اللَّطيفُ الخبيرُ، وكما أنَّ قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} كالمُجْمَلِ لتلك المُفَصَّل؛ كذلك قرينتُها، أي:{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فذلكة تلك الفواصلِ، والله أعلم.

قوله: (فكيف بالجماد الذي يدعونه) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوف، وهو العامل في الاستفهام أيضًا؛ أي: فكيف ظنُّكم بالجماد؟ كقوله تعالى: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87]. وإنما أدخلَ هذا المعنى في مفهوم ذلك الذي هو المبتدأ؛ لاشتمال خبرهِ على قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ} .

ص: 315

قرئ: "الفلك" بضم اللام، وكل "فعل" يجوز فيه "فعل"، كما يجوز في كل "فعل":"فعل"، على مذهب التعويض. و (بنعمات الله) بسكون العين، وعين "فعلاٍت" يجوز فيها الفتح والكسر والسكون. (بِنِعْمَتِ الله) بإحسانه ورحمته (صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه، وهما صفتا المؤمن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: ((الفُلُكُ)) بضمِّ اللام) قال ابنُ جِنّي: وهي قراءة موسى بن الزُّبير، وحكي عن عيسى بن عُمَر أنه قال: ما سُمِعَ ((فُعلٌ)) بضمِّ الفاء وسكونِ العين إلا وقد سُمِعَ فيه ((فُعُلٌ)) بضَمِّ العين. فقد يكون هذا منه أيضًا.

قوله: (((وبنِعمات الله))) قال ابنُ جِنّي: ((بنِعْمات الله)) ساكنة العين، قَرأَها جماعةٌ؛ منهم الأعرجُ.

وقال الزَّجّاجُ: ويقرأ: ((بنعْمات الله)) بفتح العين وسكونها، وأكثرُ القرَّاءِ:{بِنِعْمَتِ اللَّهِ} على الوحدة.

قوله: ({صَبَّارٍ} على بلائه)، الرّاغبُ: الصَّبورُ: القادرُ على الصَّبرِ، والصّبّار:[يقال] إذا كان فيه ضَرْبٌ مِنَ التَّكلُّفِ والمجاهدة. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .

قوله: (وهما صفتا المؤمن) يريد: ما وَردَ من قولهم: ((إنَّ الإيمانَ نصفان: نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ))؛ لأنَّ التَّكاليفَ أفعالٌ وتروكٌ، والتُّروكُ: صَبرٌ عن المألوف، والأفعال: شُكرٌ على المعروف.

ص: 316

فكأنه قال: إنّ في ذلك لآياٍت لكل مؤمن.

[وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)] 32 [

يرتفع الموج ويتراكب، فيعود مثل الظلل، والظلة: كل ما أظلك من جبٍل أو سحاب أو غيرهما، وقرئ:(كالظلال)، جمع ظلةٍ، كقلة وقلال، (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار. أو: مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعنى أنّ ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف، لا يبقى لأحٍد قط، والمقتصد قليل نادر. وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروى الزَّجَّاجُ، عن قتادة: أَحَبُّ العِبادِ إلى الله تعالى مَن إذا أُعطي شَكَر، وإذا ابتُلى صَبرَ.

قوله: (فكأنه قال: إنَّ في ذلك لآياتٍ لكلٍّ مؤمنٍ) فهو من الكنايةِ المطلوبِ بها نفسُ الموصوفِ؛ نحو: الإنسان حيٌّ مستوي القامة، عريضُ الأظفار.

قوله: (مِن غُلَوائه)، الأساس: هو منِّي بغَلْوَةٍ سَهمٍ، وتقول: خَفِّضْ مِنْ غُلَوائك، وفَعل ذلك في غُلَواءِ شَبابِه.

المغرب: يقال: غَلا بسهمه غَلْوًا به غِلاءً: إذا رمى به أبعدَ ما قَدِرَ عليه.

قوله: (وقيل: مؤمنٌ قد ثبتَ على ما عاهدَ عليه الله في البحر): يريد أنَّ قوله تعالى: {فَمِنْهُم} للتَّفصيلِ، فلا بُدَّ من النَّظَرِ إلى قِسْم آخَرَ غيرِ المقتصد، فإذا جعل ذلك ما دَلَّ عليه {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} قيل: فمنهم مقتصدٌ في الكفر ومنهم جاحِد، وإذا نُظَر إلى مُخْلصِين قيل: فمنهم مُقْتصدٌ في الإخلاص ومنهم جاحِد.

فالحاصلُ أنَّ المراد بالمقتصد الكافرُ باعتبارَين: إمّا متوسط في الظلم والكفر أو متوسط

ص: 317

والختر: أشدّ الغدر. ومنه قولهم: إنك لا تمدّ لنا شبرًا من غدٍر إلا مددنا لك باعًا من ختر، قال:

وإنّك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

[يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ)] 33 [

(لا يَجْزِي) لا يقضى عنه شيئا، ومنه قيل للمتقاضى: المتجازى، وفي الحديث في جذعة ابن نيار:"تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك"، وقرئ:(لا يجزئ)؛ لا يغنى. يقال: أجزأت عنك مجزأ فلان. والمعنى: لا يجزى فيه، فحذف. (الْغَرُورُ) الشيطان. وقيل: الدنيا، وقيل: تمنيكم في المعصية المغفرة. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: الغرّة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنى على الله المغفرة. وقيل: ذكرك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في الإخلاص الذي كان عليه في البحر.

وقيل: المقتصد: المؤمِنُ الثّابتُ على ما عاهد الله عليه في البحر.

قوله: (وإنَّكَ لو رأيتَ أبا عُمَير، مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ)، وهو عبارةٌ عن حُصولِه بالغادِرِ المبالِغِ في غَدْرِه، وبمَنْ كلُّه غَدْرٌ؛ كقولك: هذا ما حَصَّلَتْ يَداك. وقيل: من عَدَّ خَصائلَ أحدٍ بأصابعِ يَدَيه، يقبض بكلِّ خصلة أُصبَعةً من أصابعِها، فإذا بلغ العَشْرَ قَبضَ على أصابع يَدَيه أجمعَ. يعني أنه عَدَّ في أبي عُميرٍ عَشْرًا من الأخلاق الذَّميمة، وهو متكلَّف.

قوله: (في جَذَعةِ ابنِ نِيَارٍ) تقدم في ((البقرة)) حديثهُ بتمامِه.

ص: 318

لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرّة. وقرئ بضم الغين، وهو مصدر غره غرورًا، وجعل الغرور غارّا، كما قيل: جدّ جدّه. أو: أريد زينة الدنيا لأنها غرور. فإن قلت: قوله: (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وارٌد على طريٍق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوٌف عليه. قلت: الأمر كذلك؛ لأنّ الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ بضمِّ الغَيْن) قال ابن جِنِّي: وهي قراءة سماك بن حرب، والغَرورُ: الاغْتِرارُ؛ أي: لا يَغرنَّكم اغتِرارُكم وتَمادي السَّلامةِ بكم.

الراغب: يقال: غَرَرْتُ فلانًا: أصبْتُ غِرَّتَه ونِلْتُ منه ما أريده، فالغِرَّةُ: غفلة في اليَقظة، والغِرارُ: غَفْلةٌ مع غَفوة، وأَصلُ ذلك من الغُرِّ، وهو الأثرُ الظّاهرُ من الشيء، ومنه غُرَّةُ الفَرَسِ، وغَرُّ الثَّوب: أَثَرُ كَسْرهِ، وقيل: اطْوِهِ على غَرِّه، وغَرَّه كذا غُرورًا، كأنَّما طواه على غَرِّه، والغَرورُ: كُلُّ ما يَغُرُّ الإنسانَ مِنْ مالٍ وجاهٍ وشهواتٍ وشيطانٍ، وقد فُسِّرَ بالشَّيطانِ لأنَّه أَخْبثُ الغارِّين.

قوله: (واردٌ على طريقٍ من التَّوكيدِ لم يَرِدْ عليه ما هو معطوفٌ عليه) قال صاحب ((التقريب)): لكون الجملةِ اسميَّةً، ولفظ {هُوَ} و {مَوْلُودٌ} والتصريح بلفظ {شَيْئًا} فيه ولفظ {جَازٍ} مع أن قوله: هو يجزي لا يخرجها عن الاسميَّةِ، وأنَّ العُمومَ في {مَوْلُودٌ} بملاصَقةِ النَّفيِ وفي {وَالِدُ} بسياق النَّفي، وأنَّ الثّاني مسبوق بـ ((ما)) وهو عدمُ إغناءِ الوالدِ عن ولدِه، وأنه كان مكررًا، إذ ربما يفهم العقل من الأول الإقناط، ويقيس عليه

ص: 319

انضم إلى ذلك قوله: (هُوَ) وقوله: (مَوْلُودٌ)، والسبب في مجيئه على هذا السنن: أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عكسه بجامع عدم إغناء الغير عن الغير، فيَرِدُ الثَّاني كأنَّه مفهومٌ مرَّتين، وانفرادُ الثّاني بتأكيدٍ أو بالسَّلامةِ عن مخالَفتين للأصلِ أو عن ممتنع؛ لأنَّ لفظَ {شَيْئًا} إن لم يُضْمَرْ في الأَوَّلِ لَزِمَ الأمرُ الأَوَّلُ، وإنْ أُضْمِرَ بقرينةٍ لزم الثَّاني؛ لأنَّ الإضمارَ خِلافُ الأصلِ، وتأخير الدّال عليه أيضًا خلافُ الأصل، وإن أُضْمِرَ بلا قَرينةٍ لَزِمَ الثّالثُ.

وقلت: إذا لم يضمر كان آكد؛ لأنَّه حينئذٍ مِنْ بابِ: فلانٌ يعطي ويَمنعُ؛ أي: لا يَصْدَرُ من الوالد حقيقةُ الإِجزاءِ عن المولودِ، على أنَّ المعنى على الإضمار بقرينةِ الآتي وقوله تعالى:{لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48].

قوله: ((لزم مخالفةُ الأَصْلِ))، فيقال: مخالفةُ الأصلِ وسلوكُ العُدولِ عن مقتضى الظّاهرِ دَابُ المؤخرين من البُلَغاءِ، فإنَّهم إذا ظَفِروا بذلك لم يُعرِّجوا إلى ما سِواهُ، ألا ترى إلى قول عُرْوةَ:

عَجبتُ لهم إذ يَقتلونَ نُفوسَهم

ومقتلُهم عند الوغى كانَ أعذَرا

أي: نفوسهم عند السِّلْم. وقول الآخر:

نحنُ بما عندَنا وأنتَ بما

عندَك راضٍ والرّأيُ مُختلِفُ

وكم ترى لهما نظائر وشواهد في التنزيل.

قوله: (وعِلْيتِهم) الأساس: وهو من عِلْيَةِ النّاسِ، جمعُ عَليّ.

ص: 320

قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلى، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم: أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا؛ فلذلك جيء به على الطريق الآكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته، فضلًا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد؛ بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قُبِضَ آباؤُهم على الكُفرِ

، فأُريدَ حَسمُ أطماعِهم)، الانتصاف: هذا الجواب يَتوقَّفُ على أنَّ الخطابَ للموجودِين حينئذٍ، والصَّحيحُ أنَّه عامٌّ لهم ولكلِّ مَنْ ينطلقُ عليه اسمُ النّاسِ، والجوابُ الصَّحيحُ: أنَّ الله أوجبَ على الأبناءِ برَّ الآباءِ، وقرنَ النَّهي عن عقوقهما بالشِّركِ، وأوجبَ على الولدِ كفايةَ أبيه، فقَطَعَ هاهنا وَهْمَ الوالدِ عن أنْ ينفعَه وَلدُه في الآخرة كما كان في الدُّنيا، فلما كان جزاءُ الولدِ عن الوالد مظنَّةَ الوقوعِ مطلوبًا في الدنيا كان حَقِيقًا بتأكيد النفي.

وقال الإمام: الابنُ مِنْ شأنِه أن يكون جازيًا عن والدِه لما له عليه من الحقوق، والوالد يجزي لما فيه من الشَّفقةِ، وليس الثَّاني كالأَوًّلِ.

قوله: (لأنَّ الولدَ يقعُ على الولدِ وولدِ الولدِ): قال الإمامُ الرّافعيُّ في ((الشَّرح الكبيرِ)): إذا قال القائل: وقَفتُ هذا على أولادي هل يدخلُ فيه أولادُ الأولادِ؟ فيه وجهان؛ أصحُّهما، لا؛ لأنَّ الولَد يقع حقيقة على ولد الصُّلْب.

ألا ترى إلى أنه لا يَنتظمُ أن يُقال: ليس هذا ولدُه وإنَّما هو وَلَدُ وَلَدِه. والثّاني: نعم؛ لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26].

قال صاحب ((المغرب)): يقال للصغير: مَوْلودٌ، وإن كان الكبيرُ مولودًا أيضًا لقُربِ

ص: 321

[إِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ)] 34 [

روى: أنّ رجلا من محارٍب وهو الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، أخبرنى عن الساعة متى قيامها؟ وإنى قد ألقيت حباتى في الأرض وقد أبطأت عنا السماء، فمتى تمطر؟ وأخبرنى عن امرأتى فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟

وإنى علمت ما علمت أمس، فما أعمل غدًا؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت؟ فنزلت" وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، إياكم والكهانة؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عهده من الوِلادة، كما يقال: لَبَنٌ حليبٌ، ورُطَبٌ جنيٌّ: للطريّ منهما.

قوله: (فقد اشتملتْ ما في بطنها)، الجوهري: والشَّمَل بالتحريك: مصدر قولك: شَمْلَتْ ناقتُنا لِقاحًا من فَحْلِ فلانٍ، تَشمَلُ شَمَلاً: إذا لَقِحَتْ.

الأساس: شَمِلَهم الخير شُمولاً، وأنا مشمولٌ بنعمةِ الله، ويُروى: اشتَمَلت على ما في بطنها. الأساس: واشْتَمَلَ به الشَّمْلةَ، والرَّحِمُ مُشتمِلةٌ على الوَلَدِ.

قوله: (إيَّاكم والكهانةَ)، ابنُ الأثير: الكاهن الذي يتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبَل الزَّمانِ ويدَّعي معرفةَ الأسرارِ.

قالَ الزَّجّاجُ: فمَنِ ادَّعى أنَّه يعلم شيئًا مِنْ هذه كَفَرَ بالقرآنِ العظيمِ؛ لأنَّه خالفه.

ص: 322

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولقد روينا عن البخاريِّ ومسلمٍ والتَّرمذيِّ، عن مَسْروقٍ، عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها قالت له: من حدَّثك أنَّه يعلم ما في غد فقد كَذَبَ، ثم قرأت:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}

قوله: {عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أيَّانُ مُرساها {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في إبّانه) مُؤذِنٌ بأن ((يُنزِّل)) عطفٌ على الظَّرفِ مع فاعله.

قال أبو البقاء: هذا يدل على قوّة شبهِ الظَّرفِ بالفعلِ؛ لأنه عَطَفَ ((يُنزِّل)) على ((عنده)).

قال صاحب ((الكشف)): جاء بالظرف وما ارتفع به، ثم قال:{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ، فعَطَفَ الجملةَ على الجملةِ، ومثلُه:{سْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [المؤمنون: 21]، فصدَّر بالفعل والفاعل، ثم عَطَفَ بالظَّرفِ وما ارتفع به.

قال الحماسي:

نُقاسمهم أسيافَنا شَرَّ قِسْمةٍ

ففينا غَواشيها وفيهم صدورها

فصدَّر بالفعل والفاعل، ثم أتى بالظَّرفِ وما ارتَفَع به.

ويجوز أن يكون التَّقديرُ: وأنْ يُنزِّلَ الغيثَ؛ أي: عندهُ عِلمُ السَّاعةِ وإنزالُ الغيثِ، فحَذَفَ ((أَنْ)) كقوله: أَحْضُرُ الوغى. تَمَّ كلامُه. وكذلك قولُه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} عَطْفٌ عليه. وأمَّا قولُه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فمعطوفان على الجَرِّ مِنْ حيث المعنى بأنْ يَجعلَ المنفيَّ مثبَتًا، وأنْ يُقالَ: يَعلَمُ ماذا تكسب كُلُّ نفسٍ

ص: 323

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غدًا، ويَعلمُ أنَّ كُلَّ نفسٍ بأي أرضٍ تموت ومثلُه جائزٌ في الكلام إذا رُوعِيَت نُكَتُه، ألا ترى إلى قوله تعالى:{أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] الآيات.

قال المصنِّفُ: لَمَّا وَردت هذه الأوامرُ مع النَّواهي وتقدَّمهُنَّ فِعلُ التَّحريم واشتَركْنَ في الدُّخولِ تحت حُكْمِه، عُلِمَ أنَّ التَّحريمَ راجعٌ إلى أضْدَادِها، وهي الإساءةُ إلى الوالدَين، وبَخْسُ الكيل، وتَرْكُ العَدْلِ.

فإن قلتَ: كيف التَّوفيقُ بين هذه الآية وبين تفسيرِها عن سَيِّدِ المرسلِين صلى الله عليه وسلم، على ما روينا في ((صحيح البخاريِّ))، عن ابن عمر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:((مفاتيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ)) ثم قرأ: {نَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية.

وفي روايةٍ: ((مفاتيح الغيبِ خَمْسٌ لا يعلمُها إلا الله: لا يَعلمُ أحد ما يكونُ في غدٍ إلا الله، ولا يَعلمُ أَحدٌ ما يكون في الأرحام إلا الله، وما تَعلمُ نفسٌ ماذا تَكْسِبُ غدًا، ولا تدري نفس بأيِّ أرضِ تموتُ، وما تدري نفسٌ متى يجيء المطر)) وما وردَ في الحديثِ المشهورِ في: ((خمسٌ لا يعلمهنَّ إلاّ الله))، فإنّه صلواتُ الله عليه أدخلَ كلّهن في علمِ الغيب على سبيلِ الحصر، فأين أداةُ الحصرِ، وإذا عطفَ ((يُنزِّل)) على الظرف خرج عن أن يَكونَ مِنْ جملةٍ العلوم فضلاً عن أنْ يَكونَ مِنْ عِلْمِ الغَيبِ؟

قلت -وبالله التوفيق-: أما دلالة التركيب على الحصر فقد مرَّ غيْرَ مرَّةٍ عن المصنِّف أنَّ اسمَ الله الجامعَ إذا وقعَ مسنَدًا إليه ثم يبني عليه الخبر على إرادةٍ تُقَوِّي الحُكْمَ أفاد تخصيصًا البتَّة. وهذا المقامُ ممّا يجب أن يُحتَجَّ به على صِحَّةِ مذهبِه، وإنَّما خولف بين {عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وبين {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ليدلَّ في الأَوَّلِ على مزيد الاختصاص وفي الثّاني على الاستمرار بحسب تجدُّدِ المتعلِّقات مع الاختصاص.

ص: 324

فإن الكهانة تدعو إلى الشرك، والشرك وأهله في النار. وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره، فرأى في منامه كأن خيالًا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى العلماء في ذلك، فتأوّلوها بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبغير ذلك، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أيان مرساها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في إبانه من غير تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه به (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) برّة أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأمّا دلالةُ {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} على عِلْمِ الغَيبِ، فمِنْ حيثُ دلالةُ المقدورِ المُحْكَمِ المُتيقَّنِ على العِلْمِ الشّاملِ، هذا على تقديرِ أنْ يُعطَف ((يُنَزّل)) على الظَّرْفِ، وأمّا إذا عطف على {السَّاعَةِ} المضافِ إليها، فيكون ((يعلم)) وما عُطِفَ عليه مَسُوْقًا على المضاف والمضاف إليه، يعني: عنده عِلْمُ السّاعةِ وإنزال الغيثِ، وعنده عِلْمُ ما في الأرحام وعِلْمُ ماذا تكسب كُلُّ نفسٍ غدًا. هذا على تقدير حذف ((أن)) كما مَرَّ، فإفادة الحصر إذن من تقديم الخبر على المبتدأ.

فإن قلت: ما تلك النُّكتةُ التي دَعَتْ إلى العدول عن المُثْبتِ إلى المَنْفِيِّ في قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} ؟

قلت: هي أنَّ في نفي الدِّرايةِ المخصوصة وتكريرها واختصاصها بالذِّكْرِ دون العِلْمِ لِما فيها من معنى الحِيلةِ والخِداعِ، وفي تكريرِ النَّفْسِ وتنكيرها وإيقاعها في سياق النَّفيِ وتخصيصِ ما هو من خويصّةِ كُلِّ نَفْسٍ الدلالةَ على أنَّ النَّفْسَ إنْ لم تَعرفْ ما يُلْصَقُ بها ويَخْتَصُّ بها وإن أَعْمَلَت حِيلَتَها، ولا شيء أَخَصُّ بالإنسان من كَسْبِه وعاقبتِه، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفةِ ما عَداهما أَبعدُ، أعني: من معرفة وقتِ السّاعةِ، وإبَّانِ إنزالِ الغيث، معرفةِ ما في الأرحام.

قوله: (في إبّانه) الجوهري: إبّان الشيء- بالكسر والتَّشديد-: وقته.

ص: 325

فاجرةٌ (ماذا تَكْسِبُ غَداً) من خيٍر أو شر، وربما كانت عازمة على خيٍر فعملت شرًا، وعازمة على شر فعملت خيرًا (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت: لا أبرحها وأقبر فيها، فترمى بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها، ولا حدّثتها به ظنونها. وروى أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني؟ وسأل سليمان أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبًا منه، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. وجعل العلم لله والدراية للعبد؛ لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى: أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما، كان من معرفة ما عداهما أبعد. وقرئ:(بأية أرٍض). وشبه سيبويه تأنيث (أىّ) بتأنيث «كل» في قولهم: كلتهنّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو أقبرُ فيها) أي: إلى أن أُقْبَرَ فيها، ويروي:((وأقبر فيها)) بالواو.

قوله: (مَرامِي) جمع مِرْماة، وهي السِّهام.

المغرب: المِرْماة: سَهْمُ الهَدفِ.

قوله: (من معنى الخَتْلِ)، الجوهريُّ: خَتَلَهُ وخاتَلَهُ؛ أي: خادَعَه.

المَطَرِّزي: المُداراة: المُلاطفةُ والمُلايَنَةُ، وأصلُها المُخايلةُ، من: دَرَيتُ الصَّيدَ وأَدْرَيتُه: إذا خَتَلتُهُ، ومنه الدِّرايةُ، وهي العلم مع تكلُّفٍ وحِيلةٍ، ولهذا لم يُجيزوا اسم الدّاري على الله سبحانه وتعالى.

قوله: (ولا يتخطاها)، الأساس: أخطأَ المطرُ الأرضَ: لم يُصِبْها، وتخاطَأَتْه النَّبْلُ: تجاوزَتْه.

قوله: (وشبه سيبويه تأنيث ((أيّ)) بتأنيث ((كل)) في قولهم: كُلَّتُهُنّ)، لأن ((أيًّا)) اسمٌ

ص: 326

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقًا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرًا عشرًا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مبهمٌ لازمةُ الإضافة، كالكل، فإذا جيء بالتاء فحقُّها أن تنقطع عن الإضافة، لئلا يتصل من المضاف والمضاف إليه، كقول بعضهم: أيةً سلكوا، فشبهت بقولهم: كُلتهن، وجمعت بين الإضافة والتاء.

تمَّتِ السُّورةُ، والحمد لله وحدَه.

ص: 327

‌سورة السجدة

مكية، وهي ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

[الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)] 1 - 3 [

(الم) على أنها اسم السورة مبتدأ خبره (تَنْزِيلُ الْكِتابِ)، وإن جعلتها تعديدًا للحروف ارتفع (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) بأنه خبر مبتدٍإ محذوف: أو هو مبتدأ خبره (لا رَيْبَ فِيهِ) والوجه أن يرتفع بالابتداء، وخبره (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له. والضمير في فِيهِ راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أى في كونه منزلًا من رب العالمين، ويشهد لوجاهته قوله: (أَمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة السجدة

مكية، وهي ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (ويَشهدُ لِوَجاهتِه)، الأساس: رجلٌ وجيهٌ بيِّنُ الوَجاهة، وله جاهٌ وحُرمَة؛ أي: يؤيِّد أنَّ الوَجْهَ في الإعراب هذا الأخير تَعقيبُه بقولِه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ، وبقوله:{بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} .

ص: 328

يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأنّ قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله:(بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم: أثبت أوّلًا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأن (أم) هي المنقطعة الكائنة بمعنى (بل) والهمزة، إنكارًا لقولهم وتعجيبًا منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة، قد احترز فيها أنواع الاحتراز، كقول المتكلمين: النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذا أسلوبٌ صَحيحٌ مُحكَم)؛ لحصول التَّرقِّي في كونه {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} .

أما الجملةُ الأولى: فبالتَّصريح وتوكيدُها بالجملة المُعتَرِضة، وأمّا الثانيةُ: فلأنَّ الإنكارَ البليغَ والإضرابَ عن الأوَّل يدلُّ على أنَّهم قد أظهروا أمرًا غريبًا يجب أن يُقضى منه العجب، وهو أنَّ أقلَّ سورةٍ منه إذا كان معجوزًا عنه؛ فكيف يُقال لمثلِه: إنه مفترًى، ولهذا قال:((تعجيبًا منه لظهور أمرِه)). وأما الثالثة فلتصريح {بَلْ} وتعريفِ {الْحَقُّ} الذي هو الخبرُ بلام الجنسِ، وتخصيصُ لفظِ {الْحَقُّ} .

وأمّا التخصيصُ بعد التَّعميم؛ أعني: {رَّبِكَ} و {رَّبِّ الْعَالَمِينَ} فللتَّخلص إلى إثبات نبوَّته صلى الله عليه وسلم، والإيذانِ بأنَّ المنزَّل الكائن من جهة مالكِ العالمينَ ومدبِّرِ أمورِ المخلوقاتِ كلِّها هو الثابتُ من جهة مَن هو مالِكُك ومُدبِّر أمرِكَ خاصةً، فدلَّ التخصيصُ بعد التَّعميم على عِظَم شأنِه صلى الله عليه وسلم، ثم التَّصريحُ باسم الذاتِ والحضرة الجامعةِ، وإثبات الخالقيَّة والمدَبِّريَّة بعد الحُكم بإنزال هذا القرآنِ، دلَّ على تعظيم شأنِ هذا المُنزَّلِ والمُنزَّلِ عليه، كأنَّه قيل: هو الحقُّ من ربِّك ذلك الذي خَلق السَّماواتِ والأرضَ، ثمّ استوى على العرش، فهو من باب تَرتُّبِ الحُكم على الوَصْف.

قوله: (النَّظَرُ أوّل الأفعال الواجبة) إلى آخره. قال نجمُ الدِّين الخوارزميُّ في كتاب

ص: 329

عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته. فإن قلت: كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله، وقد أثبت ما هو أطم من الريب، وهو قولهم:(افْتَراهُ)؟ قلت: معنى (لا رَيْبَ فِيهِ): أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله: لأن نافى الريب ومميطه معه لا ينفك عنه؛ وهو كونه معجزا للبشر، ومثله أبعد شيء من الريب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((الصَّفوة)): النَّظَرُ أول الواجباتِ؛ لأنَّ سائرَ الواجباتِ الشرَّعيّةِ فرعٌ على معرفة الله بتوحيدِه وعَدْلِه، ومعرفتُه فرعٌ على النَّظَرِ، فكان النَّظرُ مقدَّمًا على الكلِّ.

فإن قيل: رَدُّ الوديعةِ، وقضاءُ الدَّين، وتَرْك الظُّلم، وشُكر نِعَم العبادِ: واجبةٌ عند كمال العَقْل، فلمْ يكنِ النَّظرُ أوَّلَ الواجبات؟

قلنا: نحن لا ندَّعي ذلك على الإطلاق، ولكنّا نقول: النَّظرُ أولُ الأفعالِ الواجبةِ المقصودةِ التي يَنفكُّ عنها كلُّ عاقلٍ، وبهذه القُيودِ اندفَعَ جميعُ النُّقوضِ لانتفائها.

وقلت: أمّا تنزيلُ الآيةِ على الكلام المصنّفِ فهو أن يُقالَ: أنَّ أصل المَسألةِ: الم ذلك الكتاب تنزيلٌ من ربِّ العالمينَ، والتعليل هو قوله:{لَا رَيْبَ فِيهِ} ، وما دلَّ على الاعتراض قوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ؛ لأنَّ قولَهم هذا إنكارٌ لأنْ يكونَ من ربِّ العالمين، وقد احترز عن هذا الاعتراض في قوله:{لَا رَيْبَ فِيهِ} ؛ لأنّه كلامٌ جامعٌ، ومعناه: أن هذا الكتاب لوُضوحِ دلالتِه وسُطوعِ بُرْهانِه ليس فيه مجالٌ للشُّبهة ولا مَدْخلٌ للرِّيبةِ.

قوله: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ} ردٌّ للاعتراض، وإشارةٌ إلى أنَّ قولَه:{لَا رَيْبَ فِيهِ} قد احترز في من ذلك؛ لأنَّه متضمِّنٌ لمعنى أنه غيرُ مُفترًى، ثم عاد بقوله:{لِتُنذِرَ قَوْمًا} إلى تقرير الكلام السابقِ.

قوله: (لأنَّ نافيَ الرَّيبِ ومُميطَه معه لا ينفكُّ عنه)، ((معه)) خبرُ ((أنّ))، و ((لا يَنْفَكُّ)) إمّا خبرٌ بعدَ خبرٍ، وإمّا حالٌ مؤكّدّةٌ من المُستترِ في الخبر.

ص: 330

وأما قولهم: (افْتَراهُ) فإما قول متعنٍت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له، أو جاهٍل يقوله قبل التأمل والنظر؛ لأنه سمع الناس يقولونه. (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) كقوله:(ما أنذر آباؤهم)] يس: 6 [وذلك أن قريشًا لم يبعث الله إليهم رسولًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم؛ لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زماٍن. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) فيه وجهان: أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ)] طه: 44 [على الترجي من موسى وهارون عليهما السلام، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أمّا قِيام الحُجَّةِ بالشرائع) الجواب ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الأنبياءَ لم تَزَل مبعوثةً والحجةُ بهم لازمةً، على أنَّ المرادَ: ما أتاهم من نذير منهم.

قال الزَّجّاجُ: أمّا الإنذارُ بما تقدَّم من رُسلِ الله فعلى آبائهم به الحُجَّةُ، وعليهم أيضًا؛ لأنَّ الله لا يُعذِّب إلاَّ مَن كَفرَ بالرُّسلِ، والدَّليلُ عليه قولُه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فعلى هذا قولُه:{مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} أي: رسولٌ منهم ومن قَومِهم يُنذرهم خاصَّةً وعامَّةً كافة النّاس.

قوله: (لأنَّ أدلةَ العَقل المُوصِلة إلى ذلك معهم)، الانتصاف: مَذهبُنا أنَّه لا تُدرَكُ أحكامُ التَّكليفِ إلا بالشَّرع، وقاعدةُ الحُسنِ والقُبْحِ قد تكرَّر إبطالُها، فتعرض عمّا يقولُه حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيرِه، وإنّما قامتِ الحُجَّةُ على العرب بمَن تقدَّم مِن الرُّسل كأبيهم إسماعيلَ، وقولُه:{مَّا أَتَاهُم} يعني: في زمانه صلى الله عليه وسلم.

ص: 331

[الله الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)] 4 [

فإن قلت: ما معنى قوله: (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)؟ قلت: هو على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (معنى قولِه: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} أي: يقتضي، دليلُ الخطابِ أنَّ الله شفيعٌ، وكيف يَحسُن أن يُسمَّى شفيعًا؛ يدلُّ عليه قولُه: ((أي: ناصِرُكم على سبيل المجازِ)).

أجاب أن معنّى {مِّن دُونِهِ} : المجاوزةُ عن رِضاه، يعني:((دون)) هنا: بمعنى التَّجاوُز من شيءٍ إلى شيءٍ، قال الشّاعر:

يا نَفسُ مالَكِ دونَ الله من واقِ

أي: إذا تجاوزتِ وِقايةَ الله ولم تناليها لم يَقِكَ غيرُه، فـ {مِّن دُونِهِ} حالٌ من المجرور، والعاملُ الجارُّ والمجرورُ؛ أي: ما استقرَّ لكم مجاوِزينَ الله شفيعٌ يشفعُ لكم. ويجوز أن يكونَ حالاً من {شَفِيعٍ} قُدِّمت لكون ذِي الحالِ نَكرةً، و ((دون)) بمعنى: غير، والشَّفيعُ بمعنى الناصِر، فيكون عطفُه على {وَلِيٍّ} تتميمًا ومبالغةً؛ كقوله تعالى:{وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 31].

والحاصل أنَّ الشَّفيع على الأوَّل: غيرُ الله، وعلى الثّاني: هو الله تعالى؛ على المجازِ، وبيانُ الاتِّصالِ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} ، وخصوصًا يتولى أمورَ معاشِكُم ومعادِكُم، فإنْ تجاوزتم عنه إلى وليٍّ وشفيعٍ لم تجدوا أبدًا، وهو المتولِّي وهو الشفيعُ والناصرُ لا غير.

ص: 332

معنيين، أحدهما: أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليًّا، أى: ناصرًا ينصركم ولا شفيعًا يشفع لكم. والثاني: أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم، وشفيعكم، أى: ناصركم على سبيل المجاز؛ لأن الشفيع ينصر المشفوع له، فهو كقوله تعالى:(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فإذا خذلكم لم يبق لكم ولىّ ولا نصير)] البقرة: 107 [فإذا خذلكم لم يبق لكم ولٌّي ولا نصير.

[يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)] 5 [

(الْأَمْرَ) المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرًا (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصًا كما يريده ويرتضيه إلا في مدةٍ متطاولة؛ لقلة عمال الله والخلص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة؛ لأنه لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يُنزِّله مُدبَّرًا) يريد أنَّ {يُدَبِّرُ} مضمَّن معنى: ينزِّل، حيثُ عدِّي بـ ((مِنْ)) و ((إلى))، وقُوبل بقوله:{ثُمَّ يَعْرُجُ} ، فلا بدَّ من تقدير: يُنزِّل.

قوله: (إلا في مُدَّةٍ مُتطاوِلة) يعني: يراد بألف سنةٍ المدةُ المتطاولةُ لا التَّعيينُ والتَّوقيتُ.

قال القاضي: معنى {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} : ثم يَصعدُ إليه، ويثبتُ في علمه موجودًا؛ أي: أعمالُكم في بُرْهَةٍ من الزَّمان متطاولة، يعني بذلك استطالَة ما بينَ التَّدبيرِ والوُقوع، وإليه أشارَ المصنِّفُ: ((ولا يصعدُ ذلك المأمورُ خالصًا

إلاَّ في مدةٍ متطاوِلةٍ لقلَّة عمّالِ الله والخُلَّصِ)). ويَنصُر هذا التأويلَ الفاصلةُ، وهي قولُه:{قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} ، فإنّها كالفاصلة السابقةِ؛ أي:{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} .

ولفظة {ذَلِكَ} في قوله: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} شاهدةٌ بذلك، كأنَّه قيل: ذلك الخالقُ المدبِّرُ الذي خَلَق الكائناتِ ودبَّر أمورَ العالمينَ، وخُصوصًا أمرَ أعمالِكُم، له العلمُ

ص: 333

يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره:(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ)] السجدة: 9 [، أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض: لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، كما قال: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)] الحج: 47 [، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أى: يصير إليه، ويثبت عنده، وبكتب في صحف ملائكته كل وقٍت من أوقات هذه المدّة ما يرتفع من ذلك الأمر، ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضا ليوٍم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشاملُ، وله العزَّةُ والرحمةُ، وله التفضُّلُ عليكم حيث أنشأكُم- حيًّا عالمًا، سميعًا، بصيرًا، قادرًا، ذا دريّة- من أخسِّ الأشياءِ من طينٍ ومن ماءٍ مهينٍ.

وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} كالتَّوطئة والتَّمهيدِ؛ لقوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ} وما اشتمل عليه من حُسْن التقدير فيه، ثمَّ قيلَ:{قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} حيث لا يَصعدُ ما أمرناكُم به خالصًا كما نريدُه ونَرتَضِيه إلاَّ في مدَّةٍ متطاولةٍ، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، والأمرُ على هذا الوجه، يعني المأمور به.

والعُروجُ بمعنى الصُّعودِ، مأخوذٌ من قوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

قوله: (أو يُدبِّرُ أمرَ الدُّنيا) عطفٌ على قوله: (({الْأَمْرَ} المأمورَ به)) من حيث المعنى، والأمرُ على هذا بمعنى الشَّأن، والعُروجُ بمعنى الإثباتِ والكَتْب.

قوله: (ويَثبُتُ)، أي: يُثبَت، {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94]، أي: مُثبتون في صحيفة عَمَلهِ كما ثَبتت الكتابةُ في الرَّقِّ، قال تعالى:{كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ} [المجادلة: 22].

قوله: (وهَلُمّ جرًّا) من الأمثال.

قال في ((المفصَّل)): معناه: تَعالَوا على هَيْنَتِكُم كما يَسْهُل عليكم، وتقول: كان ذاك عامَ كذا، وهلمَّ جرًّا إلى اليوم.

ص: 334

وقيل: ينزل الوحى مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض. ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحى أو ردّه مع جبريل، وذلك في وقٍت هو في الحقيقة ألف سنة؛ لأن المسافة مسيرة ألف سنةٍ في الهبوط والصعود؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل؛ لأنه يقطع مسيرة ألف سنةٍ في يوم واحد، وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: يُنزِّل الوحيَ) سمّيَ الوحيُ أمرّا؛ لأنَّه منه كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]، وهو قولُ قتادةَ والسُّدِّيِّ ومقاتلٍ. والعُروج: الصُّعودُ الحقيقيُّ، فيكون التّقديرُ: في يوم كان مقدارُ مسافةِ السَّيرِ فيه مسافةَ ألفِ سنة، ويَقرُب منه قولُه تعالى:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12].

قوله: (وقيل: يُدبِّر أمرَ الدُّنيا من السَّماء إلى الأرضِ)، قال صاحب ((المطلع)): هذا قول ابنِ عبّاس رضي الله عنه.

وفي رواية عطاءٍ: ينزِّل القضاءَ والقَدَرَ منَ السماءِ إلى الأرضِ ثم يَعرُج إليه؛ أي: يَرجِعُ إليه في يوم كان مقدارُه ألف سنةٍ ممَّا تَعُدُّون، وهو يومُ القيامةِ لأنَّ يومًا من أيام الآخرة مثل ألف سنةٍ من أيام الدنيا، ومعناه: ثمَّ يصير الحُكمُ فيما قضى وقدّر إليه يوم القيامةِ كقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123].

فإن قلت: كيف التَّوفيقُ بين هذه الآيةِ وبينَ قولِه: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 4، 5]؟

قلت: أمّا على الوجه الأوَّل فهو ما قال الإمامُ: ذلك إشارةٌ إلى امتداد نفاذِ الأمر، وذلك لأنَّ مَنْ نَفَذ أمرُه غايةَ النفاذِ وانقطعَ في يومٍ أو يومينِ لا يكون مثلَ مَنْ يَنفذ أمرُه سنين متطاولةً، يعني: يُدَبّرُ الأمرَ في زمانٍ يومٌ منه ألفُ سنةٍ، فكم يكونُ شهرٌ منه؟ وكم تكون سنةٌ منه؟ وكم يكونُ دهرٌ منه؟ وعلى هذا لا فرقَ بينَ الآيتينِ؛ لأنَّ المرادَ استطالةُ نَفاذِ الأمرِ،

ص: 335

ذلك الأمر كله؛ أى يصير إليه ليحكم (فيه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وهو يوم القيامة. وقرأ ابن أبى عبلة: (يعرج) على البناء للمفعول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فسواءٌ يعبَّر بالألف أو بالخمسين [ألفًا لا يتفاوت]. نعم المبالغةُ في الخمسين أكثر.

وأما على الوجه الأخيرِ فإنَّ طُولَ يوم القيامةِ يَمتدُّ إلى خمسينَ ألفَ سنةٍ، وفي هذه المدَّة يتصلُ عُروجُ الملائكةِ ونُزولها لشؤون أنفُسِهم العبادِ، ومنها ألفُ سنةٍ بحَسْبِ تقديرِ العبادِ يَحكمُ فيها سبحانه وتعالى فيما يَرجعُ من شؤون عبادِه ممَّا تَقَعُ عليه المحاسبة، وإذا ليس في تلك المدَّةِ كلَّها الحسابُ؛ لأنَّ فيها الوقوفُ متحيِّرينَ، ثم تقعُ الشَّفاعة، ثم يكون الجوازُ على الصِّراطِ، ثم يكونُ المصيرُ إمّا إلى الجنَّةِ أو إلى النارِ.

ويمكن أن يُرادَ به شدَّة اليومِ وهَوْلُه على الكافِرِ، وعلى المؤمن دُونَ ذلك بحَسْبِ السَّعادةِ والشَّقاوةِ. رواه مُحيي السُّنة في ((المعالم)).

وفي ((شرح السُّنة)): عن أبي سعيد: قِيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يومًا كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنة، فما أطولَ هذا اليومَ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((والَّذي نَفسي بيده، إنَّه لَيُخَفَّفُ على المؤمن حتّى يكون أخَفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلّيها في الدُّنيا)). يدلُّ عليه قولُه: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5]، فإنَّه تَصبيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان من النَّضْر بنِ الحارث معه من استعجالِه العذابَ استهزاءً وتكذيبًا، يعني: هذا الكافرُ يَستعجلُ العذابَ، وإنَّ قُدَّامَه يومٌ حالُه في شدَّته وفظاعتِه ذلك.

ويُشبه أن يكونَ هذا من المُتَشابَهِ الذي استأثرَ الله به. روى مُحيي السُّنة عن ابن أبي مُليكةَ أنه قال: سأل فيروز ابنَ عبّاسِ عن الآيتينِ، فقال له: أيّامٌ سمّاها الله تعالى لا أدري ما هي، وأكرهُ أن أقولَ في كتابِ الله ما لا أعلمُ.

ص: 336

وقرئ: (تعدون) بالتاء والياء.

[ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)] 6 - 9 [

(أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) حسنه، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة؛ فجميع المخلوقات حسنة؛ وإن تفاوتت إلى حسٍن وأحسن، كما قال:(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)] التين: 4 [وقيل: علم كيف يخلقه؛ من قوله: قيمة المرء ما يحسن. وحقيقته. يحسن معرفته أى: يعرفه معرفةً حسنةً بتحقيق وإتقان. وقرئ: (خلقه) على البدل، أى: أحسن فقد خلق كل شيء. و (خلقه) على الوصف،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقُرئ: {تَعُدُّونَ} بالتاء والياء)، بالتّاء الفوقانيّةِ: السَّبعةُ، وبالياء: شاذَّة.

قوله: (من قوله) أي: من قول عليٍّ رضي الله عنه: قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسِنُه. أي: كلُّ مَنْ زاد علمُه زاد في صُدور الناس قَدْرُه وقيمتهُ، وكلُّ مَنْ نقص علمُه نقصَ في قلوب الناسِ جاهُه وحِشْمَتُه.

قوله: (وقرئ: {خَلَقَهُ}) ابنُ كثيرٍ وابنُ عامرٍ وأبو عمروٍ: بإسكان اللاّم، والباقون: بَفْتحها.

قال أبو البقاء: بالسُّكون بَدَلٌ مِن {كُلَّ} ، بدلُ اشتمالٍ؛ أي: أَحسَنَ خَلْقَ كلِّ شيءٍ، ويجوز أنَ يكون مفعولاً أوَّلَ، و {كُلَّ شَيْءٍ} ثانيًا، و {أَحْسَنَ} بمعنى عَرَّف؛ أي: عرَّف عبادَه كلَّ شيءٍ. وبالفتح فِعْلٌ ماضٍ، وهو صفةٌ لـ {كُلَّ شَيْءٍ} .

ص: 337

أي: كل شيء خلقه فقد أحسنه. سميت الذرية نسلًا؛ لأنها تنسل منه، أى: تنفصل منه وتخرج من صلبه ونحوه قولهم للولد: سليل ونجل، و (سَوَّاهُ) قوّمه، كقوله تعالى:(فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)] التين: 4 [ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو، كقوله: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية] الإسراء: 85 [كأنه قال: ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته.

[وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)] 10 - 11 [

وَ (قالُوا) قيل: القائل أبى بن خلف، ولرضاهم بقوله أسند إليهم جميعًا. وقرئ:(أءنا)، و (إنا) على الاستفهام وتركه. (ضَلَلْنا) صرنا ترابا، وذهبنا مختلطين بتراب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي ((الحُجَّة)): {خَلْقَهُ} منصوبٌ على المفعول المُطلَق من قوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} والضميرُ لله كقوله: {صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: 88]، و {وَعْدَ اللهِ} [النساء: 122]. قال: هو مذهبُ سِيبَويه، ويجوز البَدَلُ.

قوله: (لأنَّها تَنسِلُ منه) نَسَل الوَبْرُ وريشُ الطائرِ بنفسه يتعدَّى ولا يتعدَّى.

قوله: (ونَفخَ فيه مِن الشَّيء الَّذي اختَصَّ هو بهِ وبمعرفتهِ)، هذا معنى الإضافةِ؛ لأنه لا يُضافُ إلى الله إلاَّ مالَه فَخامةٌ في نَفسِه، إذ كلُّ شيءٍ مملوكُه ومختصٌّ به؛ كقولك: بيتُ الله، وناقةُ الله.

قال القاضي: أضافه إلى نفسِه تَشريفًا [له] وإشعارًا بأنّه خَلْق عَجيبٌ، وأنَّ له شأنًا وله مناسبةً ما إلى الحضرة الرُّبوبية؛ ولأجله قيلَ: مَنْ عَرف نفسَه فقد عَرف ربَّه.

قوله: (وقرئ: {أَءِنَّا} و ((إنّا)) على الاستفهام وتَرْكِه)، بتَرْكِه: نافعٌ، والباقون: بالاستفهام.

ص: 338

الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا (فِي الْأَرْضِ) بالدفن فيها؛ من قوله:

وآب مضلّوه بعين جليّة

وقرأ على وابن عباس رضى الله عنهما: (ضللنا) بكسر اللام، يقال: ضل يضل وضل يضل. وقرأ الحسن رضى الله عنه: صللنا، من صلّ اللحم وأصلّ: إذا أنتن. وقيل: صرنا من جنس الصلة وهي الأرض. فإن قلت: بم انتصب الظرف في (أَإِذا ضَلَلْنا)؟ قلت: بما يدل عليه (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)] الرعد: 5 [وهو نبعث، أو يجدد خلقنا. (لقاء ربهم): هو الوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت وما وراءه، فلما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وآبَ مُضِلُّوهُ بعَينٍ جَليَّةٍ)، تمامُه في ((المطلع)) للنّابغة يَرثى النُّعمانَ بنَ المنذرِ:

وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزمٌ ونائلُ

جليَّة: قريرة، وجولان: موضع؛ أي: رَجعَ الذين غَيَّبوه في الأرض بالدفن بعُيونٍ قَريرةٍ شماتة، والحزامةُ والعطاءُ تُرِكا بدفن الميت في الجولان. ويروي:((بغير حلية)).

قوله: (الصِّلة وهي الأرضُ)، النهاية: الصَّلْصالُ: هو الصّال، الماء يقع على الأرض؛ فتنشق، فيجفّ، ويَصير له صوت.

قوله: (بما يدلُّ عليه)، وإنما قال:((بما يدلُّ عليه {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ})) إلى آخره؛ لأنَّ ما بعد ((إنَّ)) لا يعملُ فيما قبلَه.

قوله: (((لقاءُ ربِّهم)): هو الوصولُ إلى العاقِبَةِ) وهو للحَصْر عند أهل السُّنةِ، فيكون لقاءُ الله: لقاءَ ثوابهِ وعقابهِ، ويَكون الرُّؤية.

ص: 339

ذكر كفرهم بالإنشاء، أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر؛ وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالإنشاء وحده، ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك، مبعوثين للحساب والجزاء، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا. والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح، قال الله تعالى:(الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ)] الزمر: 42 [وقال: (أخرجوا أنفسكم)] الأنعام: 93 [، وهو أن تقبض كلها لا يترك منها شيء؛ من قولك: توفيت حقي من فلان، واستوفينه؛ إذا أخذته وافيًا كاملًا من غير نقصان. والتفعل والاستفعال: يلتقيان في مواضع: منها: تقصيته واستقصيته، وتعجلته واستعجلته. وعن مجاهد رضى الله عنه: حويت لملك الموت الأرض، وجعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء. وعن قتادة: يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة. وقيل: ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها.

[وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 12 - 14 [

(وَلَوْ تَرى) يجوز أن يكون خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه وجهان: أن يراد به التمني، كأنه قال: وليتك ترى، كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة:«لو نظرت إليها» والتمني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (للمُغيرة: ((لو نظرتَ إليها))) الحديث من رواية التِّرمذيِّ والنَّسائيِّ عن المغيرةِ: أنَّه خَطبَ امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((انظرْ إليها إنَّهُ أحرى أنْ يُؤدَمَ بينكُما)).

ص: 340

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الترجي له في (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون (لو) الامتناعية قد حذف جوابها، وهو: لرأيت أمرًا فظيعًا. أو: لرأيت أسوأ حال ترى. ويجوز: أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم، إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، فلا تريد به مخاطبًا بعينه، فكأنك قلت: إن أكرم وإن أحسن إليه، ولو وإذ: كلاهما للمضى، وإنما جاز ذلك؛ لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود المقطوع به في تحققه، ولا يقدر لترى ما يتناوله، كأنه قيل: ولو تكون منك الرؤية، و (إذ) ظرف له. يستغيثون بقولهم (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) فلا يغاثون، يعنى: أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك. أو: كنا عميًا وصمًا فأبصرنا وسمعنا (فَارْجِعْنا) هي: الرجعة إلى الدنيا (لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) على طريق الإلجاء والقسر، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النهاية: أي تكون بينكما المحبَّة والاتفاقُ يقال: أدَمَ الله بينهما يأدِم أدْمًا بالسُّكون؛ أي: ألَّفَ ووفَّق، وكذلك آدم يُؤدِم بالمدِّ فَعَلَ وأفْعَل، وليس في الحديث ((لو))، وكلمةُ ((لو)) للتَّقدير والتَّمنيِّ، والتقديرُ: يلتقيانِ؛ لأنَّ المُتمنِّي لا يخلو من تقديرٍ، ويفرض بها غير الواقع واقعًا كما يُطْلب بـ ((ليت)) ما لا يُمكن حصولُه، ولمناسبةٍ بينها جُعلت ((لو)) للتمَّني.

قوله: (أو كنّا عُميًا وصُمًّا) يعني: لا يقدَّر لـ {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} مفعولٌ، ليكون بمنزلة اللازِم.

قوله: (ولكنّا بَنَينا الأمرَ على الاختيار) ينادي على أن هذا التأويل بمجرد الرأي لاستدراك الله بقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وما أدري كيف وضع مكان هذا الاستدراك استدراكه.

ص: 341

العمى دون البصراء. ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله: (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ) فجعل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ألا ترى إلى ما عقَّبه به من قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} يعني: دلّ نسبةُ النِّسيان إليهم، وجعلُه سببًا للإذاقةِ على أن المشيئة المطلقةَ مقيَّدة بقيد الإلجاءِ والقَسْر، وأنَّ العلمَ الأزلي تابعٌ لاختيارهم.

انظر إلى هذا التَّعوُّج عن الجادَّةِ المستقيمةِ حيث أوقَعَ قولَه: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} المعبِّر عن العلم الأَزَليِّ المُستتبع لجميع الكائناتِ على وَفْقِه مسبّبًا عن استحبابِهم العَمَى على الهُدُى، وجعل الاستحبابَ مسبَّبًا عن اختيارِهم المعدوم.

والحقُّ ما قاله الإمامُ: أنَّ قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الآية، جوابٌ عن قولهم:{فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} ؛ أي: هذا الذي جرى علينا ما جرى إلاَّ بسبَبَ تَرْكِ العَمَلِ، أمّا الإيمانُ فإنّنا مُوقنون بما أنكرنا ثَمّ، فارجعْنا حتَّى نَتلافى العملَ، فأُجيبوا بقوله:{وَلَوْ شِئْنَا} أي: أنّا لو أردنا الإيمان لهديناكم في الدُّنيا ولمّا لم نهدكم تبيَّن أنّا ما أردنا إيمانَكُم فلا نَرُدُّكم، فذُوقوا العذابَ المقدَّرَ عليكم بسَبب كَسْبِكُم، فلا ينفعُكم الآنَ شيء. عن بعضهم: لو عَلِمْناها أهلاً للهدى لهَدَيْنَاها.

قال محيي السنة: المراد بقوله: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} قولُه لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85].

وقلت: دلَّ على هذا الاستبدادِ صيغةُ التَّعظيمِ في {وَلَوْ شِئْنَا} وعلى أنَّ هذا جواب عن قول الكَفَرة، تَرتَّب قولُه:{فَذُوقُوا} عليه، أي: لما أَوْجَبْنا القولَ بأنّا نملأ جهنَّمَ من الجنَّةِ والنّاسِ أجمعين، وأنتُم من أولئك، فذُوقوا.

وأمّا معنى قولِه: {بِمَا نَسِيتُمْ} فما ذكره القاضي هذا النص تصريحٌ بعَدَم إيمانِهم

ص: 342

ذوق العذاب نتيجة فعلهم: من نسيان العاقبة، وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعنى: أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها، ثم قال:(إِنَّا نَسِيناكُمْ) على المقابلة، أى: جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، أى: تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة، وفي استئناف قوله:(إنا نسيناكم) وبناء الفعل على (إن) واسمها تشديد في الانتقام منهم. والمعنى: فذوقوا هذا أى: ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم؛ بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لعَدَم المشيئةِ المسبَّب عن سَبْق الحُكم بأنَّهم من أهل النارِ، ولا يدفعُه جَعْلُ ذَوْقِ العذابِ مسبَّبًا عن نِسْيانِهمُ العاقبةَ وعَدَمِ تَفكُّرِهِم، كأنه من الوسائط والأسبابِ المقتضيَينِ له.

قوله: (تشديدٌ في الانتقام) مبتدأٌ، والخبرُ:((في استئناف))، كأنه لمّا قيل لهم: ذُوقوا عذابَ الخِزْي والغَمِّ بسَببِ تَرْكِ الاستعدادِ ليوم التَّنادِ، قالوا: فما حُكمُنا بعدَ هذا الخِزْي هل يَرحَمُنا، ويكشفُ عنّا هذا الغَمَّ والخِزْيَ؟ فقيل لهم:{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي: نخزيكم جزاءَ نسيانِكُم بالحرمانِ من الرَّحمةِ وبإذاقة ما هو أشدُّ من الخِزْي، وهو العذابُ السَّرْمَدُ، وأخرج الكلامَ إلى الماضي المحقَّقِ، وصُدِّرت الجملةُ بـ ((إنّ))، وعطف الطَّلَبيّ على الخَبَريّ تشديدًا للانتقامِ منهم.

قوله: (والمعنى: فذُوقوا هذا، أي: أنتم فيه من نَكْس الرُّؤوس والخِزْي) إشارةٌ إلى أنّ مفعول {فَذُوقُوا} : ((هذا))، وكذا قدَّرَ أبو البقاء أيضًا، والمشارُ إليه معنى قولِه:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ، ويَستلزمُهمُ الخِزْيُ والغَمُّ.

ص: 343

بسبب ما عملتم من المعاصي والكبائر الموبقة.

[إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)] 15 - 17 [

(إِذا ذُكِّرُوا بِها) أى: وعظوا؛ سجدوا تواضعًا لله وخشوعًا، وشكرًا على ما رزقهم من الإسلام (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه، وأثنوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقدَّرَ الواحديُّ صفة لـ {يَوْمِكُمْ} وتكرير {فَذُوقُوا} لتعلُّق معنًى زائد، والآياتُ منتظمةٌ جامعةٌ للعذابَينِ الرُّوحاني والجسمانيِّ.

وفي قوله: (بسَببِ ما عَملتُم من المعاصي والكبائر) إدخالُ أهلِ القِبْلةِ في عُموم قولِه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ، ويرُدُّه سياقُ الآيةِ:{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} ، سياقُه:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} الآيةَ، وما سيجيءُ من بيان النَّظْمِ الفائِق.

وقول المصنِّف: ((والتَّمنّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تجرَّع منهم الغَصَص ومن عَداوَتِهم وضِرارهم))؛ لأنَّ مَنْ عادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا مُعاندًا.

الانتصاف: مذهبُ أهلِ السُّنَة أنَّ الموجِبَ للخُلودِ الكُفرُ خاصَّةٌ، والمسألةُ سَمعيَّةٌ، وأدلتُها من الكتابِ قطعيَّةٌ.

قوله: (ونزَّهوا الله مِنْ نِسبة القَبائح) تعريضٌ بأهل السُّنة، وفسَّرهُم قوله سبحانه وتعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} بما يلزم منه نسبة القَبيح إليه، يقال: وهو خَلَق الكُفر في الكافر ثم أذاقَه العذابَ بسَببه، بل الآيةُ تعريضٌ بهم، بل تصريحٌ بأنَّ المؤمنَ بالآيات مَنْ إذا جاءه نَصٌّ من النُّصوصِ أذعنَ له وخضعَ لِما جاءَه من عند الله، وعَزَلَ

ص: 344

عليه حامدين له (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) كما يفعل من يصر (مستكبرا كأن لم يسمعها)] لقمان: 7 [، ومثله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا)] الإسراء: 107 - 108 [. (تَتَجافى) ترتفع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العقل عن أن يَحكم في الأمورِ الدِّينيةِ بالحُسْنِ والقُبْح، ويَدُلُّ على الخضوعِ تَتميمُ الآيةِ بقولهِ:{وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} .

ثمَّ إنَّ الآيةَ مقابلةٌ لقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} في {الَمَ* تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} يدلُّ عليه قولُه: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} إلى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} .

قوله: ({تَتَجَافَى}: تَرتفع) يَتجافى جَنْبُه عن كذا، يجوز أن يكون {تَتَجَافَى} مُستأنفًا؛ فلا محلَّ له من الإعراب، ويجوز أن يكون حالاً من المُضمَرِ في {خَرُّوا} وكذلك {يَدْعُونَ} في موضع الحال، وكذلك {سُجَّدًا} ، وكذلك {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} ، وكذلك قولُه:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} كلُّها أحوالٌ من المُضمَر الذي في الحال قبلَه.

الراغب: أصلُ الجَنْبِ الجارحةُ، ثم يُستعار للنّاحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائرِ الجوارحِ، لذلك نحوَ اليمينِ والشِّمال؛ كقول الشاعر:

من عن يميني مرّةً وأمامي

وقيل: جَنْب الحائطِ وجانبُه، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} أي: القريب. وقوله: {فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 56]؛ أي: في أمره وَحَدِّه الذي حدَّه لنا، وسار جَنِيبَه وجنيبته وجنابَيْه وجَنابَتَيْهِ، وجَنَبتُه أصبْتَ جَنْبَه: نحو: كَبَدْتُه وفأَدْتُه، وجُنِبَ: شَكى جَنْبَه، وجنبَ فلانٌ: أبعدَ عن الخير، وكذلك يقال في الدُّعاء في الخير، وسمِّيت الجَنابةُ بذلك؛ لكونها سببًا لتجنُّبِ الصَّلاة.

ص: 345

وتتنحى (عَنِ الْمَضاجِعِ) عن الفرش ومواضع النوم، داعين ربهم عابدين له؛ لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته، وهم المتهجدون. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها:«قيام العبد من الليل» ، وعن الحسن رضى الله عنه: أنه التهجد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادى بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء، فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فنزلت فيهم. وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها. (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) على البناء للمفعول، (ما أخفى لهم) على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فيَسْرَحون جميعًا إلى الجنَّة)، الأساس: سَرَحَه في المَرْعى سَرْحًا؛ أي: أرسَلَه، وسَرح بنَفْسِه سُروحًا، وسَرَحَ السَّيلُ، وسَيلٌ سارحٌ: يَجري جَرْيًا سَهلاً. لعلَّ النَّظرَ فيه إلى معنى قولِه تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزُّمَر: 73].

قوله: (يُصلّونَ مِن صَلاةِ المغربِ إلى صَلاةِ العِشاء الآخِرة) رَوَينا عن التِّرمذيِّ، عن أنس في قوله تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} : نَزلت في انتظار الصَّلاةِ الَّتي تُدعى العَتَمة.

وفي روايةِ أبي دَاودَ: كانوا يَتَنفَّلون ما بين المغربِ والعِشاء.

وكان الحسن يقول: قيامُ اللَّيل.

قوله: ({مَّا أُخْفِيَ لَهُم} على البناء للمفعول) قرأ حمزةُ: {مَّا أُخْفِيَ لَهُم} بإسكان الياء، والباقون: بفتحها.

ص: 346

و (ما أخفي لهم)، و (ما نخفى لهم)، و (ما أخفيت لهم)؛ الثلاثة للمتكلم، وهو الله سبحانه. و (ما): بمعنى: الذي، أو بمعنى أى. وقرئ:(قرّة أعين) و (قرات أعين). والمعنى: لا تعلم النفوس كلهنّ ولا نفس واحدة منهنّ؛ لا ملك مقرب ولا نبىّ مرسل أىّ نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه، لا يعلمه إلا هو؛ مما تقر به عيونهم، ولا مزيد على هذه العدة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزَّجّاج: بالإسكان معناه: ما أُخْفِي انا لهم؛ إخبارًا عن الله تعالى، وبالفتح على تأويل الفعل الماضي، ويكون اسمُ ما لم يسم فاعلُه ناب عنه ما في ((أخفي)) من ذكر يعودُ إلى ((ما)).

قال أبو البقاء: {مَّا} استفهاميةٌ، وموضعُها رفعٌ بالابتداء، و {أُخْفِيَ لَهُم} خَبرُه على قراءة من سكنها وجعل ((أُخفي)) مضارعًا تكون ((ما)) في موضع نصب بـ ((أخفي))، ويجوز أن تكون بمعنى ((الذي)) منصوبة بـ ((تعلم)).

قوله: (و ((من قرّات أعين)))، قال ابن جِنِّي: هي قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي هريرة وأبي الدَّرداء وابنِ مسعود، والقرَّة: مصدرٌ، وقياسُه أن لا يُجمعَ؛ لأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ، والأجناسُ أبعَدُ شيءٍ عن الجمعيَّةِ، لكن جُعِلت القُرَّةُ هاهنا نوعًا فجاز جَمعُها، كما تقول: نحن في أشغالٍ وبيننا حروبٌ. وحَسَّنَ الجمعَ أيضًا إضافتُه إلى لفظ الجماعةِ-أعني {أَعْيُنٍ} - فقولنا: أشغال القوم أشبه من أشغال زيدٍ، ولا يُحتقر في هذه اللغةِ الشَّريفة تجانسُ الألفاظِ.

قوله: (ممَّا تَقرُّ به عُيونُهم) بيانُ أيِّ نوع عظيم من الثَّواب هذا في مقابَلَة قولِه: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزُّمَر: 48] وقولِهِ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزُّمَر: 47].

ص: 347

ولا مطمح وراءها، ثم قال:(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فحسم أطماع المتمنين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا مَطْمَح وراءَها)، الأساس: طمَحتُ ببَصَري إليه، ونساءٌ طَوامِحُ إلى الرِّجال، وطَمحَ المُتكبِّر بعَينه: شَخَص بها.

قوله: (فحَسَم أطماعَ المُتمنِّين)، الانتصاف: يُشيرُ إلى أهل السُّنَّة واعتقادِهم أنَّ المؤمنَ العاصي موعودٌ بدخولِ الجنَّةِ لا بُدَّ له منها، وفاءً بوعدِ الله تعالى، وأنَّ أحدًا لا يَستحقُّ على الله شيئًا بعَمَلِه، أَخذَه من قوله:{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

وأهل السُّنةِ -بناءً على قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَدخُلُ أحدٌ منكمُ الجنَّةَ بعملِه)). قيل: ولا أنتَ؟ قال: ((ولا أَنا، إلاَّ أن يَتغمَّدَنِي الله برحمتِه)) - يحملون الآيةَ على أنَّ المراد منها قسمةُ المنازِلِ بينهم في الجنَّة، فهي على حَسْبِ الأعمالِ، وليس بقويِّ، فإنَّ المذكورَ في الآية مجرَّدُ الدُّخولِ، والأظهرُ أنْ تُحمل على أنَّ الله لمّا وَعَد المؤمنَ الجنَّةَ- ووَعْدُه الحقُّ- صارتِ الأعمالُ بالوَعْد كالأسباب يعبَّر بها عنها تأكيدًا لصدق الوعد في النُّفوس وتَصويرِه بصُورَةِ المستحقِّ بالعمل.

وقلت: نحن وإن قلنا: إنّ الكلَّ بقضاء الله وقَدَرِه، ولكن نُئبِتُ للعبد كسبًا يُئاب به ويُعاقب، وفائدةُ ذِكْر الجزاءِ وجَعْلِه مسبَّبًا عن الأعمال التَّرغيبُ فيها.

قوله: (يقول الله تعالى: ((أعددتُ لِعبادي الصَّالحينَ))) الحديث، رواه البخاريُّ ومسلم وغيرهما عن أبي هريرةَ، والرِّواية:((أطلعتُكم)).

النهاية: بَلْهَ زَيدٍ، أي: تَرْكَ زَيدٍ، وقوله:((ما أطلَعْتُهم عليه))، يُحتمل أن يكون منصوبَ المحَلِّ ومجروره على التَّقديرَين، والمعنى: دَعْ ما اطَّلعَتْمُ عليه من نعيم الجنَّة وعرفتُموه من لذَّاتها.

ص: 348

سمعت ولا خطر على قلب بشٍر، بله ما أطلعتهم عليه. اقرؤوا إن شئتم:(فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين)»، وعن الحسن رضى الله عنه: أخفى القوم أعمالًا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

[أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَاوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَاواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن الحسن: أخفى القومُ أعمالاً في الدُّنيا، فأخفى الله تعالى لهم ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سَمعتْ)، هذا يؤذن بأنَّ الفاءَ في قوله:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} رابطةٌ لِلاحقةِ بالسابقة، مرتّبة لها عليها تَرتُّبَ في قوله تعالى:{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} ، وكان الأصلُ: تتجافى جُنوبُهم عن المضاجعِ يدعُون ربَّهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون، فلا يعلمون ما أخفي لهم، فيَجزيهم الله الجزاءَ الأوفى؛ بشهادة قوله:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فوضع النَّفسَ موضع الضَّميرِ ونكَّرها تنكيرَ تفخيم، لو وصفت بكلِّ وصفٍ ما بلغ هذا المبلغ، ثمَّ رُوعيت المناسبةُ في قوله:{مَّا أُخْفِيَ لَهُم} حيث أَبْهَمَ الجزاءَ، ولم يعيِّنِ الفاعلَ تعظيمًا له.

وفيه أنَّ ذلك الإنفاق غيرُ الواجب، وأنَّ هذه الأعمالَ هي أبوابُ الخير، وبها تُنال الزُّلْفى عند الله والدَّرجاتُ العالية.

ويَعضُدُه ما روينا عن التِّرمذيِّ، عن معاذ قلت: يا رسولَ الله، أخبرني بِعَملٍ يُدخلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني من النّار. قال:((لقد سَألْتَني عن عظيم، وإنَّه ليَسيرٌ على من يَسَّرَه الله، تَعبُدُ الله ولا تُشركُ به شيئًا، وتُقيمُ الصَّلاة، وتُؤتي الزَّكاة، وتَصومُ رمضان، وتَحجُّ البَيت))، ثمَّ قالَ:((ألا أدُلُّك على أبوابِ الخيرِ))؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: ((الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدقةُ تُطفِئُ الخَطيئَةَ كما يُطفِئ الماءُ النَّارَ، وصَلاةُ الرَّجلِ في جَوفِ اللَّيلِ شِعارُ الصَّالحينَ)) ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} .

ص: 349

أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)] 18 - 21 [

(كانَ مُؤْمِناً) و (كانَ فاسِقاً) محمولان على لفظ من و (لا يَسْتَوُونَ) محمول على المعنى، بدليل قوله تعالى:(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) ونحوه قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ)] محمد: 16 [. و (جَنَّاتُ الْمَاوى) نوع من الجنان؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَاوى)] النجم: 13 - 15 [، سميت بذلك لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال: تأوى إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش. وقرئ: (جنة المأوى) على التوحيد (نُزُلًا) عطاًء بأعمالهم. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عامًّا (فَمَاواهُمُ النَّارُ) أى: ملجؤهم ومنزلهم. ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أى: النار لهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فجنَّة مأواهم النّار)، قال صاحب ((الفرائد)): العُدولُ عن الحقيقة إلى غيرها دون الضَّرورة لا يجوز، وأي ضَرورةٍ في تقدير المضاف.

والجواب أنَّ المأوى: هو المكان الذي يَقصدُه الرَّجلُ للسّكونِ والاستراحَة أو الالتجاء.

الأساس: اللهمَّ آوِني إلى ظلِّ كَرَمِكَ وعَفوِكَ يا ربّ. وتقول: أنا أهوي إلى معاقلك هَويًّا وآوي إلى ظلالك أويًّا. وقال ابن عبّاسٍ للأنصار: بالإيواءِ والنَّصرِ، إلاَّ جَلستُمْ.

فاستعماله في النّار من التَّهكُّم، ولهذا استشهد بقوله:{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7].

ويجوز أن يكون من باب المُشاكَلَةِ؛ لأنّه لما ذَكَر في أحد الفَصلَين {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَاوَى} ذَكَر في الآخَرِ {فَمَاوَاهُمُ النَّارُ} .

وقال ابنُ الحاجب في ((الأمالي)): فإنْ قيلَ: لمَ أُعِيدَ ذِكْرُ النارِ مظهرًا ولم يستغنِ بالضَّمير لتقدُّم الذِّكرِ، الجوابُ من وجهَينِ:

أحدهما: أنَّ سياقَ الآيةِ للتَّهديد والتَّخويفِ وتعظيم الأمرِ، وفي ظاهر ذِكْر النارِ من ذلك ما ليس في الضَّمير.

ص: 350

مكان جنة المأوى للمؤمنين؛ كقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)] آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24 [. (الْعَذابِ الْأَدْنى) عذاب الدنيا من القتل والأسر، وما محنوا به من السنة سبع سنين. وعن مجاهد رضى الله عنه: عذاب القبر. و (الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) عذاب الآخرة، أى: نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والثاني: أنَّ الجملةَ الواقعةَ بعدَ القولِ حكايةٌ لما يُقال لهم يومَ القيامةِ عند إرادتِهم الخروجَ من النارِ فلا يُناسب ذلك وَضْعُ الضَّميرِ، إذْ ليس قولهم حينئذٍ مقدَّمًا عليه ذِكْرُ النارِ وإنَّما اتفق ذِكْرُ النارِ قبلَها إخبارٌ عن أحوالهم.

وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا القولَ أيضًا داخلٌ في حيِّزِ الإخبارِ؛ لأنَّه عطفٌ على {أُعِيدُوا} ، وهما مرتَّبان على {كُلَّمَا}؛ أي: كلَّما أرادوا أن يخرجوا فخرجوا أعيدوا وقيل لهم ذوقوا، فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه فما المانع في المعطوف سوى إرادةِ المبالغةِ من موضعِ المُظْهَرِ موضعَ المَضمَر؟ على أنَّ هذا القولَ أشدُّ تسويرًا وأقطع تحسرًا عليهم من الإعادة، ومعنى الخروج بَيَّنه المصنفُ في ((سورة الحج)).

وقال صاحب ((الكَشْف)): قال هاهنا: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وقال في الأخرى:{عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42]، فذكَّر هاهنا وأنَّث هناك، وسِرُّهُ أنه ذكَّر حملاً على العذاب دون النارِ؛ لأنَّ ((النارَ)) هاهنا لما وقع موضعَ المُضمَر، والمُضمَرُ لا يُوصف، لم يستجز إجراء ((الذي)) على المضافِ إليه دون المضافِ، وفي تلك الآية لم يَجْرِ ذِكْرُ النارِ في سياق الآية، فلم تقع النّار موقع الضَّميرِ، فوصف النار دونَ العذابِ، وكذا ذَكَره الراغبُ في ((دُرّة التنزيل)).

قوله: ({الْعَذَابِ الْأَدْنَى}: عذاب الدُّنيا مِنَ القَتْل والأَسْر) يعني: يومَ بدرٍ.

ص: 351

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى: يتوبون عن الكفر، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه، كقوله تعالى:(فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] السجدة: 12 [وسميت إرادة الرجوع رجوعًا، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)] المائدة: 6 [، ويدل عليه قراءة من قرأ:(يرجعون) على البناء للمفعول. فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ و (لعل) من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئًا كان ولم يمتنع،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روينا عن مسلمٍ، عن أبيّ بن كعب: عذابُ الأدنى: مَصائبُ الدُّنيا والرُّومُ والبَطشَةُ أو الدُّخانُ.

قوله: ({لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: يتوبونَ عَن الكُفر) هذا إذا فُسِّرَ عَذابُ الأدنى بعذابِ الدُّنيا، وقوله:((أو لعلَّهمُ يريدون الرُّجوعَ)) إذا فُسِّر بعذاب القبرِ.

قوله: (ويدلُّ عليه قراءةُ مَن قرأَ: ((يُرجعُون)))، وذلك أن معنى هذه القراءة، والأولى على إرادة الرُّجوعِ، يَلْتقيان في معنى {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}؛ لأنَّ كلاًّ منهما يستدعي معنى الرُّجوعِ منهم إلى الدُّنيا بخلاف الأوَّل. نعم لو قيل: إنَّ معنى التَّرجِّي في ((لعلَّ)) راجعٌ إلى الكُفَّار لأفاد أيضًا ذلك.

قوله: (مِن أين صَحَّ تفسيرُ الرُّجوع بالتَّوبة) أي: كيف يَستقيمُ أن يفسَّرَ الرُّجوعُ بالتَّوبةِ، ولفظةُ (لعلَّ) من جهة الله محمولةٌ على الإرادةِ، وهذه الآيةُ واردةٌ في قومٍ مخصوصِينَ، وأنَّهم ماتوا على الكُفرِ، فيلزمُ تخلّفُ مرادِ الله تعالى عن إرادته.

وخلاصةُ الجوابِ أنَّ تخلّفَ مرادِ الله تعالى في أفعاله الخاصَّةِ وما يلحقُ بها من القَسْر على أفعال الغير محال، لكن في أفعال العباد إذا ثبت لهم الاختيارُ غيرُ محالٍ؛ لأنه لا يَقْدحُ في قُدرته.

الانتصاف: هذا فصلٌ رديء، وشِركٌ جَليّ لا يخفى، وجرَّه إلى ذلك تحريفُ كلمةِ

ص: 352

وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئًا من أفعاله كان ولم يمتنع، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده: فإما أن يريدها وهم مختارون لها، أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((لعلَّ)) إلى الإرادة، والحقُّ أنها لترجِّي المخاطبينَ، وكذا فسَّرها سيبويه.

وقال إمامُ الحرمينِ: ذهبتِ المعتزلةُ ومَنْ تَبِعَهم من أهل الأهواءِ إلى أنَّ الواجباتِ والمندوباتِ من الطّاعات مراداتُ لله تعالى وَقعتْ أو لم تَقعْ.

والمعاصي والفواحشُ والله تعالى كارةٌ لها غيرُ مريدٍ لوُقوعِها.

والمباحاتُ وما لا يدخلُ تحتَ التَّكليفِ من أفعال البهائمِ والمجانينِ تقعُ، وهو لا يريدُها ولا يَكرهُها، وإذا دَلَّلنا على أنَّ الرَّبَّ تعالى خالقٌ لجميعِ الحوادثِ يترتَّبُ عليه أنَّه مريدٌ لما خلقَ، قاصدًا إلى إبداعِ ما اخترعَ.

ثم يقول: قد قضتِ العُقولُ بأنَّ قصور الإرادةَ وعَدَمَ نفوذِ المشيئةِ من أصدقِ الآياتِ على سماتِ النَّقص، والاتِّصافِ بقُصورٍ وعجز، ومن ترشَّحَ لِلملك، ثم لا ينفذ مرادُه في أهل مملكته عُدَّ ضعيف المنّة مِضْياعًا لفرصتِه، وإذا كان ذلك يزري العاجز، فكيف في حقِّ مَلِكِ الملوكِ وربِّ الأرباب؟

فإن قالوا: الربُّ سبحانه وتعالى قادرٌ على أنْ يَرُدَّ الخلائق إلى الطّاعة قهرًا، ويُظهر آية تَظلُّ رِقاب الجبابرة لها خاضعة، قلنا: من فاسد أصلكم أنه لا يجوز في حكم الإله إجبار الخلائق على الطاعات، واضطرارهم إلى الخيراتِ ولا يريد منهم المعاصي والكُفرَ، وإنَّما يريد منهم الإيمانَ الاختياريّ فما يُريده لا يَقدرُ عليه وما يقدر عليه لا يُريده.

وقد اجتمع سَلَفُ الأُمَّةِ على كلمةٍ لا يجحدُها أهلُ الإسلام، وهو قولُهم:((ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يَكُن))، والآياتُ الشاهدةُ لأهل السُّنة لا تُحصى كَثْرة.

ص: 353

مضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها؛ لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها، لأنّ اختياره لا يتعلق بقدرتك، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالًا على عجزك. وروي في نزولها: أنه شجر بين على بن أبى طالب رضى الله عنه والوليد بن عقبة بن أبى معيط يوم بدر كلام، فقال له الوليد: اسكت فإنك صبىّ؛ أنا أشبّ منك شبابًا، وأجلد منك جلدًا، وأذرب منك لسانًا، وأحدّ منك سنانًا، وأشجع منك جنانًا، وأملأ منك حشوًا في الكتيبة. فقال له على رضى الله عنه: اسكت، فإنك فاسق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (شجر بَيْن علي رضي الله عنه. النهاية: شَجَرَ الأمرُ يَشْجُر شجُورًا: إذا اخْتلط، وتشاجَروا: إذا تنازَعوا واختَلفوا.

قوله: (وأَذْرَب منك لسانًا)، النهاية: هو من قولهم: ذَرِبَ لِسانُه: إذا كان حادَّ اللِّسانِ لا يُبالي ما قال.

قوله: (وأملأ منك حَشوًا في الكَتيبة)، والحَشْو: ما يُحشى به الشَّيء؛ أي: الشَّيءُ الذي أحشو به الدرع أبلغ في ملئها من حشوك؛ أي: أنا أبْدَنُ منك فيها.

الأساس: وهو من حَشْو بني فلان: قال الرّاعي:

أتتْ دُونَها الأحلافُ مذحج

وأبناءُ كعبٍ حَشْوها وصَمِيمُها

قال صاحب ((الاستيعاب)): الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمانَ لأُمِّه، أسلَمَ يومَ الفتحِ هو وأخوه خالدُ بن عُقبةَ، وأظنُّه يومئذٍ كان قد ناهَزَ الاحتلام.

وعن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس قال: نزلت في عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه والوليدِ بن عُقبةَ في قصَّةٍ ذَكَرها {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} .

ص: 354

فنزلت عامّة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما. وعن الحسن بن على رضي الله عنهما: أنه قال للوليد: كيف تشتم عليًّا وقد سماه الله مؤمنًا في عشر آيات؟ وسماك فاسقا؟ .

[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)] 22 [

(ثم) في قوله: (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) للاستبعاد. والمعنى: أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فنزلت عامَّةً للمؤمنينَ والفاسقينَ، فتَناوَلَتْهما وكلَّ مَن في مِثلِ حالهِما)، قال صاحب ((الانتصاف)): ذَكَر السَّببَ المحقَّق، والمراد بالفاسِقِ وبالذين فَسَقوا: الكُفّارُ، وأَدْرَجَ فيها المؤمنين تعصُّبًا لمذهبه في وُجوب خُلودِ الفُسّاقِ.

وقال صاحب ((الإنصاف)): ولم يَشْفِ في الجوابِ، فإنَّ الاعتبارَ بعُموم لفظِ الآيةِ لا بخُصوصِ سَبَبِها، والفِسْقُ يُطلق على المؤمن؛ لقوله تعالى:{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحُجُرات: 11]، و ((فاسقًا)) نكرةٌ في الشرط فيَعُمّ. والجوابُ الصَّحيحُ تَسليمُ العُمومِ وتَخْصِيصُه بالآياتِ والأخبارِ الدّالةِ على اعتبار الطّاعةِ وحُصولِ الشَّفاعَة.

وقلت: ما أنصَفَ ولا انتصَفَ من صاحب ((الانتصاف)) حيث سَلَّم العُموم، وقال:{فَاسِقًا} نكرةٌ في الشرط فيَعُم. أمَا نَظَر إلى نَظيرتِها: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ، أو إلى المُجْمَلِ:{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} ليقيد المُطْلَقَ بالكافِرِ؟ وأمَا اعتَبَر الفاصلةَ: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} ليَعلَمَ أنَّ المؤمنَ لا يُكذِّبُ بالآخرة؟ وأمَا تأمَّلَ النَّظْم وتعقيبَه بقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} .

ص: 355

الفرصة ثم لم تنتهزها؛ استبعادًا لتركه الانتهاز. ومنه (ثم) في بيت الحماسة:

لا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها. فإن قلت: هلا قيل: إنا منه منتقمون؟ قلت: لما جعله أظلم كل ظالٍم، ثم توعد المجرمين عامةً بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يَكشِفُ الغَمّاء) البيت، الغَما والغَمُّ والغُمَّة: مرجعها إلى التَّغطية، والمراد هاهنا: شدةُ اقتحام الحربِ؛ أي: لا يَكشِفُ الأمرَ العظيمَ إلاَّ رجلٌ كريم يرى قحم الموت ثم يتوسَّطها، وإنما قال: ابنُ حُرَّة؛ ليُهيِّجَه ويُحرِّضَه على الزَّيادة؛ أي: زيادة غَمَراتِ الموتِ بعدَ رؤيتها مستبعدةً مستنكرةً في العقل والعادةِ، وهو مع ذلك يزورها بعد استيفائه إيّاها، بالغَ في مدحِه بذلك؛ حيث باشَرَ مثل هذا المستبعدِ بشجاعته، وكذا في الآية بالغَ في الذمِّ؛ ولهذا قال: ((أنَّ الإعراض عن مثل آياتِ الله في وُضوحِها وإنارتِها

مستبعدٌ في العقل والعَدْل)).

وإنّما ذَهَب في ((ثم)) إلى المجاز وإن احتَمَل الحقيقة؛ لأنَّ الشاعرَ يمدحُ جَريًا لا يبالي بالموتِ ويقتحمُ الأهوالَ، لا أنه يَرى الغَمراتِ ثم يَمكُث زمانًا طويلاً متفكِّرًا ثم يَزُورها؛ لأنَّه ذَمٌّ له، وكذا ما في الآية؛ الأصلُ:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، فوَضَع ((ثُمَّ)) موضعَ الفاءِ لبيان عنادِه وتَمرُّدِه.

قوله: (جعلَه أظلمَ كُلِّ ظالم، ثمَّ تَوعَّدَ المُجرِمين عامَّة بالانتقام)، فيه رائحةٌ من الاعتزالِ كما سَبق منه عند قولِه:{وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : ((بسَبب ما عملتُم منَ المعاصي والكبائِر المُوبِقَةِ))، يقال: هلاّ يجعلُه من إقامةِ المُظْهَرِ موضعَ المُضمَرِ؛ ليُؤذِنَ بأنَّ عِلَّةَ الانتقام ارتكابُ هذا المُعرض مثل هذا الجُرْمِ العظيمِ.

ص: 356

[وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)] 23 - 25 [

(الْكِتابَ) للجنس، والضمير في (لِقائِهِ) له. ومعناه: إنا آتينا موسى عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال محيي السُّنة: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} من المشركين، ولا ارتيابَ أنَّ الكلامَ في ذمِّ المعرضِينَ، وهذا الأسلوبُ أذمُّ لهم من ذلك؛ لأنه يُقرّرُ أن الكافرَ إذا وُصِف بالفِسْقِ والظُّلم والجرمِ حُمِلَ على نهاية كُفره وغايةِ تمرُّدِه؛ لأنَّ هذه الآيةَ كالخاتمةِ لأحوالِ المكذِّبِينَ القائلين:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} .

والتَّخلُّص إلى قصَّة الكَليمِ عليه السلام مَسْلاةٌ لقلب الحبيبِ صلى الله عليه وسلم يعني: آتيْنا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقَّيْناه مثل ما لقَّيناك، وكما جعلنا المنزَّل عليه هدّى لقوم صبروا، كذلك نجعل كتابك هدًى ونورًا لمن يصبرُ، وكما جعلنا كتابَه مختلفًا فيه كذلك نجعل كتابك مختلفًا فيه، وكما أهلَكْنا المَعرِضِينَ نُهْلِك هؤلاء {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ} [السجدة: 26] {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]، ويؤيِّده قولُ المصنِّفِ:((والضمير في {لَهُمْ} لأهلِ مكَّةَ)).

قوله: ({الْكِتَابَ} للجنس) إنَّما دعاه إلى اعتبار الجنسِ؛ لأنَّ الضَّميرَ في {لِقَائِهِ} راجعٌ إليه، ولا ارتياب أنَّ عَيْنَ ذلك الكتابِ مالقاه، كأنَّه قيل: ولقد آتينا موسى ما يُقال له: الكتاب، فلا تكن في شك من أنك لقيتَ مثله.

قال مكِّيّ: وقيل: الهاءُ تعود على ما لاقى في موسى؛ أي: فلا تكُ في مريةٍ من لقاء ما لاقى موسى من قومه من الأذى والتَّكذيبِ، ويجوز أن تعودَ على الكتاب، أضاف المصدرَ إلى المفعول؛ أي: من لقاء موسى الكتاب، وأضمَر موسى لتقدُّم ذِكْرِه.

ص: 357

السلام مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره، كقوله تعالى:(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)] يونس: 94 [ونحو قوله: (مِنْ لِقائِهِ) وقوله: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)] النمل: 6 [وقوله: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً)] الإسراء: 13 [. وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام (هُدىً) لقومه (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، لصبرهم وإيقانهم بالآيات. وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدًى ونورًا، ولنجعلنّ من أمّتك أثمة يهدون مثل تلك الهداية؛ لما صبروا عليه من نصرة الدين، وثبتوا عليه من اليقين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: على أن تعود الهاءُ إلى ما لاقى، فالفاءُ مثلُها في قول الشاعر:

ليسَ الجَمالُ بِمئزرٍ

فاعلَمْ وإنْ رُدِّيت برْدا

دَخلت على الجملة المعترضة بدلَ الواوِ اهتمامًا بشأنها؛ لأنَّ قولَه: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى} ، إلى آخر الآية عطفٌ على قوله:{آتَيْنَا} وجعل كونهم أئمَّةً وهُداةً معللان بالصَّبر والإيقانِ في المعتَرِض فيه، ثم نهاه عن الامتراءِ في لقاء ما لاقوا منَ الأذى والصَّبر اقتداءً بهم؛ لقوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

قوله: (فلا تَكُ في شكٍّ من أنك لقيتَ مثلَه) هذا معنى الفاء في {فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ} يعني: معرفتك بأنَّ موسى نبيٌّ مرسلٌ وأُوتَي التَّوراة، ينبغي أن تكون سببًا لإزالة الرَّيب عنك في أن المنزَّلَ عليك قرآنٌ وكتابٌ وإنا اخترناك كما اخترناه، ونبتليكَ بمثل ما ابتليناهُن ولهذا قال كقوله:{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94].

ص: 358

وقيل: من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء، أو يوم القيامة. وقيل: من لقاء موسى عليه السلام الكتاب؛ أى: من تلقيه له بالرضا والقبول. وقرئ: (لما صبروا) و (لما صبروا)؛ أى: لصبرهم. وعن الحسن رضى الله عنه: صبروا عن الدنيا. وقيل: إنما جعل الله التوراة هدًى لبنى إسرائيل خاصةً، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام. (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضى، فيميز المحق في دينه من المبطل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: من لقائك موسى ليلةَ الإسراءِ) عطفٌ على قوله: (({الْكِتَابَ} للجنس والضَّميرُ في {لِقَائِهِ} له))، يؤيِّدُه ما روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن ابن عبّاس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:((رأيتُ ليلةَ أُسريَ بي مُوسى رَجُلاً آدمَ طُوالاً جَعْدًا، كأنَّه مِن رجال شَنُوءَة)).

قوله: (وقرئ: {لَمَّا صَبَرُوا} و ((لِمَا صَبُرُوا)))، حمزةُ والكسائيُّ: بالتَّخفيف، والباقون: بالتشديد.

قال الزَّجَّاجُ: فإذا خُفِّفَ فالمعنى: جَعلناهم أَئمَّةً لِصبرهم، وإذا شُدِّد، فالمعنى: على المُجازاة، كأنه قيل: إنْ صبرتُم جَعلناكم أئمَّة، فلمّا صَبَروا جُعلوا أئمَّة. وقيل: إنَّ كلمةَ الظَّرفِ تُقام مقامَ التَّعليل؛ نحوَ قولك: أكرمتكَ إذا أكرمتَ زيدًا؛ لأنَّ الظَّرف يُقارن المظروفَ، كما أنَّ العِلَّة تَقُارنُ المَعلول.

قوله: (هدًى لبني إسرائيلَ خاصّةً، ولم يَتَعبَّد بما فيها ولدَ إسماعيل)، هذا التَّخصيصُ إنّما يفيدُه لامُ الاختصاص، وإيقاعُ قولِه:{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} مشبّهًا به كما مَرَّ، وعطف {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} على {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى} .

ص: 359

[أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)] 26 [

الواو في (أَوَ لَمْ يَهْدِ) للعطف على معطوٍف عليه منوي من جنس المعطوف، والضمير في (لَهُمْ) لأهل مكة. وقرئ بالنون والياء، والفاعل ما دلّ عليه (كَمْ أَهْلَكْنا) لأنّ (كم) لا تقع فاعلة، لا يقال: جاءني كم رجل، تقديره: أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون. أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه، كقولك: تعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال. ويجوز أن يكون فيه ضمير (الله) بدلالة القراءة بالنون. و (الْقُرُونِ) عاد وثمود وقوم لوط (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعنى: أهل مكة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الواوُ في {أَوَلَمْ يَهْدِ} للعطف على معطوفٍ عليه [منويٍّ] من جنس المعطوفِ)، أي: ألم نُنَبِّههُم ولم يَهْدِ لهم كم أهلكنا من قَبلِهم، يعني: قلنا لهم: سيروا في الأرض ثم انظُروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلكم.

قوله: (وقُرئ بالنُّون والياء) الياءُ: مشهورةٌ، والنُّون: شاذَّة.

قال الفَرّاءُ: {كَمْ} في موضع رفع بـ {يَهْدِ} ، كأنَّكَ قُلتَ: أو لمْ يهدِ لهم القرونُ الهالكةُ فيتَّعظوا.

قال الزَّجاج: عند البصريِّينَ لا يجوز أن يعمل ما قبل ((كم)) في ((كم))، فلا يجوز في قولك: كم رجلٌ جاءني: جاءني كم رجل؛ لأنَّ كم تزال عن الابتداء، و ((كم)) هاهنا في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} وفاعل يهدي ما دلَّ عليه المعنى فيما سلف، وتكون ((كم)) أيضًا دليلاً على الفاعل في {يَهْدِ} ، ويدلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ:{أولم نَهدِ لهم} ؛ أي: أو لم نبيِّن لهم.

ص: 360

يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم. وقرئ: (يمشون) بالتشديد.

[أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)] 27 [

(الْجُرُزِ) الأرض التي جرز نباتها، أى: قطع؛ إمّا لعدم الماء، وإمّا لأنه رعى وأزيل، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جرز. ويدل عليه قوله: (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنها أرض اليمن. وعن مجاهد رضى الله عنه: هي أبين. (بِهِ) بالماء (تَاكُلُ) من الزرع (أَنْعامُهُمْ) من عصفه (وَأَنْفُسُهُمْ) من حبه. وقرئ: (يأكل) بالياء.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)] 28 - 30 [

الفتح: النصر، أو الفصل بالحكومة، من قوله:(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا)] الأعراف: 89 [وكان المسلمون يقولون: إنّ الله سيفتح لنا على المشركين. ويفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون قالوا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (((يُمَشَّونَ)) بالتشديد) قال ابن جِنّي: هي قراءةُ ابنِ السَّميفع، فهو للكثرة.

قوله: (وعن مجاهد: هي أبين)، النهاية: أبيَنُ: بوزن أحمر: قريةٌ على جانب البحر في ناحيةِ اليمن، وقيل: هو اسمُ مدينة عدَن.

قوله: ({بِهِ} بالماء) أي: الضَّمير في {بِهِ} للماء، وفي {مِنْهُ} للزَّرع، و {تَاكَلُ مِنْهُ} صفةُ زرعًا، وفيه معنى الجمع؛ لأنه مشتمل على آكلينَ ومأكولاتٍ مختلفين، ومن ثَمَّ قسَّمه؛ أي: تأكل أنعامُهم من التّبن وأنفسُهم من الحَبِّ.

ص: 361

(مَتى هذَا الْفَتْحُ) أى: في أىّ وقت يكون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنه كائن. ويَوْمَ الْفَتْحِ يوم القيامة، وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم، ويوم نصرهم عليهم. وقيل: هو يوم بدر. وعن مجاهد والحسن رضى الله عنهما: يوم فتح مكة. فإن قلت: قد سألوا عن وقت الفتح، فكيف ينطبق هذا الكلام جوابًا على سؤالهم؟ قلت: كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح، استعجالًا منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأنى بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم، وآمنتم فلم ينفعكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} ، {مَتَى} في موضع نَصَبٍ على الظَّرف، وهو خبرُ الابتداء، وهو {هَذَا} ، و {الفَتْحُ} نعتٌ لـ {هَذَا} أو عطفُ بيان. ويجوز أن يكون {مَتَى} في موضع رفع على تقدير حذف مضافٍ مع {هَذَا} ، وتقديره: متى وقت هذا الفتح؟

قوله: (كان غرضهُم في السُّؤال عن وقتِ الفتح، استعجالاً منهم على وجه التَّكذيب والاستهزاءِ)، يعني: إنما طابَقَ هذا الجوابُ مضمونَ ما أرادوا بسؤالهم في قولهم: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} ، وهو القطعُ بأنَّ ذلك كذبٌ ولا ينبغي أن يكونَ، وأنت ممن يجب أن يضحك منه.

وأجاب أن كَينونَته ممّا لا ارتيابَ فيه، وأنَّه لا بدَّ أن يقعَ، لكنِّي أخبرُكم عن أحوالكم فيه كأني أنظر إليكم الآنَ، وأنتم على تلك الحالِ، وهو قريبٌ من الأسلوب الحكيمِ.

قوله: (فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم)، قال المُطرزي: قولهم: كأنِّي بك: كأنِّي أبصرتُك، إلا أنّه تُرك الفعلُ لِدلالة الحالِ وكثرةِ الاستعمال، ومعناه: أعرف ما أشاهد من من حالك اليومَ وكيف يكونُ حالُك غدًا، كأنِّي أنظرُ إليك وأنتَ على تلك الحالِ. ومثلُه: مَن لي بكذا، يعنون من يَكفُل لي به، وله نظائر.

قال المُظهرِي: كأنِّي بك مبصرٌ وعالمٌ بحالك أنّك سَتَهلِك. وهذا اللَّفظُ يُستعمل في كل موضع يُتيقَّن ما يصير إليه حالُ الرَّجل.

ص: 362

الإيمان، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا. فإن قلت: فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر؛ كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر؟ قلت: المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق. (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليكم وهلاككم، كقوله تعالى:(فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)] التوبة: 52 [، وقرأ ابن السميفع رحمه الله:(منتظرون)، بفتح الظاء. ومعناه: وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، يعنى: أنهم هالكون لا محالة. أو: وانتظر ذلك؛ فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ: (الم تنزيل)، و (تبارك الذي بيده الملك)، أعطى من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر» ، وقال:«من قرأ (الم تنزيل) في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المراد أنَّ المقتولينَ منهم لا ينفعُهم إيمانُهم في حال القتل)، وقلت: لو حملَه على قوم مخصوصينَ وهمُ الذين استهزؤوا وعاندوا وقالوا: متى هذا الفتحُ؟ إقامةً للمُظهر موضعَ المضمَرِ حتّى يكونَ من بابِ قولِه:

على لاحِبٍ لا يُهتدى بمنارِه

أي: لا يؤمنون حينئذٍ فلا ينفعُهم إيمانُهم لَحَسُنَ.

قوله: (مَنْ قرأَ: {أَلَمْ * تَنزِيلُ}) روينا عن أحمدَ والترمذيِّ والدارميِّ عن جابرٍ: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأَ {أَلَمْ * تَنزِيلُ} و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

ص: 363

‌سورة الأحزاب

مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ الله كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفى بِالله وَكِيلاً)] 1 - 3 [

عن زرّ قال: قال لي أبىّ بن كعب رضى الله عنه: كم تعدّون سورة الأحزاب؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الأحزاب

مدنيّةٌ، وهيَ ثلاث وسبعون آيةً

بسم الله الرحمن الرحيم

قولُه: (عن زِرِّ) في ((جامعِ الأصول)): هو زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ الأسَديُّ الكوفيُّ، جاهِليٌّ إسلامي، من أكابرِ القُرّاءِ والمَشْهورين من أصحاب عبدِ الله بن مسعود، وسمعَ عُمرَ رضي الله عنه، وروى عنه خَلْقٌ كثيرٌ من التابعينَ وغيرِهم.

زِرٌّ: بكَسْرِ الزاي وتشديدِ الراء. وحُبَيْشٌ: بضَمِّ الحاءِ المُهْمَلة وفَتْح الباءِ المُوحَّدة وسكونِ الياءِ والشينِ المُعْجَمة. وحديثُه هذا مشهورٌ في ((مسندِ الإمامِ أحمَد بنِ حنبلٍ))

ص: 364

قلت: ثلاثًا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبىّ بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول. ولقد قرأنا منها آية الرجم:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم). أراد أبىّ رضي الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأمّا ما يحكى: أن تلك الزيادة كانت في صحيفةٍ في بيت عائشة رضى الله عنها فأكلتها الداجن: فمن تأليفات الملاحدة والروافض. جعل نداءه بالنبىّ والرسول في قوله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله)، (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ)] التحريم: 1 [، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)] المائدة: 67 [، وترك نداءه باسمه، كما قال: (يا آدم)] البقرة: 33 [، (يا موسى)] البقرة: 55 [، (يا عيسى)] آل عمران: 55 [، (يا داود)] ص: 26 [، كرامةً له وتشريفًا، وربئًا بمحله، وتنويهًا بفضله. فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مع تغييرٍ يسير. وفي ((الموطّأ)): ((الشيخُ والشيخةُ فارجُموهما البَّتة))، وكذا في روايةِ ابنِ ماجه.

قولُه: (الداجن)، النهاية: هي الشاةُ التي يعلِفُها الناسُ في منازلِهم، وقد يقَعُ على غيرِ الشاءِ مِن كلِّ ما يألفُ البيوتَ من الطيورِ وغيرهِ. يقالُ: شاةٌ داجِنٌ، ودجَنَتْ تدجُنُ دُجونًا.

قولُه: (ورَبْئًا بمَحلِّه)، الأساس: إني لأرْبأُ بك عن هذا الأمر: أرفَعُك ولا أرضاهُ لك، ورَباتُ بنَفْسي عن عَملِ كذا. ونوّهْتُ به تَنويهًا: رفَعْتُ ذِكْرَه وأشهَرْتُه، وينصُرُه ما روَيْنا في ((صحيح البخاري)): أنَّ البراءَ حين دعا بقولِه: اللهمَّ إني أسلَمْتُ نَفسي إليك، وفَوَّضْتُ أمري إليك، وألجاتُ ظَهْري إليك آمنتُ بكتابِك الذي أنزَلْتَ، ورَسولِك الذي أرسَلْتَ.

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، ونَبيِّكَ الذي أرسلت)).

النهاية: قيل: إنّ النبيَّ مُشتَقٌ من النَّباوةِ وهو الشيءُ المُرتفِع. ومن المهموزِ شعْرُ عبّاسِ بنِ مِرْداس يمدَحُه:

ص: 365

أوقعه في الإخبار في قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله)] الفتح: 29 [، (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)] آل عمران: 144 [. قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله، وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)] التوبة: 128 [، (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ)] الفرقان: 30 [، (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا خاتمَ النَّبئين إنّك مُرْسَلٌ

بالحقِّ كلُّ هُدى السبيلِ هداكا

ومن الأولِ حديثُ البَراء. وإنّما رَدّ عليه ليَخْتلفَ اللفظانِ ويَجْمَعَ له الثناءَيْن من معنى النبوةِ والرسالةِ تعديدًا للنعمةِ في الحالَيْن. وتعظيمًا للمِنَّة على الوجهين.

وعن الراغب: النبوَّةُ: سِفارةٌ بينَ الله عز وجل وبين ذَوي العُقول مِن عباده لإزاحةِ عِلَلِهم في أمْرِ معادِهم وومعاشِهم، والنبيُّ لكونِه مُنَبّئًا بما تسكُنُ إليه العقولُ الزكية يصحُّ أن يكونَ بمعنى فاعلٍ، لقولِه تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحِجْر: 49]، وأن يكونَ بمعنى مفعولٍ، لقولِه {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3].

وقلتُ: والذي يقتضيه هذا المقامُ من التنويهِ أنّ قولَه: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} خطابٌ فَظيعٌ هائلٌ خصوصًا مُهِّدَ بقولِه: {اتَّقِ اللَّهَ} فصَدَّر بما يَنْجَبِرُ به تلك الفظاعة، يعني: يا مَنْ تصدّي لمنصبِ النُبوة، كيفَ يليقُ بكَ طاعةُ أعداءِ الدين؟ ! ومن الأسلوبِ قولُه تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ابتدأ بالعَفْوِ ثم إبداءِ الذنب.

ص: 366

رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)] الأحزاب: 21 [، (وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)] التوبة: 62 [، (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)] الأحزاب: 6 [. (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)] الأحزاب: 56 [، (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالنَّبِيِّ)] المائدة: 81 [؟ (اتق الله): واظب على ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه، وازدد منه؛ وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ): لا تساعدهم على شيء، ولا تقبل لهم رأيًا ولا مشورة، وجانبهم، واحترس منهم؛ فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود: قريظة والنضير وبنى قينقاع، وقد بايعه أناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم؛ فنزلت. وروى: أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس، فقالوا للرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع؛ وندعك وربك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وهموا بقتلهم؛ فنزلت. أى: اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروى: أنّ أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، وأن يزوجه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ولا مشورةً)، الجوهري: المَشْوَرةُ: الشُّورى، وكذلك المَشُورة بضَمِّ الشِّين، تقولُ منه: شاوَرْتُه واستَشرْتُه بمعنى.

قولُه: (على النفاق)، حال، أي: والحالُ أنّ قلوبَهم مُنْطويةٌ على النفاق. والفاءُ في ((فكان يُلين)) جواب ((لمّا)).

قولُه: (في المُوادَعة)، الجوهري: المُوادَعة: المُصالَحةُ، والتوادُعُ: التصالح.

ص: 367

شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع؛ فنزلت. (إِنَّ الله كانَ عَلِيماً) بالصواب من الخطأ، والمصلحة من المفسدة، (حَكِيماً) لا يفعل شيئًا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك، إِنَّ الله الذي يوحى إليك خبير (بِما تَعْمَلُونَ) فموح إليك ما يصلح به أعمالكم، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة. وقرئ:(يعملون) بالياء، أى: بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الله) وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره. (وَكِيلًا): حافظًا موكولًا إليه كل أمر.

[(ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَاتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 4 - 5 [

(مَا جَعَلَ اللَّهُ): ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى: أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقرِئ: ((يَعْملونَ)) بالياء)، أبو عَمْرو، والباقونَ بالتاءِ الفَوْقانية.

قولُه: (ودِعْوةً)، النهاية: الدِّعْوَةُ في النَّسَبِ: بالكَسْر، وهو أن ينتسِبَ الإنسانُ إلى غيرِ أبيهِ وعشيرتِه. وكانوا يَفْعلونه فنُهِيَ عنه، وجُعِلَ الولدُ للفراش.

ص: 368

قلبين؛ لأنه لا يخلو: إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب؛ فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بدأك؛ فذلك يؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدًا كارهًا، عالمًا ظانًا، موقنًا شاكًا في حالة واحدة -لم ير أيضًا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجًا له؛ لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة، وهما حالتان متنافيتان؛ وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنًا له؛ لأنّ النبوّة. أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلًا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة، وهو رجل من كلب سبى صغيرًا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (في زيدِ بنِ حارثة)، وهو رجلٌ مِن كَلْب، ذَكر ابنُ عبدِ البَرِّ في ((الاستيعاب)): هو زيدُ بنُ حارثةَ بنِ شُراحيل بن كعبِ بن عبدِ العُزّي بن زيدِ بن أسدِ بن عبدِ القيْس بن عابدِ بن النعمانِ بن عَبْدِ بن وُدّ بن امرئِ القيس بن النعمانِ بن عُمَرَ بن عبدٍ بن عوف بن كِنانة بن بكرِ بن عُذْرَةَ بن زيدِ بن اللاتِ بنُ رُفيْدَة بن ثَوْر بن كَلْب بن وَبْرةَ. قد أصابه سَبْيٌ في الجاهليةِ فاشتراهُ حَكيمُ بنُ حِزامٍ لخديجةَ بنتِ خُوَيْلد فوهَبتْهُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتبنّاهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبْلَ النبوَّة، وهو ابنُ ثمانِ سنين، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أكبَرُ منه بعَشْر سِنين، وقيل: بعِشرين سنةً. قال عبدُ الله بُن عَمَر: ما كُنّا نَدْعو زيدَ بنَ حارثَة إلا زيْدَ بنَ محمدٍ حتى نزلَتْ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} . عن البُخاريِّ ومسلمٍ وأحمدَ بنِ حَنْبلٍ والتِّرمذيِّ عن ابنِ عُمَر قال: إنّ زيدَ بنَ حارثَة مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما كُنّا نَدْعُوه إلا زيْدَ بنَ مُحمَدٍ حتى نزلَ القرآنُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5].

ص: 369

حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه، فخير، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فأنزل الله عز وجل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وطلبَه أبوهُ وعَمُّه، فخُيِّر، فاختارَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وفي ((الاستيعاب)): حَجَّ ناسٌ مِنْ كَلْبٍ فرأَوْا زيدًا فعَرفهم فقال لهم: أبلِغوا أهلي هذه الأبيَات فإنّي أعلَمُ أنّهم قَد جَزِعوا علي فقال:

أحِنُّ إلى قومي وإن كُنتُ نائيا

فإنّي قعيدُ البيتِ عند المَشاعرِ

فكُفّوا منَ الوجْدِ الذي قد شَجاكُم

ولا تُعْمِلوا في الأرضِ نَصَّ الأباعِرِ

فإنّي بحَمْدِ الله في خَيْرِ أُسْرَةٍ

كرام مَعَدٍّ كابرًا بَعْدَ كابر

النصُّ -بالصادِ المُهْمَلة-: السيرُ الشديد. كابرًا بعد كابر؛ أي: كبيرًا عن كبير.

فانطلق الكَلْبيون فأعلَموا أباه، فخرَج حارثةُ وكَعْبٌ ابنا شُراحيل لفدائِه، فقالا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا ابنَ عبدِ المطلَب، يا ابنَ هاشمٍ، يا ابن سَيِّدِ قَوْمِه، أنتُم أهلُ الحرَمِ وجيرانُه، تَفكُّون العَاني وتُطْعمونَ الأسير، جئْناكَ في ابنِنا عندك فامنُنْ علينا وأحسِن، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ادعُوه، فإنْ اختاركم فهو لكم، وإن اختارَني فوالله ما أنا بالذي اختارُ على مَنِ اختارَني أحدًا، فدَعاه فقال: هل تعرفِ هؤلاء؟ قال: نَعم هذا عَمِّي وهذا أبي، قال: فأنا مَنْ قد علِمْتَ ورأيْتَ صُحْبَتي فاختَرْني أو اختَرْهُما، فقال زيدٌ: ما أنا بالذي أختارُ عليكَ أحدًا، فقالا: ويحكَ يا زيدُ! أتختارُ العُبوديّةَ على الحريَّةِ وعلى أبيكَ وعَمِّك وأهلِ بيتِك؟ قال: نعم، قد رأيتُ مِنْ هذا الرجلِ شيئًا ما أنا بالذي أختارُ عليه أبدًا، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [ذلك] أخرجَهُ إلى الحِجْرِ فقال: يا مَنْ حضر، اشهَدوا أنّ زيدًا ابني يَرِثُني وأرِثُه، فلمّا رأى ذلك أبوه وعَمُّه طابَت نفوسُهما فانصرَفا، ودُعيَ زيدَ بنَ محمَّد حتى جاءَ اللهُ بالإسلام، فنزلَتْ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، فدُعِيَ يومئذٍ زيْدَ بن حارثة.

ص: 370

هذه الآية، وقوله:(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ)] الأحزاب: 40 [. وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وأرواهم، فقيل له: ذو القلبين. وقيل: هو جميل بن أسد الفهري، وكان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فروى أنه انهزم يوم بدر، فمرّ بأبى سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله. فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب. فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلىّ، فأكذب الله قوله وقولهم، وضربه مثلًا في الظهار والتبني. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وأرْواهم)، وهو مِنَ الرواية، أي: أكثرُهم رِواية.

قولُه: (فأكذَبَ اللهُ قَوْلَه وقَوْلَهم وضرَبَه مَثَلاً في الظِّهارِ والتبنِّي)، أي: قَوْلَ جميلٍ: إنّ لي قلبَيْن، وقَوْلَ مَنْ وافَقه من العربِ، ويشهَدُ ما رواه مُحيي السنة عن الزُّهْري ومُقاتلٍ: هذا مَثَلٌ ضرَبَه الله عز وجل للمُظاهِرِ من امرأتِه وللمُتَبنِّي ولَدَ غيرِه يقول: فكما لا يكونُ لرجلٍ قَلْبان، كذلك لا تكونُ امرأةُ المظاهِر أُمَّه، ولا يكونُ أحدٌ ابنَ رجُلَيْن. وإنّما قُلْنا: إنّ المرادَ بقَوْلِهم ما وافَقوه فيه؛ لِما قالَ مُحْيي السنّة: فعَلِموا يومئذٍ أنه لو كان له قلبانِ لما نَسِي نَعْلَه في يده.

وقالَ الزجّاج: رُوِيَ أنّ عبدَ الله بنَ حَنْظَلٍ قال: إنّ لي قلبَيْن، أفْهَمُ بكُلِّ واحدٍ منهما أكثرَ مما يعقِلُ محمد، فأكْذَبَهُ الله تعالى فقال:{اجَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، ثم قرنَ بهذا الكلامِ ما يقولُه المُشركون مِمّا لا حقيقةَ له.

وقلتُ: فعلى هذا المذكوراتُ الثلاثُ بجُمْلتِها مَثَلٌ فيما لا حقيقةَ له، ثمَّ ذَيَّلَ الكُلَّ بقوله:{اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} .

وقال صاحبُ ((الانتصاف)): وأسَدُّ ما ذُكِرَ فيه: أنّهم كانوا يَدَّعونَ لابنِ الحَنْظلِ قلبَيْن،

ص: 371

المنافقون يقولون: لمحمد قلبان، فأكذبهم الله. وقيل: سها في صلاته، فقالت اليهود: له قلبان: قلب مع أصحابه، وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت في أن الواحد يقول: نفس تأمرنى ونفس تنهاني. والتنكير في "رجل"، وإدخال "من" الاستغراقية على (قلبين) تأكيدان لما قصد من المعنى، كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه. فإن قلت: أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فنفى الله صحَّة ذَلك، وقَرنَه بأقاويلهِم الباطلةِ وهي جَعْلُهم الأدعياءَ أبناءً، والزوجاتِ أمهات، ففي الأولِ لزِمَ قيامُ أحدِ المعنَييْن بالآخَر كالعِلْمِ والجهْل، والأمنِ والخوْف، وأما الثاني فالزوجةُ في مَقامِ الامتنان، والأمُّ في مَقامِ الإكرام، وأما الثالثُ فإنَّ البُنُّوَّةَ أصالةٌ والدَّعْوةَ عَلامةٌ عارضةَ، فالكلُّ مُتناف.

قال القاضي: ما جَعَلَ قلبَيْنِ في جَوْف؛ لأنّ القلْبَ معدِنُ الروحِ الحَيَوانيِّ المتعلِّقِ بالنَّفَس الإنسانيِّ أوّلاً، ومَنْبعُ القُوى بأسْرِها، وذلك يمْنَعُ التعدُّدَ؛ لأدائِه إلى تناقُضٍ، وهو أن يكونَ كلٌّ منهما أصلاً لكلِّ القُوى، وغَيْرَ أصل.

قولُه: (فقالتِ اليهودُ: له قَلْبان)، رَويْنا عن الإمام أحمَد بنِ حَنْبلٍ والتِّرمذيِّ عن ابنِ عباسٍ: قيلَ له: ما عنى الله تعالى بقولِه {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . قال: قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا يُصلِّي فخَطرتْ خَطْرةٌ، فقالَ المُنافقونَ الذين يُصلُّونَ معه: ألا ترون أنّ له قلبَيْن: قلبًا معكم وقَلبًا معهم؛ فنزلَتْ.

قولُه: (ما جعلَ اللهُ لأمّةِ الرجالِ ولا لواحدٍ منهم قلبَيْن البتَّة)، لعلّه ذهبَ إلى أنّ الأصلَ: ما جعلَ اللهُ لأحدٍ من الرجالِ قلبَيْن في جَوْفِه فقولُه: لرجلٍ وُضِعَ موضعَ أحدٍ بوَساطةِ التنكير، وقَدَّر لأمةٍ منَ الرجالِ باستعانةِ ((من)) الاستغراقيةِ نَحْوَ قولِه تعالى:{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32].

ص: 372

كالفائدة في قوله: (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)] الحج: 46 [؛ وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر التجلي المدلول عليه؛ لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفًا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار.

قرئ: (اللايئ)، بياء وهمزة مكسورتين، و (اللائي) بياء ساكنة بعد الهمزة. و (تظاهرون) من: ظاهر، و (تظاهرون) من: اظاهر، بمعنى: تظاهر. و (تظهرون)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (قرئَ: ((اللايئ)))، قالون، وقُنبلٌ:((اللاءِ)) بالهمْز من غير ياء، ووَرْشٌ: بياءٍ مُخْتلَسةٍ خلفًا من الهمزةِ في الحالَيْن، والباقونَ: بالهمزةِ وياءٍ بعْدَها في الحالين قال أبو البقاء: اللاتي: جَمْعُ ((التي))، والأصلُ إثباتُ الياءِ، ويجوزُ حَذْفُها اجتزاءً بالكَسرةِ، ويجوزُ تلْيينُ الهمزةِ وقَلْبُها ياء.

قولُه: ({تُظَاهِرُونَ} مِنْ: ظاهَر)، عاصم:{تُظَاهِرُونَ} بضَمِّ التاءِ وتخفيفِ الظاءِ وألفٍ بعْدَها وكَسْرِ الهاء، وابنُ عامرٍ: بفَتْحِ التاءِ والهاءِ وتشديدِ الظاءِ والهاءِ من غيرِ ألف، أمّا ((يَظَّهَرون)) فالأصلُ: يتظهّرون، فأدغَم التاءَ في الظاءِ، و ((تَظاهرون)) بفتحِ التاءِ والتخفيف، فالأصلُ: تتَظاهرون، فحُذِفَت إحدى التاءَيْن، و ((تَظّاهرون)) بتشديدِ الظاءِ وإدغامِ التَّاءِ الثانيةِ في الظاء كلُّها لغات.

الراغب: الظهْرُ: الجارحة، وقولُه تعالى {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} ، الظهر هاهنا تشبيهًا للذُّنوبِ بالحِمْلِ الذي يَنوءُ بحامِله، واستُعيرَ لظاهرِ الأرضِ وقيل: ظَهْرُ الأرضِ وبَطْنُها، ويُعَبَّرُ عن المركوبِ بالظَّهْر، ويُستعارُ لَمنْ يُتَقوّى به، وبَعيرٌ ظَهيرٌ: قَويٌّ بَيِّنُ الظَّهارة، والظِّهْريُّ: ما تجعَلُه بظَهْرِك فتَنْساه، وظهر عليه: غَلَبَه، وظاهَرْتُه: عاونْتُه، وظَهَرَ

ص: 373

من: أظهر، بمعنى: تظهر، و (تظهرون) من: ظهر، بمعنى: ظاهر، كعقد بمعنى: عاقد. و (تظهرون) من: ظهر، بلفظ: فعل، من الظهور. ومعنى "ظاهر من امرأته": قال لها: أنت علىّ كظهر أمى. ونحوه في العبارة عن اللفظ: لبى المحرم؛ إذا قال لبيك، وأفف الرجل؛ إذا قال: أف، وأخوات لهنّ. فإن قلت: فما وجه تعديته وأخواته بـ"من"؟ قلت: كان الظهار طلاقًا عند أهل الجاهلية، فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها: تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها، وظاهر منها: حاذر منها، وظهر منها: وحش منها، وظهر منها: خلص منها. ونظيره: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد منها عدّى بـ"من"، وإلا فـ"آلى" في أصله الذي هو بمعنى: حلف وأقسم، ليس هذا بحكمه. فإن قلت: ما معنى قولهم: أنت علىّ كظهر أمى؟ قلت: أرادوا أن يقولوا: أنت علىّ حرام كبطن أمى، فكنوا عن البطن بالظهر؛ لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن، ومنه حديث عمر رضى الله عنه:"يجيء به أحدهم على عمود بطنه". أراد: على ظهره. ووجه آخر؛ وهو أن إتيان المرأة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشيءُ أصْلُه: أن يحصُلَ على ظَهْرِ الأرض، وبَطَنَ إذا حصَلَ في بُطْنانِ الأرض فيَخْفى، ثم صارَ مُسْتعملاً لكلِّ بارزٍ للبَصَرِ والبصيرة.

قولُه: (ومنه حديثُ عُمرَ رضي الله عنه: ((يجيءُ [به] أحدُهم)))، أي: يجيءُ بالغَلَّة أحدُ التُّجارِ على ظهرِه، وأنتم تَخرجونَ وتتلقَّوْنَهم تَشْرونها منهم أرخَصَ من سِعْرِ البلد. ذكَر في ((المُغْرب)): قال عُمرُ رضي الله عنه: ((أيُّما جالبٍ جَلَبَ على عَمودِ بَطْنِه، فإنّه يَبيعُ أنّى شاء ومتى شاء))، يعني الظَّهْرَ؛ لأنّه قِوامُ البطن ومِساكُه. وعن الليث: هو عرق يمتد من الرُّهابةِ إلى السُّرَّةِ. قال أبو عُبَيْد: هذا مَثَلٌ والمرادُ أنه به في تَعبٍ ومَشقّةٍ لا أنه يحمِلُه على

ص: 374

وظهرها إلى السماء كان محرّمًا عندهم محظورًا، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه، شبهها بالظهر، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك. فإن قلت: الدعىّ: فعيل بمعنى: مفعول، وهو الذي يدعى ولدًا، فما له جمع على افعلاء، وبابه: ما كان منه بمعنى فاعل، كتقى وأتقياء، وشقىّ وأشقياء، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى؟ قلت: إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي. (ذلِكُمْ) النسب هو (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ): هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقًا. (والله) عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه، ولا يهدى إلا سبيل الحق. ثم قال ما هو الحق، وهدى إلى ما هو سبيل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الظّهْرِ أو على هذا العِرْق. والرُّهابةُ: عَظْمٌ في الصدرِ مُشْرِفٌ على البطنِ كأنّه لسانُ الكلب.

قولُه: (فلَمْ يَتَّرِكْ)، المُغْرب: في حديثِ عليٍّ رضي الله عنه: ((مَنْ أوصى بالثُّلُثِ فما اتَّرك)) وهو مِنْ قَوْلِهم: فَعل فما اتَّركَ، هو افتَعل من التَّرْكِ، غَيْرُ مُعدًّى إلى مفعولٍ، أي: مَنْ اوصى بالثُّلُثِ لم يَتْرُكْ مما أُذِنَ له فيه شيئًا. المَعْنى: فلم يَتْرُكْ شيئًا منَ المُبالغةِ في التحريم إِلا ذكَره، فهو من بابِ التتميم.

قولُه: (الدَّعِيُّ: فَعيلٌ بمَعْنى: مفعول)، قال صاحبُ ((المُطلع)): فإنْ قيلَ: فإذا كان فَعيلاً بمعنى مَفعولٍ، فما له جُمِعَ على أفْعِلاء، وهو جَمْعُ فعيلٍ بمَعناك فاعلٍ، كتَقيٍّ وأتقياءَ وشَقِيٍّ وأشقياء؟ قُلنا: هو شاذُّ عن القياسِ كقُتَلاءَ وأُسَراءَ؛ قَتيلٍ وأسيرٍ، وطريقُه تُشاكِلُهما لفظًا، يعني: شُبِّه فَعيلٌ بمَعْنى مفعول، بفَعيلٍ بمَعْنى فاعلٍ، فجُمِعَ كما جُمِع.

قولُه: (لا يقولُ إلا ما هو حَقٌّ ولا يَهْدي إلاّ سبيلَ الحق)، أمّا دَلالةُ {هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} على الحصرِ فظاهِرٌ؛ لأنّه على مِنوالِ: أنا عَرفْتُ، لكنّ دَلالةَ:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ}

ص: 375

الحق، وهو قوله:(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ)، وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل. وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يغبى على عالم بطرق النظم. وقرأ قتادة:(وهو الذي يهدى السبيل). وقيل: كان الرجل في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على الحصرِ فإنَّ عنْدَه مِثْلُ هذا التركيبِ مُفيدٌ للتخصيصِ، كما مَرَّ في قولِه {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ} [الرعد: 26] وأمثالِه.

قولُه: (وفي فَصْلِ هذه الجُمَلِ ووَصْلِها من الحُسْنِ والفَصاحةِ ما لا يَغْبى على عالمٍ بطريقِ النَّظْم)، يعني: في إخلاءِ العاطفِ وتوسيطهِ بين الجُمَلِ من مُفْتَتحِ السورة إلى هاهنا موضعُ تأمّل. وبيانُه: أنَّ الأوامرَ والنهْيَ في قولِه: {تَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} {واتَّبِعْ} ، {وَتَوَكَّلْ}: وارداتٌ على نَسَقٍ عجيبٍ وتَرتيبٍ أنيق؛ فإنّ الاستهلالَ بقولهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} دالٌّ على أنّ الخطابَ مُشتملٌ على التنبيهِ على أمرٍ مَعْنيٍّ بشَأنه لائحٍ فيه معنى التهييجِ والإلهابِ، ومِنْ ثمَّ عَطَفَ عليه:{وَلَا تُطِعِ} كما يُعْطَفُ الخاصُّ على العامِّ، وأرْدَفَ النَهْيَ بالأمرِ على نحوِ قولِك: لا تُطِعْ مَنْ يخذُلُك واتَّبعْ ناصِرَك، ولا يبعُدُ أن يُسَمّى بالطردِ والعكْس. ثُمَّ أمرَ بالتوكُّلِ تشجيعًا على مخالفةِ أعداءِ الدينِ، والتجاءً إلى حَريمِ جلالِ الله ليكفيَه شرورَهم، ثُمَّ عقَّبَ كلاًّ من تلك الأوامرِ على سبيلِ التتميم والتذييلِ بما يُطابقُه، وعَلَّل قولَه:{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} تتميمًا للارتداعِ؛ أي: اتّقِ الله فيما تأتي وتَذّرُ في سِرِّك وعلانِيتِك؛ لأنه عليمٌ بالأحوالِ كُلِّها يجبُ أن تحذَرَ مِنْ سَخَطِه، حكيمٌ لا يُحِبُّ متابعةَ حبيبهِ أعداءَه، وعَلّل قوْلَه:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} تتميمًا أيضًا؛ أي: اتَّبعِ الحقَّ ولا تَتَّبعْ أهواءهم الباطلة وآراءَهم الزائغةَ؛ لأنّ الله يعلَمُ عَملَكَ وعَمَلَهم فيُكافِئُ كُلاًّ بما يستحِقُّه.

وذَيَّلَ قولَه: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} تقريرًا وتوكيدًا على

ص: 376

الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه ضمه إلى نفسه، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا) لهم آباء تنسبونهم إليهم (فـ) هم (إِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) وأولياؤكم في الدين، فقولوا: هذا أخى، وهذا مولاي، ويا أخى، ويا مولاي، يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه. (ما تَعَمَّدَتْ) في محل الجرّ عطفا على "ما أخطأتم"، ويجوز أن يكون مرتفعًا على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مِنوالِ: فُلانٌ ينطِقُ بالحقِّ والحقُّ أبلَج، مِنْ حَقِّ مَنْ يكون كافيًا لكلِّ الأمورِ، حَسيبًا في جَميع ما يرجِعُ إليه أن تُفَوَّضَ الأمورُ إليه ويُتوكَّلَ عليه، وفَصل قولَه {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} على سبيلِ الاستئنافِ تنبيهًا على بعضٍ منْ أباطيلِهم وتمحُّلاتِهم، وقوْلُه:{ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} فَذْلَكةٌ لتلكَ الأقوالِ آذنَتْ بأنّها جَديرَةٌ بأن يُحكَمَ عليها بالبُطلان، وحَقيقٌ بأن يُذَمَّ قائلُها فَضْلاً عن أن يُطاع.

ثمَ وصَل {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} على هذه الفَذْلكِة بجامعِ التضادِ على مِنوالِ ما سَبق في المُجْمَلِ في {وَلَا تُطِعِ}

{وَاتَّبِعْ} ، وفَصَل قولَه:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} وقَوْلَه {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} وهلُمَّ جَرًّا إلى آخرِ السورة تفصيلاً لقَوْلِ الحقِّ والاهتداءِ إلى السبيلِ القويم، {اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} ، نسألكَ اللهمَّ التوفيقَ للقولِ بالسداد، والهدايةَ لسُبلِ الرشاد.

قولُه: (جَلَدُ الرجلِ وظُرْفُه)، الجَلَدُ والجَلادةُ: الصَّلابةَ، والجَليدُ: ضدُّ البليد، قال أبو بكر الخوارزميّ:

عدوى البليدِ إلى الجليدِ سَريعةٌ

كالجمْرِ يوضَعُ في الرماد فَيخْمَدُ

الظُّرْفُ: الكَياسةُ وحُسْنُ التأنِّي في الأمور.

الأساس: فيه ظُرْفٌ وظَرافةٌ، أي: كَيْسٌ وذكاءٌ، وقد ظَرُفَ فهو ظَريف.

قولُه: ({مَّا تَعَمَّدَتْ} في محلِّ عطفًا على ((ما أخطأتُم))) وقيل: هذا ضَعيفٌ؛ لأنّ

ص: 377

الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، والمعنى: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهى، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهى، أو: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بنىّ، على سبيل الخطأ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين. ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم، كقوله عليه الصلاة والسلام:«ما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد» ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "وضع عن أمّتى الخطأ والنسيان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعطوفَ المجرورَ لا يُفصَلُ بينَه وبينَ ما عُطِفَ عليه، واستَدلَّ سيبوَيهِ بقولهم:((ما مِثْلُ عبدِ الله يقولُ ذاك ولا أخيه)) على أن المُضافَ محذوفٌ، وأقيمَ المُضافَ إليه على إعرابه، إذ لا يجوزُ أن يُعطفَ ((أخيه)) على ((عبدِ الله)) للفصل المذكور. وأُجيبَ بأنْ لا فَصْلَ، لأنّ المعطوفَ الموصولَ مع الصِّلةِ على مِثْلِه وهو ((ما أخطأتُم)).

قولُه: (على طريقِ العموم)، وعلى الأولِ: الخَطأُ والعَمْدُ مختَصّانِ بفِعْلِ التبنِّي، فالجُملةُ عَطْفٌ على {ادْعُوهُمْ} بالتأوُّلِ؛ جمعَ بينَ الأمرِ الذي يَلْزَمُ الجُناحُ في التفريطِ فيه قبْلَ ورودِ النهْيِ، وبين رَفْعِ الجُناحِ فيما وقعَ فيه التفريط، أي: ادعوهُم لآبائِهم هو أقسَطُ لكم ولا تَدْعوهم لأنفُسِكم مُتعِّدين، فتأثَموا. وإليه الإشارةُ بقولِه:((لا إثْمَ عليكُم فيما فَعلْتُموه من ذلك مخطئين))، وعلى الثاني: الجملةُ مُستطرَدةٌ على طريقٍ كُلّيٍّ ويدخلُ فيه هذا الحكمُ وما يُشاكِلُه.

قولُه: (وَضِعَ عن أمتي الخطأُ)، الحديث رواه ابنُ ماجَه عن ابنِ عباس. ورُوِيَ عن

ص: 378

وما أكرهوا عليه»، ثم تناول -لعمومه- خطأ التبني وعمده. فإن قلت: فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت: إذا كان المتبنى مجهول النسب، وأصغر سنا من المتبنى: ثبت نسبه منه، وإن كان عبدا له: عتق مع ثبوت النسب، وإن كان لا يولد مثله لمثله: لم يثبت النسب، ولكنه يعتق عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعند صاحبيه: لا يعتق. وأما المعروف النسب: فلا يثبت نسبه بالتبني، وإن كان عبدًا: عتق. (وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً) لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد.

[(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)] 6 [

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) في كل شيء من أمور الدين والدنيا (مِنْ أَنْفُسِهِمْ)؛ ولهدا أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبي ذَرٍّ: ((الله تجاوز عن أمتي)).

قولُه: (إذا كانَ المُتنبيّ مَجهولَ النَّسَب)، إلى آخره. قال القاضي: اعلَمْ أنَّ التبَنّيَ لا عِبْرَة به عندنا، وعندَ أبي حنيفةَ: يوجِبُ عِتْقَ مَملوكِه، ويثبتُ النسبُ بمَجْهولِه الذي يمكنُ إلحاقه به.

قولُه: (ووِقاءَه إذا لقِحَتْ)، الوِقاية: ما وقَيْتُ به الشيء. ولقِحَتْ: إذا اشتدّت. قال:

قرِّبا مَرْبِطَ النعامةِ مِنّي

لَقِحَتْ حربُ وائلٍ عن حِيال

ص: 379

وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه؛ لأنّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين، وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم؛ لئلا يتهافتوا فيما يرمى بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أو: هو أولى بهم، على معنى: أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم، كقوله تعالى:(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)] التوبة: 128 [.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: بعدَ حِيال.

قولُه: (فأخَذَ بحُجَزِهم؛ لئلاّ يتهافَتوا)، وفي بعضِ النُّسَخِ:((فأخذه)). هذا مُقْتبسٌ من حديثٍ رَواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ عن أبي هُريرَة: أنه سمِعَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّما مَثَلي وَمَثلُ الناسِ كمَثَلِ رجلٍ استوقَد نارًا فلما أضاءت ما حوْلَه، جعلَ الفَراشُ وهذه الدوابُّ التي تَقعُ فيها فجعلَ يَنْزِعهُنَّ ويَغْلِبْنَه فَيقْتَحِمْنَ فيها فأنا آخِذٌ بحُجَزِكم عنِ النار فتَغْلبوني، وتتقَحَّمون فيها)).

الاقتحامُ في الشيء: إلقاءُ النّفسِ فيه برَغْبَةٍ وإيثارٍ، والحُجَزُ: جَمْعُ حَجْزَةٍ وهيَ مَعْقِدُ الإزارِ، وحُجْزَةُ السّراويلِ مَعْروفة، وهَتَفَ الشيءُ هُتافًا: تطايرَ لخِفّتِه.

ورُوِيَ: ((ما يحمِلُكم على أن تَتابعوا في الكَذِبِ كما يتتابَعُ الفراشُ في النارِ وأنا آخِذٌ بحُجَزِكم))، وهذا معنى قوله تعالى:{وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].

ص: 380

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، فأيما مؤمٍن هلك وترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينًا أو ضياعًا فإلىّ» . وفي قراءة ابن مسعود: (النبىّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم). وقال مجاهد: كل نبىّ فهو أبو أمّته، ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) تشبيه لهنّ بالأمهات في بعض الأحكام؛ وهو وجوب تعظيمهنّ واحترامهن، وتحريم نكاحهن، قال الله تعالى:(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً)] الأحزاب: 53 [وهن فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات؛ ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها: لسنا أمهات النساء. تعنى أنهنّ إنما كنّ أمّهات الرجال؛ لكونهنّ محرّماٍت عليهم كتحريم أمّهاتهم. والدليل على ذلك: أنّ هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهنّ، وكذلك لم يثبت لهنّ سائر أحكام الأمهات. كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ما مِنْ مؤمنٍ إلاّ انا أولى به)، الحديثُ مِن رِوايةِ أحمدَ والبُخاريِّ ومُسلمٍ وابن ماجه والدارميِّ عن أبي هُريرةَ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِنْ مؤمنٍ إِلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، وأيُّما مؤمنٍ تركَ مالاً فليرِثه عصبَتُه مَنْ كان، فإنْ تَرَك دَيْنًا أو ضَياعًا فليأتِني فأنا مولاه)).

ضَياعًا: مَصْدر وصفٍ لمحذوفٍ، أي: عِيالاً ضَياعًا. النهاية: ضاعَ يَضيعُ ضَياعًا، فسَمّى العِيالَ بالمصدر، وإن رُوِيَ بكَسِرِ الضادِ فيكونُ جَمْعَ ضائعٍ، كجائعٍ وجِياع.

قولُه: (وهو أبٌ لهم)، قال الزجاج: لا يجوزُ أن يُقرأَ بها، لأنها ليسَتْ في المُصحفِ المُجمَعِ عليه.

ص: 381

كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهاٍم لهم في الصدقات، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام وعزّ أهله، وجعل التوارث بحق القرابة. (فِي كِتابِ الله): في اللوح، أو: فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية، أو في آية المواريث، أو فيما فرض الله، كقوله:(كِتابَ الله عَلَيْكُمْ)] النساء: 24 [. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) يجوز أن يكون بيانًا لأولى الأرحام، أى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضًا من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، أى: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة. فإن قلت: مم استثنى (أَنْ تَفْعَلُوا)؟ قلت: من أعم العام في معنى النفع والإحسان، كما تقول: القريب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (كما كانت تتألّف)، صفةُ مصدرٍ محذوف أي: يتألفون بالإرث تألفًا كما كانت.

قولُه: (ثم نُسِخَ)، عن بعضِهم أي: نُسِخَ بحديثٍ رواهُ عمرُ رضي الله عنه، وقَبلَت الصحابة، لأنَّ الإجماعَ لا يصلُحُ ناسخًا، أو عادَ على موضعِه بالنَّقضِ؛ لأنّ الله تعالى أعزَّ الإسلامَ وأغنى عنهم، وهذا لا يَكونُ مَطابقًا لقولُه:((نُسِخَ))، والصحيحُ أنه نُسِخَ بقولِه تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} .

قولُه: (دَجا الإسلام)، النهاية: أي شاعَ وكَثُر؛ من: دَجا الليل؛ أي: تَمَّتْ ظُلْمتُه ولَبِسَ كل شيء.

قولُه: (ويجوز أن يكونَ لابتداءِ الغاية)، أي:((مِنْ)) في {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : إما بيانٌ لـ ((أُولى الأرحام))، وصلَةُ ((أولى)) مَحْذوفة، وإليه الإشارةُ بقولُه:((إلاّ قُربًا مِن هؤلاءِ أولى من الأجانبِ))، أو لابتداءِ الغاية، أي: يكونُ صِلَة.

قولُه: (من أعمِّ العامِّ في معنى النفع)، أي: أولو الأرحامِ أولى من الأجنبيِّ في كلِّ نَفْعٍ إلا في الوصية هو استثناءٌ مفرَّغٌ في الموجِب، نَحْوَ قولك: قرأتُ إلاّ يومَ كذا، خَصَّ

ص: 382

أولى من الأجنبي إلا في الوصية، تريد: أنه أحق منه في كل نفٍع من ميراث وهبةٍ وهدية وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية. والمراد بفعل المعروف: التوصية؛ لأنه لا وصية لوارٍث، وعدى تفعلوا بـ"إلى"، لأنه في معنى: تسدوا وتزلوا، والمراد بالأولياء: المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين. (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعًا. وتفسير الكتاب: ما مر آنفًا، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعروفَ بالوصيّة وجعَلَها من جُملة المُنتفَعِ به، وعنى بقَوْلِه:{كِتَابِ اللَّهِ} اللوحَ أو الموحى، وبـ {أَوْلِيَائِكُم} نفْسَ أُولي الأرحام، وَضْعًا للمُظْهَرِ موضِعَ المُضْمَرِ، ليصحَّ أن يكونَ الاستثناءُ متصلاً، وأما لو أُريدَ بـ {أَوْلِيَائِكُم} المؤمنون والمهاجرونَ، ويكونُ ((المعروفُ)) مُجرًى على عمومهِ، فالظاهرُ أن يكونَ الاستثناءُ منقطعًا.

وعن بعضِهم: وهو استثناءٌ مُنْقَطع، وخبرُه محذوفٌ، ومعناه: لكنّ فعْلَكم إلى أوليائكم معروفًا جائز، ولا يكون على وجه نهاه الله عنه ولا أذن فيه. قال مكي وأبو البقاء: الاستثناء منقطع، والمعنى: أُولوا الأرحامِ أولى من المؤمنينَ والمهاجرين في كتابِ الله، أي: في الميراثِ، لكنْ إذا أردْتُم ابتداءَ المعروفِ إليهم: أي: إلى المؤمنينَ والمُهاجرين. والأول الوَجْه.

قولُه: (وتُزْلوا)، الجوهري: أزلَلْتُ إليه نعمةً: أسدَيْتُها، وأزللْتُ إليه مِنْ حَقِّه شيئًا؛ أي: أعطَيْت.

قولُه: ({ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ في الآيَتيْن) أي: في قولِه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية، وقولِه {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} .

قولُه: (وتَفْسيرُ الكتابِ)، أي: الكتابِ المذكورِ في قولِه: {فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} ، وقد مرَّ في قوله تعالى:{فِي كِتَابِ اللَّهِ} في اللوحِ إلى آخره، ثم الجملةُ كالخاتمةِ أي: كالتتميمِ أو التذييلِ لِما سبَق، ومن ثمَّ شرعَ في مَشْرَعٍ آخر وهو قولُه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} .

ص: 383

[(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)] 7 - 8 [

(َو) اذكر حين (أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ) جميعا (مِيثاقَهُمْ) بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم (وَمِنْكَ) خصوصا (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى) وإنما فعلنا ذلك (لِيَسْئَلَ) الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به، من جملة من أشهدهم على أنفسهم:(ألست بربكم قالوا بلى)] الأعراف: 172 [(عَنْ صِدْقِهِمْ): عهدهم وشهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين. أو: ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم؛ لأن من قال للصادق: صدقت، كان صادقا في قوله. أو: ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم. وتأويل مسألة الرسل: تبكيت الكافرين بهم، كقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله)] المائدة: 116 [. فإن قلت: لم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح فمن بعده؟ قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين؛ قدم عليهم؛ لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (على نوحٍ فمَنْ بعده)، الفاءُ مِثْلُها في الحديثِ:((ثُمَّ الأمثلُ فالأمثَل)).

قولُه: (ودَراريُّهم)، جمع دُرِّيٍّ وهو الكوكبُ الثاقبُ المضيءُ، نُسِبَ إلى الدُّرٍّ؛ جْمع دُرَّةٍ، وقد يُكْسَرُ، كسُخْريِّ وسِخْرِيٍّ، وهذا من بابِ تغييراتِ النسب.

الأساس: ودرأ الكوكبُ: طلعَ كأنه يدْرأُ الظلام.

قولُه: (قُدِّمَ عليهم؛ لبيانِ أنَّه أفضَلُهم، ولولا ذلك لقُدِّمَ مَنْ قَدَّمَه زمانُه)، قال الزجاج:

ص: 384

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جاءَ في التفسيرِ: إني خُلِقْتُ قبْلَ الأنبياءِ وبُعِثْتُ بَعْدَهم، فعلى هذا لا تقديمَ في الكلامِ ولا تأخير، ومَذهَبُ أهلِ اللغة: أنّ الواوَ معناهُ الاجتماع، وليس فيها دليلٌ أنَّ المذكورَ أوّلاً معناه التأخير. وقال صاحبُ ((الانتصاف)): ليسَ التقديمُ في الذِّكْرِ مقتضيًا ذلك؛ ألا ترى إلى قولِ الشاعر:

بهَا ليلُ مِنهم جعفرٌ وابنُ أُمِّه

عليٌّ، ومنهم أحمَدُ المُتخَيِّرُ

خَتَم به تشريفًا، فالسرُّ في تقديمهِ أنه هو المخاطَبُ بهذا، والمُنزَّلُ عليه هذا المَتْلُوُّ، وكان أحقَّ، ثمّ جرى ذكْرُ الأنبياءِ بعْدَه على الترتيب.

وقلتُ: إنّما يٌقالُ مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزالِ لا للقارِّ في مَكانه، ثُمّ لم يكُنِ التقديمُ إلا للاهتمامِ بحَسْبِ اقتضاءِ المقامِ، والواوُ لا مَدْخَلَ له في الاعتبار، فإنَّ الأنبياءَ المذكورينَ بعْدَه صلى الله عليه وسلم مُرتَّبون على حَسَبِ تقدُّمِهم في الزمان، وكانَ ينْبغي تأخيرُه لذلك، ولابد لهذهِ المخالفةِ مِنْ فائدةٍ جَليلة، وكَوْنُه مُقدَّمًا بحَسبِ الفَضْل، وأنّه أقدَمُ الأنبياءِ خَلْقًا كما قال الزجاج؛ شَرَفٌ لا مَطْمَحَ وراءه.

روَيْنا عن الترمذيِّ، عن أبي هُريرةَ قال: قالوا: يا رسولَا لله متى وجَبتْ لك النبوة؟ قال: ((وآدَمُ بين الروح والجسد)) زاد رَزين: ((وآدَمُ مُنجَدِلٌ في طينتهِ بين الروح والجسد)).

والمقامُ يقتضي ذلك؛ لأنه سبحانه وتعالى جعلَ مُفتتحَ السورةِ وبراعةَ استهلالِها خِطابَه بذكْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو أفضَلُ خطابٍ من جانبِ ربِّ العِزّة كما مرَّ، ثمّ معاقِدُ هذه

ص: 385

فإن قلت: فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية؛ وهي قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)] الشورى: 13 [، ثم قدم على غيره! قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك؛ وذلك أنّ الله عز وجل إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟ قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. معناه: وأخذنا منهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السورةِ واردةٌ على تَنْويهِ فَضْلِه ورَباءِ محَلِّه، وأنه أولى بالمؤنينَ من أنفُسِهم، وأفضَلُ النبيينَ مكانةً، وأسبَقهم منزلةً، وهلمَّ جّراً إلى آخرِ السورة.

وأمّا تأخيرُ ذكْرِه صلى الله عليه وسلم في البيتِ الذي أنشَده صاحبُ ((الانتصاف)) فللترقِّي والأخْذِ بالأفضَل فالأفضَل، وشاهِدُه تأخيرُ ذكْرِه صلى الله عليه وسلم إذ لو قُدِّم ابتدأ الفضلُ منه، فله الفضْلُ مُتقدِّمًا ومُتأخِّرًا.

قولُه: (أرادَ به ذلك الميثاقَ بعَيْنه)، يريدُ به أنّه أُعيدَ قولُه:{وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} توكيدًا، ويُعَلَّلُ بقوله {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} وإليه الإشارةُ بقولِه: ((أكّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينهِ لأجلِ إثابةِ المؤمنينَ {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} ، وكان أصلُ الكلام: أعدَّ للمؤمنين الإثابةَ وللكافرين التعذيب، وذِكْرُ الأنبياءِ وأخْذُ الميثاقِ العظيمِ توطئةٌ لذكْرِ إثابةِ المؤمنينَ ليُؤْذِنَ بأنّ الله تعالى سبقَتْ رحمتُه غضَبَه، ولعلّه أخفى فيه: أنّه تعالى لا يريدُ من المكلَّفين إلا الإيمانَ، ولو عُطِفَ على {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} من حيثُ المعنى؛ ليرجِعَ المعنى إلى أنّ الله أخذَ من النبيِّين ميثاقَه ليُبلِّغوا رسالاتِ ربِّهم إلى عَبيدهِ، ليَهلِكَ مَنْ هَلك عن بَيِّنة، ويحيا مَنْ حَيَّ عن بَيِّنة، ويسألَ المؤمنينَ عند تواقُفِ الأشهادِ عن صدْقِهم، فيفوزوا بما لا عَيْنٌ رأتْ ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، وليُجْزى الكافرونَ

ص: 386

بذلك الميثاق ميثاقًا غليظًا. والغلظ: استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه. وقيل: الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ)؟ قلت: على (أخذنا من النبيين)؛ لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين (وأعد للكافرين عذابا أليما). أو على ما دل عليه (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ)، كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعدّ للكافرين.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)] 9 - 11 [

(اذْكُرُوا) ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُود) وهم الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريح الصبا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على رؤوسِ الأشهاد، ثمّ المآلُ إلى ما أعدّ الله لهم؛ أي من النَّكالِ والعذابِ الأليم؛ لَكَانَ أَحْسَنَ.

قال صاحبُ ((التقريب)): {أَعَدَّ} عَطْفٌ على {أَخَذْنَا} أو على ما دل عليه {لِيَسْئَلَ} ، وهو: فأثابَ المُؤمنين وكذا عن القاضي.

قولُه: (وقيل: الميثاقُ الغليظُ: اليمينُ بالله)، يعني: بَعْدَما أخذَ من النبيِّين الميثاقَ بتبليغِ الرسالةِ أكّد باليمينِ بالله على الوفاءِ بما حُمِّلوا، فعلى هذا لا يكونُ تكريرًا.

قولُه: (فأرسلَ الله)، وفي ((مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبل)): عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ قال: قُلْنا يوْمَ الخندَق: يا رسولَ الله، هَل مِنْ شيءٍ نَقولُه، فقد بلغَتِ القلوبُ الحناجرَ؟

ص: 387

بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة، وكانوا ألفا، بعث الله عليهم صبًا باردة في ليلةٍ شاتية، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدى: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء! فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضى الله عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاٍف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام، واشتدّ الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: ((نعَمْ اللهمَّ استُرْ عوراتِنا وآمِن روعاتِنا)) قال: فضربَ الله وجوهَ أعدائِه بالريح، فهزمَهم الله بالريح.

قولُه: (فأخصَرَتْهُم)، الأساس: يومٌ خَصِرٌ: بارد، وخَصِرَتْ أناملُه من البَرْدِ وأخْصَرَها القَرُّ.

قولُه: (وأكفأتِ القُدورَ)، أي: كَبَّتْها وقَلبَتْها، والفاعلُ: الريح.

قولُه: (فالنجاءَ النجاءَ)، النهاية: أي: انجُوا بأنفُسِكم. وهو مَصْدرٌ بفِعْلٍ مُضْمَر، أي انجوا النجاءَ.

قولُه: (في الآطام)، النهاية: واحدها: أُطُم، وكلُّ بناءٍ مُرْتفعٍ، يعني: أبنيتَها المرتفعَة كالحصون.

قولُه: (ونَجَمَ النفاق)، النهاية: كلُّ ما طلعَ وظَهر فقد نجَم.

ص: 388

المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر! لا نقدر أن نذهب إلى الغائط! وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاٍف من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألٍف ومن تابعهم من أهل نجد، وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين قريب من شهٍر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر. (تَعْمَلُونَ) قرئ بالتاء والياء. (مِنْ فَوْقِكُمْ): من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ): من أسفل الوادي من قبل المغرب: قريش، تحزبوا وقالوا: سنكون جملةً واحدة حتى نستأصل محمدا. (زاغَتِ الْأَبْصارُ): مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرةً وشخوصًا. وقيل: عدلت عن كل شيٍء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها؛ لشدة الروع. الحنجرة: رأس الغلصمة؛ وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم: مدخل الطعام والشراب، قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد ربت، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثمة قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلًا في اضطراب القلوب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (من الأحابيش)، النهاية: هم أحياءٌ من القارَةِ انضمّوا إلى بني لَيْثٍ في محاربتِهم قُريشًا، والتحبُّشُ: التجمُّع. وقيل: حالفوا قريشًا تحتَ جبلٍ يُسمّى حُبْشِيّاً فسموا بذلك.

قولُه: ({تَعْمَلُونَ} بالياءِ والتاء)، أبو عَمْروٍ: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء.

قولُه: (وشُخوصًا)، المُغْرب: شخَصَ بَصَرُه: امتدّ وارتفَع، ويُعَدّى بالباء، فيقال: شخَصَ ببَصَرِه.

ص: 389

ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقةً. (وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا) خطاٌب للذين آمنوا، ومنهم الثبت القلوب والأقدام، والضعاف القلوب؛ الذين هم على حرف، والمنافقون؛ الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم، فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم؛ فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم. وعن الحسن: ظنوا ظنونًا مختلفة: ظن المنافقون أنّ المسلمين يستأصلون، وظنّ المؤمنون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ووَجيبِها)، النهاية: يقال: وجَبَ القلبُ يجُب وجيبًا: إذا خفَق.

قولُه: (الذين هم على حَرْف)، أي: على وَجْهٍ واحد، وهو أن يعبُدَ اللهَ على السرّاءِ دونَ الضراء. النهاية: أي: جانبٍ وطرف، فالمؤمنون صنفانِ: صنفٌ ثابتون يظنّونَ النُّصْرةَ والظَّفرَ، والآخَرُ آيِسون قانِطون، وهم الذين على حرف.

قولُه: (فظَنَّ الأولون)، أي: الذين آمنوا، وهم فَريقان: الثُّبَّتُ القلوب، خافوا الزّلَل، أي: ذنوبًا اكتَسبوها فمنَعْتُهم التأييدَ وتقويةَ القلوبِ حتى تزلزلوا، كما قالَ في قولهِ تعالى:{نَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].

والفريقُ الثاني: الضعافُ القلوبِ، فخافوا ضَعْفَ الاحتمالِ؛ أي: احتمالِ الملاقاةِ والمحاربة. ففي كلامِ المصنِّفِ لَفٌّ ونَشْر.

وأمّا الآخرونَ فهم المنافِقون وما حُكِيَ عنهم، هو ما حَملَهم على أن يقول رئيسُهم مُعَتِّبُ بنُ قُشَيْر: كانَ محمّدٌ يَعِدُنا كنوزَ كِسْرى! لا نقدِرُ أن نذهبَ إلى الغائط! على ما مرّ، وما رُوِيَ عن الحَسنِ وجْهٌ آخَرُ في الآية.

ثمَّ المناسِبُ أن يُرادَ بالابتلاءِ على الوجْهِ الأولِ المِحْنةُ والبَلاء، وعلى الثاني الاختبار، كما أُريدَ مِنْ ظَنِّ المنافقينَ: ما حَملَهم على تلكَ الكلمةِ الشنعاءِ على الأول، وعلى الثاني: الاستئصال.

ص: 390

أنهم يبتلون. وقرئ: (الظنون) بغير ألف في الوصل والوقف، وهو القياس، وبزيادة ألٍف في الوقف زادوها في الفاصلة، كما زادها في القافية من قال:

أقلّى الّلوم عاذل والعتابا

وكذلك: (الرسولا)] الأحزاب: 66 [و (السبيلا)] الأحزاب: 67 [، وقرئ: بزيادتها في الوصل أيضًا؛ إجراًء له مجرى الوقف. قال أبو عبيد: وهنّ كلهنّ في الإمام بألف. وعن أبى عمرو إشمام زاى (وزلزلوا). وقرئ: (زلزالا) بالفتح، والمعنى: أنّ الخوف أزعجهم أشد الإزعاج.

[(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَاذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (قُرِئ: ((الظُّنون)) بغيرِ ألف)، أبو عَمْرو وحَمزةُ:((الظنون)) و ((الرسول)) و ((السبيل)) بحَذْفِ الألِفِ في الحالين، وحَفْصٌ والكِسائيُّ: بحَذْفِها فيهن في الوصل خاصّة، والباقون: بإثباتِها في الحالين.

قولُه: (أقِلّي اللوم عاذِلَ والعتابا)، تمامُه أنشدَ الزجاج:

وقولي إن أصَبْتُ لقد أصابا

يقول: يا عاذِلَتي أقِلّي ملامَتي وعِتابي وقولي- إنْ فعَلْتُ حَسَنًا وصَوابا-: لقد أصابَ فلانٌ في قولِه وفِعْلِه.

قولُه: (وقُرِئ: ((زَلْزالاً)) بالفتح)، في الشواذِّ. قال الزجّاج: والمصدَرُ من المُضاعَفِ

ص: 391

بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً)] 12 - 14 [

(إِلَّا غُرُوراً): قيل: قائله: معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا! ما هذا إلا وعد غرور! (طائِفَةٌ مِنْهُمْ): هم: أوس بن قيظى ومن وافقه على رأيه. وعن السدى: عبد الله بن أبىّ وأصحابه. ويثرب: اسم المدينة. وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها. (لا مُقامَ لَكُمْ) قرئ بضم الميم وفتحها، أى: لا قرار لكم هاهنا، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يَجيءُ على ضربَيْن: على فِعْلال وفَعْلال، نحو: قَلْقَلْتُه قَلْقالاً وقِلْقالا والكَسُرْ أجْودُ، لأنّ غيْرَ المُضاعَفِ من هذا البابِ مكسورٌ، نحو: دَحْرَجْتُه دِحْراجًا.

قولُه: (أن يتبرّز)، النهاية: البَرازُ بالفَتْحِ: اسمٌ للفضاءِ الواسعِ، فكَنَّوْا به عن قَضاءِ الغائطِ كالخلاءِ؛ لأنّهم كانوا يتَبرّزون في الأمكنةِ الخالية.

قولُه: (ويَثْرِبُ: اسمُ المدينة)، النهاية: هي اسمُها قديمةً فغَيَّرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وسَمّاها طَيْبةَ وطابَةَ، كراهةً للتثريبِ، وهو اللومُ والتعبير. وقيل: هو اسمُ أرْضِها، وقيل: سُمِّيَتْ باسمِ رجلٍ من العمالقة.

قولُه: (قُرِئ بضَمِّ الميم وفَتْحِها)، حَفْصٌ: بالضمِّ، والباقونَ: بالفَتْح. قال الزجّاج: فمَنْ ضَمَّ فالمعنى: لا إقامَة لكم، تقول: أقَمْتُ في المصرِ إقامةً ومُقامًا، ومَنْ فَتَح فالمعنى: لا مكانَ لكُم تقومون.

ص: 392

(فَارْجِعُوا) إلى المدينة؛ أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا، وإلا فليست يثرب لكم بمكاٍن. قرئ:(عورة) بسكون الواو وكسرها، فالعورة: الخلل، والعورة: ذات العورة، يقال: عور المكان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المُغْرب: المَقامُ بالفتح: موضِعُ القيام، ومنه مَقامُ إبراهيم: الحَجَرُ الذي فيه أثرُ قدَمَيْه وموضِعُه أيضًا، وبالضمِّ موضِعُ الإقامة.

الجوهري: المَقامُ والمُقامُ: يكون كلُّ واحدٍ منهما بمعنى الإقامةِ وموضعِ القيام، لأنك إذا جَعْلتَه مِن: قامَ يقومُ، فَمفْتوح، وإن جَعْلتَه من: أقامَ يقيم، فمَضْموم.

فَقْولُ المصنِّف: ((لا قَرارَ لكم ولا مكانَ تُقيمونَ فيه)) فهو بمعنى الفتح، وقوله:((أو تُقيمونَ)) بمعنى الضم.

قولُه: (بالهَربِ من عسْكرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أي: مُعَسْكرِه، كما سَبَق في قولِه: ((وحينَ سمِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإقبالِهم ضربَ الخندَقَ على المدينة

، ثمّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المسلمين فضَربَ مُعَسْكَرهُ، والخندقُ بينه وبَيْنَ القوم)). أي: قالَ طائفةٌ من المنافقين: يا أهلَ يَثْرِبَ نُقِلْتُم منَ المدينةِ إلى هذا المُقام الصَّعْبِ فارجعوا إليها.

قولُه: (وأسْلِموا مُحمّداً)، هو مِن قولهم: أسْلَمَه؛ أي: خَذَلَه.

قولُه: (قُرِئ: {عَوْرَةٌ} بسُكون الواو وكَسْرِها)، قال ابن جِنِّي: بكَسْرِ الواو: ابنُ عبّاسٍ وابنُ يَعْمَرَ وأبو رجاءٍ بخلاف، وصحَّةُ الواوِ في هذا شاذَّةٌ من طريقِ الاستعمال، لأنّها مُتحَرِّكةٌ بعد فَتْحَةٍ، والقياسُ قَلْبُها ألِفًا فيُقال: عارَة، كما يقال: كَبْشٌ صافٌ ونَعْجَةٌ صافَةٌ ويومٌ راحٌ، وله نظائِرُ، وكُلُّ ذلك فَعِلٌ، كرجلٍ فَرِقٍ وحَذِرٍ. ومِثْلُ ((عَوِرةٍ)) في

ص: 393

عورًا: إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق. ويجوز أن تكون (عَوْرَةٌ) تخفيف عورة؛ اعتذروا أنّ بيوتهم معرّضة للعدو ممكنة للسراق؛ لأنها غير محرزة ولا محصنة، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك، وإنما يريدون الفرار. (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة. وقيل: بيوتهم، من قولك: دخلت على فلان داره. (مِنْ أَقْطارِها): من جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفًا منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها، وان ثالت على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة (الْفِتْنَةَ) أى: الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، (لأتوها): لجاؤها وفعلوها. وقرئ: (لآتوها): لأعطوها، (وَما تَلَبَّثُوا بِها): وما ألبثوا إعطاءها (إِلَّا يَسِيراً)، ريثما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحةِ واوِها قولُهم: رجلٌ عَوِزٌ لَوِزٌ، أي: لا شيءَ له، وكأنَّ عَوِرَة أسهل.

وعن بعضِهم: عَوِرَةٌ خَبرُ ((إنّ)) وهو مَصْدَرٌ في الأصلِ، فِعْلُه: عَوِرَ، وهو بمعنى: ذاتِ عَوِرَة، ويجوز أن يكونَ اسمَ فاعل أصله: عَوَرَةٌ، ثم سُكّن، ويجوزُ أن يكونَ مصدرًا في موضعِ اسمِ الفاعلِ، كَعْدلٍ بمعنى عادِل.

قولُه: (مُعَرَّضةٌ للعدو)، أعرضَ لك الخيرُ، أي: أمكَنك، وأعرَضَ لك الظَّبيُ فارْمِه؛ إذا ولاّكَ عُرْضَه، وعرَضْتُ الشيءَ فأعْرضَ، مثل: كَبْتُه فأكبَّ، وأمكَنْتُه من الشيء ومكَّنْتُه الشيء.

قولُه: (وانثالَتْ على أهاليهِم)، الجوهري: تناثل إليه الناس أي: انصبُّوا.

قولُه: (وقرئَ: {لَأَتَوْهَا})، كلّهم إلاّ نافعًا وابنَ كثيرٍ فإنّهما قرآ:((لأتَوْها)) بالقَصْرِ.

ص: 394

يكون السؤال والجواب من غير توقف، أو: وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرًا، فإن الله يهلكهم. والمعنى: أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤوهم هولًا ورعبًا؛ وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم: كونوا على المسلمين؛ تسارعوا إليه وما تعللوا بشيء، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام، وشدة بغضهم لأهله، وحبهم الكفر، وتهالكهم على حزبه.

[(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا الله مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ الله مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)] 15 - 16 [

عن ابن عباس: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل: هم قوم غابوا عن بدر، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالًا لنقاتلنّ. وعن محمد بن إسحاق: عاهدوا يوم أحد أن لا يفرّوا بعد ما نزل فيهم ما نزل. (مَسْؤُلًا): مطلوبًا مقتضًى حتى يوفى به. (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) مما لا بدّ لكم من نزوله بكم من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ((لو كَبَسوا عليهم)، أي: تغلَّبوا للإغارةِ فُجْأة. الأساس: أي: اقتَحموا عليهم وسَمِعْتُهم يقولون: أدخله بالكبس؛ إذا قَهَرَه وأذلّه.

قولُه: (نزلَ بهم ما نزل)، أي: من الهزيمةِ وقَتْلِ سَبْعين منهم وما حصَلَتْ فيهم من المُثْلَة وشَجَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكَسْرِ رَباعِيَتهِ. وذلك مِن مُخالفةِ أمْرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتَرْكِهم المركزَ ومَيْلِهم إلى الدنيا وطَلبِ الغنيمة.

قولُه: (مطلوبًا مُقْتضى)، يقال: اقتضى حَقّه، أي: تقاضاه. الأساس: تقاضَيْتُه دَيْني، وبدَيني، واقتضيتُه، واقتضَيْتُ منه حَقِّي: أخذتُه.

ص: 395

حتف أنف أو قتل، وإن نفعكم الفرار -مثلًا- فمنعتم بالتأخير؛ لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانًا قليلًا. وعن بعض المروانية: أنه مرّ بحائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب.

[(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)] 17 [

فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة، ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه: أو يصيبكم بسوٍء إن أراد بكم رحمةً، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله:

متقلّدا سيفا ورمحا

أو حمل الثاني على الأوّل؛ لما في العصمة من معنى المنع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (كيفَ جُعِلَت الرحمةُ قَرينةَ السُّوء)، يعني: أوقَعَ كلمةَ الترديدِ بين السوءِ والرحمةِ، وأدخَلَهُما تحتَ معنى العِصْمة، والعِصْمةُ لا تُناسِبُ الرحمةَ؛ إذْ لا عِصْمةَ إلاّ من السوءِ؛ أي: العذاب. وأجابَ: أنّ تقديرَ الكلام: مَنْ ذا الذي يعصِمُكم منْ عذابِ الله إن أرادَ بكم سوءًا؟ أو: مَنْ ذا الذي يُصيبُكم بسوءٍ إنْ أراد بكُم رَحْمة؟

قولُه: (مُتَقلِّدًا سيفًا ورمحا)، أوّلُه:

يا ليت زوْجَك قد غدا

ويروي: ((في الوغى))؛ أي: حاملا ومُعْتَقِلا.

قولُه: (أو حُمِلَ الثاني على الأولِ لِما في العِصْمةِ مِن معنى المنع)، قال صاحب ((المطلع)): كأنّه قيلَ: مَنْ الذي يمنَعُكم من أحدِهما إن أراده بكم؟ وقلتُ: أو المعنى: مَنْ الذي

ص: 396

[(قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَاتُونَ الْبَاسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَاتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً)] 18 - 20 [

(الْمُعَوِّقِينَ): المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون؛ كانوا يقولون (لِإِخْوانِهِمْ) من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم و (هَلُمَّ إِلَيْنا) أى: قربوا أنفسكم إلينا. وهي لغة أهل الحجاز؛ يسؤون فيه بين الواحد والجماعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعصِمُكم من الله إن أرادَ بكم سُوءًا ومَن الذي يَمنعُ رحْمةَ الله منكم إن أراد بكم رحمة؟

وقرينةُ التعدِّي ما في {يَعْصِمُكُم} من معنى المَنْع.

قولُه: (أكَلَةُ رأس)، أي: قليلون يُشْبِعُهم رأسٌ واحد.

قولُه: (لالتَهمَهُم)، الأساس: التَهمَ الشيءَ: ابتلَعَه، والتَهم الفصيلُ ما في ضَرْعِ أمه: اشتَفْه، بالشينِ المعْجَمة؛ مِن: اشتَفَّ ما في الإناء.

قولُه: (وهي لغة أهل الحجاز؛ يُسَوّون فيه بين الواحد والجماعة)، قال مَكِّي: وغَيْرُ أهلِ الحجازِ يقولون: هلمّوا للجماعة، وهَلُمِّي للمرأة، وأصلُ هَلُمَّ: ها الممْ، ها: للتنبيه، والمُمْ: اقصُدْ وأقْبِل، فكَثُرَ الاستعمالُ فحُذِفَتْ ألِفُ الوصلِ لمّا تَحرَّكَتِ اللامُ لضّمةِ الميمِ عندَ الإدغامِ فصارَ: ها لُمَّ، فحُذِفَتْ ألفُ ((ها)) لسكونِها وسكونِ اللامِ بعْدَها، لأنّ حركَتها عارضةٌ، فاتَّصلَت الهاءُ باللام، وفُتِحَت الميمُ لالتقاءِ السَاكنَيْن، نحو: رَدَّ وصَدَّ.

ص: 397

وأمّا تميم فيقولون: هلمّ يا رجل، وهلموا يا رجال، وهو صوت سمى به فعل متعدّ، مثل: احضر وقرب، (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ)] الأنعام: 15 [. (إِلَّا قَلِيلًا): إلا إتيانًا قليلًا يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئًا قليلًا إذا اضطرّوا إليه، كقوله: (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا)] الأحزاب: 20 [، (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف، (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت؛ حذرًا أو خورًا ولواذًا بك، (فإذا ذهب الخوف) وحيزت الغنائم ووقعت القسمة: نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير -وهو المال والغنيمة- ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترءوا عليكم، وضربوكم بألسنتهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (يتَرفْرَفون)، الأساس: ومنَ المجازِ: رَفْرفَ على ولدِه: إذا تحنّى عليه، فقولُه:((يتَرفْرفون)) تفسيرٌ لقوله: ((ضَنّاً بكم))، أي: يوهِمون أنّهم مُشْفِقون عليكم بُخَلاءُ بأنفُسِكم أنْ تقعَ في التهلُكَة.

الجوهري: ضَنَّ بالشيءِ: إذا بَخِلَ به. أي: يتملَّقونَ للمؤمنينَ الذين يذبُّون؛ عنهم؛ ضَمَّنَ {أَشِحَّةً} معنى: رَفْرَفَ عليه، أي: تَملَّق، وعَدِّي تَعْدِيتَه، فالضميرُ في ((عنه)) و ((دونه)) راجعٌ إلى الرجُل أو إلى الموصولِ وهو الألِفُ واللامُ في الذابِّ والمناضلِ، فإذن المعنى إذا أتَوُا البأسَ تملَّقوا وأظهَروا الشفقةَ عليكُم كما يترَفْرفُ الطائرُ ليقَعَ على الشيء، وإذا حصَلوا في الخوفِ نظَروا إليك نَظَرَ المَغْشيِّ عليه من الموت لتذبّوا عنهم، ثُمَّ إذ حصَلَتْ قِسمةُ الغنائم نَقلوا ذلك التملُّقَ إلى القولِ الغليظِ طالبين المَال، ونَسُوْا تلك الحالةَ، وإليه الإشارةُ بقولِه:((نقلوا ذلك الشُّحَّ)) إلى آخرِه.

قولُه: (وخَوَراً)، أي: رخاوة، الأساس: ومنَ المجازِ: رجلٌ خَوَّارٌ جَبان.

قولُه: (ضربوكم بألسنتهم)، هو بمعنى {سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ}. قال الزجاج: معنى {سَلَقُوكُم} : خاطَبوكم أشدَّ مخاطبة وأبلغَها في الغنيمةِ، يقال: خطيبٌ مِسلاقٌ وسَلاّقٌ؛ إذا كان بليغًا في خُطْبتِه.

ص: 398

وقالوا: وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوّكم، وبنا نصرتم عليه. ونصب (أَشِحَّةً) على الحال، أو على الذمّ. وقرئ:(أشحة) بالرفع، و (صلقوكم) بالصاد. فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا، ولكنه تعليم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدى عليه، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل. وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره؛ وهو الإيمان الصحيح،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ونُصِبَ {أَشِحَّةً} على الحال)، قال أبو البقاء:{أَشِحَّةً} الأولى حالٌ من الضميرِ في {وَلَا يَاتُونَ} ، والثاني من الضميرِ المرفوعِ في {سَلَقُوكُم}. وقال مكِّي: الصحيحُ أنَّ {أَشِحَّةً} ، و {وَلَا يَاتُونَ} حالٌ من الضميرِ في {وَاَلْقَائِلِينَ} ، وكذلك إنْ جَعَلْتَهما جميعًا حالَيْن من المُضْمَرِ في {وَاَلْقَائِلِينَ} ويجوزُ نَصْبُه على الذمِّ. وقيل:{يَنظُرُونَ} حالٌ من الضميرِ في {رَأَيْتَهُمْ} ، و {تَدُورُ} حالٌ من الضميرِ في ((ينظرون كالذي)) أي: دورانًا كدَورانِ عينِ الذي، ويجوزُ أن يكونَ الكافُ حالاً من أعيُنهِم أي مُشْبِهةً عينَ الذي.

قولُه: (و ((صَلَقوكم)) بالصاد، وأنشد صاحبُ ((المطلع)):

فصَلَقْنا في مُرادٍ صَلْقةً

وصُداءٍ ألحَقَتْهُم بالثَّلَل

الثَّلَل: الهلاكُ. والصَّلْقةُ: الصّدْمَة أيضًا والواقعة المنكرة.

قولُه: (وفيه بَعْثٌ على إتقان المكلَّفِ أساسَ أمرِه)، يريدُ أنّ إحباطَ العملِ إنما يُتَصَّوُر

ص: 399

وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس، وأنها مما يذهب عند الله هباًء منثورًا. فإن قلت: ما معنى قوله: (وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً) وكل شيء عليه يسير؟ قلت: معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف. (يَحْسَبُونَ) أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا وُجِدَ هناك عَملٌ والمنافِقُ لا عَمَلَ له حتى يُحْبَطَ، لكنَّ ورودَ هذا الأسلوبِ على التعريضِ بمَنْ له عَملٌ والحثِّ له على الاحتياطِ والإتقانِ فيه لئلاّ يؤولَ إلى الإحباطِ كقولهِ تعالى:{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فُصِّلت: 6 - 7]، وليسَ من المشركين مَنْ يُزَكّي، ولكنْ حَثَّ المؤمنينَ على أدائِها لأنّ المنْعَ مِن صفةِ المُشركين فلا يَنْبغي للمؤمنِ أن يتَّصفَ به.

ومسألةُ الإحباطِ سَبَق في أولِ ((البقرة))، قال القاضي:{فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} : فأظهَر بطلانَها إذ لم تَثْبُتْ لهم أعمالٌ فتَبْطل، أو أبطَل صنيعَهم ونِفاقَهم.

قولُه: (معناهُ: أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بالإحباط تدعو إليه الدواعي)، يريدُ أنّ قولهُ تعالى:{كَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} كنايةٌ عن هذا المعنى، كما أنّ الناسَ إذا عَقَدوا هِمَمَهم على حصولِ أمرٍ بَعيدِ المَنالِ واهتَمُّوا به قيل لهم تَسلّيًا: وما ذلك على الله بعزيز. قال القاضي: {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} هيّناً لتعلُّقِ الإرادةِ به وعَدَمِ ما يَمْنَعُه عنه. وقال صاحبُ ((التقريب)): لا يخافُ اعتراضًا عليه.

قولُه: (فانصرَفوا عن الخندقِ إلى المدينة راجعين)، ليس في ((المعالم)) ولا في

ص: 400

المفرط. (وَإِنْ يَاتِ الْأَحْزابُ) كرّة ثانية -تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة- أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب (يَسْئَلُونَ) كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم، (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة. وقرئ:(بدّى) على فعّل جمع باد، كغاٍز وغزّى. وفي رواية صاحب "الإقليد":(بديا)، بوزن: عدىّ. و (يساءلون)، أى: يتساءلون. ومعناه: يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو: يتساءلون الأعراب، كما تقول: رأيت الهلال وتراءيناه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((الوسيط)) هذا. لعلّ ذلك نشَأَ له من فِعْل الحُسْبانِ؛ إذْ لو لم يَغيبوا عن الخندق لم يَحْسِبوا ذلك، وهو ضعيف.

قولُه: (مِمّا مُنوا)، أي: ابتُلوا، الجوهري: مَنْوتُه ومَنْيتُه؛ إذا ابتلَيْتَه.

قولُه: (ولم يرجِعوا إلى المدينة)، أي: منَ الخندقِ إلى المدينةِ، يدلّ عليه قولُه:((فانصرَفوا من الخندقِ إلى المدينة)).

قولُه: (تَعِلّة)، الجوهري: عَلَّلَه بالشيءِ، أي: ألهاهُ كما يُعَلَّلُ الصبيُّ بشيءٍ من الطعام يَتجزّأ به عن اللبن. النهاية: ومنه حديثُ أبي حَثْمةَ يصِفُ التَّمْر: ((تَعِلّةُ الصبي)) أي: ما يُعلَّلُ به الصبيُّ ليسكت.

قولُه: (وقُرِئ: ((بُدًّى)))، قال ابن جِنّي: وهيَ قراءةُ ابنِ عَبّاس: ((بُدّى)) شديدة الدالِ مُنَوَّنةٌ، جَمْعُ بادٍ، كغُزّى جَمْعُ غازٍ، على فُعَّلٍ، ولو كان على فَعَّالٍ لكانَ بُدّاءً وغُزّاءً، ككتابٍ وكُتَّابٍ، وضارِبٍ وضُرَّاب.

قولُه: (كما تقولُ: رأيتُ الهلالَ وتَراءَيْناه)، يريدُ أنَّ ((يتساءلون)) بمعنى: يَسْألون، قال: سمِعْتُ العربَ تقولُ: تباصَرْتُه، أي: أبصَرْتُه.

ص: 401

[(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)] 21 [

كان عليكم أن تواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب، حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه. فإن قلت: فما حقيقة قوله: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، وقرئ:(أسوة) بالضم؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة حسنة، أى: قدوة، وهو الموتسى به، أى: المقتدى به، كما تقول: في البيضة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فتُؤازِروه)، النهاية: يقال: آزَرَه وأَزَّره: إذا أعانَه وأسْعَده، من الأَزْرِ: القُوَّةِ والشِّدة.

قولُه: (وفي مَرْحى الحرْب)، النهاية: قال سُليمان بن صُرَد: ((أتيتُ عَلِيًّا حين فرغَ مِنْ مَرْحى الحرب)). المرحى: الذي دارَتْ عليهِ رحى الحرب، يقال: رحَيْتُ الحرْبَ ورَحْوُتها إذا أدَرْتَها.

قوله: (وقُرئ: {أُسْوَةٌ} بالضمِّ) عاصمٌ، والباقونَ: بالكَسْر.

المُغْرِب: يُقالُ: آسَيْتُه بما لي؛ أي: جَعلْتُه أُسْوةً أقتدي به ويَقْتدي هُو بي، وواسَيْتُ: لغةٌ ضعيفة، وإليه الإشارةُ بقولِه:((كانَ عليكمُ أن تُواسوا الله بأنفُسِكم كما آساكُم بنَفْسِه في الصبرِ على الجهاد)).

قولُه: (أنّه في نفسِه أُسْوَةٌ حَسَنة)، أي: أنّه من بابِ التجريدِ، جُرِّدَ مِنْ نَفسِه الزكيةِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ قُدوةً، وهي هو. وأنشد أبو عليّ:

ص: 402

عشرون منا حديٍد، أى: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع؛ وهي المواساة بنفسه. (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله) بدل من (لكم)، كقوله:(لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)] الأعراف: 75 [، (يرجو الله واليوم الآخر): من قولك: رجوت زيدًا وفضله، أى: فضل زيد، أو: يرجو أيام الله واليوم الآخر خصوصًا. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف، (وَذَكَرَ الله كَثِيراً): وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أفاءت بنو مروانَ ظُلْمًا دِماءَنا

وفي الله إن لم يحكموا حكَمٌ عَدْلُ

قال ابنُ جِنّي: وهو تعالى أعرَفُ المعارفِ، وقد سَمّاهُ الشاعرُ حكَمًا عَدْلاً، وأخرجَ اللفظَ مُخْرَجَ التنكيرِ والمآلُ إلى معنى التعريف، ومنه قولك: لئِنْ لقِيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لتلقَيَنَّ منه رجلاً مُتناهيًا في الخيرِ ورسولاً جامعًا لسُبُلِ الفَضْلِ، فقد آلَتْ به الحالُ إلى معنى التجريد.

قولُه: ({لِّمَن كَانَ يَرْجُو} بدَلٌ من {لَكُمْ}) قال أبو البقاء: منعَ منه الأكثرون، لأنّ ضميرَ المُخاطَبِ لا يُبدَلُ منه، فعلى هذا يجوزُ أن يَتَعلَّقَ بـ {حَسَنَةٌ} أو يكونَ نعتًا لها، ولا يَتَعلَّقُ بـ {أُسْوَةٌ} ، لأنّها قد وُصِفَت. قال صاحب ((التقريب)):{لِّمَن} بدَلٌ مِن {لَكُمْ} بَدَلَ بعضٍ أو اشتمالٍ، إذِ المُظْهَرُ لا يُبدَلُ من المُخاطَبِ بدَلَ الكلّ.

قولُه: ({يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} من قولك: رَجوْتُ زيدًا وفَضْلَه)، أي: هو من بابِ: أعجَبني زيدٌ وكَرُمه، على تقديرِ: يرجو اللهَ وثوابَه، فوُضِعَ اليومُ الآخِرُ مَوْضِعَه، لأنّ ثوابَ الله يَقعُ فيه، وهو من إطلاقِ اسمِ المحلِّ على الحالِّ، وعليه قولُه تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] أي: في الجنّة. والوجهُ الثاني: من بابِ عَطْفِ العامِّ على الخاصّ. قال صاحب ((الفرائد)): يُمكنُ أن يكونَ التقديرُ: يرجو رحْمةَ الله تعالى أو رِضا الله وثوابَ اليومِ الآخر.

ص: 403

والمؤتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان كذلك.

[(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً)] 22 [

وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه، ويستنصروه في قوله:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)] البقرة: 214 [فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ)، وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعًا أو عشرًا، أى: في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء. (إِيماناً) بالله وبمواعيده (وَتَسْلِيماً) لقضاياه وأقداره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (والمُؤْتسي)، هو المبتدأُ، والخبرُ ((مَنْ كان كذلك))، والجملةُ معطوفةٌ على جملة:((قَرَنَ الرجاءَ بالطاعاتِ الكثيرةِ))، المعنى: مَنْ كان مُقْتديًا بسُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومُقْتفيًا آثارَه يَنْبغي أن يخافَ اليومَ ويتوفَّرَ منَ الأعمالِ الصالحة.

قولُه: (وعدَهم اللهُ أن يُزَلْزَلوا حتى يَسْتغيثوه)، تفسيرٌ لقولِه تعالى {لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22]. قال الزجّاج: الوعْدُ في قولِه: {وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، وهو قولُه تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. ولمّا ابتُلِيَ أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وزُلْزِلوا زلزالاً شديدًا علِموا أنّ الجنّة والنصرَ قد وَجبا لهم.

قولُه: (وشُخِصَ بهم)، الأساس: ومِنَ المجازِ: شُخِصَ بفُلانٍ: إذا ورَدَ عليه أمرٌ أقْلَقه.

قولُه: ({إيمَانًا} بالله)، مفعولٌ له، أي: قالوا هذا مُشيرينَ إلى الخَطْبِ أو البلاءِ إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائِه وَقَدرِه.

ص: 404

[(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ الله قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَاسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)] 23 - 27 [

نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، رضى الله عنهم، (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يعنى حمزة ومصعبًا، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) يعنى عثمان وطلحة. وفي الحديث:«من أحب أن ينظر إلى شهيٍد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» . فإن قلت: ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (نَذَر رجالُ من الصحابةِ أنّهم إذا لَقُوا حَربًا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثَبَتوا وقاتلوا)، روَيْنا عن البُخاريِّ ومُسلِمٍ والتِّرمذِّي عن أنسٍ: قال عمِّي أنسُ بنُ النَّصْرِ- سُمِّيتُ به، لم يشهَدْ بدرًا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكَبُرَ عليه- فقال: أوّلُ مشهدٍ شَهِدَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غِبتُ عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسولِ صلى الله عليه وسلم بعْدُ ليرَيَنَّ اللهُ ما أصنَعُ. قال: فهابَ أن يقولَ غيرَها، فشهِدَ معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوْمَ أحُدٍ منَ القابلِ، فاستقبَلَه سعْدُ بن مُعاذ فقال له أَنسٌ: يا أبا عَمْروٍ، أيْنَ؟ ثم قال: واهاَ لريحِ الجنَّة أجِدُها دونَ أحُد، فقاتلَ حتّى قُتِل، فوُجِدَ في جَسَدِه بِضْعٌ وثمانونَ؛ مِنْ ضَربةٍ وطَعْنةٍ ورَمْيةٍ. قالت عَمَّتي الرُّبَيِّعُ بنتُ النَّضْر: فما عرفْتُ أخي إلا ببَنانِه، ونزلَتْ هذه الآيةُ:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} [الأحزاب: 23].

ص: 405

قضاء النحب؟ قلت: وقع عبارة عن الموت؛ لأنّ كل حى لا بدّ له من أن يموت، فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أى: نذره. وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يحتمل موته شهيدًا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فما حقيقة قوله: (صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ)؟ قلت: يقال: صدقنى أخوك وكذبني؛ إذا قال لك الصدق والكذب. وأمّا المثل: "صدقنى سنّ بكره" فمعناه: صدقنى في سن بكره، بطرح الحار وإيصال الفعل؛ فلا يخلو (ما عاهَدُوا الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ويحتَمِلُ وفاءَه بنَذْرهِ منَ الثباتِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه حَزازة، لأنّه لما أجابَ عن معنى قَضاءِ النَّحْبِ بأنّه كِنايةٌ عن الموتِ لم يحسُنْ هذا التقسيم.

الراغب: النَّحْبُ: النَّذْرُ المحكومُ بوجوبه، يُقال: قضى فلانٌ نَحْبَه؛ أي: وَفّى بنَذْرهِ قال تعالى {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} [الأحزاب: 23]، ويُعَبَّرُ به عَمَّنْ مات كقَوْلِهم: قضى أجلَه، واستَوْفى أُكْلَه، وقَضى من الدنيا حاجتَه. والنحيبُ: البكاءُ الذي معه الصوت.

قولُه: ((استَوْفى أُكْلَه)): كنايةٌ عن انقضاءِ الأجلِ، والأُكْلُ: اسمٌ لما يُؤكَلُ، بضَمِّ الكافِ وسُكونِه، ويُعَبَّرُ به عن النصيبِ، يقال: فُلانٌ ذو أُكلٍ من الدنيا.

قولُه: (صَدَقَني سِنَّ بَكْرِه)، قال الميداني: البَكْرُ: الفتيُّ من الإبلِ، يُقال: صدَقْتُه الحديثَ وفي الحديث، يُضْرَبُ مثلاً في الصدق. وأصْلُه: أنّ رجلاً ساومَ رجُلاً في بَكْرٍ فقال: ما سِنُّة؟ فقال صاحبُه: بازِلٌ، ثم نَفَر البَكْرَ له صاحبه: هِدَعْ هِدَعْ، وهذه لفظةٌ تُسَكَّنُ بها الصِّغار من الإبلِ، فقال المُشتري: صَدقني سِنَّ بَكْرِهِ، ونُصِبَ على معنى: عَرَّفَني سِنَّ بكره ويجوزُ أن يُقالَ: صَدَقَني خَبَرَ سِنٍّ، ثم حَذفَ المُضافَ، ويُروي:((صَدَقني سِنُّ)) بالرفعِ،

ص: 406

عَلَيْهِ) إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقًا على المجاز، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفى بك، وهم وافون به؛ فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه، ولكان مكذوبًا، (وَما بَدَّلُوا) العهد ولا غيروه، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، ولقد ثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحٍد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أوجب طلحة» ، وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جَعل الصِّدْقَ للسنِّ توسّعًا، وعليه قولُ المصنِّف:((أن يُجْعلَ المُعاهَدُ عليه مَصْدوقًا على المجاز)).

قولُه: (أوجَبَ طلحة)، النهاية: في الحديثِ: مَنْ فعلَ كذا وكذا فقَد أوْجَبَ، يُقال: أوجَبَ الرجلُ: إذا الرجلُ: إذا فَعل فِعْلاً أوجَبَ له الجنّةَ أو النار.

قولُه: (وفيه تَعْريضٌ بمَنْ بَدّلوا من أهلِ النفاق)، أيْ: في قولِه تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} ، كأنّه قيلَ: من المؤمنينَ رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا عليه وما بَدَّلوا تبديلاً ليَجْزِيَهم الله بصِدْقِهم، ومن المنافقينَ رجالٌ كذَبوا ما عاهدوا الله وبَدّلوا تبديلاً ليُعذِّبَهم، فوضَعَ موضِعَ الضميرَيْن المُظْهَرَيْن؛ للإيذانِ بأنّ استحقاقَ كلٍّ بسَببِ عَمَلِه، فاللامُ المُقدَّرُ في ((ليُعَذّبَهم)) مَجازٌ للعاقبة، وهاهُنا طريقٌ أسْهَلُ مأخذًا، وأبْعَدُ من التعسُّفِ، وأقربُ إلى المقصود وهو أن تُعَلَّقَ اللامُ بمعنى قوله:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} ، كأنه قيلَ: إنّما ابتلاهُم اللهُ برؤيةِ ذلك الخَطْبِ المشارِ إليه ((بهذا)) - كما قال: (({هَذَا} إشارةٌ إلى الخَطْبِ أو إلى البلاءِ)) - ليَجْزِيَ الصادقينَ بصِدْقِهم ما لا يدخُلُ تحْتَ الوَصْفِ والعَدِّ، ويُعَذِّبَ المُنافقين، كما سَبق مِثْلُه في قولِه تعالى:

ص: 407

ومرض القلوب؛ جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم؛ لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعى لتحصيلهما. ويعذبهم (إِنْ شاءَ) إذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إذا تابوا، (وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا) الأحزاب (بِغَيْظِهِمْ) مغيظين، كقوله:(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)] المؤمنون: 20 [. (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) غير ظافرين، وهما حالان بتداخل أو تعاقب، ويجوز أن تكون الثانية بيانًا للأولى أو استئنافًا، (وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ) ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب، (مِنْ صَياصِيهِمْ): من حصونهم. والصيصية: ما تحصن به، يقال لقرن الثور والظبى: صيصية، ولشوكة الديك؛ وهي مخلبه التي في ساقه؛ لأنه يتحصن بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب: 8] قال: (({وَأَعَدَّ} عَطْفٌ على {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ}؛ لأنّ المعنى: أنّ اللهَ أكّد على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينهِ لأجلِ إثابةِ المُؤمنين وأعَدَّ للكافرين .... )).

وفي كلامِ أبي البَقاء إشعارٌ بهذا حيث قال: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ} يجوزُ أن تكونَ لامُ العاقبة، وأن تَتعلَّقَ بـ {صَدَقُوا} أو بـ {زَادَهُمْ} أو بـ {مَا بَدَّلُوا} . وعلى الزجَّاج بـ {صَدَقُوا} .

قولُه: (بتداخُلٍ أو تعاقُب)، التداخلُ: أن يُعْمِلَ الحالَ الأولى في الثانية ويكونُ الحالانِ لشَيْئين لفظًا، والتعاقُبُ: أن يكونا لشيءٍ واحد.

قولُه: ({كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالريحِ والملائكة)، الراغب: الكفايةُ: ما فيه سَدُّ الخَلَّةِ وبلوغُ المرادِ في الأمرِ، والكُفْيةُ من القُوت: ما فيه كِفاية.

ص: 408

روي أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال:"ما هذا يا جبريل؟ " فقال: من متابعة قريش. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه، فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالسير إلى بنى قريظة، وأنا عامد إليهم، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة، فأذن في الناس: أن "من كان سامعًا مطيعًا فلا يصل العصر إلا في بنى قريظة"، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم خمسًا وعشرين ليلةً حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تنزلون على حكمى؟ " فأبوا، فقال:"على حكم سعد بن معاذ؟ " فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «لقد حكمت بحكم الله من فوق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ورُويَ أنّ جِبريل أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، الحديث مِنْ روايةِ البُخاريِّ ومُسلمٍ عن عائشةَ رضي الله عنها: فلما رَجَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منَ الخندقِ ووضعَ السِّلاحَ واغتَسل، أتاه جبريلُ عليه السلام وهو ينفُضُ رأسَه من الغُبار فقال: ((قد وضَعْتَ السلاحَ! والله ما وضَعْتُه، اخرُجْ إليهم)). فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فأين؟ )) فأشارَ إلى بَني قُريظَةَ فأتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حُكْمه، فَردَّ الحُكْمَ إلى سعدٍ. قال: فإني أحكُمُ فيهم أن تُقْتَلَ المُقاتِلةُ وتُسبي النساءُ والذُّريّةُ وأن يُغْنَم أموالهُم))، وزادَ في رواية: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد حَكَمْتَ فيهم بحُكْمِ الله))، وفي رواية:((بحُكْمِ المَلِك)).

ص: 409

سبعة أرقعة»، ثم استزلهم، وخندق في سوق المدينة خندقًا، وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمان مئة إلى تسع مئة، وقيل: كانوا ست مئة مقاتٍل وسبعمئة أسير. وقرئ: (الرعب) بسكون العين وضمها. و (تأسرون) بضم السين.

وروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال:"إنكم في منازلكم"، وقال عمر رضى الله عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: "لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس"، قال: رضينا بما صنع الله ورسوله. (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) عن الحسن رضى الله عنه: فارس والروم. وعن قتادة رضى الله عنه: كنا نحدث أنها مكة. وعن مقاتل رضي الله عنه: هي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (سَبْعةِ أرْقِعَة)، جاءَ على لفظِ التذكيرِ كأنه ذهبَ إلى السقف.

النهاية: يعني سَبْعَ سماواتٍ، كلُّ سماءٍ يُقال لها: رَقيع، والجَمْعُ أرْقِعَة، ويقال: الرقيعُ: اسمُ سماءِ الدنيا، فأُعْطيَ كلُّ سماءٍ اسْمَها.

قولُه: (خَنْدَقَ)، أي: حَفَرَ.

قولُه: (من ثمانِ مئة إلى تسعِ مئة)، أي: هم كائنونَ من بين ثمان مئةِ رأسٍ إلى منتهى تسع مئةٍ، لا ينقُصون مِن ذلك، ولا يزيدونَ على هذا.

قولُه: (وقُرِئ: {الرُّعْبَ} بسكونِ العَيْنِ وضَمِّها)، بالضمِّ: ابنُ عامرِ والكِسائيُّ، والباقون: بالسكون.

قولُه: (فقالَ الأنصارُ في ذلك)، أي: في شأنِه وأمْرِه.

ص: 410

خيبر. وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)] 28 - 29 [

أردن شيئًا من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة، وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، فبدأ بعائشة رضى الله عنها، وكانت أحبهنّ إليه، فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤى الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها، فشكر لهنّ الله ذلك؛ فأنزل:(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ)] الأحزاب: 52 [.

روى: أنه قال لعائشة: "إنى ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك"، ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفى هذا أستأمر أبوىّ؟ ! فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وروى: أنها قالت: لا تخبر أزواجك أنى اخترتك، فقال: "إنما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فشكَر لهنَّ الله)، أي: حَمِدَ اللهُ على اختيارِهن الرسولَ صلى الله عليه وسلم، ووعَدَ لُهنَّ تَضْعيفَ الأجْرِ والرزقِ الكريم.

قولُه: (رُويَ أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((إنّي ذاكرٌ لك أمرًا)))، الحديث، أخرجَه البُخاريُّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه عنها مع تغييرٍ يسيرٍ في اللَّفظ.

قولُه: (ورُوِيَ أنها قالت: لا تُخبر أزواجَك)، هذه الروايةُ في ((مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل)) زائدةٌ على الحديثِ الأوّلِ ومُتَّصلةٌ به، قالت: وأسأَلُك أنْ لا تذكُر لامرأةٍ من نسائِك

ص: 411

بعثني الله مبلغًا ولم يبعثني متعنتًا". فإن قلت: ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت: إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، أو قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، لا بد من ذكر النفس في قول الخير أو المخيرة؛ وقعت طلقة بائنة عند أبى حنيفة وأصحابه، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، واعتبر الشافعي رحمه الله اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية، وهو مذهب عمر وابن مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري رضى الله عنهم: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره، وإذا اختارت زوجها؛ لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار. وعن عائشة رضى الله عنها: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقًا. وروى: أفكان طلاقا؟ وعن علىّ رضى الله عنه: إذا اختارت زوجها: فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها: فواحدة بائنة. وروى عنه أيضًا: أنها إن اختارت زوجها فليس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما اختَرْت، فقال:((إنّ الله لم يبعَثْني مُعنِّفًا، ولكنْ بعَثَني مُعلِّمًا مُيسِّراً، لا تسألنَّ امرأةٌ عما اختَرْتِ إلا أخبرتُها)).

أوقَعَ ((مُتعنِّتاً)) مقابِلاً لقولِه: ((مُبلِّغاً))، فيجبُ التطابقُ بينهما من جهةِ التضاد. والتعنُّتُ: تَفعُّلٌ من العَنَتِ، أي: الفسادِ والمشقَّة والهلاكِ والإثْمِ والخطأ. والتفعُّلُ والاستفعالُ يَلْتقيانِ في مواضعَ، يُقال: تعجَّلْتُه وتقصَّيْتُه واستقصَيْته، والنبيُّ ما بُعِثَ لطلبِ ذلك وإنَّما بُعِثَ لزَفْعِها وإزالتِها.

المُغِرب: أعْنتَه إعناتًا: أوقَعَه في العَنَتِ فيما شقَّ عليه، ومنه: تَعنَّتَه في السؤالِ إذا سأله على جهةِ التلبيسِ عليه، والتلبيسُ ممّا يُنافي الإبلاغ.

قولُه: (إذا اختارَتْ زوجَها فواحدةٌ رجْعِيةٌ وإن اختارَتْ نَفْسَها فواحدةٌ بائنة)، قال القاضي: تعليقُ التسريحِ بإرادتِهنَّ الدنيا وجَعْلُها قسيمًا لإرادتِهنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أن

ص: 412

بشيء. أصل "تعال": أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطئ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة. ومعنى "تعالين": أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ، كما تقول: أقبل يخاصمني، وذهب يكلمني، وقام يهددنى. (أُمَتِّعْكُنَّ): أعطكنّ متعة الطلاق. فإن قلت: المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت: المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد، متعتها واجبة عند أبى حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة. وعن الزهري: متعتان، إحداهما: يقضى بها السلطان: من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها. والثانية: حق على المتقين: من طلق بعد ما يفرض ويدخل. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة، فقال: متعها إن كنت من المتقين، ولم يجبره. وعن سعيد بن جبير: المتعة حق مفروض. وعن الحسن: لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة. والمتعة: درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتدار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك، فيجب لها الأقل منهما. ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم، فلا ينقص من نصفها. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: (أمتعكنّ وأسرحكنّ) بالرفع؟ قلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المُخَيَّرَة إذا اختارَتِ الزوجَ لم تطلُقْ خِلافًا لزيدٍ والحسنِ ومالكٍ وإحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه، يؤيِّدُه قولُ عائشةَ رضي الله عنها: خَيَّرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاختَرْناه، ولم يَعُدَّه طلاقًا. وتقديمُ التمتيع على التسريحِ المسبَّبِ عنه من الكَرَمِ وحُسْنِ الخلق.

قولُه: (المُطلَّقةُ التي لم يُدْخَلْ بها ولم يُفْرَضْ لها في العَقْدِ مُتْعتُها واجبةٌ عند أبي حنيفة)،

قال القاضي: ليس في الكلام ما يدلُّ عليه.

قولُه: (وعن الزُّهْريِّ مُتْعتان)، هما مبنيتان على ما في ((البقرة)) مِنْ قَوْلِه {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] بعد قوله {لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ

ص: 413

وجهه الاستئناف (سَراحاً جَمِيلًا) من غير ضراٍر طلاقًا بالسنة. (مِنْكُنَّ) للبيان لا للتبعيض.

[(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً)] 30 - 31 [

الفاحشة: السيئة البليغة في القبح، وهي الكبيرة. والمبينة: الظاهر فحشها، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر. وقيل: هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنّ، وطلبهن منه ما يشق عليه، أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله. وقيل: الزنا، والله عاصم رسوله من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك، وإنما ضوعف عذابهنّ؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح؛ لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصى، وليس لأحٍد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وكون الجزاء عقابًا يتبع كون الفعل قبيحًا، فمتى ازداد قبحًا ازداد عقابه شدّة؛ ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم أشدّ منه للعاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح؛ ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد، حتى إن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً) إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئًا، وكيف يغنى عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب؟ فكان داعيًا إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارٍف عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]، قال سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري: المتعةُ واجبةٌ لكل مُطَلَّقة وفَرَّقَ هاهنا بين الواجبَيْن بأن قال في الأول: ((يقضي به السلطان))، أي: يُجبِرُ عليه، وفي الثاني:((حَقٌّ على المتَّقين))، وأتْبَع ذلك حُكْمَ شُرَيْحٍ:((مَتِّعْها))، ولم يُجبره.

ص: 414

قرئ: (يأت) بالتاء والياء، (مبينة) بفتح الياء وكسرها؛ من بين بمعنى تبين، (يضاعف) و (يضعف) على البناء للمفعول، و (يضاعف)، و (نضعف) بالياء والنون. وقرئ:(تقنت)(وتعمل) بالتاء والياء. و (نؤتها) بالياء والنون. والقنوت: الطاعة، وإنما ضوعف أجرهنّ؛ لطلبهنّ رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وطيب المعاشرة، والقناعة، وتوفرهنّ على عبادة الله، والتقوى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقُرئ: {يَاتِ} بالتاء والياء)، بالياءِ التحتانية: سَبْعة، والتاء: شاذة.

قولُه: ({مُّبَيِّنَةٍ}، بفتحِ الياءِ)، ابنُ كثيرٍ وأبو بكرٍ، والباقون: بكَسْرِها.

قولُه: ({يُضَاعَفْ} و ((يُضَعَّفْ)))، ابنُ كثيرٍ وابنُ عامرٍ: بالنون وكسر العين وتشديدها من غير ألف، ((العذابَ)) بالنَّصْب، والباقون: بفَتْحِ العين ورَفْع ((العذاب))، وشَدَّد أبو عَمْروٍ العينَ وحذفَ الألفَ قبلها، وخَفَّفها الباقون وأثبتوا الألف.

قولُه: (وقرئ: {يَقْنُتْ} {وَتَعْمَلْ})، بالياءِ التحتانية: السبعة، وبالتاءِ: شاذّة، ((ويعمل صالحًا يؤتها)) بالياء التحتانية فيهما: حمزة والكسائي، والباقون: بالتاء الفوقانية في الأول، وبالنون في الثاني.

قولُه: (إنّما ضوعف أجرُهُنّ لطلبهنّ)، ولو عَلّل بما علّل به قولَه:{مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} [الأحزاب: 30] من نحوِ قوله: لأنّ زيادةَ قُبْح المعصية مع زيادةِ الفضلِ والمرتبة، بأن يقول: كما أن العذاب لأجلِ زيادةِ الفضل، وزيادة النعمة من كونهنّ نساءَ خير البَرِيّة، كذلك مضاعفة العذاب لأجلِ ذلك؛ كان أحسَن وأشدّ التئامًا مع قوله تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ}

ص: 415

[(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا)] 32 [

"أحد" في الأصل بمعنى وحٍد، وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويًا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله:(لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ): لستن كجماعةٍ واحدةٍ من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعةً جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله قوله عز وجل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (تُقُصِّيَت)، أي: استُقصِيَت وتُتبِّعَتُ، والتقصِّي: الاستقصاءُ وهو بلوغُ الأقصى.

قولُه: (أي: إذا تُقُصِّيَت أمةُ النساء جماعةً جماعةً، لم توجَدْ منهن جماعةٌ واحدةٌ تُساويكنَّ في الفضل)، الانتصاف: أراد المطابقةَ بين المتفاضلَيِن، فإنّ نساءَ النبيِّ جماعة، وقد كان مُستغنيًا بحملِ المعنى على الوحدة ويكون أبلغ، أي: ليست واحدةٌ منكنَّ كأحدٍ، أي: كواحدةٍ من آحادِ النساء. ويلزَمُ على ما قال تفضيلُ الجماعةِ على الجماعة، ولا يلزم ذلك في عكسه فتأمله، وجاء التفصيلُ هاهنا كمجيئه في قوله تعالى:{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} [النحل: 17]، وكقوله:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى} [آل عمران: 36]، وقد مضت فيه نكته، أي: الأصلُ: أفمَنْ لا يخلقُ كمَنْ يخلق، وليس الأنثى كالذكر، وكذا هاهنا: ليسَت إحداكُنَّ نحو أحدٍ من آحادِ النساء.

وقلت: لا شكّ أن اسمَ ((ليسَ)) ضميرُ الجماعةِ، وقد حُمِلَ عليه {كَأَحَدٍ} ، وبُيِّن بقوله:{مِّنَ النِّسَاءِ} ، والتعريفُ فيه للجنس، فوجبَ حَملُ الأحدِ في هذا السياقِ على الجماعة، كما في قولِه تعالى:{فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ولو حُملَ أحدٌ على الواحدِ لزمَ التفصيلُ بحسب الوُحْدان، ويرجع ذلك إلى تفضيلهنَّ عليهن على واحدٍ واحدٍ من النساء، ولا ارتيابَ في بُطلانِه. وأمّا تأويلُه بقولِه:((ليست واحدةٌ منكنّ)) فخلاف

ص: 416

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)] النساء: 152 [يريد بين جماعةٍ واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين. (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ): إن أردتن التقوى، وإن كنتن متقيات. (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ): فلا تجبن بقولكن خاضعًا، أي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الظاهر، وأمّا قولُه:((يلزَمُ تفضيلُ الجماعةِ على الجماعة ولا يلزم ذلك في عكسِه)) فجوابه: أنَّ تفضيل كلِّ واحدٍ واحدٍ منهنَّ يعُلَمُ من دليلٍ آخرَ، إما عقليٌّ أو نَصّ، مثل:((ونساؤه أمهاتكم)) وغيره.

الراغب: أحدٌ تُستعملُ على ضربَيْن: أحدُهما: في النفي فقط، وهو لاستغراق جنسِ الناطقين ويتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق، نحو: ما في الدار أحد، أي: واحد ولا اثنان فصاعدًا لا مجتمعَيْن ولا مُفترقَيْن، وهذا المعنى لم يصلُح استعمالُه في الإثبات، لأنَّ نفْيَ المُتضادّين يصحُّ ولا يصحُّ إثباتهما، فلو قيل: في الدارِ أحدٌ لكان فيها إثباتٌ واحدٍ منفردٍ مع إثباتِ ما فوق الواحدِ مُجتمعِين ومُتفرِّقين، وذلك ظاهر الإحالة، ولتناولِه ما فوقَ الواحدِ يصحُّ أن يقال: ما من أحد فاضلين كقوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47].

وثانيهما: في الإثبات، وهو على ثلاثةِ أوجه: أحدُها: في الواحدِ المضموم إلى العَشرات نحو أحد عشر. وثانيها: أن يُستعملَ مُضافًا أو مُضافًا إليه، كقوله تعالى {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41] وقولهم: يوم الأحد، أي الأول. وثالثها: أن يستعمل مطلقًا وصفًا وليس ذلك إلا في وصف الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وأصله: وَحَد، لكن وَحَد يُسْتعملُ في غيره. قال النابغة:

كأنَّ رحلي وقد زال النهارُ بِنا

بذي الجليل على مستأنسِ وَحِد

قولُه: ({إنِ اتَّقَيْتُنَّ} إن أرَدتُنَّ التقوى)، قال صاحب ((الفرائد)): حَمَلَ الاتقاَءَ على

ص: 417

لينًا خنثًا مثل كلام المربيات والمومسات (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أى: ريبة وفجور. وقرئ: بالجزم؛ عطفًا على محل فعل النهى، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول، ونهى المريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضعن فلا يطمع. وعن ابن محيصن: أنه قرأ بكسر الميم، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول؛ أى: فيطمع القول المريب. (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً): بعيدًا من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث، أو قولًا حسنًا مع كونه خشنًا.

[(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)] 33 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إرادتِه بطريق المجاز، ومتى أمكن الحقيقة لم يجز الحمل على المجاز، وقد حمله وذكر معه الحقيقة. وقلت: هاهنا تفصيل، وذلك أنّ المخاطَب إما أن يكونُ متقيًا، فيجري الكلام على الحثِّ، كما حكى الله عن مريم تُخاطبُ عليهما السلام:{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]. روى البخاريُّ عن أبي وائل قال: علِمَت مريمُ أن التقيَّ ذو نُهْيَة حين قالت: {إِن كُنتَ تَقِيًّا} . هذا الطريق هو الذي سلكَه المصنِّفُ لاقتضاء المقام إياه تهييجًا وإلهابًا، وقد نبّه عليه بقوله:((وإن كُنتُنَّ مُتَّقيات)) على ((إن)) الشرطية، أو تخاطبُ من لم يتَّصف بصفة التقوى وأرادَ الاتصافَ بها، فحينئذ لابد من تقدير الإرادة، والأول أوجه؛ لأن المخاطباتِ مُتَّقياتٌ، والشرطُ كالتعليل.

قولُه: (ليّنًا خَنِثًا)، الأساس: خَنِثَ: تكَسّر وتثَنّى. وقد خَنث وتخنّث وخَنّث كلامَه: ليَّنه.

قولُه: (المومسِات)، النهاية: المومسة الفاجرة.

ص: 418

(وَقَرْنَ) بكسر القاف، من: وقر يقر وقارًا، أو من: قرّ يقرّ، حذفت الأولى من رائى: أقررن، ونقلت كسرتها إلى القاف، كما تقول: ظلن، و (وقرن): بفتحها، وأصله: أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها، كقولك: ظلن. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب "التبيان" وجهًا آخر، قال: قار يقار: إذا اجتمع، ومنه: القارة؛ لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة؟ والْجاهِلِيَّةِ الْأُولى: هي القديمة التي يقال لها: الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام؛ كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقيل: ما بين آدم ونوح. وقيل: بين إدريس ونوح. وقيل: زمن داود وسليمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ((وقِرْنَ) بكَسْرِ القاف)، قرأ نافع وعاصم: بفَتْح القاف، والباقون: بكَسْرِها.

قال مكّي: مَنْ قرأ بالكسرِ جَعله من الوقارِ والتوقيرِ في البيوت، نَحْو: عِدْنَ وزِنَّ محذوفَ الفاء، وهو الواو. ويجوز أن يكون من القرار فيكون مُضَعَّفًا. أي: قَرَّ في المكان يَقَرُّ. وأصله: اقرُرْنَ، ثم تُبدلُ من الراءِ التي هي عينُ الفعلِ ياء كراهيةَ التضعيف فتَصيرُ الياءُ مكسورة، فتُلقى حركتُها على القافِ، وتُحذَفُ لسكونها وسكونِ الراءِ، ويُستغنى عن ألفِ الوصل لتحرُّكِ القافِ، فتصير ((قَرْن))، وقيل: بَل حُذِفت الراءُ الأولى كراهةَ التضعيف كما قالوا: ظَلْتُ، والأصلُ: ظَلَلْتُ، وأُلقِيَتْ حركتُها على القافِ فحُذِفَت ألِفُ الوصلِ لتحرّك القافِ أيضًا. ومَنْ قرأ بفَتْحِ القافِ وهي لُغةٌ قليلة حَكاها أبو عُبيدةَ عن الكسائي أنه قال: قَررْتُ في المكان أقرُّ، وأنكَرها المازِنيُّ وغيرُه، ثم جرى الاعتلال على الوجهَيْن المذكورين في الكسر.

قولُه: (عَضَلٍ والدَّيْش)، بفتحِ الدالِ وكسْرِها وسكونِ الياء. الجوهري: عضل بن الهون بن خُزَيمةَ أخو الديش وهما القارة، سُمُّوا قارة؛ لاجتماعهم والتفافهم.

قولُه: (الجاهلية الجهلاء)، الجوهري:((الجهلاءُ)) توكيدٌ للأولِ يُشتَق له من اسمِه ما يؤكَّدُ به، كما يقال: ليلةٌ ليلاء وَيوْمٌ أيْوَمُ.

ص: 419

والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر، ويعضده ما روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى الدرداء رضى الله عنه: «إن فيك جاهلية» ، قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال:«بل جاهلية كفر» . أمرهن أمرًا خاصًا بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عامًا في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما، ثم بين أنه إنما نهاهن، وأمرهن، ووعظهن؛ لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنوب الرجس،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ولا تُحْدِثْنَ بالتبرُّج جاهليةً في الإسلام)، قال الزجاج: التبرُّج: إظهارُ ما يُستدعى به شهوة الرجل، والأشبَهُ أن يراد بالجاهلية الأولى مَنْ كان منذ زمنِ عيسى إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم الجاهلية المعروفون، وكانوا يتخذون البغايا الفواجر، وإنما قيل الأولى، لأن كلّ مُتقدمٍ ومُتقدّمةٍ أوّلُ وأُولى؛ أي: إنَّهم تقدموا أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم.

قولُه: (إن فيك جاهليةً)، قال أبو ذر: إني كنت سابَبْتُ رجلاً وكانت أُمّه أعجميةً، فَعيَّرتُه بأمِّه، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((يا أبا ذَرّ إنك امرؤ فيك جاهلية)) قال: ((إنَّهم إخوانكم فضلكم الله عليهم فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تُعذِّبوا خلق الله))، أخرجَه البخاريُّ ومسلم وأبو داود والترمذي.

النهاية: فيك جاهلية؛ أي: الحالةُ التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنسابِ والتكبُّرِ والتجبُّرِ وغير ذلك.

قولُه: (لئلا يُقارِف)، الأساس: فلان يقترِفُ لعياله؛ يكتسبُ، واقترفَ الإثم، وقارفَ، وهو يقترف بكذا؛ يُتَّهم به، وهو مَقْروفٌ به.

ص: 420

وللتقوى الطهر؛ لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات. فالعرض معها نقى مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولى الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. و (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على النداء، أو على المدح. وفي هذا دليل بين على أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وفي هذه الاستعارة ما يُنفِّر أولى الألباب عمّا كرهه)، يريد: أن الغَرَضَ من أصل الاستعارة التنفيرُ والترغيب، فإنّ تشبيه الذنب بالرِّجْسِ مما يُتصَوَّرُ في نفسِ ذي اللُّبِّ ما يُوحِشُه ويُنفِّرُ طبعَه كما أن تشبيه التقوى بالطهارة مما يُرغِّبه ويُميلُ طبْعَه إليه. قال ابنُ الرومي في شأن العسل:

تقولُ هذا مُجاجُ النحلِ تمدَحُه

وإن تَعِبْ قُلْتَ ذا قَيءُ الزنابير

قال الزجاج: الرجسُ كلُّ مستنكرٍ ومُسْتَقذرٍ من مأكول أو عمل أو فاحشة.

قولُه: (وفي هذا دليلٌ بَيِّن على أنّ نساءَ النبي صلى الله عليه وسلم من أهلِ بيته)، يُعَرِّضُ بالشيعة. قال القاضي: وتخصيصُ الشيعة أهلَ البيتِ بفاطمةَ وعليِّ وابنيهما رضي الله عنهم؛ لما رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم خرجَ ذات غُدوةٍ وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شعرٍ أسودَ، فجلسَ فأتت فاطمةُ فأدخلَها فيه، ثم جاء علي فأدخَله فيه، ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلهما فيه، ثم قال:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، والاحتجاجُ بذلك على عِصْمتِهم وكونِ إجماعِهم حُجَّةً ضعيفٌ؛ لأن التخصيصَ بهم لا يناسِبُ ما قبل الآية وما بَعدَها، والحديثُ يقتضي أنّهم أهلُ البيت لا أن ليسَ غيرهم. وقال الزجاج:{أَهْلَ الْبَيْتِ} هنا يدلُّ على الرجالِ

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والنساء لقوله: {عَنكُمُ} بالميم، ودليلُ إدخال النساء قوله تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} .

وقلتُ: هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ عن عائشة مع تغيير يسير، ورَوينا عن أم سلمةَ قالت: إن هذه الآيةَ نزلَتْ في بيتِها {نَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت: وأنا جالسةٌ عند البابِ قلت: يا رسولَ الله ألسْتُ من أهلِ البيت؟ فقال: ((إنّك إلى خير، أنت من أزواج رسول الله))، وفي البيتِ رسولُ الله وعليٌّ وفاطمةُ والحسَنُ والحسينُ، فَجلَّلَهم بكساءٍ وقال:((اللهمَّ هؤلاء أهلُ بَيْتي فأذهِبْ عنهم الرجْسَ وطَهِّرْهم تطهيرًا)) أخرَجه رَزينٌ، وأخرجه الترمذي، ولم يَزِدْ على:((إنّك إلى خير)).

اعلمْ أنّ قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} كالاستئنافِ على سبيلِ التعليل للآياتِ السابقة من لَدُنْ قولهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، وفيها الحثُّ على مكارمِ الأخلاقِ والردعُ عن رذائِلها، فالواجبُ أن تُعَلَّلَ العِلّةُ بما يدل على التخلية والتحلية. ومن ثَمَّ قال:((استعار للذنوبِ الرجسَ وللتقوى الطُّهر، لأنّ عِرْضَ المقترفِ للمُقَبّحاتِ يتلوّثُ بها كما يتلوّثُ بدنه بالأرْجاسِ، وأما المُحسَّنات فالعِرْضُ معها نقي كالثوب الطاهر))، شرعَ أولاً في التخييرِ بين الحياتَيْن: الدنيوية والأخروية، وفيه: أنّ راسَ الأرجاسِ محبَّةُ الدنيا، كما أنّ أساسَ الدينِ محبَّة الله ومحبَّة رسوله. وثانيًا في تفصيلِ ما يؤدي إليه المحبتان: المحبةُ الدنيوية تؤدِّي إلى الفاحشة، والأخروية تستدعي القنوت لله والطاعة للرسول. وإنما أخَّر {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} لتكون كالخاتمة التي تشتمل على التخلص إلى نوع آخر من الكلام.

ص: 422

[(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ الله وَالْحِكْمَةِ إِنَّ الله كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)] 34 [

ثم ذكرهن أنّ بيوتهن مهابط الوحى، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: هو آيات بينات يدل على صدق النبوّة؛ لأنه معجزة بنظمه، وهو حكمة وعلوم وشرائع. (إِنَّ الله كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم، أو علم من يصلح لنبوّته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته، أو حيث جعل الكلام الواحد جامعًا بين الغرضين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: الخاتمة تذكيرٌ بما أنعَم الله عليهنّ حيثُ جعَلهنَّ أهلَ بيتِ النبوة ومهبطَ الوحي وما شاهَدْنَ من بُرَحائه مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة والإيثار بما كُلِّفْنَ به.

قولُه: (أو حيثُ جَعلَ الكلامَ الواحدَ)، عَطْفٌ على قوله:((حين علِمَ ما ينفعكم))، فـ ((حين)) كـ ((حيث)) في إفادة التعليل، يعني: أن قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} تعليل لقوله: {ايُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ، والمرادُ بالمتلوِّ: القرآن؛ لأنّ المعنى: ما يُتلى من الكتاب الجامع بين أمرين؛ هو آيات بَيِّنات؛ وهو حكمة وعلوم، ونظيرُه قوله تعالى:{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] قال المصنف: ((يعني: الجامعَ بين كونِه كثابًا مُنزّلاً وفرقانًا)) يعني: التوراة، كقولك: رأيت الليثَ والغيثَ، تريدُ: الرجل الجامع بين الجود والكرم.

ثُمَّ التعليلُ: إما راجعٌ إلى نفس المكنيِّ عنه-وهو القرآنُ- من غيرِ اعتبارِ ما كنى به من المعنَيين على نحو قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13]، يعني: السفينة،

ص: 423

[(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)] 35 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وحققنا القول فيه في ((الأنفال))، ويدل على هذا إفرادُ ضميرِ القرآنِ في قوله:((لأنه معجزة))، وقوله:((فأنزَلَه عليكم)) وهو لوجهَيْن: أحدهما: أن يكون المُعلَّلُ القرآن، من حيث كونُه نازلاً لمصالحِ الخلق ومنافعِهم وهو المرادُ من قولهِ:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} حين علم ما ينفعُكم ويُصلحُكم من دينكم فأنزله عليكم.

وثانيهما: أن يكون مُعلَّلاً من حيثُ كونه نازلاً على حضرةِ الرسالة، وبيوتُهنَّ مهابطُه احترامًا لهن، وإليه الإشارة بقوله ((وعَلِمَ منْ يصلحُ لنبوته ومَنْ يصلح لأن يكون أهلَ بيته)).

وإما راجعٌ إليه باعتبار المعنيين، وهو المراد من قولِه:((أو حيث جَعلَ الكلامَ الواحدَ- أي: القرآنَ- جامعًا بين الغرضَيْن)) أي: بين كونه معجزة وبين كونه مشتملاً على بَيانِ العلمِ والعمل المُعَبَّرِ بهما عن الحكمة، وهذا الوجه أحسَنُ طِباقًا وأجرى على قانونِ البلاغةِ لِما في العلّة والمُعلَّلِ من اللفِّ والنشرِ، فإن قولَه:{لَطِيفًا} نَشْرٌ لقوله: {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} المعنيِّ بهما المعجزة، وقولَه:{خَبِيرًا} نشرٌ لقولِه: {وَالْحِكْمَةِ} واللطفُ فيه: أنّ شأنَ الإعجازِ يحتاج إلى لُطفِ إدراكٍ ودقّةِ نَظر كما قال صاحب ((المفتاح)): شأنُ الإعجازِ عَجيبٌ يدرك ولا يُمكنُ وصفه، فناسب صفة اللطف وأن تحقيقَ وضعِ الشرائعِ والأحكامِ يفتقرُ إلى حِكَم بليغة ولا يصل إلى كُنْهِ تلك الحكمة إلا علم العليم الخبير فناسب الخبير الحكمة، نحوه قوله تعالى:{لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] والله أعلم.

ص: 424

روي: أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن بخير، أفما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة. وقيل: السائلة أم سلمة.

وروى: أنه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء؟ فنزلت. والمسلم: الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوّض أمره إلى الله، المتوكل عليه، من أسلم وجهه إلى الله. والمؤمن: المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به. والقانت: القائم بالطاعة الدائم عليها. والصادق: الذي يصدق في نيته وقوله وعمله. والصابر: الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي. والخاشع: المتواضع لله بقلبه وجوارحه. وقيل: الذي إذا صلى لم يعرف من عن يمينه وشماله. والمتصدق: الذي يزكى ماله، ولا يخل بالنوافل. وقيل: من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين، ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين. والذاكر الله كثيرًا: من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما، وقراءة القرآن، والاشتغال بالعلم من الذكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعًا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات» ، والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف؛ لأنّ الظاهر يدل عليه. فإن قلت: أى فرق بين العطفين، أعنى عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (رُوي أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، الحديثُ من روايةِ الترمذي عن أم عُمارَة الأنصارية قالت: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ما أرى كلَّ شيءٍ إلا للرجال، وما أرى النساءُ يذكَرْنَ بشيءٍ، فنزلت الآية.

قولُه: (من اسيقظ من نومه)، الحديثُ رواه أبو داود وابنُ ماجَه عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة مع تغيير يسير.

ص: 425

قلت: العطف الأوّل نحو قوله تعالى: (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)] التحريم: 5 [في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما. وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات (أَعَدَّ الله لَهُمْ).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)] 36 [

خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة، فأبت وأبى أخوها عبد الله؛ فنزلت، فقال: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه، وساق عنه إليها مهرها ستين درهمًا وخمارًا وملحفًة ودرعًا وإزارًا وخمسين مدًا من طعام وثلاثين صاعًا من تمر. وقيل: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وهي أوّل من هاجر من النساء، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"قد قبلت"، وزوّجها زيدًا، فسخطت، هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجنا عبده! والمعنى: وما صح لرجل ولا امرأةٍ من المؤمنين (إِذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ) أى: رسول الله، أو لأنّ قضاء رسول الله هو قضاء الله (أَمْراً) من الأمور؛ أن يختاروا من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (العطف الأول نحو قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5])، قال صاحب ((التقريب)): عطفُ الإناثِ على الذكور لاختلافهما ذاتًا، وعطفُ الزوجَيْن على الزوجَيْن لاختلافهما صفة. وقلت: لما كان الثاني على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنهما ليسا جنسين مختلفَين كالأولِ قال بحرفِ الجمع ليؤذنَ بأنه مسلوبُ الدَّلالة على المغايرة. قال في قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]: ((ويجوزُ أن يكون الواو بمعنى: مع))، وقد بُيِّن معناه في مقامه.

قولُه: (أي: رسول الله)، يريدُ: قضى رسول الله صلى الله عليه، على هذا: ذِكْرُ الله تمهيدٌ للذكْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو أعجبني زيد وكرمُه. وفائدةُ هذه الطريقة قوةُ الاختصاص وأنه

ص: 426

أمرهم ما شاءوا، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره. فإن قلت: كان من حق الضمير أن يوحد، كما تقول: ما جاءني من رجٍل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. قلت: نعم، ولكنهما وقعا تحت النفي؛ فعما كل مؤمن ومؤمنة؛ فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ. وقرئ:(يكون) بالتاء والياء. و (الْخِيَرَةُ) ما يتخير.

[(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً)] 37 [

(لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ) بالإسلام الذي هو أجل النعم، وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه، (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه) بما وفقك الله فيه، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صلوات الله عليه بمنزلةٍ من الله ومكانة، وعلى الثاني: المرادُ بقضاءِ الله نَصُّه وهو القرآنُ المُنزل، وبقضاءِ رسول الله امتثالُ أمرِه. ذكَر الوجهَيْن في أولِ ((الأنفال))، فليُنظَر هناك ليتحقق.

قولُه: (فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ)، لم يذكر الفائدةَ في العدول عن الظاهر، ولعل الفائدةَ فيه الإيذانُ بأنه كما لا يصحّ لكل فردٍ من المؤمنين أن يكون لهم الخِيرَةُ، كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويَتَّفِقوا على كلمةٍ واحدة؛ لأن تأثيرَ الجماعة واتفاقَهم أقوى من تأثيرِ الواحد، فجمعَ في الآية المعنَيين معًا.

قولُه: (قُرئ: {يَكُونَ} بالتاءِ والياءِ)، وبالتاءِ الفَوْقانية: نافعٌ وابنُ ذَكْوان، والباقون: بالياء.

ص: 427

رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة:(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) يعنى زينب بنت جحش رضى الله عنها؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه، فقال:"سبحان الله مقلب القلوب"؛ وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادتها لاختطبها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى أريد أن أفارق صاحبتي، فقال:"مالك؟ أرابك منها شيء؟ " قال: لا والله؛ ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم علىّ لشرفها وتؤذيني، فقال له:"أمسك عليك زوجك واتق الله"، ثم طلقها بعد، فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أجد أحدًا أوثق في نفسي منك، اخطب علىّ زينب". قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمر عجينتها، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، حين علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب، أبشرى، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعةٍ شيئًا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن (زَوَّجْناكَها) فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أو لم على امرأةٍ من نسائه ما أو لم عليها: ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار. فإن قلت: ماذا أراد بقوله: (وَاتَّقِ الله)؟ قلت: أراد: واتق الله فلا تطلقها، وقصد نهى تنزيه لا تحريم؛ لأن الأولى أن لا يطلق. وقيل: أراد: واتق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلق قلبه بها. وقيل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لأنّ الأولى أن لا يُطَلِّق)، عن أبي داودَ عن مُحاربٍ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحلَّ الله شيئا أبغض إليه من الطلاق))، وفي روايةٍ أخرى عن ابنِ عُمر عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:((أبغَضُ الحلالِ إلى الله الطلاق)).

ص: 428

مودة مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدًا سيطلقها وسينكحها؛ لأن الله قد أعلمه بذلك. وعن عائشة رضى الله عنها: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أوحى إليه لكتم هذه الآية. فإن قلت: فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد: أريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: افعل، فإنى أريد نكاحها؟ قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته؛ لأن الله يريد من الأنبياء تساوى الظاهر والباطن، والتصلب في الأمور، والتجاوب في الأحوال، والاستمرار على طريقة مستتبة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لو كتمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا)، الحديثُ من روايةِ البخاريِّ والترمذيِّ والنسائي عن أنس قال: جاء زيدُ بن حارثة يشكو، فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول:((اتّقِ الله وأمسِك عليك زوجك))، لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا لكتَم هذه الآية.

قولُه: (وكان من الهُجْنة)، الأساس: هذا ما يُستهجَنُ وفيه هُجْنة. الجوهري: تهجينُ الأمر تقبيحه.

قولُه: (كأنّ الذي أرادَ منه عز وجل أن يصمُت)، فيه اعتزالٌ وسوءُ أدبٍ، بل كان الذي أولى له صلى الله عليه وسلم أن يسكُتَ، وإنْ كان السكوتُ والنُّطق بإرادتِه ومشيئته.

قولُه: (والتجاوب في الأحوال)، الأساس: كلامُ فلانٍ متناسبٌ متجاوب، ولا يتجاوب أول كلامِك وآخرُه.

قولُه: (مُستَتِبّة)، الأساس: واستتَبَّ الطريق: ذلَّ وانقاد، كما يُقال: طَريقٌ مُعبَّد. واستتَبَّ له الأمر، ويجوز أن يقال للاستقامةِ والتمام: الاستتباب، أي: طلبِ التّباب، من: تَبَّ الرجل: إذا شاخ لأن التبابَ يتبَعُ التمام.

الراغب: التبابُ والتبُّ الاستمرارُ في الخسران.

ص: 429

كما جاء في حديث إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبى سرح واعتراض عثمان بشفاعته له: أن عمر قال له: لقد كان عينى إلى عينك، هل تشير إلىّ فأقتله، فقال:"إن الأنبياء لا تومض، ظاهرهم وباطنهم واحد". فإن قلت: كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به، ولا يستهجن النبىّ صلى الله عليه وسلم التصريح بشيء إلا والشيء في نفسه مستهجن،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقال: تَبًّا له وتَبَّ له وتَبَبْتهُ إذا قلت له ذلك ولتضمن الاستمرار قيل: استَتَبَّ لفلان كذا أي استمر.

قولُه: (كما جاءَ في حديثِ إرادةِ رسول الله صلى الله عليه)، وحديثُه على ما رواه أبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يومُ فتح مكة أمّن رسول الله الناسَ إلا أربعةَ نفرٍ وامرأَتين- فسَمّاهم- وابنُ أبي سَرْح، فذكر الحديث. وأما ابنُ أبي سَرْحٍ فإنه اختبأ عند عُثمان رضي الله تعالى عنه فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى البيعةِ جاءَ به حتى وقفه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، بايعِ عبد الله، فرفع رأسَه فنظر إليه ثلاثًا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على الصحابةِ فقال:((أما كان منكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كفَفْتُ يدي عن بَيعتِه فيَقتله فقالوا: مَا ندْري يا رسولَ الله ما في نفسِك ألا ما أوماتَ إلينا بعينك؟ قال: ((لا ينبغي لنبيّ أن يكونَ له خائنة الأعين)).

قولُه: (لا تُومضُ)، الأساس: ومنَ المجازِ: أومَضَتْ بعَيْنها سارَقتِ النظر. قال:

قُل للهُمامِ وخَيْرُ القولِ أصدَقُه

والدهرُ يومِضُ بعد الحالِ بالحال

هو من قولك: وَمضَ البرقُ وَميضًا ووَمْضًا، وبَرقٌ وامِضٌ، وأوْمضَ إيماضًا: إذا لَمع خَفِيًّا.

ص: 430

وقالة الناس لا تتعلق إلا بما يستقبح في العقول والعادات؟ وماله لم يعاتبه في نفس الأمر؟ ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟ ولم يعصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت: كم من شيٍء يتحفظ منه الإنسان ويستحيى من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلمًا إلى حصول واجباٍت يعظم أثرها في الدين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقالةُ الناس)، النهاية: وفي الحديثِ: ((وفَشَتِ القالةُ بين الناس)) أي: كثرةُ القولِ وإيقاعُ الخصومة بين الناس بما يُحكى للبعضِ عن البعض.

قولُه: (ولم يَعْصِمْ نَبِيَّه)، أي: ومالَهُ لم يعصِم نَبيّه عن تعلق الهُجْنَة به؟ هو عطفٌ على قوله: ((ولم يأمره)).

قولُه: (يتحفظ منه)، الأساس: عليكَ بالتحفّظِ من الناسِ وهو التوقِّي.

قولُه: (وربما كان الدخول في ذلك المباح سُلّمًا إلى حُصولِ واجباتٍ يَعظُم أثرُها في الدين)، قال بعضُ المحقِّقين: لعلّ السرَّ في طَلاقِ الزوجِ مَرغوبتَه امتحانُ إيمانِه، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الابتلاءُ بَبليّةِ البشريةِ ومَنْعِه من خائنةِ الأعيُن وإظهارِ ما يخالفُ الإضمارَ وكان ذلك منه في غاية التشديد، ولو كُلِّفَ بذلك آحادُ الناس لما فَتحوا أعيُنهم في الشوارع.

قال شيخُنا شيخُ الإسلام أبو حَفْصٍ السُّهْروردي قدّسَ الله سِرَّه- في قولِه صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليُغانُ على قلبي)) -: ((إن روحَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يَزْل في الترقِّي إلى مقامِ القربِ مستتبعةً للقلبِ في رُقيِّها إلى مركزِها، وهكذا كان القلب يستتبعُ نَفْسَه الزكيَّة، ولا خفاءَ أنّ حركةَ الروحِ والقلبِ أسرَعُ وأتمُّ من نهضةِ النفسِ وحركتِها، وكانت خُطى النفسِ تقصُر عن مدى الروحِ والقلبِ في العروجِ والولوجِ من حريم القلب ولحوقِها بِها فاقتضت العواطفُ الربانية على الضعفاءِ من الأمةِ إبطاءَ حركةِ القلب بإلقاءِ الغَيْنِ عليه؛ لئلا يُسرعَ ويَسرحَ في معارج الروح ومدارِجها فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب فيبقى العبادُ مُهمَلين

ص: 431

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محرومين من الاستنارةِ بأنوارِ النبوة والاستضاءةِ بمشكاةِ مصباحِ الشريعة، فظهرَ أن الغَيْن كان كمالاً أو تتمَّة كمالٍ لا نقصًا في حاله.

قلت- والله أعلم-: إنه سَبقَ أن هذه السورة إلى مختتمها في بيان فضله صلى الله عليه وسلم فسلك في هذه الآيات مسلك أن حاله صلى الله عليه وسلم مباينٌ لأحوالِ غيره وأنه مَظْهرُ رحمةِ الله تعالى على خلقِه، ولا يصدرُ عنه إلا ما يكونُ منطويًا على مصالح جَمَّة، وإن خفي عليه وعلى الناس أمرُه، فنَبّه عليه بقوله أولاً:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} ، ثم خَصَّ أزوجَه بالتخييرِ، وأنّ شأنه ليسَ كشأنِ سائر الأزواج، ثم فَرّعٍ عليهما قولَه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} تقريرًا وتوكيدًا، ثم جاءَ بتصويرِ حالةٍ من حالاته التي لا يرضى له بعض الناس بحَسْبِ العُرفِ والعادةِ وجَعله سُلّمًا إلى حصول ما يعظم أثره في الدين وهو قوله:{تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ، يعني: كان الواجب عليك إظهار ما أخْطَرْنا في بالِك وأن لا تخشى قالةَ الناسِ كما عليه العُرْفُ والعادة لأن أمرك خلاف أمرِهم وبشريتُك مغمورةٌ في درجاتِ روحانيتك، ومن تقديرنا أن لا يجري عليك إلا ما فيه رحمةٌ للعباد وإليه الإشارة بقَوله:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} و {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} ؛ ألا ترى كيف عَلّل ذلك برَفْع الحَرجِ عن المؤمنين وعن نفسه الطاهرة بقوله: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ} ، وختمَ ذلك بقوله:{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، هذا كلُّه معنى قولِ المصنِّف:((كان الدخولُ في ذلك سُلّمًا إلى واجباتٍ يعظُمُ أثرُها في الدين)).

ويقرُبُ منه ما روى مُحيي السنة أنّ زينَ العابدين عليّ بنَ الحُسين بن علي رضي الله تعالى عنه سأل عليَّ بن زيد بن جُدعان: ما يقولُ الحسَنُ في قوله عز وجل: {تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ؟ قال: يقول: لما قال زيدٌ: يا نبيَّ الله، إني أريدُ أن أطلِّقَ زينبَ، أعجَبَه ذلك وقال:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} ، فقال زين العابدين: ليس كذلك، كان الله قد أعلمَه أنها ستكونُ من أزواجِه، وأنّ زيدًا سيُطَلِّقَها، فلما قال له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} ، عاتبه الله وقال: لم قُلْت: أمسِكْ عليكَ زوْجَك، وقد أعلمتُك أنها

ص: 432

ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلا من أوتى فضلًا وعلمًا ودينًا ونظرًا في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها، ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يريمون مستأنسين بالحديث، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم، ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار، حتى نزلت (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)] الأحزاب: 53 [، ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا؛ لشق عليهم، ولكان بعض القالة؟ فهذا من ذاك القبيل؛ لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته -من امرأة أو غيرها- غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع؛ لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضًا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها، مع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ستكونُ من أزواجِك؟ وهذا هو الأولى والألْيقُ بحالِ الأنبياءِ فهو مُطابقٌ للتلاوةِ، لأنّ الله تعالى أعلمَ أنه تعالى يُبدي ما أخفاهُ، ولم يُظهر غيرَ تزويجِها فقال:{زَوَّجْنَاكَهَا} ، فلو كان الذي أضمَره محبَّتها وإرادةَ طلاقِها؛ لكان يُظهِرُ ذلك، ثم قال في آخرِ كلامه: هذا قول حَسَنٌ مرضي.

قولُه: (مرتكزين)، أي: ثابِتين، من: ركزْتُ الرُّمحَ، وكذا غرَزْتُه في الأرض.

قولُه: (لا يَريمون): لا يَبْرحون، الجوهري: رامَه يَريمه رَيْمًا، أي: بَرَحَه.

قولُه: (ولا طَلَبٍ إليه)، النهاية: ومنه حديثُ نُقادةَ الأسدي قلت: يا رسول الله اطلُبْ إليّ طَلِبةً فإني أحبُّ أن أُطْلِبَكَها. الطَّلِبةُ: الحاجةُ، والاطّلابُ: إنجازُها وقضاؤها.

يُقال: طلبَ إلي فأطْلَبتُه، أي: أسعَفْتُه بما طلب. والضميرُ في ((مِنْه)) لزيد، و ((منْ)) صلة،

ص: 433

قوة العلم بأن نفس زيٍد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفو عنها، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلقة بها، ولم يكن مستنكرًا عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنًا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر؛ فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر، وإذا كان الأمر مباحًا من جميع جهاته، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدةٌ ولا مضرّة بزيٍد ولا بأحد، بل كان مستجرًا مصالح -ناهيك بواحدة منها: أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة، ونالت الشرف، وعادت أما من أمّهات المسلمين-، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله:(لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً)، فبالحرى أن يعاتب الله رسوله حين كتمه وبالغ في كتمه. بقوله: (أَمْسِكْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و((مِن)) الثانية هي التي تستعمل مع ((أفعل))، و ((أن يُواسيه)) مفعولُ ((طلب)). ((وهو أقربُ منه من زِرِّ قميصه)) جملةٌ معترضة، والجملةُ كنايةٌ عن رضاه على المبالغة.

قولُه: (آسَتْهُم الأنصار)، من المواساة، وروي:((اسْتَهَمَ)) أي: اقترع.

قولُه: (أن بنتَ عَمّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، زينبُ بنت جحش، أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، لم تكن امرأةٌ خيرًا من زينب في الدين، وأتقى لله، وأصدقَ حديثًا، وأوصَل للرحم، وأعظَم صدقةً، وأشدَّ تبذُّلاً لنفسها في العملِ الذي يُتصَدَّقُ به ويتقرب إلى الله تعالى.

قولُه: (أمِنَت الأَيْمةَ)، أي: أمِنَتْ من أن تَصير أَيِّمةً.

قولُه: (إلى ما ذكر الله)، متعلِّق بقولِه ((مُسْتَجِرًّا))، وقولُه:((ناهيك)) إلى قوله: ((أمهات المؤمنين)) معترضةٌ، و ((منها)) صفةٌ لـ ((واحدة)) و ((أن بنتَ عمةِ رسول الله)) بدَلٌ من ((واحدة)).

قولُه: (فبالَحرى أن يُعاتِبَ اللهُ رسولَه حين كتمه)، جواب ((إذا))، وهو تلخيصُ الجوابِ

ص: 434

عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله)، وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر، والثبات في مواطن الحق؛ حتى يقتدى به المؤمنون؛ فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مرًا. فإن قلت: الواو في (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ)، (وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ) ما هي؟ قلت: واو الحال، أى: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيًا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفى خاشياً قالة الناس وتخشى الناس، حقيقًا في ذلك بأن تخشى الله؛ أو واو العطف، كأنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن قولِه: ((كيف عاتَبه الله في سَتْرِ ما استُهْجِنَ التصريحُ به؟ ))، وقولُه:((كَمْ من شيء يتَحفَّظُ منه الإنسان)) إلى آخره، توطئةٌ للجواب على وجه كلِّي، وقولُه:((وتناولُ المباحِ بالطريقِ الشرعيِّ ليس بقبيح)) إلحاقٌ لهذه الصورة المخصوصة بذلك، بدليل قوله:((وهو خِطبةُ زينب))، وقولُه:((لأَنّ طموحَ قلبِ الإنسانِ)) إلى قوله: ((غيرُ موصوفٍ بالقبحِ لا بالعقلِ ولا في الشرعِ))، وقولُه:((لذا كان مباحًا)) إثباتٌ للحكمِ المستلزمِ للمقصودِ في الجواب، وهو قوله:((فبالحرى أن يعاتبَ الله رسولَه حين كتمه)). هذا تقريرٌ متين، لكنّ قولَه:((فلا يستحيوا من المكافحةِ بالحق وإن كان مُرًّا)) غيرُ موافقٍ لما قال قَبْلُ: ((كان الذي أرادَ منه عز وجل أن يصمُت)).

قولُه: (وأن لا يرضى له إلا اتّحادَ الضمير)، أي: وبالحرى أن لا يرضي لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا مطابقةَ ما في ضميره لما في ظاهره، وذلك بأن يخاطب زيْدًا مكافحًا بأنّ زوجتَك ستكون امرأتي وأريد أن لا تُمسكها.

قولُه: (من المكافحة)، الأساس: كافَحه: لاقاهُ مواجهةً عن مفاجأةٍ. ومن المجازِ:

كفَحْتُ الدابة وأكفَحْتُها: تلقَّيْتُ فاها بلِجام.

قولُه: (واو الحال)، الجملةُ الواو فيها للحال على سبيل التداخل، فقولُه:{وَتُخْفِي} حال من المستتر في {تَقُولُ} ، وإليه الإشارةُ بقوله:((لزيدٍ مُخْفيًا))، وقوله:{تَخْشَى النَّاسَ} من فاعل ((تُخفي))، وهو المرادُ بقولِه: و ((تُخْفي خاشيًا قالةَ الناسِ))، وقولُه:{وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} من فاعل ((تخشى الناس))، وإليه أومأ بقوله:((وتخشى الناس حقيقًا في ذلك بأن تخشى الله)).

ص: 435

قيل: وإذ تجمع بين قولك: (أمسك)، وإخفاء خلافه، وخشية الناس، (والله أحق أن تخشاه)؛ حتى لا تفعل مثل ذلك. إذا بلغ البالغ حاجته من شيٍء له فيه همة قيل: قضى منه وطره. والمعنى: فلما لم يبق لزيٍد فيها حاجة، وتقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسه، وطلقها، وانقضت عدتها (زَوَّجْناكَها). وقراءة أهل البيت:(زوّجتكها). وقيل لجعفر بن محمد رضى الله عنهما: أليس تقرأ علىّ غير ذلك؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما قرأتها على أبى إلا كذلك، ولا قرأها الحسن بن علىّ على أبيه إلا كذلك، ولا قرأها على بن أبى طالب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كذلك. (وَكانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا) جملة اعتراضية، يعنى: وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه مفعولًا مكونًا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن، ويجوز أن يراد بأمر الله: المكون؛ لأنه مفعول بـ"كن"، وهو أمر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} حتى لا تفعلَ مثل ذلك)، هذا تقرير معنى كون الجملة مستأنفةً وتذييلٌ للكلام السابق.

قولُه: (إذا بلغ البالغ حاجته)، قال الزجاج: قال الخليل: الوَطَرُ: كل حاجةٍ لك فيها هِمّة. فإذا بلغها البالغ قال: قد قضى وَطَره.

الراغب: الوَطر: النَّهْمة والحاجَةُ المهمة.

قولُه: (ويجوز أن يراد بأمر الله المُكوَّن)، لأنه مفعول بـ ((كُنْ)))، هذا كما قيل لعيسى عليه الصلاة والسلام:((كلمة الله)) من إطلاق السَّببِ على المسبَّبِ، فالأمرُ بمعنى المأمور، وأصلُه الأمرُ الذي هو واحد الأوامر، لقوله:((لأنه مفعول بـ (كن)))، وعلى الوجه الأول: لقوله: ((وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه مفعولاً مكونًا))، فمعنى {أَمْرُ اللهِ}:

مخلوقُه ومراده.

ص: 436

[(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله وَكَفى بِالله حَسِيباً)] 39 - 38 [

(فَرَضَ الله لَهُ): قسم له وأوجب، من قولهم: فرض لفلان في الديوان كذا، ومنه: فروض العسكر؛ لرزقاتهم. (سُنَّةَ الله) اسم موضوع موضع المصدر -كقولهم: تربًا، وجندلًا- مؤكد لقوله تعالى:(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ)، كأنه قيل: سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين؛ وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري، وكانت لداود عليه السلام مئة امرأةٍ وثلاث مئة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاث مئة وسبعمئة (فِي الَّذِينَ خَلَوْا): في الأنبياء الذين مضوا. (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) يحتمل وجوه الإعراب: الجرّ، على الوصف للأنبياء، والرفع والنصب، على المدح على: هم الذين يبلغون، أو على: أعنى الذين يبلغون. وقرئ: (رسالة الله). (قدرا مقدورا): قضاًء مقضيًا، وحكمًا مبتوتًا، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا الله تعريض بعد التصريح في قوله تعالى:(وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)] الأحزاب: 37 [. (حَسِيباً): كافيا للمخاوف، أو: محاسبًا على الصغيرة والكبيرة، فيجب أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لرَزَقاتِهم) جمع الرَّزْقةِ، بالفتح، وهو المرة الواحدة، وهي أطماع الجُنْد، أي: إقطاعهم. الأساس: أجْرى عليه رِزْقًا، وكَم رِزْقُك في الشهر، أي: جِرايتُك، وأخذ الجند رَزَقاتَهم وأرزاقَهم.

قولُه: (تُرْبًا وجَنْدلاً)، أي: رُغمًا وهوانًا وخيبة.

قولُه: ({قَدَرًا مَّقْدُورًا}: قضاءً مَقْضِيًّا)، وهو في التلاوةِ مُقدَّمٌ على {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} وقد أخّره.

ص: 437

حقّ الخشية من مثله.

[(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)] 40 [

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أى: لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت به وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، (وَلكِنْ) كان (رَسُولَ الله) وكل رسوٍل أبو أمّته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقةً، فكان حكمه حكمكم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير، (وَ) كان (خاتَمَ النَّبِيِّينَ) يعنى: أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال؛ لكان نبيًا ولم يكن هو خاتم الأنبياء، كما يروى: أنه قال في إبراهيم حين توفى: "لو عاش لكان نبيا". فإن قلت: أما كان أبًا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله: (مِنْ رِجالِكُمْ) من وجهين؛ أحدهما:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (حَقَّ الخَشْيةِ مِنْ مثله)، أي: منه، يعني: مَنْ هو في صِفتِه من كونه كافيًا للمخاوف أو محاسبًا على الصغيرةِ والكبيرة، وليس كمِثله شيء، فهو كناية.

قولُه: ({وَلَكِن} كانَ {رَّسُولَ اللهِ} صلى الله عليه وسلم وكُلُّ رسولٍ أبو أمته)، وذلك أن ((لكن)) يقع بين المُتغايرَيْن، فلما نفى عنه صلى الله عليه وسلم معنى الأبوة الحقيقية أثبت له الأبوة المجازية، وهو كونه رسولاً، فيقتضي أن يوقروه تعظيم الآباء، وهو يشفق عليكم شفقة الأبناء. روى صاحب ((الروضة)): قال بعضُ أصحابنا: لا يجوز أن يقال: هو أبو المؤمنين بهذه الآية.

قال: ونَصَّ الشافعيُّ على أنه يجوز ((أبو المؤمنين))، أي: في الحرمةِ، المعنى ليس أحدٌ من رجالكم ولدَ صُلْبِه.

ص: 438

أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال. والثاني: أنه قد أضاف الرجال إليهم، وهؤلاء رجاله لا رجالهم. فإن قلت: أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت: بلى، ولكنهما لم يكونا رجلين حينئٍذ، وهما أيضًا من رجاله لا من رجالهم، وشيء آخر: وهو أنه إنما قصد ولده خاصة، لا ولد ولده؛ لقوله تعالى:(وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ)، ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيف أحدهما على الأربعين والآخر على الخمسين؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغَ الرجال)، روَيْنا عن البخاريِّ وابن ماجَه عن إسماعيل بن خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أرأيْتَ إبراهيمَ بن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعَم، مات صغيرًا، ولو قُضيَ أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيٌّ لكان ابنَه، ولكن لا نبيَّ بعده.

قولُه: (وشيء آخر) عَطْفٌ على قولِه: ((بلى، ولكنّهما لم يكونا رجلَيْن))، وتقرير السؤال والجواب حينئذ أن يقال: أما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا الحسن والحسين؟ قال: نعم أي: لم يكن أباهما، لأنه تعالى إنّما قصد بقوله:{أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} ولده خاصةً، لا ولد ولدِه لقولِه بعد ذلك:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} لأنه يوجبُ أن لا يكون له ولدٌ بلغَ مبلغَ الرجالِ فيصيرَ نَبِيًّا لما يؤدِّي ذلك إلى أنه لم يكن خاتمَ النبيين، ألا ترى كيف بلغ الحسن والحسين مبلغ الرجال وأوانَ أن ينزل عليهما الوحي، وهو بلوغُ أحدِهما فوقَ الأربعين، والآخر الخمسين، ولم ينزل عليهما النبوة، وفي هذا الوجه تكلُّف.

قولُه: (ألا ترى الحسن والحسين قد عاشا)، ذكر في ((جامع الأصول)): أنه ولد الحسن بن على سنة ثلاث من الهجرة ومات سنة خمسين، وقيل: تسع وأربعين، وقيل: ثمان وأربعين، وقيل: ثمان وأربعين، وقيل: سبعًا، وكان للحسن يوم قتل وخمسون. وفي ((الاستيعاب)): قيل: كانت سن الحسن يوم مات سِتًّا وأربعين سنة، وسن الحسين يوم قتل ابن سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين. وفي ((تاريخ الكامل)): كانت الأحزابُ في السنة الخامسة من الهجرة،

ص: 439

قرئ: (ولكن رسول الله) بالنصب؛ عطفًا على (أَبا أَحَدٍ)، وبالرفع؛ على: ولكن هو رسول الله، و (لكنّ) بالتشديد على حذف الخبر، تقديره: ولكنّ رسول الله من عرفتموه، أى: لم يعش له ولد ذكر. (وخاتم) بفتح التاء: بمعنى الطابع،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وهي ابنةُ عَمّته، فيكون عمرُ الحسنِ يومئذ سنتَيْن.

قولُه: (و ((لكنّ)) بالتشديدِ) وهي شاذّة، قال ابن جِنّي: روى عن أبي عمرو: ولكنّ رسولَ الله محمد، وعليه قولُ الفرزدق:

فلو كنتَ ضَبّيًا عرفْتَ قَرابتي

ولكنّ زَنْجِيًّا غليظَ المشافر

أي: ولكن زنْجيًّا لا تعرِفُ قَرابتي، فحَذف الخبرَ لدلالةِ ما قبله عليه، وهو قوله: عرفتَ، كما أن قوله:{ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} يدل على أنه مخالف لهذا الضرب من الناس. يريد: ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم، مفهومُه: أنه ليس ممن عرفتموه، كأنه قيل: محمد ممن عرفتموه من الرجال الذين يعيش لهم أولاد ذكور، ولكنّ رسولَ الله ممّن عرفتموهُ أنه لم يعِشْ له ولَدٌ ذَكَر.

قولُه: ({وَخَاتَمَ} بفَتْح التاء) عاصم، والباقون: بكَسْرِها. قال الزجاج: فمَنْ قرأها: ((وخاتِم)) فعناه: خَتم النبيين، ومن قرأه:((خاتَم)) بفتح التاء فمعناه: آخِر النبيين لا نبي بعده.

ص: 440

وبكسرها: بمعنى الطابع وفاعل الختم، وتقوّيه قراءة ابن مسعود:(ولكنّ نبيا ختم النبيين). فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء: أنه لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملًا على شريعة محمد، مصليًا إلى قبلته، كأنه بعض أمّته.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)] 41 - 42 [

(اذْكُرُوا الله): أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أى: في كافة الأوقات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذكر الله على فم كل مسلم"، وروى:"في قلب كل مسلم". وعن قتادة: قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وعن مجاهد: هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب. والفعلان -أعنى: اذكروا وسبحوا- موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك: صم وصلّ يوم الجمعة. والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة؛ ليبين فضله على سائر الأذكار؛ لأن معناه: تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (بمعنى الطابع)، النهاية: في حديث الدعاء: ((اختُمْه بآمين، فإنّ آمين مثلُ طابَع- بالفتح- الخاتم))، يريد: أنه يختم عليها ويُرفَعُ كما يَفعَل الإنسان بما يعِزُّ عليه.

قولُه: ({بُكْرَةً وَأَصِيلًا})، ذُكِرَ الوقتانِ المخصوصان وأريد الدوام، كقوله تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]. قال القاضي: وتخصيصُ الوقتَيْن بالذكر للدلالةِ على فَضْلِهما على سائر الأوقات، لكونهما مشهودين، كإفراد التسبيح بالذكر من جملة الأذكار لأنها العمدة فيها.

ص: 441

الصفات والأفعال، وتبرئته من القبائح. ومثال فضله على غيره من الأذكار: فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها، والاشتمال على العلوم، والاشتهار بالفضائل، ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات، والإقبال على العبادات؛ فان كل طاعة وكل خير من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح بكرةً وأصيلًا وهي الصلاة في جميع أوقاتها؛ لفضل الصلاة على غيرها. أو: صلاة الفجر والعشاءين؛ لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ.

[(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) [43 - 44]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فَضْلُ وَصْف العبدِ بالنزاهةِ من أدناس المعاصي)، على سائر أوصافه من كثرةِ الصلاة والصيام. وذلك أن العادة استمرت أنه إذا أريد المبالغة في الوصف قيل: فلان معصومٌ نقيُّ الذيلِ طاهرُ الجيب، ومنها قولُه تعالى:{مَا هَذَا بَشَرًا} ، وقولُ حسّان في أمِّ المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها في رواية الشيخين:

حَصَانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ

وتُصْبحُ غَرْثى من لحوم الغوافل

لأن النفسَ إذا كانت زكية طاهرة يتسهَّلُ لها محاسنُ الشِّيَم ولا يتأبّى عليها مكارم الأخلاق.

الحصَانُ -بالفتحِ-: المرأةُ العفيفة.

ما تُزَنُّ -بالزاي-: أي: ما تُتَّهَمُ يقال: زَنَّه بكذا وأزنّه: إذا اتّهمه به.

وغَرْثانُ: جَوْعان، وامرأة غَرْثى.

ص: 442

لما كان من شأن المصلى أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره؛ حنوّا عليه وترؤفًا، كعائد المريض في انعطافه عليه، والمرأة في حنوّها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم: صلى الله عليك، أى: ترحم عليك وترأف. فإن قلت: قوله: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) إن فسرته بـ: يترحم عليكم ويترأف، فما تصنع بقوله:(وَمَلائِكَتُهُ)؟ وما معنى صلاتهم؟ قلت: هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين، جعلوا لكونهم مستجابى الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة. ونظيره قوله: حياك الله، أى أحياك وأبقاك، و: حييتك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لما كان من شأنِ المصلِّي أن ينعطفَ في ركوعِه وسجوده)، إشارة إلى ما قال في ((البقرة)) أن اشتقاق الصلاة من تحريك الصَّلَوَيْن.

قولُه: (جُعلوا لكونهم مُستجابي الدعوة كأنهم فاعِلونَ الرحمةَ والرأفةَ)، الانتصاف: هو يفِرُّ من إرادةِ الحقيقة والمجاز معًا، وقد التزمَه هاهنا بجَعْلِ الصلاة رحمةً من الله حقيقة ومن الملائكة مجازًا. وأجابَ صاحبُ ((الإنصاف)): يُصَلُّونَ فيه ضميرُ جمعٍ فهو مُنزَّلٌ منزلةَ تكرارِ لفظةِ ((يُصَلِّي))، فليس هذا من إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد، فلا حاجةَ إلى اعتذارِ محمودٍ ولا جوابِ أحمد عنه.

قلت: ذهبَ المصنِّفَ إلى القول بالقدرِ المُشتَركِ وعمومِ المجاز وهو معنى الرأفة والرحمة، وإطلاق هذا المعنى على الصلاتين مجاز. ألا ترى إلى قولِه:((استُعيرَ لمن يتعطَّفُ على غيره))، نعم هذا في حقِّ الملائكة مجَاز بمرتبتَين، وذلك لا يمنعُ من الإيرادِ، وذهب عن صاحب ((الانتصاف)) أن النحويين يشبهون: جاءني زيدٌ، وزيدٌ وزَيدٌ بقَولِهم: جاءَني الزيدون، في أن العامل واحد.

ص: 443

أي: دعوت لك بأن يحييك الله؛ لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة، وكذلك: عمرك الله، وعمرتك، وسقاك الله، وسقيتك، وعليه قوله تعالى:(إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه)] الأحزاب: 56 [أى: ادعوا الله بأن يصلى عليه. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة؛ (لِيُخْرِجَكُمْ) من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة. ويروى أنه لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)] الأحزاب: 56 [قال أبو بكر رضى الله عنه: ما خصك يا رسول الله بشرٍف إلا وقد أشركنا فيه؛ فأنزلت. (تَحِيَّتُهُمْ) من إضافة المصدر إلى المفعول، أى: يحيون يوم لقائه بسلام. فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم، وأن يكون مثلًا كاللقاء على ما فسرنا. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم، وبشارتهم بالجنة. وقيل: سلام الملائكة عند الخروج من القبور. وقيل: عند دخول الجنة، كما قال: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)] الرعد: 23 - 24 [، والأجر الكريم: الجنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: الفعل يتعدّدُ معنًى لا لفظًا، والمرادُ بالصلاةِ المُشتَركُ وهو العنايةُ بصلاحِ أمرِكم وظهور شرفكم، مستعار من الصلاة، وقيل: الترحُّمُ والانعطافُ المعنوي مأخوذٌ من الصلاةِ المشتملةِ على الانعطافِ الصوري الذي هو الركوع والسجود.

وقلتُ: هذا التأويلُ أقوى لقولِه تعالى: {لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ، ولذلك اختاره المصنِّف، ونصَّ عليه بقوله:(({وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} دليلٌ على أن المرادَ بالصلاة الرحمةُ))، والتأويلُ الأول أي: ظهورُ الشرف أنسَبُ لقولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية.

ص: 444

[(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)] 45 - 46 [

(شاهِداً) على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أى: مقبولًا قولك عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم. فإن قلت: وكيف كان شاهدًا وقت الإرسال، وإنما يكون شاهدًا عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت: هي حال مقدرة كمسألة "الكتاب": مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، أى: مقدرا به الصيد غدًا. فإن قلت: قد فهم من قوله: إنا أرسلناك داعيًا: أنه مأذون له في الدعاء، فما فائدة قوله:(بِإِذْنِهِ)؟ قلت: لم يرد به حقيقة الإذن، وإنما جعل الإذن مستعارًا للتسهيل والتيسير؛ لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر، فلما كان الإذن تسهيلًا لما تعذر من ذلك؛ وضع موضعه؛ وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر، فقيل:(بإذنه) للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلا إذا سهله الله ويسره، ومنه قولهم في الشحيح: أنه غير مأذوٍن له في الإنفاق، أى: غير مسهل له الإنفاق؛ لكونه شاقًا عليه داخلًا في حكم التعذر. جلى به الله ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو: أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة؛ لأن من السرج ما لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (جَلّى به الله ظلماتِ الشرك)، اعلم أنّ قوله:((سراجًا مُنيرًا)) موقعُه المُشبَّهِ بِه، والمشبه الكاف في {أَرْسَلْنَاكَ} ، وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون من التشبيهِ المركّبِ العقلي؛ شبهّه سبحانه وتعالى بالسراجِ المنيرِ في كونه جَلّى به الظَّلماءَ وهَدى به الضالين.

وثانيها: أن يكون من التمثيلي، وهو أن يكون الوجْهُ منتزعًا من عدة أمور متوهمة، ولهذا اعتَبرَ شيئين: أحدُهما: قولُهك أمَدَّ بنور نبوتهِ نورَ البصائر، وثانيها: وصْفُه بالزيادة، ويجوز أن يكون الثاني مُفَرّقًا فالمشبّه به يكونُ حْسّيًّا والمشبَّه عَقْليًّا.

ص: 445

يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضيء: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال: ظلام ساتر، وسراج فاتر. وقيل: وذا سراج منير. أو وتاليًا سراجًا منيرًا. ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف (أَرْسَلْناكَ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ومائدةٌ يُنْتَظَرُ)، وأنشد في معناه:

رَسْمٌ جرى في الناسِ ليس بحامدٍ

جوعَ الجماعةِ بانتظارِ الواحد

قولُه: (وقيل: وذا سِراج منير)، قال الزجاج:{وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} أي: وكتابًا مبينًا.

المعنى: أرسلناك شاهدًا وذا سراجٍ منير، أي: وذا كتاب نَيِّر، وإن شِئْتَ كانَ ((سراجًا)) منصوبًا على معنى: وداعيًا وتاليًا كتابًا بيِّنا. وقال أبو البقاء: والسراجُ اسمٌ للتسريجِ وليس بالمصدر.

قولُه: (ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كافِ {أَرْسَلْنَاكَ})، يعني: تفسيرُ ((ذا سراج)) أو ((وتاليًا سِراجًا)). قال صاحبُ ((التقريب)): إذ يجوزُ أن يكون حالَ الإرسالِ ذا سراج وتاليًا له، فيصحّ تقدير ((أرسلنا)) فيه، وأمّا على الأول -وهو أنه سراجٌ انجلَتْ به الظلماتُ- فلا يصحُّ تقدير ((أرسلنا)) معه، إذ لم يكن حالَ الإرسالِ كذا، بل مُقَدّرًا كونُه كذلك، فحقُّه أن يُعطفَ على الأحوال المقدرة قبله، ويجوزُ أن يكونَ مرادُه أنّ السراجَ المنير إذا أُريدَ به القرآنُ على الكاف، أي: أرسَلْناك وقرآنًا وإنما صَحَّ بالتبعية وإلا فالقرآنُ لا يكون مرسَلاً. وقلت: عكْسُه ((وأنزل معه الكتاب))، على معنى: أنزلَ معه نبوتَه؛ لأن استنباءَهُ كان مصحوبًا بالقرآن مشفوعًا به، والتحقيق: أنّ هذا العطفَ مِن قَبيل:

مُتقلّدًا سيفًا ورُمحا

ص: 446

[(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلاً كَبِيراً)] 47 [

الفضل: ما يتفضل به عليهم زيادةً على الثواب، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب؟ ويجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول وفواضل، وأن يريد أنّ لهم فضلًا كبيرًا على سائر الأمم، وذلك الفضل من جهة الله، وأنه آتاهم ما فضلوهم به.

[(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفى بِالله وَكِيلاً)] 48 [

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) معناه: الدوام والثبات على ما كان عليه، أو التهييج. (أَذاهُمْ) يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول، يعنى: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله في باطنهم. أو: ودع ما يؤذونك به ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإذا فسِّر سراجًا بـ ((ذا سِراجٍ)) يعني به القرآن، وكان التقدير: إنا أرسلناك شاهدًا وأنزلنا عليك ذا سراجٍ منير، وإذا فُسِّر بـ ((تاليًا سِراجًا)) كنايةً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:{رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} [البيّنة: 2] كان التقدير: أرسلناكَ شاهدًا وجعلناك تاليًا سراجًا منيرًا، ويجوز على هذا أن يكون من باب {ص وَالْقُرْآنِ} [ص: 1] إن أريدَ بهما اسما السورة؛ جَرَّدَ من رسولِ الله صلى الله صلى الله عليه وسلم المنعوتِ بتلك الصفاتِ الكاملةِ تاليًا سراجًا مُنيرًا، كما جَرَّدَ من الرجلِ في قولِه: مررتُ بالرجلِ الكريمِ والنَّسمَةِ المباركةِ، وعُطِفَتْ عليه وهي هو.

قولُه: (الفَضل ما يتفضَّلُ به عليهم، زيادةَ على الثواب)، مَذْهَبُه، وبيانُه مَرَّ مرارًا.

قولُه: (وكَبَّرَه فما ظَنُّك بالثوابِ؟ )، أي: وصفَ المتفضَّلَ به بالكِبَرِ في قوله: {فَضْلًا كَبِيرًا} .

قولُه: (معناه الدوامُ والثباتُ على ما كان عليه)، أي: من عدمِ إطاعتِه إيّاهم في فَسْخ عَهْدٍ وفيما لا يحلّ.

ص: 447

تجازهم عليه حتى تؤمر، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي منسوخة بآية السيف. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الله) فإنه يكفيكهم، وكفى به مفوّضا إليه. ولقائل أن يقول: وصفه الله بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاٍب مناسب له: قابل الشاهد بقوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وصفه الله تعالى بخَمْسةِ أوصاف، وقابل كُلاًّ مِنها بخطاب مناسب له) إلى آخره، نَظْمٌ في غايةٍ من الحُسْن لكنَّ في مُقابلةِ المُبشِّرِ بالإعراض عن الكافرين: كَلفةً، ولهذا قال القاضي:{وَبَشِّرِ} معطوف على محذوف مثل: فراقِبْ أحوالَ أمتك، لأن ما بعده قوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} إلى آخره كالتفصيل له، وقابلَ المُبشِّرَ بالأمرِ بالبشارةِ للمؤمنين، والنذيرَ بالنهيِ عن مراقبةِ الكفار والمبالاةِ بأذاهم، والداعي إلى الله بتيسيره بالأمرِ بالتوكل عليه، والسراج المنير بالاكتفاء به، فإن مَنْ أنارَهُ الله برهانًا على جميعِ خلقه كان حقيقًا بأن يُكْتَفى به عن غيره.

وقلت: نظير هذا الآية ما رَوْينا عن البخاريِّ والإمامِ أحمدَ بن حنبل عن عطاء بن يسار قال: لقيتُ عبدَ الله بنَ عمروٍ وقلتُ: أخْبِرني عن صفةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببَعْض صفَتهِ في القرآن: يا أيها النبي، إنا أرسَلْناك شاهدًا ومُبشّرًا ونذيرًا وحِرْزًا للمؤمنين، أنتَ عَبْدي ورسولي سمَّيتُك المتوكِّلَ، ليس بفَظٍّ ولا غَليظٍ ولا صَخّابٍ في الأسواقِ ولا تدفَعُ السيئةَ بالسيئةِ ولكن تَعْفو وتصفَحُ، ولن يَقْبضَه الله حتى يُقَيم به المِلّةَ العَوْجاء ويفتحَ به أعُينًا عُمْيَا وآذانًا صُمًّا وقُلوبًا غُلْفا.

وقد روى الدارميُّ نحْوَه عن عبدِ الله بن سَلام.

فقولُه: ((حِرْزًا للمؤمنين)) مُقابلٌ لقوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أي: بتيسيرِه وتسهيلِه، فإنّ دَعْوَتَه صلوات الله عليه إنما حصلت فائدتُها فيمن وفَّقه الله بتيسيره وتسهيله، فلذلك أمِنوا من مكارِه الدنيا وشدائد الآخرة، فكان صلوات الله عليه بهذا الاعتبار حِرْزًا لهم.

ص: 448

(وبشر المؤمنين)] الأحزاب: 47 [؛ لأنه يكون شاهدًا على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير؛ والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين؛ لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة؛ والنذير بدع أذاهم؛ لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر -والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل- كانوا منذرين به في المستقبل؛ والداعي إلى الله بتيسيره بقوله:(وَتَوَكَّلْ عَلَى الله)؛ لأنّ من توكل على الله يسر عليه كل عسير؛ والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا؛ لأن من أناره الله برهانًا على جميع خلقه، كان جديرًا بأن يكتفى به عن جميع خلقه.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)] 49 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقولُه: ((سمَّيْتُك المتوكِّلَ)) إلى آخرِ الحديث مُقابِلٌ لقولِه: ((سِراجًا مُنيرًا)).

فعُلمَ أنّ قولُه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} مناسبٌ لقولِه: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} ، فإنّ السراجَ مضيءٌ في نَفْسِه ومُنَوِّرٌ لغيرِه، فكَوْنُه متوكّلاً على الله يكون كَمالاً في نفسِه، فهو مناسب لقولِه:((أنت عَبدي ورسولي سمَّيتُك المتوكلَ)) إلى قولِه: ((يعفو ويَصفح))، وكونُه منيرًا بفَيْضِ الله عليه يكونُ كمالاً لغيرِه، وهو مناسبٌ لقوله:((حتى يُقيم به المِلّةَ العَوْجاءَ ويفتح به أعينًا عُميًا وآذانا صُمًّا)). هذا معنى قول المصنف: ((أنارَه الله بُرهانًا على جَميع خلقِه، كان جديرًا بأن يُكتَفَى به عن جميع الخلق))، والله أعلم.

ويمكن أن تُنَزَّل المراتب على لسان أهل العرفان؛ فقولُه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} هو مقامُ الشريعةِ ودعوةِ الناسِ إلى الإيمانِ وتَرْكِ الكفر ونتيجةُ بِشارةِ مَنْ آمن وإنذارِ مَنْ أعرض، وقولُه:{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} مقامُ الطريقةِ ونتيجةُ الإعراضِ عمّا سوى الله، والأخذِ في السيرِ والسلوكِ والالتجاءِ إلى حَرم لُطْفِه والتوكلِ عليه وقولُه:{وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} هو مقامُ الحَقيقة ونتيجتُه فَناءُ السالكِ وقيامُه بقَيُّوميتِه، وكفى بالله وكيلاً،

واللهُ أعلَمُ بمراده من كلامه.

ص: 449

النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا؛ لملابسته له، من حيث إنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثمًا؛ لأنها سبب في اقتراف الإثم، ونحوه في علم البيان قول الراجز:

أسنمة الآبال في سحابه

سمى الماء بأسنمة الآبال؛ لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به. ومن آداب القرآن: الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (تسميتُهم الخَمْرَ إثمًا)، قال:

شربتُ الإثمَ حتى ضَلَّ عقلي

كذاك الإثمُ يذهَبُ بالعقول

قولُه: (أسْنِمةُ الآبالِ في سَحابه)، بعده:

أقبلَ في المُسْتَنِّ مِن رَبابه

استنّ الفرسَ: قَمَصَ. وفي المَثل: استَنَّتِ الفِصالُ حتى القرعى.

قولُه: (ومِن آدابِ القرآنِ الكنايةُ عنه- أي: الوَطء- بلفظ الملامَسةِ) ونحوه احترازًا عن الاستهجان. فإن قيل: هذا لا يناسبُ قولَه: ((ولم يَرِدْ النكاحِ في كتابِ الله إلا بلفظِ العَقْدِ))، لأنّ الكنايَة أن يعدِل من اللفظِ الموضوعِ لمعنًى إلى ما يَسْتلزمُه، ورعايةُ الأدبِ العدولُ عن لفظٍ فيه بَشاعةٌ إلى ما ليسَ كذلك، كَالملامسةِ والمُماسّة والقُربان والغِشيانِ، لا عَنْ لفظٍ ليس فيه بَشاعةٌ كالعقدِ إلى ما فيه بشاعةٌ كالوطء. والجوابُ: أنّ استعمالَ النكاحِ في معنى العقد ليس من الكناية في شيء، بل إنه من الحقيقةِ الشرعية منْسيًّا فيه المعنى اللغوي، ولا يكادُ يُفْهَمُ منه معنى الوطءِ إلاّ بقرينة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} كيف قرنَه به حين أرادَ به ذلك المعنى؟ فعلى هذا قولُه: ((لأنه في معنى الوطء)) تعليلٌ لكونها

ص: 450

فإن قلت: لم خصّ المؤمنات، والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت: في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به أن يتخير لنطفته، وأن لا ينكح إلا مؤمنة عفيفة، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق، فما بال الكوافر! ويستنكف أن يدخل تحت لحاٍف واحٍد عدوة الله ووليه، فالتي في سورة المائدة: تعليم ما هو جائز غير محرّم، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات. فإن قلت: ما فائدة "ثم" في قوله: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ)؟ قلت: فائدته نفى التوهم عمن عسى أن يتوهم تفاوت الحكم بين أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منقولةً شرعيةً لا أنه كِنايةٌ فصَحَّ قولُه: و ((مِن آدابِ القرآنِ الكنايةُ عنه بالملامسةِ)) يعني: لا يرادُ به الكناية، بل الاصطلاح؛ لأن من آدابِ القرآنِ عكسَه.

قولُه: (وهذه فيها تعليم ما هو الأولى)، وبيان الاختصاص أن ما في ((المائدة)) وردَت في بيانِ تحريمِ ما يجب تحريمُه وتحليلِ ما هو مباحٌ من الأطعمة والأنكحة كما قال:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] ففيها تعلُّمُ ما هو جائزٌ غيرُ مُحرَّم. وأما اختصاص هذه الآية بما ذكر فهو أنها عقيب قوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، فجُعِلَت تخلُّصًا إلى ذكر ما هو الأفضلُ والأولى والأطيبُ والأزكى بحاله صلى الله عليه وسلم من النساء وما يتعلَّق بهن، فطبّقت لذلك مَفْصِلَ البلاغة.

قولُه: (نَفْيُ التوهُّمِ عمَّن عسى أن يتوهَّم)، يعني: لا تفاوتَ في عدمِ وجوبِ العِدَّة عليها سواءٌ كانت قريبةَ العهدِ بالنكاحِ أو بعيدتَه منه؛ وذلك أن المرأةَ إذا تراخى بها المدة في حِبالةِ الزوجِ استأنسَ كل واحد بصاحبه وربما توقّعَ الرجلُ من توهُّمِ عُلْقَةِ الزوجية وقد تَقَّرر عندَه أَنّ العِدَّةَ حقٌّ واجبٌ للنساءِ على الرجالِ فجيء بـ ((ثُمَّ)) لإزالةِ هذا التوهمِ وبيانِ أنّ العُلْقةَ إنما تتمُّ بالدخول. قال القاضي: فائدة ((ثمّ)) إزاحةُ ما عسى يتَوهَّمُ متوهِّمٌ أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابةُ كما يؤثِّر في النسب يؤثِّر في العدة.

ص: 451

يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها. فإن قلت: إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس، هل يقوم ذلك مقام المساس؟ قلت: نعم، عند أبى حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، وقوله:(فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال. (تَعْتَدُّونَها): تستوفون عددها، من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، كقولك: كلته فأكتاله، ووزنته فاتزنه. وقرئ:(تعتدونها) مخففًا؛ أى: تعتدون فيها، كقوله:

ويوم شهدناه

والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)] البقرة: 231 [.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (في حِبالة الزوج)، الجوهري: الحِبالة: التي يُضادَ بها.

قولُه: (نعم عند أبي حنيفة وأصحابه)، قال القاضي: ظاهرُ الآية يقتضي عدمَ وجوبِ العِدّةِ بمُجرَّدِ الخَلْوة.

قولهُ: ({تَعْتَدُّونَهَا}: تستوفون عَدَها) أي: تعدُّونها عليهنَّ، قال أبو البقاء:{تَعْتَدُّونَهَا} تفتعلونها من العدد، أي: تعدّونها عليهِنّ، وموضعُه جَرٌّ على اللفظ أوْ رَفْعٌ على الموضع.

قولُه: (وقُرِئ: ((تَعْتَدُونَها)) مخفّفًا)، وهو من الاعتداء، كما في قوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] أي: لتظلموا.

قولُه: (ويومٍ شَهِدناه)، تمامه:

سُهيلاً وعامِرًا

قليلٍ سوى الطعنِ الدِّراكِ نوافلُه

ص: 452

فإن قلت: ما هذا التمتيع؟ أواجب أم مندوب إليه؟ قلت: إن كانت غير مفروض لها؛ كانت المتعة واجبةً، ولا تجب المتعة عند أبى حنيفة إلا لها وحدها دون سائر المطلقات، وإن كانت مفروضا لها؛ فالمتعة مختلف فيها: فبعض على الندب والاستحباب، ومنهم أبو حنيفة، وبعض على الوجوب. (سَراحاً جَمِيلًا) من غير ضراٍر ولا منع واجب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة)، قال القاضي:{فَمَتِّعُوهُنَّ} إن لم يكُن مفروضَا لها، فإن الواجبَ المفروضَ لها نصفُ المفروضِ دونَ المتعةِ، ويجوز أن يُؤوَّلَ التمتيعُ بما يعمّهما أو الأمر بالمشتركِ بين الوجوبِ والندبِ، فإنّ المتعة سنةٌ للمفروضِ لها.

سبقَ تقريره في البقرة.

قولُه: ({سَرَاحًا جَمِيلًا} من غيرِ ضِرار)، السَّراح: اسمُ التسريح، وليسَ بمصدر.

الراغب: السَّرْحُ: شجَرٌ له ثمَر، الواحدة سرحة وسَرَّحْتُ الإبلَ: أن تُرْعِيَه السرح ثم جُعِلَ لكل إرسالٍ في الرعي قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، والتسريح في الطلاق مستعارٌ من تَسريحِ الإبلِ، كالطلاقِ في كونه مُستعارًا من إطلاقِ الإبل، واعتُبر في السرحِ المُضيُّ، فقيل: ناقةٌ سُرُحٌ: تسرَحُ في سيرِها، ومضى سَرْحًا جميلاً، والمُنسرِحُ: ضَرْبٌ من الشعر، استعيرَ لفظَهُ من ذلك.

وقلت: وأما بَيانُ رَبْط هذه الآية بأنها كالتمهيدِ للشروع في نوعٍ آخرَ من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم وفضائله وهو استئثار الله له الأفضلَ والأولى واستخارتُه الأطيبَ والأزكى في قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، واختصاصُه من دون المؤمنين بنكاحِ الموهوبةِ نفْسَها لإزاحةِ الحَرجِ عنه وإخلاءِ باله. ألا ترى كيف ضَيَّق على المؤمنين في طلاقِ غيرِ المدخولِ بها حيث أسقط حَقَّهم من العِدّةِ وأمرَهم بسَوْقِ المُتْعةِ والتسريحِ الجميل هذا يؤيد قوله:(({قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مُعْتَرضٌ))، هذا ما خَطر بالبالِ، والله أعلم بحقيقة الحال.

ص: 453

[(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ الله عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 50 [

(أُجُورَهُنَّ): مهورهنّ؛ لأنّ المهر أجر على البضع. وإيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلًا، وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم قال: (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، و:(مِمَّا أَفاءَ الله عَلَيْكَ)، و:(اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ)؟ وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت: قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى، واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر؛ وذلك أنّ تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزًا؛ وله أن يماسها، وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها. وسوق المهر إليها عاجلًا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره. وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما غنمه الله من دار الحرب أحل وأطيب مما يشترى من شق الجلب. والسبي على ضربين: سبى طيبة، وسبى خبثة، فسبى الطيبة: ما سبى من أهل الحرب، وأما من كان له عهد فالمسبي منهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (من الإِثْر)، أي: من الخُلاصةِ والنُّقاوة. الجوهري: الإثرُ بالكَسْر: خُلاصَةُ السَّمْنِ، ويُروى:((من الأُثَر)) جَمْعُ أُثْرَة.

قولُه: (وخُطبة سيفهِ ورمحه)، ينظرُ إلى قولِ الفرزدق:

وذاتِ حَليلٍ أنكحَتْها رماحُنا

حلالٌ لمنْ يبني بها لم تُطلّقِ

ص: 454

سبي خبثة، ويدل عليه قوله تعالى:(مِمَّا أَفاءَ الله عَلَيْكَ)؛ لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وعن أم هانيء بنت أبى طالب: خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه فعذرنى، ثم أنزل الله هذه الآية؛ فلم أحلّ له؛ لأنى لم أهاجر معه؛ كنت من الطلقاء. وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وعن أم هانئ)، في ((جامع الأصول)): هي فاختةُ بنت أبي طالب أختُ علي، خطَبها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني امرأة مُصْبِيةٌ، فاعتذرت إليه فعذَرها. وعن الترمذيِّ عن أم هانئ: خطَبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذَرْتُ إليه فعذَرني، ثم أنزل الله تعالى:{نَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 51]. قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجِر، وكُنت من الطّلقاء.

النهاية: الطلقاءُ: هو الذين خَلّى عنهم يوم فتح مكة وأطلَقهم ولم يسترِقَّهم، الواحدُ: طَليقٌ؛ فَعيلٌ بمعنى مَفعول، وهو الأسيرُ إذا أُطلِقَ سَبيلُه.

قولُه: (وأحلَلْنا لك مَن وقع لها أن تهبَ نفسها لك)، إشارة إلى قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} عطْفٌ على قوله: {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} على تقديرِ الفعل. قال صاحبُ ((الكشف)): ما أظنّك أنك إذا أعربْتَ {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} إلاّ أن تقول: إن انتصابها محمولٌ على

ص: 455

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما قَبْلَه من قولِه: {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} ، وهذا مِن سوءِ تأمُّلك، لأنّ {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} شَرطٌ، والشرطُ لا يصحّ في الماضي وكذا الجزاء، ألا ترى أن لو قُلْتَ: إن قمتُ غدًا قمتَ أمس، لكنت مخطئًا، وقوله:{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} إخبارٌ عن إحلاله في الماضي، فلا يصحُّ ذلك التقدير، بل التقدير: ويُحلُّ لك امرأةً مؤمنةً إن وهبَتْ، ليصحَّ به الجزاء، كما تقول: أقومُ إن قمتَ، وأخرجُ إن خرجْتَ، فافهمه.

وعن أبي علي أنه قال: فإن قلتَ: فإن هذا امتنانٌ منه عز وجل على نَبيِّه بأن أحلَّ له امرأةً وهبَت نفْسَها له فيما مضى، وليس الامتنانُ عليه بامرأةٍ ستفعل ذلك، فإنه يكونُ من باب قوله:{إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، أي: صحَّ أني كنتُ قلته، فكذلك {إِن وَهَبَتْ} أي: إن صح أنها وهبَتْ فإنه تحل لك، فهذا معنى هذا الكلام.

وقال القاضي: ((امرأة)) نصبٌ بفعلٍ يُفَسِّرُه ما قبْلَه، أو عطفٌ على ما سبق، ولا يدفعُه التقييد بـ ((إنْ)) التي للاستقبال، فإن المعنيَّ بالإحلال الإعلامُ بالحلِّ، أي: أعلمناك حِلَّ امرأةٍ مؤمنةٍ تهَبُ لك نفسَها ولا تطلبُ مهْرَها إن اتفق، ولذلك نكرها.

وقال أبو البقاء: قيل في ناصب ((وامرأةً)) وجهان: أحدُهما: {أَحْلَلْنَا} في أول الآية، وقد ردّ هذا قوم وقالوا:{أَحْلَلْنَا} ماضٍ، و {إِن وَهَبَتْ} - وهو صفةُ المرأة- مُستقبل ف {أَحْلَلْنَا} في موضع جوابه، وجوابُ الشرطِ لا يكونُ ماضيًا في المعنى، وهذا ليس بصحيح؛ لأن معنى الإحلال هاهنا الإعلامُ بالحِلِّ إذا وقع الفعلُ على ذلك، كما تقول: أبحْتُ لك أن تكلِّمَ فلانًا إن سَلَّمَ عليك. وقلت: فائدةُ العدولِ المبالغةُ في الامتنان.

ص: 456

ولا تطلب مهرًا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك؛ ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك: فعن ابن عباس رضى الله عنهما: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهنّ بالهبة. وقيل: الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية، وأمّ شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم، رضى الله عنهن. قرئ:(إِنْ وَهَبَتْ) على الشرط. وقرأ الحسن رضى الله عنه: (أنْ) بالفتح، على التعليل بتقدير حذف اللام. ويجوز أن يكون مصدرًا محذوفًا معه الزمان، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسًا، بمعنى: وقت دوامه جالسًا، ووقت هبتها نفسها. وقرأ ابن مسعود بغير "إن". فإن قلت: ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت: هو تقييد له، شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ميمونة بنت الحارث)، في ((الجامع)): توفي عنها أبو رُهم، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع في عمرة القَضِيَّةِ بسرف، على عشرة أميال من مكة.

قولُه: (وزينب بنت خُزيمة)، في ((الجامع)): وزينب بنت خزيمةَ بنت الحارث العامرية، كانت تسمى في الجاهلية أمَّ المساكين لإطعامِها إياهم، كانت تحتَ عبدِ الله بن جحش، فقُتل عنها يومَ أحدٍ، فتزوَّجها صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث.

قولُه: (وأم شريك بنت جابر)، في ((الجامع)): قيل: أم شريك غزيّةُ بنت جابر طلقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلَ بها، وهي وهَبتْ نفْسَها للنبي صلى الله عليه وسلم.

قولُه: (وخولة بنت حكيم)، في ((الجامع)): هي التي وهبَت نفْسَها للنبي صلى الله عليه وسلم، فأرجأها، فتزوّجَها عثمان بن مظعون.

قولُه: (وقرئ: {إِن وَهَبَتْ} على الشرط)، وهي المشهورة.

ص: 457

لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها؛ لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتم. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: (نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ) ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي؛ للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة؛ لأنّ رسول الله) صلى الله عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، وقال الشافعي: لا يصح، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعا؛ لأنّ اللفظ تابع للمعنى، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وتكريره تفخيمٌ له [وتقريرٌ] لاستحقاقِه الكرامةَ لنبوته)، يعني: دلَّ إقامةُ المُظهرِ موضعَ المُضْمرِ في قوله: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} على أنَّ المرأة إنما وهبَتْ نفسَها له، وجاز له ذلك دون غيره تكرِمَةً لأجل نُبوتِه، ودل تكرير ذلك في قولِه:{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} على أن الله تعالى إنما آثر إرادته في ذلك لكونه صلوات الله عليه أهلاً لذلك لأجلِ نُبوَّتِه، فظهَر أن طريقَ التعليلَيْن مختلفة، فكما أنّ نبوتَه اقتضت ذلك كذا إرادته، قال الزجاج: وإنما قيل: {لِلنَّبِيِّ} ؛ لأنه لو قيل: إن وهبَتْ نفْسَها لك، كان يَجوزُ ان يُتوهَّمَ أن في الكلام دليلاً على أنه يجوز ذلك لغير النبيِّ، كما جاء في {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} .

قولُه: (وقد خُصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعًا)، قال الإمام: قال الشافعيُّ رضي الله عنه: معنى الآية إباحةُ الوَطْءِ بالهبة، وحصولُ التزوجِ بلفظِها من خواصك.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: تلك المرأة صارت زوجةً ومن أمهات [المؤمنين] لا تحلُّ لغيرِك أبدًا، وقال: ويمكن أن يقال: فعلى هذا التخصيصُ بالواهبةِ لا فائدةَ فيه؛ فإن أزواجَه كلّهن خالصاتٌ له.

ص: 458

إلى دليل. وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز؛ لقوله تعالى: (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) وقال أبو بكر الرازي: لا يصح؛ لأنّ الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد؛ فهما متنافيان. (خالِصَةً) مصدر مؤكد، كـ (وعد الله)] النساء: 122 [، و (صبغة الله)] البقرة: 138 [، أى: خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصًا، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: وجهُ التقريرِ: أن الله تعالى ذكر في هذه الآية طبقاتِ النساءِ المحلّلاتِ للرسول صلى الله عليه وسلم، واختصاصَهنَّ بما لم يوجَدْ في غيرِهن، وهي كونُهنَّ أمهاتِ المؤمنين ولم يذكر في شيء منها لفظًا تنعقدُ به عُلْقةُ الزوجية سِوى ما ذكر في هذه الواهبة نفسها، فإنه تعالى ما اكتفى بكونها صائرةً من أمهات المؤمنين بسبب إحلالِ الله إياها كالبواقي بل صَرَّح بلفظِ الهبة، ولو لم يكن له مَدخلٌ في الاختصاصِ لم يكن لذكرهِ فائدة، ولقائل أن يقول: فَرْقٌ بين هذه الصورةِ وبين غيرِها فإنه لو لم يذكر لفظ الهبة لم يحصُل المقصود، بخلافِ غيرها فلذلك ذكَره لا أن له مدخلاً في الاختصاص.

قولُه: (أي خَلَصَ إحلالُ ما أحلَلْنا لك خالصة)، يعني: أن {خَالِصَةً} مصدرٌ مولِّدٌ لمضامين الجمل كلها كَوْعدَ الله وصِبْغةَ الله، فلا تختصُّ بقولِه:{وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} كما قال أبو البقاء: {خَالِصَةً} حالٌ من ضميرِ {وَهَبَتْ} أو صفةٌ لمصدرٍ محذوف، واستدلّ المصنِّف لمذهبه بأن قوله:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وردَ بعد ذكرِ الإحلالاتِ التي جمعَها معنى الاختصاصِ برسول الله صلى الله عليه وسلم دون المؤمنين. وقيل: الغرضُ في شرعيتها له خاصة. ومفهومُه مؤكِّدٌ لمضمونِ المعاني كلها لا تختصُّ بواحدة دون واحدة، وهو ما قال:((قد عَلِمْنا ما فيه مصلحةُ المؤمنينَ ففرَضْناها وعلمنا ما فيه مصلحةُ الرسول من الاختصاصِ ففَعلْنا))، فلو عَلّقَ {خَالِصَةً لَّكَ} بقِصّةِ الموهوبة لم يكنْ {قَدْ عَلِمْنَا} معترضًا بل يكون أجنبيًّا وذلك لا يَجوز.

ص: 459

والقاعد، والعافية، والكاذبة. والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصةً برسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التوكيد لها، قوله:(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ في أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) بعد قوله: (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، وهي جملة اعتراضية، وقوله:(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) متصل بـ (خالصة لك من دون المؤمنين)، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية: أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء، وعلى أى حدّ وصفةٍ يجب أن يفرض عليهم؛ ففرضه، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به؛ ففعل ومعنى:(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ): لئلا يكون عليك ضيق في دينك؛ حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك؛ حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات، وزدنا لك الواهبة نفسها. وقرئ:(خالصة) بالرفع، أى: ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين. ومن جعل (خالصة) نعتًا للمرأة، فعلى مذهبه: هذه المرأة خالصة لك من دونهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويلزم أيضًا أنها وحدها خالصة لك من دونهم، قال محيي السنة:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أوجَبْنا على المؤمنين في أزواجهم من الأحكام، أن لا تزوجوا أكثر من أربع، ولا يتزوجوا إلا بولي وشهودٍ ومَهْرٍ وما ملكت أيمانهم، أي: ما أوجبنا من الأحكام في مِلكِ اليمين لكي لا يكون عليك حرج، وهذا يرجع إلى أول الآية، أي: أحللنا لك أزواجَك، وما ملكت يمينك، والموهوبة؛ لكيلا يكون عليك حرج، أي: ضيق.

قولُه: (وفي دَنْياكَ) عَطْفٌ على ((دينِك))، يعني: أطلقَ الحرجَ ولم يُقيِّد أنه في أيِّ شيء، لدَلالة سَوْقِ الكلامِ عليه، والمراد باختصاص التبرئة ما يدل عليه قوله:{اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} من أن لا تترك التسمية، ولا تعجيل المهر، وقوله:{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} من أن لا تكون مُشتراةً مجلوبة، وباختصاصِ ما هو أولى، ما يُنْبيءُ عنه قوله:{اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فإن المهاجراتِ معه من قرابتِه أفضَلُ من غير المهاجرات.

ص: 460

(وَكانَ الله غَفُوراً) للواقع في الحرج إذا تاب (رَحِيماً) بالتوسعة على عباده.

روى: أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هجرهنّ شهرًا، ونزل التخيير، فأشفقن أنّ يطلقهنّ، فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت.

وروى: أن عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسول الله، إنى أرى ربك يسارع في هواك.

[(تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إلَيْكَ مَن تَشَاءُ ومَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ولا يَحْزَنَّ ويَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ واللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) [51]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} للواقعِ في الحرج إذا تاب)، اعلم أن قولَه:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} واردٌ على سبيل التذييل للآية أجمعِها، ومضمونُها رَفْعُ الحَرجِ عن حضرةِ الرسالةِ في أمور النساء، كذا عن الواحدي، فجيء بالفاصلةِ عامة في نفي الحرج من جميع التكاليف في الدين لِسائرِ المؤمنين، فيدخل فيه أمرُ الرسول صلى الله عليه وسلم أوّليًّا فإذن لا مَدْخَل لحديثِ التوبة.

قولُه: (وغِظْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجوهري: الغيظُ: غضَبٌ كامنٌ للعاجز، يقال: غاظه فهو مَغيظ، ولا يقال: أغاظه.

قولُه: (إني أرى ربّك يُسارع في هواك)، روى البُخاريّ ومُسلم وغيرُهما عن عائشة رضي عنها. كانت خولةُ بنتُ حكيمٍ من اللاتي وهَبْنَ أنفُسَهنّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تَهب نفْسَها للرجل، فلما نزَلت:{تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ} ، قلت: يا رسولَ الله، ما أرى ربَّك إلا يُسارعُ في هواك.

ص: 461

(تُرْجِي) بهمز وغير همز: تؤخر (وَتُؤْوِي): تضمّ، يعنى: تترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من تشاء. أو: تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء. أو: لا تقسم لأيتهن، تقسم لمن شئت. أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك، وتتزوّج من شئت. وعن الحسن رضى الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها. وهذ قسمة جامعة لما هو الغرض؛ لأنه إما أن يطلق، وإما أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({تُرْجِى} بهَمْز وبغيرِ همز)، بالهمْزِ: ابنُ كثيرٍ وأبو عَمْروٍ وابنُ عامرٍ وأبو بكر، والباقون: بغَيْرِ همز. قال الزجاج: الهَمْزُ أجودُ وأكثرُ، والمعنى واحد. يقال: أرجأت الأمرَ وَأرجيتُه؛ إذا أخرته.

قولُه: (وهذه قسمةٌ جامعة)، قال صاحب ((التقريب)): أي: حاضرة؛ لأنه إما أن يُطلق أو يُمْسك، فإذا أمسَك ضاجَع أوْ لا، قَسَم أوْ لا، وإذا طَلَّق إما أن يَبْتغيها أوْ لا، قال محيي السنة: المراد من قوله تعالى: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} تردُّ إليك مَنْ تشاء بعد العزل، بلا تجديد عقد.

واعلم أنّ الزجاجَ والواحديَّ وأبا البقاء جعلوا {فَلَا جَنَاحَ} خبرًا لقوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} فَقدّر الزجاجُ: إنْ أردْتَ أن تُؤويَ إليك امرأةً ممن عزلتَ فلا جناح عليك، والواحدي قال: إن أردتَ أن تُؤوي إليك امرأةً ممّن عزلتَهنَّ من القَسْمِ وتضمَّها إليك

ص: 462

يمسك؛ فإذا أمسك: ضاجع أو ترك، وقسم أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل: فإما أن يخلى المعزولة لا يبتغيها، أو يبتغيها. وروى: أنه أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضى الله عنهن، أرجأ خمسًا وآوى أربعًا.

وروى أنه كان يسوّى مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة؛ فإنها وهبت ليلتها لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. (ذلِكَ) التفويض إلى مشيئتك (أَدْنى) إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا؛ لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء، وارتفع التفاضل، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى، وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه؛ اطمأنت نفوسهن، وذهب التنافس والتغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون، وسلت القلوب. (وَالله يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبر الله من ذلك وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه. وقرئ:(تقرّ أعينهنّ) بضم التاء ونصب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلا سَبيلَ عليك بلومٍ ولا عَتَب، فجعلَ الجملةَ الشرطيةَ عَطْفًا على قوله:{وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} وقسيمًا لقوله: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ} ولم يذكر فائدةَ المعطوف، والمصنّفُ اعتبرَها، وذلك أنه فسر:{تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} أولاً بالوجوهِ الأربعةِ الماضية، ثم ثنّى ببناءِ التقسيمِ الحاصِر على الوجهِ الثاني، على طريقةِ الجمْع من الوجوهِ الأربعةِ باستعانةِ انضمام قوله:{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} معها، على أنّ المرادَ بـ ((مَن عزلت)): المطلقةُ المبتغي إيواؤها، فأوجَب ذلك أن يُضَمَّنَ قولُه:{تُرْجِي مَن تَشَاءُ} معنًى يَشْملُ المعزولةَ غيرَ المُبتغي إيواؤها أيضًا ليستَقيم ذلك التقسيم، فحينئذ ((أو)) في الوجوهِ المذكورةِ للتنويعِ لا للترديدِ أو للإباحة، كما في قولِه تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]، وقولُه:((ورُويَ: أنه أرجَأ منهن)) إلى آخره: بيانٌ لبعضِ مَنْ وقعَ إليه التقسيم.

ص: 463

"الأعين"، و"تقرّ أعينهن" على البناء للمفعول. (وَكانَ الله عَلِيماً) بذات الصدور، (حَلِيماً) لا يعاجل بالعقاب، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر. (كُلُّهُنَّ) تأكيد لنون (ويرضين)، وقرأ ابن مسعود:(ويرضين كلهن بما آتيتهنّ) على التقديم. وقرئ: (كلهن)، تأكيدًا لـ «هن» في (آتَيْتَهُنَّ).

[(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)] 52 [

(لا يَحِلُّ) وقرئ بالتذكير؛ لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقى، وإذا جاز بغيرِ فصلٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقُرِئ: ((كُلَّهن)) تأكيدًا لـ ((هُنَّ)) في {آتَيْتَهُنَّ} )، قال ابن جِنِّي: وهي قراءةُ أبي إياس وهي راجعةٌ إلى معنى قراءةِ العامةِ {كَلُّهُنَّ} بضَمِّ اللام، وذلك أنّ رضاهُنَّ كلَّهن بما أوتينَ كُلُّهنَّ على انفرادهِن واجتماعِهن فالمعنيان إذن واحد إلاّ أن للرفع معنى أقوى، وذلك أنّ فيه إصراحًا من اللفظِ بأن يَرْضَيْن كلّهن. والإصراحُ في القراءةِ الشاذةِ -أعني النَّصْبَ- إنما هو في إيتائِهن، وإن كان محصولُ الحالِ فيهما واحدًا مع التأويل.

وقلت: في توكيدِ الفاعلِ دون المفعولِ إظهارٌ لكمالِ الرضى منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملاً سَويًّا، وفي توكيد المفعول إظهارُ أنّهن مع كمال الإيتاء غيرُ كاملاتٍ في الرضى، والأول أبلغُ في المدح؛ لأن فيه معنى التتميم، وذلك أن المؤكِّدَ رفَع إبهامَ التجوُّزِ عن المؤكد.

قولُه: (((لا تحِلُّ))، وقُرئ بالتذكير) أبو عَمْرو: بالتاءِ الفوقانية، والباقون: بالياء. قال الزجاج: مَنْ قرأ بالتاءِ فلأنّ النساءَ في معنى جميعِ النساء، والنساءُ يدلُّ على التأنيث فيُسْتغني عن تأنيثِ ((يحلُّ))، ومعنى التاءِ: لا تحِلُّ لك جماعةُ النساء.

ص: 464

في قوله تعالى: (وَقالَ نِسْوَةٌ)] يوسف: 30 [؛ كان مع الفصل أجوز. (مِنْ بَعْدُ) من بعد التسع؛ لأنّ التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ؛ فلا يحل له أن يتجاوز النصاب، (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ): ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أخر بكلهنّ أو بعضهن، أراد الله لهنّ كرامةً وجزاًء على ما اخترن ورضين. فقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهنّ، وهي التسع اللاتي مات عنهن: عائشة بنت أبى بكر، حفصة بنت عمر، أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، سودة بنت زمعة، أمّ سلمة بنت أبى أمية، صفية بنت حيي الخيبرية، ميمونة بنت الحرث الهلالية، زينب بنت جحش الأسدية، جويرية بنت الحرث المصطلقية، رضى الله عنهن. "من" في (مِنْ أَزْواجٍ) لتأكيد النفي، وفائدته: استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل: معناه: لا تحل لك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقيلَ: معناه: لا تحِلّ لك)، معطوفٌ على قولِه:((من بعد التِّسْع)). والفرقُ أنّ الأولَ فيه حكمان: تحريمُ الزيادةِ على التسعِ وتحريمُ التبديل، والثاني: فيه حُكمٌ واحدٌ، وهو تحريمُ غيرِ ما نَصَّ عليه من الأجناس الأربعةِ المذكورة في قولِه تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية، وقولُه:{وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} تأكيدٌ لذلك، فيجوز أن يزيدَ على العدد، وأن تُبدِّلَ بكُلِّهنَّ أو ببَعْضهنَّ من جِنْسِ ما نَصَّ عليه. يدلُّ عليه ما روى مُحيي السنة عن أبي صالح: أُمِرَ أنْ لا يتزوّجَ أعرابية ولا غريبَةً، ويتزوَّجَ من نساءِ قومِه من بناتِ العمِّ والعمّةِ والخالِ والخالة إن شاء ثلاث مئة. فقولُ المصنِّف:((من الأعربياتِ والغرائبِ)) بيانُ النساءِ في {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ، وقولُه:((من الأجناسِ الأربعة)) بيانُ النساءِ اللاتي نُصَّ إحلالهنَّ، والأعرابيات في مقابلةِ المهاجراتِ، والغرائبِ في مقابلةِ القرايب، والكتابياتُ في مقابلةِ امرأةٍ مؤمنةٍ، والإماءُ بالنكاحِ في مقابلة {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ} .

فإن قُلت: ما فائدةُ الاختلافِ بأن جاء بـ ((أو)) في المعطوفَيْن الأخيرَيْن، أي: في قولِه:

ص: 465

النساء من بعد النساء اللاتي نص إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعه من الأعرابيات والغرائب، أو من الكتابيات، أو من الإماء بالنكاح. وقيل في تحريم التبدل: هو من البدل الذي كان في الجاهلية؛ كان يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتى، فينزل كل واحٍد منهما عن امرأته لصاحبه. ويحكى: أنّ عيينة بن حصن دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عيينة، أين الاستئذان؟ " قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت، ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هذه عائشة أمّ المؤمنين". قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله قد حرّم ذلك"، فلما خرج قالت عائشة رضى الله عنها: من هذا يا رسول الله؟ قال: "أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه». وعن عائشة رضى الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء. تعنى: أنّ الآية قد نسخت. ولا يخلو نسخها: إما أن يكون بالسنة، وإما بقوله تعالى:(إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ)] الأحزاب: 50 [، وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في (تَبَدَّلَ)، لا من المفعول الذي هو (مِنْ أَزْواجٍ)؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((أو من الكتابياتِ أو من الإماءِ)) دون الثاني، والأصل الواو؟ قلتُ: ليؤذنَ بالاختلافِ والجمعِ بين الأقوال، فالواوُ في ((والغرائب)) إشارةٌ إلى قولِ أبي صالحٍ: أن لا يتزوَّجَ أعرابيةً ولا غريبةً، و ((أو)) في ((أو من الكتابيات)) مشيرةٌ إلى ما رَوى مُحيي السنة عن مُجاهدٍ: أنّ معناهُ: لا يحلُّ لك اليهودياتُ والنصرانياتُ، ولا أن تَبدَّلَ بالمسلماتِ غيرَهُنَّ من اليهودِ والنصارى، إلا ما ملكَتْ يمينُك من الكتابياتِ أن تَتسَرّى بهنَّ. وأما ((أو)) في ((أو من الإماء)) فهو ظاهرٌ، لأنه غيرُ مُسْتَنْكرٍ من آحادِ المسلمين أن يتزوج أمَة الغيرِ، فكيفَ بمَنْصِبِ الرسالة، فلو جِيءَ بالواوِ لم يُعْلَم اختلافُ الأقوالِ، وكذا لو أتى بـ ((أو)) في الغرائب لم يُعلَمْ أنه قولُ واحد، وأما صاحبُ ((التقريب)) فقَد أجرى الكلَّ على ((أو)).

ص: 466

لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضًا إعجابك بهنّ. وقيل: هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبى طالب، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ. واستثنى ممن حرم عليه الإماء. (رَقِيباً): حافظًا مهيمنًا، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ الله عَظِيماً)] 53 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لأنه مُوغِلٌ في التنكير)، وقُلتُ: جائزٌ أن يكونَ صفةً لـ {أَزْوَاجٍ} ، والواوُ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ كما تَقرَّر، فالمعنى: ولا أن تبدَّلَ بهنَّ من أزواجٍ مفروضًا إعجابُك بهنَّ لا تفارقُ الإعجابَ عنهن لحُسْنِهُنَّ. وعند صاحبِ ((المِفتاح)): يجوزُ أن يكونَ حالاً من {أَزْوَاجٍ} ، ومُصحِّحها موصوفِيّةُ {أَزْوَاجٍ} ، لأنه على تقديرِ: أزواجٍ من الأزواج، ودخولُ الواوِ لعدَمِ الإلباس بالصفة بناءً على أنه لا يجوزُ توسيطُ الواوِ بين الصفةِ والموصوف. المعنى: ولا أن تبدَّلَ بهنَّ مِن أزواجٍ وإن كُنَّ بالغاتٍ في الحسنِ غايَته، وهذا أبلغ.

قولُه: (واستُثنيَ ممّن حُرِّم عليه الإماءُ)، وهُنَّ اللاتي أشيرَ إليهنَّ في {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} وكُرِّرَ توكيدًا لطول الكلام. وقال أبو البقاء:{مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} في موضعِ رَفْعٍ بَدلاً من {النِّسَاءُ} أو موضعِ نَصْبٍ على الاستثناءِ، وهو من الجنْسِ، فيكونُ متَّصلاً، ويجوزُ أن يكونَ من غيرِ الجنسِ، فيكونَ مُنقطعًا.

ص: 467

(أَنْ يُؤْذَنَ) في معنى الظرف، تقديره: وقت أن يؤذن لكم. و (غَيْرَ ناظِرِينَ) حال من (لا تَدْخُلُوا) وقع الاستثناء على الوقت والحال معًا، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. ومعناه: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام -إلا أن يؤذن لكم إلى طعاٍم غير ناظرين إياه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصًا، لما جاز لأحٍد أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يؤذن له إذنًا خاصًا، وهو الإذن إلى الطعام فحسب. وعن ابن أبى عبلة: أنه قرأ: (غير ناظرين) مجرورًا صفة لـ (طعام)، وليس بالوجه؛ لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقعَ الاستثناءُ على الوقتِ والحالِ معًا)، يعني: وقعَ الاستثناء على وقتِ الإذنِ المصحوبِ بقيدِ {غَيْرَ نَاظِرِينَ} ، وهما قيدان للفعل، فوجبَ تقديرُ مستثنًى منه من أعمِّ هذا المستثنى. أي: لا تدخُلوا في وقتٍ من الأوقاتِ إلا في هذا الوقتِ، لكنَّ النهيَ واردٌ في قومٍ مخصوصين كانوا يضبطون وَقْتَ إدراكِ الطعام فنُهوا عن ذلك، وإليه الإشارةُ بقولِه:((وإلا فلو لم يكُنْ لهؤلاءِ خُصوصًا لَما جازَ لأحدٍ أن يدخُلَ إلاّ أن يؤذَنَ له إذنًا خاصًّا، وهو الإذنُ إلى الطعامِ فحَسْبُ))، لكنه يجوزُ الدخولُ بالإذْنِ مُطلقًا. قال أبو البَقاء:{إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} في موضع الحال، أي: لا تدخُلوا إلا مأذونًا لكم، وهو على هذا حالٌ من فاعل {تَدْخُلُوا} أو حالٌ من المجرور في {لَكُمْ} .

قولُه: (يتحَيَّنون)، أي: يضْبطونَ وقْتَ إدراكِ الطعامِ وحينَه.

قولُه: (كقولك: هِنْدٌ زيدٌ ضارِبتُه هي)، في ((المُقْتَبس)) عن الطبّاخي: التاءُ علامةٌ لا

ص: 468

وإنى الطعام: إدراكه، يقال: أنى الطعام إنى، كقولك: قلاه قلى، ومنه قوله:(بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)] الرحمن: 44 [: بالغ إناه. وقيل: (إِناهُ): وقته، أى: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.

وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم على زينب بتمٍر وسويٍق وشاةٍ، وأمر أنسا أن يدعو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فاعل، والفاعلُ ((هي))، وإنّما أتى به وإن كانَ في اللفظ ما يدلُّ على أن الضرْبَ لهندٍ وهو التاءُ، لأنه يأتي في مواضعَ مَشْكِلاً، فاحتيجَ إلى هذا المُنفَصِل ليَجْرِيَ المُشْكِلُ وغيرُه على سَنَنٍ واحد. قال ابنُ الحاجب: إذا قلتَ: نحنُ الزيدونَ ضارِبون، أو: زيدٌ ضاربٌ، ونحوُهما، يؤدِّي إلى اللَّبْسِ، فَعدلوا إلى المنفصل. قال الشيخُ عبدُ القادر: يجبُ الإبرازُ في قولِك: هندٌ ضارِبتُه هي، ولو قُلتَ: زيدٌ هِنْدٌ ضارِبَتُه، لم يجبْ؛ لأنَّ في الأولِ جَرى الوصْفُ على غيرِ ما هو له. قال مكّي:{غَيْرَ} حالٌ من ((كُم)) في {لَكُمْ} والعاملُ {يؤْذَنَ} ، ولا يجوزُ أن يكونَ وصفًا للطعامِ إذ لو كان وصفًا له لقيل: غيْرَ ناظرينَ أنتُم، لأنّ اسْمَ الفاعلِ إذا جَرى صفةً أو حالاً أو صِلةً من غَيرِ مَنْ هو له لَم يَسْتَترِ فيه ضميرُ الفاعلِ بخلافِه في الفعلِ، فلو قيل: إلى طعامٍ لا يَنْتظرونَ إناهُ؛ على الوصْفِ لجاز.

قولُه: (وإني الطعام: إدراكُه)، قال الزجاج: إناهُ: نُضْجُه وبُلوغُه، تقول: أنى يأني إنًى:

إذا نَضَج وبَلغ. قال مكّي: {إِنَاءُ} : ظرفُ زمانٍ مقلوبٌ مِن: آن، التي بمعنى الحين، فقُلِبَتِ النونُ قبلَ الألفِ وغُيِّرت الهمزةُ إلى الكسرةِ، أي: غَيْرَ ناظرينَ آنه، أي: حينَه، ثم قُلِبَتْ وغُيّرت.

قولُه: (أوْلَمَ على زَيْنبَ بتمرٍ)، الحديثُ من روايةِ البخاريِّ ومُسلمٍ والتِّرمذيِّ

ص: 469

بالناس، فترادفوا أفواجًا يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن قال: يا رسول الله، دعوت حتى ما أجد أحدًا أدعوه، فقال:"ارفعوا طعامكم"، وتفرق الناس، وبقي ثلاثة نفٍر يتحدثون، فأطالوا؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا، فانطلق إلى حجرة عائشة رضى الله عنها، فقال:"السلام عليكم أهل البيت"، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن، ودعون له؛ ورجع، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متوليًا خرجوا، فرجع؛ ونزلت. (وَلا مُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ): نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعٍض لأجل حديث يحدثه به، أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوجسه. وهو مجرور معطوف على (ناظرين). وقيل: هو منصوب على: ولا تدخلوها مستأنسين. لا بد في قوله: (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) من تقدير المضاف، أى: من إخراجكم، بدليل قوله:(وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) يعنى: أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والنَّسائيِّ عن أنسٍ قال: كنتُ أعلمَ الناسِ بشأنِ الحجابِ حين أُنزِلَ، وكانَ أوّلَ ما أُنزِلَ في مُبتنى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بزينبَ بنتِ جَحْش؛ أصبحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عروسًا فدعا القومَ فأصابوا الطعامَ ثم خَرجوا، وبقيَ رَهْطٌ منهم عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المُكْثَ، فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فخرجَ وخرجتُ معه، الحديثُ على نَحْو ما ذكَره المصنِّفُ مع تغييرٍ في رواياتٍ شتّى.

قولُه: (وتوجُّسُه)، الجوهري: التوجُّسُ: التسمُّعُ إلى الصوتِ الخَفيّ.

قولُه: (بدليلِ قوله: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ})، لأن معناه: لا يتركُ تأديبَكم، والتأديبُ في هذا المقامِ إخراجُهم من البيتِ لأنّ جلوسَهم فيه كان يُؤذي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فوجبَ لذلك أن يُقدَّرُ إخراجُهم ليتطابقَ النفيُ والإثبات. وفي وَضْع الحقِّ مقامَ الإخراجِ إيذانٌ بتعظيمِ جانبِ الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 470

ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال قيل: (لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) بمعنى: لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم. وهذا أدب أدّب الله به الثقلاء. وعن عائشة رضى الله عنها: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: (فإذا طعمتم فانتشروا). وقرئ: (لا يستحى) بياٍء واحدة. الضمير في (سَأَلْتُمُوهُنَّ) لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرن؛ لأنّ الحال ناطقة بذكرهن، (مَتاعاً) حاجة (فَسْئَلُوهُنّ) المتاع.

قيل: إن عمر رضى الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبًة شديدة، وكان يذكره كثيرًا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؛ فنزلت. وروى: أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد، فقال: لئن احتجبتن، فإن لكن على النساء فضلًا، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضى الله عنها: يا ابن الخطاب،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ولمّا كان الحياءُ ممّا يمنَعُ الحَيِيَّ من بعض الأفعال قيل: {لَا يَسْتَحْيِي})، يعني: استُعير لقولِنا: لا يمتنعُ ولا يتركُ، لفظُ:{لَا يَسْتَحْيِي} بعد التشبيه، بدليلِ قولِه:((تَرْكَ الحَيِيِّ))، أو لأنّ الله سبحانه وتعالى إذا وُصِفَ بما يختَصُّ بالأجسامِ حُمِلَ على نهاياتِ أغراضِه لا على بداياتِه، فإن الإنسان إذا حيي عن فِعْلٍ عِيبَ فيه، تركَه وامتنعَ منه.

قولُه: (تَرْكَ الحَيِيِّ)، منصوبٌ على المصدر، أي: لا يتركُه تركًا مثْلَ تَرْكِ الحَييِّ منكم. فيه إشعارٌ بأنَّ استعمالَ الحياءِ هنا مَجازٌ مسبوقٌ بالتشبيهِ، فيكونُ استعارةً، لأنَّ المُشَبَّه المتروكَ هو: لا يترك.

قولُه: (قيل: إنّ عُمرَ رضي الله عنه كان يُحِبُّ ضَرْبَ الحجاب عليهن)، روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أنسٍ: قال عمر رضي الله عنه: قلتُ: يا رسولَ الله، يدخلُ عليك البَرُّ والفاجر، فلو أمرْتَ أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزلَ الله سبحانه وتعالى آيةَ الحجاب.

قولُه: (لو أُطاع فيكُنَّ ما رأتكُنَّ عين)، كنايةٌ عن ضَرْبِ الحجابِ، أي: عَيْن الأجانب.

ص: 471

إنك لتغار علينا والوحى ينزل في بيوتنا! فلم يلبثواإلا يسيرا حتى نزلت.

وقيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فنزلت آية الحجاب. وذكر: أنّ بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لأتزوجن عائشة. فأعلم الله أن ذلك محرم. (وَما كانَ لَكُمْ): وما صح لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده، وسمى نكاحهن بعده عظيما عنده، وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله وإيجاب حرمته حيًا وميتًا، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه وسر قلبه واستغزر شكره. فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت؛ لئلا تنكح من بعده. وعن بعض الفتيان: أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفًا واستهتارًا، فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء، وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتى قتلها؛ تصورًا لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غيره. وعن بعض الفقهاء: أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجرى مجرى العقوبة؛ فصين رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاحظ ذلك.

[(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)] 54 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وذُكِرَ أنّ بعْضَهم قال: أنُنهي أن نُكَلِّمَ بناتِ عَمِّنا)، روى مُحيي السنّةِ عن مُقاتل بن سُليمانَ: أنّه طَلْحة بن عُبيد الله. وفي روايتِه بَدَلَ ((فُلانةٍ)): عائشةُ رضي الله عنها.

قولُه: (لا يرى الدنيا بها)، قيل: الباءُ فيه كالباءِ في: بِعْتُ هذا بهذا.

قولُه: (واستهتارًا)، الاستهتار: أن يبلُغَ في الحبِّ غايةً لا يُبالي فيه ما قيلَ فيه، مأخوذٌ من الهَتْرِ، وهو مَزْقُ العِرْض.

قولُه: (في هَدْمِ الثلاث)، أي: الطلقاتِ الثلاثِ عند إرادةِ التحليل.

ص: 472

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) من نكاحهن على ألسنتكم (أَوْ تُخْفُوهُ) في صدوركم (فَإِنَّ الله) يعلم ذلك فيعاقبكم به. وإنما جاء به على أثر ذلك عامًا لكل باٍد وخاٍف؛ ليدخل تحته نكاحهن وغيره؛ ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل.

[(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ الله إِنَّ الله كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)] 55 [

روى: أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت. (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ) أى: لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء، ولم يذكر العم والخال؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أبًا، قال الله تعالى:(وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)] البقرة: 133 [، وإسماعيل عم يعقوب. وقيل: كره ترك الاحتجاب عنهما؛ لأنهما يصفانها لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل ما يدل على فضل تشديد، فقيل:(وَاتَّقِينَ الله) فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحى من الاستتار، واحططن فيه، وفيما استثنى منه ما قدرتن، واحفظن حدودهما، واسلكن طريق التقوى في حفظهما، وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وإنما جاءَ به على أثَرِ ذلك عامّاً)، يعني: كانَ منَ الظاهرِ أن يُقال: إن تبدوا إنكاحَهُنَّ على ألسنتِكم فإنَّ اللهَ يَعلمُ ذلك، فوضَعَ في مَوْضعِهما {شَيْئًا} و {شَيْءٌ} ؛ ليدخُلَ تحْتَ هذا العامِّ دخولاً أوّليًا على سبيلِ البُرْهان، وكان أجْزَل وأهْول.

قولُه: (فقيل: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ})، متَّصلٌ بقَوْلِه:((ثمّ نَقَلَ الكلامَ من الغَيْبةِ إلى الخطاب))، وقولِه:((وفي هذا النقلِ ما يدلُّ على فَضْلِ تشديد)) اعتراض، وإنما كان فَضْلَ تشديدٍ لأنّ الخطابَ أقوى من الغيبةِ، ومَنْ كان مُشافَهًا في الزَّجْرِ كان أرْدَع له مِمّا كان غائبًا، ولذلك قيل: كافَحَه وواجَهَه في الكلام.

قولُه: (واحفَظْنَ حدودَهما)، أي: حدودَ الاحتجاب وما استُثْنيَ منه من عدمِ الاحتجابِ

ص: 473

غير محتجبات؛ ليفضل سركن علنكن (إنَّ الله كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من السر والعلن وظاهر الحجاب وباطنه (شَهِيداً) لا يتفاوت في علمه الأحوال.

[(إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)] 56 [

قرئ: (وملائكته) بالرفع؛ عطفًا على محل (إن) واسمها، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، ووجهه عند البصريين: أن يحذف الخبر؛ لدلالة (يصلون) عليه. (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) أى قولوا: الصلاة على الرسول والسلام. ومعناه: الدعاء بأن يترحم عليه الله ويسلم. فإن قلت: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها؛ فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره، وفي الحديث:«من ذكرت عنده فلم يصل علىّ فدخل النار فأبعده الله» ، ويروى: أنه قيل: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى:(إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتمونى عنه ما أخبرتكم به؛ إنّ الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من المذكورين.

قولُه: (مَنْ ذُكِرْتُ عنْدَه فلم يُصَلِّ عليَّ فَدخلَ النارَ)، روى الشيخُ مُحيي الدين في ((الأذكار)). عن ابنِ السُّنِّي عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ ذُكِرْتُ عندَه فلم يُصَلِّ عليَّ فقد شَقي)).

وروى أيضًا عن التِّرمذيِّ عن أبي هُريرَة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرْتُ عنْدَه فلَمْ يُصَلِّ عليّ)). قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسن.

ص: 474

وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلٍم فيصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابًا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبٍد مسلٍم فلا يصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته لذينك الملكين: آمين»؛ ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاٍء في أوله وآخره؛ ومنهم من أوجبها في العمر مرةً، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط الصلاة عليه عند كل ذكر؛ لما ورد من الأخبار. فإن قلت: فالصلاة عليه في الصلاة، أهى شرط في جوازها أم لا؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطًا، وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكتفون عن ذلك -يعنى الصحابة- بالتشهد، وهو: السلام عليك أيها النبي، وأما الشافعي رحمه الله فقد جعلها شرطًا. فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن؛ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ)] الأحزاب: 43 [، وقوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)] التوبة: 103 [، وقوله صلى الله عليه وسلم:«اللهم صل على آل أبى أوفى» ، ولكن للعلماء تفصيلًا في ذلك؛ وهو: أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى الله على النبي وآله؛ فلا كلام فيها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وهو أنّها إن كانت على سبيلِ التبع)، قال الشيخُ مُحيي الدين في كتابِ ((الأذكار)): أجمعوا على الصلاةِ على نَبيِّنا وعلى سائرِ الأنبياءِ والملائكةِ استقلالاً، وأما غَيْرُ الأنبياءِ فالجُمهورُ لا يُصَلّى عليهم ابتداءً، واختُلِفَ فيه فقيل: هو حرام، وقيل: مَكْروهٌ كَراهةَ تنزيهٍ، لأنّه شِعارُ أهلِ البِدَع، وقالوا: إنَّ الصلاةَ صارَتْ مخصوصةً في لسانِ السلفِ بالأنبياءِ كما أنّ قولَنا عز وجل مخصوصٌ بالله سبحانه وتعالى، وكما لا يُقالُ: محمَّدٌ عز وجل، وإن كان عزيزًا جليلاً، لا يقالُ: أبو بكرٍ أو عَليٌّ صلى الله عليه وإن كان صحيحًا. واتفقوا على جوازِ غيرِ الأنبياءِ تَبَعًا لهم فيقال: اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجهِ وأتباعهِ؛ للأحاديثِ الصحيحة. وأما السلامُ فقال الشيخُ أبو محمَّدٍ الجُوَيْني: هو في معنى الصلاةِ،

ص: 475

وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو: فمكروه؛ لأن ذلك صار شعارًا لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه يؤدى إلى الاتهام بالرفض، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم".

[(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)] 57 - 58 [

(يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ) فيه وجهان؛ أحدهما: أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوّة، ومخالفة الشريعة، وما كانوا يصيبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه، على سبيل المجاز. وإنما جعلته مجازًا فيهما جميعًا، وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلا يُسْتَعملُ في الغائبِ فلا يُفْرَدُ به غيرُ الأنبياء فلا يُقال: عليٌّ عليه السلام، وسواءٌ هذا في الأحياءِ والأموات، وأما الحاضرُ فيُخاطَبُ به، ويُسْتحَبُّ الترضِّي والترحُّمُ على الصحابةِ والتابعينَ فمَنْ بعْدَهُم من العلماءِ والعُبَّادِ وسائرِ الأخيارِ. وأما ما قالَه بعضُ العلماءِ: إن قوِلَه: رضي الله عنه، مخصوصٌ بالصحابة، ويُقالُ في غيرِهم: رحمه الله، فليسَ كما قال، بل الصحيحُ الذي عليه الجمهورُ استحبابهُ ودلائلُه أكثَرُ من أن تُحْصى.

قولُه: (على سبيلِ المجاز)، متعلِّقٌ بقَوْلِه:((أن يُعَبَّر)) يعني: أطلقَ {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وأريدَ به فْعْلُ ما لا يَرْضيانه من الكفرِ والمعاصي وغيرِهما، كأنه قيل: إنّ الذين يَفْعلونَ ما لا يُرْضي الله ورسولَه، فأطْلقَ السَّببُ وأريدَ المسبَّب، وإنّما ارتكبَ طريقَ المجازِ، وإن صَحَّ إطلاقُ الإيذاءِ في حَقِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حقيقةً؛ لئلاّ يَجْعلَ العبارةَ الواحدةَ مُعطيةً معنى المجازِ والحقيقةِ معًا، هذا الطريقُ هو الذي يُسمِّيه الأصوليون عُمومَ المجاز.

ص: 476

والثاني: أن يراد: يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل في أذى الله: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: (يد الله مغلولة)] المائدة: 64 [، و: (ثالث ثلاثة)] المائدة: 73 [، و: (المسيح ابن الله)] التوبة: 30 [، و: الملائكة بنات الله، و: الأصنام شركاؤه. وقيل: قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه: «شتمني ابن آدم، ولم ينبغ له أن يشتمني، وآذاني ولم ينبغ له أن يؤذيني؛ فأما شتمه إياى فقوله: إنى اتخذت ولدًا. وأما أذاه فقوله: إن الله لا يعيدني بعد أن بدأنى» . وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلٍق مثل خلق الله. وقيل في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقيل: كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي وأطلق إيذاء الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (والثاني: أن يُرادَ: يُؤذونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فيكونُ ذِكْرُ الله تمهيدًا لذكْرِه، وأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندَ الله بمكانةٍ حتى إنّ إيذاءَه إيذاؤه.

قولُه: (شتَمني ابنُ آدمَ ولم يَنْبغِ له أن يَشْتُمَني)، الحديث من روايةِ البُخاريِّ والنَّسائي عن أبي هريرة، قد أوردناهُ، وفيما أورَده اختلافٌ في الألفاظ.

قولُه: (وقيل: [طعنُهم عليه] في نكاحِ صَفِيّةَ بنت حُيَيّ)، روى في ((الاستيعاب)) عن أبي عُبَيدةَ: كانت صَفِيّةُ عند سَلاّمِ بن مِشْكَم وكان شاعرًا، ثم خَلفَ عليها كِنانَةُ وهو شاعرٌ، فقُتِلَ يوْمَ خَيْبَر، وتزوَّجَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم سنَةَ سَبْعٍ من الهجرة. ورُويَ عن أنسٍ أنه قال فيه: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما جَمعَ سَبْيَ خَيْبَر جاءَه دِحْيَة فقال: أعْطِني جاريةً من السَّبْي، فقال:((اذهَبْ فخُذْ جاريةً))، فأخذَ صَفِيّةَ فقيل: يا رسولَ الله، إنَّها سيِّدةُ بَني قُريظةَ والنَّضير، ما تصْلُحُ إلاّ لَك، فقال النبيَّ صلى الله عليه وسلم:((خُذْ جاريةً غَيْرها))، قال ابن شِهاب: كانَتْ مِمّا أفاءَ الله عليهِ فحَجَبها، وأوْلَم عليها بتَمْرٍ وسَويقٍ وقَسَم لها، وكانَتْ إحدى أمَّهاتِ المؤمنين.

ص: 477

ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا، وأما أذى المؤمنين والمؤمنات؛ فمنه ومنه. ومعنى (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا): بغير جنايةً واستحقاٍق للأذى. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليًا رضى الله عنه ويسمعونه. وقيل: في الذين أفكوا على عائشة رضى الله عنها. وقيل: في زناةٍ كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات. وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذى كلبًا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف؟ وكان ابن عوٍن لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمّة؛ لما فيه من الروعة عند كرّ الحول.

[(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 59 [

الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زبيد:

مجلبب من سواد اللّيل جلبابا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ورُويَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخَل عليها وهي تَبْكي، فقال لها:((ما يُبكيك))؟ فقالت: إنّ عائشَة وحَفْصَة تنالانِ منّي وتقولان: نَحْنُ خَيْرٌ من صَفيّةَ، قال:((ألا قُلْتِ لهنَّ: كيفَ تكُنَّ خيرًا مني وأبي هارونُ وعَمِّي موسى وزوجي مُحمَّد))، وكانَتْ مِن سِبْط هارون.

وليس في ((الاستيعاب)) ولا في ((الجامع)) أنَّ أحدًا طَعَنَ في نكاحِها، والله أعلم.

قولُه: (فمِنْه ومنْه)، أي فمْنْهُ حَقٌّ ومِنه باطل. والفاءُ للتعقيبِ دخَلَتْ على التفصيل.

ص: 478

ومعنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ): يرخينها عليهنّ، ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ. يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك؛ وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلاٍت، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون -إذا خرجن بالليل إلى مقاضى حوائجهنّ في النخيل والغيطان- للإماء، وربما تعرّضوا للحرّه بعلة الأمة؛ يقولون: حسبناها أمةً، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زى الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه؛ ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن طامع؛ وذلك قوله:(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أى: أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن. فإن قلت: ما معنى (مِنْ) في (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين، أحدهما: أن يتجلببن ببعض مالهنّ من الجلابيب، والمراد: أن لا تكون الحرة متبذلة في درٍع وخمار، كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (مُبْتذلاتٍ)، الجوهري: وابتذالُ الثوب وغيره: امتهانُه، والتبذُّلُ: ترْكُ التصاوُن.

قولُه: (والغِيطان)، الجوهري: أصلُ الغائطِ: المطمئنُّ منَ الأرضِ الواسعُ، والجمْعُ:

غُوطٌ وأغواطٌ وغِيطان.

قولُه: (والمرادُ: أن لا تكون الحرَّةُ مُبتذَلة)، يعني: عَبر بقوله: ((يُدنيَن عليهنّ بَعْضَ جلابيبهنَّ)) عن كوْنِ الحرَّةِ غيرَ مبتذلة، لأنه يلزَمُ من ذلك أن تكونَ ذات جلابيبَ، فلا تُنزل نَفْسَها بمَنْزلةِ مَنْ ليسَ لها إلا دِرْعٌ وخِمار، كالأمةِ. قولُه:((ولها جِلْبابان))، حالٌ من الضمير في ((مُبْتذَلة)).

قولُه: (والماهِنة)، أي: الخادمة. الجوهري: المَهْنة بالفَتْح، أي: الخِدمةُ، وحكى أبو زيدٍ

ص: 479

في بيتها. والثاني: أن ترخى المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة. وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وعن السدى: أن تغطى إحدى عينيها وجبهتها، والشق الآخر إلا العين. وعن الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهنّ. أراد بالانضمام معنى الإدناء. (وَكانَ الله غَفُوراً) لما سلف منهن من التفريط، مع التوبة؛ لأن هذا مما يمكن معرفته بالعقل.

[(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً)] 60 - 62 [

(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل: هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)] الأحزاب: 32 [. (وَالْمُرْجِفُونَ): ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا؛ إذا أخبر به على غير حقيقة؛ لكونه خبرًا متزلزلًا غير ثابت، من الرجفة؛ وهي الزلزلة. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم، والفسقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والكِسائيُّ بالكَسْرِ، وأنكَره الأصمعيُّ، والماهِنُ: الخادم.

قولُه: (لأنّ هذا مِمّا يُمكنُ معرفتُه بالعقل)، وعندَ أهلِ السنّة:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} لِما عسى يصدُر عنهُنَّ [من] الإخلالِ في أمرِ التستُر رحيمًا بهنَّ بعد التوبة. وقيل: {غَفُورًا} لِما وَقَع منهنَّ قبْلَ الأمرِ فلا يُؤاخِذهُنَّ به، في ((المطلع)).

قولُه: (يُرْجِفون بأخبارِ السوء)، الراغب: الرجفُ: الاضطرابُ الشديد، والإرجافُ: إيقاعُ الرجفةِ إما بالفِعْلِ أو القولِ، ويقال: الأراجيفُ مَلاقيحُ الفِتن.

ص: 480

عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء: لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها (إِلَّا) زمنًا (قَلِيلًا) ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم. فسمى ذلك إغراء -وهو التحريش- على سبيل المجاز. (مَلْعُونِينَ) نصب على الشتم أو الحال، أى: لا يجاورونك إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معًا، كما مرّ في قوله:(إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ)] الأحزاب: 53 [،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وتَنُوءُهم)، الجوهري: قال ابنُ السكّيت: يُقال: له عندي ما ساءَهُ وناءَهُ، أي: أثْقَلَه، وما يسوءُه وينوءُه. وقال بعضُهم: أراد: ساءَهُ وأناءه، وإنّما قال: ناءَهُ، وهو لا يتَعدّى لأجل ((ساءَه)) ليَزْدوِجَ الكَلام.

قولُه: (ويلتقطون أنفُسَهم)، الأساس: لَقَطَ الحصا وغَيْرَه والتقَطه ويَلْقُطُه. الانتصاف: في قولهِ: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} إشارةٌ إلى ما فَسَّره الزمخشريُّ إلى أنّ مَنْ توجَّه عليه إخلاءُ مَنْزلٍ مملوكٍ للغيرِ بوَجْهٍ شَرْعيٍّ؛ يُمْهَلُ رَيْثَما نفْسَه ومَتاعَه وعيالَه إن كان له موضعٌ، وإلا يُمْهَلُ حتّى يتَيَّسر له موضِعٌ آخَر.

قولُه: (فسَمّى ذلك إغراءً)، أي: أطلقَ على الأمرِ بأن يَفْعلَ بهم الأفاعيلَ التي تَسوءهُم الإغراءَ بقولِه: {لَنُغْرِيَنَّكَ} على المجازِ مُبالغة.

قولُه: (التحريش)، النهاية: وفي الحديث: نهي عن تحريش البهائم، وهو الإغراءُ وتَهْييُج بعضِها على بعضِ، كما يُفعَلُ بين الجمالِ والكِباشِ والديوك.

قولُه: (دخَل حرْفُ الاستثناءِ على الظرفِ والحالِ معًا)، كأنّه قيل: لا يُجاورونَك فيها في حالٍ من الأحوالِ وزَمنٍ من الأزمنةِ، إلاّ مَطرودين مَلعونين، زمنًا قليلاً، ريْثَما يرتحِلون ويلتقطونَ أنفُسَهم وعِيالاتِهم.

ص: 481

ولا يصح أن ينتصب عن (أُخِذُوا)؛ لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. وقيل في (قَلِيلًا): هو منصوب على الحال أيضًا، ومعناه: لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. فإن قلت: ما موقع (لا يجاورونك)؟ قلت: (لا يجاورونك) عطف على (لنغرينك)؛ لأنه يجوز أن يجاب به القسم، ألا نرى إلى صحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يجاورونك؟ فإن قلت: أما كان من حق (لا يجاورونك) أن يعطف بالفاء، وأن يقال: لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت: لو جعل الثاني مسببًا عن الأوّل لكان الأمر كما قلت، ولكنه جعل جوابًا آخر للقسم معطوفًا على الأوّل، وإنما عطف بـ"ثم"؛ لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه. (سُنَّةَ الله) في موضع مصدر مؤكد، أى: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا. وعن مقاتل: يعنى: كما قتل أهل بدر وأسروا.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ الله وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً)] 63 [

كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة؛ استعجالًا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا؛ لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به؛ لم يطلع عليه ملكًا ولا نبيًا، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع؛ تهديدا للمستعجلين، وإسكاتًا للممتحنين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أما كانَ مِن حَقِّ {لَا يُجَاوِرُونَكَ} أن يُعطَفَ بالفاءِ)، لأنّ جَلاءَهم عن الأوطانِ كان مُسَبّبًا عن التحريشِ بهم وما يَضْطَرُّهم إلى طَلبِ الجلاء؟ وخُلاصةُ الجواب: أنّ ما عليه التلاوةُ أبلغ، ولاحتواءِ الفائدةِ أملأ، كأنّه قيل: لئن لم يَنْتهِ المنافقونَ ليحصُل لهم خَطْبانِ عَظيمان، لكنّ الثاني أعظَمُ عليهِم من الأول، لأنّ مُفارقةَ الوطنِ أعظَمُ المصائب، ألا ترى إلى بني إسرائيلَ كيفَ اختاروا القَتْلَ على الجَلاء.

ص: 482

(قَرِيباً): شيئًا قريبًا، أو لأن الساعة في معنى اليوم، أو في زمان قريب.

[(إِنَّ الله لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)] 64 - 65 [

السعير: النار المسعورة الشديدة الإتقاد.

[(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولا)] 66 [

وقرئ: (تقلب) على البناء للمفعول، و (تقلب) بمعنى: تتقلب، و (نقلب)، أى: نقلب نحن، و (تقلب) على أن الفعل للسعير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({قَرِيبًا}: شيئًا قريبًا، أوْ لأنّ الساعةَ في معنى اليوم)، يعني: مِن حَقِّ الظاهرِ أن يُقال: قريبة، لأنّها خَبرُ ((كان)) واسمُه مؤنَّث، فقيل:{قَرِيبًا} على تأويلِ أنّه صفةُ موصوفٍ محذوفٍ، أو الساعةُ بمعنى اليومِ أو الزمان. روى الزجّاجُ عن أبي عُبيدة: أن ((قَريبًا)) يكونُ للمؤنَّث والثِّنتَيْن والجَمْع بلَفْظِ واحدٍ، ولا يُدْخِلون الهاءَ لأنه ليسَ بصفةٍ ولكن ظَرف، وأنشدَ:

وإنْ تُمْسِ ابنةُ السَّهْميِّ منا

بعيدًا لا تُكلِّمنا كلاما

فإذا جَعلوها صفةً في معنى: مُقْتربة، قالوا: هي قريبة.

قولُه: (وقُرِئ: {تُقَلَّبُ} على البناء للمفعول)، هي المشهورة.

قولُه: (و ((نُقَلِّبُ))، أي: نُقَلِّبُ نحنُ، و ((تُقَلِّبُ)) على أنّ الفعلَ للسَّعير)، قال ابن جِنّي:((تُقَلِّبُ وجوهَهم)) بالنصبِ، فاعلُه ضميرُ السعيرِ، فنُسِبَ الفِعْلُ إليها، وإن كان المُقَلِّبُ هو اللهَ تعالى بدلالةِ قراءةِ أبي حَيْوَةَ:((نُقَلِّبُ)) بالنونِ للملابسةِ التي بينهما، قال الله تعالى:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] نسَبَ المكْرَ إليهما لوقوعِه فيهما، وعليه قولُ الشاعر:

لقَدْ لُمتِنا يا أمَّ غَيْلَان في السُّرى

ونِمْتِ وما ليلُ المطيِّ بنائمِ

ص: 483

ومعنى تقليبها: تصريفها في الجهات، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو: تغييرها عن أحوالها، وتحويلها عن هيئاتها. أو: طرحها في النار مقلوبين منكوسين. وخصت الوجوه بالذكر؛ لأن الوجه أكرم موضٍع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبيتُ ((الكتاب)):

أما النهارُ ففِي قَيْدٍ وسِلْسلةٍ

والليلُ في جَوْفِ مَنْحوتٍ من الساج

أي: المذكورُ في نَهاره في القَيْدِ وفي لَيْلهِ في بَطنِ المنحوتِ، أي: السفينةِ، وقد جاءَ في الأماكنِ نَحْو: سارَتْ بهم الفِجاجُ، أي: ساروا فيها.

قولُه: (ومعنى تقْليبها: تَصْريفُها في الجهات)، الراغب: قَلْبُ الشيء: تصريفُه وصَرْفُه عن وجْهٍ إلى وجه، وقَلْبُ الإنسان أي: صَرْفُه عن طريقتِه والانقلابُ الانصراف قال الله تعالى: {انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، وقَلبُ الإنسانِ قيل: سُمِّيَ به لكَثْرةِ تَقَلُّبهِ، ويُعَبَّرُ بالقلْبِ عن المعاني التي تختصُّ به من الروحِ والعلمِ والشجاعةِ وسائرِ ذلك، وقولُه:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] أي: الأرواح، وقولُه:{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أي: عِلْمٌ وفَهْم. وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 10] أي: تثبُتَ به شجاعَتُكُم ويزولَ خوفُكم، وعلى عكْسِه:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]، وتقليبُ الشيء: تَغْييرُه مِن حالٍ إلى حالٍ نَحْو: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب: 66]، وتقليبُ الأمور: تدبُّرها والنظرُ فيها، قال الله تعالى:{وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} [التوبة: 48]، وتقليبُ الله القلوبَ والبصائرَ: صَرْفُها مِن رأيٍ إلى رأي، وتقليبُ اليدِ: عبارةٌ عن النّدمِ ذكرًا لحالِ ما يُوجَدُ عليه النادمُ، قال تعالى:{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] أي: يُصفِّقُ ندامةً، والقَليبُ: البئرُ التي لم تُطْوَ، والقُلْبُ: المقلوبُ من الإسورة.

ص: 484

على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف:(يَقُولُونَ)، أو محذوف؛ وهو:«اذكر» ، وإذا نصب بالمحذوف كان (يَقُولُونَ) حالًا.

[(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)] 67 - 68 [

وقرئ: (سادتنا)، و (ساداتنا)، وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. يقال: ضلّ السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف؛ لإطلاق الصوت؛ جعلت فواصل الآي كقوافى الشعر، وفائدتها: الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف. وقرئ:(كثيرا)؛ تكثيرًا لإعداد اللعائن، و (كبيرا)؛ ليدل على أشد اللعن وأعظمه. (ضِعْفَيْنِ) ضعفًا لضلاله، وضعفًا لإضلاله. يعترفون، ويستغيثون، ويتمنون، ولا ينفعهم شيء من ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ الله مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً)] 69 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وإذا نُصِبَ بالمحذوفِ كان {يَقُولُونَ} حالاً)، قال أبو البقاء:{يَقُولُونَ} حالٌ من الوجوهِ، لأنّ المرادَ أصحابُها، ويَضْعُفُ أن يكونَ من الضميرِ المجرورِ، لأنه مُضافٌ إليه.

قولُه: (وقُرئ: {سَادَتَنَا} و ((ساداتِنا)))، ابنُ عامر: بالجمع وبكسر التاء، والباقون:{سَادَتَنَا} بفتح التاء.

قولُه: (وقرئ: ((كثيرًا)))، عاصمٌ وحْدَه:{كَبِيرًا} بالباء، والباقون: بالثاءِ المثلثة.

قولُه: (يعترفون ويَسْتغيثون ويتَمنَّوْن)، إشارةٌ إلى نَظْمِ الآياتِ، فالتمنِّي قَوْلُهم:{يَالَيْتَنَى} ، والاستغاثةُ:{رَبَّنَا} ، والاعتراف:{إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا} .

ص: 485

(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قيل: نزلت في شأن زيٍد وزينب، وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وقيل في أذى موسى عليه السلام: هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها. وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون، وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك، فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتًا فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول. وقيل: أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام. وقيل: قرفوه بعيٍب في جسده من برص أو أدرة، فأطلعهم الله على أنه بريء منه. (وَجِيهاً): ذا جاٍه ومنزلةٍ عنده؛ فلذلك كان يميط عنه التهم، ويدفع الأذى، ويحافظ عليه؛ لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن به عنده قربة ووجاهة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة:(وكان عبد الله وجيها). قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرؤها. وقراءة العامة أوجه؛ لأنها مفصحة عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقيل: في أذن موسى عليه السلام، الحديثُ رَواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ عن أبي هُريرَة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهورٌ وقد أورَدْناه فيما سبق.

قولُه: (قَرفوهُ بعَيْبٍ): اتهَّموه، الأُدْرَةُ؛ بالضم: نَفْخَةٌ بالخُصْية.

قولُه: (صَلَّيْتُ خَلْفَ ابنِ شَنَبوذ في شهرِ رَمضانَ فسَمِعتُه يقرؤُها)، أي:((عبدًا لله)) بالباء. قال صاحبُ ((الروضة)): وتُجْزِئُ بالقراءاتِ السبعةِ، وتَصِحُّ بالقراءةِ الشاذّةِ إن لم يكُنْ فيها تغييرُ معنى ولا زيادةُ حَرْفٍ ولا نُقصان، وهاهُنا بين المعنَيينْ بَوْنٌ كما ذكَره المصنِّفُ، ونَحْوُه عن ابن جِنّي.

ص: 486

وجاهته عند الله؛ كقوله تعالى: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)] التكوير: 20 [، وهذه ليست كذلك. فإن قلت: قوله: (مِمَّا قالُوا) معناه: من قولهم، أو: من مقولهم؛ لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة، وأيهما كان؛ فكيف تصح البراءة منه؟ قلت: المراد بالقول أو المقول: مؤداه ومضمونه؛ وهو الأمر المعيب، ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة، والقالة بمعنى القول؟

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ الله الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 70 - 73 [

(قَوْلًا سَدِيداً): قاصدا إلى الحق. والسداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرميّة: إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد، والمراد: نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصٍد وعدٍل في القول،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فكيفَ تَصِحُّ البراءةُ منه)، يعني: لا يقال: بَراءةٌ من القولِ، بل من العَيْب والدِّين.

قولُه: (سَمّوا السُّبَّةَ بالقالة)، النهاية: في الحديثِ ((فشَت القالةُ بين الناس))، أي: كَثْرَةُ القولِ وإيقاعُ الخُصومةِ بين الناسِ بما يُحكى للبعضِ عن البعض.

قولُه: (والمرادُ: نَهْيُهم)، قيل: أي: بـ {لَا تَكُونُوا} ، ((والبعثُ)) أي: بقَوْله: ((قولوا)).

وقلت: وليس بذاك، لأنه عنى بالنَّهْي خوْضَهم في حديثِ زينَب من غيرِ قَصْدٍ وعَدْلٍ في القول، والمنهيُّ في الآية السابقةِ كوْنُهم في أذى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِثْلَ كَوْنِ قومِ موسى عليه السلام في أذاهُ، بل عَطْفُ قوْلِه: و ((البَعْثُ)) على ((نَهْيْهِم)) مبنيٌّ على أن الأمرَ بالشيءِ نَهْيٌ عن ضِدّه، ولو أريدَ بهذا العطفِ ذلك المعنى لجاءَ قولُه:((وهذه الآيةُ مُقرِّرةٌ للتي قَبلَها))

ص: 487

والبعث على أن يسد قولهم في كل باب؛ لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة؛ من: تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل: إصلاح الأعمال: التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية. وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان؛ ليترادف عليهم النهى والأمر، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ؛ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال:(وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ) وعلق بالطاعة الفوز العظيم؛ أتبعه قوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) وهو يريد بالأمانة الطاعة؛ فعظم أمرها وفخم شأنها، وفيه وجهان: أحدهما: أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها، وهو ما يتأتى من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها؛ حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادًا وتكوينًا وتسويةً على هيئاٍت مختلفةٍ وأشكاٍل متنوعة، كما قال:(قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)] فصلت: 11 [، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع. والمراد بالأمانة: الطاعة؛ لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها: مجاز. وأما حمل الأمانة: فمن قولك: فلان حامل للأمانة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى آخرهِ مُكَرّرًا مُسْتَدْرَكًا مع إتباعِ النهيِ ما يتضمَّنُ الوعيدَ من قصةِ موسى عليه السلام، وإتباعِ الأمرِ الوعْدَ. والأولُ على سبيلِ التشبيهِ ليُتصوَّرَ التهديدُ من قولِه:{وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} مِن أنّ الملِكَ لابُدَّ مِن أن ينتَقِم ممَّن يُريدُ نقيصةَ مَنْ له عندَه قُربةٌ ووَجاهةٌ فيُجْتَنبُ عن مِثْلِه، والثاني على سبيل الاشتقاقِ والتعليلِ فيقوى داعيةُ المأمورِ في الامتثالِ بالمأمورِ به، هذا أحسَنُ من قَوله:((فيقَوى الصارفُ عن الأذى والداعي إلى تركِه))، والله أعلم.

ص: 488

ومحتمل لها؛ تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبةً له ولا هو حاملًا لها. ونحوه قولهم: لا يملك مولى لمولى نصرًا. يريدون: أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل، منه قول القائل:

أخوك الّذى لا تملك الحسّ نفسه

وترفضّ عند المحفظات الكتائف

أى: لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده؛ بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؛ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه، فمعنى (فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان): فأبين إلا أن يؤدينها، وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملًا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم؛ لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل؛ لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه؛ وهو أداؤها. والثاني: أن ما كلفه الإنسان ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (قولُ القائل- وهو القُطاميُّ-: أخوكَ) البيت، الحِسُّ: مصدَرُ قَوْلِك: حَسَّ له، أي: رَفَق له. والارفضاضُ: تَرْشيحُ الدمعِ، وكلُّ مُتَفرِّقٍ ذاهبٍ: مُرفَضّ. الكتيفة: الحِقْد، والمُحْفِظات: المُغْضِبات.

يقول: أخوكَ هو الذي إنْ أصابَك مِن أحدٍ ما يَسؤوك يغضَبُ لك ويَرِقُّ لأجْلِك ويذهَبُ حِقْدُه، ولا يُمْسِكُ الرِّقَة والعَطْفَ، بل يَبْذلُ ذلك ويَسْمح به.

قولُه: (والثاني: أنّ ما كُلِّفه الإنسان)، اعلَمْ أنّ الفرْقَ بين الوجهَيْن هو: أنّ التمثيلَ على الأولِ واقعٌ في هذه الأجرام العِظام؛ شُبِّهَتْ حالةُ انقيادِها وأنَّها لا تَمْتنعُ عن مشيئةِ الله وإرادتِه إيجادًا وتكوينًا وتسويةً بهيئاتٍ مُختلفةٍ بحالِ مأمورٍ مُطيعٍ منقادٍ لا يتوقَّفُ عن الامتثالِ إذا توجَّه إليه أمرُ آمرِه المطاعِ كالأنبياءِ وأفرادِ المؤمنين كقولِه: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا

ص: 489

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فُصّلت: 11]، وهذا معنى قولِه تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]، فعلى هذا التأويلِ: معنى {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} أنّها بَعْدَ ما انقادَت وأطاعَتْ ثَبتَتْ عليها وأدَّتْ ما التزَمتها من الأمانةِ وخرجَتْ عن عُهدتِها، سوى الإنسانِ، فإنه ما وَفّى بذلك وخاسَ به، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} .

وعلى الثاني: بعكسِ الأول؛ فإنه شَبَّه حالةَ الإنسانِ وهي ما كُلِّفَه من الطاعةِ بحالةٍ مفروضةٍ لو عُرِضَتْ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ لأبَتْ حَمْلَها وأشفَقتْ مِنها لعِظَمه وثِقَل مَحْمَلِه، وحَمَله الإنسانُ على ضَعْفه وَرِخاوةِ قُوَّته، إنه ظَلومٌ على نفسِه جاهلٌ بأحوالِها حيثُ قَبِلَ ما لم يُطْقْ عليه هذه الأجرامُ العِظام.

وعلى هذا: قولُه: {وَحَمَلَهَا} مُجرًى على حقيقتِه. والمرادُ بالأمانةِ: التكليفُ ومرجِعُه الطاعة، لأنّ المُكلِّفَ ما يريدُ مِنْ تَكليفِه على المُكلَّفِ إلا إظهارَ طاعتِه، فلذلك صَرَّحَ في الأولِ بقوله:((والمرادُ بالأمانةِ الطاعةُ لأنّها لازمةُ الوجودِ)) بَعْدَ ما فَرَّعَ الوجهَيْن عليها حيثُ قال: ((وهو يريدُ بالأمانةِ الطاعَة))، وفيه وَجْهان، والوجْهُ الأول مِن قولِ الزجاج قال: وحَقيقةُ هذه الآية: أعلَمَنا الله تعالى أنه ائتمنَ بني آدمَ على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمنَ السماواتِ والأرضَ والجبالَ على طاعتِه والخضوعِ له، فأمّا السمواتُ والأرضُ والجبالُ فإنَّهُنَّ أطَعْنَ الله بقوله:{أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ولم تحتمل الأمانة، أي: أدَّتْها، وكلُّ مَنْ خانَ الأمانةَ فقد احتمَلَها، وكذلك كلُّ مَنْ أثِمَ فقد احتمَلَ الإثْم، وأداؤها طاعةُ الله فيما أمرَ به.

قال الحسن: الكافرُ والمُنافق حملا الأمانَة، أي: خانا ولم يُطيعا. قال الزجاج: ومَنْ أطاعَ من الأنبياءِ والصدِّيقين والمؤمنينَ فلا يُقال: كان ظلومًا، وتصديقُ ذلك ما يتلوهُ من قوله:{لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} الآية.

ص: 490

بلغ من عظمه وثقل محمله: أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته. (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم؛ من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟ لقال: أسوى العوج. وكم وكم لهم من أمثاٍل على ألسنة البهائم والجمادات! وتصوّر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روى صاحبُ ((المُطْلع)) عن الأزهريِّ قال: ما علِمْتُ أحدًا فَسَّر هذه الآيةَ ما فَسّرَهُ أبو إسحاقَ الزجّاج رحمه الله.

هذا والذي عليه الاعتماد: أنَّ الله عز وجل قادِرٌ بقُدْرتِه على أن يخلِقَ في كُلِّ ذَرّةٍ من ذَرّاتِ الكائناتِ العلمَ والحياة والنُّطقَ للتخاطُب.

روى مُحيي السنّة رحمه الله: عرضَ اللهُ الأمانةَ على أعيانِ السماواتِ والأرضِ والجبال. وعليه جماعةٌ من التابعين وأكثرُ السّلف فقال لهن: أتَحْمِلْنَ هذه الأمانةَ بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسَنْتُنَّ جوزيتنَّ وإن عَصَيْتُنَّ عُوقِبتُنَّ، قُلْنَ: لا يا ربُّ لا نُريدُ ثوابًا ولا عِقابًا خشيةً وتعظيمًا لدينِ الله، وكان العرْضُ تخييرًا لا إلزامًا، ولو ألزمَهُنَّ لم يمتَنِعْنَ من حَمْلِها، والجماداتُ كلّها خاضعةٌ لله ساجدةٌ له، لقوله تعالى:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقوله:{أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18] الآية. قال: بعضُهم: ركَّبَ الله فيهن العَقْلَ والفهْمَ حين عرضَ الأمانةَ عليهِنَّ حتى عقَلْنَ الخِطابَ وأجَبْنَ بما أجَبْنَ. تمَّ كلامُه، والله أعلم.

قولُه: (ثم خاسَ بضمانه)، الأساس: خاسَ بعَهْدِه وبوَعْده: إذا نكَثَ وأخْلَفَ، وخاسَ بما كان عليه. قال ابنُ الدُّمَيْنَة:

فيا ربِّ إنْ خاسَتْ بما كانَ بيننا

من الودِّ فابعَثْ لي بما فعلَتْ صبرا

ص: 491

مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوّر أثر السمن فيه تصويرًا هو أوقع في نفس السامع؛ وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف. وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى؛ لأنه مثلت حاله في تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على أحدهما بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه، وكل واحٍد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية؛ فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئًا والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية، وفي قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟ وفي نظائره: مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات؛ مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في (لِيُعَذِّبَ) لام التعليل على طريق المجاز؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وترجُّحه بين الرأيَيْن)، الأساس: ترجَّحَ في القول: تَرجَّحَ في القول: تَميَّلَ فيه، وترجَّحَتِ الأرجوحةُ، ورجَحَ أحدُ قولَيْه على الآخر.

قولُه: (واللامُ في {لِّيُعَذِّبَ} لامُ التعليل على طريق المجاز)، يعني: عَلَّل بقَوْلِه: {لِّيُعَذِّبَ} قَولَه: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} من حَيثُ إنه نتيجةُ الخيانةِ وإليه مآلُ الحَمْل، كقَولِه تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، ولما كانَ كَرامةُ العدوِّ غَيْظَ العدوِّ وموجبَ شَماتتهِ وكانت التوبةُ على المؤمنين إرغامًا للكافرين، عَطَفَ {وَيَتُوبَ} على {لِّيُعَذِّبَ} ليجمَعَ لهم بينَ العذابَيْن، وإليه الإشارةُ بقوله:((إذا تِيبَ على الوافي كان نوعًا من عذاب الغادر)).

ص: 492

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا التكلُّفُ إنّما لزِمَه لأنه فسّرَ الإنسانَ بالكافر، وجعَل التعليلَ للحَمْلِ بدليلِ قوله:((ليُعذِّب الله حاملَ الأمانة، ويتوبَ على غيرِه مِمّن لم يحمِلها)) حيثُ أوقعَ حاملَ الأمانةِ موقعَ ((على المؤمنين))، ولو حُمِلَ التعليلُ على عَرْضِ الأمانة- كما روى مُحيي السنَّةِ عن ابنِ قُتيبة: عرَضْنا الأمانةَ ليَظْهرَ نِفاقُ المُنافقِ وشِرْكُ المُشْرك فيُعذِّبَهم الله، ويظهَرَ إيمانُ المؤمنِ فيتوبَ الله عليه، أي: يعودُ عليه بالرحمةِ والمغفرةِ إنْ حصلَ منهم تقصيرٌ في بعضِ الطاعات -وحِمُلَ الإنسانُ على الجِنْس كما نَقْلنا عن الزجاج: أنّ الله ائتمنَ آدمَ وأولادَه على ما افترضَه عليهم من طاعتِه إلى آخره، كانَ له مَنْدوحةٌ عن ذلك، وجَرتْ الكلماتُ الأربعُ أعني: اللامَ والحَمْلَ والإنسانَ والتوبةَ على ظواهِرِها. ولعلّه احترزَ أن يُعلِّلَ بإرادةِ العذاب.

أو نقولُ -وبالله التوفيق-: إنّ الله تعالى خلَقَ الخلْقَ ليكونَ مَظاهِرَ أسمائِه الحُسْنى وصفاتهِ العُليا؛ فحاملُ معنى الكبرياءِ والعَظَمةِ: السماواتُ والأرضُ والجبالُ من حيثُ كوْنُها عاجزةً عن حَمْلِ سائرِ الأماناتِ لعدمِ استعدادِها وقَبولِها، ولذلك أبَيْنَ أن يحمِلْنَها وأشفَقْنَ مِنها ولعظَمِها عن أقدارِها، وحملَها الإنسانُ لقُوَّةِ استعداده واقتدارِه لكونِه ظلومًا جَهولاً، فاختُصَّ لذلك من بينِ سائرِ المخلوقاتِ بقَبولِ تَجلِّي القهّارية والتّوابيةِ والمغفرة، وشاركَها بقَبولِ تَجلِّي الرحمة، وله النصيبُ الأوفرُ منها لقوةِ استعدادِه واقتداره.

قال السجاوَنْدي: إن الله في الأنبياءِ والأصفياءِ ترائكَ وبدائعَ من خصائصِ الإنسانيةِ تحصُل بالسَّهْو وتذهبُ بالعِبَر. ذكَره في ((سورة الرعد)). وينصُره ما رَويْنا في ((مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل)) عن أبي هريرة: قُلنا: يا رسولَ الله، إنا إذا رأيْناكَ قلوبُنا وكنّا من أهلِ الآخرة، وإذا فارقْناك أعجَبَتْنا الدنيا وشَمِمْنا النساءَ والأولادَ قال: ((لو أنّكم تكونونَ على حالٍ على الحالِ التي أنتم عليها عندي لصافحتكُم الملائكةُ بأكفِّهم ولزارتكم في بيوتِكم،

ص: 493

لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في:"ضربته للتأديب" نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش: (ويتوب)؛ ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدئ:(ويتوب الله). ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها؛ لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعًا من عذاب الغادر. والله أعلم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه، أعطى الأمان من عذاب القبر".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولو لم تُذْنِبوا لجاءَ الله بقومٍ يُذْنبون كي يغفِرَ لهم)). ورُويَ الفصلُ الأخير عن أبي أيوب الأنصاري.

وقال الإمام: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} أي: كان مِن شأنِه الظلمُ والجهْلُ، فلما أودعَ الله الأمانةَ فيهم تركَ بعضُهم الظُّلمَ والجهلَ وفاءً بما التزمَه، وبقيَ لعضُهم على ما كان فيهِ فخاس فيه. والله تعالى أعلم.

ص: 494

‌سورة سبأ

مكية أربع وخمسون آيةً

بسم الله الرحمن الرحيم

[(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)] 1 - 2 [

ما في السماوات والأرض كله نعمة من الله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة سبأ

مكية، وهي أربع وخمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (ما في السماواتِ والأرضِ كلُّه نِعمةٌ من الله تعالى)، وذلك لأنه مَسارحُ أنظارِ المُتفكِّرين، ومهابطُ أنوارِ ربِّ العالمين، ومنها مَقاماتُ عروجِ العارِفين، فحُقَّ لذلك أن يُحمَدَ ويُثنى عليه.

وحينَ ذكَرَ الله سبحانه وتعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وصَفَ ذاتَه بأنه مالك هذه النِّعمةِ الجسيمة وأنها مِنه، عَلمْنا أنه المحمودُ على نِعَم الدنيا، ولمّا قرَنَ به {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}

ص: 495

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو مَطلق لم يُعْلَمْ أنّ الحمْدَ لأيِّ شيءٍ هو لِما فيه من نعوتِ الكَمال أو لِما أنّ منه النعمةَ والإفضالَ، فقَيَّد بالنعمةِ لدلالةِ القرينةِ الأولى عليها، وآل المعنى إلى أنه المحمودُ على النعمةِ الدنيوية والمحمودُ على النعمةِ الأخروية.

قال القاضي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خَلْقًا ونِعمةً، فله الحمْدُ في الدنيا لكمالِ قُدرتِه وعلى تمامِ نِعْمته، ولو الحمْدُ في الآخرةِ لأنَّ ما في الآخرةِ أيضًا كذلك، وليس هذا من عَطْفِ المُقيَّدِ على المُطلقِ، فإنّ الوصفَ بما يدلُّ على أنه المُنعِم بالنِّعمِ الدُّنيويةِ قَيَّد الحمْدَ بها، وتقديمُ الصلةِ للاختصاص، فإنّ النَّعمَ الدُّنيويَة قد تكونُ بوَساطةِ مَنْ يستحقُّ الحمْدَ لأجلِها ولا كذلك نِعَمُ الآخرة.

وقلت: لعلّه أرادَ بالمُقيَّدِ الحَمدَ الثاني لأنه مُقَيَّدٌ بقَوله: {فِي الْآخِرَةِ} ، والأولُ مُطلقٌ حيثُ لم يُذكَرْ معه ((في الدنيا))، لكنَّ المصنِّفَ قَيَّدهُ بحَسبِ المُقابلة والعَطْفِ على نحوِ قول الشاعر:

عَجِبْتُ لهم إذ يَقْتلونَ نفوسَهم

ومقتلُهم عند الوغى كان أعذَرا

أي: يقْتلونَ نفوسُهم في السِّلْمِ بقرينةِ الوغى، بل قَيَّده بأنّه في الدنيا لأنَّ قولَه:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يدلُّ على ذلك لقولِه: ((ثُمَّ وصفَ ذاتَه بالإنعامِ بجميعِ النِّعَمِ الدُّنيوية))، وهذا عَيْنُ ما ذكَره القاضي، ولعله عَرَّضَ بغيرِ المُصنِّفِ.

ويُمكنُ أن يُقال: إن كُلاًّ من الحَمْدَيْن مُقَيَّدٌ ومُطلقٌ بحَسبِ التقابُلِ، فالأولُ مُقيَّدٌ ومُطلقٌ بحَسبِ التقابُلِ، فالأولُ مُقيَّدٌ بما يُنبُئ عن التعليلِ وتَرتُّبِ الحُكمِ على الوصفِ. والثاني مُطْلقٌ منه، والثاني مُقَيَّدٌ بكَوْنهِ {فِي الْآخِرَةِ} ، والأولُ مُطلَقٌ منه.

وأما إطلاقُ الأولِ فلقِلَّةِ مبالاةٍ بالدنيا وتحقيرِ شأنِها، وإطلاقُ الثاني للإيذانِ بفَخامةِ شأنِه وأنّه مما لا يدخُلُ تحْتَ الوصفِ من الإفضالِ والإكرامِ وغيرِ ذلك.

ص: 496

وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله، ولما قال:"الْحَمْدُ لِلَّهِ" ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، كان معناه: أنه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: أحمد أخاك الذي كساك وحملك، تريد: احمده على كسوته وحملانه. ولما قال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب. فإن قلت: ما الفرق بين الحمدين؟ قلت: أمّا الحمد في الدنيا فواجب؛ لأنه على نعمة متفضٍل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب؛ لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بجميع النِّعم الدنيوية)، تأويلٌ لقولِه:{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأنه عبارةٌ عنِ العالَم، كما قالَ المصنِّفُ في قولِه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]: ((لا يخفى عليه شيءٌ في العالَمِ فعَبَّر عنه بالسماءِ والأرض)).

قولُه: (وأما الحمْدُ في الآخرةِ فليسَ بواجبٍ، لأنه على نعمةٍ واجبةِ الإيصالِ إلى مُستَحِقِّها)، محْضُ التَّقليد. ويردُّه ما روَيْناه عن البُخاريِّ ومُسلمٍ عن أبي هُريرةَ وجابرٍ قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((قارِبوا وسَدِّدوا واعلَموا أنّه لن يَنْجُوَ أحَدٌ مِنكم بعَمَلِه)) قالوا: ولا أنْتَ يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتَغمَّدني الله برَحْمتِه))، وفي روايةٍ أخرى لأبي هُريرَة:((لن يُدْخِلَ أحدًا مِنكم عَمَلُه الجنّة)).

الانتصاف: الحقُّ في الفَرْقِ بين الحمدَيْن: أنّ الأوّلَ عبادةٌ تُكَلَّفُ بها، والثاني لا تكليفَ إنّما هو في الآخرةِ كالأمورِ الجِبِلِّيةِ في الدنيا، كما جاءَ:((يُلِهَمون التسبيحَ كما يُلْهَمون النفس))، وإلا فكلا النّعمتَينْ فَضْل.

ص: 497

وإنما هو تتمة سرور المؤمنين، وتكملة اغتباطهم: يلتذون به كما يلتذ من به العطاش بالماء البارد. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته، (الْخَبِيرُ) بكل كائٍن يكون.

ثم ذكر مما يحيط به علمًا (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من الغيث كقوله: (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)] الزمر: 21 [، ومن الكنوز والدفائن والأموات، وجميع ما هي له كفات، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من الشجر والنبات، وماء العيون، والفلز والدواب، وغير ذلك. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: إنّ قولَه: ((لأنه نعمةٌ واجبةُ الإيصال)) ليس على إطلاقِه عندهم أيضًا، لأنّ ما يُعطي الله العبادَ في الآخرةِ ليس مقصورًا على الجزاءِ عنْدَهم بل بَعْضُ ذلك تَفَضُّلٌ وبعضُه أجْر.

قوله: (تَتِمّةُ سُرور)، أي: يحمَدونه سُرورًا به لا تعبُّدًا فهو تتميمٌ للسرورِ، لأنّ مَنْ حصَلَ في نعيمٍ بعد مُقاساةِ الشدّةِ والتَّعبِ لا يخلو حالُه مِن تذكُّرِ تلك المقاساةِ، وإذا أخْطَرَهُ ببالِه ورأى ما عليه من الكرامةِ والنعيم يزيدُ سرورُه وابتهاجُه، فقولُهم:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] إشارةٌ إلى هذا المقام. ثمَّ إذا ذكر أنّ ذلك النعيمَ وتلكَ الكرامةَ دائمةٌ على وجهِ التعظيمِ وليسَ كنعيمِ الدنيا في أنّه في وَشْكِ الزَّوالِ وسُرعةِ الانفصالِ بل جُلُّها بالاستدراجِ يَزيدُ ذلك السرورُ والاغتباط، وقوله:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ناظرٌ إلى هذا المطلوب.

قولُه: (العُطاشُ بالماءِ البارد)، الجوهري: العُطاشُ: داءٌ يُصيبُ الإنسان يشربُ الماءَ لا يَروي.

قوله: (ما هي له كِفات)، الجوهري: كَفَتُّ الشيءَ أكفُتُه كَفْتًا: إذا ضمَمْتَه إلى نفسِك والكُفاتُ: الموضعُ الذي يُكْفَتُ فيه شيءٌ أي: يُضَمُّ.

ص: 498

والملائكة، وأنواع البركات والمقادير، كما قال تعالى:(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)] الذاريات: 22 [. (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة وأعمال العباد. (وَهُوَ) مع كثرة نعمه، وسبوغ فضله (الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) للمفرطين في أداء مواجب شكرها. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه:(ننزّل)، بالنون والتشديد.

[(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وَهُوَ} مَع كَثرةِ نِعَمِه)، يعني قوله {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} تَتْميمٌ لمعنى ما يَسْتلزمُه قولُه:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} إلى آخرهِ من الامتنانِ بمُوجبِ الحمْدِ من فَضائِله المُتكاثرةِ ومن التفريطِ فيما أوجبَ عليهم من الشُّكرِ على تلك النعمةِ الجَسيمة. أي: نَبَّه بهذا الإعلامِ على هَاذَيْن المعنَييْن، ثمَّ عقَّبه بهاذَيْن الوصفَيْن تتميمًا للمقصودِ، يعني: أنّ الله مع ما أولاهُم تلك النعمَ وشَهِدَ منهم ذلك التقصيرَ يزيدُ في تلكَ النِّعَمِ ويَغْفرُ لهم ذلك التفريط.

فإن قُلْتَ: أليسَ من الظاهرِ أن يَفْصِلَ الآيةَ الأولى بقوله {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} لمّا اشتملَتْ على إيجابِ الحمْدِ على نِعمةِ الدارَيْن ليرحمَهم ويَغْفِرَ لهم ما أن عسى أن فرّطوا فيه. والآية الثانيةَ بقولهِ {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} لمُناسبةِ العلْمِ الحكمةَ والخِبْرة؟

قلتُ: بَلى ولكن خُولفَ ليتكاثرَ المعنى ويحصُلَ التتميمُ والتكميل، فدَلَّ انضمامُ الأولى بفاصلتِها الدالةِ على نوعٍ من العلمِ على معنى التكميل، وأنّ الله تعالى كما أنّه مُنْعِمٌ في الدارَيْن كذا يُحكِمُ أُمورَهما على وجْهٍ قويٍّ رَصين ويعلمُ ما يصدرُ عن العبادِ من تفاصيلِ الحمدَيْن ليَجْزِيَهُم بها على وجهِ الكمالِ والتمامِ، وانضمامُ الثانيةِ بفاصِلتِها آذَنَ بالتتميمِ الذي أشَرْنا إليه ولو أُجْرِيا على الظاهرِ لفاتَ أكثرُ تلك الفوائد. والله أعلمُ بأسرارِ كلامه.

ص: 499

كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)] 3 - 4 [

قولهم: (لا تَاتِينَا السَّاعَةُ): نفى للبعث وإنكار لمجيء الساعة. أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية، كقولهم:(مَتى هذَا الْوَعْدُ)] يونس: 48 [. أوجب ما بعد النفي بـ (بلى) على معنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه مؤكدًا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمي إمدادا بما أنبع المقسم به من الوصف بما وصف به، إلى قوله:(لِيَجْزِيَ)؛ لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه، وشدّة ثباته واستقامته؛ لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعبًا، وأبين فضلًا، وأرفع منزلةً، كانت الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ. فإن قلت: هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، وأوّلها مسارعةً إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم أُعيدَ إيجابُه مؤكَّدًا بما هو الغايةُ في التوكيدِ والتشديدِ وهو التوكيدُ باليمين)، قال صاحب ((الفرائد)): اقتضى المقامُ اليمينَ. لأنّ مَنْ أنكَر ما قيلَ له، فالذي وجبَ أن يُقالَ بعدَ ذلك إذا أُريدَ مُقتَرِنًا باليمين، وإلا كان خَطأً بالنظرِ إلى علم المعاني وإنْ كان صحيحًا بالنظرِ إلى العربيةِ والنحوِ، وما ذكَر مِنْ أنّ عَظمةَ المُقْسَم به تُؤْذِنُ بعَظمةِ الحالِ المُقْسَمِ عليه مُستقيم. فلو وُصِفَ بغَيرِ هذا الوصفِ مما يقتضي العظمةَ كان كذلك، وأما الوصفُ المذكورُ، فلأنَّ إنكارَهم البَعْثَ باعتبارِ أنّ الأجزاءَ المُتفرقةَ المُنْتشرةَ يمتنعُ اجتماعُها كما كانَ يدلّ عليه قولُه تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4] فالوصْفُ بهذه الأوصافِ رَدٌّ لزَعْمِهم واستحالتِهم؛ وهو أنَّ مَنْ كان عِلْمُه بهذه المَثابَةِ كيفَ يَمْنتعُ ذلك منه؟ تَمَّ كلامُه وقد أحسَنَ وأجادَ رحمه الله.

قولُه: (نَعمْ وذلك أنّ قيامَ الساعةِ مِن مشاهيرِ الغُيوب)، إلى آخره، قال صاحبُ ((الفرائد)): لا شكَّ أنه لزِمَ منه أن يكونَ عالمًا بوَقْتِ قيامِ الساعةِ لأنّ مَنْ لا يَعْزُبُ عن

ص: 500

القلب إذا قيل: (عالم الغيب)، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة، وأنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة -فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئًا واضحًا. فإن قلت: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان، وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبًا، كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عِلْمِه شيءٌ لا يَعزبُ عن عِلْمهِ وقْتُ قيامِ الساعة. وأما الاختصاصُ الذي ذكرَ فلزومُه عن ذلك ممنوع.

وقلت: دلّ على الاختصاص قولُهم: {لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ} فإنه إنكارٌ لما هو العُمْدَةُ في الإتيانِ بها من العِلمِ بِالكلِّياتِ والجُزئيات والقدرة على المقدوراتِ، فلما أُجيبَ ب {بَلَى} ضُمِّنَ إثباتُ ما نَفوْهما، فخُصَّ بإحدى العُمْدتَيْن لاختصاصِهما بالتهديدِ والوعيدِ للمُكذِّب. وعَمَّ ليدخُلَ فيه ما أُريدَ إثباتُه أوّلَ شيءٍ. والله أعلم.

قولُه: (هذا لو اقتصَر على اليمين ولم يُتبِعْها الحجَّةَ القاطعة)، قال صاحبُ ((الفرائد)): كلامُه مُشْعِرٌ بأنّ اليَمينَ لم تكُنْ مُصَحِّحة، فَوجودها وعَدَمُها سَواء في التصحيح، والتصحيحُ إنّما يكونُ بالحُجّةِ القاطعةِ بَعْدَها، فلزِمَ أن لا فائدةَ في اليمينِ هاهنا، وهذا ممّا لا سبيلَ إليه، وقد مرَّ إعادةَ ما قبلَ الإنكارِ لابُدّ مِنْ أن يكونَ مقترنًا بالقَسَمِ وإلاّ كانَ خطأٌ بحسب علْمِ المعاني، فلما أوجبت الحكمةُ الإعادةَ وجبَ اقترانُها بالقَسَمِ سواءٌ كان القَسَمُ مُصَحِّحًا لِما أنكروهُ أو غَيْرَ مُصَحِّح.

وقلتُ: والعجَبُ مِنْ هاذَيْن الفاضْلَيْن كيف ذَهَلا عن جَدْوي هذه اليمينِ وجَليلِ عائِدتها في هذا المقام! فإنَّهم جَرَّبوه صلى الله عليه وسلم ولم يُشاهدوا منه إلا الحقَّ ولم يَسْمعوا منه غَيرَ الصِّدْق، ولهذا سَمَّوْه بالأمين، وما كانَ تكذيبُهم إلاّ عن عِنادٍ ومُكابَرة وحَسَد. يدلُّ عليه

ص: 501

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما أورَد في ((الأنعام)) عند قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] عن أبي جَهْل: والله إنّ محمدًا لصادق وما كذَب قَطّ ولكن إذا ذهبَ بنو قُصَيٍّ باللواءِ، إلى آخره، وفي ((حم)) عند قوله:{أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] عن عُتبةَ بنِ رَبيعة: وقد عَلِمْتُم أنّ محمّدًا إذا قالَ شيئًا لم يكذِبْ قط، إلى غير ذلك، فأتى أوّلاً بالنصِّ القاطعِ المؤيَّدِ بالقَسَمِ المُقترنِ بالوصفِ المُناسبِ، وعَقَّبه بالبُرهانِ الساطعِ ليكونَ تقريرًا بعْدَ تقرير. وإنك أمعَنْتَ النظرَ وجَدْتَ جُلَّ الإقسامِ التنزيلي غيْرَ مُقْترنٍ بشَيءٍ من الحجَّةِ فكانَ ذِكْرُ الحُجَّةِ هاهنا كالتتميمِ للنصِّ والمتفرعِ عليه لا الأصل، وإنما اقتضى هذا التوكيدَ- وهو إتيانُ {بَلَى} وإعادةُ قَوْلِه {لَتَاتِيَنَّكُمْ} ثم الإقسامُ عليه، ثم إتباعُه بالوَصْفِ المُناسبِ ثم انضمامِ البُرهان مع ذلك- أنه تعالى هذه السورةَ الكريمةَ بذِكْرِ الحَمْدَيْنِ الجامْعَيْن لأمرِ الدارَيْن، فأوجبَ التكليفَ لعِلّةِ كَوْنِه مالكًا لِما في السماواتِ وما في الأرض، ورَتَّبَ عليه الحمْدَ في الآخرةِ على نِعْمةِ الثواب، فآذَنَ بأنَّ القَصْدَ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ليس إلا المعرفةُ والعبادة، ثم جَزاءُ المحسن العارف العابد وعقابُ المُسيء المعاندِ كقولهِ تعالى:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، ولهذا استُبْعدَ استبعادَ مَنْ يكفُرُ بذلك حيث عطف {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ} على ما قَبْلَه، كقولِه تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، فاقتضى المقامُ لذلك أن يُؤكّدَ الكلامُ بكُلِّ ما أمكَنَ من المُؤكِّدات، فجيءَ أولاً ب {بَلَى} تقريرًا، ثمَّ أعيدَ ما أنكروه تمهيدًا ثم أقسمَ عليه باسْمهِ ووُصِفَ بما يُناسبُ الجوابَ تنصيصا، ثم ختَم كلَّ ذلك بالبُرهانِ تتميمًا وإيذانًا بقُصورِ فَهْمِهم عن إدراكِ النصِّ القاطع، وينصُرُه قولُ الإمام:

وعندي أن الدليلَ المذكورَ في قولِه: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أظهرَ، وذلك

ص: 502

البينة الساطعة، وهي قوله:(لِيَجْزِيَ)، فقد وضع الله في العقول، وركب في الغرائز وجوب الجزاء، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب، والمسيء لا بد له من عقاب. وقوله:(لِيَجْزِيَ) متصل بقوله: (لَتَاتِيَنَّكُمْ تعليلًا له. قرئ: (لتأتينكم) بالتاء والياء. ووجه من قرأ بالياء: أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم. أو يسند إلى (عالم الغيب)، أى: ليأتينكم أمره، كما قال تعالى:(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ)] الأنعام: 158 [وقال: (أوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)] النحل: 33 [. وقرئ: (عالم الغيب)، و (علام الغيب): بالجر، صفة لـ"ربي". و (عالم الغيب)، و (عالم الغيوب):

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنّه إذا كان عالمًا بجميع الأشياء يعلم أجزاء الأجسامِ ويقدرُ على جمعها فالساعة ممكنة القيام، والصادق قد أخبر عنه فتكون واقعة، والله أعلم.

قولُه: ({لَتَاتِيَنَّكُمْ} بالتاءِ والياء)، بالتاءِ الفوقانية: العامة، وبالياء: شاذّة. قال ابن جنّي: روى هارونُ عن طُلَيْق قال: سمعتُ أشياخَنا يقرؤون: ((ليأتينكم)) بالياء. وجازَ التذكيرُ بعد قوله: {لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ} لأنّ المخوفَ منها إنما هو عقابُها والمأمولُ ثوابُها، فغُلِّبَ التذكيرُ الذي هو مَرْجُوٌّ ومَخوفٌ فذَكَّر، فإذا جازَ تأنيثُ المُذكَّرِ بالتأويلِ كانَ تذكيرُ المؤنَّثِ لغَلَبةِ التذكيرِ أحرى. قال تعالى:{يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] لأن بعضَها سَيَّارة أيضًا، وقالوا: ذهبَتْ أصابِعه لأنّ بعْضَها أُصْبَعٌ في المعنى.

قوله: (وقُرئَ: {عَالِمِ الْغَيْبِ})، حمزةُ والكِسائيُّ:((عَلاَّمِ الغيبِ)) بالألفِ بعد اللامِ، وخَفْضِ الميمِ على وَزِنِ فَعّال. والباقونَ:((عالم)) بالألفِ بعد العَيْنِ على وزنِ ((فاعلٍ))، ورَفَعَ الميمَ نافع وابن عامر، وخَفَضَها الباقون.

ص: 503

بالرفع، على المدح. و (لا يعزب): بالضم والكسر في الزاى، من العزوب وهو البعد. يقال: روض عزيب: بعيد من الناس. (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) مقدار أصغر نملة. (ذلِكَ): إشارة إلى (مثقال ذرّة). وقرئ: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر): بالرفع على أصل الابتداء، وبالفتح على نفى الجنس، كقولك: لا حول ولا قوّة إلا بالله، بالرفع والنصب، وهو كلام منقطع عما قبله. فإن قلت: هل يصح عطف المرفوع على (مثقال ذرّة)، كأنه قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر، زيادة لا لتأكيد النفي، وعطف المفتوح على (ذرّة) بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف، كأنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({لَا يَعْزُبُ} بالضّمِّ والكَسْر)، الكِسائيّ هنا وفي ((يونَس)): بالكَسْر، والباقونَ: بالضمِّ.

قولُه: (وقُرئَ {وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ})، وهي مَشْهورة، والفَتْحُ شاذّة.

قوله: (وبالفَتْح على نَفْي الجِنْس)، وفيه إشكالٌ، لأنّ قولَه تعالى:{وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ} مُضارعٌ للمضافِ، نَحْوَ: لا خَيرًا منه. فلو كَان ((لا)) لنَفْيِ الجنْس لوجبَ فيه النصبُ كما نصَّ عليهِ في ((المفصَّل)): لا خيرًا منه قائمٌ هنا، ويُمكنُ أنّه وضعَ الفَتْحَ موضِعَ النَّصْبِ على الكوفيِّ، كما وضعَ النصْبَ موضعَ الفتحِ في قولِه: ((لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله بالرفعِ والنَّصب.

قوله: (وهو كلامٌ مُنقطعٌ عما قبله)، قال القاضي: هو جُملةٌ مؤكدة لنفي العزوب، ورَفْعُه بالابتداءِ، ويُؤيِّده القراءةُ بالفتحِ على نَفْيِ الجنْس.

قولُه: (هل يصحُّ عَطْفُ المرفوعِ على {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ})، إلى قوله: (عَطْف المفتوحِ على

ص: 504

قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر؟ قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في (عَنْهُ) للغيب، وجعلت (الْغَيْبِ) اسمًا للخفيات قبل أن تكتب في اللوح؛ لأنّ إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب، على معنى: أنه لا ينفصل عن الغيب شيء، ولا يزل عنه إلا مسطورًا في اللوح.

[وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)] 5 [

وقرئ: (معجزين). و (أليم): بالرفع والجر. وعن قتادة: الرجز: سوء العذاب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ذَرَّةٍ} ؟ ) وقد قال بِهما أبو البقاء.

قولُه: (يأبى ذلك حَرْفُ الاستثناء)، لأنّ الاستثناءَ حينئذٍ مُنقطع، فيكونُ التقديرُ: لا يعزُبُ عن عالمِ الغيبِ مثقالُ ذَرّةٍ ولا أصغَرُ من مثقالِ ذَرّة ولا أكبرُ منه، لكن ما في كتابٍ مُبينٍ يعزُبُ عنه. وإذا جعَلْتَ الضميرَ للغيبِ يصيرُ المعنى: ولا يعزُب، أي: لا ينفصلُ عن الغيب، أي: الخَفِيّات، مثقالُ ذَرّةٍ، ولا أصغرُ منه ولا أكبر، لكن في كتابٍ مُبينٍ يَعْزُبُ عنه، لأنّ ما في اللوحِ خارجٌ من الغَيبِ لِمَا يَطَّلِعُ فيه الملائكةُ المُقرَّبون.

والمعنى على هذا: أنّ ما أظهَرهُ من علومهِ الت يتنفد الأبحرُ دونَ نفادِها بالنسبةِ إلى ما أخفاهُ كالقَطْرةِ بالنسبةِ إلى الأبحُرِ السبعة.

قولُه: (وقُرئَ: ((مُعَجِّزين)))، بالتشديد: ابنُ كثيرٍ وأبو عَمْروٍ، والباقونَ:{مَعَاجِزِينَ} بالألفِ. و ((أليمٌ)) بالرفعِ: ابنُ كثير وحَفْصٌ، والباقونَ بالجرِّ.

قال الزجاج: ((معاجزين)) بمَعْنى: مسابقين، ومُعَجِّزين: أنّهم يُعَجِّزونَ مَنْ آمنَ بها ويكون بمعنى: مُثَبِّطين.

ص: 505

[وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)] 6 [

(ويرى): في موضع الرفع، أى: ويعلم أولو العلم، يعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يطأ أعقابهم من أمّته. أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، مثل كعب الأحبار، وعبد الله ابن سلام رضى الله عنهما. (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ

الْحَقَّ): هما مفعولان لـ"يرى"، و (هو) فصل. ومن قرأ بالرفع جعل "هو" مبتدأ و"الْحَقَّ" خبرًا، والجملة في موضع المفعول الثاني. وقيل "يَرَى": في موضع النصب، معطوف على (لِيَجْزِيَ) أى: وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علمًا لا يزاد عليه في الإيقان، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا. ويجوز أن يريد: وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه الحق فيزدادوا حسرة وغما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({وَيَرَى} في موضعِ الرفعِ)، أي: ابتداءُ كَلام.

قولُه: (ومَنْ بطأُ أعقابَهم)، النهاية: في حديث عَمّارٍ: ((أنّ رجلاً وشى به إلى عَمَرَ رضي الله عنه فقال: اللهمَّ إن كان كذبَ فاجْعَله مُوطّأَ العَقِب)) أي: كثيرَ الأتباع، دَعا عليه أن يكونَ سلطانًا أو ذا مالٍ فيَتْبعُه الناسُ ويَمْشون وراءَه فيَقعُ في التَّبِعة.

قولُه: (ويجوزُ أن يُريدَ: وليعلمَ مَنْ لم يؤمِنْ)، عَطْفٌ على قَوْلِه:((وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة))، هذانِ الوجهانِ مَبْنيّانِ على أنّ {يَرَى} في موضعِ النصبِ، كما بنى على القولِ الأولِ الوجهَيْن، وهو أن يكونَ {الْحَقَّ} مفعولاً ثانيًا، على قراءةِ النَّصْب، والضميرُ المرفوعُ للفصلِ، وعلى قراءةِ الرفعِ الجملةُ سادَّةٌ مسَدَّ المفعولِ الثاني، قال أبو البقاء: فاعلُ ((يهدي)) ضَمير، ويجوزُ أن يكونَ ضميرَ اسمِ الله، ويجوزُ أن يُعْطَفَ على موضعِ الحقِّ فتكون ((أن)) محذوفةً، فيكونَ مفعولاً ثانيًا، ويجوزُ أن يكونَ في موضعِ اسمِ الفاعل، أي: ويَروْن المُنَزَّلَ حَقًّا وهاديا.

ص: 506

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قُلتَ: كيفَ خَصَّ أحدَ التفسيرَيْن بقوله: ((عِلمًا لا يُزادُ عليه في الإيقانِ))، والآخَر بقوله:((فيزدادوا حَسرْة وغمًّا)

قلتُ: لأنّ المرادَ بـ ((يرى)) ومفعولَيْه: حصولُ العلمِ بعد عَدَمِه، فإذا أًريدَ بأولي العِلمِ الأحبارُ الذين لم يُؤمنوا؛ كان المعنى: ويعلمُ الأحبارُ أنّ المُنزَّلَ حقٌّ حينَ لا ينفَعُهم سوى الحَسْرةِ والندامةِ، كقولِه تعالى:{يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ} [الأعراف: 53] أي: يأتي تأويلُ الكتابِ وعاقبةُ أمرِه مِن تَبَيُّنِ صِدْقِه وظهورِ ما نَطقَ به من الوعدِ والوعيد، فإذا فَسَّرَ أُولي العلمِ بالمُؤمنين، يَنبغي أن يُقالَ: انقلبَ عِلْمُ اليقينِ إلى حَقِّ اليقين لحصُلَ فائدةُ مزيدِ العلم كما قال: ((عِلمًا لا يُزادُ عليه في الإيقان)).

فإن قُلتَ: هل لاختصاصِ تفسيرِ أُولي العلمِ بالأحبارِ الذين لم يُؤمنوا على وجهِ إرادةِ النصبِ دونَ الرفعِ مِن فائدة؟

قلتُ: نعم، لأنّ هذا العطْفَ من قَبيلِ قولِه تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] في الاشتراكِ أو الابتداءِ، فإذا انتصبَ ((يَرى)) دخلَ في حَيِّزِ التعليلِ، وإذا ارتفعَ كانَت جُملةً مُستقلةً معطوفةً على جملةِ قولِه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى} إلى آخرِ الآياتِ الثلاث، وحصولُ العِلْمِ حينئذٍ في الدنيا في الآخرةِ كما في وَجْهِ النَّصْب، فلا يحسُنُ التقابلُ بينَ المعطوفَيْن إلاّ على إرادةِ المؤمنينَ من أولي العلم، كأنه قيل: وقال الجَهَلةُ من الذين كفروا بآياتِ الله: لا تأتينا الساعةُ: وعَلِمَ الذين أوتوا العِلْمَ أنّ المُنزَّلَ حَقٌّ وما نطَقَ به من الوعدِ والوعيدِ صِدْقٌ، وإليه يَنْظُر قولُه {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .

ومما يعضُدُ هذا التأويلَ عَطْفُ قولِه: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} الآية على قولِه:

ص: 507

[وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى الله كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)] 7 - 8 [

(الَّذِينَ كَفَرُوا): قريش. قال بعضهم لبعض: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم؛ يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب: أنكم تبعثون وتنشئون خلقًا جديدًا بعد أن تكونوا رفاتًا وترابًا، ويمزق أجسادكم البلى (كل ممزق)، أى: يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد. أهو مفتٍر على الله كذبًا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أم به جنون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، على منوالِ قولهِ:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، وكقوله:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} إلى قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [يونس: 4]، وقد وضع {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} موضعَ ضميرِ الذينَ كَفروا، لأنّ المعنى: ليأتينَّكم عالِمُ الغيْبِ ليُثيبَ المُؤمنين ويُعاقبَكم أيها الساعونَ في إبطالِ آياتِنا سَعيًا بليغًا، وفيه إشعارٌ بأنَّ منكرَ الحشرِ مكذِّبٌ لله وآياتِه المنزلةِ، ولذلك وردَ:((كَذّبني ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك))، وأنه مستحقٌّ بأن يُنكَّلَ بما لا بَعْدَه من العذابِ والرِّجْزِ الأليم، أعاذنا الله من ذلك.

قولُه: (يُحدّثكم بأعجوبةٍ من الأعاجيب)، دلّ على هذا المعنى تَسْميتُه صلواتُ الله عليه بـ ((رجلٍ)) وتنكيرُه؛ جعلوا القولَ بالإعادةِ من قَبيلِ شيءٍ غريبٍ وأمرٍ عجيب، ونَزّلوا قائلَه مَنْزِلةَ مَنْ لا يُعْرَف. قال صاحبُ ((المفتاح)): كأنّهم لم يكونوا يعرِفونَ منه إلاّ أنّه رجُلٌ ما، وهو أشْهَرُ عندهم من الشمسِ، وهو من باب التجاهل.

قولُه: (أهو مُفْتَرٍ) إلى قوله: (أم به جنون)، ((أم)) هذه يحتملُ أن تكونَ متّصلةً وأن تكونَ منقطعة. وعلى الأولِ ظاهرُ كلامِ الجاحظِ على ما رويَ أنّه احتجَّ بهذه الآيةِ على أنّ من الخبرِ

ص: 508

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما ليسَ بصادقٍ ولا كاذب، لأنهّم حصروا دعوى النبيِّ الرسالةَ في الافتراءِ وفي الإخبارِ حالَ الجنون، وليسَ إخبارُه حال الجنونِ كذِبًا لجَعْلِهم الافتراءَ مقابلاً له، ولا صِدْقًا لأنّهم لم يعتقدوا صِدْقَه، فثبتَ أنّ من الخبرِ ما ليس بصادقٍ ولا كاذب.

وأجيب: أنّ الافتراءَ هو الكَذِبُ عن عَمْدٍ، فهو نوعٌ من الكذب، فلا يمتَنعُ أن يكونَ الإخبارُ حالَ الجنونِ نوعًا منه، وهو الكذِبُ لا عَنْ عَمْدٍ، فيكون التقسيمُ للخبرِ الكاذبِ لا للخبرِ مُطْلقًا.

وقلتُ: هذا جوابٌ حسَنٌ لطيف لكنّ الأصلَ مَدْخولٌ فيه من وجهَيْن: أحدُهما: أنّ ورودَ الآيةِ في البعثِ والحشرِ لا في دعوى الرسالة بدليلِ السابقِ أي: قولهم {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] واللاحق أي: قولُه {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [سبأ: 8]، ولذلك كان قولُ المصنّف:((من ذلك)) بيانًا لقولِه: ((ما يُنْسَبُ إليه))، والمشارُ إليه ما دلَّ عليه قولُه:((إنّكم تُبْعثونَ وتُنْشئونَ خَلْقًا جديدًا)) إلى آخرهِ.

وثانيهما: ظهورُ ((أم)) في كونِها مُنقطعةً لفظًا لاختلافِ مدخولَي الهمزة و ((أم)) لأنّ المعانِدين لمّا أخرجوا قولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} مُخْرَجَ الطَّنْزِ والسخرية متجاهلين برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبكلامِه من إثباتِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، وعَقّبوهُ بقوله {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أضربوا عنه إلى ما هو أبْلغُ منه تَرقِّيًا من الأهون إلى الأغلظِ مِن نسبةِ الجنونِ إليه

ص: 509

يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ ثم قال سبحانه ليس محمٌد من الافتراء والجنون في شيء، وهو مبرأ منهما، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك، وذلك أجنّ الجنون وأشدّه إطباقًا على عقولهم. جعل وقوعهم في العذاب رسيلًا لوقوعهم في الضلال، كأنهما كائنان في وقت واحد؛ لأنّ الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته؛ جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان. وقرأ زيد بن علىّ رضى الله عنه:(نبيكم).فإن قلت: فقد جعلت الممزق مصدرا، كبيت الكتاب:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: دعوا حديثَ الافتراءِ فإنّ هاهنا ما هو أطمُّ منه، لأنّ العاقلَ كيف يُحدِّثُ بإنشاءِ خَلْقٍ جديدٍ بعد الرُّفات والتراب، فإنَّ جُنونَه يُوهمُه ذلك ويُلقيه على لسانه. ولمّا كان التعويلُ على ما بعدَ الإضرابِ مِن إثباتِ الجنون أوْقعَ الإضرابَ الثاني ردًّا عليهم قولَهم، ونَفْيًا عنه صلواتُ الله عليه ما أثبتوا فيه من الجنون وإثباتًا له فيهم كما قال المصنِّف:((بل هؤلاءِ القائلون الكافرون بالبعثِ)) إلى قوله: ((أجنُّ الجنونِ وأشدُّه إطباقًا على عقولِهم)) كأنّه قيل: لمّا قالوا: أهو مُفْتَرٍ على الله بل به جِنّة، أضْربَ عنه وقيل: بل القائلون بهم أشدُّ الجنون. فوَضعَ ((القائلون)) قولَه: {لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} على سبيلِ العُمومِ ليدخلوا فيه دخولاً أوّليًّا، وليُسَجِّلَ عليهم الجنونَ بالطريقِ البُرهاني، ووضع موضعَ:((بهم الجنون)) قولَه: {فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} وضعًا للسببِ موضعَ المُسَبَّب ليؤذِنَ بأنّ الإضلالَ أبْعدُ مِن ضَلالِ مُنكرِ البَعْثِ لأنّه مُبْطِلُ حِكْمةِ الله في خَلْقِ العالَم، ومكَذِّبُ الله تعالى في وَعْدِه ووعيدِه كما قال:((كذبني ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك)) الحديث، وجاهلٌ مُفرِطٌ في جَهْلِه حيث تعرَّضَ لسَخَطِ الله وإيقاعِ نَفْسِه في العذابِ السَّرْمَدِ. والله أعلم.

قولُه: (رَسيلاً لوقوعِهم في الضلال)، الأساس: يقال: هو رَسيلُك في الغناء، أي: يُباريك في إرسالِك، ومن المجاز تقول: القَبيحُ سوءُ الذِّكْرِ رَسيلُه، وسوءُ العاقبةِ زَميلُه.

ص: 510

ألم تعلم مسرحي القوافي

فلاعيّا بهنّ ولا اجتلابا

فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت: نعم. معناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع، وما مرّت به السيول فذهبت به كل مذهب، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح. فإن قلت: ما العامل في "إذا"؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ألم تَعْلَمْ مُسَرَّحيَ)، البيت:((مُسَرَّحي)): سرَّح القومُ الإبلَ: إذا أرسلوها في في المرعى.

مُسَرَّحي، أي: تسريحي، فلا أعيا بهِنَّ إعياءً، ولا أجتَلِبُهُنَّ اجتلابًا، أي: انتحالاً.

قولُه: (ما العاملُ في ((إذا))؟ )، قال الزجاج: في هذه الآيةِ نظرٌ لطيف، وهو أنَّ ((إذا)) في موضعِ نَصْبٍ بـ {مُزِّقْتُمْ} ولا يَعملُ فيها {جَدِيدٍ} لأنّ ما بعْدَ ((أنّ)) لأنّ ما بعْدَ ((أنّ)) لا يَعملُ فيما قَبْلَها. المعنى: هل ندلُّكم على رجلٍ يقولُ لكم: إنكم إذا مُزِّقتُم تُبعثون، ويجوزُ أن يكونَ العاملُ مُضمرًا يدلّ عليه {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. المعنى: هل ندلّكم على رجلٍ يقولُ لكم: إذا مُزِّقْتم بُعِثْتُم، إنكم في خَلْقٍ جديد كقوله تعالى:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82].

وقال أبو البقاء: لا يجوزُ أن يعملَ فيها {مُزِّقْتُمْ} لأنّ ((إذا)) مُضافةٌ إليه.

وقال الزجاج: ((إذا)) حينئذٍ بمنزلة ((إنْ)) الجزاء يعملُ فيها الذي يليها. قال قيس بن الخَطيم:

إذا قَصُرَتْ أسيلفُنا كان وَصْلُها

خُطانا إلى أعدائنا فنُضارِبِ

ص: 511

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعنى: يكُنْ وصلُها. والدليلُ على ذلك جَزْمُ ((فنُضارب)).

والكنايةُ في ((وَصْلُها)) للأسياف. المعنى: إذا يكونوا بحيث لا تَصِلُ أسيافُنا إليهم نحنُ نتقَدَّمْ إليهم ونُضاربْهم بها.

قال السَّجاوَنْدي: عاملُ ((إذا)) محذوف، أي:((بُعِثْتُم)) دلّ عليه {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، إذْ {مُزِّقْتُمْ} إنّما يَعْملُ في ((إذا)) إذا كان كان مجزومًا بها، نحو: مَنْ تَضِربْ يَضْربْني، فإنّه إذا لم يُجْزَمْ بها كانت مُضافةً إلى الفعل، والمضافُ إليه لا يعملُ في المضاف، فالجزْمُ بـ ((إذا)) وإنْ جاءَ في الشِّعرِ ضرورةً لا يُحْمَلُ عليه القرآن. وروايةُ الجزمِ في الشعر:

إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان طولُها

خُطانا إلى أعدائنا فنُضاربِ

وخَطّأه المَغْربيُّ لأنَّ القصيدةَ مرفوعةُ القوافي، وفيها:

وقد عشتُ دهرًا والغواةُ صحابتي

أولئك خُلْصَانِي الذين أصاحبُ

وفيها:

وللمالِ عندي اليومَ راعٍ وكاتبُ

ولا يجوزُ أن يَعْملَ في ((إذا)): {يُنَبِّئُكُمْ} ، لأنّ التنبئةَ قبلَ التمزُّق.

ص: 512

قلت: ما دلّ عليه: (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، وقد سبق نظيره. فإن قلت: الجديد: فعيل، بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت: هو عند البصريين بمعنى فاعل، تقول: جد فهو جديد، كحد فهو حديد، وقلّ فهو قليل. وعند الكوفيين بمعنى: مفعول، من جده إذا قطعه. وقالوا: هو الذي جده الناسج الساعة في الثوب، ثم شاع. ويقولون: ولهذا قالوا: "ملحفة جديد"، وهي عند البصريين كقوله تعالى:(إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ)] الأعراف: 56 [ونحو ذلك. فإن قلت: لم أسقطت الهمزة في قوله: (أَفْتَرى) دون قوله: (السحر)، وكلتاهما همزة وصل؟ قلت: القياس الطرح، ولكن أمرا اضطرّهم إلى ترك إسقاطها في نحو:(السحر) وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر؛ لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام. فإن قلت: ما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت: هو من الإسناد المجازى؛ لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادّة، وكلما ازداد عنها بعدًا كان أضل. فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورًا علمًا في قريش،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (في الثوب)، مُتعلّقٌ بـ ((قالوا)). أي: قالوا في الثوب: جديد، لأنه هو الذي جَدَّه، أي: قَطَعهُ الناسجُ الساعةَ، ثم شاعَ هذا اللفظُ في كلِّ شيءٍ. ويقولون: كتابٌ جديد، وبيتٌ جديد، وغلامٌ جديد.

قولهُ: (وهي -أي: المِلْحَفة جديدٌ- عند البصريين) في تأويلِ شيءٍ جديد، أي: ثوبٍ جديد، أو على تَشْبيهِه بفَعيلٍ الذي بمعنى مفعولٍ نحو: قتيلٍ وأسيرٍ كما شُبِّه ذلك به. فقيل: قُتَلاءُ وأسَراء، فإنّ فَعيلاً يُجْمَعُ على فُعَلاءَ، نَحْو: كريمٍ وكُرَماء، ورحيمٍ ورُحَماء.

قولُه: (دونَ قوله {السِّحْرُ})، أي: في قولِه تعالى: {مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ} [يونس: 81] على الاستفهامِ في سورةِ يونس عليه السلام.

ص: 513

وكان إنباؤه بالبعث شائعًا عندهم، فما معنى قوله:(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على مجهوٍل في أمٍر مجهول؟ قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجى التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره.

[أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَا نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)] 9 [

أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم، أو يسقط عليهم كسفًا، لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما، وما يدلان عليه من قدرة الله (لَآيَةً)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قَولُه: (ببعضِ الأحاجي)، الجوهري: حاجَيْتُه فحَجوْتُه: إذا داعَيْتَه فَغَلبْتَه. والاسمُ: الأحْجِيَّةُ، وهي لُعبةٌ وأُغلوطة يتعاطاها الناسُ بينهم.

قولُه: (أعَمُوا فلم ينظروا)، يريدُ أنّ همزةَ الإنكارِ الداخلةَ على قوله:{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من حيث التقدير داخلٌ على فعلٍ هو السَّبَبُ في الفعلِ المذكورِ، ((وأمامَهم وخَلْفَهم)) خبرانِ و ((مُحيطتان بهم)): عَطْفُ بيانٍ له أو بَدَل.

قوله: (من ملكوتِ الله)، أي: السماواتِ والأرض، لأن ((من)) بيان ((ما)) في ((عمّا هم فيه)).

قولُه: (وما يدلاّن)، عطفٌ على الضميرِ المجرور، أي: والفكرِ فيما يدلاّن عليه، أو على ((السماءِ والأرضِ))، وهو الأصوبُ.

ص: 514

ودلالة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ): وهو الراجع إلى ربه، المطيع له؛ لأنّ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، على أنه قادر على كل شيٍء من البعث ومن عقاب من يكفر به. قرئ:"يشأ" و"يخسف" و"يسقط" بالياء؛ لقوله تعالى: (أَفْتَرى عَلَى الله كَذِباً)] سبأ: 8 [. وبالنون لقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا). و (كسفا): بفتح السين وسكونه. وقرأ الكسائي: (يخسف بهم) بالإدغام، وليست بقوية.

[وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (على أنّه قادرٌ على كلِّ شيءٍ من البعثِ ومن عقابِ مَنْ يكفُرُ به)، مَتَعلِّقٌ بقوله:((ودلالة))، يريدُ أنّ قولَه:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} تذييلٌ لقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم} وتعريضٌ بقلّةِ النظرِ في مُنكري البعثِ والحشرِ في آياتِ الله، وإليه الإشارةُ بقوله:((لأنّ المنيبَ لا يخْلو من النظرِ في آياتِ الله)). وفيه الإشارةُ إلى بيانِ نظْمِ هذه الآية بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} وبقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} لأنه كالتخلُّصِ منه إليه، لأنه منَ المُنيبين المتفكِّرين في آياتِ الله، قال تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17].

قال القاضي: قوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} تذكيرٌ بما يُعاينوه مما يدلُّ على كمالِ قدرةِ الله تعالى وما فيه إزاحةُ استحالتِهم الإحياءَ حتى جَعلوه افتراءً وهُزوًا، وتهديدٌ عليهم.

قولُه: (((يَشَا)) و ((يَخْسِفْ)) و ((يُسْقِط))، بالياءِ): حَمزةُ والكِسائي: ثلاثتُها بالياء. وأدغَم الكِسائيّ الفاءَ في الباء، والباقون: بالنونِ فيهنّ، وقرأ حَفْصٌ:{كِسَفًا} بفَتْح السينِ، والباقونَ بإسكانها.

قولُه: (((يخْسِفْ بهم)) بالإدغام، وليست بقوِيّة)، المُطْلع: لزيادةِ صوتِ الفاءِ على صوتِ الباءِ كما لا يجوزُ إدغامُ الراءِ في اللام.

ص: 515

شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)] 10 - 13 [

(يا جِبالُ) إمّا أن يكون بدلا من: (فَضْلًا)، وإمّا من:(آتَيْنا)، بتقدير: قولنا: يا جبال. أو: قلنا: يا جبال. وقرئ: (أوّبى) و (أوبى) من التأويب والأوب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بتقديرِ: قولنا: يا جبالُ، أو قُلنا: يا جبالُ)، رُوِيَ ((قَوْلنا)) بالنَّصْبِ والجرِّ. الأوّلُ على تقديرِ أن يكونَ بدَلاً مِن {فَضْلاً} أي: ولقد آتينا دوادَ مِنّا قَوْلَنا: {يَا جِبَالُ} ، والثاني على أن يكونَ بَدَلاً مِن {آتَيْنَا} أي: ولقد قُلنا: يا جبالُ أوِّبي مع داود.

قوله: (وقُرئَ: {أَوِّبْي} و ((أُوبي)))، الأولى هي المشهورةُ، والثانية شاذة.

الراغب: الأَوْبُ: ضَرْبٌ من الرجوعِ، لأنّ الأَوْبَ لا يُقال إلاّ في الحيوانِ الذي له إرادةٌ، والرجوعُ عام يُقالُ: آبَ أوْبًا وإيابًا ومآبًا. والأوّاب كالتوابِ وهو الراجعُ إلى الله تعالى من المعاصي وفعل الطاعات قال تعالى: {أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق: 32]، ومنه قيلَ للتوبةِ أوْبَة.

قولُه: (من التأويب والأوب)، قال صاحبُ ((التقريب)): أي: رَجِّعي معه التسبيحَ أو: ارجِعي معه في التسبيح بترجيعِه.

قلتُ: في كلامِ المصنّفِ إشعارٌ بأنّ مَرْجعَ معنى القراءتَيْن- وهو الرجوعُ معه في التسبيحِ- إلى واحد، وتعليلُه مُنْبِئٌ عنه؛ لأنّ الترجيعَ مستلزمٌ للرجوع. ذكَر في سورةِ ((ص)): وضَعَ الأوّابَ موضِعَ المُسَبِّحِ لأنّها كانت تُرجِّعُ التسبيح والمُرَجِّعُ رَجَّاعٌ لأنّه يَرْجِعُ إلى فِعْلِه رجوعًا بعد رجوع، ولأنّه إذا رَجَّعَ الصوتَ أي: رَدَّده فقد رَجَعَ فيه أي: رجَعَ إلى ما

ص: 516

أي: رجعي معه التسبيح. أو: ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه؛ لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه، ومعنى تسبيح الجبال: أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحًا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح؛ معجزة لداود. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها، والطير بأصواتها. وقرئ:(والطير) رفعًا ونصبًا عطفًا على لفظ الجبال ومحلها. وجوّزوا أن ينتصب مفعولاً معه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بدأَ منه. ويعضُدُه ما رَويْنا عن البخاريِّ ومُسلمٍ وأبي داودَ عن عَبدِ الله بنِ مُغَفَّل قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ فَتْح مكّةَ على ناقتِه يقرأُ سورةَ الفتحِ، فرجَّع فيها، قال: ثُمَّ قرأَ مُعاويةُ يَحْكي قراءةَ ابنِ مُغفَّل فَقال: لولا أن يجتمِعَ الناسُ عليكُم لرجَّعْتُ كما رَجَّعَ ابنُ مُغفَّلٍ يحكي النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: اآ اآ اآ ثلاث مرات)).

النهاية: الترجيعُ: ترديدُ القراءةِ. وقيل: هي تقاربُ حروفِ الحركاتِ في الصوتِ. وقد حكى ابنُ مُغَفَّل تَرْجيعَه بمَدِّ الصوت في القراءة. وهذا إنّما حصلَ منه- والله أعلمُ- يوْمَ الفتحِ؛ لأنّه كان راكبًا فجَعلتِ الناقةُ تحرِّكه.

قال مُحيي السنَّة: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} سَبِّحي معه إذا سَبَّح، فقيل: هو تفعيلٌ من الإيابِ، وهو الرجوعُ، أي: رَجِّعي معه. قال القُتَيْبي: أصله من التأويبِ في السَّير، وهو أن يَسيرَ النهارَ كلَّه بالتسبيحِ معه.

قوله: ({وَالْطَّيْرَ} رفعًا ونَصْبًا)، والنَّصْبُ هي المشهورة والرّفعُ شاذّ.

قوله: (وجَوّزوا أن ينتصِبَ مفعولاً معه) قال الزجّاج: ويجوزُ أن يكونَ ((الطير)) منصوبًا على معنى: مع، كما تقول: قَمْتُ وزيدًا أي: قَمْتُ مع زيدٍ، فالمعني: أوِّبي معَه ومعَ الطير.

ص: 517

وأن يعطف على (فضلا)، بمعنى: وسخرنا له الطير. فإن قلت: أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا)؛ تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما! ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى؛ من الدلالة على عزّة الربوبية، وكبرياء الإلهية؛ حيث جعلت الجبال منزّلةً منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا؛ إشعارًا بأنه ما من حيواٍن وجماٍد وناطٍق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته. (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وجعلناه له لينًا كالطين والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير ناٍر ولا ضرٍب بمطرقة. وقيل: لان الحديد في يده لما أوتى من شدّة القوّة. وقرئ: (صابغات) وهي الدروع الواسعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وأن يُعْطَفَ على {فَضْلاً} ، قال الزجاج: حكاهُ أبو عُبَيْدَة عن أبي عَمْرو بن العلاء، وهو كقولِه:

علفتُها تِبْنًا وماءً باردا

وإليه الإشارةُ بقوله: ((وسَخَّرْنا له الطيرَ))، وعن بَعْضِهم: يجوزُ أن يكونَ منادًى كأنه قال: أدعو الجبالَ والطير.

قوله: (كَمْ بينهما)، أي: مِنْ فَرْق. ونَحْوُه تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243] بدَل: أماتَهم الله، وقولُه:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] بدل: مَسخَهم قِردةً. وهو أمرٌ على سبيلِ التسخير، وفائدتُه غايةُ التأديب.

قوله: (وناطقٍ وصامت)، تفسيرٌ لقولِه:((حيوانٍ وجماد)).

الراغب: النطقُ في التعارفِ: الأصواتُ المُقَطَّعةُ التي يُظهِرُها اللسانُ وتَعيها الآذانُ، ولا يُكادُ يقال إلاّ للإنسانِ، ولا يقال لغيرِه إلاّ على سبيلِ التَّبعِ، نَحْو: الناطقِ والصامتِ، فيُرادُ بالناطقِ: مالَه صَوْتٌ، وبالصامتِ: ما لاصَوْتَ له.

ص: 518

الضافية، وهو أوّل من اتخذها، وكانت قبل صفائح. وقيل: كان يبيع الدرع بأربعة آلاف، فينفق منها على نفسه وعياله، ويتصدّق على الفقراء. وقيل: كان يخرج حين ملك بنى إسرائيل متنكرا، فيسأل الناس عن نفسه، ويقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه، فقيض الله له ملكًا في صورة آدمى فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه، فريع داود، فسأله، فقال: لولا أنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع. (وَقَدِّرْ): لا تجعل المسامير دقاقًا فتقلق، ولا غلاظًا فتفصم الحلق. والسرد: نسج الدروع. (وَاعْمَلُوا) الضمير لداود وأهله. (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) فيمن نصب. ولسليمان الريح مسخرة، فيمن رفع. وكذلك فيمن قرأ:(الرياح)، بالرفع. (غُدُوُّها شَهْرٌ):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (الضافية)، الجوهري: الضُّفُوُّ: السبوغُ وثَوْبٌ ضافٍ أي: سابغ.

قال الزّجاج: معنى السابغ: الذي يُغَطِّي كلّ ما تحْتَه حتى يفضُلَ عليه.

عن بعضِهم: قولُه تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} ((أنْ)) مُفَسِّرة كأنه قيل: وأَلَنّا له الحديد، أي: اعمَلْ سابغات، وبمعنى: قُلْنا له: أن اعمَلْ سابغاتٍ، أو يكون في معنى: لأن يعمَلَ سابغاتِ، ويَصِل ((أن)) بلفظةِ الأمر، ونَظيرُه: أرْسِلْ إليه أنْ قُمْ إلى فُلان، أي: قال له: قُمْ أو يكون بمعنى: أرسِلْ إليه بأن يقومَ إلى فُلان.

قولُه: (والسَّرْدُ: نَسْجُ الدُّروع)، قال الزجّاج: السردُ في اللغة: تَقْدِمَةُ شيءٍ إلى شيءِ تأتي به مُتّسِقًا بعْضُه في إثْرِ بعضٍ مُتتابعًا، ومنه قولُهم: سَرَد فلانٌ الحديث.

قوله: ({و} سَخَّرنا {لِسُلَيْمانَ الرِيّحَ} فيمَنْ نَصَب)، أبو بكرٍ:((الريحُ)) بالرفعِ، والباقون: بالنصب. قال الزجاج: ومعنى الرفعِ: ثَبَتَ لسليمانَ الريحُ، وهو يؤولُ إلى

ص: 519

جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك. وقرئ:(غدوتها) و (روحتها). وعن الحسن رضى الله عنه: كان يغدو فيقيل بإصطخر، ثم يروح فيكون رواحه بكابل. ويحكى أنّ بعضهم رأى مكتوبًا في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله. القطر: النحاس المذاب من القطران. فإن قلت: ماذا أراد بـ (عين القطر)؟ قلت: أراد بها معدن النحاس، ولكنه أساله كما ألان الحديد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معنى: سَخَّرْنا الريحَ، كما إذا قُلْتَ: لله الحمدُ، فتأويلُه: استَقرّ لله الحمدُ، وهو يرجِعُ إلى معنى: أحمَدُ الله الحَمْد.

قوله: (جَرْيُها بالغداةِ مَسيرةُ شَهْرٍ، وجَرْيُها بالعَشيٍّ كذلك)، قال مَكّي: مَسيرةُ غُدوِّها مَسيرةُ شهرٍ، وكذلك {وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . وإنّما احتيجَ إلى ذلك لأنَّ الغُدوَّ والرواحَ ليسا بالشهرِ وإنما يكونان فيه.

وقال ابن الحاجبِ في ((الأمالي)): الفائدةُ في إعادةِ لَفْظِ الشهرِ الإعلامُ بمقْدارِ زمنِ الغُدوِّ والرواحِ، والألفاظُ التي مُبيِّنةً للمقاديرِ لا يحسُنُ فيها الإضمارُ، ألا ترى أنك تقول: زِنَةُ هذا مِثقالٌ، فلا يحسُنُ الإضمارُ كما لا يحسُنُ في التمييزِ، وأيضًا فإنه لو أُضْمِرَ فالضميرُ إنما يكونُ لِما تقدَّم باعتبار خُصوصيتهِ، فإذا لم يكُنْ له وجبَ العدولُ عن المُضْمَرِ إلى الظاهر، ألا ترى أنّك إذا أكرَمْتَ رجلاً وكسَوْتَه لكانَتِ العبارةُ: أكرَمْتُ رجلاً وكَسَوْتُه.

ولو أكرمتَ رجلاً وكسوْتَ غيره، لكانت العبارة: أكرَمْتُ رجلاً وكسَوْتُ رجلاً. فتبيَّن أنه ليسَ من جَعْلِ الظاهرِ موضِعَ المُضْمَر.

قوله: (النحاسُ المُذاب من القَطَران)، وعن بَعْضِهم: صحَّ بفَتْحِ الطاءِ، وهو مصدر، وبالكسر مُشتَقٌّ منه.

ص: 520

لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين؛ فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال:(إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)] يوسف: 36 [. وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام (بِإِذْنِ رَبِّه): بأمره. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ): ومن يعدل (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناه به من طاعة سليمان. وقرئ: (يزغ) من أزاغه. و (عذاب السعير): عذاب الآخرة. عن ابن عباس رضى الله عنهما وعن السدى: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى. لمحاريب: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، سميت محاريب؛ لأنه يحامى عليها ويذب عنها. وقيل: هي المساجد. والتماثيل: صور الملائكة والنبيين والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: القُطْرُ: الجانبُ. وقَطَرْتُه ألقَيْتُه على قُطْرِه. وتَقَطَّر وقَع على قُطْرِه، وتَقَطَّر وقَع على قُطْرِه، وتَقاطر القومُ: جاءوا أرسالاً كالقَطْرِ، ومنه قِطارُ الإبلِ، والقَطِران بكَسْرِ الطاءِ ما يتقطَّر من الهِناء.

قوله: (باسمِ ما آل إليه)، يعني: أصلُه: أسَلْنا له معدنَ القطرِ بأن جعَلْناه مِثْلَ الماء ينبع كما يَنْبع، ولما كان المآلُ إلى هذا قيلَ ابتداءً:{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} تسميةً للشيءِ باسم ما يؤول إليه.

قوله: (وقيل: كان يسيل)، أي: القطر. روى مُحيي السنة عن المفسرين: أُجْرِيَتْ له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن بأرض اليمن.

قوله: (سُمِّيت مَحاريبَ لأنه يُحامي عليها ويُذَبّ عنها)، رُوِيَ عن المصنف أنه قال: يُقال: رجلٌ مِحْرَبٌ ومِحرابٌ، للكثيرِ الحروب كما يُقال: مكانٌ مِحْلالٌ لكَثْرة مَنْ يحل فيه. أنْشَدني الشيخ الأثيرُ لبعْضِ أهلِ الشام:

قرنَ الشجاعةَ بالخضوعِ لربِّه

ما أحسَنَ المحرابَ في مِحْرابهِ

ص: 521

وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. فإن قلت: كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت: هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع؛ لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب. وعن أبى العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّما. ويجوز أن يكون غير صور الحيوان، كصور الأشجار وغيرها؛ لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيواٍن وغير حيوان. أو تصوّر محذوفة الرؤوس. وروى: أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. والجوابى: الحياض الكبار، قال:

تروح على آل المحلّق جفنة

كجابية السّيح العراقىّ تفهق

لأنّ الماء يجبى فيها، أى: يجمع. جعل الفعل لها مجازًا، وهي من الصفات الغالبة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سُمِّي المحرابُ مِحرابًا لكَثْرة ما يُحامي عليه وَصْفًا للمكان بصفةِ صاحبه.

قوله: (تروحُ على آل المُحلَّقِ)، البيت. مضى خبرُ المُحَلَّقِ وسَببُ قولِ الأعشى فيه في سورة ((طه)).

تفهَقُ: تَمْتَلئ حتى تطفح. يقال: فَهِق الإناء بالكسر يَفْهَقُ فهقًا؛ إذا امتلأ حتى تصبب، وإنما الشَيْخَ لضَعْفِه، وأنه لا يجد الماء في كل وقت فإذا وجده افترصَ وملأ حوْضَه، قيل: أراد بالشيخ العِراقي كسرى. وفي ((ديوان الأعشى)) بالسين والحاءِ المهملتين، أي: الماءِ الجاري على وجه الأرض، وقيل: أراد به الفرات.

وأما قول المصنف: ((جعل الفعل لها)) أي: ((تروحُ)) أُسْنِدَ إلى الجفنة، والظاهر أن الجابية اسمُ فاعل. الأصل مَجْبُوٌّ فيها فأسنده إلى الجابية مجازًا، كما قيل في قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ والزَّانِي} [النور: 2] سماها زانيةً وإنما هي المزنيُّ بها.

ص: 522

كالدابة. وقيل: كان يقعد على الجفنة ألف رجل. وقرئ: بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. كقوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ)] القمر: 6 [. (راسِياتٍ): ثابتات على الأثافى لا تنزل عنها لعظمها. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ): حكاية ما قيل لآل داود. وانتصب (شُكْراً) على أنه مفعول له، أى: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر. أو على الحال، أى:

شاكرين. أو على تقدير: اشكروا شكرا؛ لأن (اعملوا) فيه معنى اشكروا، من حيث أنّ العمل للمنعم شكر له. ويجوز أن ينتصب بـ (اعملوا) مفعولا به. ومعناه: إنا سخرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرا، على طريق المشاكلة. و (الشَّكُورُ): المتوفر على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة)، كلُّهم إلا ابنَ كثيرٍ وأبا عَمْرو ووَرْشًا.

وقال الزجاج: كان الأصلُ الوقفَ بالياءِ إلا أن الكسرة تنوب عنها، وكانت بغير ألفٍ ولامٍ والوقفُ عليها بغير ياء، تقول: هذه جَوابٍ، فأدخلت الألف واللام، وترك الكلام على ما كان عليه قبل دخولهما.

قوله: (ويجوزُ أن ينتصبَ بـ {اعْمَلُوا} مفعولاً به)، إلى قولِه:(طريقِ المشاكلة) يعني: كانَ أصلُ الكلام: اشكروا الله آلَ داود شكرًا، فأقيمَ مُقامَ ((اشكروا)):{اعْمَلُوا} ؛ ليشاكل قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ} .

قال ابنُ الحاجب: يجوزُ أن يكونَ مفعولاً به، كأنَّ العملَ له تعلُّقٌ بالشكر، كما تقول: عملتُ كذا، فأَجْراه لذلك مُجرى المفعول به، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرِ لأنه نوعٌ من العمل نَحْو: قعَدْتُ القُرْفُصاءَ، وإما عَمِلوا فقد تضمَّن ذلك شُكرًا لا يحتمل العملُ غيره، فيكون من باب {كِتَابَ اللهِ} [النساء: 24]. هذا الذي عَناه المصنّفُ بقوله:

ص: 523

أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه؛ اعتقادًا واعترافًا وكدحًا، وأكثر أوقاته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من يشكر على أحواله كلها. وعن السدى: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر. وعن داود:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((إن العملَ للمُنْعمِ شُكْرٌ له)).

قوله: (قد شَغَل به قلْبَه ولِسانَه وجَوارحَه)، لفٌّ. وقولُه:((اعتقادًا واعترافًا وكَدْحًا)) نَشْرٌ، وهو ينظرُ إلى قولِه في الفاتحة:((وأما الشكرُ فعلى النعمةِ خاصّةً وهو بالقلبِ واللسانِ والجوارح)).

الراغب: الشكرُ: تصوُّر النعمةِ وإظهارُها، وقيل: هو مقلوبٌ الكَشْر، أي: الكشف، ويُضادُّه الكفر، وهو نسيان النعمة وسترها، ودابّةٌ شَكور: مظهر بسِمَنِه إسداءَ صاحِبه.

وقيل: أصلُه عَيْنٌ شَكْرى، أي: ممتلئة، فالشكرُ على هذا الامتلاءُ من ذِكْرِ المنعم. والشكرُ ثلاثةُ أضربُ: شُكرٌ بالقلبِ وهو تصوُّرُ النعمةِ، وشُكرٌ باللسانِ وهو الثناءُ على المُنْعِم، وشُكرٌ بسائرِ الجوارح وهو مكافأةُ النعمةِ بقَدْرِ استحقاقِه، وقولُه تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] قيل: انتصابُه على التمييزِ، أي: اعملوا ما تعملونَه شكرًا لله، وقيل: مفعول لقوله: {اعْمَلُوا} ، وذكَر {اعْمَلُوا} ولم يقُلْ:((اشكروا)) ليُنبِّه على التزامِ الأنواع الثلاثة.

قوله: (مَنْ يشكُرُ على الشكر)، وعليه قال:

إذا كان شُكْري نعمةَ الله نعمةً

عليَّ له في مِثْلِها يجبُ الشكرُ

فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفَضْلهِ

وإن طالتِ الأيامُ واتّسَع العُمْرُ

إذا مسَّ بالنعاءِ عَمَّ سرورُها

وإن مَسَّ بالضراءِ أعْقَبهَا الأجْرُ

ص: 524

أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتى ساعةٌ من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائٌم يصلى. وعن عمر رضى الله عنه: أنه سمع رجلًا يقول: اللهم اجعلنى من القليل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إنى سمعت الله يقول: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)، فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر.

[فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَاكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)] 14 [

قرئ: (فلما قضى عليه الموت). ودابة الأرض: الأرضة، وهي الدويبة التي يقال لها: السرفة، والأرض فعلها، فأضيفت إليه. يقال: أرضت الخشبة أرضًا. إذا أكلتها الأرضة. وقرئ بفتح الراء، من أرضت الخشبة أرضًا، وهو من باب فعلته ففعل، كقولك: أكلت القوادح الأسنان أكلًا. وأكلت أكلًا. والمنسأة: العصا؛ لأنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو أيضًا معنى قوله: ((وقيل: مَنْ يرى عَجْزَه عن الشُّكرِ)).

قوله: (السُّرْفَة)، النهاية: دُويبّةٌ صَغيرةٌ تثقُبُ الشجرةَ وتتخذ بَيْتًا، يُضْرَبُ بها المثل، يقال: أصْنَعُ من سُرْفَة.

الراغب: سُمِّيت بذلك لتصوُّرِ معنى الإسرافِ منها، يقال: سُرِفَتِ الشجرةُ فهيَ مَسْروفة.

قولُه: (والأَرْضُ فِعْلُها)، أي: أكْلُها الخَشَبَ، يُشيرُ إلى أنَّ ((الأَرْضَ)) مصدر.

قولُه: (بفتحِ الراء)، أي: في ((دابةِ الأرَض)) أي: من الباب الذي يكونُ مضمومَ العينِ متعدّيًا، ومكسورَ العين لازمًا، ولذلك قال: مِن: أرِضتِ الخشبةُ بالكَسْرِ.

قوله: (أكلتِ القوادحُ الأسنانَ)، الجوهري: قَدحَ الدودُ في الأسنانِ والشجرِ قَدْحًا، وهو تآكلٌ يقع فيه، والقادحةُ الدّود.

ص: 525

ينسأ بها، أى: يطرد ويؤخر. وقرئ بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلبًا وحذفًا، وكلاهما ليس بقياس، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي. و (منسأته) على مفعالة. كما يقال في الميضأة: ميضاءة. و (من سأته)، أى: من طرف عصاه، سميت بسأة القوس على الاستعارة. وفيها لغتان، كقولهم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقُرئ بفَتْحِ الميمِ وبتَخْفيفِ الهمزة قَلْبًا وحَذْفًا)، وفي ((التيسيرِ)): نافعٌ وأبو عَمْرو: ((منساته)) بألفٍ ساكنةٍ بدلاً من الهمزةِ والبَدلُ مَسموع، وابنُ ذَكْوانَ: بهَمْزةٍ ساكنةٍ، ومثلُه قد يجيءُ في الشعرِ لإقامةِ الوزنِ، وأنشَد الأخفشُ الدمشقي:

صريعُ خمرِ قامَ مِن وُكاتِه

كقومهِ الشيخِ إلى مِنْساتِه

والباقونَ: بهَمْزةٍ مفتوحةٍ. وحَمْزةُ إذا وقفَ جَعَلها بَيْنَ بَيْنَ على أصله.

قال ابنُ جِنِّي: المشهورُ {مِنسَأَتَهُ،} و ((مِنْساتَه)) بالهَمْزِ وبالبَدَلِ من الهمزِ، وهي العَصا، مِفْعَلَةٌ؛ من: نَسْأتُ الناقةَ والبعيرَ إذا زجَرْتَه. قال الفراء: هي من سِيَةِ القوس، وهي مَهْموزةٌ، ويجوزُ عند الفرّاءِ سِئة وسأة، وشَبَّههما بالقِحَةِ والقَحَةِ والضِّعَة والضَّعة، والتفسيرُ إنما هو على العصا لا سِيَةِ القوسِ، وهي من (ن سء) أو إن كانت السِّيَةُ والسأةُ من: نسَأتُ، فهي عَلَة، والفاءُ محذوفةٌ نحو العِدَةِ والزِّنةِ والضِّعة والقِحَة، وذلك مما فاؤه ((واو)) لا نون، ولم يَمْرُرْ بنا ما حَذِفَتْ نونُه وهي فاء، وسِيَةُ القوسِ: فِعَة، واللام محذوفة.

وسُئل أبو عَمْروٍ عن تركِ همزة ((مِنْساته)) قال: وجدتُ لها في كتابِ الله تعالى أمثالاً {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البيّنة: 7] و {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6]، وكان أبو عَمْرو ويهمِزُ ثم تركَها. ويريدُ أنّ البريةَ من: برأَ الخلْقَ، فتركَ همْزَها تخفيفًا، و ((الترُونَّ)) أصلُه: تراءى.

قولُه: (على الاستعارة)، أي: اللفظيةِ لا المعنوية، كما سيجيءُ في قوله:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] ومنه تسميةُ مطلَقِ الأنفِ للرسن.

ص: 526

قحة وقحة. وقرئ: (أكلت منسأته). (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) من: تبين الشيء؛ إذا ظهر وتجلى. و (أَنْ) مع صلتها بدل من (الجن) بدل الاشتمال، كقولك: تبين زيد جهله. والظهور له في المعنى، أى: ظهر أنّ الجن (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ)؛ أو: علم الجن كلهم علمًا بينًا بعد التباس الأمر على عامّتهم وضعفتهم، وتوهمهم أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب؛ أو: علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قِحَة وقَحَة)، الجوهري: وَقُحَ الرجلُ: إذا صار قليلَ الحياءِ، فهو وَقِحٌ ووَقاحٌ بيِّنُ القِحَة؛ بفَتْحِ القافِ وكسرها، والهاء عِوَضٌ من الواو وكذلك سِيَةُ القوسِ، وهي ما عُطِفَ من طرفَيْها، والجمعُ سِياتٌ، والهاءُ عِوَضٌ من الواو.

قوله: ({أَن} مع صلتها بدل من {الْجِنُّ})، وقيل: بدَلٌ من مُقدَّر وهو أمر؛ أي: تبيّن أمرُ الجنِّ، وعلى التقديرَيْن محلّه رَفْع.

قوله: (والظهور له)، أي: للجهل في المعنى؛ يعني أسندَ تبيَّن الذي بمعنى ظَهر إلى زيدٍ، وفي المعنى الظهور للجهل لا لزيد، فجيء بزيد توطئة، وعليه قولُه:((ظَهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون)) أي: ظَهر جَهْلُ الجنِّ للناس.

قوله: (أو عَلِمَ الجنُّ)، عطْفٌ على (({تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} من: تبيَّن الشيء))، يعني:{تَبَيَّنَتِ} يجوز أن يكون لازمًا وأن يكون متعدّيًا.

الجوهري: تبيَّنَ الشيء، أي: ظَهر، وتبينتُه أنا، يتعدّى ولا يتعدّى. وإلى معنى اللازم أشار بقوله:((ظهرَ أنّ الجنَّ لو كانوا يعلمونَ الغيْبَ))، وعلى أن يكونَ متعديًا إذا جُعلَ التعريفُ في ((الجن)) للجنس كان المعنى كما قال:((أو علم الجنُّ كلُّهم علمًا بينًا)) إلى آخره، وإذا جعل للعهد والمرادُ جِنّ سليمانَ فيكونَ من بابِ وَضْعِ المُظْهَر موضعَ المُضْمَرِ فيفيدُ بحَسبِ المَقام معنى التهكّم، وأن يقال: لو عَلِمَ المُدَّعون علْمَ الغيبِ عَجْزَهم كما تقول لمن يدَّعي معرفةَ الشيءِ وهو يعلَمُ جَهْلَه ثم يعجَزُ عنه: قد عَلِمَ المدعي أنه لا يقدِرُ على شيءٍ من هذه المسائل، والحالُ أنه لم يزل عالمًا به.

قولُه: (عَجْزَهم وأنّهم لا يعلمونَ الغيب)، قيل تنازعَ فيه قولُه:((أو عَلِمَ الجنُّ كلُّهم))

ص: 527

التهكم بهم كما تتهكم بمدّعى الباطل إذا دحضت حجته، وظهر إبطاله بقولك: هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل لذلك متبينًا. وقرئ: (تبينت الجن) على البناء للمفعول، على أن المتبين في المعنى هو:(أَنْ) مع ما في صلتها؛ لأنه بدل. وفي قراءة أبىّ: (تبينت الإنس). وعن الضحاك: (تباينت الإنس)، بمعنى: تعارفت وتعالمت. والضمير في (كانُوا) للجن في قوله: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ)] سبأ: 12 [، أى: علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب؛ ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: (تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب). روى: أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله، فيسألها: لأى شيء أنت؟ فتقول: لكذا، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها، فقالت: نبت لخراب هذا المسجد، فقال: ما كان الله ليخربه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: ((وعلم المُدَّعون)) أو يقول: هو معمولُ الثاني وحُذِفَ مفعولُ الأولِ لدلالةِ هذا عليه، ويؤيِّدُ الوجْهَ الأخيرَ قولُه:((وإن كانوا عالمينَ قبل ذلك بحالهم)) إلى آخره.

قوله: (على أن المتبيَّنَ في المعنى)، يعني {تَبَيَّنَتِ} قرئ مجهولاً بناءً على أنّ المسندَ إليه ((أن)) مع ما في صلتِها، وذِكْرُ الجنِّ كالتوطئِة، ومَرْجِعُه إلى الوجْهِ الأول.

قوله: (تَبيَّنتِ الإنس)، قال ابن جني: هي قراءةُ ابنِ عباسٍ والضّحاك وعليِّ بن الحسين رضي الله عنهم، أي: تبينتِ الإنسُ أنّ الجنَّ لو عَلِموا بذلك ما لبِثوا في العذاب المُهين، ويدلُّ عليه ما رواه مَعبدٌ عن قَتادة قال: في مُصْحَفِ عبد الله: ((تبيَّنتِ الإنسُ أنّ الجنَّ لو كانوا يعلمون ما لبثوا)).

قوله: (الخرّوبة)، النهاية: في حديثِ سليمانَ عليه السلام: كان يَنْبُت كلَّ يوم في مُصَلاه شجرةٌ فيسألها: ما أنت؟ فتقول: أنا شجرةُ كذا، أنبُت في أرضِ كذا، أنبُت في أرضِ كذا، أنا دَواءٌ من داء كذا،

ص: 528

وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائٍط له وقال: اللهم عم عن الجن موتى، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون العيب. وقال لملك الموت: إذا أمرت بى فأعلمنى، فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلى متكئًا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها؛ وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق، فمر به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر، فإذا سليمان قد خر ميتًا، ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوٍم وليلةٍ مقدارًا، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيًا، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنةً. وروى: أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيأمرُ بها فتُقْطَع، ثم تُصَرُّ ويُكْتَبُ على الصُّرة اسمُها ودَواؤها، فلما كان في آخر ذلك نَبَتتِ الينبوتةُ، فقال: وما أنتِ؟ فقالت: أنا الخرُّوبة وسكتَت، فقال: الآن أعْلَم أنّ الله قد أذِن في خَرابِ هذا المسجد وذَهاب هذا المُلِكِ، فلم يَلْبَث أن مات. وقريب منه في ((معالم التنزيل)).

قوله: (في موضعِ فُسطاطِ موسى عليه السلام، الجوهري: الفُسطاطُ بيْتٌ من شَعَر، وفسطاطُ: مدينةُ مصر. والظاهرُ غيرُ ذلك. أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأنّ المشهورَ أنّ موسى عليه السلام ما وصلَ إلى بيتِ المقدس ولا رآه. ويؤيِّدُه ما رواه المصنِّفُ في المائدة في

ص: 529

فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه؛ وليبطل دعواهم علم الغيب. روى: أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها، فلم يجسر أحد بعد أن يدنو منه، وكان عمر سليمان ثلاثًا وخمسين سنةً؛ ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقى في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.

[لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)] 15 - 17 [

قرئ: (لِسَبَإٍ) بالصرف ومنعه، وقلب الهمزة ألفاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصتِه قال: رُوِيَ أنّ هارونَ ماتَ في التيه، ومات موسى بَعْدَه فيه بسَنة، ودخل يوشَعُ أريحا بعد موتِه بثلاثة أشهر.

وروَيْنا في حديثِ قَبْضِ روحِه عن البخاريِّ ومُسلم والنَّسائي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((فسألَ الله أن يُدْنِيَه من الأرضِ المُقَدَّسةِ رَمْيَة حجر)) قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو كُنْتُ ثَمَّ لأرينُكُم قَبْرَه إلى جانبِ الطريقِ عند الكثيب الأحمر)).

قوله: (قُرئ: {لِسَبَإٍ} بالصرفِ ومَنْعِه)، البَزِّيُّ وأبو عَمْروٍ: بفَتْح الهمزةِ من غيرِ تنوين، وقُنْبُلٌ: بإسكانِها على نيّةِ الوقفِ، والباقونَ: بالخفْضِ مع التنوين. قال الزجّاج: مَنْ فَتحَ وتركَ الصرفَ فلجَعْلِه اسما للقبيلةِ ومَنْ صَرَفَه جعَله اسمًا لرجلٍ أو للحيِّ.

ص: 530

و (مسكنهم): بفتح الكاف وكسرها، وهو موضع سكناهم، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها، أو مسكن كل واحد منهم. وقرئ:(مساكنهم). و (جَنَّتانِ): بدل من (آية). أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره: الآية جنتان. وفي الرفع معنى المدح، تدل عليه قراءة من قرأ:(جنتين) بالنصب على المدح. فإن قلت: ما معنى كونهما آية؟ قلت: لم يجعل الجنتين في أنفسهما آيةً، وإنما جعل قصتهما وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما، وأبدلهم عنهما لخمط والأثل؛ آية وعبرة لهم ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم. ويجوز أن تجعلهما آية،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (و {مَسْكَنِهِمْ} بفَتْح الكاف وكَسْرِها)، حفْصٌ وحمزةُ: بإسكانِ السين وفَتْحِ الكافِ، والكسائيٌّ كذلك غير أنه يكسِرُ الكافَ، والباقونَ: بفَتْحِ السِّينِ وكَسْرِ الكافِ وألفٍ بينهما.

قال مَكِّي: مَنْ قرأَ بالتوحيدِ وفَتْحِ الكافِ جَعله مَصْدرًا ولم يجمَعْه وأتى به على القياس، لأن ((فَعَلَ يَفْعَل)) قياس مطرد بالفتح نَحْو المَقْعَدِ والمَدْخَلِ، وقيل: هو اسمٌ مُفردٌ للمكانِ يؤدِّي عن الجمعِ، ومَنْ كسَر الكافَ جعلَه اسمًا للمكانِ كالمسجدِ، وقيل: هو مَصْدرٌ خرَج عن الأصلِ كالمَطْلَع.

قوله: (ويجوز أن تَجْعلَهما آية)، أي: علامةً دالّةً على الله وعلى قدرتهِ، فعلى الأولِ المضافُ محذوفٌ، وعلى الثاني هو مِثْلُ قولِه:{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] قال: حالُهما بمَجْموعهما آيةٌ واحدة وهي ولادتُها إيّاهُ مِن غيرِ فَحْل.

اعلَم أنّ في مثل هذه الآية يجوزُ أن ينتفعَ بها المكلَّفُ من حيثُ الاعتبارُ، فيَنْزجرُ ويَرْتدِعُ عن كُفرانِ نعم الله لئلا يُصيبَه بمثْلِ ما أصابهم أو من حيث القدرة الكاملة والإحسان إليه حيث ما ابتلاه بمثْلِ ما ابتلاهم، فيشكر الله عليه وهذا معنى قولهم: تجبُ سجدةُ الشكرِ عند

ص: 531

أي: علامة دالة على الله، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره. فإن قلت: كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية، ورب قريةٍ من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت: لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامهما، كأنها جنة واحدة، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال:(جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب)] الكهف: 32 [. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ): إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ولما قال:(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) أتبعه قوله: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) يعنى: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره. وعن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اندفاعِ نِقمةٍ أو هُجومِ نعمةٍ، وإلى الأولِ الإشارةُ بقوله:((فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفرِ)) وإلى الثاني بقوله: ((وإحسانهِ ووجوبِ شكره)).

قوله: (لم يُرِدْ بَستانَيْن اثنَيْن فحَسْب)، أي:{جَنَّتَانِ} إما بَدلٌ من {آيَةٌ} أو خبرُ مبتدأٍ محذوف والجملةُ بَيان، وقولُه:{لِسَبَإ} اسمُ قبيلةٍ أو حيٍّ محمولٌ على {آيَةٌ} لأنها اسمُ {كَانَ} وينبغي أن يُحملَ {جَنَّتَانِ} على الكلِّ: إما باعتبارِ الجنس وما يُقال له: جَنّتان، وإليه الإشارةُ بقوله:((وإنّما أراد جماعتَيْن)) إلى آخرِه، أو باعتبارِ أفرادِ الجنسِ وهو المرادُ مِن قَوْلِه:((أو أرادَ بُسْتانَيْ كُلِّ رجلٍ منهم وليسَ كذلك بساتينُ سائرِ البلادِ لسائرِ الناس))، فأدّى مآلُ المعنى إلى أنَّ أهلَ تلك البلادِ مُتْرَفين قاطبةً أصحابَ بساتين.

قولُه: (أتْبَعَه)، فيه إشعارٌ بأنّ في التنزيل لفًّا ونَشْرًا، وأنّ وصْفَ البلدةِ بالطيِّبة ناظرٌ إلى قوله:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 85]، وإليه أشارَ بقوله: ((هذه البَلدةُ

ص: 532

ابن عباس رضي الله عنهما: كانت أخصب البلاد وأطيبها؛ تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل، فتعمل بيديها وتسير بين تلك الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر. (طَيِّبَةٌ): لم تكن سبخة. وقيل: لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية. وقرئ: (بلدة طيبة وربا غفورا) بالنصب على المدح. وعن ثعلب: معناه: اسكن، واعبد. (الْعَرِمِ): الجرذ الذي نقب عليهم السكر؛ ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقًا على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا قيل: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيًا يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم، فكذبوهم، وقالوا ما نعرف لله نعمة -سلط الله على سدّهم الخلد فنقبه من أسفله فغرقهم. وقيل: العرم: جمع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التي فيها رِزْقُكم بلدةٌ طيِّبة))، إلى قوله:((غفورٌ لمن شكر))، وإيذانٌ بأنّ شُكرَهم لم يكن وافيًا بتلك النعمة، وأنّه تعالى يرضى عنهم بقليلِ الشكرِ من كثيرِ النعمة.

قوله: (اسْكُن واعبد)، أي: اسكُن بلدةً طَيبةً واعبُدْ ربًّا غَفورًا.

قوله: (الجرْذ)، الجوهري: الجُرْذُ ضرْبٌ من الفأرِ والجمْعُ جُرْذان. والخُلْدُ أيضًا ضَرْبٌ من الجُرذانِ. قيل: سُمِّيَ خُلدًا لإقامتِه عند جُحره لعماه.

الراغب: قيلَ: العَرِمُ الجُرْذُ الذَّكَر نُسِبَ إليه الفعل لأنه هو الذي نقبَ المَسْناةَ.

وقال: العَرامة: شَراسةٌ وصُعوبةٌ في الخُلُقِ ويظهر بالفعل يقال: عَرِمَ فهو عارِم، وعَرِمَ تَخلَّقَ بذلك، ومنه: عُرام الجيش، وقولهُ تعالى:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] وقيل: العَرِمُ: المَسْناةُ.

قوله: (والقار)، الجوهري: القارُ القِيرُ والقَارةُ: الأكَمَة، وجمعها: قار.

قوله: (فحقنت)، الأساس: حَقَنَ اللبنَ في السِّقاء: جَمَعَه، وسَقاه الحَقينَ أي: اللبنَ المَحْقون.

ص: 533

عرمة، وهي الحجارة المركومة. ويقال للكدس من الطعام: عرمة، والمراد: المسناة التي عقدوها سكرًا. وقيل: العرم اسم الوادي. وقيل: العرم المطر الشديد. وقرئ: (العرم) بسكون الراء. وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقرئ: (أكل) بالضم والسكون، وبالتنوين والإضافة. والأكل: الثمر. والخمط: شجر الأراك. وعن أبى عبيدة: كل شجر ذى شوك. وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعمًا من مرارة، حتى لا يمكن أكله. والأثل: شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودًا. ووجه من نون: أن أصله: ذواتي أكل أكل خمط؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (للكُدْسِ)، الأساس: كُدْسٌ من الطعام وأكداسٌ. ومنَ المجازِ: مررْتُ بأكداسٍ من الطعام، وتكَدَّستِ الخيلُ: اجتمعَتْ وركِبَ بعضُها بَعْضًا في سَيْرِها.

قوله: (المُسَنّاة)، قيل: ما يُبنى للسيل ليَرُدَّ الماءَ.

قوله: (عَقَدوها سِكْرًا)، الجوهري: السَّكَرُ: مصْدرُ أسكَرْتُ النّهرَ أسكُرُه سَكَرًا: إذا سدَدْتَه، والسِّكْرُ بالكَسْرِ: العَرِم.

و((السِّكْرُ)) في الكتابِ حالٌ مُقدَّرة نَحْوَ قولِه: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149].

قوله: (وقُرئ أُكْلٍ، بالضمِّ والسكونِ والتنوينِ والإضافة)، قرأ أبو عَمْروٍ: بضَمِّ الكافِ مع الإضافة، وابنُ كثيرٍ: بالسكونِ مُنوّنًا، والباقون: بالضمِّ من غيرِ إضافة. وعَن بَعْضِهم: التقديرُ: أُكلِ ذي خَمْطٍ، وقيل: هو بدَلٌ منه، وجُعِلَ خَمْطًا أُكلاً لمُجاورتِه إيّاه وكَوْنِه سَببًا له.

قوله: (ووجهُ مَن نوّن)، يعني: التنوينُ في {أُكُلٍ} مُشكل، إما أن يُجعلَ {خَمْطٍ} بدلاً منه على حذفِ مضافٍ، أو يذهب على تأويل الخمط الذي هو اسم الشجر بمعنى

ص: 534

أو وصف الأكل بالخمط، كأنه قيل: ذواتي أكل بشع. ومن أضاف، وهو أبو عمرو وحده؛ فلأن أكل الخمط في معنى البرير، كأنه قيل: ذواتي برير. والأثل والسدر معطوفان على (أكل)، لا على (خمط)؛ لأن الأثل لا أكل له. وقرئ:(وأثلا وشيئا)، بالنصب عطفًا على (جنتين). وتسمية البدل جنتين؛ لأجل المشاكلة، وفيه ضرب من التهكم. وعن الحسن رحمه الله: قال السدر؛ لأنه أكرم ما بدلوا. وقرئ: (وهل يجازى)، (وهل نجازى) بالنون، (وهل يجازى) والفاعل الله وحده، (وهل يجزى) والمعنى: أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البَشِعِ ليصحّ الوصفُ به، قال الزجاج: كل نَبْتٍ أخذ طعمًا من مرارةٍ حتى لا يُمكِنُ أكلُه فهو بَشع.

قوله: (في معنى البَرير)، النهاية: البَرير: ثَمرُ الأراك إذا اسوَدَّ وبلغَ، وقيل: هو اسمٌ له في كل حال.

البرير: بالباءِ الموحَّدة والراءِ والياءِ المنقطعةِ من تحتُ نُقطتان والراء.

قوله: (كأنه قيل: ذواتي بَريرٍ)، والإضافةُ للبيان، نحو: بابِ ساجٍ، والمضاف إليه بمعنى برير، ومِن ثَمَّ قال:((والأَثْلُ والسدرُ معطوفان على {أُكُلٍ} لا على {خَمْطٍ})) إذ لو عطف على {خَمْطٍ} لزمَ أن يكون لهما ثَمر ولا ثمرَ لهما. قال صاحبُ ((الفرائد)): الأكُل الثمرُ، والخَمْطُ الأراك، والبرير ثَمَرُ الأراك فقولُه:{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} يساوي: ذواتَيْ بَرير، فأي فائدة في هذا التقدير، أي: تقدير تفسير الخمط بالأراك دونَ كل شجرٍ ذي شوك، فيقال: الفائدة مَزيدُ بيانٍ وتقدير وإظهار كمال بشاعة، والمَقامُ يَقْتضيه.

قوله: ({وَهَلْ نُجَازِي})، حَفْصٌ وحمزةُ والكسائي: بالنونِ وكَسْرِ الزاي، {إلاَّ الْكَفُورَ} بالنصبِ، والباقونَ: بالياء وفَتْحِ الزاي، وبالرفع.

قولُه: (والمعنى أنّ مثلَ هذا الجزاءِ لا يستحقُّه إلا الكافر)، ومعنى المثل مستفادٌ من

ص: 535

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إيقاع قولِه: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} تذييلاً لقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا} ، وذلك في مثل هذه الموانع يُفيدُ المعنى الكلِّيَّ وهو العِلّيّةُ، وذلك أنه ورد عَقيبَ أوصافِ أُجْرِيَتْ على موصوفٍ، فآذن بأنَّ المذكورَ قبله مُستحَقٌّ بما بعده، أي: ذلك الجزاء لأجلِ اتصافه بتلك الصفات كما مر.

قال صاحب ((الفرائد)): قولُه: ((إن مثل هذا الجزاء لا يستحقُّه إلا الكافر)) صحيح، ولكن قوله:((وهو العقابُ العاجلُ)) منظور فيه لأن المؤمن يبتلي بالعقاب العاجل أيضا فكيف وقد جاء في الحديث: ((جَعل عذاب هذه الأمة في الدنيا))، وقال تعالى:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] وقوله: ((وليس لقائلٍ أن يقولَ)) إلى آخرهِ منظورٌ فيه يعرف بالتأمل، والوجه أن يقال: وهل نجازي بمِثْلِ هذا الجزاء وهو السلب والتبديل إلا الذي بالغ في الامتناعِ من الشكرِ وكان في ضِمْنِ قوله: {اَلْكَفُورَ} دون ((الكافر)) أنه يعفو عن كَثيرٍ، ولا يُعاقبُ بمثْلِ هذا إلا الذي بلغَ هذا الحدَّ من الكُفر، فيلزَمُ أن يكونُ الكفورُ كافرًا، لأنّ المؤمنَ لا يكون امتناعُه من الشكرِ بهذه المَثابة.

وقلت: ويمكنُ أن يُستنبطَ هذا المعنى من قولِه: ((وقيل: المؤمن تُكَفَّرُ سيئاتُه بحسناتِه)) إلى آخره، يعني: مِثلُ هذا الجزاء أي: العقابُ الذي يكونُ مجازاةً بجميعِ ما يَفعلُه من السوءِ لا يستحقُّه المؤمن، لأن المؤمنَ تُكفَّرُ سيئاتُه بحسناتِه، والكافرُ هو الذي يستحقّه لأن حسناته محبطة فيُجازي بجميعِ ما يفعلُه بجميعِ ما يفعلُه من السوء، فإذَن التعريفُ في قوله:((العقاب العاجل)) للعهدِ، وهذا من قول الزجاج قال: هذا مما يسأل عنه ويقال: إنّ الله يُجازي الكفورَ وغير الكفور. وجوابُه: أن المؤمنَ يكفَّر عنه السيئات لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] والكافر يحبط عمله فيجازي بكل سوء يعمله لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28].

ص: 536

وهو العقاب العاجل. وقيل: المؤمن تكفر سيئاته بحسناته، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء، ووجه آخر: وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، يستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله:(جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بمعنى: عاقبناهم بكفرهم؛ قيل: (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) بمعنى: وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح. وليس لقائل أن يقول: لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن الجزاء عام لكلٍّ مكافأةٍ)، أي: مشتركٌ في معنَييْن متضادَّيْن فاحتيجَ إلى تعيينِ المرادِ بالقرينةِ المُخصِّصة لَمّا قُرِنَ هاهنا بقولِه: {بِمَا كَفَرُوا} تَعَيَّنَ المرادُ، ثم قيل:{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} لكونِه تذييلاً، فيكون معناهُ معناه، وهو المراد من قوله بعد هذا:((لم يُرِدِ الجزاءَ العامّ وإنما أرادَ الخاصّ))، ومن قولِه:((ولا يجوزُ أن يرادَ العمومُ وليس موضعَه، ألا ترى أنّك لو قلتَ: جزَيْناهُم بما كفروا وهل نُجازي إلا الكافرَ والمؤمنَ لا يصحُّ))، فعلى هذا قوله:((وليسَ لقائلٍ أن يقول)): لا افتقارَ إليه، ولعلَّ مُرادَ صاحبِ ((الفرائد)) من قولِه:((ولقائل أن يقول: منظور فيه)) هذا. ويمكن أن يكونَ أصلُ الكلام: فهل يُجازي إلا العاملُ، فَعَدلَ إلى ((الكفورِ)) ليشاكِلَ قولَه:{بِمَا كَفَرُوا} .

قوله: (وهو الوجه الصحيح)، مشعر بأن في الآية وجوهًا، لكنّ الصَحيح هذا، وفيه أن الوجْهَ الأولَ ليس بقويّ لاختصاصِ الجزاءِ والمجازاة فيه بالشرِّ دون الخير ابتداء.

قال ابنُ جِنِّي: ذكر شيخُنا أبو علي: أنه كان أبو إسحاق يقولُ: جزيتُ الرجلَ في الخيرِ وجازيْتهُ في الشرِّ، واستدلَّ عليه بقراءةِ العامة:{وهل يجازي إلا الكفور} ، وقرأتُ على أبي عليٍّ عن أبي زيدٍ:

لعمري لقد بَرًّ الضِّبابَ بنوه

وبعضُ البنين حُمَّة وسُعال

جزَوْني بما ربَّيتُهم وحملتُهم

كذلك ما إنّ الخطوبَ دَوال

وينبغي أن يكونَ أبو إسحاقَ يقول: يريدُ أنّك إذا أرسلتَهُما ولم تُعَدِّهما إلى المفعول الثاني كان كذلك، فإذا ذكرْتَه إشتركا، ألا ترى إلى قولِه:

ص: 537

قيل: وهل يجازى إلا الكفور، على اختصاص الكفور بالجزاء، والجزاء عام للكافر والمؤمن؟ لأنه لم يرد الجزاء العام، وإنما أراد الخاص وهو العقاب، بل لا يجوز أن يراد العموم، وليس بموضعه. ألا ترى أنك لو قلت: جزيناهم بما كفروا، وهل يجازى إلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جزاني الزُّهْدَ مانِ جَزاءِ سوء

وكُنْتُ المرءَ أُجْزي بالكَرامهْ

وأما قراءةُ ابنِ جُنْدَبٍ: ((وهل يُجْزي إلا الكفور)) فوجْهُها: إذا كان الجزاءُ عن الحسنةِ عَشْرًا، فلذلك تَفضُّلٌ وليس جزاءً، وإنما الجزاءُ في تعادُلِ العملِ والحسابِ والثوابِ عنه، ولله دَرُّ جريرٍ حيث يقول:

يا أم عمرو جزاك الله صالحة

رُدِّي عليّ فُؤادي كالذي كانا

وروي مُحي السنّةِ عن مجاهدٍ: ((يُجازي)) أي: يعاقب، ويقال في العقوبة: نُجازي، وفي المثوبة: نَجْزي. وقال الفراء: المؤمنُ يُجزي ولا يُجازي، أي يُجزي الثوابَ بعَمَله ولا يُكافأُ بسيئاته.

وروى الإمامُ عن بعضِهم: أنّ المُجازَاةَ في النقمةِ والجزاءَ في النعمة. ثم قال: قولُه: {جَزَيْنَاهُم} يدلُّ على أن ((يَجْزي)) يُستَعْمَلُ في النعمةِ أيضًا، ولعلّهم ذَهبوا إلى أنّ المجازاة مفاعلة، وهي في أكثرِ الأمرِ تُستعملُ بين اثنين بأخْذِ كلِّ واحدٍ جزاءَ حَقِّه من الآخَر، ولا يكون ذلك في النعمةِ، لا سيَّما من الله تعالى، لأن الله تعالى مبتدئُ النعم.

وقلتُ: القولُ المُختارُ ما قال المصنِّف.

ص: 538

الكافر والمؤمن؛ لم يصح ولم يسد كلاما، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

[وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)] 18 - 19 [

(الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها): هي قرى الشام. (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين؛ أو راكبة متن الطريق، ظاهرة للسابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) قيل: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعًا ولا عطشًا ولا عدوًا، ولا يحتاج إلى حمل زاٍد ولا ماء. (سِيرُوا فِيها): وقلنا لهم: سيروا، ولا قول ثم، ولكنهم لما مكنوا من السير، وسويت لهم أسبابه؛ كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله: (لَيالِيَ وَأَيَّاماً)؟ قلت: معناه: سيروا فيها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ظاهرةٌ لأعيُنِ الناظرين)، النهاية: كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما: ((فاظهَرْ بمَنْ معَك من المسلمين إليها)) يعني: إلى الأرض، يعني: اخرُجْ بهم إلى ظاهرِ الأرضِ.

عن بعضِهم: قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} الآية عَطْفٌ على قوله {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} .

قوله: (ما معنى قوله: {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا})، أي: السيرُ لا يكون إلا في هذَيْن الزمانَيْن، فما فائدة تَخْصيصهِما بالذكر؟

وأجاب بوجوهٍ ثلاثة:

أحدُها: المراد بتخصيصِ الوقتَيْن عدمُ تفاوتِ الأمنِ باختلافِ الأوقات لأنّ بالليلِ والنهار يتبيَّنُ الاختلافُ. وعلى هذا الظاهرُ أن يكونَ الواو بمعنى ((أو)) قال في قولِه تعالى:

ص: 539

إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات. أو: سيروا فيها آمنين لا تخافون، وإن تطاولت مدة سفركم فيها، وامتدت أيامًا وليالي. أو: سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم، فإنكم في كل حيٍن وزمان، لا تلقون فيها إلا الأمن. قرئ:(ربنا باعد بين أسفارنا) و (بعد) و (يا ربنا)، على الدعاء. بطروا النعمة، وبشموا من طيب العيش، وملوا العافية، فطلبوا الكد والتعب، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى، وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها، ويتزودوا الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة. وقرئ:(ربنا بعد بين أسفارنا)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] الواو قد يجيء للإباحة نحو قولِك: جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين، ومِن ثَمَّ أتى بالجملة الشرطية في التفسير.

وثانيهما: أن يُعَبَّر بذكرِهما عن طولِ الزمان وامتدادِ المدة من غير اعتبار شيء آخر.

وثالثها: أن يراد امتداد الزمان لكن مقيد بأيام المخاطبين ولياليهم، فإنك إذا قلت لزيدٍ: صُمْ نهارًا وصَلِّ ليلاً، لم تُرِدْ إلا أيامَه ولياليه ما عاش، وفيه تعَسُّف.

قوله: (قُرئَ: {رَبَّنَا بَاعِدْ})، ابنُ كثيرٍ وأبو عَمْرو هِشام:((بعِّد))، والباقون:{بَاعِدْ} .

قوله: (بَطِروا النعمة)، يقال: بَطِرْتَ عَيْشَكَ كما يقال: رَشَدْت أمرَك. وبَشِموا: البَشَمُ: التُّخمَة. الجوهري: بَشِمَ الفصيلُ سن كثرةِ شُرْبِ اللبن.

قوله: (لو كانَ جَني جِنَانِنا)، أي: المُجْتني من الثمارِ التي جُنِيَتْ.

قوله: (ربَّنا بَعُدَ بينُ أسفارنا)، قال ابن جني: قرأ ابنُ عباس ومحمدُ بن الحنفية وغيرُهما: ((رَبُّنا بَعَّدَ بين أسفارِنا)) بضَمّ الباء من ((رَبّنا)) على الخبرِ وفَتْحِ الباءِ والعينِ من ((بَعَّدَ)) ونَصْبِ ((بَيْنَ)). وقرأَ ((بَعُدَ)) بفَتْحِ الباءِ وضَمِّ العين ورَفْعِ ((بَيْنُ)): محمَّد بن السَّمَيْفَع وابنُ يَعْمَر

ص: 540

و (بُعِّد بين أسفارنا) على النداء وإسناد الفعل إلى "بين" ورفعه به، كما تقول: سير فرسخان. و (بوعد بين أسفارنا). وقرئ: (ربنا باعد بين أسفارنا) و (بين سفرنا)، و (بعد) برفع "ربنا" على الابتداء، والمعنى خلاف الأوّل، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها؛ لفرط تنعمهم وترفههم، كأنهم كانوا يتشاجون على ربهم ويتحازنون عليه. (أَحادِيثَ) يتحدّث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم، وفرقناهم تفريقًا اتخذه الناس مثلًا مضروبًا، يقولون: ذهبوا أيدى سبا، وتفرقوا أيادى سبا. قال كثير:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وغيرُهما. وقَرأ: ((رَبُّنا باعَدَ بين أسفارِنا)): ابن عباسِ والحسَنُ وغيرهما. أما ((بَعِّدْ)) و ((باعِدْ)) فإنَّ ((بَيْنَ)) منصوبٌ على المفعولِ به، لا على الظرف، لأنه يريدُ: بَعِّد وباعِدْ مسافَةَ أسفارِنا، ولا يريدُ: بَعِّدْ أو باعِدْ فيما بين أسفارِنا، بذلك عليه قِراءةُ مَنْ قَرأ ((بَعُدَ بينُ أسفارنا)) أي: بَعُدَ مدى أسفارنا، فرَفْعُه دليلُ كونِه اسمًا، ولأنّ ((بعَّد)) و ((باعَد)) فِعلانِ مُتعدِّيان، فمفعولُهما معهما.

وكان شيخُنا أبو علي يذهبُ إلى أنّ أصلَ ((بَيْن)) مصدَر: بانَ يَبينُ بَيْنًا، ثم استُعْمِل ظرفًا اتّساعًا وتجوُّزًا، كمَقْدَمِ الحاجِّ، ثم استُعْملت واصلةً بين الشيئين وإن كانت في الأصلِ فاصلة، وذلك لأن جِهتَيْها وصلتا ما يُجاورهما: بهما، فصارت واصلةٌ بين الشيئين، وعليه قراءةُ من قرأ:((لقد تَقَطَّعَ بَينُكم)) [الأنعام: 94] بالرفعِ أي]: وَصْلُكم.

قوله: (يتشاجَوْنَ على ربِّهم)، الأساس: شَجاه الهمُّ شَجْوًا، وأمرٌ شاجٍ: مَحْزن، وتشاجَتْ فُلانةُ على زوجها: تحازنَتْ عليه، يعني: يُدِلُّون.

قوله: (يقولون: ذَهبوا أيدي سَبا)، وعن بَعْضِهم: المعنى: مِثْل أيدي سبا فتضمَّن المَثَلُ أنّ ((أيدي سبا)) وقع حالاً عن فاعلِ ((ذَهبوا)) وهو مَعرفة، لأنَّ إضافتَه حَقيقيّة. ومن حَقِّ الحالِ أن يكون نكرةً. والتقديرُ مُتَفرِّقين. وسَبا: مهموزٌ في الأصلِ غير أنه التُزِمَ التخفيفُ في

ص: 541

أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكم

فلم يحل بالعينين بعدك منظر

لحق غسان بالشآم، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان. (صَبَّارٍ) عن المعاصي (شَكُورٍ) للنعم.

[وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)] 20 - 21 [

قرئ: (صدّق) بالتشديد والتخفيف، ورفع إبليس ونصب الظن، فمن شدّد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا المثل، والأيادي: عبارةٌ عن التفرقةِ، أي: تَفرَّقوا في البلادِ، مِنْ قولِهم: أخذَ يَدَ البَحْرِ، أي: طلب طريقه.

وقيل: أيادي سَبأ: أولادُ سبأ، لأنّ الأولادَ أعضادُهُ لتقوِّيه بهم. مضى قصَّتُهم في النملِ مُستوفيً.

قوله: (أيادي سَبا يا عَزُّ)، البيت. تقديرُه: يا عَزَّةُ كنتُ بعْدَكم أياديَ سَبا، و ((ما)) مزيدةٌ أو للدوامِ. ويقال: حَلى الشيءُ في فَمي يحلو، وحَلِيَ بعَيْني وقَلْبي يَحْلي.

قوله: (قُرئ: {صَدَّقَ} بالتشديد)، عاصمٌ وحمزةُ والكِسائي، وبالباقون: بالتخفيف.

قال الزجّاج: صِدْقُه في ظَنِّه: أنّه ظَنَّ بهم أنه إذا أغْواهُم اتّبعوه، فوجَدَهم كذلك، فمَنْ شَدَّدَ نصَبَ ((الظنَّ)) لأنه مفعولٌ به، ومَنْ خَفَّف نَصَبه على معنى: صَدَقَ عليهِم في ظَنِّه.

روى مُحيي السنّةِ عن ابنِ قُتيبة: أنّ إبليسَ لما سألَ النَّظِرةَ فأنْظَره الله تعالى قال: لأغوِينَّهم

ص: 542

فعلى: حقق عليهم ظنه، أو وجده صادقا؛ ومن خفف فعلى: صدق في ظنه، أو صدّق يظن ظنًا، نحو: فعلته جهدك؛ وبنصب "إبليس" ورفع "الظن"، فمن شدّد فعلى: وجده ظنه صادقًا، ومن خفف فعلى: قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، يقولون: صدقك ظنك. وبالتخفيف ورفعهما على: صدق عليهم ظن إبليس، ولو قرئ بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق، كقوله:

صدقت فيهم ظنوني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولأُضِلَّنَّهم، ولم يكُنْ مستيقنًا وقْتَ هذه المقالةِ، إنما قالَه ظَنًّا، فلمّا اتَّبعوه وأَطاعوه صَدَّق عليهم ما ظَنَّه فيهم.

قال ابنُ جني: ((على)) مُتعلِّقةٌ بـ {صَدَّقَ} ، كقولك: صَدَّقْتُ عليك فيما ظنتهُ بك، ولا يتعلَّقُ بالظن.

قوله: (وبنَصْبِ ((إبليس)) ورَفْع ((الظنِّ)))، قال ابنُ جني: المُخفَّفةُ قرأَها الزهري.

والمعنى: أن إبليسَ كان سَوّلَ له ظنُّه شيئًا فيهم فصَدَّقه ظنُّه فيما كان عقدَ عليه معَهم من ذلك الشيء.

قوله: (ورَفْعِهما)، قال أبو البقاء: ويُقرأُ برَفْعِهما بجَعْلِ الثاني بدَل اشتمال.

قال الزجاج: هو كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، ويجوز:((ولقد صَدَّق عليهم إبليسُ ظنُّه))، وقد قُرئ بهما على معنى: صَدَقَ ظنُّ إبليسَ اتباعُهم إياه.

قوله: (صدّقَتْ فيهم ظنوني)، تمامه:

ص: 543

ومعناه: أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال: إنّ ذرّيته أضعف عزمًا منه، فظنّ بهم اتباعه، وقال:(لأضلنهم)] النساء: 119 [، (لأغوينهم)] ص: 82 [. وقيل: ظنّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة: أنه يجعل (فيها من يفسد فيها)] البقرة: 30 [، والضمير في (عَلَيْهِمْ) وَ"اتَّبَعُوهُ" إمّا لأهل سبأ؛ أو لبنى آدم. وقلل المؤمنين بقوله: (إِلَّا فَرِيقاً)؛ لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار، كما قال: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)] الإسراء: 62 [، (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)] الأعراف: 17 [. (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ) من تسليٍط واستيلاٍء بالوسوسة والاستغواء إلا لغرض صحيح وحكمة بينة؛ وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها. وعلل التسليط بالعلم، والمراد ما تعلق به العلم. وقرئ:(ليعلم) على البناء للمفعول. (حَفِيظٌ): محافظ عليه، وفعيل ومفاعل متآخيان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فدَتْ نفسي وما مَلَكْت يَميني

فوارسَ صَدَّقَتْ فيهم ظنوني

((فَدَتْ)) خبرٌ في معنى الدعاء، وتَضْعيفُ العينِ في ((صَدَّقَتْ)) للتكثيرِ، وفوارسُ- في جَمعِ فارسٍ-: شاذٌ، لأنّ فواعلَ إنما يكونُ جَمْعَ فاعلةٍ في صفاتِ ما يَعْقِلُ، دون فاعل.

قولُه: (والضميرُ في {عَلَيْهِم} و ((اتبعوه)) إما لأهلِ سبأ أو لبني آدم)، فإن كان الأول فالكلامُ تَتِمَّةٌ للأول إما حالاً أو عَطْفًا، وإن كان الثاني فهو كالتذييلِ تأكيدًا له.

قوله: (وقُلَّل المؤمنينَ بقولِه: {إِلاَّ فَريقًا} لأنهم قليلٌ بالإضافةِ إلى الكفار)، في ((المطْلع)): هذا إذا جَعَلْتَ ((مِنْ)) للتبين، وإن جعَلْتَها للتبعيضِ فالمرادُ بالفريقِ: الخُلَّصُ من المؤمنين الذين لم يتبعوه فيما دعاهم إليه من المعاصي.

قولُه: (وعُلِّلَ التسليطُ بالعلم، والمرادُ ما تَعلَّق به العلم)، المطْلع: وهو الإيمانُ والكفر، والمعنى: إلا لنعلمَ إيمانَ المؤمنِ بالآخرةِ ظاهرًا موجودًا، وكذلك كُفْرَ الكافرِ الذي هو في شكِّ منها، لأنَّ العلمَ بهما موجودَيْن هو الذي يتعلَّقُ به الجَزاء.

قال القاضي: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} إلاّ ليتعلَّقَ علْمُنا بذلك تعلُّقًا يترتَّبُ عليه الجزاءُ، أو ليتميَّزَ

ص: 544

[قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)] 22 [

(قُلِ) لمشركي قومك: (ادْعُوا الَّذِينَ) عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله، والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه. وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون أن يستجيب لكم ويرحمكم. ثم أجاب عنهم بقوله:(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شر، أو نفع أو ضر فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ وَما لَهُمْ في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك، كقوله تعالى:(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)] الكهف: 51 [، وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه؛ يريد: إنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المؤمنُ من الشاكِّ، أو ليُؤمِنْ مَنْ قُدِّرَ إيمانُه ويَشُكَّ مَنْ قُدِّرَ ضلاله، والمرادُ من حصولِ العِلْمِ حصولُ مُتَعلَّقِه مُبالغة. وفي نَظْمِ الصِّلَتيْن نُكتةٌ لا تَخْفى.

وقلتُ: لعلّ النكتةَ إيقاعُ الشكِّ في الصلة الثانية في مقابل الإيمان المذكور في الصلة الأولى، وأن لم يقُلْ: من هو مؤمنٌ بالآخرة ممن هو كافر بها، أو: من يوقن بالآخرة ممن هو في شكٍّ منها، ليؤذن بأن أدنى شك في الآخرة كفر، وأنَّ الكافرين لا يوقنون بالردِّ بل هم مُستقرُّون في الشك لا يتجاوزونَ إلى اليقين.

قوله: (فيما يَعْروكم)، الجوهري: عراني هذا الأمر واعْتَراني: إذا غَشِيَك، وعروْتُ الرجلَ أعروهُ عروًا: إذا ألمَمْتُ به وأتيته طالبًا، وهو مَعْرُوٌّ.

قوله: (ثُم أجابَ)، عَطْفٌ على قوله:((قل لمُشْركي مكة)) أي: قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لمشركي مكة، ثم أجاب.

قوله: (في هذَيْنِ الجنسَيْن)، أي: السماواتِ والأرض، يعني: عدلَ عن ضميرِ الجمع نحو: ((فيهنَّ)) و ((فيها)) إلى التثنية لإرادة الجنسَيْن.

ص: 545

أحوال الربوبية، فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى، ويرجوا كما يرجى؟ فإن قلت: أين مفعولا زعم؟ فإن قلت: أحدهما: الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول. وأمّا الثاني: فلا يخلو إمّا أن يكون (مِنْ دُونِ الله)، أو (لا يَمْلِكُونَ)، أو محذوفًا. فلا يصح الأول؛ لأنّ قولك: هم من دون الله، لا يلتئم كلامًا، ولا الثاني؛ لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك، فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم، وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد؟ فبقى أن يكون محذوفًا تقديره: زعمتموهم آلهةً من دون الله، فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله:(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ الله)] الفرقان: 41 [استخفافا، لطول الموصول لصلته، وحذف "آلهة"؛ لأنه موصوف صفته:(مِنْ دُونِ الله)، والموصوف يجوز حذفه، وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما، فإذن مفعولا "زعم" محذوفان جميعًا بسببين مختلفين.

[وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير)] ُ 23 [

تقول: الشفاعة لزيد، على معنى أنه الشافع، كما تقول: الكرم لزيد، وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله:(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يكون على أحد هذين الوجهين، أى: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بسَبَبَيْنِ مختلفين)، أي: بسَببِ الاستحقاقِ وبسَبب إقامةِ الصفةِ مُقامَ الموصوف.

قوله: (على أحدِ هذين الوجهين)، أي: اللام في {أَذِنَ لَهُ،} صلة للفعل، فيجوز أن يكون مثل اللام في قولك: الشفاعةُ لزيدٍ، على أنه الشافع فقولهُ:((من الشافعين)) بيانٌ لقوله: {مَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وأن يكونَ مِثْلَ اللام من قولك: القيامُ لزيد، أي: قامَ أحدٌ كرامةً لزيدٍ على أنه المشفوعُ له، وقولُه:((أي: بشفيعه))، تفسيرٌ لقوله:{لَهُ،} في قولِه: {مَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لا تَنْفَع الشفاعة إلا لشخص أذن لشفيعه أن يشفع له.

ص: 546

له من الشافعين ومطلقة له. أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له، أى: لشفيعه؛ أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أى لأجله، وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم:(هؤلاء شفعاؤنا عند الله)] يونس: 18 [. فإن قلت: بما اتصل قوله: (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)، ولأى شيء وقعت (حتى) غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام من أنّ ثم انتظارًا للإذن وتوقعًا وتمهلًا وفزعًا من الراجين للشفاعة والشفعاء؛ هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان، وطول من التربص، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عز وجل: (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)] النبأ: 37 - 38 [. كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون مليًا فزعين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويجوز أن تكون هذه اللامُ بمعنى: لأجل، ولامُ الصلةِ مع متعلِّقِه محذوفًا، نَحْوَ قولك: أذن لزيد لعمرو، وإليه الإشارة بقوله:((وقع الإذنُ للشفيعِ لأجلِه)). هذا هو الذي يقتضيهِ النظمُ، لأنَّ الذي هو سَوْقُ الكلامِ أن شركاءهم لا تنفَعُهم في الدنيا ولا يملكون مثقالَ ذَرةٍ من خيرٍ أو شَرٍّ أو نَفْعٍ أو ضُرٍّ فيها، ولا لهم تصرُّف ما، فعَبّرَ بقوله:{فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} عن العالم، أي في الدنيا، كما سبق في آل عمران، ولا ينفعهم في الآخرة، لأنه إن قُدِّرَ لهم نَفْعٌ فلا يكون إلا في الشفاعة، فجيء بقوله:{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} تعريضًا بأنَّ أصنامَهم لا يَشْفعون لأنهم ليسوا في صَدَدِ أن يُؤذَنَ لهم. هذا هو المرادُ من قولِه: ((وهو الوجْهُ- لأن فيه العلمَ بالشفيعِ والمشفوعِ له كليهما- وهذا تكذيبٌ لقولِهم {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ})). قال أبو البقاء: واللام في {لِمَنْ أَذِنَ لَهُ،} يجوز أن يتعلّق بالشفاعة، لأنك تقول: شفَعْتُ له، وأن يتعلق بـ {تَنفَعُ} .

قوله: (هل يؤذن)، مُتعلِّقٌ من حيثُ المعنى بقولِه ((راجين)).

قوله: (وتوقّفون مَلِيًّا)، وذلك أنَّ المقامَ مقامُ الهيبةِ والجلالِ لا سيَّما المشفوع له خائفٌ

ص: 547

وهلين. (حتى إذا فزع عن قلوبهم)، أى: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا:(ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا): قال (الْحَقَّ)، أى: القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:«فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة» . وقرئ: (أذن له)، أى: أذن له الله، و (أذن له) على البناء للمفعول. وقرأ الحسن:(فزع) مخففًا، بمعنى فزع. وقرئ:(فزع) على البناء للفاعل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والشافعُ راجٍ هل يُؤذَنُ له في الشفاعة أم لا؟ وضم مع ذلك ((حتى)) المعطيةَ لمعنى التدرُّج والغايةِ، وقوله:{إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} يؤذَنُ بالإمهالِ وطولِ الانتظارِ وكما نُشاهدُ من أحوال الجبابرةِ وملوكِ الزمان إذا ضُرِبَ لقضاءِ الشؤونِ، ولذلك استشهَد بقوله:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38]، ومنه قوله تعالى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 29].

قوله: (وَهِلِين)، الجوهري: الوَهلةُ: الفزعةُ، والوَهَلُ بالتحريك: الفزَعُ، وقد وَهِلَ يَوْهَلُ فهو وَهِلٌ ومُسْتَوْهِل.

قوله: (فَزَّعَتْهُ الشفاعةُ)، التفزيعُ: إزالةُ الفَزعِ، كالتمريضْ والتَّفريدِ، أي: أزالَ الفَزَعَ وكَشفَ عنه الفَزعَ.

الراغب: الفزعُ: انقباضٌ ونِفارٌ يعتري الإنسانَ من الشيءِ المُخيف، وهو من جنسِ الفزع، ولا يقال: فَزِعْتُ من الله، كما يقال: خفتُ منه. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أي: أزيلَ، يقال: فزِعَ إليه: إذا استغاثَ به عند الفَزع، وفَزِع له: أغاثه.

قوله: (((فَزَّعَ)) على البناءِ للفاعلِ)، ابنُ عامرٍ، والباقون: على بناءِ المفعول. ومعنى {فُزِّعَ} : كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبهم، و ((فَزَّعَ)): كشَفَ الله الفَزَع. وقراءةُ ((فُرِّغ)) بالراءِ والغينِ

ص: 548

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعجمة ترجعُ إلى هذا المعنى لأنها فُرِّغَتْ من الفَزَع. قال الزجّاج: وتفسيرُ هذا: أنّ جبريلَ عليه السلام لما نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالوحِي ظَنَّتِ الملائكةُ أنه أنزل بشيء من أمرِ الساعة، ففَزِعت لذلك، فلما انكشَفَ عنها الفَزعُ قالوا: ماذا قال ربكم؟ سألَتْ: لأيِّ شيءٍ نزلَ جبريل؟ قالوا: الحقَّ. تَمَّ كلامه، وعليه كلامٌ أكثر المفسرين.

ويعضُدُه ما روَيْناه عن البخاريِّ والترمذيِّ وابنِ ماجه عن أبي هريرة: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمرَ في السماءِ ضربَت الملائكةُ أجنحتَها خُضعانًا لقولِه، كأنه سِلسلةٌ على صَفوانٍ، فإذا فُزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم؟ قال الذي قال: الحق وهو العليُّ الكبير)).

وعن أبي داودَ عن ابن مسعود قال: إذا تكلَّم الله عز وجل بالوَحْيِ سَمِعَ أهلُ السماء صَلْصلةً كجَرِّ السلسلةِ على الصَّفا، فيُصْعَقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريلُ، فإذا جاء جبريلُ فُزِّعَ عن قلوبهم، فيقولونَ: يا جبريلُ ماذا قال ربُّكم؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحقَّ الحقّ.

فإن قلتَ: قد ظهرَ من هذه الرواياتِ أنّ الموصوفينَ بهذه الصفاتِ هم الملائكةُ، والذي ذهب إليه المصنِّف هم الشفعاءُ مُطلقًا، وأن هذه الحالةَ واقعةٌ يوْمَ القيامة لقولِه:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، فإذَنْ ما معنى الغايةِ في ((حتى))، وما وَجْهُ انطباقِه على الأحاديث الصحيحة؟

قلت -والله أعلم-: يُستخرَجُ معنى المُغَيَّا من المفهوم؛ وذلك أن المشركينَ لما ادّعَوا شفاعةَ الآلهةِ والملائِكة وأجيبوا بقَوْله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} {لاَّ يَمْلِكُونَ الْشَّفَاعَةَ} ، ومعناه ما قال المصنف: قل لمَشركي مكّة: ادعوا الذين عبَدْتُم من دونِ الله

ص: 549

وهو الله وحده، و (فرّع)، أى: نفى الوجل عنها وأفنى، من قولهم: فرغ الزاد، إذا لم يبق منه شيء. ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور، كما تقول: دفع إلىّ زيد، إذا علم ما المدفوع وقد يخفف، وأصله: فرغ الوجل عنها، أى: انتفى عنها وفنى. ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور. وقرئ: (افرنقع عن قلوبهم)، بمعنى: انكشف عنها. وعن أبى علقمة: أنه هاج به المرار، فالتف عليه الناس، فلما أفاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من الأصنامِ والملائكة وسَمَّيتموهُم باسمِه، والتجئوا إليهم، فإنهم لا يملكون مثقالَ ذرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض، ولا تنفع الشافعة من هؤلاء إلا الملائكة لكن مع الإذن والفزع العظيم وهم لا يشفعون إلا للمُرتضَيْن، فعبَّر عن الملائكة بقوله:{إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} الآية كناية، كأنه قيل: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاّ ممّن هذا شأنُه ودأبُه، وأنه لا يثبت عند صَدْمةٍ من صدماتِ هذا الكتاب المُبين وعند سماعِ كلامِ الحقِّ، يعني: الذين إذا نُزّلَ عليهم الوحيُ يفزعون ويُصْعقون، حتى إذا أتاهم جبريلُ فُزِّعَ عن قلوبهم يقولون: ماذا قال ربّكم؟ فيقول: الحقَّ، فيقولون: الحقَّ الحقَّ.

ونحوه في الأسلوبِ قوله تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 9 - 10]. قال المصنِّف: ((معنى {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} إلى آخره: ليَنسُبُنَّ خَلْقَها إلى الذي وُصِفَ بهذه الأوصاف وقيل في حَقّه تلك النعوت)).

قولُه: (فَزَّعتُه الشفاعةُ)، أي أزالت الشفاعة عنه الفزع؛ أي إذْنُ الشفاعةِ، يدلُّ عليه قولُه: كَشِفَ الفَزَعُ بكلمةٍ يتكلَّم بها ربُّ العِزَّةِ في إطلاقِ الإذن.

قوله: (وقُرئ: ((افرُنقِعَ)))، قال ابن جنِّي: قال أبو عَمْرو الدّوري عن عيسى بن عُمر: أنه كان يقرأ ((افرُنقِعَ عن قلوبهم)).

ص: 550

قال: ما لكم تكأكأتم علىّ تكأكؤكم على ذى جنة؟ ! افرنقعوا عنى. والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركب «اقمطر» من حروف القمط، مع زيادة الراء. وقرئ:(الحق) بالرفع، أى: مقوله الحق. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ): ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبىّ أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.

[قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)] 24 [

أمره بأن يقررهم بقوله: (مَنْ يَرْزُقُكُمْ)، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم الله؛ وذلك بالإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته؛ ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم، وتؤثرن عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله:(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) حتى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: التكأكؤ: التجمُّع، وقال في بابِ العينِ وفَصْل الفاء: افرَنْقِعوا عني، أي: انكشفوا عني. واقمطَرَّ يومنا، أي: اشتد.

أبو عُبَيْد: المُقْمَطِرُّ: المُجْتمِع. قَمَطَ الطائرُ أُنثاه يَقْمِطُها أي: يَسْفِدُها. والقُماطُ: حَبْلٌ يُشَدُّ به قوائم الشاة عند الذبحِ وكذلك ما يُشَدُّ به الصبيُّ في المهدِ. والمِرَّةُ: إحدى الطبائعِ الأربعِ. وهذه القصة رواها الجوهريّ عن عيسى بن عمر، وروى ابنُ جِنّي في ((المُحْتسب)) أيضًا عن أبي عَلْقمةَ النحوي كما رَواهُ المصنِّف، وفي آخرِها: قال بعضُ الحاضرين: إنّ شيطانَه يتكلَّمُ بالهندية.

قوله: (ولأنهم إنْ تَفَوَّهوا)، عَطْفٌ على قوله:((لأن الذي تمكَّنَ في صدورهم)).

ص: 551

قال: (فَسَيَقُولُونَ الله)] يونس: 31 [ثم قال: (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)] يونس: 32 [فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة، ومرّة كانوا يتلعثمون عنادًا وضرارًا وحذارًا من إلزام الحجة، ونحوه قوله عزّ وعلا: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)] الرعد: 16 [. وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فماذا بعدَ الحقِّ إلا الضلال)، يعني: أنهم لو تفوهوا بأن الله رازقهم لزِمَ أن يقال لهم: فما لكم تعبدون من يرزقكم؟ كما قيل لهم في تلك الآية التي مضمونها مضمون هذه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} .

قوله: (يتلعثمون عنادًا)، أي: يتمكثون ويتكلَّمون. عن الجوهري.

قوله: (وأمَرَه أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام)، قال صاحب ((الانتصاف)): يعني: ألزَمهم الحجة من قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ} إلى هذه الآية. وهذا الإلزامُ وإن لم يَزِدْ على إقرارِهم بألسنتهم لم يتقاصَرْ عنه؛ أمره أن يقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} وهذا من الكلام الذي يبادر كل سامع من موافقٍ أو مخالف أن يقول: قد أنصَفك خَصْمُك، وهذا أوْصَلُ إلى الغرض وأقطَعُ للشَّغَبِ وهو تفسيرٌ مُهَذَّبٌ وافتنان مستعذب، فلا يُنكَرُ على الفقهاء قولُهم في المجادَلاتِ: أحدُ الأمرَيْن لازمٌ، فهو غيرُ بعيدٍ من هذا الوادي.

وقلتُ: إنه تعالى لما أمر حبيبَه صلى الله عليه وسلم أولا بأن يُكافِحَهم ويُجيبَهم لقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} ، ثم يسألهم بقوله:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ويتولى الإجابة والإقرارَ عنهم بنفسِه في قوله: {قُلِ اللهُ} ليؤذنَ أن الذي تمكّنَ في صدورِهم من العنادِ قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق، أمَره بأن يُرخيَ العِنانَ معهم ويقول:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ليناديَ على تماديهم في الضلال، وأنّهم مع علمهم بصحة ما جاء به بعد إقرارِهم به، مُنْغمسون في ضلالٍ ظاهرٍ مكشوفٍ، فالكلام من أوله

ص: 552

هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، ومعناه: وإنّ أحد الفريقين من الذين يتوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال. وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من مواٍل أو مناٍف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أوصل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم، وفلّ شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب. ومنه بيت حسان:

أتهجوه ولست له بكفء

فشر كما لخير كما الفداء

فإن قلت: كيف خولف بين حرفى الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واردٌ على ترتيبٍ أنيقٍ ونظمٍ رَصين مشتملٍ على فوائدَ وإشاراتٍ، وهو من باب الترقِّي.

قوله: (يتوحَّدون)، ويُروى:((يُوحِّدون))، يقال: توحَّد بكذا: اعترفَ به، وفلان توحَّدَ بكذا: إذا اعتزلَ وتفرَّد من الناس به، ومنه الأوْحَديُّ، أي: من الذين ينفرِدون بعبادةِ مَنْ يرزقُهم من السماء بإنزال الأمطار ومن الأرض بإنبات البركات.

قوله: (بالهُوَينا)، النهاية: الهُوَينا: تصغيرُ الهونا؛ تأنيثُ الأهون، والهُونُ: الرِّفق واللين.

قوله: (أتهجوه) البيت، قيل: لما أنشدَ حَسّانُ البيتَ مَنْ حضر: هذا أنصَفُ بيتٍ قالته العرب.

ص: 553

مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه. وفي قراءة أبىّ: (وإنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين).

[قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)] 25 - 26 [

هذا أدخل في الإنصاف، وأبلغ فيه من الأوّل؛ حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين، وإن أراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مرتبك)، الجوهري: ارتبكَ الرجلُ في الأمر، أي: تشبَّثَ فيه ولم يكَدْ يتخَلَّصُ منه.

قوله: (وفي قراءةِ أبِّي: ((وإنا أو في إياكم إما على هدى أو في ضلالٍ مبين)))، قال أبو البقاء:{أَوْ إِيَّاكُمْ} معطوفٌ على اسمِ ((إنّ))، والخبرُ مُكَرَّر كقولِهم: إنّ زيدًا وعَمْرًا قائم. واختلفوا في الخبر، قال سيبويه: المذكورُ للثاني والأولُ محذوفٌ وهو أولى من عَكْسِه، فعلى هذا يكونُ {لَعَلَى هُدًى} خبرَ الأولِ و {أَوْ فِي ضَلَالٍ} معطوفًا عليه وخَبَرُ المعطوفِ محذوفٌ لدلالةِ المذكورِ عليه. والكلام على المعنى غيرِ الإعراب لأنَّ المعنى: إنا على هدى من غيرِ شكّ، وأنتم على ضلالةٍ على يقين، لكن خَلَطَه على افتنانِهم، كقولهم: أخزى الله الكاذبَ مِنّي ومنك.

قوله: (هذا أدخَلُ في الإنصافِ، وأبلغُ فيه)، الانتصافُ: وذكرَ الإجرامَ المضافَ إلى النفسِ بصيغةِ الماضي التي تُعطي معنى التحقيق، وذكرَ العملَ المنسوبَ إلى الخصمِ بما لا يُعطي ذلك.

قوله: (وإنْ أرادَ بالإجرام)، هذا شَرْطٌ لا يُذْكَرُ جَوابُه للمبالغةِ والجملةُ للحالِ أي: هذا أبلغُ من الأول، وإن أريدَ في الحقيقةِ بالإجرامِ الصغائرُ وبالعملِ الكفرُ لأنَّ في الظاهرِ أسندَ مُطلقَ الإجرام إلى المتكلِّم ومُطلقَ العملِ إلى المخاطَب.

ص: 554

وبالعمل الكفر والمعاصي العظام. وفتح الله بينهم وهو حكمه وفصله: أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار.

[قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 27 [

فإن قلت: ما معنى قوله: (أَرُونِيَ) وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم؛ ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به. و (كَلَّا): ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (أُفٍّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله تعالى)، هذا كما يقول القائل لغيره إذا أفسد شيئًا: أرِني هذا الذي أفسَدْتَه لأُريك فسادَه.

قوله: (وأن يُقايسَ على أعينهم)، فإن قُلْتَ: عَدّى ((يُقايِسُ)) بـ ((على)) فيما ليسَ بمَقيسٍ عليه، ثم عَدّاهُ في قولِه:((القياس إليه)) بـ ((إلى)) وهو يُعَدّى بـ ((على)).

قلت: هما حالانِ والمتعلِّقٌ محذوف، أما الأول فمعناه أن يُقاسَ الأصنامُ على الله تعالى ظاهرًا على أعينهم مكشوفًا كما في قوله تعالى:{فَاتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} الأنبياء: 61] أي: مُعايَنًا مُسْتعليًا على الأعينِ استعلاءَ الراكبِ على المركوب، ومعنى الثاني ليُطلعَهم على إحالةِ القياس منتهيًا إليه، أي: مُحالٌ أن ينتهي قياسُ شيءٍ إلى الله تعالى وإلى صفاتِه، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا.

قوله: (و {كَلاَّ} رَدْعٌ لهم عن مذهبهم بعد ما كَسره)، قال القاضي:{قُلْ أَرُونِيَ} استفسارٌ عن شُبهتِهم بعد إلزامِ الحجّةِ عليهم زيادة في تبكيتهم.

وقلت: هذه قاعدةٌ شريفةٌ وأدبٌ جَميلٌ في آدابِ المجادلة وقَمْعِ شُبهةِ الخصم الألدِّ الأبِّي، فإنه ينبغي أنْ يُرْخى عِنانُ الكلامِ معه أولاً، ويُجاري معه على سَنَنٍ يَبعثُه على التفكرِ والنظرِ في أحوالِ نفسهِ ليعثُرَ حيثُ يراد تَبْكيتُه عند إيرادِ الحجةِ البالغة وعليه قولُ إبراهيم

ص: 555

لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله)] الأنبياء: 67 [بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش

غلطهم وإن لم يقدروا الله حق قدره بقوله: (هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات، وهو راجع إلى الله وحده، أوهو ضمير الشأن، كما في قوله تعالى:(قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)] الإخلاص: 1 [.

[وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)] 28 [

(إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) إلا إرسالة عامةً لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج: المعنى: أرسلناك جامعًا للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالًا من الكاف، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه السلام: {إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 78 - 79] بعد قوله: {هَذَا رَبّي} [الأنعام: 78].

قوله: (وهو راجعٌ إلى الله)، أي: الضميرُ منهم راجعٌ إلى الله في الذهنِ، وجازَ لأنّ ما بعده يفسره، كما قال في قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37] في ((المؤمنين)): ((هذا ضميرٌ لا يُعلمُ ما يعني به إلا بما يَتلوه، وأصلُه: إنِ الحيَاةُ إلا حياتنا الدنيا، ثم وضَع ((هيَ)) موضِعَ ((الحياةِ))، لأنّ الخبرَ يدلُّ عليها، ومنه: هيَ العربُ تقولُ ما شاءَتْ)). والفرقُ بين هذا الضميرِ وضميرِ الشأن أن الجملةَ بعد ضميرِ الشأن مُبَيِّنةٌ له وخبرُه هذا الضمير وَحْدَه مُفَسِّرٌ له، ولذلك قال:((هو راجعٌ إلى الله وَحْدَه))، ونظيرُه قولُه تعالى:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] في وجهٍ، وقولك: رُبَّه رجُلاً، ونحو هذا الضميرُ اسم في قولك: هذا أخوك، قال المصنِّف:((لا يكونُ ((هذا)) إشارةً إلى غيرِ الأخ)).

قوله: (وقال الزجاج المعنى: أرسلناكَ جامعًا للناس في الإنذار والإبلاغ، فقد جعله

ص: 556

ومن جعله حالًا من المجرور متقدّمًا عليه فقد أخطأ؛ لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حالاً من الكاف). وأما حكايةُ كلامِه فإنه قال: معنى {كَآفَّةً} : الإحاطةُ في اللغةِ، والمعنى: أرسلناكَ جامعًا للناسِ في الإنذارِ والإبلاغِ، وأُرسلَ صلى الله عليه وسلم إلى العربِ والعجَم.

وقال أبو البقاء: كأنه حالٌ من الكافِ، والهاءُ زائدةٌ للمبالغةِ، و {للناسِ} مُتعلِّقٌ به، أي: وما أرسلناك إلا كافّةً للناسِ عن الكفر والمعاصي.

وقال المالكي في ((شرح التسهيل)): قولُ الزجاج باطلٌ لأنّه جعَل {كَآفَّةً} حالاً من مفرد، ولا يُعرَفُ ذلك في غيرِ محلِّ النزاع، وجَعَلَه مِن مُذَكَّرٍ مع كَوْنِه مُؤنّثًا، ولا يتأتى ذلك إلا بجَعْلِ تائِه للمبالغةِ، وبابُه مقصورٌ على السماعِ، ولا يتأتى غالبًا ما هي فيه إلا على أحدِ أمثلةِ المبالغةِ، كنَسّابةٍ وفَروقةٍ ومِهْدارة، وكافّة بخلافِ ذلك، فبَطل أن يكونَ منها لكونِها على فاعلة. فإن حُمِلت على رواية حملت على شاذّ الشاذّ، لأنّ إلحاقَ تاءِ المبالغةِ لأحدِ الأمثلةِ شاذّ، وإلحاقُه لما لا مُبالَغة فيه أشذّ.

وأما الزمخشريّ فقد جعلَ {كَآفَّةً} صفةً، ولم يستعمله العربُ إلاّ حالاً، وليتَه إذْ أخرجَ ((كافة)) عن استعمالِ العرب سلكَ به سبيلَ القياسِ بل جعلَه لموصوفٍ محذوفٍ لم تستعمله العرب مفردًا ولا مقرونًا بصِفة؛ أعني: إرسالَه، وحَقّ الموصوفِ المُسْتغني بصفتِه أن يُعتادَ ذكْرُه مع صفتِه قبل الحذفِ ولا تصلح الصفة لغيره.

قوله: (ومَنْ جعلَه حالاً من المجرور مُتقدِّما عليه فقد أخطأ، لأنّ تقدُّمَ حالِ المجرورِ عليه في الإحالةِ بمنزلةِ تقدُّمِ المجرورِ على الجار)، وقال ابن الحاجب: تقديمُ الحال على المجرور- إذا كان صاحبُ الحالِ هو المجرورَ- مختلفٌ فيه؛ فأكثرُ البصريِّين على منعِه، وكثيرٌ من النحويين على تجويزِه، ووجه الجواز: أنه حال عن معمولِ فعلٍ لفظيِّ فجاز التصرُّف فيه بالتقديمِ والتأخيرِ كسائرِ أحوالِ الأفعال.

ص: 557

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ووجه المنع: أنه كَثُرَ الحالُ من المجرورِ في كلامِهم ولم يُسمَعْ من الفصحاءِ تقديمُه، ولأنّ حالَ المجرورِ صفةٌ لصاحبِها، وهي معمولة في المعنى بحَرْف الجر، إلا أنهم نصبوها لغرضِ الفصلِ بين الصفة والحال، وكما أن معمولَ الجارِّ لا يتقدَّم عليه ففَرْعُ مَعمولِ الجارِّ بأن لا يتقدَّم على الجارِّ أجدر.

وقلت: ويمكن أن يُنزَّلَ قولُ المالكي منزلةَ الجواب عن هذين الاحتجاجَيْن، أعني قولَه: ومن أمثلةِ تقديمِ الحال على صاحبها إذا كان مجرورًا ما ذَكره أبو علي في ((التذكرة)): زيدٌ خَيْرٌ منك خَيْرَ ما يكون، فجعل ((خَيْرَ ما يكون)) حالاً من الكافِ المجرورِ، ومن الأمثلة قول الشاعر:

إِذَا المرءُ أعيَتهُ المروءةُ ناشئًا

فمطلبُها كَهْلاً عليه شديد

أراد: فمَطْلَبُها عليه كهلاً شديدٌ، ومِن ذلك قولُ الآخر:

تسلَّيْتُ طُرًّا عنكُمُ بعْدَ بَينِكم

بذِكراكُم حتّى كأنّكم عندي

أراد: تسلَّيتُ عنكم طُرًّا. وربَّما قُدِّم الحالُ على صاحبِه المجرورِ وعلى ما يتعلَّقُ به الجارُّ، كقوله:

غافلَا تعرِضُ المنيةُ للمر

ءِ فيُدْعي ولاتَ حينَ إباءِ

أراد: تعرِضُ المنيةُ للمرءِ غافلاً.

وإذا قد ثَبتَت دلائل السماعِ مستوفاة، فَلأُبَيِّن ضَعْفَ شُبَهِ المَنْعِ، فمِن ذلك: ادّعاءُ أنّ حقَّ الحال إذا عدي العامل لصاحبه بواسطة أن يعدي إليه بتلك الواسطة، فيقال للمدعي

ص: 558

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذلك: لا نسلم هذا الحق حتى يترتب عليه التزام التأخر تعريضًا، بل حقُّ الحالِ المُشَبَّهةِ بالظرفِ أن يستغني عن واسطة، على أن الحال أشدُّ استغناء عن الواسطة، ولذلك يعمل فيها ما لا يعدي بحرف الجر كاسم الإشارة وحرف التنبيه والتشبيه والتمني.

ومن الشُّبهِ لالتزامِ التأخير: إجراءُ الحالِ المجرورِ بالحرفِ مُجرى الحالِ المجرورِ بالإضافةِ، فيقال لصاحب هذه الشبهة: المجرورُ بالحرفِ كالأصلِ للمجرور بالإضافةِ، فلا يصلُحُ أن يحمل حال المجرور بحرف عليه لئلا يكون الفرع متبوعًا والأصل تابعًا، وأيضًا فالمضافُ بمنزلةِ موصولٍ والمضافُ إليه بمنزلة صلتِه، والحالُ منه بمنزلةِ جُزءِ صلَتهِ، فوجبَ تأخيره كما يجب تأخيرُ أجزاءِ الصِّلة، وحالُ المجرورِ بحَرْفٍ لا يُشْبِهُ جزء صلة، فأجيز تقديمُه إذ لا محذورَ في ذلك.

ومن الشُّبَهِ: تَشْبيهُ بابِ: مررْتُ بهند جالسةً، ببابِ: زيدٌ في الدار متكئًا، فيقال: بين البابَيْن بَوْنٌ، فإنَّ ((جالسةً)) منصوبٌ بـ ((مَرَرْتُ))، وهو فعل مُتصرِّفٌ لا يفتقر في نصبِ الحال إلى واسطة، كما لا يفتقرُ إليها في نصب ظرفٍ أو مفعولٍ له وحَرْفُ الجر الذي عدّاه لا عمل له إلا الجر، ولا جيءَ به إلا لتعديةِ: مررت، والمجرور به بمنزلة المنصوب فيتقدم حاله كما يتقدم حال المنصوب، وأما ((متكئًا)) في المسألة الثانية فمنصوبٌ بـ ((في)) لتضمّنِها معنى الاستقرار وهي أيضًا رافعةٌ ضميرًا عائدًا على زيد، وهو صاحبُ الحالِ، فلم يَجُزْ لنا أن نقدِّمَ ((مثكئًا)) على ((في)) لأن العمل لها، وهي عاملٌ ضعيفٌ متضمِّنٌ معنى الفعلِ دون حروفِه، فمانعُ التقديم في نحوِ: زيدٌ في الدار متكئًا، غيرُ موجودٍ في نحو: مررْتُ بهندٍ جالسة، وإذا بطل قول الزجاج والزمخشري تَعيَّن القول بصحة أن يكونَ الأصل: وما أرسلناك إلا للناس كافة، فقَدَّم الحالَ على صاحبِها مع كونه مجرورًا، وهو مذهبُ أبي علي وابن كَيْسان، حكاه ابن بَرْهان، ويجوزُ غيرُه، وقال غيره: جَوَّزَ ابنُ كَيْسان وأبو علي الفارسي كون {كَآفَّةً} حالاً من المجرور باللامِ وهو {لِلنَّاسِ} من حيث إنّ العاملَ في الحالِ هو

ص: 559

وكم ترى ممن يرتكب هذا بالخطأ، ثم لا يقنع به حتى بضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا بالخطإ الثاني، فلا بد له من ارتكاب الخطأين.

[وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَاخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)] 29 - 30 [

قرئ: (ميعاد يوم)، و (ميعاد يوم). و (ميعاد يوما). والميعاد: ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو هاهنا الزمان. والدليل عليه قراءة من قرأ:(ميعاد يوم) فأبدل منه اليوم. فإن قلت: فما تأويل من أضافه إلى (يوم)، أو نصب (يوما)؟ قلت: أما الإضافة فإضافة تبيين، كما تقول: سحق ثوب، وبعير سانية. وأما نصب "اليوم" فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره: لكم ميعاد أعنى يومًا، أو أريد يومًا؛ من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يكون الرفع على هذا، أعنى التعظيم. فإن قلت: كيف انطبق هذا جوابًا على سؤالهم؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفعلُ، ولا يفتقرُ الفعلُ في عملهِ في الحال إلى الجارِّ، وإنما يفتقر إليه في عمله في المفعولِ به، فإذا جاز أن يعمل في الحال ما لا يعملُ في صاحبِ الحال كان أوْلى بالجواز.

وقولُ القائل: المجرورُ لا يتقدَّمُ الجارَّ، فإنّما يلزَمُ هذا أنْ لو كان الجارُّ عاملاً في الحالِ، كقولك: قائمًا في الدار زيد، لا يجوز لكون الجار عاملاً في الحال، وقد ذكر بأن العامل هو الفعل فلذلك جاز.

واعلم أن المالكي يُجوِّز تَعَدُّدَ العامل في الحال وصاحبها، وقد أسلفنا القول فيه في سورة الأنبياء عند قوله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] مستوفي.

قوله: (وبعير سانية)، الجوهري: السانية: الناضجة، وهي الناقة التي يستقي عليها.

قوله: (كيف انطبق هذا جوابا على سؤالهم؟ )، يعني: أنهم سألوا عن وقت إرساء الساعة وأجيبوا عن أحوالِهم فيها، وتلخيصُ الجواب: أنه من الأسلوبِ الحكيم يعني: دَعوا السؤالَ عن وقت إرسائها، فإن كينونته لا بدَّ منه؛ بل سَلوا عن أحوالِ أنفسكم وكيف

ص: 560

قلت: ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتًا لا استرشادًا، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقًا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخرًا عنه ولا تقدّمًا عليه.

[وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)] 31 [

الذي بين يديه: ما نزل قبل القرآن من كتب الله. يروى: أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب الله عز وجل في الكفر، فكفروا بها جميعا. وقيل: الذي بين يديه: يوم القيامة. والمعنى: أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى، أوأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب:(وَلَوْ تَرى) في الآخرة موقفهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تكونون مبهوتين متحيرين فيها من هول ما تشاهدون، هذا ألَيقُ بحالِكم من أن تسألوا عنه.

هذا المعنى وإن لم يعلم ظاهرًا من جواب المصنف لكن مآلُه إليه.

قوله: (ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتًا لا استرشادًا)، قولُه:((إلا تعنُّتًا)) استثناءٌ مفرّغٌ والمستثنى منه أعمُّ الأحوال، وهذا التركيبُ مثلُ قولك: ما زيدٌ إلا قائم لا قاعدٌ، وقد أباه صاحبُ ((المفتاح))، مضى بيانُه غير مرة.

قوله: (أو أن يكون لما دل عليه)، يجوز أن تكونَ ((كانَ)) ناقصةً، واسمُه ضميرَ الشأن، و ((حقيقةُ)) بالرفعِ مبتدأ، والخبر:((لما دلّ عليه))، والجملةُ مبينةٌ ضميرُ الشأن وخبر له، وأن تكون ناقصةً، وفاعلُها ((حقيقة))، و ((لما دل)) متعلَّق بـ ((حقيقة)).

ص: 561

وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم؛ لرأيت العجب، فحذف الجواب. والمستضعفون: هم الأتباع، والمستكبرون: هم الرءوس والمقدّمون.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَامُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)] 32 - 33 [

أولى الاسم -أعنى "نَحْنُ"- حرف الإنكار؛ لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم، كأنهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين. (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان، وصحت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها، وآثرتم الضلال على الهدى، وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين؛ لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا. فإن قلت:"إذ" و"إذا" من الظروف اللازمة للظرفية، فلم وقعت (إذ) مضافًا إليها؟ قلت: قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف إليها الزمان،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهم يتجاذبون أطراف المحاورة)، ينظر إلى قول الشاعر:

ولما قضَيْنا من مِنًى كلَّ حاجةٍ

ومَسَّح بالأركان من هو ماسح

أخَذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا

وسالت بأعناقِ المطيِّ الأباطح

أراد بأطراف الأحاديث ما يتعاطاه المُحبون وذوو الصبابة من التعريض والتلويح دون البيان والتصريح.

قوله: (قد اتُّسِعَ في الزمان ما لم يُتَّسَعْ في غيرهِ، فأضيف إليها الزمان)، قال صاحب

ص: 562

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((التقريب)): وإنما أضيف إلى ((إن)) لزومه الظرفية اتّساعًا بإضافة الظرف إليه، كما أضيف إلى الجُمَل نحو: حينَ جاءَ زيد.

وقال صاحب ((الفرائد)): لزومُ ظرفِيَّتهما إذا كنتا مُسْتعملتَيْن لحقيقتهما، فإذا استعملتا بمعنى آخر كان لهما حكم لفظ ذلك المعنى، وهنا المراد بعد مجيء الهدى لأن المراد من وقت الهدى لا وقته، وما ذكر ليس بجواب السؤال الذي ذكر، لأن لزوم الظرفية يأبى جواز ما ذكر.

وقلت: كفى بقوله: ((يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسع في غيرِها)) جاوبًا، وتقدير السؤال: أنْ ((إذ)) و ((إذا)) من الظروف اللازمة الظرفية، فكيف وقعت ((إذ)) هاهنا مجرورة مضافًا إليها.

وأجاب: أنّ الظروفَ لا سيما الزمانيةَ يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسع في غيرها، ويمكن أن يكون مراده: أنه ((إذا)) جُرِّدَتْ ((إذ)) عن معنى الظرفية وانسلخَتْ عنه رأسًا وصُيِّرَت اسمًا صِرْفًا فأضيفَ إليها، ألا ترى كيف وقعت مجرورة في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد وحينئذ ويومئذ، فإذن معنى الآية: أنحنُ صدَدْناكم عن الهدى بعد مجيئه إياكم، فليس فيه رائحةُ الظرفية.

وعن صاحب ((الضوء)): نصَّ سيبويه في ((الكتاب)) وأجاز: إذا يقومُ زيدٌ إذاً يقعُدُ عمرو، بمعنى: وقْتُ قيامِ زيدٍ وقتُ قعود عمرو، فارتفع إذا هاهنا مبتدأ وخبرًا، وأنشد:

وبعد غد يا لهْفَ نفسيَ من غَد

إذا راح أصحابي ولست برائح

قالوا: ((إذا)) هاهنا مجرور المحلِّ على البدَلية من ((غد))، ولذلك حكموا عليه بأنه منصوبُ المحلّ بوقوع عليه في أوائل القصص، وهو ((اذكر)) مُضمَرًا أو ظاهرًا، نَحو {إذْ قَالَ رَبُّكَ} .

ص: 563

كما أضيف إلى الجمل في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد، وحينئذ، ويومئذ، وكان ذلك أوان الحجاج أمير، وحين خرج زيد. لما أنكر المستكبرون بقولهم:(أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين، وأثبتوا بقولهم:(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم:(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهار)، فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا، بل من جهة مكركم لنا دائبًا ليلًا ونهارًا، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد. ومعنى مكر الليل والنهار: مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازى. وقرئ:(بل مكر الليل والنهار) بالتنوين ونصب الظرفين، و (بل مكرّ الليل والنهار) بالرفع والنصب، أى: تكرّون الإغواء مكرًّا دائبًا لا تفترون عنه؛ فإن قلت: ما وجه الرفع والنصب؟ قلت: هو مبتدأ أو خبر، على معنى: بل سبب ذلك مكركم أو مكرّكم، أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك. والنصب على: بل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما وجه الرفع والنصب؟ )، أي: في القراءتين، يعني: قراءة من قرأ ((مَكْر)) من المكر، ومن قرأ:((مكَرّ)) من الكرور. وأجاب: إنه يجوز أن تكون ((مكركم)) خبرَ مبتدأ محذوف، والتقدير: سبب ذلك مكرُكُم أو مكرُّكم، أو مبتدأ خبرَه محذُوف، أي: مكركُم أو مكرّكم سبب ذلك. قال ابن جني: ((بل مكرُّ الليل والنهار)) قراءة أَبِّي، و ((بل مكرٌ الليلَ والنهارَ)) قراءة قتادة، وقرأ راشد ((بل مكْرَ)) بالنصب، وأما المكَرّ والكُرور أي: اختلاف الأوقات، فمَنْ رَفَعه فإما فِعْلٍ مضمرٍ دلَّ عليه قوله:{أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} فإنه كالجواب له، أي: بل مكَرُ الليل والنهار في كرورهما، وإما على حذف الخبر، أي: مكر الليل والنهار صَدّنا، فمَنْ نصبه فعلى الظرف كقولك: زُرْتُكَ خفوقَ النجم، وهو متعلق بفعل محذوف، أي: صددتمونا في هذه الأوقات على هذه الأحوال.

ص: 564

تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار. فإن قلت: لم قيل: (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) بغير عاطف؛ وقيل: (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)؟ قلت: لأن الذين استضعفوا مرّ أولا كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأوّل. فإن قلت: من صاحب الضمير في (وَأَسَرُّوا)؟ قلت: الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون في قوله:(إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)] سبأ: 31 [. يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين. (فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا)، أى: في أعناقهم، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم؛ وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال. وعن قتادة: أسروا الكلام بذلك بينهم. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، وهو من الأضداد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فعطف على كلامهم الأول)، أي: على قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} ، وفيه أن المستضعفين تكلموا بكلامَيْن، وأجابهم المستكبرون عن أحدهم دون الآخر لإفحامهم بقوله:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى آخره، ثم كلا الفريقين مكَروا وأسرّوا الندامة حين لم ينفعهم الندم سرًّا.

قوله: (يندم المستكبرون على ضلالهم)، يعني: الضمير في ((أسرُّوا)) راجع في قوله: {إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} وإنما فسروا {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وهو ماض بقوله: ((يندمون)) وهو مضارع ليوافق قوله تعالى: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} ، ولم يعكس لأنه حكاية للحال الآتية استحضارًا لصورة المجرمين وأنهم موقوفون عند ربهم راجعون بعضهم إلى بعض.

قوله: (أسروا الندامة: أظهروها، [وهو] من الأضداد) عطف على قوله: ((يندم المستكبرون))، فعلى الأول أضمر الفريقان الندامة وأخفوها مخافة التعبير، والثاني الوجه، لأن التعبير واقع وقد علم من قوله:{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} ذلك وقيل: أسرَّ إذا ثبت له الخفاء، وأسَرّه أزال عنه الخفاء ونظيره. أشكيتُه، أي: أثبتَّ له الشكاية أو أَزْلتُها عنه، وأنشد المصنِّف لنفسه:

ص: 565

[وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)] 34 - 35 [

هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد، والمفاخرة وزخارفها، والتكبر بذلك على المؤمنين، والاستهانة بهم من أجله، وقولهم:(أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)] مريم: 73 [، وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شكوتُ إلى الأيام سوءَ صنيعِها

ومِن عَجَبٍ باكٍ تَشكّى إلى المُبكي

فما زادني الأيام إلا شكايةً

وما زالتِ الأيامُ تُشكَى ولاتُشْكي

الراغب: الندم: والندامة: التحسُّرُ من تغيُّرِ رأيٍ في أمر فائت، قال تعالى:{فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]، وأصله من منادمة الحزن له، والنديم والندمان والمنادم متقارب.

وقال بعضهم: المنادمة والمداومة يتقاربان، وقال بعضُهم: الشّريبانِ سُمِّيا نديمَيْن لما يتعقب أحوالهما من الندامة على فعلهما.

قوله: (مما مني به من قومه)، يقال: مَنْوتُه ومَنيتُه، أي: ابتَلَيتُه.

قوله: (والاستهانةِ بهم من أجله)، أي: من أجل التكبر، قال القاضي: واستهانوا بمن لم يَحْظَ منها. ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} على مقابلة الجمع بالجمع، قوبل {وَمَا أَرْسَلْنَا ...... مِّن نَّذِيرٍ} بقوله:{إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} ، ومن ثم طابقه قوله:{إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} .

قوله: (وأنه لم يرسل)، عطف على قوله:((تسلية)) على سبيل البيان.

ص: 566

مكة، وكادوه بنحو ما كادوه به، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم، ولولا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم؛ فعلى قياسهم ذلك قالوا:(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ): أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم؛ نظرا إلى أحوالهم في الدنيا.

[قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)] 36 [

وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع، وربما عكس، وربما وسع عليهما وضيق عليهما، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق. وقدر الرزق: تضييقه. قال تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)] الطلاق: 7 [وقرئ: "يقدّر" بالتشديد والتخفيف.

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)] 37 - 38 [

أراد: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم (بالتي تقربكم)، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، ويجوز أن يكون "التي" هي التقوى، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أى: ليست أموالكم بتلك الموضوعةِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (((يَقدِرُ)) بالتشديد والتخفيف)، بالتخفيف: مشهورة، وبالتشديد: شاذة.

قوله: (ويجوز أن يكون ((التي)) هي التقوى)، يعني: عبر عن التقوى بقوله: {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} كناية، كأنه قيل: وما أموالُكم ولا أولادُكم بالتقوى، لأن التقوى هي المقرِّبة عند الله زلفى وَحْدَها؛ يدل عليه قوله:((ليسَت أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب)) أي: وضعَ الشارعُ لفظة التقوى بإزاء معنى التقريب، كما أن صاحبَ اللغة وضعَ الألفاظَ

ص: 567

للتقريب. وقرأ الحسن: (باللاتى تقرّبكم)؛ لأنها جماعات. وقرئ: (بالذي يقرّبكم)، أى: بالشيء الذي يقرّبكم. والزلفى والزلفة: كالقربى والقربة، ومحلها النصب، أى: تقرّبكم قربة، كقوله تعالى:(أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً)] نوح: 17 [. (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من «كم» في (تُقَرِّبُكُمْ)، والمعنى: أنّ الأموال لا تقرب أحدًا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدًا إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين، ورشحهم للصلاح والطاعة. (جزاء الضِّعْفِ): من إضافة المصدر إلى المفعول، أصله: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، ثم: جزاء الضعف، ثم (جزاء الضعف). ومعنى (جزاء الضعف): أن تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشراً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للمعاني، قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، قال القاضي: أو أنها صفة موصوف محذوف، أي: ما أموالكم ولا أولادكم بالتقوى التي تقربكم عندنا زلفى.

قوله: ({إِلاَّ مَنْ آمَنَ} استثناء مِن ((كم))) قال الزجاج: موضعُ {مَنْ} نَصْبٌ بالاستثناء على البدل من الكاف والميم، أي: لا يُقَرِّبُ الأموالَ إلا مَنْ آمن وعمل بها في طاعة الله تعالى.

وقال القاضي: ويجوز أن يكون مستثنى من {أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ} على حذف المضاف، أي: إلاّ مالَ من آمن وولد من آمن. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء، أي:{مَنْ} مبتدأ، وما بَعْدَه خَبر.

قوله: (ورشّحهم)، أيْ: ربّاهم وهَيّأهم.

ص: 568

وقرئ: (جزاء الضعف)، على: فأولئك لهم الضعف جزاء، و (جزاء الضعف) على: أن يجازوا الضعف. و (جزاء الضعف) مرفوعان، "الضعف" بدل من "جزاء". وقرئ:(فِي الْغُرُفاتِ) بضم الراء وفتحها وسكونها، و (في الغرفة).

[قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)] 39 [

(فَهُوَ يُخْلِفُهُ): فهو يعوّضه، لا معوّض سواه؛ إما عاجلًا بالمال، أو القناعة التي هي كنزلا ينفد؛ وإما آجلًا بالثواب الذي كل خلف دونه. وعن مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإنّ الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده، ثم يبقى طول عمره في فقر، ولا يتأولن:(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و ((جزاءٌ الضعفُ)) مرفوعان)، قال الزجاج: ويجوزُ رفعُ ((الضِّعف)) من جهتين: على معنى: فأولئك لهم الضِّعفُ، على أن يكون ((الضعفُ)) بدلاً من ((جَزاء))، ويكونَ مرفوعًا على إضمارِ ((هو))، كأنه لما قيل:{فَأُولَائِكَ لَهُمْ جَزَاءُ} ، كأن قائلاً قال: ما هو؟ فقال: هو الضعفُ، ويجوزُ النصب في ((الضعف)) على مفعول ما لم يسم فاعلُه، على معنى: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، والقراءة المشهورة: خفض ((الضعف)) ورفع ((الجزاء)).

قوله: (قُرئَ: {فِي الْغُرُفَاتِ})، كُلَّهم إلا حمزة، فإنه قرأ:((في الغرفة)) بسكون الراء.

قوله: (ولا يَتأول) ويروي: (ولا يتأوّلنَّ {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}) أي: لا يصرفُه عن ظاهره ويقول: وما أنفقتم من شيء فإن الله يعوضه في الدنيا لأن ((ما)) شرط، وقولَه:{فَهُوَ يُخْلِفُهُ} جزاء، والآية واردة على سبيل الوعد على الإنفاق وأن الله لا يضيع أجر المحسنين على الإنفاق.

ص: 569

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي ((المعالم)): عن جابر بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ معروفٍ صَدَقة، وكلَّ ما أنفق الرجل على نفسِه وأهله كتبَ له صَدقَة، وما وَقى به الرجل عِرْضَه كُتب له به صدَقة، وما أنفقَ المؤمنُ من نفقةٍ فعلى الله خَلَفُها ضامنًا إلا ما كانَ من نفقتِه في بُنيان أو في معصية الله)).

وفي الكواشي: ((ما)) شَرْطٌ نُصِبَ بقوله: {أَنفَقْتُم} و {مِن شَيْءٍ} ، بيانه، وجواب الشرط الفاء بعد، أو بمعنى الذي مبتدأ، وخبره {فَهُوَ يُخْلِفُهُ،} أي: فالله يعوضه هنا بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى، ثم بالثواب في العقبى، وفي الحديث:((من أيقنَ بالخلفِ جادَ بالعطية))، وفيه حكايةٌ عن الله تعالى:((أنفق أنفق عليك)).

وقلت: هذا هو الوجه، وعليه الوجه الأول، ولذلك أردفه بقوله:{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} تذييلاً للكلام، أي:{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].

ويؤيدُه ما روَيْنا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يومٍ يصبحُ العبادُ فيه إلا وملكانِ ينزِلان فيقول أحدُهما: اللهم أعطِ مُنافقًا خَلَفا، ويقولُ الآخر: اللهم أعطِ مُمسكًا تَلَفا)).

وعن الإمام أحمد بن حنبل عن أبي أمامة: قال أبو ذَرّ: يا نبي الله أرأيتَ الصدقةَ ماذا هي؟ قال: أضعاف مضاعفة وعند الله المزيد)).

ص: 570

فإن هذا في الآخرة. ومعنى الآية: وما كان من خلف فهو منه. (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وأعلاهم رب العزة، لأن كل ما رزق غيره؛ من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله؛ فهو من رزق الله، أجراه على أيدى هؤلاء، وهو خالق الرزق، وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدنى وجعلني ممن يشتهى؛ فكم من مشته لا يجد، وواجد لا يشتهى.

[(يوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)] 40 - 41 [

هذا الكلام خطاب للملائكة، وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر:

إيّاك أعني واسمعي يا جاره

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والنظمُ أيضًا يساعدُ عليه، لأن الآية حث على الصدقةِ والإنفاقِ في سبيلِ الله، ولأنّ هذه الآيةَ تقريرٌ لمعنى قوله:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَائِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} كما قال: ((إن الأموال لا تقرب أحدًا إلا المؤمنَ الصالحَ الذي يُنفقُها في سبيلِ الله)) فمعنى الآية: أن الله هو القابضُ الباسطُ، فلا تَخافوا النفقةَ في سبيلهِ، فإن الله خير الرازقين ولا يُضيعُ أجْرَ المحسنين.

قوله: (الحمد لله الذي أوجدني). الجوهري: أوجده، أي: أغناه، يقال: الحمدُ لله الذي أوجَدني بعد فقر، وأوجدني بعد ضعف، أي: قَوّاني.

قوله: (إياك أعني واسْمَعي يا جارَه) قال الميداني: أولُ من قال ذلك سَهْلُ بن مالك الفَزاري، وذلك أنه خرج يريد النعمان فمَرَّ ببعضِ أحياءِ طيّء، فسأل عن سَيّدِ الحيِّ فقيل: حارثة بن لأمٍ، فأمَّ فلم يُصبْهُ، فقالت له أُخته: انزِلْ في الرّحبِ والسَّعة، فنزل فأكرَمته وألطفَته، ثم خرجت من خِبائها. فرآها أجْمَلَ أهل دهرِها وألطَفهمَ وكانت عَقِيلَةَ قومِها وسيدة نسائها، فوقع في نفسه، فجلس يومًا بِفناء الخِباء يُنْشِدُ وهي تسمع:

يا أختَ خَيْرِ البَدْوِ والحضارَهْ

كيفَ تَرَيْنَ في فتى فَزَارَهْ

ص: 571

ونحوه قوله عز وعلا: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله)] المائدة: 116 [، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا؛ فيكون تقريعهم أشدّ، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم؛ وهو أنه ألزم، ويكون اقتصاص ذلك لطفًا لمن سمعه، وزاجرًا لمن اقتص عليه. والموالاة: خلاف المعاداة. ومنها: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وهي مفاعلة من الولي، وهو القرب. كما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطارَهْ

إيَّاكِ أعْنِي واسْمَعي يا جَارَهْ

فقالت له مجيبة:

إنِّي أقُولُ يا فَتَى فَزَارَهْ

لا أبْتَغي الزَّوْجَ ولا الدَّعارَهْ

ولا فِراقَ أَهْلِ هذِي الجَارَهْ

فارْحَلْ إلى أهْلِكَ باسْتِخارَهْ

فاسْتَحَى الفتى، وقال: ما أردتُ منكرًا. قالت: صدَقْتَ. فكأنها اسْتَحْيَتْ من تسرُّعِها إلى تُهمَته، فارتحل إلى النعمان، فلما رجع نزلَ على أخيها، فتطلَّعت إليه وكانَ جميلاً. فأرسلت إليه: أنِ اخْطُبني، فخَطبها وتزوّجها، وسارَ بها إلى قومه.

يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا آخر.

قال أبو البقاء: ((هؤلاء)) مبتدأ، و {كَانُوا يَعْبُدُونَ} خبره، و {إِيَّاكُمْ} في موضع نصب بـ {يعبدون} وفيه دلالة على جواز تقديم خبر ((كان)) عليها، لأن معمولَ الخبر بمنزلته.

قوله: (اللهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ من عاداه)، روينا في ((مسند الإمام أحمد بن حنبل)) عن البراءِ بنِ عازبٍ وزيد بن أرقَم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزَل بغَديرِ خُمٍّ أخَذ بيد عليٍّ رضي الله عنه فقال:((ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ )) قالوا: بلى، فقال:((اللهم من كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه)) فلقيه عمر رضي الله عنه فقال:

ص: 572

أنّ المعاداة من العدواء، وهي البعد. والولي: يقع على الموالي والموالي جميعًا. والمعنى: أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم. فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم؛ لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك. (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ): يريدون الشياطين؛ حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل: صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها. وقرئ:(نحشرهم) و (نقول) بالنون والياء.

[(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)] 42 [

الأمر في ذلك اليوم لله وحده، لا يملك فيه أحد منفعةً ولا مضرّة لأحد؛ لأنّ الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقب هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلى بينهم، يتضارّون ويتنافعون. والمراد: أنه لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هنيئًا يا ابن أبي طالب، أصبَحْتَ مولى كلِّ مؤمن ومؤمنة.

في ((المطلع)): الوَليُّ: فَعيلٌ من الولايةِ، بمعنى المَوْلى والموالي جميعًا، الولي القُرْبُ من باب فعل يفعِلُ بكَسرِ العين في الماضي والمستقبل معًا من الشواذِّ، وولي الوالي البلَد، وولي البيعَ وغيره ولاية، فهما من الباب أيضًا.

قوله: (من العُدَواء)، والعُدواء: بُعْدُ الدار، ومنها قولُ ذي الرمة:

منها على عُدواء الدار تَسْتَقمِ

قوله: (وقرئ {نَحْشُرُهُمْ} و {نَقُولُ} بالنون والياء)، بالنون: حفص، والباقون: بالياء.

ص: 573

ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وحده، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله:(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) معطوفًا على (لا يَمْلِكُ).

[(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)] 43 [

الإشارة الأولى: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثانية: إلى القرآن. والثالثة: إلى الحق. والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو. وفي قوله: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وفي أن لم يقل: وقالوا، وفي قوله:(لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ)، وما في اللامين، من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وفي "لما" من المبادهة بالكفر -دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم، وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فبتوا القضاء على أنه سحر، ثم بتوه على أنه بين ظاهر، كل عاقل تأمّله سمَّاه سحرا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما في اللامين من الإشارة)، عطف تفسيري نحو: أعجبني زيدٌ وكرمُه، على قوله:((وفي قوله: وقال الذين كفروا)) إلى آخره، يعني: أن اللامين في ((الذين كفروا)) وفي ((الحقِّ)) للعهد ومدخولهما أقيما مقام المضمرين، أما أوّلاً فإن قوله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} يوجب الإضمار وأن يقال: قالوا، وأمّا ثانيًا: فإن قوله: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ} وقوله: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} يقتضيان أن يقال: لهما، وقد تقرر أن سلوك هذه الطريقة لا يكون إلا للإيذان بأن الأمرَ عظيم والخطبَ جَليل، وإليه الإشارة بقوله:((أولئك الكفرةُ المتمرِّدون بجُرأتهم على الله ومكابرتِهم لمثلِ هذا الحق النيِّر قالوا: إنْ هذا إلا سِحرٌ مُبين))، أما قوله:((قبل أن يذوقوه)) فإشارة إلى دلالة لما جاءهم على المبادهة وقوله: ((فبَتّوا القضاء)) إشارة إلى معنى ما يعطيه ((أن)) و ((إلا)) من معنى الحصر، وقوله:((ثم بتوه على أنه بين ظاهر)) إشارة إلى معنى {هَذَا} ولفظة {مُّبِينٌ} .

ص: 574

[(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)] 44 - 45 [

وما آتيناهم كتبًا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، ولا أرسلنا إليهم نذيرًا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، كما قال عز وجل:(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)] الروم: 35 [. أو وصفهم بأنهم قوم أمّيون أهل جاهلية، لا ملة لهم وليس لهم، عهد بإنزال كتاب ولا بعثة رسول، كما قال: (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)] الزخرف: 21 [فليس لتكذيبهم وجه متشبث، ولا شبهة متعلق، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتب وشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله. ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله:(وَكَذَّبَ الَّذِينَ) تقدّموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار، وقوّة الأجرام، وكثرة الأموال، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكارى بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو وصَفَهم بأنهم قومٌ أمِّيُّون)، عطف على قوله:(({وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} فيها برهان)) من حيث المعنى.

اعلم أن وَصْفَ كُتبٍ بقوله: {يَدْرُسُونَهَ} يمكن أن يكون من قولك: ما عندي كتاب يقرأ، فهو نفي القراءة وحدها وأن عنده كتابًا إلا أنه لا يقرأ، أو نفيهما جميعًا وأن لا كتاب عنده ولا كونه مقروءًا، والوجهان اللذان قَرَّرهما من القبيل الثاني.

قوله: (جاءَهم إنكاري بالتدمير)، يعني: قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} يقتضي هذا المقدر.

صَرَّح القاضي به حيث قال: فحينَ كَذّبوا رُسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري فليحذر هؤلاء من مثله فتكونُ الفاء في {فَكَيْفَ} فصيحةً لأنها تقتضي هذا المقدَّر، والنكير والإنكارُ وتغييرُ المُنكر، ويجوز أن يُجعَل العذابُ من جنس الإنكار تنزيلا للفعل

ص: 575

فما بال هؤلاء؟ وقرئ: (يدرّسونها) من التدريس، وهو تكرير الدرس. أو من درّس الكتاب، ودرّس الكتب: و (يدّرسونها)، بتشديد الدال: يفتعلون من الدرس. والمعشار كالمرباع، وهما: العشر والربع. فإن قلت: فما معنى: (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) وهو مستغنى عنه بقوله: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)؟ قلت: لما كان معنى قوله: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه؛ جعل تكذيب الرسل مسببًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منزلة القولِ ادّعاءً نَحْوَ قولِه:

تَحِيّةُ بينِهم ضَرْبٌ وجيع

قوله: (وقرئ: ((يُدرِّسونها))، من التدريس) قال ابن جني: وهي قراءة أبي حَيْوَة، وهو أقوى معنًى من {يَدْرُسُونَهَا} لأن افتعل بزيادة التاء أقوى من فعل، كما أن قوله:{أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42] أقوى من: قادر.

قوله: (وأقدموا عليه)، يعني: هو من أسلوبِ قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]، فعلى هذا قوله:{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} جملة معترضة، لأن المراد منهم المشركون، فقُدم اهتمامًا وإيذانًا بأن إيرادَ هذا الكلام سبَبُه هؤلاء المكذّبون تهديدًا ووعيدًا، ويجوز أن لا تكون معترضةً، بل يكون قوله:{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} توطئة وتمهيدًا لقوله: {وَمَا بَلَغُوا} ، وينعطف قوله:{فَكَذَّبُوا} على {وَمَا بَلَغُوا} أي: وما بلغ هؤلاء المكذبون مِعْشارَ ما آتينا أولئك المكذبين السابقين من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال، فكيف أقدموا على كفر أعظم وتكذيب أبلغ من أولئك، فكذبوا سيد الرسل لدلالة جميع الرسل، كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] ويجوز أن يكون من قبيل قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] وإنما كذبوه وحده لأن الرسالة وصف جامع، فيلزم من تكذيبه تكذيبهم، وهذا الوجه أحسن من الاعتراض وأبلغ وللمقصود أدعى.

ص: 576

عنه، ونظيره أن يقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله: (وما بلغوا)، كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)، أى: للمكذبين الأوّلين، فليحذروا من مثله.

[(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)] 46 [

(بِواحِدَةٍ): بخصلة واحدة، وقد فسرها بقوله:(أَنْ تَقُومُوا)، على أنه عطف بيان لها، وأراد بقيامهم: إما القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده، وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين، ولكن الانتصاب في الأمر، والنهوض فيه بالهمة. والمعنى:(إنما أعظكم بواحدة) إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم، وهي: أن تقوموا لوجه الله خالصًا، متفرّقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به. أمّا الاثنان فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى، ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر على جادة الحق وسننه. وكذلك الفرد: يفكر في نفسه بعدٍل ونصفة، من غير أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على أنه عطف بيان لها)، قال أبو البقاء: محلّ {أَن تَقُومُوا} جر؛ بَدلاً من {وَاحِدَةٍ} ، أو رفع على تقدير: هي أن تقوموا، أو نصب على تقدير: أعني.

قلت: هذا التقدير أوفق لاختيار المصنف، وأدعي لاقتضاء المقام، لأن طلب الواحدة مقصودٌ أوّليٌّ في كلام المصنف وأرخى للعِنان.

قوله: (وتفرُّقهم عن مُجتمعهم عنده)، قيل:((عنَده)) حال من ((مجتمعهم))، ولا يجوز أن يعمل فيه، لأنه اسم المكان لا يعمل.

ص: 577

يكابرها، ويعرض فكره على عقله وذهنه، وما استقرّ عنده من عادات العقلاء، ومجارى أحوالهم. والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى أنّ الاجتماع مما يشوّش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول؛ ومع ذلك يقل الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب. وأراهم بقوله:(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعًا، لا يتصدّى لا دعاء مثله إلا رجلان: إمّا مجنون لا يبالى باقتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، بل لا يدرى ما الافتضاح وما رقبة العواقب. وإمّا عاقل راجح العقل، مرشح للنبوّة، مختار من أهل الدنيا، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه، وإلا فما يجدى على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه، وقد علمتم أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلًا، وأرزنهم حلمًا، وأثقبهم ذهنًا، وآصلهم رأيًا، وأصدقهم قولًا، وأنزههم نفسًا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به؛ فكان مظنة لأن تظنوا به الخير، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب، وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين. فإن قلت:(ما بِصاحِبِكُمْ) ثم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون كلامًا مستأنفًا؛ تنبيهًا من الله عز وجل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (رِقْبَة العواقِب) أي: خوفها، الأساس: رَقَبه وراقبَه: حاذره، لأن الخائف يرقب العقابَ ويَتوقَّعُه.

قوله: (بل عَلِمْتمُوه أرجحَ قريشٍ عقلاً، وأرزنَهم حلمًا، وأثْقَبَهم ذهنًا، وآصلَهم رأيًا، وأصدَقَهم قولاً، وأنزهَهم نفسًا، وجمَعهم لما يُحمَدُ عليه الرجالُ ويُمْدَحون به)، هذه المعاني كلها تلوحُ من الأسلوب الاستدراجي والكلام المنصف وتخصيص ((صاحبكم)) واقترانِه بـ {جِنَّةٍ} ، لله دَرّه ما أحسنَ بيانَه وما أعذبَ ألفاظَه وما أدقَّ مسالكَه، اللهمَّ أحسِنْ جَزاءه فيما يتعاطاه من هذا القبيل، وتجاوز عن فرَطاتِه من قَبيل التعصّب.

قوله: (وآصلهم رأيًا)، هو من قولهم: هو أصيل الرأي، وقد أصَلَ أصالةً.

قوله: (كلامًا مستأنفًا)، أي يكون {مِّن جِنَّةٍ} مبتدأ، والخبرُ {بِصَاحِبِكُم} ، وزِيدَت

ص: 578

على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون المعنى: ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة، وقد جوّز بعضهم أن تكون ما استفهامية. (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) كقوله عليه الصلاة والسلام:«بعثت في نسم الساعة» .

[(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)] 47 [

(فَهُوَ لَكُمْ): جزاء الشرط الذي هو قوله: (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ)، تقديره: أىّ شيء سألتكم من أجر فهو لكم، كقوله تعالى:(ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ)] فاطر: 2 [. وفيه معنيان، أحدهما: نفى مسألة الأجر رأسًا، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((مِن)) الاستغراقية لنَفْيِ ما يقال له جِنَّة، كأنهم لما سمعوا ذلك الكلام الذي يقطر منه معنى الإنصاف والانتصاف بخطب اتجه لهم أن يسألوا: أي شيء هذه الإقامة وهذا الخلوص، وهذا النظر الدقيق واستعمال الفكر؟ فقيل لهم: ذلك لاستعلامِ حالِ صاحبِكم واستكشافِ أمرِه لأنه تصدّى للأمرِ العظيمِ الذي تحتَه مُلْكُ الدنيا والآخرة، وفي إطلاق {يَتَفَكَّرُوا} مبالغةٌ ليسَتْ في تقييِده.

قوله: (بُعِثْتُ في نَسَمِ الساعة)، رَوينا عن الترمذي عن المستورد بِن شَدَّاد قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت في نَفَسِ الساعةِ فسَبقْتُها كما سبقَتْ هذه لهذه)) لأصبَعَيْه السبابةِ والوسطى.

النهاية: قيل: هو جَمْعُ نَسَمة، أي: بُعثت في ذَوي أرواحٍ خلَقهم الله قبلَ اقترابِ الساعة، كأنه قال في آخرِ البَشَرِ من بني آدم.

الجوهري: نَسَمُ الريحِ: أولُها حين يُقبلُ بلينٍ قبل أن يشتدَّ، ومنه الحديث:((بُعِثتُ في نَسَم الساعة)) أي: حينَ ابتدأت وأقبلَتْ أوائلها.

قوله: (نَفْيُ مسألة الأجر رأسًا)، قيل:((رأسًا)) حال، أي: في حال كون الأمر منفيًا منفردًا

ص: 579

شيئًا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئًا، ولكنه يريد به البت؛ لتعليقه الأخذ بما لم يكن. والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا)] الفرقان: 57 [، وفي قوله: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)] الشورى: 23 [؛ لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم، وكذلك المودّة في القرابة؛ لأنّ القرابة قد انتظمته وإياهم. (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): حفيظ مهيمن، يعلم أنى لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.

[(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)] 48 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بحيث لا يشذُّ منه شيء، فلذلك يقال: هو بمعنى مجموعًا، يقال: ما تركتُه أصلاً ورأسًا، أي: بالكُلّية، ويجوز أن يكونَ مصدرًا، أي: نَفْيًا كُلّيًا، كأنه قيل: تَنبَّهوا فاعلموا أني أي شيء أسألكم عليه من الأجر فذلك الشيء حقكم وملككم، وليس لي في ذلك من حق، وأنا مقرٌّ بذلك معترفٌ به فهو أبلغ من لو قيل: ما أسألكم عليه من أجر، وهو المراد من قوله:((يريد به البتَّ والقَطع)).

قوله: (لتعليقِه الأخْذَ بما لم يكُنْ)، يعني: عَلَّق الجزاءَ وهو الأخذُ بما لم يكُن وهو الإعطاءُ، وهو أبلغُ من مجردِ قولك: ما أعطيتَني شيئًا، لأنه تقريرٌ للخصمِ وإقرارٌ منه بأنّه ما أعطاك شيئًا، لأن له أن يقول: كيفَ آخُذُ ما لم أعْطِك، فَينبغي الإعطاء بانتفاءِ الأخذ على البت.

قوله: (والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله: {قُل لَّا أَسْئَلُكُمْ})، يعني: إن كان أجري هدايَتكم وسلوكَ طريقِ الحقِّ فأنا أطلبُ منكم ذلك، وقد علِمْتُم أنّ نَفْعَ ذلك لا يعود إلاّ إليكم، وكذلك معنى الآية: الذي أسألكم من أجر هو إيمانُكم وهدايتُكم وقد عرفتُم أن نفع ذلك ليس إليّ، يدل عليه قوله:{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فـ ((ما)) في قوله: {مَا سَأَلْتُكُم} على الأول: شرطية، وعلى هذا: موصولة.

قوله: (لأن القرابةَ قد انتظمته وإياهم)، يعني: أجري أن تَصِلوا الرحِمَ، وهذا المعنى غير مختص به، لأنه وإياهم سواء في هذا الحكم، لأن أقاربه أقاربهم ويرجعُ نفع ذلك إليهم.

ص: 580

القذف والرمي: تزجية السهم ونحوه بدفع واعتماد، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء، ومنه قوله تعالى:(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)] الأحزاب: 26 [، (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)] طه: 39 [. ومعنى (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ): يلقيه وينزله إلى أنبيائه. أو: يرمى به الباطل فيدمغه ويزهقه. (عَلَّامُ الْغُيُوبِ): رفع محمول على محل "إن" واسمها، أو على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تزجيةُ السَّهم ونحوِه)، قيل: التزجيةُ: دَفْعُ الشيءِ برفقٍ وهي غير مناسب للمقام؛ لأن فيه دفعَ الشيء بعنف. وفي ((مجمل اللغة)): التزجية: دَفعُ الشيء كما تُزْجي البقرة ولدَها وتسوقه، والريحُ تُزجي السحابَ تسوقُه سَوْقًا رَفيقا. وكذا في ((الصِّحاح)) و ((الأساس))، ولعلّ المصنِّف جعل التزجيةَ عامًّا ثم قيده بدفعٍ واعتماد.

قوله: (ويُستعارانِ من حقيقتِهما لمعنى الإلقاء)، ونحوُه في المجاز: استعمالُ المَرْسن -وهو موضوعٌ للأنفِ فيه رَسَن- في مُطلقِ الأنف.

قوله: (أو يَرْمي به الباطل فيدمَغُه ويُزهِقُه)، فعلى هذا: هو من الاستعارة المصرِّحةِ التحقيقية كما قال صاحب ((المفتاح)): أصلُ استعمالِ القَذْف والدمغِ في الأجسامِ، ثم استعير القذفُ لإيرادِ الحقِّ على الباطل، والدامغُ لإذهابِ الباطلِ، فالمستعارُ منه حسيٌّ، والمستعارُ له عَقْلي، وقولُه:{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} كما قَرّر تذييلٌ، لأنّ الآية الثانية مقررة للأولى، وعلى الأول تكميل، لأن الأولى إثباتٌ للحقِّ والثانية إزالةٌ للباطل، ويجوز أن يكون من باب الطرد والعكس.

قولُه: (محمولٌ على محلٍّ ((إنَّ)) واسمِها)، قال مكي: مَنْ رفعَ جعلَه نعتًا لـ ((ربّ)) على الموضع، أو على البدل منه، أو على البدل من المضمر في {يَقْذِفُ} ، ونصَبه عيسى بن عُمر نعتًا لـ ((ربٍّ)) على اللفظ أو على البدلِ. ويجوزُ الرفعُ على أنه خبرٌ بعد خبرٍ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ.

ص: 581

المستكن في (يقذف)، أو هو خبر مبتدأ محذوف. وقرئ: بالنصب صفة لـ (ربي)، أو على المدح. وقرئ:(الغيوب) بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت. والغيوب كالصيود، وهو الأمر الذي غاب وخفى جدا.

[(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)] 49 [

والحىّ إمّا أن يبدئ فعلًا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم:"لا يبدئ ولا يعيد" مثلًا في الهلاك. ومنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن بعضِهم: لا يقالُ: لا يجوزُ البدليةُ لأنه يُفسدُ التركيبَ إذا حُذِفَ المُبدَلُ منه، لأن البدليةَ لا تستلزمُ جوازَ حَذْفِ البدل مطلقًا كما ذكر في ((المفصّل)).

قوله: (وقُرئ: {اَلْغُيُوبِ} بالحركات الثلاث)، أبو بكرٍ وحمزة: بكسر الغَيْن حيثُ وقعَ، والباقونَ: بضَمِّها. قال الزجاج: الأجودُ الضمُّ.

قيل: ((الغِيوبُ)) بالكسر والضمِّ: جمع غَيْبٍ، كالبيوتِ جَمْعُ بَيْت، وبالفَتْح: مُفردٌ كالضُّروب للمبالغة.

قوله: (كالصّيود)، الجوهري: كَلْبٌ صَيود، وكلابٌ صِيدٌ وصُيُدٌ أيضًا.

قولُه: (((لا يبدئُ ولا يُعيد)) مثلاً في الهلاك)، قال بعضُهم: أي: هلَكَ، كما تقولُ: لا يأكلُ ولا يشربُ، أي: مات.

وقال الواحدي: ما يُبدئ الباطلُ وما يُعيد، أي: ذهبَ الباطل ذهابًا لم يَبْقَ منه إقبالٌ ولا إدبار ولا إعادة. يريدُ أنّ هذا الكلامَ عن معنى الهلاكِ كنايةٌ عنه من غير نظرٍ إلى مفرداتِه، وإليه الإشارةُ بقوله:((وجاءَ الحقّ وهَلك الباطل)).

ص: 582

قول عبيد:

أقفر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد

والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله تعالى:(جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ)] الإسراء: 81 [وعن ابن مسعود رضى الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود نبعة ويقول: " (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)] الإسراء: 81 [، (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) ". والحق: القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: السيف. وقيل: الباطل: إبليس، أى: ما ينشأ خلقًا ولا يعيده، المنشئ والباعث: هو الله تعالى. وعن الحسن: لا يبدئ لأهله خيرًا ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قولُ عَبيد)، وهو عَبيدُ بن الأبرصِ. أقْفَر: أي: خَلا من أهله وهلَك. وذلك أنّ المنذرَ بنَ ماءِ السماء كان مَلِكًا. وكان له يومٌ في السنة يذبَحُ فيه أوّلُ مَنْ يلقي، فاتّفق اليومَ إشرافُ عَبيدٍ فأمَر بقَتْله، فقيل له: امدَحْه، فقال: حالَ الجريضُ دونَ القَريض، فقال الملِك: أنشِدْنا قولك:

أقفَر مِن أهله مَلْحوبُ

فالقُطَّبيّاتُ فالذنوب

فقال:

أقفَرَ من أهله عَبيد

فاليومَ لا يُبدي ولا يُعيد

الجريضُ: الغُصَّةُ من الجَرْضِ وهو الريقُ يُغَصَّ به على هَمٍّ وحُزن، والقريضُ: الشِّعرُ، ومَلْحوبٌ: موضع، وكذلك القُطَّبيّاتُ والذَّنوب.

قوله: (وعن ابن مسعودٍ)، الحديث رواه البخاريُّ ومُسلمٌ والترمذي، وليس في آخره هذه الآية.

قوله: (أي ما ينشئ خلقا ولا يعيده)، الفاعلُ إبليسُ وما نافيةٌ والكلامُ مُجرًى على

ص: 583

يعيده، أي: لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: أىّ شيء ينشئ إبليس ويعيده، فجعله للاستفهام. وقيل للشيطان: الباطل؛ لأنه صاحب الباطل، أو لأنه هالك، كما قيل له: الشيطان، من شاط إذا هلك.

[(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)] 50 [

قرئ: (ضللت)(أضلّ) بفتح العين مع كسرها. و"ضللت""أضلّ"، بكسرها مع فتحها، وهما لغتان، نحو: ظللت أظلّ، وظللت أظلّ. وقرئ:(اضلّ) بكسر الهمزة مع فتح العين. فإن قلت: أين التقابل بين قوله: (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) وقوله: (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)؟ وإنما كان يستقيم أن يقال: فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فإنما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التصريحِ لا الكناية كما في الوجهِ السابق وقال الزجاج: ((ما)) في موضعِ نصبٍ على معنى: وأيُّ شيء يُبدئُ الباطلُ وأيُّ شيءٍ يُعيد، والأجودُ أن يكونَ نَفْيًا على معنى: ما يُبدئُ الباطلُ وما يُعيد، والباطل إبليسُ؛ أي لا يبعَثُ الخَلْقَ ولا يخلُق، والله عزَّ الخالقُ الباعث.

وقلت: الوجه هذا هو الأول لأنه تعالى لما قال: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي شأنه عز وجل أن يرمي بالحق الباطلَ فيُزْهِقَه قال صلوات الله عليه: ((ثم ماذا أقول؟ )) قال: قل جاءَ الحقّ أي: الإسلامُ أو القرآن فزَهقَ الباطلُ والشيطان.

قوله: (وقرئ: {ضَلَلْتُ} {أَضِلُّ} بفَتْح العين مع كسرها)، وهي المشهورة، و ((ضَلِلْتُ)) و ((أضَلُّ)) شاذّتان. في ((المطْلع)):((ضَلَلْتُ)) بفَتحِ اللام ((أضِلُّ)) بكسرِ الضادِ، و ((ضَلِلْتُ)) بكَسرِ اللام ((أضل)) بفَتْحِ الضاد، من باب: ضرب، وعلى نحو: ظَلِلْتُ أظَلَّ، وظَلَلْتُ أظَلّ، وإضَلّ: بكَسْر الهمزة مع فتحِ الضادِ، على لغةِ من يقول: إعلم.

ص: 584

أهتدى لها، كقوله تعالى:(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها)] فصلت: 46 [، (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)] الزمر: 41 [، أو يقال: فإنما أضل بنفسي؟ قلت: هما متقابلان من جهة المعنى؛ لأنّ النفس كل ما عليها فهو بها، أعنى: أن كل ما هو وبال عليها، وضار لها فهو بها وبسببها: لأن الأمّارة بالسوء، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عامّ لكل مكلف، وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو يقال: فإنما أضل بنفسي)، يريد: أن التقابل الحقيقي هو أن يقابل ((على)) باللام كقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] أو يُطابقَ بين البابَيْن ليكونَ المعنى: إن ضلَلْتُ فإنّما أضلُّ بسَببِ نفسي، فإن اهتَديتُ فإنّما أهتَدي بتَسديدِ الله بسَببِ وَحْيٍ يُنَزِّلُه عليّ.

وتلخيصُ الجوابِ: أن المقصودَ أن يكون الكلام جامعًا لهذين المعنيين مع سلوكِ طريق الاختصار. والمعنى: أن ما على النفس من الوبال هو بسببها، وأنَّ مالها من النفع هو بسبب الله، فدل لفظ ((على)) في القرينة الأولى على معنى اللام في الثانية، والباءُ في القرينة الثانية على معنى السببية في الأولى، فإذن التقدير: قل إن ضللت فإنما أضل بسبب نفسي، وإن اهتديت فإنما أهتدي لنفسي بعون الله وبتوفيقه، فقوله:((لأنّ النفسَ كلُّ ما عليها فهو بها)) تعليل لصحة تقدير الباء في القرينة الأولى، وقوله:((وما لها مما ينفعها فبهداية ربها)) تعليل لاستقامة تقدير ((لها)) في الثانية، انظر إلى هذا النظر الدقيق.

قوله: (وهذا حكم عام لكل مكلف)، وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأنه إذا دخل تحته كان غيره أولى. وقال الإمام: فيه إشارةٌ إلى أنّ ضلالَ نفسي كضلالِكم لأنه صادرٌ من نفسي ووبالُه على نفسي، وأما اهتدائي فليس كاهتدائِكم بالنظرِ والاستدلالِ، وإنما هو بالوَحْيِ المنير.

وقلت: هذا البيانُ يدلُّ على أنّ دَليل النقلِ أعلى وأفخَمُ من دليلِ العقل. وقال مُحيي

ص: 585

أن يسنده إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله، وسداد طريقته كان غيره أولى به. (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يدرك قول كل ضالّ ومهتد وفعله، لا يخفى عليه منهما شيء.

[(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)] 51 [

(وَلَوْ تَرى): جوابه محذوف، يعنى: لرأيت أمرًا عظيمًا وحالًا هائلة. و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي (فزعوا) و (أخذوا) و"حيل بينهم"؛ كلها للمضى. والمراد بها الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه. ووقت الفزع: وقت البعث وقيام الساعة. وقيل: وقت الموت. وقيل: يوم بدر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت في خسف البيداء، وذلك أنّ ثمانين ألفًا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم. (فَلا فَوْتَ): فلا يفوتون الله ولا يسبقونه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السنة: إن كفارَ قريش كانوا يقولون: إنك قد ضَللْتَ حين تركْتَ دينَ آبائك، فقال الله تعالى:{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي: إثْمُ ضَلالتي على نَفْسي، وإن اهتديت فبما يُوحى إلي من ربي من القرآن والحكمة.

قوله: (نزلت في خَسْفِ البَيْداء)، روينا في ((مسند أحمد بن حنبل)) عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي جيشٌ مِنْ قِبَلِ المشرقِ يريدونَ مكّة حتّى إذا كانوا بالبيداءِ خُسِفَ بهم)) فقلت: يا رسولَ الله، فكيف بمَنْ كان منهم مُسْتكرهًا؟ قال:((يُصيبهم كلّهم ذلك ثم يَبْعَث الله عز وجل كل امرئ على نيته)).

قيل: كان ذلك في أيام ابن الزبير. والبيداءُ: بَيْداءُ أهل المدينةِ، ونحوًا منه رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وليس فيه ذكر أيام ابن الزبير.

ص: 586

وقرئ: (فلا فوت). والأخذ من مكان قريب: من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأُخِذُوا)؟ قلت: فيه وجهان: العطف على (فزعوا)، أى: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم. أو على "لا فوت"، على معنى: إذا فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. وقرئ: (وأخذ)، وهو معطوف على محل (لا فوت)، ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخْذٌ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والأخذُ من كان قريب)، قيل: هذا مبتدأٌ، والخبرُ:((من الموقفِ))، أي: الأخذُ من مكانٍ قريب هو الأخذُ من الموقف منتهيًا بهم إلى النار.

قوله: (العطفُ على {فَزِعُوا})، أي: فَزعوا وأُخذوا فلا فَوْتَ لهم، أي: الفاءُ فيه معنى السببية، أي: حصَلَ فَزَعُهم وأخْذُنا إياهم فإذن فلا فَوْتَ لهم. لعلَّ هذا إشارةٌ إلى قول ابن جني أنه قال: ينبغي أن يكونَ {وَأُخِذُوا} في قراءةِ العامةِ معطوفًا على ما دلَّ عليه قوله: {فَلَا فَوْتَ} أي: أُحيطَ بهم ووأُخِذوا، ولا يصحُّ أن يكونَ معطوفًا على {فَزِعُوا} لأنّه لا يُرادُ: ولو تَرى وَقْتَ فَزَعِهم وأخْذِهم، وإنما المرادُ: ولو تَرى إذ فَزعوا، فلم يفوتوا وأُخِذوا، فعَطفَ على ما فيه الفاءُ السببيةُ فيكونُ حُكْمُه حكْمَه.

قوله: (وقُرئ: ((وأخْذٌ)) وهو معطوفٌ على محلِّ ((لا فوت)))، قال الزجاج: ويجوزُ: ((فلا فَوْتٌ))، ولا أعلم أحدًا قرأ بها، فإن لم تَثْبُتْ بها روايةٌ فلا تقرأَنَّ بها.

قال ابن جني: ((وأخْذٌ)) قراءةُ طَلْحة بن مُصَرِّف، وفيه وَجْهان: أحدُهما: أنه مرفوعٌ بفعْلٍ مُضْمَرٍ يدلُّ عليه: {فَلَا فَوْتَ} أي: وأحاطَ بهم أخْذٌ من مكان قريب، وذكَر القُرْبَ لأنه ألزمُ، وثانيهما: أنهُ مُبتدأٌ وخَبرُه محذُوف، أي: هُناك أخْذٌ وإحاطةٌ بهم.

ص: 587

[(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)] 52 - 54 [

(آمَنَّا بِهِ) بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لمرور ذكره في قوله: (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)] سبأ: 46 [. والتناوش والتناول أخوان؛ إلا أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب، يقال: ناشه ينوشه، وتناوشه القوم. ويقال: تناوشوا في الحرب، ناش بعضهم بعضا. وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولًا سهلًا لا تعب فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({آمَنَّا بِهِ،} بمحمدٍ صلوات الله عليه، لمرورِ ذكْرِه في قولهِ: {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ})، إشارةٌ إلى بيانِ النظم، وذلك أن كُلاًّ من الآياتِ المُصدَّرة بـ ((قل)) من قوله:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم} {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ} {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} {قُلْ إِن ضَلَلْتُ} فيه تذكير بليغ ووعظٌ شافٍ كافٍ، فلما ختمت بقوله:{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} - وفيه إيماءٌ إلى معنى المشاركةِ وأنَّ تلك النصيحةَ ما نفعَتْ فيهم- قيل له مسليًا والتفتَ إلى كُلِّ مَنْ يتأتّى منه النَّظَرُ مخاطبًا بقوله: {وَلَوْ تَرَى} لعِظم الأمرِ وفخامةِ الشأن، أي: ولو ترى أيها الناظرُ وَقْتَ فَزَعِهم وأخْذِهم فلا فَوْتَ لهم، ووقْتَ قولهم: آمنّا بمحمد، صلى الله عليه وسلم فلا ينفعهُم إيمانُهم حينئذٍ، لرأيْتَ خطبًا جليلاً وأمرًا هائلاً.

قوله: (مِن غَلْوة)، وهي مِقدارُ رمية.

المغرب: مِن مُستعارِ المجاز: الغَلْوةُ مقدارُ رمية. وعن الليثِ: الفَرْسَخُ التامٌّ: خمسٌ وعشرونَ غلْوةً، يقال: غَلا بسَهْمه غَلْوًا، أو غالي به غلاءً: إذا رمى به أبعدَ ما قَدَر عليه.

ص: 588

وقرئ: (التناؤش): همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر. وعن أبى عمرو: التناؤش بالهمز: التناول من بعد، من قولهم: نأشت: إذا أبطأت وتأخرت. ومنه البيت:

تمنّى نئيشا أن يكون أطاعنى

أى: أخيرا. (وَيَقْذِفُونَ) معطوف على "قد كفروا"، على حكاية الحال الماضية، يعنى: وكانوا يتكلمون (بِالْغَيْبِ) ويأتون به (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر ساحر كذاب. وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي؛ لأنهم لم يشاهدوا منه سحرًا ولا شعرًا ولا كذبًا، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله؛ لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور. وقرئ:(ويقذفون بالغيب)، على البناء للمفعول، أى: يأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه. وإن شئت فعلقه بقوله: (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم: آمنا في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقُرئَ: ((التناؤش)))، الحَرَمِيان وابنُ عامرٍ وحَفْص:{التَّنَاوُشُ} بضَمِّ الواوِ، والباقونَ: بهَمْزِها.

قوله: (تمني نئيشًا أن يكونَ أطاعني)، تمامُه في ((المُطلع)):

وقد حدثَتْ بعد الأمورِ أمورُ

يقول: إنَّ صاحبي تمنّي آخرَ الأمرِ أن يكونَ أطاعَني فيما نصحْتُه مِنْ قَبْلُ، والحالُ أنْ قد حدثَتْ أمورٌ بعد أمورٍ دلّتْ على رَشادي وصِدْقِ رأيي.

قوله: (وإن شِئْتَ)، عَطْفٌ على قوله:{وَيَقْذِفُونَ} معطوفٌ على (قد كفروا))) أي: يكونُ حالاً من ضمير ((قالوا))، أي: قالوا: آمنًا به، والحالُ أنَّهم يُرْمون مِن مكانٍ بعيد،

ص: 589

الآخرة، وذاك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئًا من مكاٍن بعيٍد لا مجال للظن في لحوقه؛ حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبًا عنه شاحطًا. والغيب: الشيء الغائب. ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله: (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وكانوا يقولون: (وما نحن بمعذبين)] سبأ: 35 [، إن كان الامر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب، ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا، قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا؛ فهذا كان قذفهم بالغيب، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة؛ لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف.

(ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة، أو من الردّ إلى الدنيا، كما حكى عنهم:(فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] السجدة: 12 [.

(بِأَشْياعِهِمْ): بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم. (مُرِيبٍ): إما من أرابه، إذا أوقعه في الريبة والتهمة. أو من أراب الرجل، إذا صار ذا ريبةٍ ودخل فيها، وكلاهما مجاز؛ إلا أنّ بينهما فريقًا وهو أنّ المريب من الأول منقول ممن يصح أن يكون مريبًا من الأعيان إلى المعنى، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول: شعر شاعر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويرومون ما حصولُه أبعد، وإليه الإشارة بقوله:((مثَّلَهُم في طلبِهم)) إلى قوله: ((بمَن يقذِفُ شيئًا مِن مكان بعيدٍ)) وهو اتسعارةٌ تمثيلية.

قوله: (ويجوزُ أن يكونَ الضمير)، عَطْفٌ على قوله:((آمنّا بمحمد صلى الله عليه وسلم)، يعني الضميرُ إما راجعٌ إلى عذابٍ شديدٍ في قوله تعالى:{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أو إلى صاحبكم.

قولهُ: (مُريبًا)، وذلك أنّ المُريبَ صِفةٌ للعاقلِ، لا يصحُّ وصْفُ الشكِّ به، فإمّا أن يُجْعلَ الشكّ كالإنسانِ على الاستعارةِ المكنية، ثم يُنْسَبَ إليه ما هو من خَواصِّ الإنسان

ص: 590

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبىّ إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً» .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بلازمه وهو الرَّيْبُ على سبيلِ الاستعارةِ التخييليةِ، وإليه الإشارةُ بقَوله:((إنّ المريبَ منقولٌ من الأعيانِ إلى المعنى)) أو أن يُسْتعارَ الإسنادُ من صاحبِ الشكِّ ليكونَ من الإسنادِ المجازيِّ.

تمتِ السورةُ بحَمْدِ الله وغُفرانه.

ص: 591

‌سورة الملائكة

مكية، خمس وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)] 1 [

(فاطِرِ السَّماواتِ): مبتدئها ومبتدعها. وعن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما كنت أدرى ما (فاطر السماوات والأرض)، حتى اختصم إلىّ أعرابيان في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الملائكة

مكية، خمس وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قولُه: (عن ابن عباس: ما كنت أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ})، ورواه الزجاج أيضًا، وقال الراغب: أصل الفَطْر: الشقُّ طولاً، يقال: فَطَر فلانٌ كذا فَطْرًا، وأفْطَرَ هو فطورًا، وانفطرَ انفطارًا، وقال تعالى:{هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3]، أي: من اختلالٍ ووَهْيٍ فيه، وفَطَرْتُ الشاة: حلبتُها بأصبعين وفطرْتُ العجينَ: إذا عجَنْتَه فخَبزْتَه من وقتِه، ومنه الفِطرة، وفَطْرُ الله الخلْقَ، وهو إيجادُه وإبداعُه على هيئةٍ مترشِّحةٍ لفعلٍ من الأفعال،

ص: 592

بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أى: ابتدأتها. وقرئ: (الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة). وقرئ: (جاعل الملائكة)، بالرفع على المدح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقولُه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، إشارة إلى ما أبدع وركزَ في الناسِ من معرفتِه، وهو المشارُ إليه بقوله:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، ويصحُّ أن يكونَ الانفطارُ في قوله:{السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]، إشارةً إلى قَبولِ ما أبْدعَها وأفاضَهُ عليها منه، والفِطْرُ: تَرْكُ الصوم، يقال: فَطرْتُه وأفطَرْتُه، وأفطَر هو.

وقال أبو البقاء: الإضافةُ مَحْضة، لأنه للماضي لا غَيْر، وأما {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ} فكذلك في أجْوَدِ المذهبَيْن، وأجازَ بعضُهم أن تكونَ غيرَ محضَةٍ على حكايةِ الحال، و {رُسُلاً} مفعولٌ ثان، و {أُوْلِي} بدَلٌ منه أو نَعْتٌ له، ويجوز أن يكون {جَاعِلِ} بمعنى: خالق، و {رُسُلاً} حالٌ مقدرة.

وقال غيرُه: {فَاطِرِ الْسَّمَوَاتِ} صفةٌ لله ومَعرفةٌ إذ لم يجر على الفعل، بل أريد به الاستمرار والثبات والدوام، كما يُقالُ: زيْدٌ مالكُ العبيدِ جاءَ، أي: زَيْد الذي مِنْ شأنِه أن يملكَ العبيد.

قولُه: (وقُرِئَ: ((الذي فطر)))، قال ابن جِنِّي: هي قراءةُ الضحّاك.

قولُه: (((جاعلُ الملائكة))، بالرفْعِ على المدح). قال ابن جنِّي: وهي قراءةُ الحسن، هذا على الثناءِ على الله وإبرازِه في الجملةِ بما فيها من الضميرِ أبلَغُ، وكلّما زادَ في الإسهاب كان أحرى، ألا ترى إلى قولِ خِرْنِق:

ص: 593

(رُسُلًا) بضم السين وسكونها. (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أصحاب أجنحة. وأولوا: اسم جمع لـ"ذو"، كما أن أولاء اسم جمع لـ"ذا"، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ): صفات لأجنحة، وإنما لم تنصرف؛ لتكرر العدل فيها؛ ذلك أنها عدلت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يَبعُدَنْ قَومي الذين هُمُ

سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ

النازلينَ بكُلِّ مُعْترَكٍ

والطيبينَ معاقِدَ الأُزْرِ

ويُروى: ((النازلونَ ....... والطيِّبون)) و ((النازلونَ ...... والطيِّبين)) وبالعكسِ، فكلما اختلفتِ الجُمَلُ كان الكلامُ أفانينَ وضروبًا فكانَ أبْلغَ منه إذا لزِمَ سرحًا واحدًا، فقولُك: أُثْني على الله الذي أعطانا فأغنى، أبلغُ، من قولك: أثْني على الله المُعْطينا والمُغْنينا، لأن معَك هُنا جملةً واحدةً وهناك ثلاثُ جُمَل، ويدلُّ على صحّةِ هذا المعنى قراءةُ خُلَيْد:((جعل الملائكة)) قال أبو عبيدة: إذا طال الكلام خرجوا فيه من الرفع إلى النَّصْب، ومن النصْبِ إلى الرفع، يريدُ ما نحنُ عليه لتختلفَ ضُروبُه وتتباينَ تراكيبُه.

قولُه: ({رُسُلاً} بضَمِّ السِّين)، وهي المشهورةُ، وسكونُها شاذّة. قال القاضي:{رُسُلاً} : وسائطَ بينَ الله وبينَ أوليائِه برسالاتهِ بالوحيِ والإلهامِ والرؤيا الصادقةِ أو بَيْنَه وبين خَلْقِه يُوصلونَ إليه آثار صنعه.

قولُه: (المخاضُ والخَلِفة)، الجوهري: المخاضُ: الحواملُ من النوقِ، واحدتُها خَلِفة، ولا واحدَ لها من لفظِها، وأما ((أولو)) فجَمْعٌ لا واحدَ له من لفظه، وواحده: ذو.

قولُه: (وإنما لم تَنْصَرِفْ لتكرُّرِ العَدْل فيها)، قال الزجاج: أحدُهما: أنه معدولٌ عن ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، والثاني: أنّ عَدْلَه وقعَ في حال النكرة، قال:

ص: 594

عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر، كما عدل "عمر" عن "عامر" و"حذام" عن "حاذمة"؛ وعن تكرير إلى غير تكرير؛ وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها بين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولكنّما أهلي بوادٍ أنيسُه

ذئابٌ تَبغّى الناسَ مثنى وموحدا

ورُويَ أن سيبويه زعم: أن عدمَ الصرفِ للعدلِ والصفةِ وغيرُه: أنّ عدمَ الصرفِ للعدولِ عن لفظةِ ثلاثة إلى مَثْلَث، وعن معنى ثلاثةٍ ثلاثةٍ إلى هذا، لأنك إذا قُلْت: جاءتِ الخيلُ مَثْلَثَ عنَيْتَ به ثلاثةً ثلاثة.

وقال صاحبُ ((الكشف)): معنى قولِهم: {مَّثْنَى} معدولٌ عن اثنَيْن اثنَيْن: أنك إذا أردْتَ بـ ((مَثْنى)): ما أردْتَ باثنَيْن اثنَيْن، والأصلُ أن تُريدَ بالكلمةِ معناها دون معنى كلمةٍ أُخرى، فالعَدْلُ ضدُّ الاستواءِ، لأنَّ الاستواءَ هو الذي ذكَرْنا، والعدْلُ أن تلفظَ كلمةً وأنت تريدُ كلمةً أُخرى، فلما كان كذلك كان العَدْلُ ثابتًا فإذا اجتمعَ مع الصفةِ وجبَ أن يَمْنعا الصرف.

قولُه: (و ((حَذامِ)) من ((حاذمة)))، عن بعضِهم: حاذمة في أسماءِ الأجناسِ القاطِعة، ثم نُقِلَ إلى العَلَمية، ثم نُقِلَ عن حاذمة إلى حذام.

قولُه: (وأما الوصفيةُ فلا تفْترقُ الحالُ فيها فلا يُعَرَّجُ عليها)، أي: لو كانت الوصفيةُ مؤثرةً في المنْعِ من الصرفِ لقُلْتَ: مررْتُ بنسوةٍ أربَعَ مفتوحًا، فلما صَرفْتَه عُلِمَ أنها ليسَتْ بمُؤثّرة أي: أَنّ الوصفيةَ ليست بأصل، لأن الواضعَ لم يضَعْها وصفًا بل عرَضَتْ لها، وذلك نَحْو: مرَرْتُ بجُبّةٍ ذِراعٍ ورجُلٍ أسَد، فالذراع والأسد ليسا بصفتين للجُبّة والرجل حقيقة.

قال صاحبُ ((الفرائد)): يفترقُ الحالُ فيها؛ فإنَّ مَثْنى وغيرَها يقعُ صفةً البتّة، والثلاثةُ

ص: 595

المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول: مررت بنسوة أربع، وبرجال ثلاثة، فلا يعرج عليها. والمعنى: أن الملائكة خلقًا أجنحتهم اثنان اثنان، أى: لكل واحد منهم جناحان، وخلقا أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة. (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ)، أى: يزيد في خلق الأجنحة، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته. والأصل الجناحان؛ لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل، وذلك أقوى للطيران، وأعون عليه، فإن قلت: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه، فما صورة الثلاثة؟ قلت: لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران؛ فقد مرّ في بعض الكتب أن صنفًا من الملائكة لهم ستة أجنحة؛ فجناحان يلفون بها أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ست مئة جناح. وروى: أنه سأل جبريل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وغيرُها وقوعُها صفةً بالتأويل، تقول: رجالٌ ثلاثة أي: مُقَدَّرةٌ بثلاثة، وكذا عن صاحبِ ((التقريب))، فإنه قال: لا يلزَمُ من عَدمِ اعتبارِ عدمِ الوصفيةِ في المعدولِ عنه لعروضِها فيه عَدَمُ اعتبارِها في المعدولِ مع أنه لم يقَعْ إلا وصفًا. ووجَدْتُ لبعضِ المَغاربةِ كلامًا يصلُحُ أن يكونَ جوابًا عنه وهو: أنّ ((ثُلاثَ ورُباع)) لا يخلو من أن يكون موضوعًا للصفةِ من غيرِ اعتبارِ الثلاثةِ أو لا يكون، فإن كانَ الأولَ لم يكُن فيه العدد، والمُقَدَّرُ خِلافُه، وإن كان الثاني كان الوصفُ عارضًا لثُلاثَ كما كان عارضًا لثلاثة فيُمكن أن يُقال: إنّ هذه الأعدادَ غيرُ مُنصرفةٍ للعدلِ المكرَّر كالجَمعِ وألغي التأنيث.

قولُه: (فلا يُعَرَّجُ عليها) مسَبَّبٌ عن قولُه: ((فلا تفترقُ الحال فيها)). النهاية: وفي الحديث: فلم أعرِّجْ عليه، أي: لم أُقِمْ ولم أحتَبسْ، أي: لا يُلتفَتُ إليها ولا تُعْتَبر.

قولُه: (أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج)، روينا عن البخاريِّ ومُسلمٍ والتِّرمذي

ص: 596

صلوات الله عليه أن يتراءى له في صورته، فقال: إنك لن تطيق ذلك. قال: «إنى أحب أن تفعل"، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته فغشى على رسول الله، ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال: "سبحان الله ما كنت أرى أن شيئًا من الخلق هكذا"، فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل، له اثنا عشر جناحا؛ جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع، وهو العصفور الصغير. وروى: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن ابن مسعود في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]، قال: رأى جبريل عليه السلام له ستُّ مئة جناح.

وعن الترمذي قال مسروقٌ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يَرَ جبريلَ عليه السلام في صورتهِ إلاّ مرّتَيْن: مَرّةً عندَ سِدرةِ المُنتهى، ومَرّةً في جِياد، له ستُّ مئة جناحٍ قد سَدَّ الأفق.

قولُه: (ليتضاءَل)، النهاية: وفي حديث إسرافيل: ((وإنه ليتضاءَلُ مِن خَشْيةِ الله))، أي: يتصاغَرُ تواضعًا له. وتضاءَل الشيء: إذا انقبضَ فانضَمَّ إلى بعض.

الضئيل: النَّحيفُ الرقيق.

قولُه: (حتى يعودَ مثْلَ الوَصَع)، النهاية:((إنّ العرْشَ على مَنْكِبِ إسرافيل، وإنّه ليتواضَعُ لله تعالى حتّى يَصيرَ مِثْلَ الوَصَعِ)) بفَتْح الصادِ المُهْمَلَةِ وسكونِها؛ طائرٌ أصغَرُ من العُصفور، والجَمْعُ: وُصْعان.

ص: 597

ما يَشاءُ): «هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن» وقيل: «الخط الحسن» ؛ وعن قتادة: الملاحة في العينين؛ والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق؛ من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأى، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.

[(ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 2 [

استعير الفتح للإطلاق والإرسال. ألا ترى إلى قوله: (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) مكان: لا فاتح له، يعنى: أى شيء يطلق الله من رحمة، أى: من نعمة؛ رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها، وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها. وأىّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. فإن قلت: لم أنث الضمير أوّلا، ثم ذكره، وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط؟ قلت: هما لغتان: الحمل على المعنى وعلى اللفظ، والمتكلم على الخيرة فيهما، فأنث على معنى الرحمة، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه؛ ولأنّ الأوّل فسر بالرحمة، فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير. وقرئ: (فلا مرسل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وحَصافةٍ في العقل)، النهاية: الحَصيف: المُحْكَمُ العقلِ، وإحصاف الأمر: إحكامُه.

قولُه: (وذَلاقةٍ في اللسان)، النهاية: ذَلَقُ كُلِّ شيء: حَدُّهُ. يقال: لِسانٌ ذَلْقٌ طَلْقٌ، أي: فَصيحٌ بَليغ.

قولُه: (ولَباقةٍ في التكلُّم)، الجوهري: اللَّبِقُ واللَّبيق: الرجلُ الحاذقُ الرفيقُ بما يعمَلُه، وقد لبِقَ -بالكسْرِ- لَباقة.

ص: 598

لها). فإن قلت: لا بد للثاني من تفسير، فما تفسيره؟ قلت: يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأوّل. ولكنه ترك لدلالته عليه، وأن يكون مطلقًا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته، وإنما فسر الأوّل دون الثاني؛ للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه. فإن قلت: فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة، وعزاه إلى ابن عباس رضى الله عنهما؟ قلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فما تَقولُ)، الفاءُ تدلّ على إنكارٍ على الكلامِ السابق، يعني: أنّك إنْ فَسَّرْتَ الرحمةَ بالنعمةِ من الرزقِ والصحةِ والأمنِ وما يتَّصلُ بها فهو صَحيح، لأنّ إمساكَها وإرسالَها مَبنيٌّ على مُراعاةِ الأصْلح، فما تقولُ فيمن فَسَّرها بالتوبة؛ لأنه يعودُ إلى خَلقِ الأفعال. وأنّ الله تعالى إذا فتحَ التوبةَ على أحدٍ فلا مُمْسِكَ لها، وما يُمْسِكُ منها فلا مُرْسِلَ لها، وهذا غيرُ صَحيحٍ لما يلزَم من ذلك انتفاصُ التكليفِ المَبْنيِّ على الاختيار.

فأجابَ بما يُوافقُ مَذَهبَه من التأويل البعيد.

والذي يَسْتدعيه النظمُ: العمومُ في كلِّ رحمةٍ مُختصَّةٍ بالإنسانِ، وذلك أنّه لما بيَّنَ كمالَ قُدرتهِ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ والملائكةِ وغيرِها أتْبعَه أنّه مُولي جميع النِّعمِ على الناسِ ظاهرةً وباطنة، دينيةً ودُنيوية، وكما فُصِّلَتْ تلكَ الآيةُ بقَوْله:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ليدُلَّ على عمومِ المقدورِ وفُصِّلَتْ هذه بقولِه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليدلَّ على شمولِ المعسورِ والمَيْسور، على أنَّ تخصيصَ ذِكْري العزيز والحكيم يُشْعِرانِ بما ذهبَ إليه حَبْرُ الأمة لقولِه:{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، لأنه لا يفتَحُ على مَنْ يفتَحُ عليه بالتوبةِ، ولا يُمْسِكُ على مَن يُمسِكُ عليهِ بالتوبةِ، إلا مَنْ ليسَ له فوْقَه أحدٌ يمنَعُه من ذلك، وإلاّ مَنْ عَلِمَ الحكمةَ فيما يفعلُه وإنْ خَفِيَتْ على غيرِه، فالأولُ دلَّ على أنّه الغالب الذي يفعَلُ ما يَشاء في مُلكِه فما يمنعه أحد، والثاني على أنه تعالى عالم بما خَفِيَ على كلِّ أحدٍ فلا يقفُ على أسرارِ حكْمتِه أحد.

فإن قُلت: فما تقولُ في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 30]، لأنه خَصَّ فيه النعمةَ الظاهرةَ دون الباطنة؟

ص: 599

إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها، وهو الذي أراده ابن عباس رضى الله عنهما -إن قاله- فمقبول؛ وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب؛ فمردود؛ لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبدًا، ولا يجوز عليه أن لا يشاءها. (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد إمساكه، كقوله تعالى:(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله)] الجاثية: 23 [، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله)] الجاثية: 6 [، أى: من بعد هدايته، وبعد آياته. (وَهُوَ الْعَزِيزُ): الغالب القادر على الإرسال والإمساك، (الْحَكِيمُ) الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه.

[(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)] 3 [

ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن به وبالقلب، وحفظها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: ليسَ التعريفُ في الناسِ الثاني كما في الأول، لأنّه للجنس، والثاني للعَهد، وأنَّ المرادَ بالناسِ قَوْمٌ بأعيانِهم وهم قريشٌ، كما قال ابنُ عباس: هم قريشٌ، كما ابنُ عباس: هم أهلُ مكةَ أنعمَ الله عليهم بالنعمةِ الظاهرةِ لتكونَ وسيلةً إلى تحصيلِ الباطنة، فكفَروا بالمُنعمِ وغَمَطوا تلك النعمةَ، فوبَّخَهم سبحانه وتعالى عليها بهذه الآية؛ يدلُّ عليه الترتُّبُ في قولِه:{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، ثم تعقُّبه بقَوْلِه:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} ، والله أعلم.

قولُه: (لأنَّ الله يشاءُ التوبةَ أبدًا، ولا يجوزُ عليه أن لا يشاءَها)، مَردودٌ باطلٌ لِما أجمع سَلَفُ الأمةِ وخَلَفُها على كلمةٍ لا يجحَدُها أهلُ الإسلام، وهي:((ما شاءَ الله كانَ ولما لم يَشا لم يكُن)) وقال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].

قولُه: (حِفْظُها)، عَطْفٌ على مُضْمَرٍ بعْدَ ((لكن))، أي: ولكن ذِكْرُها باللسانِ وبالقَلْبِ وحِفْظُها عن الكُفران. وقولُه: ((واعترافٍ بها))، عَطْفٌ على ((معرفةِ حَقِّها)) أي: وشُكْرُ

ص: 600

من الكفران والغمط، وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها. ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أيادىّ عندك، يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها. والخطاب عام للجميع؛ لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد: يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم؛ حيث أسكنكم حرمه، ومنعكم من جميع العالم، والناس يتخطفون من حولكم. وعنه: نعمة الله العافية وقرئ: (غير الله)؛ بالحركات الثلاث؛ فالجرّ والرفع على الوصف لفظًا ومحلًا، والنصب على الاستثناء. فإن قلت: ما محل (يَرْزُقُكُمْ)؟ قلت: يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لـ (خالق)، وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل (من خالق)، بإضمار (يرزقكم)، وأوقعت (يرزقكم) تفسيرًا له، أو جعلته كلامًا مبتدأ بعد قوله:(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النعمةِ بالقَلْب، بمَعْرفةِ المنعِم وباللسانِ بالاعترافِ بأنّها منه، وبالجوارحِ بالطاعةِ لمولاها أخذَهُ من قَوْلِ القائل:

أفادَتكم النعماءُ مني ثلاثة

يَدي ولِساني والضَّميرَ المُحَجَّبا

قولُه: (وقُرِئَ: {غَيْرُ اللهِ})، بالحركاتِ الثلاث: حَمْزةُ والكِسائيُّ: بالجرِّ، والباقونَ: بالرفع. والنّصْبُ: شاذّ. وعن بَعْضِهم: الخبرُ وَصْفُ الخالقِ لفظًا والرفْعُ نعْتٌ له مَحَلاً، لأنّ {خَالِقٍ} مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ، و ((من)) زائدة، تقديره: هل مِن خالقٍ غيرِ الله الله أو للأشياء. وقيل: {غَيْرُ اللهِ} يجوزُ أن يكونَ مرفوعًا على فاعلِ {خَالِقٍ} ، أي: هل يخلقُ غيرُ الله شيئًا؟

قولُه: (أو جعَلْتَه كلامًا مبتدأً، بعد قولِه: {مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ})، قيل: هذا الوجهُ ضَعيفٌ، لأنَّ مِثْلُ قولك: هل زيدٌ خرَج؟

ص: 601

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابنُ الحاجبِ في ((شرح المفصل)): هل زيدٌ خرَج؟ شاذّ، فهو على شُذوذِه مُقَدَّرٌ على ما ذكَره، وإنّما لم يحسُنْ عندَهم: هل زيدٌ خرج؟ وشِبْهُه إما لأنّ ((هل)) بمعنى ((قَدْ)) على ما يقولُه سِيبَويْه، فكانت بالفعل أولى، فإذا وقعَ بعدَها الاسمُ كان وقوعُه بعد ((قد)) ولا يسوغُ ذلك، فلا يسوغُ هذا، وإما لأنّ ((هل)) موضوعٌ للاستفهام مُقْتَضٍ للفعلِ في المعنى، فكان ذِكْرُ الفعلِ بعده لفظًا هو القياسَ، ولا يَرِدُ عليه: أزيدٌ خرَج؟ فإنَّ الهمزةَ تَصرفوا فيها ما لم يتَصرَّفوا فيها في ((هل)).

وقلت: شهدَ هذا القائلُ على نفسهِ أنه خارجٌ من زُمرةِ البُلغاء، ولله درُّ صاحب ((المفتاح)) حيثُ تَفرَّس لمثْل هذا وقال: ولكَوْنِ ((هل)) أدعي للفعلِ من الهمزةِ لا يحسُن: هَل زيدٌ منطلقٌ، إلاّ من البليغ.

ولما ثبتَ أنّ ((هل)) أدعي للفعلِ من الهمزةِ، فتَرْكُ الفعلِ معَه يكونُ أدْخَل في الإنباء لاستدعاء المقام عدم التجدد، يعني: في قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]، ونَحْوُه:{فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]، وقوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. وقَوْلُ تأبّط شَرّاً:

هل أنتَ باعثُ دينار لحاجتنا

وأما قولُ سِيبَويْه: ((هل)) بمَعْنى: ((قد))، فمَعْناه: أنّ ((هل)) مَتضمِّنةٌ لمعنى ((الهمزة)) و ((قد))، فإذا جُرِّدَتْ منها خَلُصَتْ لمعنى ((قد))؛ ألا ترى إلى قولِ المصنِّف في قوله تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ} [الإنسان: 1]: الأصل أهَل؟ والمعنى: ((أقَد أتى)) يدلُّ عليه أنك لا تُقدِّر الهمزةَ م. ع ((قَدْ)) في مثل {قَدْ أَفْلَحَ} ، كما تقدر في {هَلْ أَتَى} ، فإذَنْ يسوغُ في ((هل))

ص: 602

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الخالق لا يطلق على غير الله عز وجل؟ قلت: نعم، إن جعلت (يَرْزُقُكُمْ) كلامًا مبتدأ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأمّا على الوجهين الآخرين: وهما الوصف والتفسير. فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض، وخرج من الإطلاق، فكيف يستشهد به على اختصاصه، بالإطلاق؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما لا يسوغُ في ((قد))، فيقال: هلْ زيدًا ضربْتَ؟ ولا يقال: قَد زيدًا ضربْتُ. ونصَّ بخلافهِ ابنُ الحاجب أيضًا في قِسْم الحروف.

قولُه: (فكيفَ يُستشهَدُ به على اختصاصِه بالإطلاق)، أي: كيف يُستشهَدُ به على اختصاصِ الله بإطلاقِه عليه وقد تَقيّد بقَيْدِ ((يرزقُكم)) فإن المعنى على وجهَيْن: ليس خالقٌ سوى الله صفتُه أنّه يرزقُكم، فيُفْهمُ أن هناك خالقًا سوى الله ليسَ برازق. وأمّا على الابتداءِ فمعناه: ليسَ خالقٌ سوى الله موجودًا.

فاتّجه لسائلٍ أن يقول: لِمَ لَمْ يكُنْ غيرُه خالقًا؟ فقيل: لأنّه يرزقُكم من السماءِ والأرض؛ لأن الخالقَ يَنْبغي أن يكونَ رازقًا، فإنَّ صفةَ الرزاقيّةِ كالتتميمِ للخالقية. هذا هو الوجهُ الفصيحُ القويُّ وعليه مذهبُ أهل الحقّ.

الانتصاف: القَدريُّ يقول: نعم، [ثَمَّ] خالقٌ غَيْرُ لله. وكلُّ أحدٍ عندَهم يخلُقُ، ولهذا وَسَّعَ الدائرة وأتى بالأوجهِ النافرة، والذي يُحقِّقُ الوجْهَ الثالثَ المانعَ من إطلاقِ الخالقِ على غيرِ الله: أنَّ المُخاطبينَ مُشركون إذا سُئلوا: مَنْ خَلقَ السماواتِ والأرض؟ قالوا: الله، وإذا سُئلوا: من يرزُقُ منهما؟ قالوا: الله، فقُرِّروا بإقامةِ الحُجّةِ عليهِم بإقرارِهم، ولو كانَ كما قالَ الزَّمخشريُّ لكانَ مفهومُه إثباتَ خالقٍ غيرِ الله، لكن لا يرزق، وهؤلاءِ الكَفَرةُ قد تَبرّءوا منه فلا لتقريعهم بما لا يلائِمُ قوْلَهم، وأيضًا فإنّ {يَرْزَقُكَم} و {لَا إلَهَ إِلاَّ هُوَ} جَمْلتانِ سيقتا مَساقًا واحدًا والثانية مفصولةٌ اتفاقًا فكَذا الأُولى.

وقلت: قد أحسنَ وأجادَ حيثُ نظرَ إلى النَّظْم.

ص: 603

والرزق من السماء: المطر، ومن الأرض: النبات. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مفصولة لا محل لها، مثل:(يرزقكم) في الوجه الثالث، ولو وصلتها كما وصلت (يرزقكم) لم يساعد عليه المعنى؛ لأنّ قولك: هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق، غير مستقيم؛ لأن قولك: هل من خالق سوى الله؟ إثبات لله. فلو ذهبت تقول ذلك كنت مناقضًا بالنفي بعد الإثبات. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): فمن أى وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (والرزقُ من السماءِ المطر)، قيل: إن جُعِلَ الرزقُ مصدرًا فالمضافُ من الخبرِ محذوفٌ أي: إنزالُ المطرِ وإنباتُ وإن جَعلْتَه اسمًا بمعنى المرزوقِ فلا حاجةَ إلى التقدير.

قولُه: (فلو ذهَبْتَ تقولُ ذلك لكُنْتَ مناقِضًا)، وذلكَ أنّ الصفةَ هاهنُا مُميِّزة، والاستفهامُ مؤكِّدٌ للأنكار، وفيه معنى النفي، لأنّ الكلامَ مع المُعانِدين، ولذلك زيدَ ((مِنْ)) الاستغراقية، فإذا أنكَرْتَ أن يكونَ خالقًا غيْر الله، يلزَمُ منه إثباتُ ذاتهِ عز وجل، وهو المرادُ من قولهِ:((هل مِنْ خالقٍ سوى الله؟ إثباتٌ الله)) ثمَّ إذا رجَعْتَ ومَيَّزْتَه مرّةً أُخرى بقولك: ((لا إله إلا ذلك الخالقُ)) لزِمَ نَفْيُ ما أثبتَّه أولاً، وهو المرادُ بقولِه:((لكُنْتَ مناقِضًا بالنفيِ بعدَ الإثبات)).

قال صاحبُ ((التقريب)): في لزومِ التناقضِ نَظَر، إذ التقدير: لا خالقَ مُنْفَرِدًا بالإلهية إلاّ الله على الاستثناء أو مغايرًا لله على الوصف، ولا تناقُضَ فيه. نعم، لو فصّلْتَ مع عَوْدِ الضميرِ إلى الخالق المغاير لزم، أما معَ الوصل فلا.

قلت: ويُمكنُ أن يقال: إنَّ قولَك للمشرك: هل مِنْ خالقٍ سوى الله، إثباتٌ لله بِوَصْفِ المُغايَرة؛ لأنَّ المُغايَرةِ إثباتُ المُتغايرَيْن، فيلزَمُ منه إثباتُ الله، ثم إذا قُلْت:((لا إله إلا ذلك الخالقُ)) يلزَمُ منه نَفْيُ الله، أما إذا الإثباتُ ناشئًا من الإنكارِ الواردِ على الموضوفِ والصفةِ معًا لزِمَ ما ذَكرَه صاحبُ ((التقريب)).

ص: 604

[(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ)] 4 [

نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله، وتكذيبهم بها، وسلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له في الأنبياء قبله أسوةً، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد؛ من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذب والمكذب بما يستحقانه. وقرئ:(ترجع) بضم التاء وفتحها. فإن قلت: ما وجه صحة جزاء الشرط ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط، وهذا سابق له؟ قلت: معناه: وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع:(فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) موضع: فتأس؛ استغناًء بالسبب عن المسبب، أعنى بالتكذيب عن التأسى. فإن قلت: ما معنى التنكير في (رسل)؟ قلت: معناه: فقد كذبت رسل، أى: رسل ذوو عدد كثير. وأولو آيات ونذر، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم، وما أشبه ذلك، وهذا أسلى له، وأحث على المصابرة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [5 - 7]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحقُّ أنّ المانعَ من ذلك التقديرِ النظْمُ المُعْجِز، وحاكمُه الذوقُ السليم، ولأنَّ السؤالَ بقولِه:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} سؤالُ تبكيتٍ واردٌ على قولِه: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، وقولُه:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : تقريرٌ للتوحيدِ بعْدَ تقريرِ إقرارِهم بنَفيْ الغير، ولذلك رَتَّبَ عليه بالفاءِ قوله:{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: إذا كنتم تُقرّون أن لا خالقَ سوى الله يرزقُكم فلا يكونُ سواه معبودًا، لأنّ المعبودَ ينبغي أن يكون خالقًا رازقًا فكيف تُصرفونَ عنه وتكفرون نِعمتَه وتعبدونَ غيره.

قولُه: (ومن حقِّ الجزاءِ أن يتعقَّبَ الشرط)، والآيةُ مثل: إن أكرمْتَني الآن فقد أكرمتُك أمس. وخُلاصةُ الجواب: أنَّ الجزاءَ مبنيٌّ على الإخبارِ والتنبيهِ على التأسِّي والتسلِّي، كما أن المثالَ فيه تنبيهٌ على معنى الاعتقاد.

ص: 605

وعد الله: الجراء بالثواب والعقاب. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ) فلا تخدعنكم (الدُّنْيا) ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله. (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ): لا يقولن لكم: اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة. والغرور: الشيطان؛ لأن ذلك ديدنه. وقرئ بالضم وهو مصدر غره، كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ، كقاعد وقعود. أخبرنا عز وجل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لا يقولَنَّ لكم: اعمَلوا ما شئتم، فإنّ الله غَفورٌ يغفرُ كلَّ كبيرة، ويعفو عن كلِّ خطيئة)، الانتصاف: يُعرِّضُ باعتقادِ أهلِ السنّةِ، وهذا لا يناقضُ مُعتقَدهم، فإنَّ الله وعَدَ العفْوَ على الكبائرِ، وقرنَ الوعيدَ بالمشيئةِ في حقِّ الموحِّدين، في مثْلِ قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].

قولُه: (والغَرور: الشيطانُ؛ لأنّ ذلك دَيْدَنُه)، الراغب: غررْتُ فُلانًا: أصَبْتُ غِرَّتَه ونِلْتُ منه ما أريده، فالغِرّةُ غَفْلَة في يَقظة، والغِرارُ مع غفوة. وأصلُ ذلك من الغُرِّ وهو الأثرُ الظاهرُ من الشيءِ، ومنه: غُرّةُ الفَرس، وغِرارُ السيفِ: حَدُّه، وغَرُّ الثوبِ: أثَرُ كَسْره، وقيل: اطْوِه على غَرِّه. وغَرَّه كذا غرورًا كأنّما طواهُ على غَرِّهِ، قال تعالى:{مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، فالغَرورُ: كلّ ما يَغُرُّ الإنسانَ من مالٍ وجاهٍ وشَهْوةٍ وشيطان، وقد فُسِّرَ بالشيطانِ إذْ هو أخبَثُ الغارِّين، والغَرر: الخَطَر من الغَرّ، وباعتبارِ غُرّةِ الفَرسِ وشُهرتِه قيل: فُلانٌ أغَرٌّ؛ إذا كان مشهورًا كريمًا، ويُقال: الغُرَرُ لثلاثِ ليالٍ من أوّلِ الشهرِ لكون ذلك منه كالغرة.

قولُه: (وقُرِئَ بالضمِّ وهو مَصْدر)، وعن بعضِهم: الغُرور بالضمّ: الأباطيل، وفُعولٌ في الأفعالِ المتعدية قليل، منه: لزِمَه لُزومًا، ونَهَكَه المرضُ نُهوكًا.

ص: 606

أن الشيطان لنا عدوّ مبين، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم صلوات الله عليه، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، فوعظنا عز وجل بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) في عقائدكم وأفعالكم. ولا يوجدن منكم ما يدل إلا على معاداته ومناصبته في سركم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال المصنِّف: كلُّ مَغْرورٍ غُرورُه مصلحةٌ له في تَرْكِ غُروره، وأنتُم لفَرْطِ اغترارِكم غُرورُكم مفسدةٌ لكم داعيةٌ إلى الغرور، أو المرادُ أهلُ الغرورِ، أو ذو الغرور.

قولُه: (وكيف انتدبَ لعداوةِ جنسِنا قبل وجوده)، أي: قبلَ وجودِ جنسِنا، وهي عداوتُه لآدمَ عليه السلام، وبعدَ وجودِ الجنسِ، وهو توريطُ بني آدمَ في كلِّ ضلالٍ وخِزْيٍ ونكال، فكما قال في ((مريم)): وهو عدوُّكَ وعدوُّ أبيكَ وأبناءِ جنسِك.

الأساس: نُدِبَ لكذا وإلى كذا فانتدَبَ له، وتكلَّمَ فانتدَبَ له فُلانٌ إذا عارضَه، ورجُلٌ نَدْبٌ؛ إذا نُدِبَ لأمرٍ خَفَّ له، وأراكَ نَدْبًا في الحوائج، وندَبه لأمر كذا فانتدبَ له، أي: دعاهُ له فأجاب.

قولُه: (وأنتم تعامِلونه) أي: نَزَّلَ العالِمَ منزلةَ الجاهلِ، وذلك بأنْ خاطبَ الناسَ بقولِه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} مع أنهم لا يشكُّون فيه، وأدخَل على الجملةِ حرْفَ التحقيقِ مع أنَّهم مُقِرُّون بذلك ولا يُنكرونه؛ لعَدمِ جَرْيِهم على مُوجِبِ العلم، وتَماديهم في اتباعِ خُطُواتِ الشيطان.

قولُه: (ولا يوجَدَنَّ منكم ما يدلُّ إلا على مُعاداتِه)، إشارة إلى أن قولَه تعالى:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ} نَهْيٌ للشيطانِ، وفي الحقيقةِ نَهْيٌ للإنسان بأنْ يكونَ على وَصْفٍ يتمكَّنُ الشيطانُ منه على الغُرور، نَحْو: لا أرينَّك هاهنا.

قولُه: (ومناصبتِه)، يقال: نصَبَ لفلانٍ نَصَبًا: إذا عادَيْتَه، وناصَبْتَه الحرْبَ مُناصبة.

ص: 607

وجهركم. ثم لخص سر أمره، وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته؛ هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك، وأن يكونوا من أصحاب السعير. ثم كشف الغطاء، وقشر اللحاء؛ ليقطع الأطماع الفارغة، والأمانى الكاذبة، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما.

[(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)] 8 [

لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا؛ قال لنبيه: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَناً)، يعنى: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وقشرَ اللِّحاءَ)، قال المَيْداني:((قشَرْتُ له العَصا))؛ أظهَرْتُ له ما كان في نَفْسي ويقال: اقشِرْ له العَصا، أي: كاشِفْه وأظهِرْ له العداوة.

قولُه: (لما ذكرَ الفريقَيْن كَفروا والذين آمنوا قال لنَبيِّه: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا} يعني: أفَمَنْ زُيِّن له سوءُ عَمَلِه من هذَيْن الفريقَيْن كَمَنْ لم يُزيَّنْ له)، جعَلَ الاثنَيْن من بابِ اللفِّ والنَّشر.

وقلت: الأحسَنُ أن تُجعلَ الآياتُ من الجمْعِ والتقسيمِ والتفريق، فقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} جَمع الفريقَيْن معًا في حكمِ نِداءِ الناس وجمَعَ مالهما من الثوابِ والعقاب في حُكْمِ الوعدِ وحَذَّرهما معًا عن الغرورِ بالدنيا والشيطان، وأما التقسيمُ فهو قوله:{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لأنه بَيَّنَ فيه أحوالَ الفريقَيْن ومالهُما وعليها من الثوابِ والعِقاب.

وأما التفريقُ فقولُه: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} لأنه فَرَّق فيه، وبَيَّنَ التفاوتَ بين الفريقَيْن كما قال:(({أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} من هَذَيْن الفريقَيْن كمَنْ لم يُزَيَّنْ له))، فظهرَ مِن هذا البيان أنّ ((الفاء)) في ((أفمَنْ)) للتعقيبِ والهمزةُ الداخلةُ بين المعطوفِ والمعطوفِ

ص: 608

فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا، فقال:(فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ). ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدى عليه المصالح، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه لإنكارِ المساواةِ وتقريرِ البَوْنِ العظيمِ بين الفريقَيْن، وأن المختارَ من الوجوهِ المذكورة في ((المفتاح)): تقديرُ ((كمن هَداهُ الله))، فحَذفَ لدلالة:{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} . قال مُحيي السُّنّة: في الآية حَذْفٌ مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرأى الباطلَ حقًّا كمَنْ هَداه الله فرأى الحقَّ حقًّا والباطلَ باطلاً، فإنّ الله يُضِلُّ مَنْ يشاءُ ويَهْدي من يشاء.

وقال أيضًا: معنى الآيةِ: فلا تغتَمَّ بكُفرهِم وهلاكِهم، وهو المرادُ من قولِ المصنِّف: وإذا خذلَ الله المُصمِّمين على الكفرِ وخَلاّهم وشأنَهم، فإنّ على الرسولِ أن لا يهتمَّ بأمرهم. وفيه التسلِّي والتخلِّي من الاهتمامِ بشأنِ المدعوِّ فلا يدخلُ فيه العاصي من أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم، فلا وَجْه لقوله:((وهو أن يكونَ العاصي على صفةٍ لا تجدي عليه المصالحُ)) إلى آخره، لأن معناه: يكون العاصي على وجهٍ لا ينتفعُ من رعايةِ المصالحِ التي أوجبَها الله على نفسِه بوجهٍ من الوجوه. فقولُه: ((لا تُجدي)) إلى آخرِه صفةٌ لصفةٍ، والعائدُ محذوفٌ، أي: معها.

قولُه: (فكأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لا)، واعلَمْ أنّ الفاءَ في قولِه:{أَفَمَن زُيِّنَ} رابطةٌ للجملةِ التاليةِ بالسابقة، وقد وُسِّطَتْ همزةُ الإنكارِ بينهما، و ((مَنْ)) موصولة، والفاء {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} جَزائية، ولا يستقيمُ أن تكونَ خبرًا لها، لأنّ الإنكارَ دافعه، فيجبُ أن تُقدَّرَ خبرًا لها، وشرطًا للجزاءِ. والمُنْكَرُ ما كان يرتكبُه صلواتُ الله عليه من الحرْصِ على الإيمانِ القومِ وتهالُكهِ في أن يسلكَ الضَّالين في زمرةِ المهتَدِين فقيلَ له على سبيلِ الإنكار: أفمَنْ زُيِّن له سوءُ عَملِه من هذَيْن الفريقَيْن كمَن لم يُزَيَّن له، فلا بُدَّ مِنْ أن يُقِرَّ بالنفيِ ويقول: لا، فحينئذٍ يقالُ له: فإذا كان كذلك {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، فقَدَّم وأخَّر، وما أوضَحَه مِن دليلٍ على مذهَبِ أهلِ السنة.

ص: 609

وتخليته وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال، ويطلق آمر النهى، ويعتنق طاعة الهوى، حتى يرى القبح حسنًا والحسن قبيحًا، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه، ويقعد تحت قول أبى نواس:

اسقني حتّى تراني

حسنا عندي القبيح

وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم؛ فإنّ على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقى بالًا إلى ذكرهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم؛ اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم. وذكر الزجاج: أنّ المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب؛ لدلالة (فلا تذهب نفسك) عليه.

أو: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لدلالة (فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) عليه. (حسرات): مفعول له، يعنى: فلا تهلك نفسك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (سُلِبَ تَمْييزَه)، ((تمييزَه)) نَصْبٌ على أنه تَمْييز، وإن كانَ معرفةً، كقولِه تعالى:{إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].

قولُه: (ويَقعدُ تحتَ قولِ أبي نُواس)، الأساس: إنّ حَسَبَكَ لَمُقعِدُك عن بُلوغِ الشرفِ، وما يُقْعِدُه وما اقتعَدَه إلا لُؤْمُ عَنْصُرِه، وقبله:

غَرَّدَ الديكُ الصَّبوحُ

فاسقِني طابَ الصَّبوحُ

قَهْوةً تُذْكِرُ نَوحًا

حين شادَ الفُلْكَ نوحُ

نَحْنُ نُخْفيها فتأتي

طيبُ ريحٍ فتَفوحُ

اسقِني حتى تَراني

حَسنًا عندي القَبيحُ

قيل: ((حسنًا)) مفعولٌ ثانٍ لـ ((تَراني))، و ((القبيحُ)) فاعلُ ((حسنًا))، يقولُ للساقي: اسقِني حتى يكونَ القبيحُ عندي حَسَنًا.

ص: 610

للحسرات. و (عليهم) صلة (تذهب)، كما تقول: هلك عليه حبًا، ومات عليه حزنًا. أو هو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بـ (حسرات)؛ لأنّ المصدر لا يتقدم عليه صلته، ويجوز أن يكون حالًا، كأن كلها صارت حسراٍت لفرط التحسر، كما قال جرير:

مشق الهواجر لحمهنّ مع السرى

حتّي ذهبن كلاكلا وصدورا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وذكرَ الزجّاج)، والمذكورُ في ((كتابه)): الجوابُ هاهُنا على ضربَيْن: أحدُهما يدلُّ عليه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، ويكونُ المعنى: أفمَنْ زُيِّنَ له سوءُ عملِه كمَنْ هداه الله، ويكونُ دليلُه:{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} .

وقلت: فيه تنبيهٌ على أنّ كلَّ واحدٍ من الجُمَلِ المدخولِ عليها الفاء لا يصحُّ أن يكونَ جوابًا لمانِع معنى الإنكارِ في الهمزة.

قولُه: (هلكَ عليه حُبًّا وماتَ عليه حُزنًا)، قال صاحب ((الفرائد)): التقدير: لا تذهَبْ نفسُك واقعةً عليهم حَسرات؛ لأن المُحِبَّ يَنْحني إلى المحبوب إذا أشرفَ على الهلاك وإذا بالغَ في الميل إليه وقعَ عليه.

قولُه: (أو هو بيانٌ للمُتحسَّرِ عليه)، فإنّه لما قيلَ له صلواتُ الله عليه:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فقال: على مَنْ؟ فقيل: عليهم، على أنّ {عَلَيْهِمْ} مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ بناءً على أنّ ((حَسَراتٍ)) لا يعمَلُ فيما قبلَه لكونِها مصدرًا، ويجوزُ أن يُضَمَّنَ ((تذهَب)) معنى:((تحسَّر)) بوساطةِ ((على))، وأنّ الأصل: فلا تتحَسَّرْ عليهم ذهابًا بنفسك، أي: هالِكًا. وأما قولُه: كما تقولُ: هلكَ عليه حُبًّا، فمِن بابِ المجازِ لا التضمين.

قولُه: (مَشَقَ الهواجرُ) البيت، المَشْقُ: السرعةُ في الطعنِ والضربِ والكاتبة. أي: بَرى لحومَهُنَّ السيرُ في الهواجرِ والسُّرى في الليالي حتى رجَعْنَ ولم يَبْقَ منهن إلا كلا كلُها وصدورُها.

ص: 611

يريد: رجعن كلاكلًا وصدورًا، أى: لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قوله:

فعلى إثرهم تساقط نفسي

حسرات وذكرهم لي سقام

وقرئ: (فلا تذهب نفسك). (إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ): وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

(وَالله الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)] 9 [

وقرئ: (أرسل الريح). فإن قلت: لم جاء (فَتُثِير) على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فعلى إثْرِهم) البيت، ((إثرِهم)): أي: عَقِبِهم، ((تَساقطُ))؛ أي: تتساقَطُ، و ((حَسَراتٍ)) حالٌ من ((نَفْسي)). يقول: إن الأحبةَ رحَلوا ونَفسي تتساقَطُ حَسَراتٍ في عَقِبِهمْ، وذكْرُهم سَقامٌ لي بعْدَهم.

قولُه: (وقُرئ: ((أرسلَ الريحَ)))، حمزةُ والكِسائيُّ وابن كثير.

قولُه: (وهكذا يفعلون)، يريد: أنَّ كلَّ فعلٍ ماضٍ إذا أريدَ به نوعُ خصوصية بحال -إمّا أن تكونَ مُستغربةً أو مهتمًّا بشأنِها أو غيرَ ذلك- يُعدلُ منه إلى المضارعِ ليؤذِنَ بأنّ هناك نُكتةً سَرِيّة؛ إما الاستغرابُ كما تنبئُ عنه هذه الآيةُ وقَوْلُ تأبَّط شرًّا لما استحضرَ منهما الحالةَ العجيبةَ الشأنِ في ذهنِ السامع وجُعِلتا مشاهدتَيْن لنظرِه، وإما الاهتمامُ كما في قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12]، لاقتضاءِ ((لو)) معنى المُضيٍّ؛

ص: 612

وخصوصية، بحال تستغرب، أوتهمّ المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا:

بأنىّ قد لقيت الغول تهوى

بسهب كالصّحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرّت

صريعا لليدين وللجران

لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها مشاهدةً؛ للتعجيب من جرأته على كل هول وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة، قيل: فسقنا، وأحيينا؛ معدولًا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه. والكاف في (كَذلِكَ) في محلّ الرفع، أى: مثل إحياء الموات نشور الأموات. روي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أُنْزِلَ أمرُ القيامةِ منزلةَ الماضي المقطوعِ به؛ لاهتمامِ وقوعِه، وإما غيرُ ذلك كقوله تعالى:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]، جُعِلَتْ طاعتُه طاعتُه صلواتُ الله عليه مستمرةَ الامتناعِ على سبيلِ التجدُّدِ ليفيدَ استمرارَ امتناعِ عَنَتِهم ساعةً فساعة.

قولُه: (بأنِّي قد لقيتُ الغولَ)، البيتين، قبله:

فمن يُنكرْ وجودَ الغولِ إني

أُخَبِّرُ عن يَقينٍ بل عِيانِ

تهوي، أي: تهبطُ، بسَهْبٍ: بفَلاةٍ واسعة، والصَّحْصحان: المكانُ المستوي من الفلاة.

والجِرانُ: مُقدَّمُ عُنُقِ البَعيرِ من مَذَبَحِه إلى مَنْحَرِه والجمع: الجرن، فكذلك من الفرس.

ولليدَيْن أي: على اليدَيْن، إنّما عدلَ من ((على)) إلى اللام؛ ليفيدَ أنه جعلَ اليدَ والجِرانَ للصرع، واختصَّ بهما؛ لأنّ اللامَ للاختصاصِ، كما قال في قوله تعالى:{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 107]: وجعل ذَقْنَه ووَجْهَة للخُرورِ واختَصَّه.

قولُه: (مَشاهَدةً؛ للتَّعجيب)، ((مشاهدة)): صيغةُ مفعولٍ حالٌ من الحالة.

ص: 613

أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «هل مررت بوادي أهلك محلًا ثم مررت به يهتزّ خضرًا» . فقالوا: نعم. فقال: «فكذلك يحيى الله الموتى وتلك آيته في خلقه» . وقيل: يحيى الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمنى الرجال، تنبت منه أجساد الخلق.

[(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)] 10 [

كان الكافرون يتعززون بالأصنام، كما قال عز وجل:(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)] مريم: 81 [، والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)] النساء: 139 [، فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه. وقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)] المنافقون: 8 [،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أنه قيلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يُحيي الله الموتى؟ )، الحديث مذكورٌ في ((جامع الأصول))، رواه رَزينٌ العَبْدريُّ عن أبي رَزينٍ العُقيليِّ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تغييرٍ يسير.

قولُه: (كمَنيِّ الرجال)، في حديث مسلمٍ عن عروةَ بن مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:((يُنزلُ اللهُ مطرًا كأنه الطلُّ، فتنبتُ أجسادُ الناس)) الحديث.

قولُه: (كان الكافرون يتعزَّزون بالأصنام)، إلى قوله:(والذينَ آمنوا بألسنتِهم كانوا يَتعزَّزون بالمشكرين)، وإلى قولِه:(فبَيَّن أن لا عزة إلا لله ولأوليائه)، وهلم جَرًّا إلى آخره. فيه

ص: 614

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشعار بأن الخطاب بقوله: {كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} مع المخالفين، والتعريف في ((العزةِ)) الأولى: للجنسِ، وفي الثانية: للاستغراق، بشهادةِ قوله:{جَمِيعًا} ، وأنّ تقديمَ الخبرِ على المبتدأِ في قوله:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} لاختصاصِ العزّةِ بالله أصالةً ورسولِه تَبَعًا باقتضاءِ المقام، ولهذا قال:((أن لا عِزّةَ إلا لله ولأوليائِه))، وأنَّ قوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} كالبيانِ لطريقِ تَحصيلِ العزّةِ وسلوكِ السبيلِ إلى نَيْلِها.

واعلَمْ أنَّ في انتظام قَوْلِه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} بما قبله نظرًا دقيقًا يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّل.

نقلَ مُحيي السُّنة في ((تفسيره)) عن أبي العالية: أنها في الذين مكَروا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في دارِ الندوةِ، كما قال:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].

وروى عن مُجاهدٍ وشَهْرِ بن حَوْشَب: هم أصحابُ الرِّبا.

ومختارُ المصنِّفِ القولُ الأولُ.

فحينئذٍ قولُه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية كالاستطراد والتقرير لمضمون الأولى على طريقِ الاستشهادِ والتمثيل، وفي إخراجِ الكلامِ مخرجَ الشرطِ نوعُ توبيخ وتنبيهٌ للمخاطَبين على خطأِ رأيِهم وفسادِ طريقتِهم وتَضْليلهم فيما هم فيه من طلبِ العزّةِ من غيرِ موضعِها ومكانِها، كأنه قيل: أيها الضالّون تنبَّهوا على خطئِكم وتيقَّنوا أنْ ليسَ الوصولُ إلى المطلوبِ ما أنتُم عليه من رَوْمِ العزّةِ من عندِ غيرِ الله، لأنّ العزةَ كلَّها ملكُ الله ومُختصّةٌ به وبأوليائِه، وطريقُ الوصولِ إليها الإيمانُ والعملُ الصالحُ، واعلَموا أنَّ مَنْ أعزَّهُ الله فلا مُذِلَّ له ومَنْ أذلَّه مُعزَّ له.

ألا تروْنَ إلى قريشٍ حين بَذَلوا جُهَيْداهُم في إطفاءِ نورِ الله وإذلالِ مَنْ أعزَّه الله ورفَعَ مِنْ قَدْرِه، ومكَروا تلك المنكراتِ السيئاتِ من الإثباتِ والقتلِ والإخراجِ، وأبى الله إلا أن

ص: 615

والمعنى فليطلبها عند الله، فوضع قوله:(فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) موضعه؛ استغناء به عنه لدلالته عليه؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، تريد:

فليطلبها عندهم، إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه. ومعنى:(فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً): أنّ العزة كلها مختصة بالله: عزة الدنيا وعزة الآخرة. ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، والكلم الطيب: لا إله إلا الله. عن ابن عباس: يعنى أنّ هذه الكلم لا تقبل ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة، كما قال عز وجل:(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)] المطففين: 18 [، إلا إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها. وقيل: الرافع الكلم، والمرفوع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يُتمَّ نورَه، كيفَ قلبَ الأمرَ عليهم حيث أخرجَهم من مكّةَ وأبادَهم بالقتلِ في بدرٍ وأثبتَهم في قَليبِه {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} .

وعلى أن يُرادَ بهم أصحابُ الرِّبا فالجملةُ عطفٌ على جملةِ الشرطِ والجزاء، فيجبُ حينئذٍ مراعاةُ التطابُقِ بين القرينتَيْن والتقابلِ بين الفريقَيْن بحَسبِ الإمكانِ بأن يُقَدَّرَ في كلٍّ منهما ما يحصُلُ به التقابُل بدلالةِ المذكورِ في الأولى على المتروكِ في الأخرى وبالعكس، و {يَمْكُرُونَ} على القولَيْن يجري على غيرِ حقيقتِه، فعلى الأول: حكايةٌ للحالِ الماضيةِ لتصويرِها في مشاهدةِ السامع، وعلى الثاني: مرادٌ منه الاستمرار والدوام.

قولُه: (والمعنى: فليطلبها عند الله)، فوضعَ قوله:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} موضعَه، يعني: وضعَ السببَ موضعَ المسبَّب؛ لأنَّ الطلبَ مُسبَّبٌ عن حصولها عند الله تعالى، وفي العدول -أي: ترْكِ السببِ- إلى المسبَّبِ إيذانٌ بأن المقصودَ الأَولى هو: العزّة، والطلبُ هو: الوسيلة، كما في قوله تعالى:{أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ} [الأعراف: 160].

قولُه: (العملُ الصالحُ الذي يُحقِّقها ويُصدِّقُها)، قال صاحبُ ((الكشف)): المختار أن يرفعَ العملُ الصالحُ الكَلِمَ، دون أن تكون الهاء المنصوبة تعود إلى العمل، لأنه لو كان عائدًا إليه لكانَ ((العملُ الصالحُ)) بالنصبِ على مقتضى قول سيبويه؛ لأنه قال: إذا قُلْتَ: قامَ زيدٌ

ص: 616

العمل؛ لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد. وقيل: الرافع الله، والمرفوع العمل. وقيل: الكلم الطيب: كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هو قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن، فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه» . وفي الحديث: «لا يقبل الله قولًا إلا بعمل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعَمْرٌو يَضْرِبُه، كان الاختيارُ في ((عَمْرٍو)) النصب، لأنّ المصدرَ فِعلٌ وفاعل، وإنما أنَّثَ المصنِّف ضميرَ المتكلم، وفي التنزيل: مذكر؛ لوصفِه بالطيِّب؛ لأنه اعتبرَ الكَثْرة في الجنس.

قال شارحُ ((الإيضاح)) لأبي عليّ: الكَلِمُ: جْمَع كَلمةٍ، وهو من أسماءِ الأجناس، وإنما يُطلقُ عليه اسمُ الجمعِ مجازًا، وهي: كتَمْرٍ وتَمرةٍ، وغيرِها من الصيغ التي بَيْن جَمْعِها وواحدِها ((الهاء)).

ثم إنه لو كان جمعًا لم يخلُ إما أن يكون: جَمْعَ صحةٍ، وليس به، بكونِه بالواوِ والنون والألفِ والتاء، أو جَمْعَ تكسيرٍ، وليسَ به أيضًا، لأن مِن شأنِه أن ينكسرَ فيه الواحد، والكَلِمُ لم يتغير نَظْمُه عما عليه في واحدِه، وهو كلمة، فوضَحَ من ذلك أنه ليسَ بجَمْع، فإذا لم يكن جمعًا وهو يفيدُ الكَثْرة علِمْنا إنّ إفادة الكثرةِ من حيث إنه جنس.

قولُه: (فحَيّا بها وجْهَ الرحمن)، استعارةٌ من استقبالِ المُحيّا وهو الوجْه، ومنه: التحياتُ لله.

النهاية: وفي الحديث: ((إنَّ الملائكةَ قالت لآدمَ: حيّاك الله)) معناه: أبقاكَ من الحياةِ، وقيل: هو من استقبالِ المَحَيّا -وهو الوجْه- من التحية والسلام.

ص: 617

ولا يقبل قولًا ولا عملًا إلا بنيةٍ، ولا يقبل قولًا وعملًا ونيةً إلا بإصابة السنة». وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وقرئ:(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) على البناء للمفعول. و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) على تسمية الفاعل، من: أصعد. والمصعد: هو الرجل، أى: يصعد إلى الله عز وجل الكلم الطيب، وإليه يصعد الكلام الطيب. وقرئ:(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عز وعلا. فإن قلت: مكر: فعل غير متعدّ، لا يقال: مكر فلان عمله، فبم نصب (السَّيِّئاتِ)؟ قلت: هذه صفة للمصدر، أو لما في حكمه، كقوله:(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)] فاطر: 43 [، أصله والذين مكروا المكرات السيئات، أو أصناف المكر السيئات، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ولا يقبلُ قولاً وعملاً إلا بنية)، يُمكنُ أن يكونَ تعريضًا بأهلِ الرياء. قيلَ: إنّ قولَه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} فيهم.

نقلَ الإمامُ في ((تفسيره)) عن الأستاذِ أبي عليٍّ الدّقاق رحمه الله أنه قال: علامةُ أنّ الحقّ -عزَّ اسمُه- رفعَ عمَلَك: أن لا يبقى عندَك، فإن بقِيَ عملُك في نظرِك فهو مدفوع، وإن لم يبق معك فهو مرفوع.

قولُه: (إلا بإصابة السنة)، وفيه مَسْحةٌ من معنى قوله تعالى:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، والإصابةُ هنا بمعنى المناولةِ ومتابعتها.

النهاية: ((يُصيبون ما أصابَ الناسُ))، أي: ينالون ما ناولوا. ومنه الحديث: ((يُصيبُ من بعضِ نسائِه وَهو صائم)) أراد التقبيل.

قولُه: (وقُرِئَ: ((إليه يُصعَد)))، كلّ هذه القراءات شواذّ، سوى {يَصْعَدُ} بفَتْحِ الياء.

ص: 618

في دار الندوة وتداوروا الرأى في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إما إثباته، أو قتله، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)] الأنفال: 30 [. (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) يعنى: ومكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور، أى: يكسد ويفسد، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعًا، وحقق فيهم قوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ)] الأنفال: 30 [، وقوله: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)] فاطر: 43 [.

[وَالله خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ)] 11 [

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (في دار الندوة)، هي الدار التي بناها قُصَيٌّ بمكّةَ كانوا يجتمعون فيها للمُشاورة، يقال: ندَوْتُ القومَ، أي: جمعْتُم.

قولُهك (إما إثباتُه)، المغرب: أثبتَ الجَريح: أوْهَنه حتى لا يقدِرَ على الحِراك، ومنه قولُ محمد: أثبته الأول وذفف عليه الثاني، وفي التنزيل:{لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30]، ليجرحوك جراحة لا تقوم معها.

قولُه: (يبورُ، أي: يكسد)، الأساس: فلانٌ له نوره وعليك بروُه، أي: هلاكُه. ومن المجاز: بارَتِ البِياعاتُ؛ كسَدَت، وبارتِ الأرضُ؛ إذا لم تُزْرَعْ، وأرضٌ بَوار.

وقال الراغب: البَوار: فَرْطُ الكَساد، ولمّا كان فرطُ الكسادِ يؤدِّي إلى الفسادِ، كما قيل: كَسدَ حتى فَسد، عَبَّر بالبوارِ عن الهَلاك، قال تعالى:{تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} .

وقلت: {لَّن تَبُورَ} على هذا ترشيحٌ لاستعارةِ التجارةِ بمزاولةِ الطاعة، وعلى ما في ((الأساس)) يقربُ أن يكونَ تجريدًا لها.

ص: 619

(أَزْواجاً) أصنافًا، أو ذكرانًا وإناثًا، كقوله:(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً)] الشورى: 50 [، وعن قتادة: زوج بعضهم بعضًا. (بِعِلْمِهِ) في موضع الحال، أى: إلا معلومة له. فإن قلت: ما معنى قوله: (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ)؟ قلت: معناه: وما يعمر من أحد. وإنما سماه معمرًا بما هو صائر إليه. فإن قلت: الإنسان إما معمر، أى: طويل العمر، أو منقوص العمر، أى: قصيره. فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال، فكيف صح قوله:(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ)؟ قلت: هذا من الكلام المتسامح فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين، واتكالًا على تسديدهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (إلا معلومة)، أي: هو حالٌ من {أُنثَى} فاعل {تَحْمِلُ} و {تَضَعُ} ، و ((مِنْ)) زائدة، لأنّ ((ما)) نافية.

فإن قلت: سياقُ الكلام يقتضي أن يكونَ حالاً من المحمولِ والموضوعِ لأنهما مفعولانِ مُقدَّرانِ، والكلام فيهما لا في الأنثى، لقوله:{خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} و {جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} .

قلت: لا يخلو المُقدَّرُ أن يكونَ منويًا أوْ لا، فإن كان الثاني فلا يقَعُ عنه الحالُ، وإن كانَ الأول فإثباتُ العلْمِ على المحمولِ والموضوعِ بإثباتِ العلم بالحاملِ والواضعِ لأجْلِها أبلَغُ من إثباتِه لهما ابتداءً، كما سبق في قوله تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]، والذي يَقتضيه مقامُ الخطابِ بقولهِ:{خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} وقوله: {جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} هذا الثاني كما سَيجيء.

قولُه: (هذا من الكَلام المُتسامَح فيه، ثقةً في تأويلهِ بأفهامِ السامعين) وعن بعضِهم: مثالُه قولُ القائل: له عليَّ درهمٌ ونِصْفُه، فإنّ الضميرَ يعودُ إلى درهمٍ آخر. وفي ((المطلع)): قال الفرّاء: يريد آخرَ غيرَ الأولِ فكَنى عنه كأنه الأولُ، لأنّ لفْظَ الثاني لو ظهر كان كالأول، وجازَ لأمنِ الإلباسٍ، كأنه قيل: لا يطولُ عُمُر أحدٍ ولا ينقُصُ من عُمرِ أحدٍ، وهذا كما يقال: ما تنعَّمُتُ بلدًا ولا اجتَويتُه، أي: اجتويْتُ بلدًا آخر.

ص: 620

معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض؛ يقولون: لا يثيب الله عبدًا، ولا يعاقبه إلا بحق. وما تنعمت بلدًا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائى. وفيه تأويل آخر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: النَّعْمة بالفَتْح: التنعّم، يقال: نَعّمه الله فتنَعَّم، ويقال: أتيتُ أرضَ فلان فتنَعَّمَتْني: إذا وافَقته، واجتويتُ المقام: إذا كرِهْتَ المُقامَ فيه.

قولُه: (لا يُثيب الله)، إلى آخره، فيه اعتزالٌ خَفِيٌّ وذلك أن مذهبَهم: أن استحقاقَ العقابِ بالكبيرةِ يحبطُ استحقاقَ الثوابِ بالطاعة، فعلى هذا لا يجتمعُ الثوابُ والعقابُ في شخص واحد، وأما عندَ أهلِ السّنةِ فلا يبعُدُ ذلك، لأن أهلَ النارِ من العاصِين لا يُخلَّدون فيها.

وقال القاضي: المعنى: ما يُمَدُّ من عُمرٍ يُصَيِّرهُ إلى الكِبَرِ ولا يُنْقِصُ من عمرِ المنقوصِ عُمُرُه بجَعْلِه ناقصًا، والضميرُ له وإن لم يُذكر لدلالةِ مقابلِه عليه. وهذا قريبٌ من الوجهِ الأول في المعنى.

قولهُ: (وفيه تأويلٌ آخَرُ)، إلى آخره. وقلت: القولُ الجامعُ فيه يظهَرُ من بيانِ النظمِ والعلمُ عند الله؛ وذلكَ أنه عز وجل ذكرَ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ سائرَ أحوالِ الإنسانِ وتَقلُّبَه في أطوارٍ مختلفةٍ مما هو أصولُها ويُعرفُ منه توابعُها ولواحقُها على مراتبَ ثلاثٍ كما هو عليه في الوجود، وسُلِكَ فيه فنٌّ غريبٌ وأسلوبٌ عجيب، حيثُ أُخْرِجَ في جُملٍ ثلاثٍ على طريقٍ يُنبئُ عن صفاتِ جَلالِه وحُسنِ تدبيرِه مِنَ القُدرةِ الكاملةِ والعلم الشاملِ وثبوتِ القضاءِ والقدرِ بحَسب تلك المراتب، فبدأَ أوّلاً بقوله:{وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} إظهارًا لتصرُّفهِ فيه تلك الأطوار، وثَنّى بقولِه:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} بيانًا للطْفِ علْمِه ونفوذِه فيما هو مِن أدقِّ أحوالِ الإنسانِ من عُلْقَةِ النطفةِ حينَ المباشرةِ واستقرارها في مكانة الرحِم، ثم ما تكابدُ الأنثى من ثِقَلِ الحمْلِ ومُقاساةِ شِدَّتِه وما يَجري عليها عند الوضع من وجع المَخاض، وما تلَطَّفَ عليها من الخلاصِ من

ص: 621

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تلك الورطةِ المُهلكة، وثَلَّث بقوله:{وَمَا يُعَمَّرُ} على إرادةِ وما يُعَمَّرُ منكم أيُّها الإنسان مَنْ يُعَمَّرُ {لَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} إثباتًا لقضائهِ وقَدَرِه وأنَّ ما هو من خويصّةِ الإنسانِ الذي هو أعظمُ مطالبِه ليس إليه بل إلى الله وإلى قضائه، وأنه مُثبتٌ عنده لا يزيدُ ولا ينقصُ عما هو عليه {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

فعُلِمَ من قولِنا خُوَيْصّةِ الإنسانِ أنَّ ((مُعمَّرًا)) محمولٌ على الجنس، أي: ما مِنْ شأنِه أن يُعَمَّرَ وأن يُنْقَصَ من عُمرِه وإليه يُنظر قولُ أبي الطيب:

ومَقانبٍ بمَقانبٍ غادَرْتها

أقواتُ وحشٍ كُنَّ من أقواتها

فإنّ الوحشَ منها جنسٌ شائعٌ في مأكولِ اللحم وغيرِه شَرْعاً؛ ليصحَّ أن يكونَ قوتًا للإنسانِ، والإنسانُ له أحرى وإلا لَزِمَ أن يكونَ الأكلُ عَيْنَ المأكول، ولأنّ عوْدَ الضميرِ من ((كُنَّ)) إلى الوحشِ يوجبُ أن يكونَ جِنسًا.

وإما بمعنى الزيادةِ في العمرِ بالصدقةِ وصلَةِ الرحِمِ على ما وردَ عليه الألفاظُ النبوية فَبيانٌ وإعلامٌ لما قُدِّرَ في الكتابِ من مَدِّ العَمرِ ونُقصانِه وما يتَّصلُ بهما من الأسبابِ المُثبتةِ فيه وينصرُه ما رَوَيْنا عن التِّرمذي عن أبي خِزامةَ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ رُقي نَسْترقي بها، ودواءً نَتداوى بها، وتقاةً نتَّقيها هل تَردُّ مِن قَدَرِ الله شيئا؟ قال:((هو مِنْ قَدَر الله)).

وأما معنى قولِ كعب: فهو أنَّ عمرَ رضي الله عنه لو دَعا الله ووافَقه القَدرُ لأُخِّرَ في أجَلِه لأنه كان رفيعَ القَدْرِ مُستجابَ الدعوة. ونَحْوُه ما رَوى البخاريُّ ومُسلم وأبو داودَ والنَّسائي عن أنس بن مالك: أنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّتَه كَسَرتْ ثَنِيّةَ جاريةٍ فطلبوا إليها العَفْوَ فأَبوْا، فعَرضوا الأَرْشَ، فأَتوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبَوْا إلا القِصاص، فأمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقِصاص، فقال أنسُ ابنُ النَّضْر: يا رسولَ الله أتُكْسَرُ ثَنِيّةُ الرُّبَيِّعِ؟ ! لا والذي بعثَك بالحقِّ لا تُكْسَرُ

ص: 622

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثَنِيُّتُها. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أنسُ، أليسَ كتابَ الله القِصاصُ؟ فرضِيَ القوم فعفَوْا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِنْ عبادِ الله مَنْ لو أقسَمَ على الله لأبرَّه))، هذه روايةُ البخاريِّ، وروى مسلمٌ قريبًا منه.

وأما قولُه: فقد قال: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} في جواب من قال: أليس قد قال الله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، فتفسيرُه ما روى مُحيي السُّنة في ((المعالم)) بعد هذا المذكورِ في ((الكشاف)): فقيل له: إنّ الله يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فقال: هذا إذا حضرَ الأجلُ، فأمّا ما قبلَ ذلك فيجوزُ أن يُزادَ ويُنقَصَ، وقرأ:{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .

وروى الشيخُ مُحيي الدِّين في ((شرح صحيح مسلم)) عن بعضِ العُلماءِ أنه قال: قد تقرَّرَ بالدلائلِ القاطعةِ أنّ الله تعالى عالمٌ بالآجالِ والأرزاقِ وغيرِها، وحقيقةُ العلم: معرفةُ المعلومِ على ما هو به، فإذا علِمَ الله تعالى أنَّ زيدًا يموتُ سنةَ خمس مئةٍ استحالَ أن يموتَ قبْلَها أَو بعْدَها، فاستحالَ أنّ الآجالَ التي عليها عِلْمُ الله أن تزيدَ أو تنقصُ، فتعيَّن تأويلُ الزيادةِ أنّها بالنسبةِ إلى ملَكِ الموتِ أو غيرِه ممّن وكِّلَ بقَبْضِ الأرواحِ وأمرَهُ بآجالٍ محدودة، فإنه تعالى بعد أن يأمُرَه بذلك أو يثبتَ في اللوح المحفوظ ينقصُ منه أو يزيدُ على ما سبقَ به علمُه في كلِّ شيء، وهو معنى قوله:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وعلى ما ذكرناه يُحملُ قولُه:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2].

وقال الراغب: القضاءُ من الله أخصُّ من القدر؛ لأنّه الفَصْلَ بين التقدير، والقدر هو التقدير، والقضاء هو التفصيلُ والقطع، وقد ذكر بعضُ العلماءِ أنَّ القَدَر بمَنزلة المُعَدِّ للكَيْل، والقضاء بمنزلة الكيل، ولهذا قال أبو عُبيدةَ لعُمر رضي الله عنهما لما أرادَ الفِرار من الطاعون بالشام: أتفِرُّ من القضاء؟ قال: أفِرُّ مِن قَضاءِ الله إلى قَدَرِ الله، تنبيهًا على أنّ القَدَر

ص: 623

وهو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر. وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية، وهو الستون. وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:«إن الصدقة والصلة تعمران الديار، وتزيدان في الأعمار» وعن كعب: أنه قال حين طعن عمر رضى الله عنه: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله، فقيل لكعب: أليس قد قال الله: (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَاخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)] يونس: 49 [؟ قال: فقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما لم يكن قَضاءً فمرجُوٌّ أن يدفَعَه الله فإذا قُضِيَ فلا مَدْفَع له ويشهَدُ لذلك قوله عز وجل: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21، ] وقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71]، تنبيهًا على أنه صار بحيثُ لا يُمكنُ تَلافيه.

وقلت: ذكر صاحبُ ((التاريخ الكامل)): أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه قَدِم الشامَ، فلما كان بسَرْغٍ لقيَه أُمراءُ الأجنادِ فيهم أبو عبيدة بن الجرّاح، فأخبروه بالوَباءِ وشِدّتِه، وكان معه المهاجرون والأنصار فاستشارهُم فاختلفوا عليه، فنادى عمرُ في الناس: إني مُصْبِحٌ على ظَهْرٍ، فقال أبو عُبيدة: أفرارًا من قدرِ الله تعالى؟ فقال عمر: لو غيرُك قالَها يا أبا عُبيدة! نَعم نفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، أرأيْتَ لو كان لك إبِلٌ فهَبَطْتَ واديًا له عُدْوتان: إحداهما: خِصْبة، والأُخرى: جَدْبة، أليسَ إن رعَيْتَها الخِصْبَة رعَيْتها بقَدرِ الله، وإن رعَيْتَ الجَدْبَة رعَيْتَها بقَدرِ الله تعالى، فسمِعَ بهم عبدُ الرحمن بن عوف فأخبرَه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:((إذا سمِعْتُم بهذا الوباءِ ببلدٍ فلا تخرُجوا فرارًا منهُ)) فانصرفَ عُمر بالناسِ إلى المدينة.

والروايةُ الأخيرةُ أخرجَها البخاريّ ومسلم في ((صحيحَيْهِما))، والأولى مختصرةٌ من ((صحيحِ البخاريِ)) عن ابن عباس.

ص: 624

قال الله: (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ). وقد استفاض على الألسنة: أطال الله بقاءك، وفسخ في مدتك، وما أشبهه. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: يكتب في الصحيفة: عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتى على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. والكتاب: اللوح. عن ابن عباس رضى الله عنهما: ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله، أو صحيفة الإنسان. وقرئ:(ولا ينقص) على تسمية الفاعل. (من عمره) بالتخفيف.

[(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)] 12 [

ضرب البحرين -العذب والملح- مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه:(وَمِنْ كُلٍّ)، أى: ومن كل واحد منهما (تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا): وهو السمك، (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً):

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (العَذْبَ والمِلْح)، الراغب: المِلْح: الماءُ الذي تغيَّرَ طَعْمُه التغيُّرَ المَعْروف وتَجمَّدَ، ويُقالُ له: ملح إذا تغيَّرَ طعْمُه وإن لم يتجمّد، فيقال: ماءٌ مِلْحٌ، وقلّما تقولُ العربُ: ماءٌ مالحٌ، قال تعالى:{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ، وملّحْتُ القدْرَ: ألقيْتُ فيها المِلْحَ، ثم استُعيرَ من لفظِ الملْحِ المَلاحة، فقيل: رجُلٌ مَليحٌ وذلك راجعٌ إلى حسنٍ يغمضُ إدراكه.

قولُه: (على سبيلِ الاستطرادِ)، عن بعضِهم: وذلك لأنّه لما ضربَ البَحْرَ الملْحَ مثلاً للكافرِ وكان لا يناسبُ وَصْفَه بما يشعرُ بمَدْحِه؛ لأنه في معرضِ الذمِّ، استعذرَ بأنّه على سبيلِ الاستطرادِ، مثالُه: أن يذهبَ الرجلُ إلى موضعٍ مخصوصٍ صائدًا، فيعرضُ له صيدٌ آخر، فاشتغلَ به، فأعرضَ عن الصيدِ الأولِ، وفيه بحث.

ص: 625

وهي اللؤلؤ والمرجان. (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ): في كل (مَواخِرَ): شواق للماء بجريها، يقال: مخرت السفينة الماء. ويقال للسحاب: بنات مخر، لأنها تمخر الهواء. والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر؛ لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره. (مِنْ فَضْلِهِ): من فضل الله، ولم يجر له ذكر في الآية، ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل؛ لدلالة المعنى عليه. وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل، كأنما قيل: لتبتغوا، ولتشكروا. والفرات: الذي يكسر العطش. والسائغ: المريء السهل الانحدار لعذوبته. وقرئ: (سيغ) بوزن سيد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (بناتُ مَخْرٍ)، عن بعضِهم: بناتُ مَخْرٍ: سحائبُ رِقاقٌ بيضٌ ينشأن في أيامِ الربيع، ويقال: بناتُ بَحْرٍ، بالباءِ والحاءِ المهملة؛ لأن معناه السقّ، يقال: شَقّه، أي: قَشَره، والسَّفْن: الذي اشتُقَّت منه السفينة.

الجوهري: السَّفن: ما يُنْحَتُ به الشيء، قال:

وأنتَ في كَفِّك المِبْراةُ والسَّفَن

أي: أنتَ نَجّار.

وفي ((الأساس)): بَرى العودَ بالسَّفَن، وهو مِبراةُ السِّهام، ومنه السفينة؛ لأنها تسفِنُ الماءَ كما تَمْخُرُه.

قولُه: (وحرفُ الرجاءِ مستعار لمعنى الإرادة)، أو هو تمثيلٌ، شَبَّه معاملتَه مع المكلَّفين فيما منحَهم من الاختبارِ الظاهرِ وابتلائِهم بالبلوى بصورةِ مَنْ يرجو ويأمُل، وإنما خولفَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، أي:{لِنَبْتَغُوا} و {لَعَلَّكُمْ} ، ليؤذِنَ بأنّ المرادَ بالشكر:

العبادةُ والتقوى، كقوله تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وليس كذلك ابتغاءُ الفضلِ، فناسبَ أن يُجاءَ في كُلٍّ بما يُناسبه.

قولُه: (والفُراتُ: الذي يكسِرُ العطش)، الراغب: الفراتُ: الماءُ العَذْب. يقالُ للواحدِ

ص: 626

و (سيغ) بالتخفيف؛ و (ملح): على فعل. والأجاج: الذي يحرق بملوحته. ويحتمل غير طريقة الاستطراد: وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والجمعِ. والأُجاجُ: شديدُ الملوحة والحَرارةِ، مِن قولهم: أجيج النار وأَجَّتها، وقد أجَّت، وائتجّ النهار، ويأجوجُ ومأجوجُ منه شُبِّهوا بالنارِ المضطرمةِ والمياهِ المتوّجة؛ لكثرة اضطرابِهم، وأجّ الظَّليم: إذا عدا أجيجًا تشبيهًا بأجيجِ النار.

قولُه: (ويحتملُ غيرَ طريقة الاستطراد)، وفي اتصال {وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ} بما قَبْلَه وجوه:

أحدُهما: أن يكونَ مُستطرَدًا وذلك إذا لم يُنظر إلى التمثيلِ أي: المُمثَّل والمُمثَّلِ به بل إلى نفس المُمثَّلِ به فلما قيل: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} أوردَ قوله: {وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} في الذكرِ من غيرِ قَصْد، ولما كان له نوعُ تعلَّقٍ بأصلِ الكلام أي: ما عُطِفَ عليه وهو الممثَّلُ به بالواو.

وثانيها: أن يكونَ ترشيحًا للاستعارةِ، لأنه تفريعٌ على المستعار منه بعد الفراغِ من الاستعارة، ومُصَحِّحُه خَلْقُ النفع في المُشَبَّه دون المُشَبَّه به، وموقعُه موقعُ التتميم صيانةً لحقِّ البحرِ لأنّ في تشبيهِ الكافرِ بالبحْرِ المالح إيذانًا بهَضْمِ جانبهِ، وهو المُراد مِنْ قوله: أن يُشَبَّه الجنسَيْن بالبحرَيْن، ثم يفضِّلَ البَحْرَ الأجاجَ على الكافر. نظيرُه في الاستدراك صيانةُ قوله:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74].

وثالثها: أن يكونَ من تَتِمّةِ التمثيل: إمّا مُركَّبٌ وَهْمي، أو مُركَّبٌ عقلي، وعلى الأولِ كانَ مُفردًا عَقْليًّا.

قال القاضي: وهو استطرادٌ أو هو تمامُ التمثيلِ. والمعنى: كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات؛ لأنه خالط أحد الماءين ما أفسده وغَيَّر مِن كمال فِطْرته، وكذا لا يساوي المؤمنُ الكافرَ وإن اتفقَ اشتراكُهما في بعض الصفاتِ

ص: 627

على الكافر؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ، وجرى الفلك فيه، والكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى:(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)] البقرة: 74 [، ثم قال: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله)] البقرة: 74 [.

[(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)] 13 [

(ذلِكُمُ) مبتدأ، و (الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أخبار مترادفة. أو (الله رَبُّكُمْ) خبران، و (له الملك) جملة مبتدأة واقعة في قران قوله:(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)، ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كالشجاعةِ والسَّخاوةِ والعِفّةِ، لاختلافِهما فيما هو الخاصِّيةُ العُظمى وبقاءِ أحدِهما على الفطرةِ الأصليةِ دون الآخر.

قولُه: ({وَلَهُ الْمُلْكُ} جملةٌ مبتدأة واقعة في قِرانِ قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ})، وعلى الأول داخلٌ في حَيِّزِ الحُكمِ المُعَلَّل، أي: ذلكم الموصوفُ بتلكَ الصفاتِ التي أُجرِيَت عليه مُستَحق؛ لِأنْ يُعبَد ويُتَّخَذَ مالكًا، ويُخَّصّ بالعبادةِ دونَ الغير، فقوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} عطف على: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} وعلى الثاني قوله: {لَهُ الْمُلْكُ} يكون مستأنفا مُقَرِّرًا للجُملِ السابقة من قوله: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ} وقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ} ، ويكون قوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} حالاً من الضميرِ المستَقرِّ في الظرف.

ص: 628

الإشارة، أو عطف بيان، و (ربكم) خبرا لولا أن المعنى يأباه. والقطمير: لفافة النواة؛ وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها.

[(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)] 14 [

إن تدعوا الأوثان (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ)؛ لأنهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض والتمثيل لـ (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ)؛ لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية، ويتبرءون منها. وقيل: ما نفعوكم: (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ): ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به. يريد: أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى: أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لولا أنّ المعنى يأباه)، عن بعضِهم: إنما يأباه؛ لأن {ذَلِكُمُ} إشارةٌ إلى معلومٍ سبقَ ذكْرُه، وكونُه صِفةً أو عطفَ بيانٍ يقتضي أن يكونَ فيما سبقَ ضَرْبُ إبهام، وفيه نظر بحَسبِ كونِه صفة، وأما جَعْلُه عطفَ بيانٍ ففيه تخييلٌ للشركة، ألا ترى إذا قلت: ذلك الرجلُ سَيِّدُك، ففيه نوْعُ شركة؛ لأنّ ((ذا)) اسمٌ مُبهَمٌ ثم تُبيِّنُه.

وقلتُ: ويُمكنُ أن يقال: إنّ المشارَ إليه الإشارةِ ما سبق، كما قررناه آنفًا، ولو جُعِلَ موصوفًا أو مُبيَّنًا لكان المشارُ إليه ما بعْدَه، فلا يبقى ذلك الترتيبُ المُعتبر، وهو أنّ ما قبله جَديرٌ بما بعدَه لأجل إجراءِ تلك الصفاتِ عليه، إذ المعنى: ذلك الموصوفُ بتلك الصفاتِ الممُيَّزةِ والنعوتِ الكاملةِ هو العبودُ المستحِقُّ للعبادةِ المالكُ المُتفرِّدُ بالإلهية، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ، وفيه: أنْ ليسَ كلُّ ما يصحُّ إعرابًا كان وَجْهًا؛ لأنّ الإعرابَ تابعٌ للمعاني ولا ينعكس.

قولُه: (وقيل: ما نفعوكم)، عَطْفٌ على قولِه:{لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} لأنهم جَماد، أي: ما نَفعوكم لعدمِ قُدرتِهم على شيء، وذلك أنّ المرادَ بالدعاءِ طلبُ النفع.

قولُه: (يريدُ أنّ الخبيرَ بالأمرِ وحده هو الذي يخبرُك بالحقيقة)، هذا الاختصاصُ يُفيده

ص: 629

الأوثان هو الحق؛ لأنى خبير بما أخبرت به. وقرئ: (يدعون)، بالياء والتاء.

[(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ)] 15 - 17 [

فإن قلت: لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم؛ لأن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لفظُ {مِثْلُ} ، ووَضْعُ {خَبِيرٍ} موضعَ المَضْمَر، قال مُحيي السُّنّة:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: لا يُنبِّئُك أحدٌ مثلي خَبير.

وقلتُ: نظيرُه ما إذا أخبرَكَ بالأمرِ مُخبرٌ صادقٌ مُتقِنٌ في الأمور، ثم قالَ بعْدَه: ما يُخبركَ به مِثْلُ خبير، أي: مثلي، يعني: أنا مُختصٌّ به فلا تسأَلْ عن غيري، فالمعنى: لا يُخْبِرُ بالأمرِ مُخبرٌ هو مثْلُ الخبيرِ العالمِ الذي لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا يعزُبُ عن عِلْمِه مثقالُ ذرّة.

قولُه: (وقُرِئَ: {تَدْعُونَ} بالتاء والياء)، بالتاءِ الفوقانية: العامة، والياءُ: شاذّة.

قولُه: (أن يُرِيَهم أنَّهم لشدَّةِ افتقارِهم إليه هم جنسُ الفقراء)، يريد: أنه تعالى أوقعَ الفقراءَ خبرًا لـ {أَنتُمُ} وهو محلّى بلامِ الجنسِ وهو يفيدُ الاختصاص، وأنّ غيرَهم من المخلوقاتِ ليس كذلك، وليسَ كذلك؛ لأنّ الخلائقَ كلَّهم مُفْتَقرون إليه، لكنْ سلكَ فيه المبالغةَ وأن افتقارَ غيرِهم بالنِّسبةِ إلى افتقارِهم كَلا افتقار، وإليه الإشارةُ بقوله:((وإن كانتِ الخلائقُ كلُّهم مُفْتقرين إليه)).

قال صاحب ((الفرائد)): الوجه أن يُقالَ -والله أعلم-: المرادُ الناسُ وغيرُهم، وهو على طريقةِ تغليبِ الحاضرِ على الغائبِ وأُولى العلْمِ على غيرهم، كما في قولِه تعالى:{أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} [الصافات: 11]، يريدُ أولي العقل وغَيْرَهم، وهو كما أنَّ واحدًا من

ص: 630

الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله:(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)] النساء: 28 [، وقال: (الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)] الروم: 54 [؛ ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل (الفقراء) بـ (الغنى)، فما فائدة (الحميد)؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعًا بغناه إلا إذا كان الغنىّ جوادًا منعمًا، فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم، واستحق عليهم الحمد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القومِ حاضرٌ وهو زيد، وبقيَّتُهم غيرُ حاضرين فقالَ له مَنْ هو حاكمٌ على القوم بعد أن عَدَّ عليه نِعَمَه في حقِّ القوم وأظهَرَ لأنهم لا يمتثِلون أمْرَهُ ولا يمتنعون عما نهاه: يا زَيْدُ أنتُم المحتاجونَ إليَّ في حصولِ فائدةِ ما أمرتُكم به وحصولِ فائدةِ ما نهيتُكم عنه، وفي غيرِهما من كل الوجوه، لا أنا محتاجٌ إليكم في حصولِ فائدتِهما أو في شيءٍ غيرِهما، لأني غَنِيٌّ على الإطلاق، حَميدٌ على الإطلاق، لا يرجعُ إليَّ نفْعٌ من أمثالِكم ولا مَذَمّةٌ من تقصيرِكم، وبعضُهم غيرُ مأمورٍ وغيرُ مَنْهيّ، إلا أنَّ الكلَّ مُفْتقرٌ إليه من جميعِ الوجوه، وهو غنيٌّ عن الكلِّ بجميعِ الوجوهِ، وهو الذي أرادَ مِن قوله:{أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} والله الهادي.

وقلت: الذي يقتضيهِ النظمُ -والله أعلم-: أن يُحملَ التعريفُ في {الْنَّاسُ} على العهد، وفي {الْفُقَرَاءُ} على الجنس؛ لأنّ المخاطبينَ هم الذين خوطبوا في قوله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} أي: ذلكم المعبودُ وهو الذي وُصِفَ بصفاتِ الجلالِ لا الذين تدعون من دونِه، وأنتُم أشدُّ الخلائق احتياجًا إليه، وهو غنيٌّ عنكم وعن عبادتِكم؛ لأنه حَميدٌ يحمَدونه وإن لم تَحْمدوه أنتم، وهو المرادُ من قوله:((الحميد على ألسنةِ مؤمنيهم))، ويؤيِّدُه قولُه:{إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وتَفْسيرُه بقولِه: وهذا غَضَبٌ عليهم لاتخاذِهم له أندادًا، ولأنّ القَصْدَ من الإيرادِ إظهارُ كمالِ استغنائِهم عما يَدْعونه من دونِ الله وكمالِ افتقارِهم إلى الله عز وجل، وغايةِ عَجْزِهم وعِظَمِ قُدرتِه.

ص: 631

ذكر الحميد؛ ليدل به على أنه الغنى النافع بغناه خلقه الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه. (الحميد) على ألسنة مؤمنيهم. (بِعَزِيز): ٍ بممتنع، وهذا غضب عليهم؛ لاتخاذهم له أندادًا، وكفرهم بآياته ومعاصيهم، كما قال:(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ)] محمد: 38 [، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئًا.

[(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ)] 18 [

الوزر والوقر أخوان؛ ووزر الشيء: إذا حمله. والوازرة: صفة للنفس، والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولى، والجار بالجار. فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟ ولم قيل (وازرة)؟ قلت: لأن المعنى: أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها، لا وزر غيرها. فإن قلت: كيف توفق بين هذا وبين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ذكرَ الحَميدَ؛ ليدلَّ به على أنَّه الغنيُّ النافع بغِناه خَلْقَه)، وهو من التكميلِ، كقولِ كَعْب الغَنَوي:

حليمٌ إذا ما الحِلْمُ زَيَّنَ أهْلَه

مع الحِلْمِ في عَيْنِ العَدوِّ مَهيبُ

فإنّه رأى أنَّ الوصفَ بمُجَرَّدِ الحِلْم غيرُ واف، فكَمَّل بقَوْله:((في عَيْنِ العدوِّ مَهيب)).

قولُه: (لا ترى منهنَّ واحدةً إلا حاملةً وزْرَها، لا وِزْرَ غيرِها)، هو مثلُ قَوْلك: ما زيدٌ إلا قائمٌ لا قاعد.

ص: 632

قوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ)] العنكبوت: 13 [؟ قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم، ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ)] العنكبوت: 12 [بقوله: (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ)] العنكبوت: 12 [؟ فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وبين معنى (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ)؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفسًا بغير ذنبها، والثاني: في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى أن نفسًا قد أثقلها الأوزار وبهظتها، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ. فإن قلت: .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ما الفرْقُ بين معنى قولِه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ}) إلى آخره، توجيهُ السؤالِ أن يُقال: إذا كان معنى الأول: أنّ النفوسَ الوازراتِ لا ترى منهنَّ واحدةً إلا حاملةً وِزْرَها لا وِزْرَ غيرِها، وكان معنى الثاني: أنَّ النفسَ المُثقلَة بذنوبِها إن تَدْعُ نَفْسًا أخرى وندبت إلى حْمْلِها لا تحمِلُ ثِقَلَها رجعا إلى معنى واحد، فما الفرق؟

وأجاب: أنّ المقصودَ في الإيراد مفهومُهما وإظهارُ وصفَيْن من أوصافِ بارئِهما، دلَّ الأول على ظهورِ عَدْلِ الله، والثاني على ظهورِ الهيبةِ والجلال على طريقِ الكناية، كقولِه تعالى:{لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، والمقام يَقْتضيه، لأنه لما قيل:{إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} إظهارًا لغضبِه على المشركين، وأنه لا أحدَ يمنَعُهم من إمضاءِ قَهْرِه عليهم، وأتبَعَه بذكَرِ أهوالِ يومِ القيامة، فدَلَّ قولُه:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} على عَدْلِه وأنه إن أهلكَهم فبشُؤم عَملِهم: مِنْ كفرِهم بآياتِ الله واتخاذِهم له أندادًا، لأنّ مِنْ شأنِ عَدْلِه عز وجل أن لا يؤاخِذَ نفسًا إلا بذَنْبِها لا بذَنْبِ غيرِها، ومِنْ شأنِ عِزَّتِه أن لا يمنَعَه أحد عند صَدماتِ جلاله عما أراد وشاء، وإليه الإشارةُ بقوله:(({بِعَزِيزٍ}: بممتنع)).

ص: 633

إلام أسند (كان) في (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)؟ قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ). فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت: ليعمّ ويشمل كل مدعوّ. فإن قلت: كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقلة. قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل. فإن قلت: ما تقول فيمن قرأ: (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) على "كان" التامّة، كقوله:(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ)] البقرة: 290 [؟ قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة؛ لأنّ المعنى على أن المثقلة إن دعت أحدًا إلى حملها لا يحمل منه، وإن كان مدعوّها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد ذو قربى؛ لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه، على أنّ هاهنا ما ساغ أن يستتر له

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (إلامَ أسندَ) هذا السؤالُ والجوابُ مُستدركٌ لقوله آنفًا: ((وإن كانَ المدعوُّ بعْضَ قرابتِها)).

قولُه: (فلِمَ تُركَ ذكْرُ المَدْعوِّ؟ )، أي: مفعول {تَدْعُ} في قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} .

قولُه: (ليعمَّ ويشمَلَ كلَّ مَدْعوٍّ) أي: ممن يصحُّ أن يُدعى نحو المعبودِ بالحق والجن والإنس، ومما لا يصحُّ أن يُدْعى مثل الأصنام وغيرِها، ولو قُدِّرَ شيءٌ من ذلك لاختصَّ به ولفاتَ العُمومُ المراد.

قولُه: (ولا يصحُّ أن يكونَ العامُّ ذا قربى)، يريد: أنَّ خبرَ {كَانَ} : {ذَا قُرْبَى} ، فإذا جُعِلَ اسمُه أعمَّ منه لا يصحُّ حَمْلُه عليه. وخلاصةُ الجواب: أنَّ العامَّ على نوعَيْن: عامٌّ على وَجْهِ الشمول، وعامٌّ على وَجْهِ البدَل، والمرادُ هنا الثاني، فيكونُ المعنى: وإن تَدْعُ النفسُ المُثقَلةُ الناس: إمّا هذا وإما ذلك، لا يُحمَلُ منه شيءٌ وإن كان ذلك المَدْعوُّ ذا قُرْبى.

قولُه: (لتفكّكَ وخرج عن اتِّساقه)، لأنَّ الجملةَ الشرطيةَ كالتتميمِ والمبالغةِ في أنْ لا غِياثَ البتّةَ، ولو قُدِّرَ المَدْعوُّ ذا قربى.

روى مُحيي السُّنة: عن ابن عباس: يلقي الأبُ والأمُّ ابنَه فيقول: يا بُنيَّ احمِلْ عني

ص: 634

ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته. (بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل أو المفعول، أى: يخشون ربهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائبًا عنهم. وقيل: بالغيب في السر. وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها منارًا منصوبًا وعلمًا مرفوعًا، يعنى: إنما تقدرعلى إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم. (وَمَنْ تَزَكَّى): ومن تطهر بفعل الطاعات وترك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بَعْضَ ذُنوبي، فيقول: لا أستطيعُ حَسْبي ما عليّ. إذ لو قلت: إنْ تدْعُ النفسُ المثقلةُ إلى تخفيفِ ما عليها لا تجد أحدًا يُساعده، ولو وُجدَ ذا قُرْبى لا يحسُنُ ذلك الحُسْن.

قولُه: (بخلافِ ما أوْرَدْتُه)، يعني: في قولِه: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]، و ((ما)) في ((ما ساغَ)) بمعنى: الذي. قيل: وفيه نَظَر، لأنه يجوزُ أن يُقال: وإن كان الغَريمُ ذا عُسْرةٍ لدلالةِ السياق. نعَمْ يصحُّ أن يُقال: الإضمارُ هاهنا أوْلى لدلالِة ((إن تَدْعُ)) على المدعوِّ، بخلافِه ثَمَةَ، لأنه ليسَ في اللفظِ ما يدلُّ على الغريمِ، ولذلك لم يُقْرا في المشهورةِ هنا بالرفعِ وهُناكَ بالنصب.

وعن بعضِهم: المعنى أنَّ مُسوِّغَ الاستتارِ هاهنا بخلافِ المُسوِّغ في {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]، لأنه هاهنا جُملةٌ اعتراضية فارتبطَتْ بما قبْلَها، وفي تلك مُنقطعةٌ عما قَبْلها، بدليلِ ذكْرِ جوابِه لفظًا وهو {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].

قولُه: (إنّما تَقْدِرُ على إنذارِ هؤلاء [وتحذيرهم] مِن قومِك .... دون متمرِّديهم)، إشارةٌ إلى أنّ بيانَ مواقع استعمالِه، لأن ((إنّما)) يُستعملُ في حُكْمٍ لا يُعْوِزُ تَحْقيقُه، ولا يخفى على مَنْ به مُسْكة أنّ الإنذارَ إنما يكون إنذارًا ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله والبعثِ والقيامةِ وأهوالِها، لا مع غَيْرِه.

وبيانُه: أنه تعالى لما أظهرَ غَضَبَه على من اتَّخَذ من دونِ الله أندادًا بقوله: {إِن يَشَأ

ص: 635

المعاصي. وقرئ: (ومن ازكى فإنما يزكى)، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة؛ لأنهما من جملة التزكى. (وَإِلَى الله الْمَصِيرُ) وعد للمتزكين بالثواب. فإن قلت: كيف اتصل قوله: (إِنَّما تُنْذِرُ) بما قبله؟ قلت: لما غضب عليهم في قوله: (إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ) أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها، ثم قال:(إِنَّما تُنْذِر) كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع؛ فنزل (إِنَّما تُنْذِرُ)، أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم.

[(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ)] 19 - 23 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يُذْهِبْكُمْ} وأتبعَه الإنذارَ بيومِ القيامة وأهوالِها التفتَ إلى حبيبِه صلواتُ الله عليه ناعيًا له تمرُّدَهم وعِنادَهم وأنَّ الوعْظَ لا يُنْجِعُ فيهم، لأنَّهم لا يخافونَ عقابَه لأنهم جُهّالٌ لا يتفكَّرون في العاقبة، وإنما يُنْجِعُ فيمن يُوقنُ أنَّه لا بدَّ من المصيرِ إلى الله فيَخْشى عِقابَه وإليه ينظر قولُه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} .

قولُه: (مِن قومك) أي: مِن جَملةِ قومِك ومن بينهم، قيل:((مِنْ)) للتبعيضِ، وهو حالٌ إمّا من قولِه:((هؤلاء)): أو مِن ((هُم)) في ((تحذيرِهم))، والوجْهُ أن يكونَ المشارُ إليه بقولِه:((هؤلاءِ)): {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} ، و ((مِن قومِك)) بيانٌ لاسمِ الإشارة حالٌ منه.

وقلت: وإذا جُعِلَ ((مِنْ)) تبعيضًا، فالظاهرُ أنَّ ((مِنْ قومِك)) بدَلٌ مِنْ ((هؤلاء))، أي: إنّما تَقْدِرُ على إنذارِ بعضِ قومِك دونَ مُتمرِّديهم.

قولُه: (وقُرِئَ: ((ومَن ازّكَّى)))، أصلُه: تزّكى، أدغمَ التاءَ في الزاي، ثم أتى بهَمْزةِ الوصلِ، ثم أُسْقِطَتْ في الدَّرْج.

ص: 636

الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للكافر والمؤمن -كما ضرب البحرين مثلًا لهما- أو للصنم والله عزّ وعلا، .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (الأعمى والبصيرُ مَثَلٌ للكافرِ والمؤمنِ .... أو للصَّنَمِ والله عز وجل، أي: يجوزُ أن يكونَ المُشبَّهُ بالأعمى الكافر وأن يكونَ الصنم، وأن يكونَ المُشبَّهُ بالبصيرِ المؤمنَ، وأن يكون الله تعالى، فعلى الأول: التمثيلُ مردودٌ على التمثيلِ الأوّلِ، أي: قولِه: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ}، وإليه الإشارة بقولِه: ((كما ضربَ البحرَيْن مَثَلاً لهما))، وعلى الثاني: مَلْزوزٌ في قَرَنِ قولِه تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ، والأولُ أجرى على تأليفِ النظم، فإنّه شَبَّه أوّلاً منْ آمنَ بالبحرِ العَذْبِ والكافرَ بالمِلحِ الأُجاجِ وبَيَّن فيه عَدَمَ الاستواء، ثم نَبَّه أنّ الكافرَ أدْوَنُ حالاً من البحرِ المِلْحِ بقوله:{وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} الآية، لأن فيه منافعَ جَمّةً والكافِرُ خلْوٌ من النفع، ثم أتى بتمثيلٍ آخرَ، فشَبَّههما بالأعمى والبصيرِ في الضلالِ والاهتداءِ وشَبَّه ما يَرْدِفُهما من متابعةِ الحقِّ التي تورِثُ المؤمنَ الثوابَ ومن الذهاب إلى الباطلِ الذي يؤدِّي الكافرَ إلى العقاب ببالظلماتِ والنورِ والظلِّ والحَرور، ثم جَعل كُلاًّ من التمثيلَيْن تمهيدًا وتوطئةً لقوله:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} ؛ لأن المراد بالأحياء: المؤمنون الذي دخَلوا في دارِ السلام، وانتفعوا بدَعْوةِ نبيِّ الرحمةِ صلواتُ الله عليه، وبالأموات: الذين يُقُوا خارجينَ عن دارِ أمانِ الدعوة، ولم يرفعوا لها رأسًا وأصرُّوا واستكبروا، وإليه الإشارةُ بقوله:((والأحياءُ والأموات مثَلٌ للذينَ دَخلوا في الإسلامِ والذينَ لم يدخلوا فيه وأصَرُّوا على الكفر)).

وفُهِمَ من هذا التقرير: أنّ التعريفَ في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} وفي قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} للجنسِ، وفي {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} للعهد، وأن المقصودَ الأوْلى في الإيرادِ هذا التمثيلُ الثالث، ولهذا كرَّرَ {وَمَا يَسْتَوِي} ، وأكَّدَ النفيَ بتكريرِ ((لا))، وعلَّلَه بقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} مُسَلِّيًا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإقناطًا له من إيمانِ المُصرِّين وإيذانًا بأنَّ الهادي والمُضِلَّ هو الله سبحانه وتعالى. يعني: أنّ

ص: 637

والظلمات والنور والظنّ والحرور: مثلان للحق والباطل، وما يؤدّيان إليه من الثواب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الذي تعلّقَتْ مشيئةُ الله وإرادتُه بإسلامِه كالأحياءِ فانتفَع بدعوتِك وانتجَعَ فيه وعظُك، ومَنْ تعلّقتْ مشيئتُه بضلالتِه كالموتى فلا ينتفعُ بوَعْظِك، فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، فلا تتهالكْ أنت في إسلامِ مَنْ يُريدُ الله إضلالَه فما أنْتَ بمُسمِعٍ للموتى.

هذا تقريرٌ واردٌ على مذهبِ أهلِ السنّة، وهو ظاهرٌ مطابقٌ للآية.

وأما المصنِّفُ فأرادَ بقَوْله: ((فَيهْدي الذي قد عَلِم أنّ الهدايةَ تنفَع فيه، ويخذلُ مَنْ علِمَ أنها لا تنفعُ فيه)) تقريرَ مَذْهبِه، وهو كما ترى مُتَعَسَّفٌ من حيثُ النظمُ، على أنه يؤدِّي إلى أن تكونَ مشيئةُ الله تابعةً لفعْلِ العبد.

وقال القاضي: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} تمثيلٌ آخرُ للمؤمنين والكافرين، أبلَغُ من الأول، ولذلك كَرَّر الفعْلَ. وقولُه:{وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} ترشيحٌ لتمثيلِ المُصرّين على الكفرِ بالأمواتِ ومبالغةٌ في إقناطِه عنهم.

وقلت: في التمثيلاتِ الثلاثِ تَرَقٍّ من الأهونِ إلى الأغلظِ وفي كلِّ مِنهما تفريعٌ على الأصل: بَنى على البحرين اللحمَ الطريَّ وجَرَيانَ الفُلْك وعلى الأعمى والبصير: الظلماتِ والنور وعلى الأحياءِ والأموات: استماعَ الحقِّ وعدَمَه.

قولُه: (والظلماتُ والنورُ والظلُّ والحَرورُ: مَثَلان)، اعلَمْ أنّ ((لا)) في:{وَلَا النُّورُ} {وَلَا الْحَرُورُ} مَزيدة، لأن المعنى: الظلماتُ لا تُساوي النور، وليس المرادُ أن النورَ في نفسِه لا يَسْتوي، وكذلك في:{وَلَا الْأَمْوَاتُ} ، قال في قوله تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34]: إن الحسنةَ والسيئةَ مُتفاوتتانِ في أنفُسِهما، فخَذْ بالحسنةِ التي هي أحسَنُ من أختها، وقيل:((لا)) مَزيدة، والمعنى: ولا تَسْتوي الحسنةُ والسيئة، وهنا ليسَ المعنى: على

ص: 638

والعقاب. والأحياء والأموات: مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه، وأصروا على الكفر. والحرور: السموم؛ إلا أنّ السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار. وقيل: بالليل خاصة. فإن قلت: "لا" المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت: إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها؛ لتأكيد معنى النفي. فإن قلت: هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت: بعضها ضمت شفعًا إلى شفع، وبعضها وترًا إلى وتر. (إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ): يعنى أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدى الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه. وأمّا أنت فخفى عليك أمرهم؛ فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين، ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر، وذلك ما لا سبيل إليه، ثم قال: (إِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنّ الأحياءَ والأمواتَ مثلاً متفاوتان فَمِنْ مَيِّتٍ أدْوَنُ حالاً من مَيِّت، وحيٍّ أرفَعُ منزلةً من حَيّ، فتُحمَلُ على مُجرَّدِ التأكيد.

فإن قُلْتَ: فلم أُخْلِيَتِ القرينةُ الأولى وهي الأعمى والبصيرُ من التوكيد؟

قلتُ: هي كالتوطئةِ لذكْرِ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} ، ولذلك أُعيد {وَمَا يَسْتَوِي} ، وعُلِّل بقوله:{إنَّ اللهَ يُسْمِعُ} الآية، وأما القرينتانِ المُتوسِّطتان فهما مَقْصودان أيضًا، لأنهما مَثَلانِ للحقِّ والباطل وما يُؤدِّيان إليه من الثوابِ والعقاب.

قولُه: (ضَمَّت شَفْعًا إلى شَفْعٍ)، أما التي ضَمَّتِ الشَّفْعَ فهي الواوات في:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ} ، وأما التي ضَمَّتِ الوِتْرَ فهي التي توسَّطَتْ بين الضِّدَّيْن.

قولُه: (فيَهْدي الذي قد عَلِمَ أنَّ الهدايةَ تنفَعُ فيه، ويَخْذِلُ من عَلِمَ أنها لا تنفَعُ فيه)، هذا التقريرُ يهدِمُ قاعدةَ الاعتزال، لأنَّ خِلافَ علْمِ الله محالٌ وقوعُه، فلا يصدُرُ عنه إلا ما عَلِمَ الله تعالى صدورَه عنه، فإذن لا اختيارَ له فيه.

ص: 639

أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أى: ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرين فلا عليك. ويحتمل أنّ الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدى المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى.

[(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ)] 24 [

(بِالْحَقِّ) حال من أحد الضميرين، يعنى: محقًا أو محقين، أو صفة للمصدر، أى: إرسالًا مصحوبًا بالحق، أو صلة لبشير ونذير على: بشيرًا بالوعد الحق، ونذيرًا بالوعيد الحق. والأمّة: الجماعة الكثيرة. قال الله تعالى: (وجد عليه أمّة من الناس)] القصص: 23 [، ويقال لأهل كل عصر: أمّة، وفي حدود المتكلمين: الأمّة: هم المصدقون بالرسول دون المبعوث إليهم، وهم الذين يعتبر إجماعهم، والمراد هاهنا: أهل العصر. فإن قلت: كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقيةً لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ويُقال لأهلِ كُلِّ عَصْر أمّة)، قال التُّورِبِشْتيُّ- في شَرْحِ قولِه صلى الله عليه وسلم:((والذي نَفْسُ محمَّدٍ بيدِه، لا يسمَعُ بي أحدٌ من هذه الأمة؛ يَهوديٌّ ولا نَصْرانيٌّ ثم يَموتُ، ولم يؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلا كانَ من أصحابِ النار)). رواه مسلم عن أبي هريرة-: الأمّة: كلُّ جماعةٍ يجمَعُهم أمر؛ إمّا دينٌ واحدٌ أو دَعوةٌ واحدة أو طريقةٌ واحدة أو زَمانٌ واحدٌ أو مكانٌ واحد. وأرادَ به هاهنا الجماعةَ التي يجمَعُها زمانُ الدعوةِ إلى الشريعةِ الحنيفية؛ لأنه أدخَلَ في جُملتِهم اليهودَ والنصارى. وعلى هذا يدخُلُ فيها كلُّ ما تنتهي إليه الدعوةُ من أهلِ الملَلِ الزائغةِ والأديانِ الباطلة، وخُصَّت اليهودُ والنصارى لخُصوصيةٍ فيهم.

ص: 640

آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت: لما كانت النذارة مشفوعةً بالبشارة لا محالة، دلّ ذكرها على ذكرها، لا سيما وقد اشتملت الآية على ذكرهما.

[(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)] 25 - 26 [

(بِالْبَيِّناتِ): بالشواهد على صحة النبوّة، وهي المعجزات (وَبِالزُّبُر): ِ وبالصحف، (وَبِالْكِتابِ الْمُنِير) نحو التوراة والإنجيل والزبور. لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادًا مطلقًا، وإن كان بعضها في جميعهم؛ وهي البينات، وبعضها في بعضهم؛ وهي الزبر والكتاب. وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (لما كانَت هذه الأشياءُ في جنْسِهم أَسندَ المجيءُ بها إليهم إسنادًا مطلقًا)، يريدُ أنّ قولَه:{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ} مِن قَبيل: بنو فُلانٍ قَتلوا فلانًا، وإنما القاتلُ رجلٌ منهم.

قولُه: (وفيه مَسْلاةٌ)، أي: في قولِه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} إلى آخره قولِه: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} بعد قوله: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} المعنى: أعرِضْ عن هؤلاء المصرِّين المُعانِدين ولا تحرِصْ ولا تتهالَكْ على هداهُم، إن أنتَ إلا نَذيرٌ وما عليك إلا أن تُبلِّغَ وتُنْذِر، فإن أصرُّوا فلا عليك، وكذلك دأبُ الأممِ السالفةِ مع أنبيائِهم الماضية {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ، فجيءَ بقولِه:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} توطئةً لقولِه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وأقحَمَ بشيرًا مزيدًا للتسلية وتتميمًا وصيانةً عن توهُّمِ أنه مقصورٌ على النِّذارةِ كقَوْلِه تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وحينئذ لا يُفْتقَرُ إلى ذكْرِ البشيرِ مشفوعًا مع النذير في قولِه:{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وأيضًا فيه: أنّ الناسَ لتَماديهم في الضلالِ والغفلةِ وتهالُكِهم

ص: 641

[(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ)] 27 - 28 [

(أَلْوانُها): أجناسها؛ من الرّمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يحصر، أو هيئاتها؛ من الحمرة، والصفرة، والخضرة، ونحوها. والجدد: الخطط والطرائق. قال لبيد:

أو مذهب جدد على ألواحه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في حُبِّ الشهواتِ واللّذاتِ وتقليدِ الباطلِ أشدُّ احتياجًا إلى المُنْذِرِ من المُبشِّر، وكثيرًا ما ترى في التنزيلِ النذيرَ غَير مشفوعٍ بالبشيرِ ولا ترى البشيرَ بدونِهن والله أعلم.

الراغب: الإنذار: إخبارٌ فيه تَخْويف، كما أنَّ البشيرَ إخبارٌ فيه سرور. والنَّذيرك المُنذرُ ويقَعُ على كلِّ شيءٍ إنذارَ إنسانٍ كانَ أو غُيْرَه، والنُّذُرُ، والنُّذُرُ جَمْعُه.

قولُه: (أو مُذَهَبٌ جُدَدٌ على ألواحِه)، تمامه:

والناطقُ المَبْروزُ والمَختومُ

وقبله:

فكأنَّ معروفَ الديارِ بقادِمٍ

فبُراقِ غَوْلٍ فالرِّجامِ وُشومُ

شَبَّه ما عرفَ من الديارِ كالطَّلَل بالوشوم وهي ما بقيَ من آثارِ الوَشْم، أو بلَوْحٍ مُذْهَبٍ على ظواهرِه جُدَدٌ وطرائقُ، والناطقُ الكتاب.

ص: 642

ويقال: جدة الحمار: للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه. (وَغَرابِيبُ) معطوف على (بيض)، أو على (جدد)، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب. وعن عكرمة: هي الجبال الطوال السود. فإن قلت: الغربيب تأكيد للأسود، يقال: أسود غربيب، وأسود حلكوك؛ وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه، ومنه: الغراب، ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد، كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق، وما أشبه ذلك! قلت: وجهه: أن يضمر المؤكد قبله، ويكون الذي بعده تفسيرًا لما أضمر، كقول النابغة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وذكر في ((الصحاح)): أنّ الروايةَ: ((ألناطق)) بقَطْعِ الألفِ وإن كان وَصْلاً، وذلك جائز في ابتداءِ الأنْصاف؛ لأنّ التقديرَ الوقفُ على النِّصْفِ من الصَّدْر.

وقال: كتابٌ مَبْروز، أي: مَنْشور، وقال: لعلَّه المَزْبُور وهو المَكْتوب. وقال لبيدٌ في كلمةٍ أخرى:

كما لاحَ عنوانُ مَبْروزةٍ

يلوحُ مَع الكَفِّ عنوانُها

هذا يدل على أنه لُغَتُه، والرواةُ كلُّهم على هذا، فلا معنى لإنكارِ من أنكره. والمختوم: المكتومُ، وهو الدارس.

الراغب: جُدَدٌ بيض: جَمْعُ جُدّةٍ، أيك طريقةٍ ظاهرة مِن قولهم: طريقٌ مَجْدود، أي: مَسْلوك مقطوع، ومنه جادّةُ الطريق. وقيل: الخُطّة: الطريقةُ، وهي اسمُ المَخْطوط، فُعْلَةٌ بمعنى: المفعولِ، كالغُرْفَةِ والقُنْصَةِ، من الخطِّ، كالنُّقْطة.

ص: 643

والمؤمن العائذات الطّير

وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقى الإظهار والإضمار جميعًا، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله:(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) بمعنى: ومن الجبال ذو جدٍد بيض وحمر وسود، حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال:(ثمرات مختلفا ألوانها). (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُه)، يعنى: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرئ: (ألوانها)، وقرأ الزهري:(جدد)، بالضم: جمع جديدة؛ وهي الجدّة، يقال: جديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبى ذؤيب يصف حمار وحش:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (والمؤمِنِ العائذاتِ الطير)، تمامُه:

يمسَحُها

رُكبانُ مكّةَ بين الغَيْل والسَّنَد

ما إن نَدِيتُ بشَيءٍ أنتَ تكرهُه

إذاً رفعَتْ سَوْطي إليَّ يدي

المؤمن: اسمُ الفاعِل وهو الله تعالى، مِن: آمن. والعائذات: الحمائمُ، بماّ عاذَتْ بمكّة والتجأت إليها حَرُمَ قتْلُها وصَيْدُها وأن تُهاج. والغَيْلُ والسَّنَد: موضِعان، و ((المؤمن)) مجرورٌ بالقَسَم، و ((العائذاتِ)) منصوبٌ باسمِ الفاعلِ وهو المُؤمن، و ((الطيرَ)) منصوب: إما بَدلٌ أو عَطْفُ بَيانٍ أو بإضمارِ: أعني، وفيه نَظَر، لأنَّ الاستشهادَ بأنّ هذا الطيرَ المذكورَ دالٌّ على المحذوفِ وهو مفعولٌ لاسم الفاعل، والعائذاتُ صِفَتُه، أي: المُؤمن الطيرَ العائذاتِ الطّير، وقولُه:((ما إن نَدِيت)) جوابُ القَسَم، يقول: والله المؤمنِ الطيرَ العائذاتِ ما نطقْتُ ولا بَلَلْتُ به لِساني، وما أتَيْتُ بشيءٍ تكرهُه وإلا فَشُلَّتْ يَدي.

قولُه: (ولابُدَّ مِن تقديرِ حَذْفِ المضاف)، يعني: حصلَتْ هاهنا قرائنُ ثلاث، والقرينتانِ هاهنا اتَّفقتا على معنى، فوجبَ تنزيل الفَذّةِ منها على معنى أختَيْها، وإلاّ لَزِمَ الاختلاف

ص: 644

جون السّراة له جدائد اربع

وروى عنه: (جدد)، بفتحتين؛ وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بين أشياءَ انخرطَتْ في سِلْكٍ واحِدٍ، وإليه الإشارةُ بقَوْلِه:((حتى يؤولَ إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانه)) إلى آخره، وتحريرُه: أن التنكيرَ في قوله: {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} للنوع، والمعنى: فأخرَجْنا بالماءِ نوعًا من الثمراتِ مختلفًا ألوانُه، وكذلك قولُه:{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ، فإنّ المعنى: منهم بَعْضٌ مختلفٌ ألوانُه، كما نَصَّ عليه، وهو قول الفرّاء قال:{أَلْوَانُهُ} على تأويلِ: خَلْقٍ مُختَلفٍ ألوانه.

وقال مُحيي السُّنة: ذكرَ الكِنايةَ لأنها رَدٌّ إلى ما في الإضمارِ، ومَجازُه: ومنَ الناسِ والدوابِّ والأنعامِ ما هو مختلفٌ ألوانه.

قولُه: (جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربع)، أولُه:

والدَّهْرُ لا يَبْقَى على حَدَثانِه

الجَوْن: الأسود، والسَّراة: الظَّهْر، والجدائد: الأُتنُ اللاتي قد جَفّتْ ألبانهُنَّ؛ مِن جَدِّ اللَّبَن أي: قَطْع، أي: أهْلكَ الدهر بَنِيّ، وتوترَتْ عليَّ المصائب، ثمّ عزّى نَفْسَه بأنَّ الدهرَ لا يَبْقى على حَدَثانِه شيءٌ، حتى الحمارِ مع الأُتْنِ التي ترعى في القِفار.

قالَ ابن جِنِّي: ((جَدَدٌ)) بفَتْح الجيمِ والدالِ في روايةِ سهلٍ عن الوقّاصيِّ عن الزُّهري.

قال قُطْرب: قراءةُ الزُّهري: ((جُدُد)) بضَمِّهما، أما ((جُدُدٌ)) فجَمْعُ جَديدٍ، أي: آثارٌ جُدُدٌ غيرُ مُخْلقةٍ فهو أوضَحُ للونِها، وأما ((جَدَدٌ)): فهو الطريقُ الواضحُ المُسْفِرُ فالمعنى نَحْوُ الأول.

ص: 645

الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقرئ: (والدواب) مخففًا، ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ:(ولا الضألين)؛ لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين؛ فحرك ذاك أوّلهما، وحذف هذا آخرهما. وقوله:(كَذلِكَ) أى: كاختلاف الثمرات والجبال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({كَذَلِكَ} أي: كاختلافِ الثمراتِ والجبال)، يعني: الكافُ نَصْبٌ على المَصدَر، والأظهرُ أنه رفعٌ على الخبر، والإشارةُ بـ ((ذلك)) إلى المذكورِ من الدلائل في هذه الآيةِ وحدَها، ويكونُ قولُه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} مَقطَعًا لهذه الآية، ونظيرُ ((ما)) قولُه تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

فإن قلت: لِمَ خُولِفَ بينَ المَقطَعَين؟ قلت: ما نحنُ فيه أبسَطُ وأجمَعُ من تلك الآية، لأنّ فيها ذِكرَ الثمارِ والجبالِ والناسِ والدَّوابِّ والأنعام واختلافِها، وهي مختصّةٌ بالثمرات، وصُدِّرَت هذه الآيةُ بهمزة الاستفهام وحرفِ النفي لإفادةِ مَزيدِ التقرير، وبالخطابِ العامِّ لئلاّ تختصَّ الرؤيةُ براءٍ دونَ لفَخامةِ الأمر، ثم قُرِّرَ هذا المعنى في أثنائهما بقوله:{كَذَلِكَ} ، أي: الأمرُ كما ذكرت، كأنه تعالى يقول: هذه الأشياءُ كلُّها مُتساويةٌ في الجِسْميّة، واختِلافُ أنواعِها ثم اختِلافُ كُلٍّ منها بما خُصَّ به من الأصنافِ لا بُدَّ لهُ من قادرٍ مُختارٍ قاهرٍ يَتَصرَّفُ في مُلكِهِ كيفَ يشاء. وهذا ظاهرٌ جليٌّ عندَ كُلِّ ذي مُسْكة، فمَن أنكرَ ذلك وقالَ بالإيجاب فهو مُعانِدٌ جاهلٌ لم يخشَ الله، وإن جمعَ أسفارَ الحِكَم، ومَن أنصفَ وسلكَ السَّبيلَ المُستقيمَ وخشيَ الله فهو عالِمٌ جِدُّ عالم، فحينَئذٍ من أينَ اختصَّ {الْعُلَمَاءُ} بالعُلماءِ العَدْليّة؟ ! عفا اللهُ عنه.

فإن قلت: لِمَ لا تجعلُ {كَذَلِكَ} نَصْبًا على المَصدَر، كما ذهبَ إليه المُصنِّف؟ قلت: لقِلّةِ جَدْواه، وعلى ما ذهبنا إليه تصيرُ جُملةً مُقرِّرةً لِمَا في شأنِهِ الاهتمامُ على ما مَرّ، ويكونُ موقعًا للسُّؤالِ على الاستئِناف، يعني: إذا كان الأمرُ ظاهِرًا لكُلِّ أحدٍ كما ذكرت، فلِمَ

ص: 646

والمراد: العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علمًا ازداد منه خوفًا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اختَصَّ العُلماءُ بالذِّكرِ دونَ غيرهم؟ أُجيب: لخشيةِ هؤلاء وإنصافِهم، ولعِنادِ أولئك وعَدَم خشيتهم.

وتلخيصُه: أنّ المذكورَ إنْ لم يَدُلَّ على ذلك بالتصريح، يَدُلُّ عليه بالتعريض.

قولُه: (العلماءُ الذين عَلِموا بصفاتِه وعَدْلِه وتوحيدِه وما يجوزُ عليه وما لا يَجوز)، اعلم أنه تعالى كما جعلَ مقطعَ التمثيلِ الأولِ قوْلَه:{إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} ، جعلَ مقطعَ هذَيْن التمثيلَيْن بقوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} والمُشارُ إليه بقوله: {كَذَلِكَ} جميعُ ما سبقَ من البياناتِ والإنذاراتِ الكافيةِ، أي: الأمرُ كما ذُكِرَ لكن إنما ينجَعُ فيمن خَشِيَ الرحمنَ بالغيب، كقوله:{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، فوضَعَ موضعَه ((العلماءَ)) تعريضًا بجَهْلِ الكَفَرة، وجَهْلِ مَنْ يَدَّعي العِلْمَ ولم يَخْشَ الله تعالى، وتَنْويهًا برِفْعةِ منزلةِ العلماءِ العاملينَ المحقِّقين، وإليه أشارَ بقوله:((مِثْلُك ومَنْ على صِفَتِك)). ثم الآيةُ كالتخلُّصِ من ذكْرِ أعداءِ الدينِ إلى ذكْرِ الأولياءِ من المؤمنين التالينَ كتابَه آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار، المقيمينَ الصلاة والمُنْفقينَ أموالَهم سِرًّا وعلانيةً، ومع ذلك يَرْجون رحمةَ الله، ويأمَلون أن يُوَفِّيَهم أجورَهم ويزيدَهم مِنْ فَضْلِه، ولا يُوجبونَ على الله شيئًا بأعمالِهم، ولا يَقطعون بشيءٍ من ذلك، وكذلك لا يحكمُمون على الظالم لنفسِه والمُقْتَصدِ بالوعيدِ وكونِهما من أصحابِ النار، ولهذا فُصِلَتْ الآيةُ بقَولِه:{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} لأنه كالتعليلِ للكلامِ السابق، أي: أنه تعالى عزيزٌ غالبٌ يفعَلُ ما يَشاءُ في مُلْكِه لا أحدَ فوْقَه يوجبُ عليه شيئًا، فالعمالُ يَعْملونَ ويأملونَ أن يُوَفّيهم أجورَهم، والظالمُ لنفسِه يرجو الغُفْران ولا يقطَعُ بالدمار، لأنه تعالى بليغُ الغُفْرانِ والرحمة.

ص: 647

ومن كان علمه به أقل كان آمن. وفي الحديث: «أعلمكم بالله أشدّكم له خشية» ، وعن مسروق: كفى بالمرء علمًا أن يخشى، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعلمه. وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله. وقيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. فإن قلت: هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لا بدّ من ذلك؛ فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت (العلماء) كان المعنى: أنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (وفي الحديثِ: ((أعلمُكُم بالله أشدُّكُم [له] خَشْيةً)))، ورَوَينا عن الدراميِّ عن عطاءٍ قال: قالَ موسى عليه السلام: يا رَبِّ أيُّ عبادِكَ أحكَم؟ قال: الذي يحكُمُ للناسِ كما يحكُمُ لنفسِه. قال: يارَبّ، أيُّ عبادِكَ أغنى؟ قال: أرْضاهُم بما قَسمْتُ له. قال: يارَبّ، أيُّ عبادِكَ أغنى؟ قال: أرْضاهُم بما قَسمْتُ له. قال: يارَبّ، أيُّ عبادِكَ أخْشى؟ قال: أعلَمُهم بي.

قولُه: (وإذا عملتَ على العكس انقلب المعنى)، وذلك أن ((إنّما)) فرْع ((ما)) و ((إلاّ))، وفي الأصلِ: الحَصْرُ أبدًا في ((ما)) يلي ((إلا))، وفي الفرعِ الحَصْرُ في الجُزْءِ الأخيرِ، فقولهُ تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فَرْعُ ((ما يَخْشى اللهَ من عبادِه إلا العلماء))، وهو يَقْتضي انحصارَ خَشْيةِ الله على العلماءِ دونَ غيرِهم، وقولُك: إنّما يخشى العلماءُ من عبادِه اللهَ، فَرْعُ قولِك: ما يخشى العلماءُ من عبادِه إلا الله، فيلزَمُ انحصارُ خَشْيةِ الله دونَ غيرِه.

قال الشيخ عبدُ القاهر رحمه الله: لما كان الغرضُ من الآيةِ بيانَ الخاشينَ والإخبارَ بأنَّهم العلماءُ خاصّة دون غيرِهم قَدّم اسمَ ((الله)) على ((العلماء))، ولو أُخِّرَ منه لصارَ المعنى على ضِدِّ ما عليه وهو: أنَّ الغرضَ بيانُ المَخْشيِّ والإخبارُ بأنه تعالى دونَ غيره، وهذا المعنى الأخيرُ وإن كان قد جاءَ في التنزيل قال تعالى:{وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، لكن ليس

ص: 648

إلا الله، كقوله تعالى:(وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا الله)] الأحزاب: 39 [، وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال: (أَلَمْ تَرَ) بمعنى ألم تعلم (أن الله أنزل من السماء ماء)، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك (إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)، كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به»

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الغرضَ هاهنا، ولا اللفظُ يحتمِلُ له التبّةَ، ومَنْ أجاز حَمْلَها عليه كأنه قد أبطَل فائدةَ التقديمِ وسَوّى بين الكلامَيْن، فإذَنْ يلزَمُ أن يُسوِّيَ بين قولنا: ما ضربَ عَمْرو وإلا زيدًا وما ضرَبَ زيدًا إلا عَمْرٌو وذلك مما لا شُبْهَةَ في امتناعه.

وقلتُ: قولُه: ((لكن ليسَ هو الغرضَ هاهنا))، معناه: أنَّ اقتضاءَ المقامِ يوجبُ بيانَ الخاشين والإخبارَ بأنهم العلماءُ خاصّةً دونَ غيرِهم ليكون تعريضًا بالمُنذَرين المصرِّين على العنادِ والكفر وأنَّهم جهلاءُ بالله وبصفاته، ولذلك لا يخشَوْن الله ولا يخافون عقابَه، ولو قلتَ: ما يخشى العلماءُ من عبادهِ إلا الله لم يكن من التعريضِ في شيء والمقامُ يَقْتضيه، أما قولُه تعالى:{وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، فكلام في تبليغِ الرسالة وتعريضٌ به صلواتُ الله عليه بعد التصريحِ بقوله:{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} فبَيْنَ المقامَيْن بَوْن.

قولُه: (أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمَكم به)، روينا عن البخاريِّ ومُسلم عن عائشة رضي الله عنها: صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئا فترخَّصَ فيه فَتنزَّه عنه قوم، فبلغَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخَطب فحَمِدَ الله تعالى ثم قال:((ما بالُ أقوامٍ يَتنزَّهون عن شيء أصنَعُه، فوالله إني لأعلمُكم بالله وأشدُّكم له خشية)).

ص: 649

فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: (إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وهو عمر بن عبد العزيز، ويحكى عن أبى حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده. (إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية؛ لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب حقه أن يخشى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (فما وَجْهُ قراءة)، الفاءُ تدلُّ على إنكارِ قولِه:((لا بدَّ من ذلك))، أي: من تقديمِ المفعولِ، أي: إذا كان الواجب ذلك لصحّةِ المعنى، فما وَجْهُ هذه القراءة؟

قولُه: (كما يُجَلُّ المَهيب)، ((ما)) مصدرية، أي: إنما يُجلُّهم إجلالاً مِثلَ إجلالِ المَهيبِ المخشيِّ من الرجال. هذا بيانُ وَجْهِ الاستِعارة، وذلكَ أنّ الاستِعارةَ مسبوقةٌ بالتشبيه، شبّه حالةَ مُعامَلةِ الله تعالى معَ العُلماءِ في تعظيمِه إياهُم وإجلالِهِ لهم كمُعامَلةِ مَنْ يُجِلُّ ويُعظِّمُ السُّلطان ومَن هو بصَدَدِه خشيةَ سَطوتِهِ وهَيْبته، فأُدخِلَ المُشبَّهُ في جِنسِ المُشبَّهِ به، واستُعمِلَ فيما يُستَعمَلُ في المُشبَّهِ به دَالاًّ عليه، بقرينةِ ما هو مُنزَّةٌ من ذلك ومُتعالٍ عنه من الخشية، وهي الاستعارةُ التَّبَعيةُ الواقعةُ على طريق التمثيل.

قولُه: (المعاقِبُ المثيبُ حقُّه أن يُخْشى)، فإن قُلتَ: المثيبُ كيفَ يخشى، والوصفُ بالغُفْرانِ موجبٌ للرجاءِ لا للخوف؟

قلتُ: جوابُه ما ذكرَ في ((الفرقان)) في قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 6]: ((دل بهذا على القدرةِ التامةِ؛ لأنه لا يوصفُ بالمغفرةِ والرحمةِ إلا القادرُ على العقوبة)).

ويمكنُ أن يقال: إنّ حالتَي سَطَواتِ القهرِ إما أن تكون بَغْتةً أو إمهالاً، فدلّ العزيزُ على الأولِ والغفورُ على الثاني، قال تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]، فالعالِمُ يخافُ الحالتَيْن خصوصًا الثانية؛ لأنها قد تكونُ استدراجًا، بخلافِ الجاهلِ لأنه لا يأمَنُ فيها كلَّ الأمن.

ص: 650

[(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ الله وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)] 29 - 30 [

(يَتْلُونَ كِتابَ الله) يداومون على تلاوته، وهي شأنهم وديدنهم. وعن مطرف رحمه الله:

هي آية القرّاء. وعن الكلبي: يأخذون بما فيه. وقيل: يعلمون ما فيه ويعملون به. وعن السدى: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم. وعن عطاء: هم المؤمنون. (يَرْجُونَ) خبر (إن). والتجارة: طلب الثواب بالطاعة. و (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق بـ (لن تبور)، أى: تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} يداومون [على] تلاوته) يعني: دلَّ عطفُ الماضي -أي: قولُه: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا} - على المضارعِ على أن المرادَ به الاستمرارُ والمداومةُ والتحقُّقُ فيه، ويساعدُه مقامُ المدحِ نحو: فلانٌ يَقْري الضيفَ ويَحْمي الحريم.

قولُه: (عن مُطَرِّفٍ)، قال صاحبُ ((الجامع)): وهو أبو عبد الله مُطَرِّفٌ بن عبد الله ابن الشخِّير العامري البصري، روى عن أبي ذرٍّ وعُثمان بن أبي العاص ماتَ سنةَ سبعٍ وثمانين.

قولُه: (يعملون ما فيه ويعملون به)، يريد: أوجبَ عطفُ قولِه: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا} على {يَتْلُونَ} أن تُفَسَّرَ التلاوةُ بالعمل بما فيه، لأنّ التلاوةَ لم تكن مُعتبرةً إذا لم يُعْلَمْ معنى المَتْلوِّ، ولم يُعتَدَّ بالعلم إذا لم يَقْترنْ معه العمل.

قولُه: ({لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلِّق بـ {لَّن تَبُورَ}، أي: تجارةً ينتفي عنها الكَساد)، وقوله:((ينتفي عنها الكَساد)) تفسيرٌ لقولِه: {لَّن تَبُورَ} لا بالمطابقةِ؛ لأن أصلَ البوار الهلاك.

قال في ((الأساس)): ومن المجاز: بارَتِ البِياعاتُ كسَدَتْ. وقولُه: ((وتَنْفُقُ عند الله)) تفسيرٌ

ص: 651

عنده (أُجُورَهُمْ)؛ وهي ما استحقوه من الثواب، (وَيَزِيدَهُمْ) من التفضل على المستحق.

وإن شئت جعلت (يَرْجُونَ) في موضع الحال على: وأنفقوا راجين ليوفيهم، أى: فعلوا جميع ذلك؛ من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله لهذا الغرض. وخبر (إن) قوله: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) على معنى: غفور لهم شكور لأعمالهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للتفسيرِ فيكونُ كنايَة، لأن {لَّن تَبُورَ} لازمُ انتفاءِ الكساد وهو لازمُ كونِها نافقة، كأنه قيل: يرجونَ تجارةً نافقةً عند الله مُرْبحةً ليُوفِّيَهم الله أجورَهم، ثم هذه الكناية ترشيحٌ للإستعارة.

قولُه: (وإن شئتَ جَعلْتَ {يَرْجُونَ} في موضعِ الحال)، فعلى هذا ((ليوفِّيهم الله أجورَهم)) يتعلَّقُ بالتلاوةِ وأقاموا الصلاةَ والإنفاق، ولهذا قال:((فعلوا جميعَ ذلك .... لهذا الغرض))، وهو التوفيه، وإنما عَلَّق المصنِّفُ {يَرْجُونَ} بقولِه:{وَأَنفَقُوا} دون {يَتْلُونَ} و {وَأَقَامُوْ} ، لئلا تجتمعَ على معمولٍ واحد عواملُ، ولأنَّ ما يتعقَّبُ الجُمَلَ من القيدِ يختَصُّ بالأخيرِ على مذهبِ أبي حنيفةَ رضي الله عنه.

ويمكنُ أن يُعلَّقَ بمحذوفٍ على معنى: فَعلوا جميعَ ذلك راجينَ لهذا الغرض، وهو الظاهر. قال أبو البقاء:{يَرْجُونَ} خبرُ {إِنَّ} ، {لِيُوَفِّيَهُمْ} يتعلَّق بـ {يَرْجُونَ} ، وهي لامُ الصيرورة.

وقلت: تأويلُه: أنّ غرضَهم فيما فعلوا لم يكن سوى تجارةٍ غيرِ كاسدة، لأنّ صلةَ الموصولِ هنا علّةٌ وإيذانٌ بتحقيقِ الخبر، ولمّا أدّى ذلك إلى أن وفّاهم الله أجورَهم أتى باللام، وإنما لم يذهَبْ إليه المصنِّف؛ لأن هذه اللام لا توجَدُ إلا في يترتَّبُ الثاني على الأول، ولا يكونُ مطلوبًا به كقولِه تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

ص: 652

والشكر مجاز عن الإثابة.

[(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ الله بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)] 31 [

(الْكِتابِ) القرآن، ومن (للتبيين)، أو الجنس و (من) للتبعيض (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة؛ لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق. (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ): لما تقدّمه من الكتب. (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) يعنى أنه خبرك وأبصر أحوالك، فرآك أهلًا لأن يوحى إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)] 32 - 35 [

فإن قلت: ما معنى قوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ)؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (والشكرُ مَجازٌ عن الإثابة)، النهاية: في أسماءِ الله: الشَّكور، وهو الذي يَزْكو عنده القليلُ من أعمالِ العبادِ فيضاعِفُ لهم الجزاءَ، فشُكْرُه لعبادِه مغفرتُه لهم، والشَّكورُ من أبنية المبالغة.

قولُه: (عيارٌ على سائر الكتب)، أي: مِعيارٌ لسائرِ الكتبِ، وبه يُقاسُ صِحّة غيرِه.

المغرب: عايَرْتُ المكاييلَ والموازين: إذا قايسْتُها، والمعيارُ: الذي يُقاسُ به غيرُه ويُسوّى.

قولُه: (ما معنى قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ}؟ )، يعني: الظاهرُ أنّ قولَه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} عَطْفٌ

ص: 653

إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك، أى: حكمنا بتوريثه. أو قال: أورثناه، وهو يريد: نورثه؛ لما عليه أخبار الله. (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)؛ وهم أمّته من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على {أَوْحَيْنَا} ، و ((ثُمَّ)) يقتضي الترَّخيَ في الزمانِ، وأن يقال: ثم نورثُه بعدَك المُصْطَفيْن، فما معنى مجيءَ {أَوْرَثْنَا} ماضيًا؟

وأجاب بوجهَيْن:

أحدُهما: أنّ المرادَ: ثمَّ حكَمْنا بَعْدَك بتوريثه، أو وضَعَ الماضي موضِعَ المُستقبل، تنزيلاً لما هو الكائنُ بمنزلةِ الكائن.

وثانيهما: أنّ هذه الآيةَ مُتَّصلةٌ بما سبقَ من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وهو المرادُ من قوله: إنه قَدَّم إرسالَه في كلِّ أمة رسولاً، أي: قَدَّم اللهُ على إرسالهِ صلوات الله عليه إرسالَ الرسلِ في كلِّ أمةٍ، وعَقَّبه بما يُنبئُ أن تلك الأُممَ تفرَّقت حزبَيْن: حِزْبٌ كَذَّبوا الرسلَ وما أُنْزِلَ معهم، وإليه الإشارةُ بقولِه:{فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} ، وحِزْبٌ صَدَّقوهم وآمنوا وتلَوْا كتابَ وعَمِلوا بمُقتضاه وإليه الإشارةُ بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا} ، وعلى هذا الوجه يكون {أَوْرَثْنَا} ماضيًا يَجْري على ظاهره، والذي يدلّ على هذا التقسيمِ قولُ المصنِّف:((فأنثى على التالينَ لكُتبه، العاملينَ بشرائعِه، من بين المُكذِّبين بها من سائرِ الأمم)).

ولما فرغَ من ذلك جاءَ بما يختصُّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية مستطرَدًا معترضًا، ثم أخبر بعد ذلك إيراثَه هذا الكتاب الكريم، بهذه الآية بعد إعطاء تلك الأمم الزُّبُرَ والكتابَ المنير؛ فيكونُ ثمَّ للتراخي في الإخبار، وإليه الإشارةُ بقوله:((ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي: مِنْ بَعدِ أولئك المذكورين))، ويمكنُ أن يُحْمَل ((ثمَّ)) على التراخي في المرتبةِ أيضًا إيذانًا بفَضْلِ هذا الكتاب على سائرِ الكتبِ، وفضل هذه الأمة على سائر الأمم.

ص: 654

الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطًا؛ ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم: وهو المرجأ لأمر الله؛ ومقتصٍد: وهو الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا؛ وسابق من السابقين. والوجه الثاني: أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولًا، وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاءوهم بالبينات والزبر والكتاب المنير، ثم قال:(إنّ الذين يتلون كتاب الله)] فاطر: 29 [، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم، واعترض بقوله:(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ) ثم قال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) أى: من بعد أولئك المذكورين، يريد بالمصطفين من عباده: أهل الملة الحنيفية. فإن قلت: فكيف جعلت (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدلًا من (الفضل الكبير)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ظالم لنفسِه مُجْرِم)، الراغب: ظلمُ النفسِ في الحقيقة هو التقصيرُ في تهذيبِها وسياستِها المذكورة في قوله {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 10]، وذلك أنّ كلَّ إنسانٍ سائسُ نَفْسِه، فمَتى لم يُوفِّ حَقَّ السياسةِ فقد ظلمَها ظُلْمَ الوالي رَعيّتَه، وخوطبَ مَنْ أُعْطِيَ القوّةَ ومُكِّنَ من البلوغِ إلى الدرجاتِ الرفيعةِ فرضيَ لنفسِه بأدنى منزلة.

قولُه: (المُرجَأ لأمرِ الله)، النهاية: الإرجاء: التأخيرُ، مَهْموز.

وفي حديثِ توبةِ كَعب بنِ مالك: ((وأرجَأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا)): أخَّرَنا. قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106]، أي: مؤخَّرون حتى يُنْزِلَ الله فيهم ما يُريد.

قوله: (فكيف جعلت {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلاً من {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ})، يعني: لما كانت

ص: 655

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلاً من {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} ، وهو عبارةٌ عن السبق بالخيرات، فيلزَمُ أن يكونَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلاً من السبقِ بالخيرات، وليس بينهما مناسبةٌ ظاهراً ليُبْدَل منه.

وتلخيصُ الجواب: أنّ السبقَ بالخيراتِ لما كان سببًا لنيلِ الثوابِ حُمِلَ على نَفْسِ الثوابِ إقامةً للسببِ مُقامَ المُسبَّب، ثم أُبْدِلَ منه، ولعَمْري هذا بعيدٌ عن الذوق، متعسِّفٌ جدًّا، وما دعاهُ إليه إلا تصحيحُ مَذْهَبه، ونحن معاشرَ أهل السنَّة نجعلُ المشارَ إليه بقوله:{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} ما سبق من معنى الإيراث، كما في ((الوسيط))، ونجعلُ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} جملةً مستأنفة.

قال مُحيي السُّنة: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} يعني: إيراثَهم الكتابَ، ثم أخبرَ بثَوابهم فقال:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} يعني: الأصناف الثلاثة.

وقال أبو البقاء: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خبرُ مُبتدأٍ محذوف أو مبتدأ، والخبر {يَدْخُلُونَهَا} .

ويؤَيِّدُه ما رواهُ المصنِّفُ أنّه قُرِئَ: ((جَنّاتِ عَدْنٍ)) بالنصبِ على إضمارِ فعْلٍ يُفَسُرِّه الظاهرُ، أي: يدخلونَ جَنّاتِ عَدْنٍ يدخلونها، فنَتخَلَّصَ بهذا التأويلِ من هذا المضيقِ ويَسْلَمَ النظمُ السَّريُّ من الانفكاك، وهذا أولى مما ذهبَ إليه بوجوه:

أحدُها: أن سُنّة الله جاريةٌ في هذا الكتابِ المجيد أن يُقابلَ ذكْرَ المؤمنينَ بذكْرِ مُخالفيهم، ويقارِنَ ذكر الجنة بذكر النار.

ولما ذكر أوصافَ المؤمنينَ وما إليه مصيرُهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} وهلُمَّ جرًّا إلى قوله: {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} قابلَه بذكْرِ الكافرين وما

ص: 656

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إليه مصيرُهم في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} ، فلو جعلَ بعضَ أولئك من أهل النارِ لبطلَ التقابُل ولناقضَ تفسيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رواه الترمذيُّ عن أبي سعيدٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قال: ((هؤلاءِ كلّهم بمنزلة واحدةٍ وكلُّهم في الجنة)).

وثانيها: أنَّ قولَهم: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} لا يلتئمُ بما قبْلَه إذا جُعِلَ الشكورُ مقولاً للسابقِ بالخيراتِ والغفورٌ للظالمِ والمُقْتصِد، والعجَبُ أنه كيفَ بادرَ إلى لفظِ الشكورِ وقال: دلَّ الشكورُ على أنّ القومَ كثيروا الحسناتِ وتقاعَدَ عن لفظِ الغَفور في أنه دلَّ على أنّ القومَ كثيرو السيئات، وعن قولِ ابن عباس:((غفَرَ العظائمَ من ذنوبِهم، وشكرَ اليسيرَ من محاسنِ أعمالِهم))!

وما روى الإمام أحمد عن أبي الدرداءِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد ما ذكرَ تفسيرَ الفريقَيْن قال: ((وأما الذينَ ظلموا أنفُسَهم فأولئك الذي يُحْبَسون في طولِ المَحْشَر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، وفي ((المعالم)): نحوه.

وثالثها: وهل يليقُ ويَستقيمُ أن يمدحَ الله قومًا في أولِ كلامِه بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} - وقد قال المصنِّف: ((وهم أمَّةٌ من الصحابةِ والتابعينَ ومَنْ بعدَهم إلى يومِ القيامة، لأنّ الله تعالى اصطفاهُم على سائرِ الأُمم وجعلَهم أمةً وسطًا شُهداءَ على الناسِ واختَصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضَلِ رُسِل الله وحَمْلِ الكتابِ الذي هو أفضَلُ كُتبِ الله، ثم قَسَّمهم إلى ظالمٍ لنفسه)) إلى آخرِ ما قال فيهم- ثم يرجعُ إلى آخرِ كلامِه ويجعلُ أكثَرهم من الذين يُخَلَّدون في النار؟ ! قال صاحبُ ((الانتصاف)): قد صُدِّرَتِ القصّةُ

ص: 657

الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بـ (ذلك)؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب، نزل منزلة المسبب، كأنه هو الثواب؛ فأبدلت عنه (جنات عدن). وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليهلك الظالم لنفسه حذرًا، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغترا بما رواه عمر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» ؛ فإنّ شرط ذلك صحة التوبة؛ لقوله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بذكْرِ المصطفَيْن من عبادِ الله، ثم قَسَّمهم إلى الظالمِ والمقتصدِ والسابقِ فيلزَمُ اندراجُ الظالمِ الموَحِّدِ في المصطَفْين وإنّه لمنهم، وأيُّ نِعمةٍ أعظمُ من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدَع، فما بالُ الزمخشريّ يُطنبُ في التسوية بين الموحِّدِ المُصْطفى وبين الكافرِ المَخْزِيِّ. وقوله:{جَنَّاتِ عَدْنٍ} عائدٌ إلى المصطفَيْن عُمومًا، وإعرابُها مبتدأٌ، و {يَدْخُلُونَهَا} خَبرهُ، وقولهُ:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا} إلى آخرِ الآيةِ خَبَرٌ بعدَ خَبَر.

قولُه: (حَذَرًا) أي: فليَحذَرْ حَذَرًا أيَّ حَذَر، وليهلكَ من جِهةِ الحِذار، أو لأجلِه، أو حالَ كونِه حَذِرًا.

قولُه: (وعليهما بالتوبة النصوح)، عن بعضِهم: هو من قولِهم: نصحت الإبل الشُّرْبَ تنصَحُ نُصوحًا، أي: صدقتُها، وأنصَحْتُها أنا أروَيْتُها، ومنه التوبةُ النصوحُ، وهي الصادقة.

قولُه: (سابقُنا سابق)، الحديث رواه البيهقيُّ في ((البعث والنشور))، ومعنى:((سابقنا سابق)) أي: مَن زادت حسناته على سيئاته فهو الذي يدخلُ الجنة بغير حساب، و ((مقتصدنا ناجٍ)): أن من استوت حسناتُه وسيئاتُه فهو يحاسبُ حسابًا يسيرًا، ثم يدخل الجنة، و ((ظالمنا مغفورٌ له)): أن من أوْثقَ نَفْسَه بالذنوب، فهو إمّا أن تُدركه الشفاعةُ، أو يغفر الله تعالى له بفَضْله، أو يُعذّبه بقَدرِ ذَنْبِه ثم يخرجه ويدخله الجنة. روى البيهقيُّ عن جابرٍ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه حديثًا موقوفًا عليه هذا معناه.

ص: 658

تعالى: (عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)] التوبة: 102 [، وقوله: (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)] التوبة: 106 [، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر، ولم يعلل نفسه بالخدع. وقرئ:(سباق). ومعنى: (بِإِذْنِ الله): بتيسيره وتوفيقه. فإن قلت: لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. وقرئ:(جنة عدن) على الإفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين، و:(جنات عدن): بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر؛ أى يدخلون جنات عدن يدخلونها، و (يدخلونها) على البناء للمفعول، و (يحلون) من: حليت المرأة، فهي حال. (وَلُؤْلُؤاً) معطوفًا على محل (من أساور)، و (من)

داخلة للتبعيض، أى: يحلون بعض أساور من ذهب، كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض، كما سبق المسوّرون به غيرهم. وقيل: إنّ ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ. و (لولؤا) بتخفيف الهمزة الاولى. وقرى: (الحزن) والمراد: حزن المتقين، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة، كقوله تعالى:(إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم)] الطور: 26 - 27 [. وعن ابن عباس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (كأنه بعضٌ سابقٌ لسائرِ الأبعاض)، أي: في ذكْرِ البعضِ الدلالةُ على فَضَلِها وتفوقها على سائر الأبعاضِ كما سبقَ المُسَوَّرون به غيرَهم بهذا البعضِ من الأساورِ، ونحوهُ قوله تعالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]، وأريد به محمَّدٌ صلواتُ الله عليه، واللامُ في ((لسائرِ)) كاللام في:((أنا ضاربٌ لزيد)).

قولُه: (((ولولؤًا)) بتخفيفِ الهمزةِ الأولى)، في ((التيسير)): ترك أبو بكر وأبو عَمْروٍ -إذا خفف- الهمزة الأولى من ((لؤلؤًا))، وحَمزَة إذا وقفَ: سَهَّل الهمزتَيْن على أصلِه، وهشامٌ: يسهِّلُ الثانيةَ فيه في غيرِ النصبِ على أصلِه، والباقونَ يُحقِّقُونهما.

ص: 659

رضي الله عنهما: حزن الاعراض والآفات. وعنه: حزن الموت. وعن الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. وقيل: همّ المعاش. وقيل: حزن زوال النعم، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه: أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا، حتى هذا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم؛ وكأنى بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) ". وذكر الشكور دليل على أن القوم كثير والحسنات. (المقامة): بمعنى الإقامة، يقال: أقمت إقامة ومقامًا ومقامة. (مِنْ فَضْلِهِ): من عطائه وإفضاله؛ من قولهم: لفلاٍن فضول على قومه وفواضل، وليس من الفضل الذي هو التفضل؛ لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (يخرجونَ من قبورِهم وهم ينفضون الترابَ عن وجوهِهم ويقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ})، الحديث ما وجدته في الأصول، غير أنه غيرُ موافقٍ لظاهر الآية؛ لأنَّ السابقَ جنات عدن يدخلونها، واللاحق الذي أحلنا دار المقامة صريح في أن مثل هذا القول صادر عنهم في الجنة.

قولُه: ({الْمُقَامَةِ} بمعنى الإقامة)، عن بعضِهم: دار المُقامةِ مفعولٌ ثانٍ لـ {أَحَلَّنَا} ، وليسَت بظَرْفٍ لأنها محدودة، {وَلَا يَمَسُّنَا} حالٌ من المفعولِ الأول.

قولُه: ({مِنْ فَضْلِهِ}: من عطائِه وإفْضاله)، الإفضالُ: الإحسانُ. أفضَلَ عليه وتفَضَّل: بمَعنى، وأفضَلَ منه فَضْلةً.

قولُه: (وليسَ من الفضلِ الذي هو التفضُّل)، وعند أهلِ السنّة مِنْ تَفضُّلهِ وكَرمه. قال الزجاج والواحدي: ذلك بتفضّلهِ لا بأعمالِنا، وفي ((المطْلع)): لا باستحقاقِنا. لأن العملَ

ص: 660

والتفضل كالتبرع. وقرئ: (لغوب) بالفتح؛ وهو اسم ما يلغب منه، أى: لا نتكلف عملًا يلغبنا، أو مصدر كالقبول والولوغ، أو صفة للمصدر، كأنه لغوب لغوب، كقولك: موت مائت. فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت: النصب: التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له، وأما اللغوب: فما يلحقه من الفتور بسبب النصب، فالنصب: نفس المشقة والكلفة، واللغوب: نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معناه زائلٌ، ثوابُ الجنةِ دائم لا يزولُ، ولعلّ المصنِّفَ لما خَصَّ قوله:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} إلى آخره بالسابقِ دونَ الظالمِ والمُقتصِدِ ذهبَ إلى هذا المعنى.

قولهُ: (وقُرِئَ: ((لَغوب)) بالفتح)، قالَ ابنُ جنِّي: وهي قراءةُ عليٍّ رضي الله عنه والسُّلَميِّ، وفيه وجهان: إن شئْتَ حَمَلْتَه على ما جاء من المصادر على الفَعولِ، نَحْو: الوَضوء والوَلوع والوَقود، وإن شئْتَ جعلتَه صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: لا يَمسُّنا فيها لُغوبُ لَغوبٍ، على قولِهم: شِعْرُ شاعرٍ ومَوْتُ مائتٍ، كأنه وصَفَ اللُّغوبَ بأنه قد لَغِبَ، أي: أعيي وتَعِب.

وعليه قولُهم: جُنَّ جنونُه، وخرَجَتْ خَوارجُه، وعلى هذا حملَ أبو بكرٍ قولَهم: توضأت وَضوءًا، أي: وُضوءًا وَضوءًا.

وحكى أو زيد: رجلٌ ساكوتٌ بيِّن الساكوتة، فلما قرأتُ هذا على أبي عليٍّ حمله على قياس قول أبي بكر، فقال: تقديرُه بَيِّن السكتةِ الساكوتةِ، فجَعل الساكوتةَ صفةَ مصدرٍ محذوف، وحَسَّنَ ذلك عندي أنه من لفظِه.

قولُه: (واللُّغوب: نتيجتُه)، أجابَ عن الفَرْقِ ولم يُبيِّنِ الأسلوبَ بأنه مِن أيِّ قَبيلٍ هو، ولأيِّ فائدةٍ تكرارُ ((المسّ)

أما الأسلوبُ فمن باب قولِه:

لا ترى الضَّبَّ بها يَنجَحِر

ص: 661

[(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)] 36 - 37 [

(فَيَمُوتُوا) جواب النفي، ونصبه بإضمار "أن". وقرئ:(فيموتون) عطفًا على (يقضى)، وإدخالًا له في حكم النفي، أى: لا يقضى عليهم الموت فلا يموتون، كقوله:(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)] المرسلات: 36 [. (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء (يجزى)، وقرئ:(يجازى)، و (نجزى كُلَّ كَفُورٍ) بالنون. (يَصْطَرِخُونَ): يتصارخون: يفتعلون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقولِه:

على لاحِبٍ لا يُهتَدى بمَنارِهِ

أي: لا ضَبَّ ولا انجِحار، ولا مَنارَ ولا اهتِداء، ولا نَصَبَ ولا لُغوب. والمُرادُ نفيُ النَّصَب، وإنما ضمَّ إليه نتيجتَه ليُؤذِنَ بأنّ انتِفاءَ السَّبَبِ أمرٌ مُحقَّقٌ لا نِزاعَ فيه، وبلغَ في تحقُّقِه إلى أنْ صارَ كالشاهدِ على نفي المُسبَّب، وهو اللُّغوب.

وتكريرُ ((المسّ)) للترديدِ وتعليقِ كُلِّ مرّةٍ ما لم تُعلَّقْ به أولاً، كقولِ الشاعر:

لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرّاءُ

قولُه: ({فَيَمُوتُوا} جوابُ النفي)، {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم} في محلِّ فاعل {يُخَفَّفُ} ، و {مِّنْ عَذَابِهَا} في موضع نصب، ويجوز العكس.

قولُه: (وقُرِئَ ((يُجازي)) و ((يُجْزي)) و {نَجْزِي} )، بالنون: كلّهم إلا أبا عمروٍ، فإنه قرأ بالياءِ مَضمومةً وفتَحَ الزاي)).

ص: 662

من الصراخ؛ وهو الصياح بجهد وشدّة. قال:

كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها

واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته.

فإن قلت: هلا اكتفى بـ (صالحا) كما اكتفى به في قوله تعالى: (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] السجدة: 12 [؟ وما فائدة زيادة (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) على أنه يوهم أنهم يعملون صالحًا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت: فائدة زيادتها التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به. وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي؛ ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرةٍ صالحة، كما قال الله تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)] الكهف: 104 [، فقالوا: أخرجنا نعمل صالحًا غير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (كصَرْخَة حُبْلى)، أوَّلُه:

قصدْتُ إلى عَنْسي لأجدَحَ رَحْلَها

وقد حانَ من تلك الدِّيارِ رَحيلُها

فأنَّتْ كما أنَّ الأسيرُ وصَرَّخَتْ

كصَرْخةِ حُبْلى أسلمَتْها قَبيلها

أسلمَتْها: خذَلَتْها، مِن قولهم: أسلَمَه، أي: خذَلَه. والقبيلُ: القابلة، وقيل: كلُّ جيلٍ من إنسٍ وجنٍّ قَبيل.

قولُه: (ولأنهم كانوا يَحسَبون)، تسليمٌ للاعتراضِ بعد الاعتذارِ منه، أي: يجوزُ اعتبارُ أنَّهم يعملون صالحًا آخرَ بناءً على زَعْمِهم؛ لأنهم كانوا يُحْسِنون صُنعًا، فعلى الأول: الصفةُ مؤكِّدة، وعلى الثاني: مميِّزة.

قال أبو البقاء: {صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي} يجوز أن يكونَ صفتَيْن لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٍ محذوف، ويجوزُ أن يكونَ {صَالِحًا} نعتًا للمصدرِ و {غَيْرَ الَّذِي} مفعولاً.

ص: 663

الذي كنا نحسبه صالحًا فنعمله. (أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ) توبيخ من الله، يعنى: فنقول لهم. وقرئ: (ما يذكر فيه من أذكر) على الإدغام، وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر؛ إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة". وعن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستين. وقيل: ثماني عشرة وسبع عشرة. و (النَّذِيرُ): الرسول. وقيل: الشيب. وقرئ: (وجاءتكم النذر). فإن قلت: علام عطف (وجاءكم النذير)؟

قلت: على معنى: (أو لم نعمركم)؛ لأن لفظه لفظ استخبار. ومعناه معنى إخبار، كأنه قيل: قد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم} توبيخٌ من الله)، يعني: فنقولُ لهم، أي: يقولُ الله لهم ذلك موبِّخًا. قالَ الزجاج: معناه: أو لم نُعَمِّرْكم العُمرَ الذي يتذكَّر فيه مَنْ تذكَّر.

وقال ابن الحاجب: {مَّا} لا يستقيمُ أن تكونَ نافيةً من حيثُ اللفظ ومن حيث المعنى. وأما اللفظُ فلأنها يجبُ قَطْعُها عن {نُعَمِّرْكُم} ، لأنه لا يجوزُ أن يكونَ النفيُ من معمولهِ، وأيضًا فإنَّ الضمير في {فِيهِ} يرجع إلى غير مذكور. وأما المعنى: فلأن قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم} إنما سيق لإثباتِ التعميرِ وتوبيخِهم على تركِهم التذكيرَ فيه، فإذا جُعِلَ نفيًا كان فيه إخبارٌ عن نفيِ تذكُّرِ متذكِّر فيه فظاهرُه على ذلك نَفْيُ التعمير؛ لأنه إذا كان زمانًا لا يتذكَّرُ فيه متذكِّرٌ لزِمَ أن لا يكون تعميرًا وهو خلافُ قولِه:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم} .

قولُه: (العُمْرُ الذي أعذرَ الله فيه) الحديثُ من رواية البخاري عن أبي هريرة قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعذَرَ الله إلى امرئٍ أخّر أجلَه حتى بلغ ستين سنة)).

النهاية: أي: لم يُبْقِ فيه موضعًا للعتذارِ حيث أمهَلَه طولَ هذه المدةِ ولم يَعْتَذر. يقال: أعذَرَ الرجلُ؛ إذا بلغ أقصى الغايةِ في العُذْر.

ص: 664

عمرناكم وجاءكم النذير.

(إِنَّ الله عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)] 38 [

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كالتعليل؛ لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون؛ فقد علم كل غيٍب في العالم. وذات الصدور: مضمراتها، وهي تأنيث "ذو" في نحو قول أبى بكر رضى الله عنه: ذو بطن] بنت [خارجة جارية. وقوله:

لتغنى عنّى ذا إنائك أجمعا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (ذو بَطْنِ [بنت] خارجة)، قيل: خارجة: جاريةُ امرأةٍ من بَجيلةَ ولدَتْ كثيرًا من قبائلِ العرب. أي: جَنينُها جارية.

المغرب: ذو بَطْنِ بنتِ خارجة جارية؛ أي: جَنينُها، وألقت الدجاجة ذا بَطْنِها.

قولُه: (لتُغْنيَ عني ذا إنائك أجْمعا)، أوله:

إذا قالَ قَدْني قُلْتُ بالله حِلْفة

قدْني وقَطْني؛ أي: حَسْبي. حِلْفةً: نصْبٌ مَصْدَرٌ للفعلِ المحذوف الذي يتعلَّق به الباءُ في ((بالله))، واللامُ في ((لتُغْنيَ)) للقسَم وأصله:((لتُغْنينْ)) بالنون الخفيفة المؤكّدة، فلما حُذفَت بَقِيت الياءُ مفتوحةً على ما كانت عليه قبل الحذفِ لثبوتِ النونِ الخفيفة في النية.

((لِتُغْني عني)) أي: بَعِّدْ عني وتَنَحَّ جميعَ ما في إنائك، ولا تُعِدْهُ إليَّ بل اشرَبْ، والعرب تقول: اغنِ عَنّي وَجْهَك، أي: بَعِّدْه، وإنما أضافَ الإناءَ إلى المخاطَبِ وليس الإناء له وإنما هو للمتكلِّم؛ لِما بينَ المخاطَبِ وبينَ الإناءِ مُلابَسة، تقول لما نزل الضيفُ بالمُضيف: أكرم مثواه، وبالغ في سَقْيه، فقال الضيفُ للمضيفِ وهو يسقيه ما في الإناء: حَسْبي ما شربتُه، فقال له الساقي: أُقْسِمُ بالله لتشربَنَّ جميعَ ما في إنائِك من اللبن. قال المصنِّف: فَرْقٌ

ص: 665

المعنى: ما في بطنها من الحبل، وما في إنائك من الشراب؛ لأن الحبل والشراب يصحبان البطن والإناء. ألا ترى إلى قولهم: معها حبل؟ وكذلك المضمرات تصحب الصدور، وهي: معها، وذو: موضوع لمعنى الصحبة.

[(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً)] 39 [

يقال للمستخلف: خليفة وخليف؛ فالخليفة يجمع: خلائف، والخليف: خلفاء، والمعنى: أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها؛ لتشكروه بالتوحيد والطاعة، (فَمَنْ كَفَر) منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية، فوبال كفره راجع عليه؛ وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزى وصغار، وخسار الآخرة الذي ما بعده خسار. والمقت: أشدّ البغض، ومنه قيل لمن ينكح امرأة أبيه: مقتى؛ لكونه ممقوتًا في كل قلب. وهو خطاب للناس، وقيل: خطاب لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: جعلكم أمّة خلفت من قبلها، ورأت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بين قولك: رجلٌ ذو إناءٍ وقولِك: اشرَبْ ذا إنائك، وذلك أنك وصفْتَ الرجلَ بأنه صاحبُ إناءٍ ومالكُه وليس كالآخر لا إناءَ له، وأردْتَ بالثاني: أنه في الإناءِ فإضافتُه كإضافةِ اشرَبْ شرابَ إنائك. أي: اشرَبْ جميعَ ما في الإناء.

قولُه: (خلفاءَه في أرضِه)، الراغب: خلفَ فلانٌ فلانًا: قامَ بالأمرِ إما بَعْدَه وإما معَه، والخلافة: النيابةُ عن الغيرِ إمّا لغيبةِ المنوبِ عنه، وإما لموتِه، وإما لعَجْزه، وإما لتشريفِ المُسْتخلَف، وعلى الوجهِ الأخيرِ استخلف الله تعالى عباده في الأرض قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} .

وقلت: وإلى هذا المعنى نظرَ المصنِّفُ حيث قال: ((وغَمَطَ مثْلَ هذه النعمةِ السَّنية)).

ص: 666

وشاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن تعتبر به، فمن كفر منكم فعليه جزاء كفره من مقت الله وخسار الآخرة، كما أنّ ذلك حكم من قبلكم.

[(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً)] 40 [

(أَرُونِي) بدل من (أرأيتم)؛ لأنّ معنى (أرأيتم): أخبرونى، كأنه قال: أخبرونى عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإلهية والشركة، أرونى أى جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله، أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب؟ أو يكون الضمير في (آتَيْناهُمْ) للمشركين، كقوله:(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً)] الروم: 35 [. (أم آتيناهم كتابا) من قبله. (بل إن يعد) بعضهم؛ وهم الرؤساء (بَعْضاً)؛ وهم الأتباع (إِلَّا غُرُوراً)؛ وهو قولهم: (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ الله)] يونس: 18 [. وقرئ: (بينات).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (أيَّ جزءٍ من أجزاءِ الأرضِ استبدُّوا بخَلْقِه دون الله)، إنما فَسَّر {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} بهذا، وجعل ((ما)) استفهامية ليتنزّل إلى قولِه:{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} ثم إلى قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} ، لأنّ ((أم)) مُنقطعةٌ متضمِّنةٌ للهمزة، و ((بل)) تقتضي التدرُّج، كأنه قيل: أخبروني الذين تَدْعونَ من دون الله هل استبدّوا بخلقِ شيءٍ حتى يكونوا مَعْبودينَ مثْلَ الله، ثم نزلَ منه إلى: ألَهُمْ شَرِكةٌ في الخَلْق؟ ثم نزلَ منه إلى: أم معَهم بَيِّنةٌ وحُجّةٌ مكتوبةٌ بالشرِكة؟ وإذا جُعلَ الضميرُ في {آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} للمشركين لا للأصنام، فيكونُ التدرجُ من دليلِ العقل إلى دليل النقل.

قولُه: (وقُرِئَ: ((بَيَّناتٍ)))، نافعٌ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ والكِسائيّ: بالجمع، والباقون: بغيرِ ألفٍ على التوحيد.

ص: 667

[(إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)] 41 [

(أَنْ تَزُولا): كراهة أن تزولا، أو: يمنعهما من أن تزولا؛ لأن الإمساك منع. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكهما، وكانتا جديرتين بأن يهدّا هدّا؛ لعظم كلمة الشرك، كما قال:(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ)] مريم: 90 [. وقرئ: (ولو زالتا). وإن أمسكهما: جواب القسم في (وَلَئِنْ زالَتا) سدّ مسدّ الجوابين، و (من) الأولى مزيدة لتأكيد النفي، والثانية: للابتداء. و (من بعده): من بعد إمساكه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه قال لرجٍل مقبٍل من الشام: من لقيت به؟ قال: كعبًا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إنّ السماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب! أما ترك يهوديته بعد؟ ! ثم قرأ هذه الآية.

[(وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً (43) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً)] 42 - 44 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (غَيْرَ مُعاجلٍ بالعُقوبةِ حيثُ يُمْسِكُهما)، قالَ الزجاج: سأل بعضُهم: لم كانَ في هذا الموضع ذِكْرُ الحلم والمغفرة والمقام يدل على القدرة؟ والجوابُ: أنه تعالى لما أمسكَ السماواتِ والأرضَ عند قولهم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88]، حَلُمَ فلم يُعَجِّل لهم بالعقوبة، وكان مِن حَقِّ السماوات والأرضِ أن تَزولا مِن عَظيمِ فِرْيَتِهم.

ص: 668

بلغ قريشًا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسوٌل لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه. وفي (إِحْدَى الْأُمَمِ) وجهان؛ أحدهما: من بعض الأمم، ومن واحدةٍ من الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم. والثاني: من الأمّة التي يقال لها إحدى الأمم؛ تفضيلًا لها على غيرها في الهدى والاستقامة. (ما زادَهُمْ) إسناد مجازى؛ لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفورًا عن الحق وابتعادًا عنه، كقوله:(فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)] التوبة: 125 [. (اسْتِكْباراً) بدل من (نفورا)، أو مفعول له، على معنى: فما زادهم إلا أن نفروا استكبارًا وعلوًّا فِي الْأَرْضِ، أو حال بمعنى: مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ويجوز أن يكون (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) معطوفًا على نفورًا فإن قلت: فما وجه قوله: (وَمَكْرَ السَّيِّئِ)؟ قلت: أصله: وأن مكروا السيئ، أى المكر السيئ، ثم ومكرا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: (من الأمةِ التي يقال لها إحدى الأمم)، هذا كما يقال: واحدُ القومِ وأوحَدُ العصر، أي: أفضَلُهم.

الأساس: وهو واحدُ قومِه وأوحَدُهُم، وهو واحدُ أُمّه، وفلانٌ وَحدٌ وَوحيدٌ، واستوحَدَ: انفرد، وأوحَدَ الله فلانًا: جَعَله بلا نَظير، وعن بعضِهم: تقولُ العربُ للداهيةِ العظيمة: هي إحدى الإحَد، وإحدى من سبع، أي: إحدى ليالي عادٍ في الشدَّة.

قولُه: (أصلُه: وأن مكَروا السيّء، أي: المَكْرَ السيء)، قالَ مَكّي: هو من إضافةِ الموصوفِ إلى الصفةِ تقديرُه: ومكَروا المكْرَ السيءَ، ودليلُه قولُه بعد ذلك:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فـ ((مَكْرَ السَّيِّئ)) انتصبَ على المصدرِ ثم أُضيفَ إلى نَعْتِه اتساعًا، كصلاةِ الأولى ومسجد الجامع. وفي ((التيسير)): نحوهُ إضافة الحق إلى اليقين، ووصفه بالسيء؛ لأنه كانَ

ص: 669

السيئ، ثم ومكر السيئ. والدليل عليه: قوله: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). ومعنى (يحيق): يحيط وينزل. وقرئ: (ولا يحيق المكر السيئ) أى: لا يحيق الله، ولقد حاق بهم يوم بدر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً؛ فإنّ الله تعالى يقول: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)، ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا، يقول الله تعالى:(إنما بغيكم على أنفسكم)] يونس: 23 [». وعن كعب: أنه قال لابن عباس رضى الله عنهما: قرأت في التوراة: من حفر مغواةً وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله، وقرأ الآية. وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جبًا، وقع فيه منكبًا. وقرأ حمزة:(ومكر السيئ) بإسكان الهمزة؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للصدِّ عن الحق، وقد يكون المكرُ حَسنًا إذا كان احتيالاً للدعاء، ومنه قوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].

قولُه: (مُغَوّاة)، الجوهري: المُغوَّياتُ بفَتْح الواو مُشَدَّدة جَمْعُ المُغَوّاة، وهي: حُفْرة كالزُّبْيةِ بالزاي المضمومةِ، يقال: مَنْ حَفر مُغَوّاةً وقع فيها. وفي ((المستقصى)): يُضرَبُ لمن أرادَ بصاحبهِ مكرًا فحاقَ به.

قولُه: (وقرأَ حَمْزة: ((ومَكْرَ السِّيْئ))، بإسكانِ الهمزةِ)، في ((التيسير)): قرأها حمزةُ في الوصلِ لتوالي الحركات تخفيفًا، كما سكَّن أبو عمروٍ والهمزةَ في {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] لذلك، وإذا وقَف أبدَلها ياءً ساكنة، والباقون: بخَفْضِها في الوصلِ، ويجوزُ روْمُها وإسكانُها في الوقف.

وفي ((المطْلع)): قال أبو جعفر النحاس: وقفَ عليه حمزةُ، وهو وَقْفٌ تامّ، فظنّ الراوي أنه وَصْلٌ لخفة الوقفة.

ص: 670

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الزجاج: وقرأ حمزة: ((ومَكْرَ السّيِّئ)) موقوفًا، وهذا عند النحويين لَحْن، وإنما يجوز في اضطرارِ الشعر، وأنشدوا:

إذا اعوجَجْنَ قلتُ: صاحِ قَوِّمِ

أي: يا صاحب، والأصلُ: يا صاحبُ قَوِّم، لكنه حذفَ مَضطرًّا، وكان الضم بعد الكَسر، والكسر بعْدَ الكسر مستثقلاً، وأنشَدوا:

فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتحقِبٍ

إثْمًا من الله ولا واغِلِ

وهذان البيتان قد أنشدَهما جميعُ النحويينَ الحذّاق، وزعموا كلهم أن هذا من الاضطرار لا يجوز مثله في كتاب الله تعالى، وأنشدَهما محمدُ بن يزيد:

إذا اعوجَجْن قُلْتُ: صاحِ قَوِّمِ

وهذا جيد بالغ، وأنشدنا:

فاليومَ فاشْرَبْ غيرَ مستحقِب

وأما ما يُروى عن أبي عمروٍ بن العلاء: ((إلى بارِئْكم)) [البقرة: 54]، فإنّما هو أن يختلسَ الكَسْر اختلاسًا ولا يَجْزِم، وراويه غيرُ ضابطٍ ضَبْطَ سيبَويْهِ والخليل. ورواهُ سيبويهِ باختلاسِ الكَسْر، كأنه يقلل صوتَه عند الكسر.

ص: 671

وذلك لاستثقاله الحركات مع الياء والهمزة، ولعله اختلس فظنّ سكونًا، أو وقف وقفةً خفيفة، ثم ابتدأ (وَلا يَحِيقُ). وقرأ ابن مسعود:(ومكرا سيئا). (سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ): إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم، وجعل استقبالهم لذلك انتظارًا له منهم، وبين أنّ عادته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها ولا يحولها، أى: لا يغيرها؛ وأنّ ذلك مفعول له لا محالة، واستشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسائرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم. (لِيُعْجِزَهُ): ليسبقه ويفوته.

[(وَلَوْ يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)] 45 [

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقالَ أبو عليّ: هو على إجراءِ الوصلِ مُجرى الوقفِ كما حكى سيبويه من قولهِ: ثَلَثْهُم.

وقيل: يحتملُ أنه خَفَّف آخرَ الاسمِ لاجتماعِ الكسرتين والياءَيْن، كما خفَّفوا الباءَ من ((إبل))؛ لتوالي الكسرتين، ونُزِّلَ حركةُ الإعرابِ بمنزلةِ غيرِ حركةِ الإعراب.

قولُه: (ومكرًا سَيِّئًا)، قالَ ابنُ جنِّي: يشهد لتنكيره تنكير ما قبله وهو {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} ، وقراءةُ العامّة أقوى معنى لتعريفِه، كأنه قال: المكرَ السَّيئ مُستنكَرٌ في النفوس، مفعولٌ له لا محالة، أي: لله تعالى أن يفعَله.

قولُه: (وجعل استقبالَهم لذلك انتظارًا له منهم)، اللام متعلِّقٌ بـ ((انتظارِ)) أي: أُريدَ أن يقال: فهل يَسْتقبلونَ إلا ما فَعلنا بما مضى من الأمم الماضيةِ من الدمارِ، وقيل: فهل ينتظرونَ، حُلولَ ميعادِه؟

قولهُ: (أي: لا يُغيِّرها)، معنى التبديلِ والتحويل. وقولُه:((وأنَّ ذلك مفعولٌ له)) أي: لله تعالى، عَطْفٌ تفسيريٌّ، فَسَّر معنى ((لن)) وتكريرَه وما يَتَّصِلُ بهما.

ص: 672

(بِما كَسَبُوا): بما اقترفوا من معاصيهم. (عَلى ظَهْرِها): على ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ): من نسمة تدب عليها، يريد بنى آدم. وقيل: ما ترك بنى آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم ذنوبهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم تلا هذه الآية. وعن أنس:

إن الضب ليموت هزلًا في جحره بذنب ابن آدم. وقيل: يحبس المطر فيهلك كل شيء. (إِلى أَجَلٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: ({عَلَى ظَهْرِهَا} على ظهر الأرض)، قد جرى ذكْرُ الأرض فيما قبل هذه الآية، يَليها قولُه:{لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} فلذلك جاءَ {عَلَى ظَهْرِهَا} . قالَ مَكِّي في قولِه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} : العاملُ في ((إذا)) هو {جَاءَ} لأن ((إذا)) فيها معنى الجزاء، والأسماءُ التي يُجازي بها يعملُ فيها ما بعْدَها، تقول: مَنْ أُكْرِمْ يُكْرِمْني، فأُكْرِم هو العاملُ في ((مَنْ)) بلا خلاف فأشبهَتْ إذن حروفَ الشرطِ لما فيها من معناه فعمِلَ فيها ما بعدها، وكان حقُّها أن لا يعملَ فيها، لأنها مُضافةٌ إلى ما بعْدَها من الجملِ والمضافُ إليه لا يعملُ في المضافِ لأنه مِن تَمامِه وفيه خلاف. والحقُّ أن الموضعَ الذي يُجازي بها يمكنُ أن يعمَلَ فيها الفعلُ الذي يليها، والموضعُ الذي لا يُجازي بها لا يحسُنُ أن يعمَل بها.

قولُه: (إنّ الضّبَّ ليموتُ هَزْلاً في جُحْرِه بذَنْب ابنِ آدم)، النهاية: أي: يحتبسُ عنه المطرُ بشُؤم ذنوبهم، وإنما خَصَّ الضبّ، لأنه أطولُ الحيوانِ نَفْسًا، وأصبَرُها على الجوع.

ورُوِيَ: ((الحُبارى)) بدَلَ ((الضبِّ)) لأنها أبعَدُ الطير نُجْعةً.

ص: 673

مُسَمًّى): إلى يوم القيامة. (كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) وعيد بالجزاء.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة: أن أدخل من أى باب شئت» .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هَزُلَتِ الدّابةُ هُزالاً، وأهْزَلْتُها أنا هَزْلاً، وأهزَلَ القوم: إذا أصابَت مواشيَهم السنة، فَهَزُلَتْ، أي: ضعُفَتْ، والهَزْلُ ضدّ السِّمَن.

تَمَّتِ السورةُ بحَمْدِ الله

ص: 674