المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب وهو حاشية الطيبي على - فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) - جـ ١٣

[الطيبي]

فهرس الكتاب

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب

وهو حاشية الطيبي على الكشاف

للإمام شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي

المتوفى سنة 743 هـ رحمه الله تعالى

الجزء الثالث عشر

تفسير السور من يس إلى نهاية فصلت

ص: 4

‌سورة يس

مكية، وهي ثلاث وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{يس * والْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1 - 7]

قرئ: (ياسين) بالفتح، كـ"أين" و"كيف"، أو بالنصب على: اتلُ ياسين؛ وبالكسر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة يس

مكية وهي ثلاث وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ("ياسين" بالفتح كـ"أين")، والمشهورة "ياسين" مبني على السكون، أبو بكر وحمزة والكسائي: بإمالة فتحة الياء، والباقون: بإخلاص فتحها.

وقال ابن جني: فتح النون قراءة ابن أبي إسحاق [بخلاف] والثقفي، وبكسر النون أبو السمال، وبالرفع هارون. أما الفتح والكسر فكلاهما لالتقاء الساكنين وذلك

ص: 5

على الأصل، كـ"جير"، وبالرفع على: هذه ياسين، أو بالضم كـ"حيث". وفخمت الألف وأميلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: يا إنسان في لغة طيء. والله أعلم بصحته. وإن صح فوجهه أن يكون أصله: يا أنيسين، فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: مُ الله، في: ايمن الله. {الحَكِيمِ} : ذي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنه بنى الكلام على الإدراج، لا على وقف حروف المعجم؛ فحرك لذلك، ومن فتح هرب إلى خفة الفتحة لأجل ثقل الياء قبلها والكسرة، ومن كسر جاء به على أصل حركة التقاء الساكنين. وهو نظير جير وهيت لك وإيه وسيبويه وعمرويه وبابهما. ومن ضم احتمل أمرين: أحدهما لالتقاء الساكنين كـ"جير" و"هيت لك"، وفي الآخر: ما عندي فيه وهو: يا إنسان؛ لكنه اكتفى منه بالسين وحذف الفاء والعين وجعل السين اسمًا قائمًا بذاته، فـ"يا" فيه حرف نداء، ونظيره ما جاء في الحديث:"كفى بالسيف شا" أي: شاهدًا، فحذف العين واللام. ويؤيده ما ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إليه في "حمعسق" ونحوه أنها حروف من جملة أسماء الله تعالى، وهي: رحيم وعليم وسميع وقدير ونحو ذلك.

قوله: (كـ"جير")، الجوهري: جير، بكسر الراء: يمين العرب، ومعناه: حقا، وقال: وايمن الله: اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون وألفه ألف وصل، وربما حذفوا منه النون فقالوا: أيم الله، وربما حذفوا الياء وقالوا: أم الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة وقالوا: م الله.

ص: 6

الحكمة، أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي، أو لأنه كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به. {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر، أو صلة لـ {المُرْسَلِينَ}. فإن قلت: أي حاجة إليه خبرًا كان أو صلةً، وقد علم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت: ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته، وإنما الغرض وصفه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي) أي: نسب الحكيم إلى ضمير القرآن، وجعل القرآن على سبيل الاستعارة المكنية كالشخص الناطق بالحكمة، والقرينة نسبة الحكيم إليه، أو أسند الحكمة إليه إسنادًا مجازيا؛ لأنه صدر من الحكيم، وإليه الإشارة بقوله:"فوصف بصفة المتكلم به".

قوله: ({عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر أو صلة لـ {المُرْسَلِينَ})، روى صاحب "المرشد" عن الزجاج أنه قال: الأحسن في العربية أن يكون {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبرًا ثانيًا، والمعنى: إنك لمن المرسلين، إنك على صراط مستقيم، ويجوز أن يكون {عَلَى صِرَاطٍ} من صلة {المُرْسَلِينَ} ، أي: المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة، وقال القاضي: يجوز أن يكون حالًا من المستكن في الجار والمجرور، وفائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحًا وإن دل عليه:{لَمِنَ المُرْسَلِينَ} التزامًا.

قوله: (ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره) إلى قوله: (وإنما الغرض وصفه) إلى آخره، وقال صاحب "الفرائد": لم يحصل مما ذكر جواب السؤال من الأول، وأما الثاني فهو قوله: فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه كنهه، فمنظور فيه، لأن الصراط

ص: 7

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المستقيم واحد؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7].

والجواب أن يقال: هذه الآية لرد قول الكفار، لأنهم كانوا يقولون: لست مرسلًا، وإنك تركت الطريق المستقيم، ألا ترى إلى قوله:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، فلا بد في الجواب من ذكرهما، وما ذكر أنه على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه، مسلم إلا أنه واحد ولا يلزم منه أن يكون الصراط المستقيم متعددًا.

وقلت: من لم يقف على الأساليب كلها، ولم يستوعب معرفة أفانينهم بأسرها لا بد أن يحصل على شيء في أمثال هذين الجوابين: أما الجواب الأول، فنحوه قول صاحب "المفتاح": وإما لأن كونه، أي: المسند إليه متصفًا بالخبر [يكون] هو المطلوب لا نفس الخبر، كما إذا قيل لك: كيف الزاهد؟ قلت: الزاهد يشرب ويطرب. وأورد صاحب "الإيضاح" أن قوله: "لا نفس الخبر" يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر وهو باطل، لأن نفس الخبر تصور لا تصديق، والمطلوب بها إنما أن يكون تصديقًا وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقًا فغير صحيح أيضًا.

وأجيب: بأن مضامين الجمل مشتملة على أمرين: الإخبار عن الوقوع، وعن اتصال المسند إليه بالمسند وقد يقصد أحدهما قصدًا أوليًا، ويكون الآخر تبعًا له. قال الإمام في "النهاية": وقد يتصور في الفعل أن يكون المراد به وقوعه من الفاعل، وأن يكون مجرد اتصافه به. تم كلامه. وههنا ليس الغرض في إيقاع "عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" خبرًا أو صلةً

ص: 8

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجرد الإخبار، وإنما الغرض أنه صلوات الله عليه وسلامه مستقر فيه ثابت عليه، وأنه جادته بل هو عادته.

وقال المصنف في قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]: "وإذا كان الكلام منصبًا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوض مطرح".

وأما الجواب عن الثاني فعلى التجريد. قال ابن جني - في قراءة الحسن: "اهدنا صراطًا مستقيمًا"-: أراد -والله أعلم- التذلل لله تعالى وإظهار الطاعة له، أي: قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: "صراطٌ مستقيم"، ولسنا نريد المبالغة في قول من قال:"اهدنا الصراطَ المستقيم" أي: الصراط الذي قد شاعت استقامته وتعولمت في ذلك طريقته، فإن قليل هدايتك لنا زاكٍ؛ وزاد في حسن التنكير ما دخله من المعنى، وهو أدم هدايتك لنا فإنك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم، فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقين منه رجلًا متناهيًا في الخير، ورسولًا جامعًا لسبل الخير، فقد آل إلى معنى التجريد، وأنشد أبو علي:

أفاءت بنو مروان ظلمًا دماءنا

وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل

والله تعالى أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكمًا عدلًا، فأخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وعليه قوله عز اسمه:{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 68]. وإليه ينظر قول "المصنف": "على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه" كأنه جعل الصراط المستقيم الصرط كلها، ثم جرد منها صراط مستقيم وهو هي، والله أعلم.

ص: 9

ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت، وأيضًا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه. وقرئ:(تنزيلُ العزيز الرحيم) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على: أعني، وبالجر على البدل من {الْقُرْآنِ}. {قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ}: قومًا غير منذر آباؤهم على الوصف، ونحوه قوله:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]، {وَمَا أَرْسَلْنَا الَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44]، وقد فسر {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} على إثبات الإنذار. ووجه ذلك: أن تجعل {مَا} مصدرية: لتنذر قومًا إنذار آبائهم، أو موصولةً منصوبةً على المفعول الثاني: لتنذر قومًا ما أنذره آباؤهم من العذاب، كقوله تعالى:{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40]. فإن قلت: أي فرق بين تعلقي قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} على التفسيرين؟ قلت: هو على الأول متعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، وعلى الثاني: بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل، أو: فهو غافل. فإن قلت: كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الآي الأخر؟ قلت: لا مناقضة؛ لأن الآي في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "تنزيل") قرأ حفص وابن عامر وحمزة والكسائي: بالنصب، والباقون: بالرفع. قال أبو البقاء: "تنزيل العزيز" أي: هو تنزيل، والمصدر بمعنى المفعول، أي: منزل العزيز، ويقرأ بالنصب على أنه مصدر، أي: نزل تنزيلًا، وبالجر أيضًا صفة للقرآن، وقوله:{لِتُنْذِرَ} يجوز أن يتعلق بـ {تَنْزِيلَ} ، وأن يتعلق بمعنى قوله:{مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: مرسل لتنذر.

قوله: (أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني) وعلى النافية كان صفة لـ"قوم"، وعلى المصدرية مفعولًا مطلقًا.

قوله: (كيف يكونون منذرين غير منذرين؟ ) هذا السؤال وارد على ترتيب من ذهب

ص: 10

نفي إنذارهم لا في نفي إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل، وكانت النذارة فيهم. فإن قلت: ففي أحد التفسيرين أن آباءهم لم ينذروا، وهو الظاهر، فما تصنع به؟ قلت: أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد. {الْقَوْلُ} : قوله تعالى: {لَأَمْلَأَنِّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، يعني: تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب؛ لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر.

[{إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 8 - 9]

ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى إثبات الإنذار، وأن "ما" مصدرية أو موصولة. يعني: دل على إثبات الإنذار كما قلت: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم، أو ما أنذره آباؤهم، ودل قوله:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44]{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر: 42] على أن الإنذار لم يوجد رأسًا. وأجاب: أن الآيات لم تدل إلا على نفي إنذارهم، أما على نفي إنذار آبائهم فلا يشك في أن التفسيرين متنافيان لدلالة أحدهما أن آباءهم ما أنذروا، والثاني على أن آباءهم أنذروا. فأجاب: أن المراد ما أنذر آباؤهم الأقربون دون القدماء.

قوله: (ثم مثل تصميمهم على الكفر)، الانتصاف: يكون تصميمهم على الكفر مشبهًا بذي الأغلال، واستكبارهم مشبهًا بالإقماح، لأن المقمح لا يطاطئ رأسه.

وقوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} تتمة للزوم الإقماح، وعدم النظر في القرون الخالية مشبهًا بالسد من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهًا بسد من قدامهم.

ونقل صاحب "الفرائد" عن صاحب "التيسير": الأغلال مع الأيدي مجموعة إلى الأذقان: عبارة عن منع التوفيق حين كانوا متكبرين مستثقلين للحق، لأن المتكبر يوصف

ص: 11

إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين؛ في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. فإن قلت: ما معنى قوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} ؟ قلت: معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها؛ وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول، تكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود، نادرًا من الحلقة إلى الذقن، فلا يخليه يطأطئ رأسه ويوطئ قذاله، فلا يزال مقمحًا. والمقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره. قمح البعير فهو قامح: إذا روي فرفع رأسه، ومنه: شهرا قماح؛ لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء؛ لبرده فيهما، وهما الكانونان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بانتصاب العنق، والمتواضع يوصف بضده، قال تعالى:{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 26].

قوله: (إلى ارعوائهم)، أي: امتناعهم وإمساكهم، يقال: ارعوى عن القبيح: إذا كف عنه.

قوله: (نادرًا من الحلقة إلى الذقن)، الأساس: ندر: نادر من الجبل: إذا خرج ونتأ، وندر من بيته: خرج.

قوله: (والمقمح: الذي يرفع رأسه)، الراغب: القمح: رفع الرأس لسَفِّ الشيء، ويسمى السويق من القمح -أي البر-: قميحه، ثم يقال لرفع الرأس كيف ما كان قمح، وقمح البعير رأسه وأقمحت البعير: شددت رأسه إلى خلف، وقوله تعالى:{فَهُم مُّقْمَحُونَ} تشبيه بذلك، ومثل لهم، وقصد إلى وصفهم بالتأبي عن الانقياد للحق والتأبي عن الإنفاق في سبيل الله، وقيل: إشارة إلى حالهم يوم القيامة إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل.

ص: 12

ومنه: اقتمحت السويق. فإن قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي، وزعم أن الغل لما كان جامعًا لليد والعنق -وبذلك يسمى جامعة- كان ذكر الأعناق دالًا على ذكر الأيدي؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك، والدليل عليه: قوله: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} ، ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله:{فَهِيَ إِلِى الْأَذْقَانِ} ؟ ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرًا، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (اقتحمت السويق). عن بعضهم: أقمحت الدواء: إذا ألقتيه في فمك، ويقال: اقتمحته؛ أي: أشفقته، وذلك إنما يكون عند رفع الرأس.

قوله: (فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي؟ ) قال محيي السنة: فهي كناية عن الأيدي وإن لم يجر لها ذكر، لأن الغل يجمع اليد إلى العنق. وقال الزجاج بعد ما ذكر نحوًا من هذا: ولم تذكر الأيدي إيجازًا واختصارًا، لأن الغل يتضمن اليد والعنق، ومثله قول الشاعر:

وما أدري إذا يممت أرضًا .... أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه .... أم الشر الذي هو يبتغيني؟

فذكر الخير وحده، وقد علم أن الخير والشر معرضان للإنسان، ونحوه قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81].

قوله: (ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرًا)، الانتصاف: ويحتمل أن تكون الفاء للتعقيب كقوله: {فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ} ، أو للتسبب، فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح، لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها، ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول، فربما تحيل بها على فكاك الغل فيكون منبهًا على انسداد باب الحيلة.

ص: 13

وترك الظاهر الذي يدعو المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. فإن قلت: فقد قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (في أيديهم)، وابن مسعود:(في أيمانهم)، فهل تجوز على هاتين القراءتين أن يجعل الضمير للأيدي أو للأيمان؟ قلت: يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للأغلال، وسداد المعنى عليه كلما ذكرت. وقرئ:{سَدًّا} بالفتح والضم، وقيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله فبالضم. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}: فأغشينا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ظهور كون الضمير للأغلال) فاعل "يأبى"، و"سداد المعنى" عطف على "ظهور".

قال الزجاج: من قرأ "في أيمانهم" أو "في أيديهم" المعنى واحد، وذلك أن الغل لا يكون في العنق دون اليد ولا في اليد دون العنق، فالمعنى: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيمانهم أغلالًا، {فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ} كناية عن الأيدي لا عن الأذقان لأن الغل يجعل اليد إلى الذقن، والعنق هو مقارب للذقن لا يجعل الغل العنق إلى الذقن.

قوله: (وقرئ: {سَدًّا} بالفتح والضم) بالفتح: حمزة والكسائي وحفص، والباقون: بالضم.

الراغب: أصل السد مصدر: سددته. وشبه به الموانع، والسدة كالظلة على الباب، وقد يعبر به عن الباب كما قيل: الفقير الذي لا يفتح له سدد السلطان، والسَّداد والسِّدَد: الاستقامة، والسِّداد: ما يسد به الثلمة والثغر، واستعير لما يسد به الفقر.

ص: 14

أبصارهم، أي: غطيناها وجعلنا عليها غشاوةً من أن تطمح إلى مرئي. وعن مجاهد: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} : فألبسنا أبصارهم غشاوة. وقرئ بالعين؛ من العشى. #وقيل: نزلت في بني مخزوم؛ وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدًا يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه، فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده، حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر فذهب، فأعمى الله بصره.

[{وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وأَجْرٍ كَرِيمٍ} 10 - 11]

فإن قلت: قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار، ثم قفاه بقوله:{إنَّمَا} ، وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيًا. قلت: هو كما قلت،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ بالعين؛ من العشى). قال ابن جني: هي قراءة ابن عباس وعكرمة وغيرهما من: عشى يعشى؛ إذا ضعف بصره، فعشي وأعشيته، كعمي وأعميته. وأما قراءة العامة فهي على حذف المضاف، أي: فأغشينا أبصارهم. وينبغي أن يعلم أن (ع ش ي) يلتقي معناها مع (غ ش ي)، فإن العشاوة على العين كالغشي على القلب، كل منهما يركب صاحبه ويتجلله، غير أنهم خصوا ما على العين بالواو وما على القلب بالياء من حيث كانت الواو أقوى من الياء، وما يبدو للناظر من العشاوة على العين أبدى إلى الحس مما يخامر القلب، ولهذا في هذه اللغة نظائر ما لو أودع كتابًا لكبر حجمه.

قوله: (وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيًا)، الانتصاف: في سؤاله سوء أدب، وكان ينبغي أن يقال: ما وجه ذكر الإنذار الثاني؟

ص: 15

ولكن لما كان ذلك نفيًا للإيمان مع وجود الإنذار، وكان معناه: أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة، وهي الإيمان؛ قفي بقوله:{إنَّمَا تُنذِرُ} على معنى: إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين، وهم المتبعون للذكر -وهو القرآن، أو الوعظ- الخاشون ربهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: توجيه السؤال أن قوله: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} يستدعي سبق عدم الإنذار، أي: إنك لا تنذر من لم يتبع الذكر، وإنما تنذر من اتبعه، فكيف أثبت الإنذار بقوله:{وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} ثم عقبه بقوله: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} ؟ وحاصل الجواب: أنه نزل وجود الإنذار الذي لم يفض إلى المقصود منزلة العدم، كأنه قيل: ما أنذرت أولئك لأنهم لم يؤمنوا، إنما تنذر هؤلاء الذين انتفعوا به.

قال صاحب "المفتاح" - في قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]-: لا يخفى على أحد ممن به مسكة أن الإنذار إنما يكون إنذارًا ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله والبعث والقيامة وأهوالها.

والنظم يساعد عليه، لأن أصل الكلام وارد على تقسيم المنذرين، وذلك أن قوله:{إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} مطلق شامل في المنذرين الذين لا ينفع فيهم الإنذار وفيمن ينفع فيهم ذلك، ثم قسم المنذرين في قوله:{لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} على قسمين، وحكم على أكثرهم أنهم لا يؤمنون، وأكد ذلك بالجملة القسمية، وسجله بسبق التقدير كما تعلق بهم هذا القول، أي: قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وثبت عليهم ووجب، ثم علل ذلك بخلق الكفر فيهم وجعلهم مصممين عليه، وآذن حبيبه صلوات الله عليه بالإياس عنهم بقوله:{وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، وجعله كالتخلص إلى ذكر الفريق الأقلين وهم المتبعون للذكر الخاشون ربهم، ولهذا التقرير البليغ والتقدير المقتضي ينبغي أن يستسلم العاقل ولا يكابر النص القاطع.

ص: 16

[{إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُّبِينٍ}]

نحيي الموتى: نبعثهم بعد مماتهم. وعن الحسن: إحياؤهم: أن يخرجهم من الشرك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن الحسن: إحياؤهم: أن يخرجهم) يعني: يجوز أن يحمل {يُحْيِ الْمَوْتَى} على الحقيقة كما سبق، وعلى المجاز كما ذهب إليه الحسن.

اعلم أن التعريف في {المَوْتَى} يحتمل أن يجري على الجنس وعلى العهد. وعلى الثاني: إما أن يراد بهم المصممون على الكفر المعني بقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} ، أو المنتفعون بالإنذار في قوله:{مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} ، أو الفريقان جميعًا، وقول الحسن منزل على الثالث. وتقديره: أنه تعالى لما أمره صلوات الله عليه وسلامه بإنذار هؤلاء وبشارتهم بالمغفرة والأجر الكريم اتجه لسائل أن يسأل: لم خص هؤلاء بهذين الأمرين؟ فأجيب لأنا نخرجهم من الشرك إلى الإيمان ونكتب ما قدموا وآثارهم من الخير والشر فنغفر سيئاتهم ونثيبهم على حسناتهم.

وتقرير الوجه الثاني هو: أن الله تعالى لما ذكر ما دل على انتفاء إيمان أولئك المصممين، وقفاه بما دل على انتفاع الإنذار في حق هؤلاء، ورتب على الثاني البشارة بالمغفرة والأجر، قيل: إذا كان حكم هؤلاء هذا فما حكم أولئك المصممين؟ فقيل: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى} الآية. وتحرير المعنى: اشتغل بمن ينتفع بإنذارك وبشرهم بالفوز بالبغيتين ودع أولئك الموتى إلينا، فإنا نبعثهم ثم ننبئهم بما عملوا كما قال:{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]، قال المصنف: هؤلاء الموتى - يعني الكفرة - يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم.

وأما تقرير الجمع أو الجنس فمحمول على الفريقين وعلى أعم منهم، فيقدر الاستئناف على ما يقتضيه المقام، والله أعلم.

ص: 17

إلى الإيمان. {وَنَكْتُبُ مَا} أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس أحبسوه، أو بناء بنوه: من مسجد، أو رباط، أو قنطرة، أو نحو ذلك؛ أو سيئ؛ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله؛ من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها، ونحوه قوله عز وجل:{يُنَبَّأُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وأَخَّرَ} [القيامة: 13] أي: قدم من أعماله، وأخر من آثاره.

وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد. وعن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما هلكوا عنه) أي: ماتوا وتركوا، وهو عطف على "ما أسلفوا"، وقوله:"أثر حسن" نشر لقوله: "ما أسلفوا"، وقوله:" أو سيئ كوظيفة" نشر لقوله: "وما هلكوا".

قوله: (أو حبيس) أي: وقف. النهاية: يقال: حبست أحبس حبسًا، وأحبست أحبس إحباسًا، أي: وقفت. والاسم الحبس بالضم.

قوله: (أو سكة أحدثها فيها تخسيرهم) أي: فيها ذهاب مال المسلمين. الأساس: ومن المجاز: خذ في هذه السكة أي: في هذه الطريقة وأنت عامل على سكة واضحة. وعن بعضهم: السكة: الحديدة التي يحرث بها. وسكة الدراهم، وطريقة النخل، وواحد السكك سكة إذا أثبته.

قوله: (وعن جابر) الحديث من رواية الترمذي عن أبي سعيد قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ} [يس: 12]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا.

ص: 18

خالية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتانا في ديارنا، وقال:"يا بني سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد"، فقلنا: نعم، بعد علينا المسجد، والبقاع حوله خالية، فقال:"عليكم دياركم، فإنما يكتب آثاركم". قال: فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلًا شيئًا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح. والإمام: اللوح. وقرئ: (ويكتب ما قدموا وآثارهم) على البناء للمفعول، (وكل شيء) بالرفع.

[{واضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ القَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ * إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ومَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} 13 - 15]

{واضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا} : ومثل لهم مثلًا، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال، وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي: على مثال واحد. والمعنى: واضرب لهم مثلًا مثل أصحاب القرية، أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية. والمثل الثاني بيان للأول. وانتصاب {إَذْ} بأنه بدل من {أَصْحَابَ القَرْيَةِ} .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذه الأشياء على ضرب واحد) أي: مثال واحد.

ذكر في "الأساس" في قسم المجاز: هم ضربائي، وقولهم: هو ضربه وضريبه، أي: مثله.

قوله: (والمثل الثاني بيان للأول). قال أبو البقاء: قيل: التقدير: واذكر مثلًا أصحاب القرية، والثاني بدل من الأول، والظاهر أن "اضرب" بمعنى: اجعل، فـ {أَصْحَابَ}: مفعول أول، {مَثَلًا} مفعول ثان، واختار مكي هذا. وقال: أصح ما يعطي القياس فيه هذا.

ص: 19

والقرية: أنطاكية. و {الْمُرْسَلُونَ} : رسل عيسى صلوات الله عليه إلى أهلها، بعثهم دعاة إلى الحق، وكانوا عبدة أوثان، أرسل إليهم اثنين، فلما قربا من المدينة رأيا شيخًا يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار صاحب ياسين، فسألهما فأخبراه، فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض سنتين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فشفي على أيديهما خلق كثير، ورقي حديثهما إلى الملك، وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك، فقال: حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس وضربوهما. وقيل: حبسا. ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون؛ فدخل متنكرًا، وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فأنس به، فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين، فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك، فدعاهما، فقال شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال: صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين، فدعوا الله حتى انشق له بصر، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سرًا، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد ذكرنا تعليله في قوله تعالى {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] وهو اختيار المصنف هناك.

قوله: (صاحي ياسين) روى صاحب "الجامع" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين قتل ثقيف عروة بن مسعود: "مثل عروة مثل صاحب يس، دعا قومه إلى الله تعالى فقتلوه"، ولعل معنى النسبة مجيء ذكره في هذه السورة، وقريب منه تسمية السورة بالبقرة ونحوها لذكرها فيها.

ص: 20

يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم، ثم قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام، فقام وقال: إني أدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابًا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجب الملك. فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه، فآمن، وآمن قوم، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام فهلكوا. {فَعَزَّزْنَا}: فقوينا. يقال: المطر يعزز الأرض: إذا لبدها وشدها، وتعزز لحم الناقة. وقرئ بالتخفيف من عزه يعزه: إذا غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا، {بِثَالِثٍ} وهو شمعون. فإن قلت: لم ترك ذكر المفعول به؟ قلت: لأن الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون، وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل، وإذا كان الكلام منصبًا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه، كأن ما سواه مرفوض مطرح، ونظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق، الغرض المسوق إليه: قولك: بالحق؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({فَعَزَّزْنَا}: فقوينا)، الراغب: العزة: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز. أي: صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، كقولهم: تظلف، أي: حصل في ظلف من الأرض، والعزيز: الذي يقهر ولا يقهر، وعز المطر الأرض: غلبها، وعز الشيء: قل، اعتبارًا بما قيل: كل موجود مملول، وكل مفقود مطلوب.

قوله: (وقرئ بالتخفيف) أبو بكر: بتخفيف الزاي، والباقون: بتشديدها، وهما لغتان كشده وشدده، أي: قويناهما.

قوله: (لم ترك [ذكر] المفعول به) أي: لم يقل: فعززناهما بثالث.

ص: 21

فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. إنما رفع {بَشَرٌ} هنا ونصب في قوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]؛ لأن "إلا" تنقض النفي، فلا يبقى لـ"ما" المشبهة بـ"ليس" شبه، فلا يبقى له عمل. فإن قلت: لم قيل: {إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} أولًا، و:{إنَّا إلَيْكُم لَمُرْسَلُونَ} آخرًا؟ قلت: لأن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار.

[{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} 16 - 17]

وقوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قولهم: شهد الله، وعلم الله. وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم:{ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} أي: الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته؛ وإلا فلو قال المدعي: والله إني لصادق فيما أدعي، ولم يحضر البينة؛ كان قبيحًا.

[{قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ولَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} 18 - 19]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن الأول ابتداء إخبار) فيه نظر، لأن قوله تعالى:{إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} يدل على إنكار سابق، ولا سيما وقد سبق {أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} ، فلابد من كلام كذبا فيه، والجملة الابتدائية هي التي يتلقى بها خالي الذهن، وتكون خلوا من المؤكدات.

قوله: (مع قولهم: {ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ}) متعلق بقوله: "وإنما حسن"، يريد: لولا قولهم: {ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} لم يحسن قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ؛ لأن هذا قول العاجز من الدليل الذي لم يبق له متشبث يتشبث به سوى هذه الكلمة، قال في قوله تعالى:{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ} [البقرة: 23]: أي: لا تستشهدوا بالله، ولا تقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه. وحين كان معترفًا به وهو أمارة على إقامة البينة فجاز وحسن، لأن البلاغ إنما يكون مبينًا إذا كان مؤكدًا بالمعجزات الظاهرة والآيات المشاهدة.

ص: 22

{تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} : تشاءمنا بكم؛ وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منهم نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشأموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا: ببركة هذا، و: بشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط:{وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى ومَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131]، وعن مشركي مكة:{وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78]. وقيل حبس عنهم القطر فقالوا ذلك. وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم. {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} ، وقرئ:(طيركم)، أي: سبب شؤمكم معكم؛ وهو كفرهم، أو أسباب شؤمكم معكم؛ وهي كفرهم ومعاصيهم. وقرأ الحسن:(اطيركم) أي تطيركم. وقرئ: {أَئِن ذُكِّرْتُم} بهمزة الاستفهام وحرف الشرط، و:(آإن ذكرتم) بألف بينهما، بمعنى: أتتطيرون إن ذكرتم؟ وقرئ: (أأن ذكرتم)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} تشاءمنا بكم)، الراغب: الطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء، وتطير فلان واطير، وأصله التفاؤل بالطير، ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به ويتشاءم وقوله:(إنما طائرهم عند الله) أي: شؤمهم: ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم.

قوله: (وقرئ: "طيركم") قال الزجاج: طائر وطير بمعنى واحد، ولا أعلم أحدًا قرأ "طيركم" بغير ألف.

قوله: (وقرئ: {أَئِن ذُكِّرْتُم} بهمزة الاستفهام وحرف الشرط) وهي المشهورة، وقرأ أبو عمرو وقالون وهشام:"آئن" بألف بينهما، وهو استفهام وشرط محذوف الجواب، تقديره: آئن ذكرتم، أي: وعظتم وزجرتم عن الشرك تطيرتم؟

ص: 23

بهمزة الاستفهام و"أن" الناصبة، بمعنى: أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وقرئ: (أن)، و:(إن) بغير استفهام بمعنى الإخبار، أي: تطيرتم لأن ذكرتم، أو: إن ذكرتم تطيرتم. وقرئ: (أين ذكرتم) على التخفيف، أي: شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم، وإذا شئم المكان بذكرهم كان بحلولهم فيه أشأم. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في العصيان،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "أأن") إلى آخرها شواذ، قال ابن جني: قرأ الماجشون: "أن ذكرتم" بهمزة واحدة مفتوحة مقصورة ولا ياء بعدها، والأعمش وأبو جعفر:"أين" بهمزة بعدها ياء ساكنة والنون مفتوحة. "ذكرتم" مضمومة الذال خفيفة الكاف. أما "أن ذكرتم" فمنصوبة الموضع بقوله: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} ، فإنهم لما قالوا:{إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أجيبوا: بل طائركم معكم أن ذكرتم، أي: هو معكم لأن ما ذكرتم، فلم تذكروا ولم تنتهوا، فاكتفى بالسبب الذي هو التذكير من المسبب الذي هو الانتهاء، كما وضعوا الطائر موضع مسببه وهو التشاؤم لما كانوا يألفونه من تكارههم نعيق الغراب أو بروحه. وأما "أين ذكرتم" أي: حللتم وكنتم ووجدتم فذكرتم، فاكتفى بالمسبب الذي هو الذكر من السبب الذي هو الوجود، و"أأين" هاهنا شرط وجوابها محذوف لدلالة {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} عليه، أي: أين وجدتم وجد شؤمكم معكم. ولا يجوز الوقف على هاتين القراءتين على {مَّعَكُمْ} ، لاتصال "أن""وأين" بها، لكن جاز على الاستفهام لأن الاستفهام يقطع ما قبله عما بعده.

قوله: (وإذا شئم المكان بذكرهم). أي: هو من باب الكناية، وذلك أن أجري ذكرهم في مكان دليل على أن المكان حامل على ذكرهم لأمارة أو أثر شؤم منهم فيه، ويقرب منه قوله تعالى:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].

قوله: ({بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في العصيان) هذا مبني على أن الإضراب من قوله:

ص: 24

ومن ثم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو: بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.

[{وجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ * ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} ، وحده. فيكون قوله:{أَئِن ذُكِّرْتُم} شرطًا جزاؤه محذوف لدلالة {تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} ، والشرط والجزاء معترضة، وإليه أشار بقوله:"أتطيرون إن ذكرتم؟ " أثبت أولًا {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} بمعنى: أسباب شؤمكم معكم، وهو كفرهم ومعاصيهم، وهو التقدير الثاني، وأكده بالجملة الشرطية، ثم أضرب عنه بقوله:{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: مسرفون في عصيانكم، فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل رسل الله. "أو: بل أنت قوم مسرفون في ضلالكم متمادون" هذا مبني على أن الإضراب من المجموع بمعنى: أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وإلى التعليل أشار بقوله: "حيث تتشاءمون" بمعنى: سبب شؤمكم - وهو كفرهم - لأجل أن ذكرتم فلم تذكروا ولم تنتهوا، وهو التقدير الأول، ثم أضرب عنه بقوله: "{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: مسرفون في ضلالكم، متمادون في غيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به".

قال القاضي: {أَئِن ذُكِّرْتُم} شرط جوابه محذوف، أي: وعظتم تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب؛ بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان. فمن ثم جاء الشؤم والإسراف في الضلال، ومن ثم توعدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يتبرك به.

وأما ما قدره أبو البقاء: إن ذكرتم ثم كفرتم، فليس بشيء لأن الكلام مع الكفار، والكفر موجود فلا يجوز تعلق الشرط به والله أعلم.

ص: 25

مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ولا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} 20 - 25]

{رَجُلٌ يَسْعَى} : هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهما ست مئة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. وقيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة، فقالوا: أو أنت تخالف ديننا؟ فوثبوا عليه فقتلوه. وقيل: توطؤوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره. وقيل: رجموه وهو يقول: اللهم اهد قومي؛ وقبره في سوق أنطاكية، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفة عين: على بن أبي طالب، وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون". {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ} كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي: لا تخسرون معهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (خرج قصبه) القصب: الأمعاء وبه سمي القصاب، لأنه يزاول الأمعاء.

قوله: (اللهم اهد قومي) روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول:"اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون".

قوله: (كلمة جامعة في الترغيب فيهم) وذلك أن القائل أومأ بقوله: {اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ} إلى أن المرسلين واجبو الاتباع، وأن من أرسله الله تعالى ليرشد الخلق ويخرجهم من الظلمات إلى النور كان صلاحهم في الدارين متابعته، وتعقيبه ذلك بقوله:{اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} تتميم؛ معناه: وأن من سعى في أمر لابد أن يطمع ويتوقع أجره، وهؤلاء السادة بخلاف ذلك، وبقوله {وهُم مُّهْتَدُونَ} إشارة إلى أن غرضهم في ذلك ليس إلا محض النصح لا متابعة أمر الشهوة والرياء، وأن يكونوا موطئي العقب،

ص: 26

شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، ثم ابرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم؛ ليتلطف لهم ويداريهم؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح؛ حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه، ولقد وضع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو إيغال في نهاية من الكمال. روى ابن الأفلح الكاتب في المقدمة: أن النابغة الذبياني كان يضرب له قبة آدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها فأتاه حسان فأنشده، وأتاه الأعشى فأنشده، ثم أتته الخنساء فأنشدته القصيدة الرائية فلما بلغت:

وإت صخر آلتأتم الهداة به .... كأنه علم في رأسه نار

فقال لها: أما كفاك أن جعلته علما حتى صيرت في رأسه نارًا، والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر أهل زمانك من الجن والإنس.

ص: 27

قوله: {ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} مكان قوله: ومالكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى إلى قوله:{وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؟ ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال:{إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} يريد:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع)، قال صاحب "المفتاح": ولولا التعريض لكان المناسب: وإليه أرجع، وكذا {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ولا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} المراد: أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمان بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئًا ولا ينقذوكم إنكم إذًا لفي ضلال مبين، ولذلك قيل:{إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} وأتبعه {فَاسْمَعُونِ} ولا تعرف حسن موقع هذا التعريض إلا إذا نظرت إلى مقامه وهو يطلب إسماع الحق على وجه لا يورث طالبي دم المسمع مزيد غضب، وهو ترك المواجهة بالتضليل والتصريح بارتكاب الباطل.

قلت: قد ذهبا إلى أن قرينة التعريض هو قوله: ترجعون، ولو لاه لم يكن تعريضًا كأن هذا تعريض منهما بالواحدي حيث قال: فلما قال هذا، أي: الرجل: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ} إلى آخره/ فرفعوه إلى الملك فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: {ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي: أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي وإليه ترجعون، تردون عند البعث فيجزيكم بكفركم؟ تم كلامه.

وذلك أنه إذا رجع الإنكار إليه لا إلى القوم لم يكن لخطاب القوم بقوله: {تُرْجَعُونَ} معنى، وكان الظاهر إليه أرجع.

ص: 28

فاسمعوا قولي وأطيعوني، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه: أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتؤكم وإليه مرجعكم، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن أن يقال: إن الرجل كان في غيظ شديد من تكذيبهم الرسل، وقولهم:{مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} إلى قوله: {ولَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وانتهز الفرصة للانتقام، فلما تمكن من تهديدهم أوقع قوله:{وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في البين؛ أي: مالي لا أعبد الذي من علي بنعمة الإيجاد ونعمة الانتقام منكم والتشفي من غيظكم إذ ترجعون إليه، فيجزيكم بكفركم وتكذيبكم الرسل وعنادكم، لكن النظم يساعد على الأول، فإن التقدير: اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون في عبادة الملك العلام الضار النافع، وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وما لكم أيها القوم لا تتبعونهم، ولا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون فيجزيكم على أعمالكم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ثم نبه على ضلالتهم، وأنهم على خلاف ما عليه الرسل من الاهتداء بقوله:{إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} ورشح التنبيه بقوله: {فَاسْمَعُونِ} أي: اسمعوا ما قلت لكم من حال الرسل وحالكم ثم حالي، لتفرقوا بين الحق والباطل، فتتبعوا الرسل.

وقد يقال: إن الأسلوب من الالتفات المعنوي حيث التفت من حكاية النفس في {ومَا لِيَ} إلى الخطاب في {تُرْجَعُونَ} ، ولا بأس باختلاف المفهومين، لأن المراد ما لكم كما سبق، وقريب من الأسلوب قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] قال المصنف: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} عبارة عن البخل، و {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة، والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما يقول: سبني سب الله دابره، أي: قطعه، لأن السب أصله القطع.

قوله: (وما أدفع العقول وأكرها لأن تستحبوا) معناه: ما أدفع العقول وأنكرها

ص: 29

على عبادته عبادة أشياء إن أرادكم هو بضر وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده، ولم يقدروا على إنقاذكم منه بوجه من الوجوه، إنكم في هذا الاستحباب لواقعون في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذي عقل وتمييز. وقيل: لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال لهم:{إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي: اسمعوا إيماني تشهدوا لي به. وقرئ: (إن يردني الرحمن بضر) بمعنى: إن يوردني ضرًا، أي: يجعلني موردًا للضر.

[{قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ} 26 - 27]

أي: لما قتل {قِيلَ} له: {ادْخُلِ الجَنَّةَ} . وعن قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق. أراد قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ} [آل عمران: 169]. وقيل: معناه البشرى بدخول الجنة وأنه من أهلها. فإن قلت: كيف مخرج هذا القول في علم البيان؟ قلت: مخرجه مخرج الاستئناف؛ لأن هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كأن قائلًا قال: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخي لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل: ادخل الجنة، ولم يقل: قيل له؛ لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه، لا إلى القول له مع كونه معلومًا، وكذلك {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم. وإنما تمنى علم قومه بحاله؛ ليكون علمهم بها سببًا لاكتساب مثلها لأنفسهم، بالتوبة عن الكفر، والدخول في الإيمان، والعمل الصالح المفضيين بأهلها إلى الجنة. وفي حديث مرفوع:"نصح قومه حيًا وميتًا".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لاستحبابكم عبادة أشياعكم على عبادة الله؛ إن أراد الله أن يضركم فهؤلاء لم يتمكنوا من الشفاعة.

قوله: (نصح قومه حيًا وميتًا) أما نصحه حيًا فظاهر، وأما في الممات فإنه لا تمنى من الله

ص: 30

وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام؟ ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزًا، ولم تعقبه إلا سعادة؛ لأن في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور. والأول أوجه. وقرئ:(المكرمين). فإن قلت: "ما" في قوله تعالى: {بِمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعالى أن يعلم قومه بأنه تعالى غفر له وجعله من المكرمين لا يبعد أن الله تعالى أعطى مناه وحقق متمناه وأعلمهم ذلك إما بإلهام أو برؤية صادقة، وكان علمهم بذلك سبب لاكتساب مثلها لأنفسهم إلى آخر ما أشار إليه المصنف. هذا معنى نصح الميت.

قوله: (في غمار) يقال: دخلت في غمار الناس وغمار الناس؛ بفتح وبضم، أي: كثرتهم وزحمتهم.

قوله: (والأول أوجه) وهو أن يكون قوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} تمنى علم قومه بحاله ليكون علمهم بذلك سببًا لاكتساب مثلها، لا تمنى أن ينتهوا عن خطئهم وصوابه، لما ينبئ ذلك على أنه نصح قومه حيًا وميتًا؛ ولما اشتمل على تلك الفوائد المتكاثرة على سبيل الإدماج بخلافه في الثاني، فإن فيه شائبة حظ النفس من الشماتة بهم والاغتياظ بها قال، فلا يطابق قوله:{اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ} كما سبق أن غرضهم في الدعوة لم يكن سوى محض النصح.

قوله: (وقرئ: "المكرمين")، وهي شاذة.

ص: 31

غَفَرَ لِي رَبِّي} أي الماآت هي؟ قلت: المصدرية أو الموصولة؛ أي: بالذي غفره لي من الذنوب. ويحتمل أن تكون استفهامية؛ يعني: بأي شيء غفر لي ربي؟ يريد به ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز الدين حتى قتل، إلا أن قولك: بم غفر لي، بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزًا؛ يقال: قد علمت بها صنعت هذا، [أي: بأي شيء صنعت]، و: بم صنعت.

[{ومَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ} 28 - 29]

المعنى: أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم يتنزل لإهلاكهم جندًا من جنود السماء، كما فعل يوم بدر والخندق، فإن قلت: وما معنى قوله: {ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ} ؟ قلت: معناه: وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندًا من السماء؛ وذلك لأن الله عز وجل أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض، وما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: الإكرام والتكريم: أن يوصل إلى الإنسان نفع لا تلحقه فيه غضاضة، أو جعل ما يوصل إليه شيئًا شريفًا، قال تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24]، أي: جعلهم كرامًا، وقال:{وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ} ، وقوله:{ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] منطو على المعنيين.

قوله: (بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزًا)، أنشد في "المطلع":

إنا قتلنا بقتلانا سراتكم .... أهل اللواء ففيما يكثر القتل

قال: "ففيما" بالألف.

ص: 32

ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40]؟ فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؛ قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، {بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124]، {بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]؟ قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحته، ولكن الله فضل محمدًا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولي العزم من الرسل، فضلًا على حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فضلًا عن حبيب النجار) وفي بعض النسخ: "على حبيب النجار"، وهو مفعول مطلق، يعني: فضل الله تعالى محمدًا صلوات الله عليه على كبار الأنبياء فضله على حبيب النجار، يعني: له أسوة بسائر الأنبياء في أن لم ينزل الله تعالى في إهلاك قومهم جندًا من السماء، لأن ذلك من خصائص سيدهم صلوات الله عليه وعليهم.

فإن قلت: أي فرق بين الاستعمالين؟

قلت: على الأول ينعكس المعنى وذلك أنه تعالى لما قال: {ومَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ} على معنى: ما كان يصح في حكمة الله أن ينزل في إهلاك قوم حبيب جندًا من السماء، لأن ذلك من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها حبيب النجار، ولو أريد ذلك المعنى لقيل: ولكن الله تعالى فضل محمدًا صلوات الله عليه على كبار الأنبياء حيث خصه بهذه الفضيلة ولم يعطها أحدًا منهم فضلًا عن حبيب النجار، فيلزم منه تنقيص الحبيب، لأن "فضلًا" إذا عدي بـ"عن" ضمن معنى التجاوز، واستعمل في

ص: 33

لم يوله أحدًا؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنودًا من السماء، وكأنه أشار بقوله:{ومَا أَنزَلْنَا} ، {ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ} إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك. {إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً}: إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة. وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على "كان" التامة، أي: ما وقعت إلا صيحة، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل؛ لأن المعنى: ما وقع شيء إلا صيحة، ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ، وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثلها قراءة الحسن:{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، وبيت ذي الرمة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موضع يستعبد فيه الأدنى ويراد به استحالة ما فوقه، وما كان طريقًا إلى بيان فضله كان أولى بالسلوك مما فيه بيان نقصه.

قوله: (وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل) قال الزجاج: من قرأ بالنصب فالمعنى: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة، ومن قرأ بالرفع فالمعنى: ما وقعت عليهم عقوبة إلا صيحة واحدة.

وقال ابن جني: في الرفع ضعف لتأنيث الفعل، ولا يقوى أن تقول: ما قدمت إلا هند، لأن الكلام محمول على: ما قام أحد إلا هند، وأما محصول الآية فقد كان هناك صيحة واحدة فجيء بالتأنيث، ومثله قراءة الحسن:"فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم"[الأحقاف: 25]، وقول ذي الرمة:

طوى النحز والأجراز ما في غروضها .... وما بقيت إلا الصدور الجراشع

أي: ما بقي شيء منها إلا الضلوع، وفي رواية:

برى لحمها سير الفيافي وحرها

طوى، أي: أضمر. والنحز: الضرب بالأعقاب في الاستحثاث.

ص: 34

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقرأ ابن مسعود (إلا زقية واحدة)، من زقا الطائر يزقو ويزقي؛ إذا صاح، ومنه المثل: أثقل من الزواقي. {خَامِدُونَ} خمدوا كما تخمد النار، فتعود رمادًا، كما قال لبيد:

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه .... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع

[{يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} 30]

{يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والأجراز: الأمحال والأرضون التي لا نبت بها، جمع جرز. والغروض: جمع غرض، وهي الغرضة بضم الغين المعجمة. والتصدير: وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج. والجراشع: جمع الجرشع، وهو المنتفخ الجنب يملأ الحزام. يقول: هزل النياق الاستحثاث والارتحال وما بقيت إلا الضروع المنتفخة.

قوله: (وقرأ ابن مسعود: إلا زقية واحدة). قال ابن جني: يقال: زقي الطائر يزقو ويزقي زقوًا وزقيًا: إذا صاح، وهي الزقوة والزقية، وإنما استعمل هنا صياح الطائر تنبيهًا على ان البعث من عظيم القدرة، وإعادة ما استرم من إحكام الصنعة، وإنشار الموتى من القبور: سهل كزقية الطائر، ومثله قوله تعالى:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28].

قوله: (أثقل من الزواقي) قال الميداني: قال محمد بن قدامة: سألت الفراء عنها فلم يعرفها، فقالجليس له: غن العرب كانت تسمر بالليل، فإذا زقت الديكة استثقلتها لأنها تؤذن بالصبح، فاستحسن الفراء قوله.

ص: 35

نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نداء للحسرة عليهم) قال الزجاج: هذا [من] أصعب مسألة في القرآن، لأن الحسرة مما لا يجيب، فالفائدة في مناداتها كما أنك تقول لمن هو مقبل عليك: يا زيد، ما أحسن ما صنعت! فإنه أوكد وأبلغ من إذا قلت: ما أحسن ما صنعت! لتنبيهه بالنداء على المطلوب، فكذا إذا قلت: وأنا أعجب مما فعلت، فقد أفدته أنك متعجب، ولو قلت: واعجباه مما فعلت! كان أبلغ في الفائدة، والمعنى: يا عجب أقبل فإنه من أوقاتك، وإنما نداء العجب تنبيه لأن يتمكن علم المخاطب بالتعجب من فعله.

والحسرة: هي أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية بعده حتى يبقى حسيرًا.

قوله: (وهي حال استهزائهم) بيان لاسم الإشارة في "فهذه"، أي: حال استهزائهم بالرسل حال من أحوالك يا حسرة، فاحضري فيها. وفيه: أن قوله تعالى: {مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ} بيان للكلام السابق، كأنه لما قيل:{يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} ، قيل: لأي شيء؟ فأجيب بأنه {مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} فالمتحسر إما عام يعني بلغ الأمر فخامته وشدته إلى حيث كل من يأتي منه التلهف إذا نظر إلى حالة استهزائهم الرسل تحسر عليهم، وقال: فيا لها من خسار وخيبة على هؤلاء المجازفين حيث بدلوا الإيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وإما كل من يعتد منه التحسر كما في قوله لهم:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وهو المراد من قوله: من جهة الملائكة والمؤمنين، وأما التحسر من الله فمجاز.

وذلك أن التحسر هو تلهف ورقة تعتري الإنسان لا يلحق بصاحبه من مشقة وشدة، وغايته أن يستعظم ذلك الأمر، وينكر على مرتكبه، ويتعجب منه كيف تورط فيه، وفي حق الله تعالى محمول على غايته لا على بدايته، وإليه أشار بقوله: في تعظيم ما جنوه على أنفسهم إلى آخره.

ص: 36

المتحسرون، ويتلهف على حالهم المتلهفون. أو: هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويجوز أن يكون من الله عز وعلا على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه، وقراءة من قرأ:(يا حسرتا) تعضد هذا الوجه، لأن المعنى: يا حسرتي. وقرئ: (يا حسرة العباد)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على سبيل الاستعارة) إلى قوله: (وتعجيبه منه)، قال في قوله تعالى "بل عجبت ويسخرون" [الصافات: 12] بضم التاء: معنى التعجب من الله تعالى: إما مجرد الاستعظام، أو يتخيل العجب ويفرض. وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى في "الصافات".

قوله: (وقرئ: "يا حسرة العباد") قال ابن جني: هي قراءة ابن عباس والضحاك وأبي بن كعب. وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب: "يا حسره" ساكنة الهاء، ففيه نظر، لأن قوله:{عَلَى الْعِبَادِ} متعلق بها، أو صفة لها، فلا يحسن الوقف عليها دونه إلا أن يقال: إن العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتد به، ولا معتزمة عليه، أسرعت فيه، ولم تتأن على اللفظ المعبر عنه، قال:

قلنا لها: قفي لنا، قالت: قاف

أي: وقفت. فاقتصرت من جملة الكلمة على حرف منها تهاونًا بالحال، وتثاقلا عن الإجابة، أو {عَلَى العِبَادِ} غير متعلقة بـ {يَا حَسْرَةً} بل بمضمر يدل عليه {حَسْرَةً} ، كأنه قيل: أتحسر على العباد.

وأما الإضافة فعلى وجهين: أحدهما: أن العباد فاعلون في المعنى كقولك: يا قيام زيد،

ص: 37

على الإضافة إليهم؛ لاختصاصها بهم؛ من حيث إنها موجهة إليهم. و (يا حسره على العباد) على إجراء الوصل مجرى الوقف.

[{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وإن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} 31 - 32].

{أَلَمْ يَرَوْا} : ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في {كًمْ} ؛ لأن "كم" لا يعمل فيها عامل قبلها، كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام، إلا أن معناه نافذ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويا جلوس عمرو، وكأن العباد إذا شاهدوا ذلك تحسروا. وثانيهما: أن العباد مفعولون في المعنى، وشاهده القراءة الظاهرة، أي: يتحسر عليهم من يعنيه أمرهم، ويهمه ما يهمهم.

ويقوي الوجه الأول قول صاحب المطلع: {مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ} كالبيان لسبب حسرتهم، كأنه قيل: ما سبب تحسرهم؟ فقيل: استهزاؤهم بالرسل. والقراءة بالإضافة تدل على هذا المعنى. قال صاحب "الكشف": {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} نداء مطول مشابه للمضاف لتعلق الجار بالمصدر، فهو كقولهم: با خيرًا من زيد. وفي "المنتقي": وقفوا بالهاء الساكنة على {حَسْرَةً} وقفًا طويلًا تعظيمًا للأمر ثم قال: {عَلَى العِبَادِ} . وفي "اللوامح": وقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهه كالتأوه، ثم وصلوه على تلك الحال.

قوله: (لأن "كم" لا يعمل فيها عامل قبلها)، قال الزجاج: موضع "كم" نصب بـ {أَهْلَكْنَا} ، لأن "كم" لا يعمل فيها ما قبلها خبرًا كانت أو استخبارًا، تقول في الخبر: كم فرسخ سرت؟ تريد: سرت فراسخ كثيرة. ولا يجوز: سرت كم فرسخ، وذلك أن "كم" في بابها بمنزلة "رب" وإن كان أصلها الاستفهام والإبهام، فكما أنه لا يجوز في الاستفهام: سرت كم فرسخًا، كذا في الخبر، لأن الإبهام قائم.

ص: 38

في الجملة، كما نفذ في قولك: ألم يروا إن زيدًا لمنطلق، وإن لم يعمل في لفظه. و {أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من {كَمْ أَهْلَكْنَا} على المعنى، لا على اللفظ، تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. وعن الحسن: كسر: "إن" على الاستئناف. وفي قراءة ابن مسعود: (ألم يروا من أهلكنا)، والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال، وهذا مما يرد قول أهل الرجعة. ويحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له: إن قومًا يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: بئس القوم نحن إذن؛ نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه. قرئ: (لما) بالتخفيف، على أن "ما" صلة للتأكيد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من {كَمْ أَهْلَكْنَا} على المعنى لا على اللفظ)، قال صاحب "الكشف":{أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من موضع {كَمْ أَهْلَكْنَا} ، وليس بدلًا من "كم" وحده، لأن العامل في "كم" هو {أَهْلَكْنَا} ولا يعمل {أَهْلَكْنَا} في "أن"، إذ ليس المعنى: أهلكنا أنهم لا يرجعون، والتقدير: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون، تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا، أي: ألم يعتبر كفار مكة بكثرة من أهلكنا من قبلهم واستئصالنا وتدميرنا إياهم حتى لم يبق منهم أثر فيقلعوا عما هم فيه!

قوله: (والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال) لأن "من أهلكنا" ذات، وعلى ألأول: كان بدل الكل، فإنهم كونهم غير راجعين عبارة عن إهلاكهم، لأنه لازم له وهو المراد من قوله:"بدل على المعنى لا على اللفظ".

قوله: (مما يرد قول أهل الرجعة) أي: التناسخية، يقال: فلان يؤمن بالرجعة، أي: بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت.

قوله: (وقرئ: "لما" بالتخفيف) عاصم وابن عامر وحمزة: بتشديد الميم، والباقون: بتخفيفها، وسبق تفسيره في سورة "هود".

ص: 39

و"إن": مخففة من الثقيلة، وهي متلقاة باللام لا محالة؛ و {لَّمَّا} بالتشديد، بمعنى: إلا، كالتي في مسألة "الكتاب": نشدتك بالله لما فعلت، و {إِنْ} نافية، والتنوين في {كُلٌّ} هو الذي يقع عوضًا من المضاف إليه، كقولك: مررت بكل قائمًا. والمعنى: أن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. وقيل: محضرون: معذبون.

فإن قلت: كيف أخبر عن "كل" بـ"جميع" ومعناها واحد؟ قلت: ليس بواحد؛ لأن "كلا" يفيد معنى الإحاطة، وان لا ينفلت منهم أحد، والجميع: معناه: الاجتماع، وأن المحشر يجمعهم. والجميع: فعيل بمعنى مفعول، يقال: حي جميع، وجاؤوا جميعًا.

[{وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَاكُلُونَ * وجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وأَعْنَابٍ وفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العُيُونِ * لِيَاكُلُوا مِن ثَمَرِهِ ومَا عَمِلَتْهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ليس بواحد؛ لأن "كلا" يفيد معنى الإحاطة) والجميع: معناه: الاجتماع.

الانتصاف: ومن ثم أوقع "أجمع" في التوكيد تابعًا لـ"كل".

قوله: (يقال: حي جميع)، الأساس: وهو جميع الرأي، وجميع الأمر، وحي جميع.

الجوهري: والجميع: الحي المجتمع، قال لبيد:

عريت وكان بها الجميع فأبكروا .... منها وغودر نؤيها وثمامها

واعلم أن ألفاظ التوكيد كأجمع وأكتع وأبصع، لا تكون إلا تأكيدًا وتابعًا لما قبله، لا يبتدأ بها، ولا يخبر عنها، ولا تكون فاعلًا ولا مفعولًا، ولفظ "جميع" من التوكيد الذي يقع تارةً اسمًا وأخرى تأكيدًا، مثل: نفسه وعينه وكله. ويكون صفة كقولهم: حي جميع، ولهذا قال: والجميع فعيل بمعنى مفعول.

ص: 40

أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ} 33 - 36]

القراءة بـ {المَيْتَةُ} على الخفة أشيع؛ لسلسها على اللسان. و {أَحْيَيْنَاهَا} استئناف، بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك {نَسْلَخُ} [يس: 37]، ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل؛ لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بأعيانهما؛ فعوملا معاملة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بيان لكون الأرض الميتة آية) كأن قائلًا قال: كيف تكون الأرض الميتة آية؟ فقال: {أَحْيَيْنَاهَا} . قال أبو البقاء: {آيَةٌ} مبتدأ و {لَّهُمْ} الخبر، و {الْأَرْضُ} مبتدأ و {أَحْيَيْنَاهَا} الخبر، والجملة تفسير الآية. وقيل:{الْأَرْضُ} مبتدأ و"آية" خبر مقدم و {أَحْيَيْنَاهَا} تفسير الآية، و {لَّهُمْ} صفة الآية.

قوله: (ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل) أي: بـ {أَحْيَيْنَا} و {نَسْلَخُ} ، لأنه أريد بهما الجنسان، والتقدير: وآية لهم أرض ميتة من الأراضي الميتة أحييناها، وليل من الليالي سلخنا منه النهار.

الانتصاف: غير الزمخشري يمنع من وقوع الجملة وصفًا للمعرفة وإن كانت جنسًا، ويراعي المطابقة اللفظية.

قلت: قد ذكرنا عن ابن جني أنه قال: إن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته؛ ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك: خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما، وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدًا واحدًا معينًا، وإنما تريد: خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس.

وقال ابن الحاجب: المحققون قالوا في مثل قوله:

ص: 41

النكرات في وصفهما بالأفعال، ونحوه:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

وقوله: {فَمِنْهُ يَاكُلُونَ} بتقديم الظرف؛ للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولقد أمر على اللئيم يسبني

إن قوله: "يسبني" صفة، لكونه لم يقصد لئيمًا معهودًا، فجرى في ذلك مجرى المنكر لما كان باعتبا الموجود مثله.

قوله: (ولقد أمر على اللئيم يسبني)، تمامه:

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

فإن قلت: لم تمنع أن يكون "لا يعنيني" حالًا لا صفة ويراد: لئيم معهود؟ قلت: كان الشاعر يصف نفسه بالتؤدة، وأنه حليم ذو أناة، ولا يستتب له ذلك بمروره مرة على لئيم ولا مرتين حتى يصير ذلك ملكة راسخة.

قوله: (بتقديم الظرف) للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش يعني: عقيب إخراج الحب الأكل مع تقديم صفة الأكل المفيد للاختصاص. وقد علم أن المأكول غير مختص به، لكن قدم ليدل على أنه الأصل في الارتزاق والمأكولات تابعة له، ألا ترى أنه إذا قل نزل القحط وإذا حصر جاء الهلاك، فالدوران معه، فإرادة التخصيص على المبالغة والادعاء نحو إطلاق اسم الجنس على فرد من أفراده كحاتم الجواد. ويجوز أن يقدم رعاية للفواصل.

ص: 42

القحط ووقع الضر، وإذا فقد حضر الهلاك ونزل البلاء. قرئ:{وَفَجَّرْنَا} بالتثقيل والتخفيف، والفجر والتفجير، كالفتح والتفتيح لفظًا ومعنى. وقرئ:{ثَمَرِهِ} بفتحتين، وضمتين، وضمة وسكون، والضمير لله تعالى، والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر {وَ} من {مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} من الغرس والسقي والإبار، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: {وَفّجَّرْنَا} بالتثقيل) هي المشهورة.

قوله: (وقرئ: {ثَمَرِهِ} بفتحتين وضمتين) بالضمتين: حمزة والكسائي. وقوله تعالى: {مِنَ الْعُيُونِ} "من" على قول الأخفش زائدة، وعلى قول غيره: المفعول محذوف، أي: من العيون ما تنتفعون به.

قوله: (والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر {وَ} من {مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}) فـ"ما" على هذا موصولة وهومع صلته، عطف على ما بينه قوله:{مِن ثَمَرِهِ} وهو ما خلقه الله. وتلخيصه ما قال: إن الثمر في نفسه فعل الله، وفيه آثار من كد بني آدم.

وعن بعضهم: في "ما عملته" ثلاثة أوجه: أحدهما: أن تكون "ما" موصولة، والثاني: أن تكون نكرة موصوفة. وعلى الوجهين هو في موضع جر عطفًا على {ثَمَرِهِ} ، ويجوز نصبه على موضع {مِن ثَمَرِهِ}. والثالث: أن تكون نافية، أي: ليأكلوا من ثمره ولم تعلمه أيديهم، ويقرأ بغير هاء. وتحتمل الأوجه الثلاثة إلا أن كونها نافية ضعيف، لأن "عملت" لم يذكر له مفعول، وهو من قول أبي البقاء.

قوله: (والإبار)، الجوهري: تأبير النخل: تلقيحه. يقال: نخل مؤبرة، والاسم منه الإبار، على وزن الإزار.

قوله: (وإبان أكله) إبان الشيء بالكسر والتشديد: وقته، يقال: كل الفواكه في إبانها، أي: في وقتها.

ص: 43

من كد بني آدم، وأصله من ثمرنا كما قال:{وَجَعَلْنَا} [المائدة: 130]، {وَفَجَّرْنَا} [الكهف: 23]، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات. ويجوز أن يرجع إلى النخيل، وتترك الأعناب غير مرجوع إليها؛ لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره. ويجوز أن يراد: من ثمر المذكور؛ وهو الجنات، كما قال رؤبة:

فيها خطوط من بياض وبلق .... كأنه في الجلد توليع البهق

فقيل له، أردت: كأن ذاك. ولك أن تجعل "ما" نافية، على أن الثمر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على طريقة الالتفات) ليس هذا من مظان الالتفات، لأن القصد في جعل الجنات وتفجير العيون إخرج الثمر المأكول، فكان التمكن على الأكل أولى بالتفخم لأنه أدل على الامتنان، وأنت تعلم الفرق بين ضمير الإفراد والجمع للواحد المطاع، بل الضمير راجع إلى المذكورات ليكون على وزان قوله:{وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَاكُلُونَ} ويظهر التفاوت بين ذلك المأكول وبين هذا من تقديم المعمول وتأخيره عن العامل، ثم جعل "ما" نافية أحرى مما تجعل موصولة لإيراد قوله:{أَفَلا يَشْكُرُونَ} على التقريع والتوبيخ، وأيضًا يلزم من الموصولة أن يكونوا مستقلين في ذلك العمل، وليس فيه لله تعالى أثر، كقوله تعالى:{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] لأن التركيب من باب قولهم: أخذته بيدي ورأيته بعيني، وذلك ينافي أن يكون قوله:{أَحْيَيْنَاهَا وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَاكُلُونَ} إلى آخر الآيتين، بيانًا لقوله:{وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ} ، والله أعلم.

قوله: (ويجوز أن يرجع إلى النخيل) عطف على قوله: "والضمير لله". الجوهري: النخل والنخيل بمعنى، والواحدة نخلة.

قوله: (فيها خطوط) البيت، التوليع: ظهور النقط البيض على الشيء، والمولع كالملمع إلا أن التوليع استطالة البلق. قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة: إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت البياض والبلق فقل: كأنهما، فقال: كأن ذلك ويلك.

ص: 44

خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه. وقرئ على الوجه الأول: (وما عملت) من غير راجع، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير. {الْأَزْوَاجَ}: الأجناس والأصناف. {ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ} : ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى من الخلائق الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقًا إلى العلم به؛ لأنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم، ولو كانت بهم إليه حاجة لأعلمهم بما لا يعلمون، كما أعلمهم بوجود ما لا يعلمون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: لم يسهم. وفي الحديث: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتهم عليه" فأعلمنا بوجوده وإعداده، ولم يعلمنا به ما هو، ونحوه:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وفي الإعلام بكثرة ما خلق مما علموه ومما جهلوه ما دل على عظم قدرته واتساع ملكه.

[{وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإذَا هُم مُّظْلِمُونَ} 37]

سلخ جلد الشاة: إذا كشطه عنها وأزاله. ومنه: سلخ الحية: لخرشائها، فاستعير لإزالة الضوء وكشفه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ على الوجه الأول) أي: على أن تكون "ما" موصولة. قال القاضي: ويؤيده قراءة الكوفيين عن حفص بلا هاء، فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها.

قوله: (وفي الحديث: "ما لا عين رأت") الحديث، أخرجناه في سورة السجدة.

قوله: (وإعداده) أي: قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

قوله: (فاستعير لإزالة الضوء وكشفه) يعني: استعار لإزالة الضوء السلخ، وهي

ص: 45

عن مكان الليل وملقى ظله. {مُظْلِمُونَ} : داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا، كما يقال: أعتمنا وأدجينا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استعارة تبعية مصرحة، والجامع ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر.

وقوله: (عن مكان الليل وملقى ظله): ظاهره مشعر بأن النهار طار على الليل. قال المرزوقي: الآية دلت على أن الليل قبل النهار، لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ، كما أن المغطى قبل الغطاء.

وقال الفراء: الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها إذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي: كشط وأزيل فتظهر الظلمة.

قال محيي السنة: معناه: نذهب بالنهار ونجيء بالليل، وذلك أن الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها.

ويؤيده ما روى الإمام أحمد بن حنبل والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليه من نوره، فمن أصابه من نوره اهتدى، ومن أخطاه ضل"، لكن قوله في سورة الرعد في قوله تعالى:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الرعد: 3] أي: يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلمًا بعد ما كان أبيض منيرًا، مؤذن بأن بين الليل والنهار توالجًا وتداخلًا، قال الله تعالى:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5] قال: إن الليل والنهار خلفة؛ يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشي مكانه، فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس.

ص: 46

[{والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * والْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما قول صاحب "المفتاح": المستعار له ظهور النهار والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته، فمأخوذ من تفسير الزجاج قال:{وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} معنى نسلخ: نخرج منه النهار إخراجًا لا يبقى معه شيء من ضوء النهار، وذلك من العلامات الدالة على توحيد الله وقدرته، فصح قوله:{فَإذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي: داخلون في الظلام.

وفي "النهاية": كتب عمر إلى [أبي] عبيدة رضي الله عنهما: "فاظهر بمن معك من المسلمين إليها"، أي: إلى الأرض، يعني: اخرج بهم إلى ظاهرها.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "كان يصلي العصر ولم يظهر الفيء بعد من حجرتها"، أي: لم يرتفع ولم يخرج إلى ظهرها.

وفي "المغرب": أصل الظهور خلاف الخفاء، وقد يعبر به عن الخروج والبروز، لأنه يردف ذلك؛ أي: هو كناية عنه. هذا التفسير موافق لما ذهب إليه المصنف؛ لأن الظهور بمعنى الزوال، وقد قال:"إذا كشطه عنها وأزاله". حكى الجوهري يقال:

وهذا أمر ظاهر عنك عاره، أي: زائل.

وفي "النهاية": لما قيل لابن الزبير: با ابن ذات النطاقين، تمثل بقول أبي ذؤيب.

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

يقال: ظهر عني هذا العيب: إذا ارتفع عنك.

ص: 47

حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 38 - 40]

{لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} : لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب؛ لأنها تتقصاها مشرقًا مشرقًا ومغربًا مغربًا حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع، فذلك حدها ومستقرها؛ لأنها لا تعدوه، أو لحد لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا؛ وهو المغرب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لحد لها مؤقت مقدر) بيان لقوله: "مؤقت"، فاللام في {لِمُسْتَقَرٍّ} للاختصاص، لأن جريها مختص به كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر. قال المصنف في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143]: "لوقتنا الذي وقتنا له وحددناه، ومعنى اللام الاختصاص".

ولو قيل: إلى مستقر لها، كان للغاية والانتهاء، ومعنى الاختصاص يعود للانتهاء، لأن جريها لما يختص بها ينتهي إليه، ولهذا قال: ينتهي إليه.

قوله: (أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب) يريد أن الشمس كل يوم لها مشرق ومغرب إلى ستة أشهر إلى أن تنتهي إلى غاية ارتفاعها في زمان الصيف، فذلك حدها في الارتفاع لا تعدوه، ثم ترجع على تلك المقنطرات ستة أشهر أخرى إلى أن تنتهي إلى غاية انخفاضها في زمان الشتاء، فذلك حدها في الانخفاض لا تعدوه، واختلاف المشارق والمغارب بحسب ارتفاعها وانخفاضها وحركاتها المخصوصة شيئًا فشيئًا بحسب التدرج أو التدلي، وهو المراد من قوله: لأنها تتقصاها مشرقًا مشرقًا ومغربًا مغربًا.

الأساس: تقصيت المكان: صرت في أقصاه، وهو مني بالقصا، أي: بالبعد.

ص: 48

وقيل: مستقرها: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه؛ وهو آخر السنة، وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها، وهو يوم القيامة.

وقرئ: (تجري إلى مستقر لها)، وقرأ ابن مسعود:(لا مستقر لها) أي: لا تزال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: مستقرها: أجلها)، فعلى هذا: المستقر اسم الزمان، وعلى الأول: اسم المكان.

قوله: (وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة)، فالمستقر أيضًا: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها.

الأساس: يقال: قررت عنده الخبر فتقرر، ويؤيد هذا التأويل ما روينا عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: "يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"تذهب لتسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، وذلك قوله تعالى: {والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} ". متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

قوله: (وقرأ ابن مسعود: "لا مستقر لها") قال ابن جني: قرأ بها ابن عباس وعكرمة وعطاء وظاهرها العموم، ومعناه الخصوص؛ لأن "لا" النافية للجنس لا تدخل إلا نفيًا عامًا؛ فقولك: لا رجل عندي، جواب عن سؤال عام، أي: هل عندك قليل أو كثير من هذا الجنس الذي يقال لواحده: رجل؟ فقوله تعالى: "لا مستقر لها" نفي أن تستقر أبدًا، ونحن نعلم أن السماوات إذا زلن بطل سير الشمس أصلًا، فاستقرت مما كانت عليه من السير. ونعوذ بالله أن تقول: إن حركتها دائمة كما تذهب إليه الملحدة. ونحوه قول الشاعر:

أبكي لفقدك ما ناحت مطوقة .... وما سما فنن يومًا على ساق

ص: 49

تجري لا تستقر. وقرئ: (لا مستقر لها) على أن "لا" بمعنى "ليس". {ذَلِكَ} الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه، وتتحير الأفهام في استنباطه، ما هو إلا {تَقْدِيرُ} الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علمًا بكل معلوم.

قرئ: (والقمر) رفعًا على الابتداء، أو عطفًا على {اللَّيْلُ} [يس: 37]، يريد: ومن آياته القمر، ونصبًا بفعل يفسره {قَدَّرْنَاهُ} ، ولابد في {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} من تقدير مضاف؛ لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل، والمعنى: قدرنا مسيره منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلًا، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: ما عشت أبدًا بكيتك، كذلك "لا مستقر لها" ما دامت السماوات على ما هي عليه.

قوله: (على أن "لا" بمعنى "ليس") المعنى: ذلك الجري على ذلك التقدير: ليس بمستقر للشمس، ذلك تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور.

قوله: (قرئ: "القمر"، رفعًا على الابتداء) قرأها الكوفيون وابن عامر: بالنصب، والباقون: بالرفع. قال أبو البقاء: "والقمر" بالرفع مبتدأ، و {قَدَّرْنَاهُ} الخبر، وبالنصب على فعل مضمر، أي: وقدرنا القمر، لأنه معطوف على اسم قد عمل فيه الفعل، فحمل على ذلك، ومن رفع قال: هو محمول على {وآيَةٌ لَّهُمْ} في الموضعين أو على {والشَّمْسُ} وهي أسماء لم يعمل فيها فعل، و"منازل"؛ أي: ذا منازل، فهو حال أو مفعول ثان لأن "قدرنا" بمعنى: صيرنا، وقيل: التقدير: قدرنا له منازل.

ص: 50

على تقدير مستو لا يتفاوت، يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثمانية والعشرين، ثم ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة، وهي: الشرطان،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الأنواء المستمطرة)، المغرب: الأنواء: جمع نوء وهي منازل القمر. وكانت العرب تعتقد أن الأمطار والخير كله يجيء منها.

الجوهري: النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، ويقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يومًا، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يومًا. قال أبو عبيد: ولم نسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع، والعرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها في سلطانه فتقول: مطرنا بنوء كذا، والجمع أنواء ونوآن أيضًا مثل عبد وعبدان وبطن وبطنان.

قوله: (الشرطين)، قال المرزوقي في كتاب "الأزمنة والأمكنة": الشرطان سمي بذلك لأنهما كالعلامتين، أي: سقوطهما علامة ابتداء المطر، والشرط: العلامة، ولهذا قيل لأصحاب السلطان: الشرط لأنهم يلبسون السواد كأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها، ويقال: أيهما قرنا الحمل، وهما أول نجوم فصل الربيع ونوؤه ثلاثة أيام.

والبطين: وسمي بذلك لأنه بطن الحمل، ونوؤه ثلاث ليال.

ص: 51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والثريا: ويسمى النجم والنظم، وهو تصغير ثروى من الكثرة ونوؤه خمس ليال.

والدبران: وسمي بذلك لأنه دبر الثريا، أي: صار خلفها ويسمى المجدح، ونوؤه ثلاث ليال.

فإن قيل: أتقول لكل ما دبر كركبًا الدبران؟ قلت: لا، لأنه قد يختص الشيء من جنسه بالاسم حتى يصير علمًا له، وإن كان المعنى يعم الجميع، وعلى ذلك قولهم: النابغة، في الجعدي [والذبياني]، وابن عباس في عبد الله، وأنشد:

وردن اعتسافًا والثريا كأنها .... على قمة الرأس ابن ماء محلق

تبدت على آثارها دبرانها .... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق

والهقعة: تشبيها سميت بذلك تشبيهًا بهقعة الدابة تكون عند رجل الفارس في جنب الدابة، يقال: فرس مهقوع، وهي ثلاثة كواكب تسمى رأس الجوزاء ونوؤه ست ليال، ولا يذكرون نوءها إلا بنوء الجوزاء، وتسمى الأثافي لأنها ثلاثة صغار منقاة.

والهنعة: وهي منكب الجوزاء الأيسر، وسميت بذلك من قولهم: هنعت الشيء: عطفته وثنيت بعضه على بعض، وكأن كل واحد منها منعطف على صاحبه، ونوؤها لا يذكر، وهو ثلاث ليال، وإنما يكون في نوء الجوزاء. والذراع: ذراع الأسد وله ذراعان: مقبوضة ومبسوطة، ونوؤها خمس ليال، وقيل: ثلاث ليال وأحد كوكبي الذراع الغميصاء وهي تقابل العبور والمجرة. ويقال لكوكبها الآخر: الشمال المرزم، ويروى ومرزم الجوزاء، ولا نوء له.

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والنثرة: وهي ثلاثة كواكب، وسميت نثرة لأنها مخطة مخطها الأسد كأنها قطعة سحاب. ويجوز أن تسمى بذلك لأنها كأنها من سحاب قد نثر، والنثرة الأنف، ونوؤها سبع ليال.

والطرف: سميت بذلك لأنها عينا الأسد، يقال: طرف فلان، أي: رفع طرفه، ونوؤه ثلاث ليال.

والجبهة: جبهة الأسد، ونوؤه سبع ليال.

والزبرة: زبرة الأسد، أي: كاهله، وقيل: زبرته شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه، ونوؤها أربع ليال.

والصرفة: سميت بذلك لأن البرد ينصرف بسقوطها، وقيل: أرادوا صرف الأسد رأسه من قبل ظهره، وأيام العجوز في نوئها وهو ثلاث ليال.

والعواء: يمد ويقصر، والقصر أجود وأكثر، وهي خمسة كواكب كأنها ألف معطوفة الذنب، وسميت العواء للانعطاف والالتواء الذي فيها، تقول العرب: عويت الشيء: عطفته. ويجوز أن يكون من "عوى": إذا صاح، كأنه يعوي في آثر البرد. ولهذا سميت طاردة البرد، ونوؤها ليلة.

والسماك: سمي السماك الأعزل لأن السماك الآخر يسمى رامحًا لكوكب تقدمه كأنه رمحه، ونوؤه أربع ليال، وسمي سماكًا لأنه سمك، أي: ارتفع.

والغفرة: وهي ثلاثة كواكب. قيل: هو من الغفرة، وهو الشعر الذي في طرف ذنب

ص: 53

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأسد، وقيل: سميت الغفرة لأنها ينقص ضوؤها، ويقال: غفرت الشيء: إذا غطيته، فعلى هذا هو في معنى مفعول. ونوؤها ثلاث ليال، وقيل: بل ليلة.

والزباني: وسمي بزبانى العقرب، وهما قرناها. كوكبان [وهو] مأخوذ من الزبن: الدفع. وكل واحد منهما مندفع عن صاحبه غير مقارن له، ونوؤها ثلاث ليال.

والإكليل: وهي ثلاثة كواكب مصطفة على رأس العقرب، ولذلك سميت به، كأنه من التكلل وهو الإحاطة. ونوؤها أربع ليال، وهو من العقرب.

والقلب: وهي كوكب أحمر نير. سمي بالقلب لأنه في قلب العقرب، ونوؤها ليلة. والقلوب أربعة: قلب العقرب، وقلب الأسد، وقلب الثور، وهو الدبران، وقلب الحوت.

والشولة: سميت بذلك لأنها ذنب العقرب، وذنبها شائل أبدًا. والحجازيون يسمونها الإبرة، ونوؤها ثلاث ليال، وهما كوكبان مضيئان.

والنعائم: وهي ثمانية كواكب: أربعة منها في المجرة وتسمى الواردة، لأنها شرعت في المجرة كأنها تشرب، وأربعة خارجة تسمى الصادرة، وإنما سميت نعائم تشبيهًا بالخشيات التي تكون على البئر، ونوؤها ليلة.

والبلدة: وهي فرجة بين النعائم وبين سعد الذابح، وهو موضع خال ليس فيه كوكب،

ص: 54

البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوا، السماك، الغفر، الزبانى، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشاء. فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس، و {عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ} ؛ وهو عود العذق، ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. وقال الزجاج: هو فعلون، من الانعراج؛ وهو الانعطاف. وقرئ:(العرجون) بوزن الفرجون؛ وهما لغتان،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإنما سميت بذلك تشبيهًا بالفرجة التي تكون بين الحاجتين غير مقرونين. يقال: رجل أبلد؛ إذا اقترن حاجباه. ونوؤها ثلاث ليال، وقيل: ليلة.

والذابح: سمي بذلك لكوكب بين يديه يقال: هو شاته التي تذبح. ونوؤه ليلة.

والبلع: سمي بذلك لأن الذابح معه كوكب بمنزلة شاته، وهذا لا كوكب معه، فكأنه قد بلع شاته. وقيل: سمي به لأن صورته صورة فم فتح ليبلع، ونوؤه ليلة.

وسعد السعود: سمي بذلك لأن في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم، ونوؤها ليلة.

وسعد الأخبية: وسمي بذلك لكوكب في كواكبها على صورة الخباء. وقيل: لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئًا. ونوؤه ليلة.

وفرغ الدلو المقدم: ويقال الأعلى. وقال: إنما سمي به لأن في وقته تأتي الأمطار كثيرًا، فكأنه فرغ دلو، وهو مصب الماء، ونوؤه ثلاث ليال.

وفرغ الدلو المؤخر: ونوؤه أربع ليال.

والرشا: وهو السمكة، ويقال: بطن السمكة وقلب الحوت. تم كلام المرزوقي، والله أعلم.

قوله: (العرجون) وهو المحش، أي: مشط تدلك به الدابة من الحديد.

ص: 55

كالبزيون والبزيون؛ والقديم المحول، وإذا قدم دق وانحنى واصفر، فشبه به من ثلاثة أوجه. وقيل: أقل مدة الموصوف بالقدم الحول، فلو أن رجلًا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصيته: عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وقرئ: (سابق النهار) على الأصل، والمعنى: أن الله تعالى قسم لكل واحد من الليل والنهار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (البزيون والبزيون)، الجوهري: بالضم: السندس.

قوله: (والقديم المحول)، الجوهري: أحال عليه الحول، أي: حال وأحالت الدار وأحولت، أي: أتى عليه حول، فهو محيل. قال الكميت:

وما أنت والطلل المحول؟

قوله: (فشبه به من ثلاثة أوجه) أي: هو من تشبيه الهيئة الحاصلة من مجموع أمور بمثلها، نحو تشبيه النجم بعنقود الكرم في الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير في المرئي على كيفية مخصوصة إلى مقدار مخصوص، وفي معنى التدرج والعود الذي يغطيانه "حتى" و"عاد" الإشعار بأن الابتداء إنما هو من الشبه بالعرجون حتى يتدرج إلى أن يصير بدرًا ثم ينزل إلى العود إلى ما بدئ منه.

قوله: (وقرئ: "سابق النهار" على الأصل)، قال أبو البقاء: وقرأ بعضهم: "سابق النهار" بالنصب بلا تنوين، وهو ضعيف، وجوازه على أن يكون حذف التنوين لالتقاء الساكنين.

ص: 56

وآيتيهما قسمًا من الزمان، وضرب له حدًا معلومًا، ودبر أمرهما على التعاقب، فلا ينبغي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وآيتيهما قسمًا من الزمان) عطف تفسيري على قوله: "الليل والنهار" نحنو: أعجبني زيد وكرمه، وهما النيران من قوله تعالى:{فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وإنما فسر به لينطبق على قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} كأنه قيل: ولا القمر سابق الشمس لينطبق عليه قوله: {وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال القاضي: وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها.

واعلم أن هذه الآية من المعضلات، وقد زاد في إشكالها عبارة المصنف؛ فقوله تعالى:{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} معناه: لا يتسهل لها أن تتصرف في سلطان القمر، وفي الليل لوقوع التدبير في المعاقبة بين الليل والنهار، وذلك أن سلطان القمر في الليل فلا تطلع الشمس فيه، فتزيل سلطانه وتصرفه عن مطارح ضيائه وصبغه الفواكه وغير ذلك، وقوله:{ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} معناه: لا يتسهل للقمر أن يكون ذا سلطان في النهار بل تراه جرمًا لا نورانية له، ولا بهاء فيه، فضلًا أن يزيل سلطان الشمس.

تلخيصه: أن كلا منهما مدبر بأمر معلوم ومقام مختص به، وتسخير معين في السير، نحوه قوله تعالى:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] وينصره النظم.

أما السباق فقوله: {والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا .... والْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} والسياق {وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وإليه الإشارة بقوله: ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، كأنه قيل: لا الشمس ينبغي لها أن تتصرف في الليل

ص: 57

للشمس - أي: لا يتسهل لها، ولا يصح، ولا يستقيم؛ لوقوع التدبير على المعاقبة، وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله - {أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} فتجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه فتطمس نوره، ولا يسبق الليل النهار، يعني: آية الليل آية النهار، وهما النيران، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولا القمر أن يتصرف في النهار. ويرد على هذا التأويل إشكال وهو أن يقال: إن كان المراد من ذلك عدم تسهل تصرف كل واحد في سلطان الآخر، فلم خولف بين العبارتين بالسبق والإدراك؟ وهو المراد من قوله: لم جعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؟

وخلاصة الجواب: أنه روعي المناسبة بين العبارتين لا غير، لأن إثبات صفة الإدراك وسلبها مناسب للشمس، كما أن إثبات صفة السبق ونفيها مناسب للقمر لسرعة سير القمر وبطء سير الشمس.

ويؤيد هذا التأويل ما روى محيي السنة عن بعضهم: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر؛ لا تطلع الشمس بالليل، ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء، فإذا اجتمعا، وأدرك كل واحد منهما صاحبه، فلقد قامت القيامة. وقيل:{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} أي: لا يجتمع معه في فلك واحد تم كلامه.

فإن قلت: لم عدل عن الظاهر، وأن يقال: ولا القمر سابق الشمس كما صرح به المصنف، ولا يسبق الليل النهار، أي: أية الليل آية النهار؟

قلت: ليؤذن بالتعاقب بين الليل والنهار، ومنصوصية التدبير على المعاقبة، فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل واحد منهما عليها، والله أعلم.

ص: 58

من ذلك، وينقض ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر، ويطلع الشمس من مغربها.

فإن قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة، والقمر غير سابق؟ قلت: لأن الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك؛ لتباطؤ سيرها عن سير القمر، والقمر خليقًا بأن يوصف بالسبق؛ لسرعة سيره. {وَكُلٌّ} التنوين فيه عوض من المضاف إليه، والمعنى: كلهم، والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره.

[{وآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ * وخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وإن نَّشَا نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ولا هُمْ يُنقَذُونَ * إلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا ومَتَاعًا إلَى حِينٍ} 41 - 44]

{ذُرِّيَّتَهُمْ} : أولادهم ومن يهمهم حمله. وقيل: اسم الذرية يقع على النساء؛ لأنهن مزارعها، وفي الحديث: أنه نهى عن قتل الذراري، يعني النساء. {مِّن مِّثْلِهِ}: من مثل الفلك {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل:{الفُلْكِ المَشْحُونِ} : سفينة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره) أي: في "سورة الأنبياء"، قال فيها:"والضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها" وقد شرحناه. وإنما جمعها بالواو والنون لما وصفا بما يختص بذوي العقول وهو السبح. قال الزجاج: ومعنى "يسبحون" يسيرون فيه بانبساط، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه، ومن ذلك السباحة في الماء.

قوله: (وقيل: اسم الذرية يقع على النساء لأنهن مزارعها)، قال في " الفائق": قال حنظلة الكاتب: كنا في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرأى امرأة مقتولة فقال: "هاه! ما كانت

ص: 59

نوح، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم؛ لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. و {مِّن مِّثْلِهِ}: من مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق. {فَلا صَرِيخَ} : لا مغيث. أو: لا إغاثة. يقال: أتاهم الصريخ. {ولا هُمْ يُنقَذُونَ} : ولا ينجون من الموت بالغرق {إلاَّ رَحْمَةً} : إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة، {إلَى حِينٍ}: إلى أجل يموتون فيه لابد لهم منه بعد النجاة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه تقاتل، الحق خالدًا وقل: لا تقتلن ذرية ولا عسيفًا". وهي نسل الرجل، وقد أوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء.

وقال الراغب: الذرية: أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان يقع على الصغار والكبار معًا في التعارف، ويستعمل في الواحد والجمع، وأصلها الجمع، قال الله تعالى:{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] وفيه ثلاثة أقوال: قيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزه كـ" روية"، و"برية" وقيل: أصله ذروية، وقيل: هو فعلية من الذر نحو قمرية.

قوله: (لا مغيث أو لا إغاثة) وفي "اللباب": الصريخ والصارخ: المغيث، والصريخ والصارخ: المستغيث.

قوله: (لا ينجون من الموت بالغرق {إلاَّ رَحْمَةً} إلا لرحمة منا) مشعر بأن الاستثناء متصل والمستثنى منه أعم عام المفعول له.

ص: 60

من موت الغرق. ولقد أحسن من قال:

ولم أسلم لكي أبقى، ولكن .... سلمت من الحمام إلى الحمام

وقرأ الحسن رضي الله عنه: (نغرقهم).

[{وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ومَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * ومَا تَاتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} 45 - 46]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: هو مفعول له أو مصدر، وقيل: استثناء منقطع. وقد اختار المصنف في "الأنعام" هذا وتقديره: ولا هم ينجون من الغرق البتة ولكن رحمة ربي هي التي تنجيهم.

قوله: (ولم أسلم) البيت. يقول: إن أسلم من مرض لم أبق خالدًا، ولكن سلمت من الموت بهذا المرض إلى الموت بمرض أو سبب آخر.

الانتصاف: القائل أبو الطيب، أخذ المعنى من هذه الآية، أخبر الله تعالى أنهم إن يسلموا من موت الغرق فذلك سلامة إلى أجل يموتون فيه لابد لهم منه.

قوله: ({اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ومَا خَلْفَكُمْ} كقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [سبأ: 9] وجه المشابهة: إحاطة العذاب بهم من كل أدب، وأنهم أينما ساروا فإنه أمامهم وخلفهم محيط بهم لا يقدرون الخروج عما هم فيه يدل عليه قوله:{إِنْ نَشَا نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] وهذا هو الوجه لقوله {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ولا هُمْ يُنقَذُونَ * إلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} ولذلك قال: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .

ص: 61

{اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ومَا خَلْفَكُمْ} كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سبأ: 9]، وعن مجاهد: ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من الوقائع التي خلت، يعني: من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها، {ومَا خَلْفَكُمْ}: من أمر الساعة، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: لتكونوا على رجاء رحمة الله. وجواب {إِذَا} محذوف مدلول عليه بقوله: {إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} ، كأنه قال: وإذا قيل لهم: اتقوا: أعرضوا. ثم قال: ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة.

[{وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} 47]

كانت الزنادقة منهم يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ودأبهم الإعراض عند كل آية) إشارة إلى أن قوله: {ومَا تَاتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} كالتذييل للكلام السابق.

قوله: (كانت الزنادقة). في "المغرب": قال الليث: الزنديق معروف. وزندقته: أنه لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق. وعن ثعلب: ليس "زنديق" من كلام العرب، ومعناه ما تقول العامة: ملحد ودهري.

وقال الإمام: الزنادقة هم المانوية، وكان المزدكية يسمون بذلك، ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ، وزعم أن الأموال والحرم مشتركة، وأظهر كتابًا سماه "زندا"، وهو كتاب المجوس الذي جاء به زردشت الذي زعموا أنه نبي فنسب أصحاب مزدك إلى زند، وعربت الكلمة فقيل: زنديق.

ص: 62

لو شاء الله لأغنى فلانًا، ولو شاء لأعزه، ولو شاء لكان كذا؛ فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله. ومعناه: أنطعم المقول فيه هذا بينكم؟ وذلك أنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله؛ لأنهم معطلة لا يؤمنون بالصانع. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ ! وقيل: كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادرًا على إطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله، يعنون قوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136]، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم.

{إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} قول الله لهم. أو حكاية قول المؤمنين لهم. أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنطعم المقول فيه هذا القول)، فـ {مَنْ} موصولة، وصلته الجملة الشرطية، ولذلك أوله بالمقول فيه، وجعل المجموع في تأويل المفعول به لقوله {أَنُطْعِمُ} ، والظاهر أن الصلة مفتقرة إلى التأويل، كما قال في قوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} [النساء: 9]: ما معنى وقوع "لو تركوا" وجوابه صلة لـ {الَّذِينَ} ؟ وأجاب: معناه: ليخش الذين صفتهم وحالهم أتهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافًا. ويمكن أن يقال: إن الصلة والموصول كشيء واحد، فلذلك جاز تأويله بالموصولة تارة والصلة أخرى بذاك.

قوله: (ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك) قال القاضي: هذا من فرط جهالتهم، فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له.

ص: 63

[{ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَاخُذُهُمْ وهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} 48 - 50]

قرئ: (وهم يخصمون) بإدغام التاء في الصاد مع فتح الخاء وكسرها، وإتباع الياء الخاء في الكسر، و:(يختصمون) على الأصل، و (يخصمون) من: خصمه. والمعنى: أنها تبعتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها، لا يخطرونها ببالهم مشغلين بخصوماتهم في متاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ويتشاجرون. ومعنى يخصمون: يخصم بعضهم بغضًا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون، لا يستطيعون أن يوصوا في شيء من أمورهم {تَوْصِيَةً} ، ولا يقدرون على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهم يخصمون) قرأ ابن كثير وورش وهشام: بفتح الخاء وتشديد الصاد، وقالون وأبو عمرو: باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد، والنص عن قالوا: بالإسكان، وحمزة: بإسكان الخاء وتخفيف الصاد، والباقون _وهم: عاصم وابن ذكوان والكسائي_: بكسر الخاء وتشديد الصاد. قال مكي: من قرأ بفتح الياء وكسر الخاء مشددًا فأصله يختصمون ثم إذا ألقى حركة التاء على الخاء وأدغمها في الصاد. ومن قرأ بفتح الياء وكسر الخاء مشددًا، فإنه لم يلق حركة التاء على الخاء إذا أدغمها، ولكن حذف الفتحة لما أدغم فاجتمع ساكنان: الخاء والمشدد، فكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وكذلك التقدير في قراءة من اختلس فتحة الخاء، اختلسها لأنها ليست بأصل في الخاء ولم يمكنه إسكان الخاء لئلًا يجمع بين ساكنين، فيلزمه الحذف والتحريك.

قوله: (وقيل: تأخذهم) عطف على قوله: يخصم إلى آخره. قيل: قوله: "يخصم بعضهم بعضًا" قريب من معنى"يختصمون" و"يخصمون" بالتشديد. وقوله: "وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة" من قولهم: خصمته أي: غلبته بالحجة، أي: أنهم عند أنفسهم

ص: 64

الرجوع إلى منازلهم وأهاليهم، بل يموتون بحيث تفجؤهم الصحية.

[{ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَإذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا ويْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} 51 - 52]

قرئ: {الصُّورِ} بسكون الواو؛ وهو القرن، أو جمع صورة، وحركها بعضهم، و {الأَجْدَاثِ}: القبور. وقرئ بالفاء. (ينسلون) يعدون، بكسر السين وضمها، وهي النفخة الثانية. قرئ:(يا ويلتنا). وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (من أهبنا)، من هب من نومه؛ إذا انتبه، وأهبه غيره. وقرئ:(من هبنا) بمعنى أهبنا، وعن بعضهم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يغلبون بالحجة في عدم البعث وفي الواقع مغلوبون محجوجون. الجوهري: خاصمته مخاصمة وخصامًا، والاسم الخصومة. وخاصمته فخصمته أخصمه بالكسر ولا يقال بالضم إلا في الشذوذ. ومنه قراءة حمزة"وهم يخصمون".

قوله: (قرئ: {الصُّورِ} بسكون الواو) وهي قراءة العامة، وحركها بعضهم كما تقول: درر ودرور، وكذا {يَنسِلُونَ} بكسر السين.

قوله: (وقرئ: "من هبنا") قال ابن جني: هي قراءة أبي بن كعب. و"من أهبنا" بالهمز عن ابن مسعود، وهي أقيس. ويقال: هب من نومه أي: انتبه، وأهببته أنا: أي: أنبهته. قال:

ألا أيها النوام ويحكم هبوا .... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب؟

وأما أهبني أي: أيقظني فلم أرلها أصلا، ولا مربنا في اللغة مهيوب بمعنى موقظ، اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفًا أي: هب بنا، أي: أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل وليس

ص: 65

أراد هب بنا، فحذف الجار وأوصل الفعل. وقرئ:(من بعثنا)، و (من هبنا)، على "من" الجارة والمصدر، و {هَذَا} مبتدأ، و {مَا وَعَدَ} خبره، و {مَا} مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون {هَذَا} صفة للمرقد، و {مَا وَعَدَ} خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا وعد الرحمن، أي: مبتدأ محذوف الخبر، أي:{مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} حق عليكم. وعن مجاهد: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور، قالوا: من بعثنا؟ وأما {هَذَا مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ} فكلام الملائكة. عن ابن عباس، وعن الحسن: كلام المتقين. وقيل: كلام الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضًا. فإن قلت: إذا جعلت {مَا} مصدرية؛ كان المعنى: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله:{وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} إذا جعلتها موصولة؟ قلت: تقديره: هذا الذي وعده الرحمن، والذي صدقة المرسلون، بمعنى: والذي صدق فيه المرسلون، من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعنى على: من هب فهببنا معه، وإنما معناه: من أيقظنا كما أن قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ليس معناه أنه تعالى ذهب وذهب بنورهم معه، بل أذهب نورهم، فذهب به كأذهبه، أي: أزاله فاعرف ذلك.

قوله: (وقرئ: "من بعثنا") قال ابن جني: قرأها علي رضي الله عنه. فمن الأولى متعلقة بالويل، أو حال منه متعلقة بمحذوف، أي: كائنا من بعثنا، وجاز أن يكون حالًا منه كما يجوز أن يكون خبرًا منه، كقول الأعشى:

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

ومن في {مِن مَّرْقَدِنَا} متعلقة بنفس البعث.

ص: 66

ومنه: صدقني سن بكره. فإن قلت: {مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ؟ سؤال عن الباعث، فكيف طابقه ذلك جوابًا؟ قلت: معناه: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنباكم به الرسل؛ إلا أنه جيء به على طريقة: سيئت بها قلوبهم، ونعيت إليهم أحوالهم، وذكروا كفرهم وتكذيبهم، وأخبروا بوقوع ما أنذروا به، وكأنه قيل لهم: ليس بالبعث الذي عرفتموه، وهو بعث النائم من مرقده، حتى يهمكم السؤال عن الباعث، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع، وهو الذي وعده في كتبه المنزلة على السنة رسله الصادقين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومنه: صدقني سن بكره) أي: في سن بكره. مضى شرحه في "الأحزاب" عند قوله تعال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].

قوله: (فكيف طابقه ذلك جوابًا) يعني: سألوا عن الفاعل وعن الباعث بقولهم: {مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ؟ وكان من الظاهر أن يجابوا بأنه الرحمن أو الله، فكيف قيل:{هَذَا مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} ؟

وأجاب: أن ذلك القدر ليس بكاف في الجواب ظاهرًا، لأن قولهم:{مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} حكاية عن قولهم هذا عند البعث بعد ما سبق من قولهم: {ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فلا بد في الجواب من قول يتضمن معنيين فإذا مقتضى الظاهر أن يقال: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث، وأنبأكم به الرسل كما صرح به المصنف. لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم وتصوير حال كفرهم ليكون أهول وفي التفريع أدخل.

والجواب وارد على الأسلوب الحكيم يعني: لا تسألوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم، وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن، وإنما الذي يهمكم أن تسألوا: ما هذا البعث ذو الأهوال والأفزاع إلى آخر ما ذكره المصنف.

ص: 67

[{إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ولا تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ولَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} 53 - 58]

{إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} قرئت منصوبة ومرفوعة. {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} ، {إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ} حكاية ما يقال في ذلك اليوم. وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره. {فِي شُغُلٍ}: في أي شغل وفي شغل لا يوصف، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم، ووقع في تلك الملاذ التي أعدها الله للمرتضين من عباده، ثوابًا لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم، وذلك بعد الوله والصبابة، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في أي شغل) إلى آخره، بيان لإطلاق {شُغُلٍ} ، وتقرير لمعنى التنكير فيه.

الراغب: الشغل والشغل: العارض الذي يذهل الإنسان، وقد شغل فهو مشغول، ولا يقال: أشغل. وشغل شاغل.

قوله: (بعد الوله): الوله: التحير من شدة الوجد، و" الصبابة": رقة الشوق وحرارته.

وذلك إشارة إلى قوله: "شغل من سعد" إلى آخره، أي: فما ظنك بشغل من سعد بالمذكور بعد الوجد والتشوق إلى نيل المباغي، ثم إلى قوله:"الخشية" متعلق بالأمور الدنيوية، ومن قوله:" وتخطي الأهوال" إلى آخره، متعلق بما عند الموت والبرزخ إلى آخر أخطار القيامة.

وفي معناه قول القائل: الوصول إلى المطلوب بعد النصب أعز من المنساق بلا تعب.

ص: 68

التقوى والخشية، وتخطي الأهوال، وتجاوز الأخطار، وجواز الصراط، ومعاينة ما لقي العصاة من العذاب؟ ! وعن ابن عباس: في افتضاض الأبكار. وعنه: في ضرب الأوتار. وعن ابن كيسان: في التزاور. وقيل: في ضيافة الله. وعن الحسن: شغلهم عما فيه أهل النار: التنعم بما هم فيه. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم؛ لئلًا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. قرئ:{في شُغُلٍ} بضمتين، وضمة وسكون، وفتحتين، وفتحة وسكون. والفاكه والفكه: المتنعم والمتلذذ، ومنه: الفاكهة؛ لأنه مما يتلذذ به، وكذلك: الفكاهة؛ وهي المزاحة. وقرئ: {فَاكِهُونَ} ، و (فكهون)، بكسر الكاف وضمها، كقولهم: رجل حدث وحدث، ونطس ونطس. وقرئ:(فاكهين)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن ابن عباس: في افتضاض الأبكار) شروع في تقييد {شُغُلٍ} بعد تفسيره بما ينبئ عن العموم أو الإطلاق وما لا يدخل تحت الحصر، فتارة قيده ب"في" وأخرى ب"عن" في قوله:"شغلهم عما فيه أهل النار".

قوله: ({في شُغُلٍ} بضمتين) الحرميان وأبو عمرو: بإسكان الغين، والباقون: بضمها.

قوله: (وكذلك الفكاهة؛ وهي المزاحة) الراغب: الفكاهة: حديث ذوي الأنس. قال تعالى: {فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ} .

قوله: (رجل حدث وحدث)، الجوهري: رجل حدث_ بضم الدال وكسرها_ أي: حسن الحديث.

قوله: (ونطس ونطس)، الجوهري: التنطس: المبالغة في التطهر وكل من أدق النظر في الأمور واستقصى علمها فهو متنطس ومنه: رجل نطس بضم الطاء وكسرها.

ص: 69

و (فكهين) على أنه حال، والظرف مستقر. {هُمْ} يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون تأكيدًا للضمير في {شُغُلٍ} ، وفي {فَاكِهُونَ} على أن أزواجهم يشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء على الأرائك تحت الظلال. وقرئ:(في ظلل)، والأريكة: السرير في الحجلة. وقيل: الفراش فيها. وقرأ ابن مسعود: (متكئين). {يَدَّعُونَ} يفتعلون، من الدعاء،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("فكهين" على أنه حال)، قال أبو البقاء: ويقرأ {فَاكِهينَ} على الحال من الضمير في الجار، وعلى المشهورة:{فَاكِهُونَ} خبر ثان، والأول {فِي شُغُلٍ} ، أو هو الخبر، و {فِي شُغُلٍ} يتعلق به.

قوله: (وقرئ: "في ظلل") حمزة والكسائي: بضم الظاء من غير ألف، والباقون: بكسرها وبالألف. وقال أبو البقاء: {فِي ظِلَالٍ} يجوز أن يكون خبر {هُمْ} ، و {عَلَى الْأَرِائِكِ} استئناف، ويجوز أن يكون الخبر {مُتَّكِئُونَ} ، و {فِي ظِلَالٍ} حال و {عَلَى الْأَرِائِكِ} منصوب بمتكئون. وظلال: جمع ظل، كذئب وذئاب، أو جمع ظلة، كقبة وقباب، والظلل: جمع ظلة لا غير.

قوله: (في الحجلة) وهي واحدة حجال العروس وهي بيت يزين بالثبات.

قوله: (يفتعلون من الدعاء) قال مكي: أصل {يَدَّعُونَ} : يدتعيون، على وزن: يفتعلون، من: دعا يدعو، فأسكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، وقيل: بل ضمت العين لأجل واو الجمع بعدها، ولم تلق

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليها حركة الياء، لأن العين كانت متحركة فصارت يدتعون، فأدغمت التاء في الدال وكان ذلك أولى من إدغام الدال في التاء، لأن الدال حرف مجهور، والتاء حرف مهموس والمجهور أقوى، فكان رد الأضعف إلى الأقوى أولى، فأبدلوا من التاء دالًا فأدغمت فصارت: يدعون.

و"ما" ابتداء بمعنى: الذي، أو مصدر، أو نكرة وما بعدها صفة لها و"لهم" الخبر.

وقال أبو البقاء: وقيل: الخبر {سَلَامٌ} ، وقيل:{سَلَامٌ} صفة ثانية ل"ما" أو من الهاء المحذوفة، أي: ذا سلامة أو مسلمًا، و {قَوْلًا}: مصدر، أي: يقول الله أو الملائكة قولًا، و"من" صفة لـ {قَوْلًا} .

قوله: (هو بدل من "ما") هذا إذا كانت "ما" نكرة موصوفة فظاهر، وأما إذا كانت معرفة موصولة فجائز عند بعضهم وقال: من ذهب إلى اشتراط النعت في البدل فقوله فاسد والدليل على ذلك قوله:

إنا وجدنا بني سلمى بمنزلة .... كساعد الضب لا طول ولا قصر

ف" لا طول" و"لا قصر" نكرتان، وهما بدلان من "ساعد الضب" ولم ينعتا، ولا يجوز أن يكون نعتين، لأن ساعد الضب معرفة.

قال الإمام: ليس معناه: أنهم يدعون لأنفسهم دعاء فيستجاب بعد الطلب، بل معناه: لهم ما يدعون لأنفسهم أي: لهم ذلك فلا حاجة إلى الدعاء كما أن الملك إذا طلب مملوكه منه شيئا يقول: لك ذلك ففهم منه تارة أنك مجاب إلى مطلوبك وأخرى الرد، أي: إن ذلك حاصل لك فلم تطلبه؟ أي: لهم ما يدعون ويطلبون فلا طلب لهم، أو لهم الطلب والإجابة،

ص: 71

أي: يدعون به لأنفسهم، كقولك: اشتوى واجتمل؛ إذا شوى وجمل لنفسه. قال لبيد:

فاشتوى ليلة ريح واجتمل

ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه، كقولك: ارتموه، وتراموه. وقيل: يتمنون، من قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي، و: فلان في خير ما ادعى، أي: في خير ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أي: ما يدعوا به أهل الجنة يأتيهم. و {سَلَامٌ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن الطلب أيضًا لذة وكذلك العطاء، فإن من يتمكن من أن يخاطب الملك في حوائجه فله منصب عظيم.

قوله: قال لبيد أوله:

وغلام أرسلته أمه .... بألوك فبذلنا ما سأل

أرستله فأتاه رزقه .... فاشتوى ليلة ريح واجتمل

الألوك: الرسالة، والجميل: الإهالة المذابة، أي: أذاب وشوى لنفسه.

قوله: (يتداعونه) قال الإمام: فهو افتعال بمعنى التفاعل كالاقتتال بمعنى التقاتل، ومعناه ما ذكرنا: أن كل ما يصح أن يدعوا أحد صاحبه إليه أو يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل.

قوله: (قال الزجاج)، والمذكور في تفسيره:{مَا يَدَّعُونَ} معناه: ما يتمنون، يقال: فلان في خير ما ادعى، أي: ما تمنى، وهو مأخوذ من الدعاء، أي: كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم.

ص: 72

بدل من {مَا يَدَّعُونَ} ، كأنه قال لهم: سلام يقال لهم {قَوْلًا مِن} جهة {رَبٍّ رَحِيمٍ} . والمعنى: أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس: فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. وقيل: {مَا يَدَّعُونَ} مبتدأ، وخبره {سَلَامٌ} ، بمعنى: ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه. و {قَوْلًا} مصدر مؤكد لقوله تعالى: {ولَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلامٌ} أي: عدة من رب رحيم. والأوجه: أن ينتصب على الاختصاص،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{سَلَامٌ} : بدل من "ما"، المعنى: لهم ما يتمنونه سلام، أي: هذا منى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم.

قوله: (أو بغير واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم) فيقال له: ليس أبلغ في التعظيم وألذ الملاذ أن ينظروا مع ذلك إلى وجهه الكريم، على ما روينا عن ابن ماجه، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] قال: فنظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره"، وماذا على المصنف لو آمن به وترك التعصب.

قوله: "يحتجب عنهم": الاحتجاب: جعل الخلق في حجاب من رؤيته، ويجوز أن يقال: الله تعالى محتجب وليس بمحجوب، لأن الاحتجاب اقتدار وقهر، والمحجوب مقهور، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

قوله: (والأوجه أن ينتصب على الاختصاص) أي: {قًوْلًا} إذا جعل منصوبًا على

ص: 73

وهو من مجازه. وقرئ: (سلم) وهو بمعنى السلام في المعنيين. وعن ابن مسعود: (سلامًا) نصب على الحال، أي: لهم مرادهم خالصًا.

[{وامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ} 59]

{وامْتَازُوا} وانفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة. ونحوه قوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [الروم: 14 - 16]. يقال: مازه فانماز وامتاز. وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير. وعن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المدح كان أوجه من أن ينتصب على المصدر بفعل محذوف، أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، لأن المقام من مجاز المدح، لأن هذا القول صادر عن رب رحيم في مقام التعظيم، وكان جديرًا بأن يفخم أمره ويعظم قدره، ويكون جملة مستقلة مفصولة عما سبق.

وأما جواز أن يكون النصب على المدح نكرة، فقد سبق في قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].

قوله: (وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة)، أي: يقال للمجرمين: وامتازوا عن المؤمنين ليسار بهم إلى النار كما يسار بالمؤمنين إلى الجنة، ويخاطبون بما يقابله، أي: وامتازوا اليوم أيها المؤمنين؛ على تضمين {إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ} هذا المعنى.

وبيانه: أن قوله {وَلَا تُجْزَوْنَ} خطاب مجمل يعم أهل المحشر وفيهم الفريقان، وتفصيله قوله:{إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ} وقوله: {وامْتَازُوا} ، فلا بد من ذلك التقدير ليصح عطف الطلبي على مثله، وإنما لم يقدر خلافه بأن يقال: إن أصحاب النار كذا، لأن المجمل وهو {الْيَوْمَ} {تُجْزَوْنَ} خطاب، والمناسب أن يكون التفصيل أيضًا خطابًا ليطابق المجمل، وإلى الإجمال والتفصيل الإشارة باستشهاد بقوله:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] إلى آخر الآيات.

قوله: (فانماز وامتاز)، الجوهري: مزت الشيء أميز ميزًا: عزلته، وكذلك: ميزنه تمييزًا، فانماز وامتاز وتميز واستماز: كله بمعنى، يقال: امتاز القوم: إذا تميز بعضهم من بعض.

ص: 74

الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه، لا يرى ولا يرى. ومعناه: أن بعضهم يمتاز من بعض.

[{أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} 60 - 60]

العهد: الوصية، وعهد إليه: إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركز فيهم من أدلة العقل، وأنزل عليهم من دلائل السمع.

وعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم. وقرئ: (إعهد) بكسر الهمزة، وباب "فعل" كله يجوز في حروف مضارعته الكسر، إلا في الياء؛ و (أعهد) بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب: نعم بنعم وضرب يضرب؛ و (أحهد) بالحاء، و (أحد) وهي لغة تميم، ومنه قولهم: دحامحًا. {هَذَا} : إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن؛ إذ لا صراط أقوم منه، ونحو التنكير فيه ما في قول كثير:

لئن كان يهدى برد أنيابها العلا .... لأفقر مني إنني لفقير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقد جوز الزجاج)، وذكر في "تفسيره": ويقرأ "أعهد" بالكسر، والأكثر الفتح، على قولك: عهد يعهد، والكسر على ضربين: على: عهد يعهد، مثل: حسب يحسب.

قوله: (قولهم: دحامحًا)، قال في "المطلع": وقرئ بالحاء مكان العين، وبحاء مشددة على الإدغام والقلب بالحرفين، وهي لغة تميم، ومنه قولهم:"دحامحا" في: دعها معها، أي: دع هذه القربة مع هذه المرأة.

قوله: {هَذَا} إشارة إلى لفظ {هَذَا} في قوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} .

قوله: (لئن كان يهدى) البيت، قال المرزوقي: أفقر لا يصح أن يكون من افتقر

ص: 75

أراد: إنني لفقير بليغ الفقر، حقيق بأن أوصف به لكمال شرائطه في، وإلا لم يستقم معنى البيت، وكذلك قوله:{هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأن شرط بناء التفضيل أن يكون من الثلاثي ولكن من "فقر" المرفوض استعماله. أو بني منه على حذف الزوائد نحو: ريح لاقح، أي: ملقح، ويهدى: من الإهداء: الإتحاف، أو من الهداء: الزفاف.

أنيابها العلى؛ أي: الشريفة العالية أو الأعالي، فإنها مواضع القبل.

وقوله: "إنني لفقير"؛ فعيل: بناء مبالغة، ولا سيما أطلق إطلاقًا، فلا يقال: فقير إلى كذا وكذا، فيخصص، أي: لا غاية لفقري.

قوله: (وإلا لم يستقم معنى البيت) أي: لو لم يخمل "لفقير" على: بليغ الفقير؛ لم يستقم معنى البيت، لأن أفعل التفصيل يستدعي أن يكون المهدى إليه كذلك كأنه قيل: لم تجد أحدًا أفقر مني لأني بلغت غايته، كما قال المرزوقي. كذلك لو لم يحمل {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} على المبالغة لم يتم معنى قوله: {لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} لأن النهي عن عبادة الشيطان نهي عن متابعة سبيله، وهو جميع طرق الضلالات والأهواء والبدع، والأمر بعبادة الرحمن أمر باختصاص متابعة سبيل الحق، كأنه قيل: لا تعبدوا الشيطان وخصصوني بالعبادة، لأن صراطي بليغ في استقامته، وأيضًا إن قوله {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} جملة مستأنفة على بيان الموجب فلو لم يحمل على ما شرحه لم يتم ذلك.

ونحوه ما روينا عن النسائي والدارمي عن ابن مسعود: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله وقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان

ص: 76

يريد: صراط بليغ في بابه، بليغ في استقامته، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه.

ويجوز أن يراد: هذا بعض الصرط المستقيمة؛ توبيخًا لهم على العدول عنه، والتفادي عن سلوكيه، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج الذي يؤدي إلى الضلالة والتهلكة، كأنه قيل: أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق: أن يعتمد فيه كما يعتمد في الطريق الذي لا يضل السالك، كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي ليس بعده: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار؛ توبيخًا له على الإعراض عن نصائحه.

[{ولَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا اليَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} 62 - 64]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يدعوا إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

قوله: (يريد: صراط بليغ في بابه، بليغ في استقامته)، قال صاحب الفرائد: الذي حمله على هذا البيان أن حق المقام في الظاهر التعريف إدارة الحصر بأن يقال: هذا الصراط المستقيم، أو هذا هو الصراط المستقيم ليكون إثباتًا له ونفيًا لغيره؛ لأن الصراط المستقيم لم يمكن أن يكون غير هذا، لكن لهذا المعنى الدقيق اللطيف عدل إلى التنكير.

قوله: (ويجوز أن يراد: هذا بعض الصرط المستقيمة توبيخًا لهم عن العدول عنه)، أي: أن قوله: {هَذّا} بعض الطرق المستقيمة، مع أن الواقع أنه كل الطرق، بل ليس الطريق إلا هو، للإيذان بأن المخاطب قد تفادى وتحامى وانزوى عن سلوكه، يعني: هب أن هذا الطرق ليس من الطرق التي بلغت في الكمال غايته، أليس أنه بعض منها؟ وأقل ما عليك أن تعتقد أنه طريق لا يضل السالك فيه، فهضم من حقه ليكون توبيخًا للمخاطب على عدم التفاته إليه، وأهجم به على الغلبة وأبعث على التفكير لأنه من الكلام المنصف.

ص: 77

قرئ: (جبلًا) بضمتين، وضمة وسكون، وضمتين وتشديدة، وكسرتين، وكسرة وسكون، وكسرتين وتشديدة، وهذه لغات في معنى الخلق. وقرئ:(جبلاُ) جمع جبلة، كفطر وخلق، وفي قراءة علي رضي الله عنه:(جيلًا) واحد الأجيال.

[{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 65]

يروى: أنهم يجحدون ويخاصمون؛ فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث:"يقول العبد يوم القيامة: إني لا أجيز علي شاهدًا إلا من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل"، وقرئ:(يختم على أفواههم)، و (تتكلم أيديهم)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: جبلًا): قرأ نافع وعاصم: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمر وابن عامر: بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام، والباقون: كذلك غير أنهم ضموا الباء.

قوله: (وهذه لغات في معنى الخلق). قال الإمام: الجيم والباء واللام لا تخلو من معنى الاجتماع.

قوله: (أناضل) أي: أدافع. الجوهري: فلان يناضل عن فلان: إذا تكلم عنه بعذره ودفع.

ص: 78

وقرئ: (ولتكلمنا أيديهم وتشهد) بلام "كي" والنصب، على معنى: ولذلك نختم على أفواههم. وقرئ: (ولتكلمنا أيديهم ولتشهد) بلام الأمر والجزم، على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.

[{ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) ولَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًا ولا يَرْجِعُونَ} 66 - 67]

الطمس: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة. {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل. والأصل: فاستبقوا إلى الصراط، أو يضمن معنى: ابتدروا، أو يجعل الصراط مسبوقًا لا مسبوقًا إليه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "ولتكلمنا أيديهم") قال ابن جني: قرأها طلحة، وفيه حذف أي: لتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ما نختم من أفواههم، كقولك: أحسنت إليك ولشرك ما أحسنت إليك، وأنلتك سؤلك.

قوله: (أو يضمن معنى: ابتدروا) قال في "الأساس" في قسم الحقيقة: واستبقوا الصراط: ابتدروه. وقال أيضًا: تبادروا الباع وابتدروها.

قوله: (أو يجعل الصراط مسبوقًا لا مسبوقًا إليه) يعني: على الاتساع، كقوله:

ويوم شهدناه

ص: 79

أو ينتصب على الظرف. والمعنى: أنه لو شاء لمسح أعينهم، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرًا كما كانوا يستبقون إليه ساعتين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم؛ لم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: واستبقنا في العدو، أي: تسابقنا.

قوله: (أو ينتصب على الظروف)، على نحو قوله:

كما عسل الطريق الثعلب

على تقدير: في، وفيه إشكال، لأن حكم مؤقت المكان كحكم غير الظرف.

قوله: (والمعنى أنه لو شاء)، اعلم أنه ذكر في {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} وجهًا على اللف، ومن هنا شرع في النشر، فقوله أولًا:"فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق" مبني على حذف "إلى" وإيصال الفعل، أو على تضمين معنى"ابتدروا".

وقوله ثانيًا: "فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف" مبني على أن ينتصب {الصِّرَاطَ} على الظرف، فأبرز لذلك لفظة "في".

وقوله: "فلو طلبوا أن يخلقوا الصراط" مبني على أن {الصِّرَاطَ} مفعول به، وإليه أشار بقوله:" أو يجعل الصراط مسبوقًا". وعن بعضهم: استبق الصراط: جاوزها. و {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي: لا يبصرون، لأن معنى {فَأَنَّى} في هذا المقام معنى "كيف" على الإنكار.

قوله: (إلى الطريق المهيع)، وفي حاشية" الصحاح": طريق مهيع، أي: مسلوك. وأبو عبيد: المهيع: الطريق الواسع الواضح.

قوله: (موضعين)، الجوهري: وضع البعير وغيره، أي: أسرع في سيره.

ص: 80

يقدروا، وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلًا عن غيره. أو: لو شاء لأعماهم، فلوا أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا. أو: لو شاء لأعماهم، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقًا، يعني: أنهم لا يقدرون إلًا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطريق والمسالك، كما ترى العميان يهتدون فيها ألفوا وضروا به من المقاصد دون غيرها. {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} ، وقرئ:(على مكاناتهم)، والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. أي: لمسخناهم مسخًا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضي ولا رجوع. واختلف في المسخ؛ فعن ابن عباس: لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم. وقرئ: {مُضِيًا} بالحركات الثلاث، فالمضي والمضي كالعتي والعتي، والمضي كالصبي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتعايا عليهم)، الأساس: عي بالأمر وتعيى به وتعايا، وأعياه الأمر: إذا لم يضبطه.

قوله: (وضروا به) أي: تعودوا. الجوهري: وقد ضري الكلب بالصيد ضراوة: تعود.

قوله: (وقرئ: "على مكاناتهم") قرأ أبو بكر: بالجمع، والباقون: على التوحيد.

قوله: (وقرئ: {مُضِيًا} بالحركات الثلاث)، بالضم: هي المشهورة، وبالفتح والكسر: شاذ.

ص: 81

[{ومَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} 68]

(ننكسه في الخلق): نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه قبلًا؛ وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسد، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده، ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. قال عز وجل:{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5]، وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، ومن العلم إلى الجهل بعدما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم) إلى قوله: (قادر على أن يطمس [على] أعينهم ويمسخهم) يريد أن قوله {ومَن نُّعَمِّرْهُ} الجملة معطوفة على متعلق علة محذوفة، المعنى: لو نشاء لفعلنا الطمس، ولو نشاء لفعلنا المسخ، لأنا قادرون على كل شيء وعلى قلب الحقائق، ألا ترى كيف نقلب الإنسان في الخلق فتخلقه على عكس ما خلفناه قبلًا، وهذا ليس بأعرب من ذلك، وقوله:{أَفَلا يَعْقِلُونَ} تنبيه على التفكير وتوبيخ لما لو عسى أن ينكر منكر أنه تعالى كيف يختم على الأفواه يوم القيامة لتتكلم الأيدي وتشهد الأرجل، ومثله ما روينا عن البخاري ومسلم عن أنس: أن رجلًا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا

ص: 82

وأراد. وقرئ بكسر الكاف، و {نُنَكِّسْهُ} ، و (نَنْكُسْهُ) من التنكيس والإنكاس. {أَفَلا يَعْقِلُونَ} بالتاء والياء.

[{ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ومَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} 69 - 70]

كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر، وروي: أن القائل: عقبة بن أبي معيط، فقيل:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} أي: وما علمناه بتعليم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة". قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا.

قوله: (وقرئ بكسر الكاف و {نُنَكِّسْهُ}): عاصم وحمزة: {نُنَكِّسْهُ} بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الكاف وتشديدها. والباقون: بالفتح للنون الأولى وإسكان الثانية وضم الكاف مخففة.

قوله: (أي: وما علمناه بتعليم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر) يعني: قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} كناية تلويحية عن كون القرآن ليس بشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، لأن الآية رد لقولهم: هو شاعر، وذلك أنهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ نشأ بين ظهرانيهم ما ينبئ عن الشعر ولا نسبوه إلى الشاعرية أصلًا، فلما سمعوا منه هذا القرآن المجيد نسبوه إليها إيذانًا بأن القرآن شعر فقيل لهم:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ودل به على أن القرآن ليس بشعر، أي: وما جعلنا تعليمنا القرآن له ذريعة إلى تعلم الشعر حتى يكون شاعرًا، فإذا لم يكن تعليم القرآن ذريعة إليه، فلا يكون القرآن شعرًا، ولا يكون هو شاعرًا،

ص: 83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فالباء في قول المصنف: " وما علمناه بتعليم القرآن الشعر" للاستعانة، وذلك أن من يمارس الدواوين والأشعار ربما يستعين به على قرض الشعر. وإذا لم يكن القرآن من الشعر في شيء فكيف يستعان به عليه؟ وإليه الإشارة بقوله: فأين الوزن وأين التقفية، وأين المعاني وأين النظم وأين الأساليب؟

والغرض في ارتكاب هذه الكناية تطبيق هذا الرد على قولهم لرسول صلى الله عليه وسلم: إنه شاعر، وتلفيق قوله {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ} بقوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} فقوله: " وما ينبغي له" اعتراض لتقرير أنه ليس بشاعر، وقوله:{إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ} تقرير للمقدر.

وأورد أن هذا ليس من قبيل الكناية فضلًا عن أن يكون تلويحية لأنه انتقال من ملزوم واحد إلى اللازم، فيقال: لا ارتياب أن دلالة {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} على أن القرآن ليس بشعر، ودلالة ذلك على نقي الشاعر ليس من قبيل المفهوم الحقيقي، وهو نفي تعليم الشعر منه. ولا من قبيل المجاز عند مقتني صناعة البيان؛ لا من أنواع المفرد منه ولا المركب، أي: الاستعارة التمثلية أو الإسناد المجازي، فوجب المصير إلى الكناية باستعانة اقتضاء المقام كما سبق لما يلزم من نفي الشاعرية حينئذ نفي كون القرآن شعرًا ومن نفيه نفي تعليم الشعر بواسطة القرآن، فآذن الانتقال من قوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} أي: أن القرآن ليس بشعر، ومن ذلك إلى أنه صلوات الله عليه ليس بشاعر انتقال من اللازم إلى الملزوم بمرتبتين، ولا يعني بالتلويح الأبعد والانتقال؛ ألا ترى إلى ما أنشده صاحب"المفتاح" من قوله ابن هرمه:

لا أمتع العوذ بالفصال ولا .... أبتاع إلا قريبة الأجل

فإنه استعان بوساطة مقام المدح وتسلسل اللوازم على أنه مضياف، والله أعلم وأما البيان النظم فإن قوله {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} الآية خاتمة لبيان

ص: 84

وما هو من الشعر في شيء، وأين هو عن الشعر، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحوال المعاد، وكالتخلص إلى ذكر أحوال المكذبين من قوم الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقريعهم وتوبيخهم، وهو قوله:{ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} {ولَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: لا تتعجبوا بما نختم على أفواههم في القيامة، ولو شئنا الآن لطمسنا على أعينهم، فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف لم يستطيعوا، ولو نشاء لمسخناهم مسخًا يجمدهم مكانهم لفعلنا، ومن تكاذبهم قولهم في القرآن وفي من أنزل عليه: إنه شاعر وهو شعر حتى رد عليهم بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} إلى قوله: {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} ، وهذا المعنى يملح إلى ما أفتتح به السورة من قوله:{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .

قوله: (والشعر إنما هو كلام موزون مقفى)، الراغب: الشعر معروف، والجمع أشعار، قال تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} [النحل: 80] وشعرت: أصبت الشعر، ومنه استعير، شعرت: كذا، أي: علمت علمًا في الدقة كإصابة الشعر. قيل: وسمي الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته. فالشعر في الأصل: اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري، وصار في التعارف اسمًا للموزون المقفى من الكلام والشاعر المختص بصناعته. وقوله تعالى حكاية عن الكفار:{بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] كثير من المفسرين حملوه على أنهم رموه بكونه أتى بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظة تشبه الموزون من نحو قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].

وقال بعض المحصلين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به، لأنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر، ولا يخفى ذلك على الأغتام من العجم فضلًا عن بلغاء العرب، وإنما رموه بالكذب، فإن الشعر يعبر به عن الكذب، والشاعر: الكاذب، حتى سمى قوم الأدلة الكاذبة الشعرية، ولهذا قال في وصف عامة الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ

ص: 85

يدل على معنى، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلامهم عن نظمه وأساليبه؟ فإذا لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت، اللهم إلا أن هذا لفظه عربي، كما أن ذاك كذلك. {ومَا يَنْبَغِي لَهُ}: وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أي: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] ولكون الشعر مقر الكذب، قيل: أحسن الشعر أكذبه، وقال بعضهم: لم ير متدين صادق اللهجة مفلقًا في شعره. والشعار: الثوب الذي يلي البدن لمماسته الشعر. والشعار: ما يشعر به الإنسان نفسه في الحرب أي: يعلم، والشعراء ذباب الكلب لملازمته شعره.

قوله: ({ومَا يَنْبَغِي لَهُ} وما يصح له ولا يتطلب)، روي عن المصنف أنه قال: في" كتاب" سيبويه حرف واحد: كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على الانفعال، كضرب وطلب وعلم، وما ليس فيه علاج كعدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة.

وقال ابن الحاجب: {مَا يَنْبَغِي} بمعنى: لا يستقيم عقلا كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]؛ لأنه لو كان ممن يقول الشعر لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه. ولذلك عقبه بقوله: {ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} ؛ لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة، فيحق القول عليهم. أشار إلى اتصال هذا الآية بما قبلها وما بعدها كما قررناه آنفًا.

قال الإمام: وفيه وجه أحسن من ذلك، وهو أن الشعر لا يليق بمثله، ولا يصلح له، لأن الشعر يدعوا إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف، وكلها تستدعي الكذب، وجل جناب الشارع عنه، فما هو إلا كتاب

ص: 86

كما جعلناه أميًا لا يتهدى للخط ولا يحسنه؛ لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض.

وعن الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن كان لا يتأتى له. فإن قلت: فقوله:

أنا النبي لا كذب .... أنا ابن عبد المطلب

وقوله:

هل أنت إلا أصبع دميت .... وفي سبيل الله ما لقيت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سماوي يقرأ في المحاريب ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته الفوز في الدارين، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟

روينا عن البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرًا.

وفي "مسند أحمد بن حنبل" عن عائشة قالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر.

وفي "المسند" أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أبالي ما ركبت إذا أنا شربت ترياقًا أو علقت تميمة، أو قلت شعرًا من قبل نفسي".

قوله: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، قاله صلوات الله عليه يوم حنين حين نزل ودعا واستنصر في حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن البراء.

ص: 87

قلت: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة، من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك كما ينفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرًا، ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر، وإذا فتشت في كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزن البحور غير عزيز، على أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعرًا، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال:{إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ} يعني: ما هوا إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجن، كما قال:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27]، وما هو إلا قرأن كتاب سماوي، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ {لِيُنذِرَ} القرآن، أو الرسول،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت .... وفي سبيل الله ما لقيت

قوله: (على السليقة)، الجوهري: هي الطبيعة يقال: فلان يتكلم بالسليقة، أي: بطبعه، لا عن تعلم وهي منسوبة.

قوله: (المشطور من الرجز)، عن بعضهم: المشطور: الذي أخذ شطره، وهو الذي ليس بمصرع، كقوله:

يا ليتني فيها جذع .... أخب فيها وأضع

ص: 88

وقرئ: (لتنذر) بالتاء، و (لينذر): من: نذر به؛ إذا علمه. {مَن كَانَ حَيًا} أي: عاقلًا متأملًا؛ لأن الغافل كالميت؛ أو معلومًا منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان، {ويَحِقَّ القَوْلُ}:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "لتنذر") بالتاء: نافع وابن عامر، والباقون: بالياء التحتانية.

قوله: (من: نذر به: إذا علمه)، الجوهري: ونذر القوم بالعدو بكسر الذال المعجمة؛ إذا علموا.

قوله: (أو معلومًا منه أنه يؤمن)، عطف على " عاقلًا متأملًا"، وعلى الأول {حَيًّا} استعارة مصرحة بحقيقته استعبر الحياة للعقل لجامع التكميل والتزيين. وعلى الثاني استعارة للإيمان كذلك، ثم مجاز باعتبار ما يؤول. كقوله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] قال: سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، كأنه قيل: لينذر من كان مآل أمره إلى الإيمان به لأنه الذي ينتفع بالإيمان، ولذلك رتب "فيجيء بالإيمان" على قوله:"معلومًا منه أنه يؤمن".

وقال بعض المشاهير: أطلق كان والمراد يكون مجازًا باعتبار ما يؤول، فيقال:" كان" في هذه الآية نحوها في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]؛ ولذلك قال: "معلومات منه أنه يؤمن". وهذا الوصف على هذا التقدير ثابت للموصوف، وكذا على الوجه الأول.

قال الراغب: "كان" يستعمل منه في جنس الشيء متعلقًا بوصف لينبه على أن ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك كقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]، ومن ثم قوبل به قوله:{ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} لأنه معبر به عن العلم الأزلي، واختير قوله {عَلَى الكَافِرِينَ} على "من يكفر"؛ أي: وجب وثبت في علم الله واستمراره على الكفر كما ثبت في

ص: 89

وتجب كلمة العذاب {عَلَى الكَافِرِينَ} الذين لا يتأملون ولا يتوقع منهم الإيمان.

[{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ومِنْهَا يَاكُلُونَ * ولَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ومَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} 71 - 73]

{مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} : مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا، وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة والحكمة فيها، والتي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو. وعمل الأيدي: استعارة من عمل من يعملون بالأيدي، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي: خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع بها لا يزاحمون. أو فهم لها ضابطون قاهرون، من قوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

علم الله دخول ذلك في الإيمان، فظهر من هذا التقابل: أن الكافر كالميت والمؤمن كالحي.

وقوله: " ({عَلَى الكَافِرِينَ} الذين لا يتأملون) مقابل لقوله: أي عاقلًا متأملا. وقوله: "ولا يتوقع منهم الإيمان" مقابل لقوله: "أو معلومًا منه الإيمان" والله أعلم.

قوله: (وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة) يعني: إنما قرن إنا خلقنا لهم بقوله: {مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وآثر صيغة التعظيم والأيدي مجموعة ليدل على إبداع خلق عجيب وإبداع صنع غريب فيه، لأن اليد إذا استعيرت للقدرة دلت على دقة في المقدور.

قوله: (وعمل الأيدي استعارة من عمل من بعمل) يعني: استعير عمل الأيدي من مكان يستعمل فيه هذا اللفظ حقيقة، وهو الإنسان، لمن لا يستعمل فيه عمل الأيدي إلا مجازًا، وهو الله سبحانه وتعالى، ونحوه استعمال الطلع في قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] فيما لا طلع له من الشجر، واستعمال المرسن في أنف لا رسن له.

قوله: (أو: فهم لها ضابطون) فالمالك بمعنى القاهر والقادر من ملكت العجين: إذا أجدت عجنه فقويته، ومنه أخذ الملك لأنه القدرة على المملوك، والفاء على الأول للتسيب وهي فصيحة لتقدير فملكناهم وهذا أوجه، لأن قوله:{وذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} وتقسيمه بالركوب

ص: 90

أصبحت لا أحمل السلاح ولا .... أملك رأس البعير إن نفرا

أي: لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله وتسخيره لها؟ كما قال القائل:

يصرفه الصبي بكل وجه .... ويحبسه على الخسف الجرير

وتضربه الوليدة بالهراوى .... فلا غير لديه ولا نكير

ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13]. وقرئ: {رَكُوبُهُمْ} و (ركوبتهم)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والأكل يدل على الضبط والقهر فدل "مالكون" على أن أحدًا لا يمنعهم من التصرف فيها ودل {وذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} على أنها في أنفسها لا تمتنع من التصرف فيها بما أراد صاحبها، وعلى الوجه الثاني: وذلللناهم لهم عطف تفسيري على قوله: {مَالِكُونَ} وليس بقوي.

قوله: (أصبحت) البيت، وبعده:

والذئب أخشاه إن مررت به .... وحدي وأخشى الرياح والمطرا

سئل عن أبي هرمة: كيف أصبحت؟ فأنشد البيتين.

قوله: (يصرفه الصبي) البيتين، الجرير: حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة غير الزمام، والخسف: الذل. والهراوى: جمع الهراوة وهي العصا الضخمة، والغير: اسم من قولهم: غيرت الشيء فتغير، أو جمع غيره.

قوله: (وقرئ: {رَكُوبُهُمْ})، وهي قراءة العامة. قال ابن جني: قرأ الحسن والأعمش بضم الراء. وقرأت عائشة رضي الله عنها ركوبتهم، وأما الضم فمصدر، والكلام محمول

ص: 91

وهما ما يركب، كالحلوب والحلوبة. وقيل: الركوبة: جمع. وقرئ: (ركوبهم) أي: ذو ركوبهم، أو: فمن منافعها ركوبهم. {مَنَافِعُ} : من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك. {ومَشَارِبُ} : من اللبن، ذكرها مجملة، وقد فصلها في قوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} الآية [النحل: 80]. والمشارب: جمع مشرب؛ وهو موضع الشرب، أو الشرب.

[{واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ * فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ومَا يُعْلِنُونَ} 74 - 76].

اتخذوا الآلهة طمعًا في أن يتقووا بهم ويعضدوا بمكانهم، والأمر على عكس ما قدروا؛ حيث هم جند لآلهتهم معدون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على حذف المضاف، أي: ذو ركوبهم، وهو المركوب ومرجعها إلى قراءة من قرأ بفتح الراء وإن شئت قدرت: فمن منافعها أو من أعراضها ركوبهم، وأما ركوبتهم فهي المركوبة كالجزورة والحلوبة، أي: ما يجز ويحلب.

وقال مكي: ركوبتهم: الأصل عند الكوفيين؛ ليفرق بين ما هو فاعل وبين ما هو مفعول، يقولون: امرأة صبور وشكور فهذا فاعل، ويقولون: ناقة حلوبة وركوبة فهذا مفعول.

قوله: (هو موضع الشرب، أو الشرب)، في" المطلع": مشارب: جمع مشرب، بمعنى موضع الشرب، أو هي مصدر بمعنى المشروب، وهو لبنها ومخيضها والزبد والسمن والأقط والجبن والرائب وغيرها.

ص: 92

{مُحْضَرُونَ} يخدمونهم ويذبون عنهم، ويغضبون لهم، والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر، أو: اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهموا؛ حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم؛ لأنهم يجعلون وقودًا للنار.

قرئ: {فَلا يَحْزُنكَ} بفتح الياء وضمهما، من حزنه وأحزنه. والمعنى: فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، فإنا عالمون بـ {مَا يُسِرُّونَ} من عداوتهم {ومَا يُعْلِنُونَ} ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({مُحْضَرُونَ} يخدمونهم) أي: يحضرونها لخدمتها وعبادتها، لقوله:"محضرون لعذابهم" حيث صرح باللام.

وأما اتصال هذه الآية بما قبلها فأن تجعل حالًا مقررة لجهة الإشكال؛ أي: إنا خلقناهم وفعلنا كذا وكذا وهم اتخذوا من دون الله ما لا يستطيعون نصرهم، ومع ذلك إنهم يذبون عنها ويغضبون لها، وإليه الإشارة بقوله: والأمر على عكس ما قدروا.

قوله: (قرئ: {فَلا يَحْزُنكَ} بفتح الياء وضمها): نافع: بالضم، والباقون: بالفتح.

قوله: (والمعنى: فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم) إلى آخره، لابد لهذا الفاء من كلام تتصل به، والذي يصلح لذلك قوله:{ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ، لأنه في جواب من قال: إنه صلوات الله عليه شاعر والقرآن شعر.

وأما بيان النظم، فإنه تعالى بعد ما رد عليهم قولهم: إنه شاعر، أتى بقوله:{أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} الآيات، مسليًا حبيبه صلوات الله عليه، يعني: لك التأسي بربك، فإنه تعالى أراهم تلك الآيات الباهرة، وأولاهم تلك النعم المتظاهرة، وعلموا أنه المتفرد بها، ومع ذلك كابروا وعاندوا واتخذوا من دونه آلهة أشركوها به في العبادة، فإذا كان كذلك فلا يحزنك قولهم، لأنا مجازوهم على تكذيبهم إياك إشراكهم بي.

ص: 93

وإنا مجازوهم عليه، فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة؛ حتى ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن. فإن قلت: ما تقول فيمن يقول: إن قرأ قارئ: (أنا نعلم) بالفتح: انتقضت صلاته، وإن اعتقد بما يعطيه من المعنى: كفر؟ قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون على حذف لام التعليل، وهو كثير في القرآن والشعر، وفي كل كلام وقياس مطرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الحمد والنعمة لك"، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي، وكلاهما تعليل. والثاني: أن يكون بدلًا من {قَوْلُهُمْ} ، كأنه قيل: فلا يحزنك، إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون. وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن)، الجملتان مقررتان على النفي والإثبات طردًا وعكسًا.

قوله: (وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن البخاري ومسلم ومالك وغيرهم، عن ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدًا يقول: " [لبيك] اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" لا يزيد على هذه الكلمات.

النهاية: التلبيد: هو أن يسرح الشعر ويجعل فيه شيء من صمغ ليلتزق ولا يتشعث في الإحرام.

قوله: (مع المكسورة) يعني: هذا المحذور أيضًا قائم مع المكسورة على تقدير المقول، فعليك أن لا تقدر البدل فاتحًا، ولا تقدر مقول القول كاسرًا لأنه على التقديرين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالمًا بسرهم وعلانيتهم، بل يقدر على الفتح، والكسر للتعليل، وهو المراد بقوله: وإنما يدوران على تقديرك: فينفصل إلى آخره على أن ذلك جائز على سبيل التعريض كقوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105].

ص: 94

للقول، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالمًا وعدم تعلقه لا يدوران على كسر "إن" وفتحها، وإنما يدوران على تقديرك، تتفضل إن فتحت بأن تقدر معنى التعليل ولا تقدر البدل، كما أنك تتفضل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية، ثم إن قدرته كاسرًا أو فاتحًا على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل، فما فيه إلا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالمًا بسرهم وعلانيتهم، وليس النهي عن ذلك ما يوجب شيئًا، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 68]، {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 87]، {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} [الشعراء: 213].

[{أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ * إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 77 - 83]

قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحًا لا ترى أعجب منه وأبلغ، ودل على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحًا)، قال القاضي: هذه تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. يريد أن قوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَانُ} معطوف على قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} وأسلوبها أسلوبها في التعكيس، يعني: أنا كما تولينا إحداث النعم ليكون ذريعة إلى أن يشكروها فجعلوها وسيلة إلى الكفران، كذلك خلقناهم من أخس الأشياء وأمهنها، ليخضعوا ويتذللوا، فإذا هو خصيم مبين.

ص: 95

وتغلغله في القحة؛ حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه؛ وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار، ويبرز صفحته لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج، ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعدما ومت عظامه؟ ! ثم يكون خصامه في ألزام وصف له وألصقه به؛ وهو كونه منشأ من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات، وهي الكابرة التي لا مطمح وراءها، وروي: أن جماعة من كفار قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك، فقال لهم أبي: ألا ترون إلى ما يقول محمد: إن الله يبعث الأموات، ثم قال: واللات والعزى لأصيرن إليه ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في القحة)، الجوهري: وقح الرجل إذا صار قليل الحياء، وهو وقح ووقاح بين القحة والوقاحة، والهاء عوض من الواو.

قوله: (ويمحك)، الجوهري: المحك: اللجاج، وقد محك يمحك فهو رجل محك ومماحك.

قوله: (ثم يكون خصامه في ألزم وصف) ثم هذه يجوز أن تكون للاستعباد؛ يعني ينكر الحشر، ويخاصم مع مهانته الجبار مع مهابته في شيء في غاية من الظهور والجلاء! ما أبعد ذلك من العاقل!

قوله: (والعاص بن وائل)، عن بعضهم: العاص، صح بالرفع، لأنه من الأعياص، من العوص لا من العصيان، والأعياص من قريش وهم أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، وهم أربعة: العاص وأبو العاص، والعيص وأبو العيص، والعيص الأصل.

ص: 96

ولأخصمنه، وأخذ عظمًا باليًا فجعل يفته بيده وهو يقول: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعدما قد رم؟ ! قال صلى الله عليه وسلم:"نعم، ويبعثك ويدخلك جهنم". وقيل: معنى قوله: {فَإِذَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولأخصمنه)، وخاصمت فلانا فخصمته أخصمه بالكسر، ولا يقال بالضم، وهو شاذ. ومنه قراءة حمزة:" وهم يخصمون".

قوله: (نعم، ويبعثك ويدخلك جهنم)، من الأسلوب الحكيم، أي: إحياؤه مما لا كلام فيه، فسل عن حالك كيف تصير إلى جهنم؟ قيل: ليس هذا من الأسلوب الحكيم في شيء، بل أجاب وزاد في الجواب بالبعث والعقاب.

فيقال: الأسلوب الحكيم: هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب والسائل بغير ما يتطلب، فقوله صلوات الله عليه:" ويبعثك ويدخلك جهنم" هو الجواب المفحم، وقوله:"نعم" توطئة للجواب، واللعين لم يترقب ذلك، على أن سؤاله ذاك لم يكن سؤال مسترشد طالب للحق بل سؤال متعنت متهكم لم يقنع بلا ونعم. فكيف لا وقد أسلف: ألا ترون ما يقول محمد: إن الله يبعث الأموات إلى آخر ما ذكره، نظيره قوله تعالى:{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 18] جوابًا عن قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16] على أن الزائد على الجواب لا يتبينه إلا الحكيم الحاذق.

قال الراغب: السؤال ضربان: سؤال جدل وحقه أن يطابقه جوابه لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، وسؤال تعلم وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب رفيق يتحرى شفاء سقيم فيطلب ما يشفيه طلبه المريض أو لم يطلبه.

ص: 97

هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}: فإذا هو بعدما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر على الخصام، {مُّبِينٌ}: معرب عما في نفسه فصيح، كما قال تعالى:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]. فإن قلت: لم سمى قوله: {مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ} مثلًا؟ قلت: لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل؛ وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. أو لما فيه من التشبيه؛ لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، بدليل النشأة الأولى، فإذا قيل: من يحيي العظام؟ على طريق الإنكار لأن يكون ذلك ممًا يوصف الله تعالى بكونه قادرًا عليه؛ كان تعجيزًا لله وتشبيهًا له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه. والرميم: اسم لما بلي من العظام غير صفة، كالرمة والرفات، فلا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبرًا لمؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: مثاله من غلب عليه مرة السوداء إذا طلب من الطبيب تناول الجبن فيقول: عليك بمائه كما أجيب عن قولهم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وإذا طلب من قهره الصفراء العسل فيقول له: مع الخل، وعليه ما نحن بصدده، وقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215].

قوله: (من التشبيه؛ لأن ما أنكر) إلى آخره، تلخيصه: أن إحياء الأموات من قبيل الصفات التي يوصف بها الباري ليمتاز عن الخلق كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وقال تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الدخان: 8]، فإذا أنكر ذلك لزم منه العجز وهو ما يرصف به المخلوق، فلذلك قيل:{وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} أي شبهنا بالمخلوقين.

قال الإمام: {وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب.

قوله: (ولا هو فعيل بمعنى فاعل) قيل: هو معطوف على قوله "غير صفة". وفي

ص: 98

مفعول. ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام، ويقول: إن عظام الميتة نجسة؛ لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها. وأما أصحاب أبي حنيفة فهي عندهم ظاهرة، وكذلك الشعر والعصب، ويزعمون أن الحياة لا تحلها؛ فلا يؤثر فيها الموت، ويقولون: المراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس. {وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يعلم كيف يخلق، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات من أجناسها وأنواعها وجلائلها ودقائقها. ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر، مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي توري بها الأعراب وأكثرها من المرخ والعفار، وفي أمثالهم: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، ويقطع الرجل منهما غصنين من مثل السواكين وهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"المطلع": الرميم اسم غير صفة كالرمة والرفات لا فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، ولأجل أنه اسم لا صفة لا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبر لمؤنث؟ قال القاضي: والرميم: ما بلي من العظام، ولعله فعيل بمعنى فاعل؛ من: رم الشيء، فصار اسمًا بالغلبة، ولذلك لم يؤنث، أو بمعنى مفعول؛ من: رممته، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.

وقال محيي السنة: لم يقل رميمة لأنه معدول عن فاعلة، وكل ما كان معدولًا عن وجهه ووزنه كان مصروفًا عن أخواته لقوله:{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] أسقط الهاء؛ لأنها كانت مصروفة عن: باغية.

قوله: (في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار)، استمجد: يستعمل في تفضيل الفاضل على الفضلاء، قال الميداني: يقال مجدت الإبل تمجد مجودًا إذا نالت من الخلى قريبًا من الشبع، واستمجد المرخ والعفار، أي: استكثر وأخذا من النار ما هو حسبهما؛ شُبِّها

ص: 99

خضراوان، يقطر منهما الماء فيسحق المرخ، وهو ذكر، على العفار، وهي أنثى، فتنقدح النار بإذن الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب. قالوا: ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين. قرئ: {الْأَخْضَرِ} على اللفظ، وقرئ:(الخضراء) على المعنى، ونحوه قوله تعالى:{مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة: 52 - 54]. من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسي أقدر، وفي معناه قوله تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]. وقرئ: (يقدر). وقوله: {أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السماوات والأرض، أ: أن يعيدهم؛ لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بمن يكثر العطاء طلبًا للمجد، لأنهما يسرعان الوري. يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض، وليس في الشجر أورى زنادًا من المرخ. والزند الأعلى يكون من العفار، والأسفل من المرخ

قال:

إذا المرخ لم يور تحت العفار

قوله: (والقماءة)، الجوهري: قمؤ الرجل قماء وقماءة، قميئًا، وهو الصغير الذليل، وأقمأنه: صغرته وذللته فهو قميء؛ على: فعيل.

قوله: (لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به) أي: أم المعاد مثل المبتدأ وليس بعينه، كما فسره صاحبا"المطلع" و"التقريب". وقال صاحب "التقريب": وفيه نظر لأنه خلاف المذهب وقد أحسن وأجاد بعض فضلاء العصر حيث قال: ما ذكره المصنف مناف لما صرح به قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} لأن الضمير في {يُحْيِيهَا} و {أَنشَأَهَا} راجع إلى أمر واحد. فيكون المحيي هو المنشئ أول مرة فالمعاد عين المبتدأ، ولأن قولهم: {مَن يُحْيِي

ص: 100

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العِظَامَ} إنكار لخلق تلك العظام الرميمة البالية بعينها إحياء، فلو لم يكن المراد من قوله:{يُحْيِيهَا} أن الله يجعلها أحياء بعينها لم يطابق السؤال الجواب.

وقال الإمام رحمه الله: إعادة المعدوم عندنا جائز خلافًا لجهور الفلاسفة خذلهم الله، الكرامية وطائفة من المعتزلة. وقال أيضًا: والدليل على أن حشر الأجساد حق أن عود البدن في نفسه ممكن والله قادر على كل الممكنات. وعالم بكل المعلومات فكان القول بالحشر ممكنًا والأنبياء قد أخبروا عن وقوعه، والصادق إذا أخبر عن وقوع شيء ممكن وجب القطع بصحته، وإنما احتجنا إلى إثبات القدرة والعلم، لأنه تعالى إذا علم بجميع المعلومات علم بأجزاء تلك العظام النخرة والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الآفاق، وإذا قدر على جميع المقدورات كان قادرًا على تمييز الأجزاء وجمعها وإعادتها كما كانت أول مرة فسبحان الخلاق العليم. هذا تلخيص كلام الإمام.

وقال: قد جمع الله سبحانه وتعالى هذه المقدمات بأسرها صريحًا في جوابه عن قولهم {مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ} ، أما ما يدل إثبات القدرة على الممكن فهو قوله:{يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} إلى آخره، وأما ما يدل على إثبات العلم بالجزئيات فهو قوله:{وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، وأما ما يدل على الإخبار عن الصادق فهو قوله:{قُلْ} ، أي: قل أيها الصادق المصدوق المشهور عندهم بالأمين، الثابت نبوته بالدلائل والبرهان، فظهر أن الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما المصنف هو الوجه تصحيحًا وذوقًا.

أما التصحيح فكما مر، وأما الذوق فإن لفظة"مثل" ههنا كناية عن المخاطبين نحو قولك: مثلك يجود، وهو المراد من قوله:"أن يخلق مثلهم" في الصغر والقماءة ثم الالتفات

ص: 101

{وهُوَ الخَلاَّقُ} : الكثير المحذوفات {العَلِيمُ} : الكثير المعلومات. وقرئ: (الخالق). {إنَّمَا أَمْرُهُ} : إنما شأنه {إذَا أَرَادَ شَيْئًا} : إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه ولا صارف {أَن يَقُولَ لَهُ كُن} : أن يكونه من غير توقف {فَيَكُونُ} فيحدث، أي: فهو كائن موجود لا محالة. فإن قلت: ما حقيقة قوله: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن} ؟ قلت: هو مجاز من الكلام وتمثيل؛ لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع. فإن قلت: فما وجه القراءتين في {فَيَكُونُ} ؟ قلت: أما الرفع؛ فلأنها جملة من مبتدأ وخبر؛ لأن تقديرها: فهو يكون، معطوفة على مثلها؛ وهي: أمره أن يقول له: كن. وأما النصب؛ فللعطف على {يَقُولُ} ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم} إلى قوله: {مِثْلَهُم} لمزيد الاحتقار والازدراء أي: مثل أولئك البعداء، ولأن وزان هذه الآية وزان قوله:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] ولو جعل المثل بمعنى مثل المبتدأ لفات أكثر هذه الفوائد.

قوله: (وتمثيل لأنه لا يمتنع) أي: تمثيل لعدم الامتناع، فاللام صلة وليس بتعليل. والضمير فيه للبيان، وقوله:"وأنه بمنزلة المأمور" عطف تفسيري عليه، والضمير للشيء؛ فالممثل الشيء المكون والممثل به المأمور المطيع، والتمثيل "كن فيكون" لأنه اللفظ المستعار لذلك المعنى، ولو أريد التعليل لقيل تمثيل، لأنه ليس ثم قول ولا أمر ولا مأمور حقيقة.

قوله: (فما وجه القراءتين في {فَيَكُونُ}؟ ) يعني الرفع والنصب. النصب ابن عامر والكسائي، والباقون بالرفع.

قوله: (وأما النصب فللعطف على {يَقُولُ})، قال أبو علي في "الإغفال": لا يجوز أن يكون جوابًا لقوله: "كن" لأن الجواب بالفاء إنما يكون لغير الموجب نحو: النفي والأمر والنهي والتمني والعرض.

ص: 102

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: فقد تقدم {كُنْ} وهو أمر فهلًا جاز انتصابه به نحو: أتيتني فأعطيك؟

قلت: كن وإن كان على لفظ فليس بأمر، لأن الأمر يقتضي مأمورًا موجودًا أو معدومًا، فإن كان موجودًا فلا وجه للأمر، وإن كان معدومًا، فلا يجوز أن يؤمر المعدوم بالكون والحدوث لما يلزم أن يكون المأمور المعدوم فاعلًا لنفسه كما يكون المتلقي لما يؤمر به وذلك فاسد. وإذا لم يكن أمرًا كان خبرًا، وإذا كان خبرًا لم يجز انتصاب الفعل بعدها على حد ما تنتصب الأفعال، ويكون المعنى- والله أعلم-: فإنما يكونه فيكون، ففاعل الفعل اسم الله تعالى، وأما ما في "النحل" فالرفع على "فهو يكون"؛ لأن المعنى ليس على جواب الأمر كقولك: قم فأعطيك، فالأول أمر والثاني ضمان، فقوله: كن "للأمر فيكون" ما يقع من المأمور.

وعن أبي العباس: فإنما يقول له كن فيكون "رفع ولا يجوز إلا الرفع لأنه ليس مثل قوله تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ} [طه: 61] لأن الأول منهم والثاني من غيرهم، ووجه النصب على الجواب. فأما إذا كان ألأول والثاني من واحد، فلم يكن إلا العطف، فقوله:{كُن فَيَكُونُ} ليس منه القول ومن المخلوق شيء، وليس هو أكثر من التكوين والإيجاد.

وقال أيضًا: ليس كن مثل قم فأعطيك، لأن أحد الفعلين مع المخاطب والآخر منك، ومن نصب نصب فهو على ما ذكر، وليس على الجواب. ذكره في البقرة عند قوله:{فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة: 102].

ويمكن أن يقال: إنك إذا قلت لزيد: اضرب عمرًا فضرب، فهم أن ضربه مسبب عن قولك، لا عن اضرب.

ص: 103

والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئًا مما تقدر عليه؛ من المباشرة بمحال القدر، واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب، إنما أمره- وهو القادر العالم لذاته- أن يخلص داعيه إلى الفعل، فيتكون، فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟ {فَسُبْحَانَ}: تنزيه له ممًا وصفه به المشركون، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا. {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: هو مالك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام)، يعني: إنما عقب بقوله: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ما سبق من إثبات القدرة على خلق السماوات والأرض وخلق مثلهم، لئلا يقيس الجاهل المنكر الغائب بالشاهد، والقادر على الإطلاق بالعاجز المحتاج؛ لأن الباري عز شأنه إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء يحدث بلا توقف لا محالة. على أن هذا تفهيم وتقريب.

قوله: (العالم لذاته)، مذهبه.

قوله: (وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا)، أي: الجماعة من كفار قريش، منهم: أبي بن خلف، وأبو جهل والعاص والوليد كما سبق؛ تكلموا في البعث وأنكروه كل الإنكار حتى أخذ أبي عظمًا باليًا، فجعل يفته بيده ويقول: يا محمد، أترى يحيى هذا بعدما رم؟ ولما أجاب الله تعالى عن ذلك بقوله:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وعقبه بقوله:{إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} رتب عليه بالفاء قوله {فَسُبْحَانَ} تأكيدًا وتقريرًا أي: إذا تقرر هذا {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فكان من حق الظاهر أن يقال: بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، فخص رجوع المشركين بالذكر دلالةً على غضب شديد وتهديد عظيم، لقولهم: من يحيي العظام وهي رميم؟ ولهذا السر أيضًا أجاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أبيًا عن هذا القول بقوله: "نعم. ويبعثك ويدخلك جهنم" كما سبق.

ص: 104

كل شيء والمتصرف فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته. وقرئ: (ملكة كل شيء)، و (مملكة كل شيء)، و (ملك كل شيء)، والمعنى واحد. {تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتحها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك، فإذا إنه لهذه الآية.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبًا، وإن قلب القرآن {يس} ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "ملكة كل شيء")، قال ابن جني: قرأها طلحة وإبراهيم والأعمش، أي: عصمة كل شيء، وهو من: ملكت العجين: إذا أجدت عجنه، فقويته بذلك. ومنه: الملك؛ لأنه القدرة على المملوك، ومنه الملك لأن به قوام الأمور. والملكوت: فعلوت منه للمبالغة، ولهذا لا يطلق إلا على الأمر العظيم، ونظيره: الجبروت والرغبوت والرهبوت.

قوله: ({تُرْجَعُونَ} بضم التاء): العامة، وفتحها: شاذ.

قوله: (إن لكل شيء قلبًا وإن قلب القرآن {يس}) الحديث من رواية الترمذي عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء قلب، وقلب القرآن {يس}، ومن قرأها كتب الله له قراءة القرآن عشر مرات".

وروى الإمام عن حجة الإسلام أنه قال: إنما كان قلب القرآن، لأن الإيمان صحته الاعتراف بالحشر والنشر، وهذا المعنى مقرر فيه بأبلغ وجه.

ص: 105

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" وأبي داود عن معقل بن يسار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اقرؤوا سورة {يس} على موتاكم".

قال الإمام: وذلك أن اللسان حينئذ ضعيف القوة والأعضاء ساقطة المنة، لكن القلب قد أقبل على الله بكليته، فيقرأ عليه ما تزداد قوة قلبه، ويشتد تصديقه بالأصول، فهو إذن عمله.

وقلت -والعلم عند الله-: إن هذه السورة الكريمة من فاتحتها إلى خاتمتها في تقرير أمهات علم الأصول وجميع المسائل المعتبرة التي أوردها العلماء في مصنفاتهم بأبلغ وجه وأتمه: فقوله تعالى: {يس * والْقُرْآنِ الحَكِيمِ} وقوله: {تَنزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ} في إثبات المعجزة، فإن الحكيم بمعنى مفعل؛ أي: المحكم المتقن الرصين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فهو محكم في نفسه، فلو حام حوله سمة الحدوث ووصمة العدم لم يكن محكمًا في نفسه، ولم يكن تنزيلًا من عزيز رحيم، ومحكم في ترصيفه وتركيبه، فلو عورض لمثله لم يكن محكمًا في ترصيفه وترتيبه ولم يكن منزلًا من لدن عزيز رحيم.

وقوله: {إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} إلى قوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ} في بيان المسائل المعتبرة في النبوات من التبليغ والبشارة والنذارة وكيفية دعوة الأمة واستعمال اللين والرفق فيها وعدم الطمع في الأجر، وأحوال الأمم وقبول البعض وإباء الآخرين، وبيان خاتمة السعداء منهم والأشقياء، وقوله:{لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إثبات القدر وأن الكائنات كلها واقعة بقدر الله ولا يخرج شيء منها من علمه، وقوله:{إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا} الآيات في إثبات القضاء. وأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وإن كان كسبًا لهم، فعلم أنه لا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا فلتة خاطر إلا بقضاء الله وقدره وإدارته ومشيئته وقوله:{ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} وقوله: {وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} في إثبات التوحيد ونفي الأضداد والأنداد ومواجب العبادة.

وقوله: {وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} إلى آخر الآيات كالبحر الزاخر في إثبات الصفات المعتبرة في أصول الدين مدبجًا بدليل الآفاق والأنفس على أتم وجه.

وقوله: {مَا يَنظُرُونَ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} إثبات لأمارات الساعة لأنها هي النفخة الأولى، يدلك عليه قوله:{تَاخُذُهُمْ وهُمْ يَخِصِّمُونَ} على ما روينا عن مسلم: "وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم"، وفيه:"أول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله" الحديث. كما أن قوله: {ونُفِخَ فِي الصُّورِ} إثبات للنفخة الثانية، وقوله:{قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ} إلى آخره في بيان الإعادة، وقوله:{فَإذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} في بيان الحشر.

وقوله: {فَإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بيان للحضور في العرصات والموقف.

وقوله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} إثبات للحساب والجزاء.

وقوله: {إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ} وقوله {وامْتَازُوا اليَوْمَ} في بيان المرجع والمآب بعد الحساب: فريق في الجنة وفريق في السعير.

ص: 107

من قرأ {يس} يريد بها وجه الله، غفر الله له، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة {يس} نزل بكل حرف فيها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفًا يصلون عليه، ويستغفرون له، ويشهدون غسله، ويتبعون جنازته، ويصلون عليه، ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ ياسين وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: {ولَهُم مَّا يَدَّعُونَ} في بيان أن لهم ما تشتهي الأنفس.

وقوله: {سَلامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} في بيان حصول ما يلذ به السمع وتقر به الأعين، وهو نيل الحسنة الكبرى والبغية الأسنى وهي رؤية الله تعالى كما دل عليه حديث المصطفى وقد أوردناه في موضعه من هذه السورة.

وقوله: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} كالفذلكة للمذكورات.

وقوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} كالخاتمة المشتملة على أسرار عجيبة، تتحير فيه الأفهام، وتكل من شرحه الألسن والأقلام، ولهذا قال حبر الأمة على ما رواه المصنف: كنت لا أعلم ما روي في فضائل {يس} وقراءتها كيف خصت بذلك، فإذا إنه لهذه الآية.

وفي تقديم بعض هذه الأصول وتأخير بعضها معان لا تكاد تنضبط. هذا ومن رام التفصيل فقد حاول نزف البحر هيهات {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] فلله تعالى في كل كلمة من القرآن كلماته التي ينفد البحر دون

ص: 108

الجنة وهو ريان". وقال عليه الصلاة والسلام: "إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نفادها. ولله در شيخنا شيخ الإسلام قدس سره وإنشاءه في كتابه "العوارف":

أنعى إليك قلوبًا طال ما هطلت .... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم

تمت السورة

حامدًا لله ومصليًا على خير خلق الله

* * *

ص: 109

‌سورة "والصافات"

مكية، وهي مئة وإحدى وثمانون، وقيل: واثنتان وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{وَالصَّافَّاتِ صَفًا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا ورَبُّ المَشَارِقِ} 1 - 5]

أقسم سبحانه بطوائف الملائكة، أو بنفوسهم الصافات أقدمها في الصلاة، من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة "والصافات"

مكية، وهي مئة وإحدى وثمانون آية، وقيل: واثنتان وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (بطوائف الملائكة) عن بعضهم: أي: بالطوائف الصافات أو بنفوسهم الصافات، وهي جمع صافة؛ لأنه لا يقال في الملائكة صافات، وهو من قولهم: صفت الإبل قوائمها وهي صافة، والناقة تصف يديها عند الحلب، وصففت القوم فاصطفوا. وقال أبو مسلم: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة؛ لأنها مشعرة بالتأنيث، والملائكة مبرءون من هذه الصفة.

وأجاب الإمام: إن "الصافات" جمع الجمع، فإنه يقال: جماعة صافة ثم يجمع على

ص: 110

قوله عز وجل: {وإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165]، أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله. {فَالزَّاجِرَاتِ} السحاب سوقًا، {فَالتَّالِيَاتِ} لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها. وقيل: الصافات: الطير، من قوله تعالى:{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور: 41].

والزاجرات: كل ما زجر عن معاصي الله، والتاليات: كل من تلا كتاب الله، ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، {فَالزَّاجِرَاتِ} بالمواعظ والنصائح، {فَالتَّالِيَاتِ} آيات الله والدراسات شرائعه، أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صافات، ولأن التأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم، لكن اللفظي لا مانع منه، وكيف وهم المسمون بالملائكة؟ .

الراغب: الصنف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم كالناس والأشجار ونحو ذلك، وقد يجعل -فيما قال أبو عبيد- بمعنى الصاف. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4].

قوله: ({فَالزَّاجِرَاتِ}: السحاب سوقًا) الراغب: الزجر طرد بصوت، يقال: زجرته فانزجر. قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات: 13]، ثم يستعمل في الطرد تارة، وفي الصوت تارة، قال تعالى:{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} أي: الملائكة التي تزجر السحاب.

وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4] أي: طرد ومنع من ارتكاب المآثم، واستعمال الزجر فيه لصياحهم بالمطرود، نحو: اغرب وتنح وراءك.

ص: 111

وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل. كما يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود، كقوله:

يا لهف زيابة للحارث الص .... صابح فالغانم فالآيب

كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب، ؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل؛ وإما على ترتب موصوفاتها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما يحكى عن علي رضي الله عنه، قيل: كان علي رضي الله عنه يخرج من الصف، وسيفه ينطف دمًا، فإذا رقي رباوة يأتي بالخطبة الغراء. هكذا وجدته في "الحاشية".

وذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب": سئل الحسن البصري عن علي رضي الله عنه، فقال: كان والله سهمًا صائبًا من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وسابقتها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالنومة عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، ذلك علي بن أبي طالب.

قوله: (وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه) يعني: يجوز أن يكون بين الشيئين تفاوت بحسب اعتبارين، فإن الشيء قد يكون أفضل من الآخر من بعض الوجوه وذلك الآخر أفضل منه من وجه آخر، فعومل بالفاء هاهنا معاملة ثم في قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد: 17]، وقد ذكر في قوله تعالى:{فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} [الشعراء: 202 - 203]: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة. وترى "ثم" يقع في هذا الأسلوب فيحل موقعه.

ص: 112

في ذلك، كقولك: رحم الله المحلقين فالمقصرين؛ فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات. فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (رحم الله المحلقين فالمقصرين) أي المحلق أقرب من المقصر، والفاء لدنو رتبة المقصر من المحلق. وروينا عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: "والمقصرين". أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود.

عطفوا قولهم: "والمقصرين" على قوله صلوات الله عليه: "المحلقين" ويسمى مثل هذا العطف عطف تلقين، كقوله تعالى {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]، فعلى هذا خرج الحديث عن أن يصلح للاستشهاد، ويستشهد له بما روينا عن الترمذي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:"الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه". الحديث.

قوله: (إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل)، وقلت: قد ذكر في القوانين أمثلة ثلاثة، والقسمة الصحيحة أربعة؛ لأنه كما جاز في الصفات الدلالة على ترتب معانيها في الوجود كذلك يجوز في الموصوفات، كما تقول: حل المتمتع فالقارن فالمفرد. وإنما لم يعتبر في الآية الترتب في الوجود لا في الصفات ولا في الموصوفات؛ لأن ما يقسم به يجب أن يكون عظيم الشأن وله مزية في نفسه، ولا يدخل الترتب في الوجود في معنى التعظيم سواء كان في توحيد الموصوف وتعدد الصفات أو في تعدد الموصوفات.

ص: 113

فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه، بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها؛ فعطفها بالفاء يفيد ترتبًا لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إما أن يكون الفضل للصف ثم الزجر ثم للتلاوة) وذلك أنه تعالى أقسم بطوائف الملائكة الصافات بأقدامها في الصلوات إجلالًا وتعظيمًا، وبأجنحتها منتظرة لأمر الله تدبيرًا، فالزاجرات الغير وعظًا وتذكيرًا والسحاب حياة للبلاد ورحمة على العباد، فالتاليات لكلام الله لا غير.

وإما على العكس، فأقسم بطوائف التاليات لكلام الله العاملات بما فيه ليلًا ونهارًا، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا} الآية [فاطر: 29] كما مر، فالزاجرات السحاب رحمة للعباد، فالصافات بأجنحتها في الهواء لا غير، هذا ما يمكن أن يقال على ما قال. "وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه".

قوله: (وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة)، أي: مثل ذلك الحكم من التنزل والترقي، ومن توحيد الموصوف وتثليثه يجري في العلماء والغزاة، مثاله العالم في صفوف الجماعات مكمل لنفسه، وفي الوعظ والتذكير مكمل لغيره، فبقوارع الآيات يزجر المستمتعين، وبكواشفها. يدعوهم إلى الصراط المستبين، وبالعكس، فإن التالي لنفسه أحط منزلة ممن يشتغل بإكمال غيره تارة بالقلب واللسان، وأخرى باليد والسنان.

روينا عن مسلم والترمذي وأبي داود، عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

ص: 114

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "الانتصاف": جعل الزمخشري الأول للأفضل بدءًا بالأهم فالأهم وعكسه مراعاة للترقي.

وقلت: مثال الأهم ما روينا من حديث مصعب: "ثم الأمثل فالأمثل"، ومثال الترقي قوله تعالى:{فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} [الشعراء: 202 - 203].

وقال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: المراد الطوائف التي يحصل منهن الصف والزجر والتلاوة في سبيل الله وطلب رضاه، سواء كانوا ملائكة أو غيرها من العلماء والغزاة، فيدخل فيه كل طائفة حصلت فيها هذه الصفات، ولذلك أطلقت.

وقلت: يمكن أن يرجح الوجه الأول -وهو أن يراد صفوف الملائكة- بما روى محيي السنة عن ابن عباس والحسن وقتادة: هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا. وبما روينا عن البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم" قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: "يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف". وبما يقتضيه قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} ، والمراد المذكورات في أول السورة.

قال المصنف في تفسيره: يريد ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والكواكب والشهب الثواقب والشياطين المردة، وغلب أولي العقل على غيرهم.

ص: 115

وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر؛ فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل، أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلًا، أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات: الطير، وبالزاجرات: كل ما يزجر عن معصية، وبالتاليات: كل نفس تتلو الذكر؛ فإن الموصوفات مختلفة.

وقرئ بإدغام التاء في الصاد والزاي والذال. {رَبُّ السَّمَوَاتِ} خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. والمشارق: ثلاث مئة وستون مشرقًا، وكذلك المغارب، تشرق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ بإدغام التاء) أدغم حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها من طرف اللسان وأصول الثنايا من غير إشارة، والباقون: يكسرون التاء في الجميع من غير إدغام إلا ما كان من مذهب أبي عمرو في الإدغام الكبير.

قوله: ({رَبُّ السَّمَوَاتِ} خبر بعد خبر) يعني {إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جملة وهذا متصل به داخل في خبر جواب القسم. قال القاضي: والفائدة في قوله: {إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم، وأما تحقيقه فبقوله:{رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا} فإن وجودها وانتظامها على الوجه الواقع مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته، وما بينهما يتناول أفعال العباد وأنها من خلقه.

قوله: (والمشارق ثلاث مئة وستون مشرقًا، وكذلك المغارب) قال القاضي: تشرق

ص: 116

الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين.

فإن قلت: فماذا أراد بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]؟ قلت: أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما.

[{إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ * وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} 6 - 7]

{الدُّنْيَا} : القربى منكم. والزينة: مصدر كالنسبة، واسم لما يزان به الشيء كالليقة: اسم لما تلاق به الدواة، ويحتمهما قوله:{بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ} ، فإن أردت المصدر: فعلى إضافته إلى الفاعل، أي: بأن زانتها الكواكب، وأصله: بزينة الكواكب، أو على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كل يوم في واحد، وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة، وما قيل: إنها مئة وثمانون إنما يصح لو لم تختلف أوقات الانتقال، وإليه الإشارة بقوله:"ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين".

قوله: ({الدُّنْيَا}: القربى منكم) قال القاضي: إن تحقق قولهم: إن الكواكب كلها سوى القمر ليست في السماء الدنيا لم يقدح في ذلك؛ لأن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة. وقيل: "من" في قوله: "القربى منكم" ليست مما يستعمل مع أفعل التفضيل؛ وإلا لم تجتمع مع الألف واللام، بل هي صلة "القربى"، نحو "قريب منك".

قوله: (كالليقة: اسم لما تلاق به الدواة)، وعن بعضهم: هو من قولهم: لاقت الدواة تليق أي: لصقت، ولقتها أنا يتعدى ولا يتعدى؛ إذا أصلحت مدادها.

قوله: (وأصله: بزينة الكواكب)، عاصم وحمزة: بالتنوين، والباقون: بغير تنوين. أبو بكر: "الكواكب" بالنصب، والباقون: بالخفض.

ص: 117

إضافته إلى المفعول، أي: بأن زان الله الكواكب وحسنها؛ لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها، وأصله:(بزينة الكواكب) وهي قراءة أبي بكر والأعمش وابن وثاب، وإن أردت الاسم: فللإضافة وجهان: أن تقع الكواكب بيانًا للزينة؛ لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، وأن يراد ما زينت به الكواكب. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما:{بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ} : بضوء الكواكب. ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة؛ كشكل الثريا وبنات نعش والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها. وقرئ على هذا المعنى:(بزينة الكواكب) بتنوين "زينة" وجر "الكواكب" على الإبدال. ويجوز في نصب "الكواكب" أن يكون بدلًا من محل {بِزِينَةٍ} ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابن الحاجب: الزينة: تطلق على ما يتزين به وعلى المصدر، كقولك: زانه يزينه زينة.

فمن قرأ بالإضافة احتمل أن يراد ما يتزين به من أصناف متعددة، فأضيف إلى صنفه؛ ليتبين أنه المراد، وأن يراد المصدر على أن التزيين بما اشتملت عليه الكواكب من الصفات المخصوصة من النور والترتيب والهيئة المخصوصة التي هي عليها. وإضافتها كإضافة "ضرب" إلى زيد. ومن قرأ بالتنوين وخفض {الكَوَاكِبِ} فعلى البدل أو عطف بيان من "الزينة" التي هي مصدر، ومن نصب قدر فعلًا "أعني: الكواكب"، والزينة أيضًا بمعنى ما يتزين به؛ لأن الكواكب كالتفسير لها، إلا أن يقدر "أعني: زينة الكواكب" وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون في قراءة النصب بدلًا من {السَّمَاءَ} على أنه بدل اشتمال، كأنه قيل: إنا زينا الكواكب في سماء الدنيا بزينة، فتكون الزينة بمعنى المصدر.

قوله: (وجاء عن ابن عباس: {بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ}: بضوء الكواكب)، استشهاد لقوله: وأن يراد ما زينت به الكواكب؛ لأن ما زينت به الكواكب هو الضوء وأشكالها المختلفة ومطالعها ومسايرها.

قوله: (ويجوز في نصب "الكواكب" أن يكون بدلًا من محل {بِزِينَةٍ})، أي أنه في موضع

ص: 118

و {وحِفْظًا} مما حمل على المعنى؛ لأن المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظًا من الشياطين، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نصب، وهو قول الزجاج. وقال صاحب "الكشف": مثله قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] إلى قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، يجوز أن يكون التقدير: وجاهدوا في دين الله، فيكون {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} بدلًا من موضع الجار والمجرور. وقال ابن الحاجب: وهو ضعيف ضعف قولهم: مررت بزيد أخاك، فلا ينبغي أن يحمل عليه قراءة ثابتة صحتها، ووجه ضعفه: أنه إذا جعل بدلًا كان في المعنى معمولًا للعامل الأول، ولا يستقيم أن يكون العامل الأول مسلطًا باعتبار المعنى بنفسه، ألا ترى أنك لو قلت في " مررت بزيد أخاك":"مررت أخاك" لم يجز، كذلك هذا.

قوله: ({وَحِفْظًا}: مما حمل على المعنى) أي: قوله: {وَحِفْظًا} عطف ومنصف لابد له من معطوف عليه ومن ناصب، فإما أن يعطف على {بِزِينِةٍ} من حيث المعنى؛ لأنه في الحقيقة مفعول له لقوله:{زَيَّنَّا} ، والتقدير: خلقنا الكواكب زينة وحفظًا، وإما أن يقدر الناصب ويؤخر، وهو "زيناها" ليفيد الاهتمام، أو يقدم بأن يقال: وحفظناها حفظًا؛ ليفيد التوكيد، قال المبرد/ إذا ذكرت فعلًا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر، نصبت المصدر لتدل به على فعل آخر، نحو قولك: افعل وكرامة، أي افعل ذلك وأكرمك كرامة.

وقلت: وفيه توكيد آخر من هذه الحيثية ودلالة على أن الحفظ أهم من التزيين وأعنى، ولذلك أتبعه الله عز وجل:{لا يَسَّمَّعُونَ إلَى المَلأِ الأَعْلَى} .

ص: 119

[الملك: 5]، ويجوز أن يقدر الفعل المعلل، كأنه قيل:{وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ} زيناها بالكواكب. وقيل: وحفظناها حفظًا. والمارد: الخارج من الطاعة المتملس منها.

[{لا يَسَّمَّعُونَ إلَى المَلأِ الأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ * إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 8 - 10].

الضمير في (لا يسمعون) لكل شيطان؛ لأنه في معنى الشياطين. وقرئ بالتخفيف والتشديد، وأصله: يتسمعون. والتسمع: تطلب السماع. يقال: تسمع فسمع، أو فلم يسمع، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هم يتسمعون ولا يسمعون. وبهذا ينصر التخفيف على التشديد. فإن قلت: (لا يسمعون) كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المتملس منها) أي: الخارج من الطاعة على وجه لا يخالطه شيء منها، الجوهري: انملس من الأمر إذا أفلت منه، وناقة ملسى أي: تملس وتمضي لا يتعلق بها شيء من سرعتها.

الراغب: المريد والمارد من شياطين الجن والإنس: المتعري من الخيرات، من قولهم: شجر أمرد، إذا تعرى من الورق.

قوله: (وقرئ بالتخفيف والتشديد) حفص وحمزة والكسائي: {لا يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين والميم، والباقون: بإسكان السين وتخفيف الميم.

قوله: (وبهذا تنصر قراءة التخفيف على التشديد) وذلك أنه أثبت التسمع، فلا يبقى للنفي في قراءة التشديد معنى، ولأن اتصال قوله:{لا يَسَّمَّعُونَ} بقوله: {وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} يقتضي ذلك التقدير؛ لأن الحفظ مسبوق بتطلب سماع منهم، أي: هم يتطلبون

ص: 120

من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لـ {كُلِّ شَيْطَانٍ} ، أو استئنافًا فلا تصح الصفة؛ لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون لا معنى له، وكذلك الاستئناف؛ لأن سائلًا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون: لم يستقم؛ فبقي أن يكون كلامًا منقطعًا مبتدأ اقتصاصًا لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة، أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة؛ فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب. فإن قلت: هل يصح قول من زعم أن أصله: لئلا يسمعوا، فحذفت اللام كما حذفت في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقي أن لا يسمعوا، فحذفت "أن"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السماع فلا يتمكنون من الإصغاء فضلًا عن السماع، ولأن "يسمعون" يتعدى بنفسه، قال تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [النبأ: 35] فلما عدي بـ"إلى" فسر تارة بقوله: "لا يسمعون القول مائلين إلى الملأ الأعلى"، وأخرى "لا يصغون إلى الملأ الأعلى"، وأما الاستئناف فيمكن أن يكون على وجه آخر غير ما ذكره وهو بأنه لما قيل:{وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي: حفظناها حفظًا، فقيل: فما يكون إذن؟ فأجيب: لا يسمعون أو لا يتطلبون السماع إلى الملأ الأعلى، أي: لا ينتهي طلبهم السماع إلى مكان الملأ الأعلى؛ لأنهم يقذفون من كل جانب دحورًا.

قوله: (فبقي أن يكون كلامًا مبتدأ اقتصاصًا) يعني: مستطردًا، فإنه تعالى لما ذكر أن الكواكب إنما خلقت للتزيين وأن الحفظ هو المقصود بالذات أتى بما عليه حال المسترق اقتصاصًا.

قوله: (هل يصح قول من زعم أن أصله: لئلا يسمعوا؟ ) وجه ثالث للمنع من اتصال {لا يَسَّمَّعُونَ} بما قبله، قال صاحب "الانتصاف": أبطل أن يكون صفة وأن يكون أصله "لئلا يسمعوا" لاجتماع حذفين، وكلا الوجهين صحيح، وعدم استماع الشيطان

ص: 121

وأهدر عملها، كما في قول القائل:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى؟

قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنما كان بسبب الحفظ، فحاله عند الحفظ أن لا يسمع فيصير موصوفًا حالة الحفظ بذلك، ومثله:{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} [النحل: 12] فالعامل في "مسخرات" -وهي حال- قوله: "سخر"، فالحال التي سخرها ملازمة لكونها مسخرة، وقد أشار الزمخشري في هذه الآية إلى ما يقرب من هذا، لكنه ذكر معه تأويلًا آخر كالمستبعد لهذا الوجه، فجعله جمع "مسخر" كممزق، وجعل معناه أنواعًا من التسخير.

ومن هذا النمط: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} [المؤمنون: 44] وليسوا رسلًا إلا بعد الإرسال.

وأما الإنكار اجتماع حذفين؛ فقد ساغ في قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي: لئلا تضلوا.

قوله: (ألا أيهذا الزجراي أحضر الوغى)، وتمامه:

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

"أحضر" محمول على حذف "أن" لدلالة عطف "أن أشهد" عليه، فلو لم تقدر حتى تكون بتقدير المصدر لزم عطف المفرد على الجملة، وهو غير مستقيم.

ص: 122

فمنكر من المنكرات، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب. فإن قلت: أي فرق بين: سمعت فلانًا يتحدث، وسمعت إليه تحدث، وسمعت حديثه، وإلى حديث؟ قلت: المعدى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدى بـ"إلى" يفيد الإصغاء مع الإدراك.

والملأ الأعلى: الملائكة؛ لأنهم يسكنون السماوات، والإنس والجن: هم الملأ الأسفل؛ لأنهم سكان الأرض.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هم الكتبة من الملائكة. وعنه: أشراف الملائكة. {مِن كُلِّ جَانِبٍ} : من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للاستراق، {دُحُورًا} مفعول له، أي: ويقذفون للدحور؛ وهو الطرد، أو مدحورين على الحال، أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فكأنه قيل: يدحرون، أو قذفًا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعدى بـ"إلى" يفيد الإصغاء مع الإدراك) الإصغاء: الإمالة للسماع، ومنه الحديث:"كان عليه السلام يصغي الإناء للهرة".

قال القاضي: وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة وتهويلًا لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة من قرأ {لا يَسَّمَّعُونَ} بالتشديد وهو طلب السماع.

قوله: (يدحرون، أو: قذفًا) هذا من الإيجازات الحسنة، أي تقدر "يدحرون دحورًا" أو "يقذفون قذفًا".

ص: 123

بفتح الدال على: قذفًا دحورًا طرودًا. أو: على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع. والواصب: الدائم، وصب الأمر وصوبًا، يعني أنهم في الدنيا مجرمون بالشهب، وقد أعد لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع. {مَنْ} في محل الرفع بدل من الواو في (لا يسمعون)، أي: لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي {} .

وقرئ: (خطف) بكسر الخاء والطاء وتشديدها، و (خطف) بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها، وأصلهما: اختطف. وقرئ: {فَأَتْبَعَهُ} ، و (فاتبعه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بفتح الدال) قال ابن جني: هذا على وجهين: أحدهما: على أنه من المصادر الذي جاء على فعول؛ بفتح الفاء. وثانيهما: على أن المعنى: ويقذفون من كل جانب بداحر أو بما يدحر، على حذف حرف الجر وإرادته.

قوله: (مجيء القبول والولوع) ومنه الوزوع، وليس في المصادر "فعول" سوى هذه الثلاثة، قال سيبويه: روي: توضأت وضوءًا وتطهرت طهورًا، والوجه الضم.

قوله: (وقرئ "خطف" بكسر الخاء والطاء وتشديدها) قال الزجاج: هذا لا وجه له إلا وجهًا ضعيفًا جدًا، ويكون على إتباع الطاء كسر الخاء، وهو أخذ الشيء بسرعة، وقيل: وجه "خطف" بكسرتين: أنهم حركوا الخاء بحركة الهمزة بعد حذفها، فلما سكنوا التاء وقلبوا وأدغموا احتيج إلى تحريك الطاء فحركوها بالكسر على أصل التقاء الساكنين. ووجه "خطف" بفتح الخاء وكسر الطاء، أنهم نقلوا حركة التاء إلى الخاء وحذفت همزة الوصل، ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين. والقراءتان شاذتان.

قوله: ({فَاَتْبَعَهُ}) هي المشهورة، والتشديد: شاذة.

ص: 124

[{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} 11]

الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها؛ فلذلك قيل: {فَاسْتَفْتِهِمْ} ؛ أي: استخبرهم {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} ؟ ولم يقل: فقررهم. والضمير لمشركي مكة. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يريد: ما ذكر من خلائقه: من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغلب أولي العقل على غيرهم، فقال:{مَّنْ خَلَقْنَا} ، والدليل: عليه: قوله بعد عد هذه الأشياء: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} بالفاء المعقبة. وقوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} مطلقًا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدمه، كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه، فاستفتهم: أهم أشد خلقًا أم الذي خلقناه من ذلك،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير) أي: الهمزة في {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} وإن خرجت عن موضوعها الأصلي وهي الاستفهام؛ لأنه طلب لما في الخارج لينتقش مثل ذلك في الذهن إلى تقرير الثابت؛ لأن هذا الأمر المسؤول مقرر معين لم يحتج إلى أن يستفهم منه، لكن أجريت على الاستفهام ظاهرًا؛ ليجعل المقرر غير مقرر فيصح دخول "استفتهم" عليا، والفائدة الإنكار والتوبيخ، كأنه لم يعلم ذلك فاستفتهم وهو معين مقرر، والأسلوب من باب سوق المعلوم مساق غيره، وعليه قول الخارجية:

أيا شجر الخابور، مالك مورقًا؟ .... كأنك لم تجزع على ابن طريف

ص: 125

وتقطع به قراءة من قرأ: (أمن عددنا) بالتخفيف والتشديد. {أَشَدُّ خَلْقًا} : يحتمل أقوى خلقًا، من قولهم: شديد الخلق، و: في خلقه شدة، وأصعب خلقًا وأشقه، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى، وأن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم {مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة؛ لأن ما يصنع من الطين غير موصوف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتقطع به قراءة من قرأ: "أمن عددنا") أي: تثبت الحجة وتجعل الدليل قاطعًا، يعني: يدل على أن المراد خلقنا كذا وكذا قراءة من قرأ "أمن عددنا" دلالة قاطعة.

فقوله: "خلقنا" كناية عن ذلك المعدود. وقريب منه قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] قال فيه: إنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارًا.

قوله: (وأصعب خلقًا) قسيم لقوله: "أقوى خلقًا"، وهو الاحتمال الثاني. وقوله:"على معنى الرد" متصل بالاحتمال الثاني دون الأول؛ لقوله: هان عليه ولم يصعب.

وقوله: (إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة) إلى آخره، معناه: أن قوله: {إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} كالتعليل لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} فإذا فسر بقوله: "أهم أقوى خلقًا" على سبيل الإنكار كان دليلًا على إثبات الضعف والرخاوة لهم، وإذا فسر بقوله:"أصعب خلقًا وأشقه" كذلك كان احتجاجًا عليهم بإهانتهم وسهولة تأتيهم من حيث المخلوقية؛ لأن المنكر حينئذ خصومتهم وإنكارهم البعث بقوله: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا} ففيه لف ونشر، وكذلك قوله:"بل عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة" مبني على الاحتمال الأول، وقوله:"أو من إنكارهم البعث" على الاحتمال الثاني، والمقام يقتضي الاحتمال الثاني؛ لقوله بعد ذلك:{أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وإليه الإشارة بقوله: " وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث".

ص: 126

بالصلابة والقوة، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا:{أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا} [الرعد: 5]. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل: {مَّنْ خَلَقْنَا} من الأمم الماضية، وليس هذا القول بملائم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: ويعضد المعنى الأول ما سبق من مفتتح السورة إلى ها هنا؛ لأنه في شأن إثبات التوحيد وإظهار القدرة الكاملة، يعني كيف يشركون ويستكبرون عن عبادتي؟ أو لا يرون إلى ما خلقنا من الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والمغارب والكواكب، كيف انقادوا وأطاعوا مع عظم خلقهم وقوة بطشهم لما أردنا فيهم؟ كقوله تعالى:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وهم يمتنعون عن الانقياد {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} ولذلك عقبه بقوله: {بَلْ عَجِبْتَ} .

قوله: (وليس هذا القول بملائم) لأن {مَّنْ خَلَقْنَا} مطلق يحمل على النقيد، ولم يسبق للأمم الماضية ذكر، وقد سبق ذكر الملائكة والسماوات وغيرهما فوجب تقييده بها، وإليه الإشارة بقوله:"وقوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} من غير تقييد بالبيات اكتفاء ببيان ما تقدمه"، وأيضًا الفاء في قوله:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} يقتضي ترتب الثاني على الأول، وإليه الإشارة بقوله: "والدليل عليه قوله بعد هذه الأشياء: {فَاسْتَفْتِهِمْ} بالفاء المعقبة.

قال صاحب "الفرائد": هذا القول مذكور في "التيسير"، قال:{فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: فاسأل المشركين يا محمد: أهم أشد خلقًا أم من خلقنا من الأمم الماضية الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا؟ فإن أجابوك بأنهم أشد ممن سلف فقل لهم: إنا خلقناهم، أي: خلقنا جميعهم من طين لازب، يعني: أصلهم منه وهو آدم عليه السلام، مما خلقهم

ص: 127

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منه، فكيف صاروا هم أشد منهم؟ وكيف توهموا لشدتهم عند أنفسهم أنهم يعجزونني وأنا خالق جميعهم وموجدهم من العدم؟ وعليه جمهور المفسرين سوى الإمام.

ثم قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ} يتعلق بما قبله وهو أنه تعالى أقسم أن الإله واحد؛ لإنكارهم ذلك وادعائهم الشرك، ثم ذكر ما لا مقال لهم فيه احتجاجًا عليهم وهو خلقه السماوات والأرض وغيرهما من البدائع والعجائب، فألزمهم بما ذكر أن يقروا بأنه واحد لا شريك له، فلما لم يقروا وعاندوا مع وضوح الدليل كما عاند من قبلهم وداموا على الشرك كما داموا عليه، قيل لهم: فانتظروا الإهلاك؛ لأنكم لا تكونون أشد خلقًا منهم، وقد اُهلكوا بمثل هذا العناد، فأنتم أيضًا ستهلكون به، فوضع {فَاسْتَفْتِهِمْ} موضعه لإفادته معناه، ويمكن أن يكون قوله:{إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} لاستكبارهم المنتج للعناد، كقوله تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] ويدل على ما ذكرت الإضراب بعده وهو قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} وقوله بعده حكاية عنهم: {أَئِذَا مِتْنَا} الآية، ذكر استبعادهم بعد الإضراب، فالظاهر أنه غير متعلق بما قبل الإضراب، والله عز وجل أعلم بمفهوم كلامه وبالمراد منه.

وقلت - والله أعلم-: خالف المصنف في أمور، أحدها: أنه مجرى على ظاهره فيمن يعقل دون التغليب. وثانيها: أن {فَاسْتَفْتِهِمْ} كوضوع موضع: فلما لم يقروا وعاندوا إلى آخره، والمصنف جعلها للتعقيب، وجعل الهمزة للتقرير، والسؤال للتبكيت، يعني: إذا تقرر ذلك فاستفتهم. وثالثها: أن قوله: {أَئِذَا مِتْنَا} لا يصح أن يتصل بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} .

هذا ولا يخفى على الحذاق بمعرفة التأليف والنظام وعلى ذوي دربة بأساليب الكلام أن القول ما ذهب إليه المصنف؛ لأن وزان الآية مع السوابق واللواحق وزان قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81]، وقد سبق تقريره

ص: 128

وقرئ: (لازم)، و (لاتب)، والمعنى واحد، والثاقب: الشديد الإضاءة.

[{بَلْ عَجِبْتَ ويَسْخَرُونَ * وإذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وإذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} 12 - 14].

{بَلْ عَجِبْتَ} من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة {وَ} هم {يَسْخَرُونَ} منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.

وقرئ بضم التاء، أي: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي؟ ! أو: عجبت من أن ينكروا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في موضعه، وقوله:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57].

وأما معنى "بل" في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} فهو إضراب عن الأمر بالاستفتاء، أي: لا تستفتهم فإنهم معاندون مكابرون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من قدرة الله على خلق هذه المذكورات وعلى قدرته على إعادتكم وأنتم تراب كما كنتم؛ لأنهم صم بكم عمي، وإنما يتعجب مثلك ممن له إنصاف ونظر صحيح موفق من عند الله، ألا ترى كيف قيده بقوله:{وَيَسْخَرُونَ} وعطف عليه {وقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا} الآية.

قوله: (وقرئ بضم التاء) حمزة والكسائي، والباقون: بفتحها.

ص: 129

البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه. فإن قلت: كيف يجوز العجب على الله تعالى، وإنما هو روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن مجرد العجب لمعنى الاستعظام، والثاني:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ممن هذه أفعاله)"من" متعلق بقوله: "أن يشطروا".

قوله: (روعة) الجوهري: الروع -بالفتح-: الفزع، والروعة: الفزعة. الأساس: ومن المجاز: وفرس رائع، يروع الرائي بجماله، يريد: يدخل روعة الهيبة، ومنه الحديث:"إن روح القدس نفث في روعي".

قوله: (أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام) هذا على أصول الماكلمين، قالوا: عامة صفات الله التي تستدعي الجسمية تفسر على أحوالنا لأعراضنا في الانتهاء لا في الابتداء، فيحمل التعجب على الاستعظام، فإن من رأى منا أمرًا عظيمًا لم يره من قبل تفجؤه الروعة فيستعظمه، لذلك فالله تعالى منزه عن المعنى الأول فيحمل على الثاني، وأورد بأن ترتب الاستعظام على عكس ما ذكر ضرورة أنه يستعظم الشيء أولًا ثم تعتري الروعة، وتعريفه المذكور في "الكشاف" دال عليه، فيقال: الوجدان حاكم أن استعظام الشيء مسبوق بانفعال يحصل في الروع من رؤية أمر غريب، كمشاهدة جوهرة نفيسة أو درة يتسمة، هذا هو المعني بالروعة عند التعجب.

وأما قوله: "وتعريفه المذكور دال عليه" فممنوع، ولفظ "عند" في قوله:"عند استعظامه الشيء" لا ينافي ما ذكرنا؛ لأنه إنما دل على المعية الزمانية، على أن الإمام نص في هذا المقام على هذا المعنى، حيث قال: القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات العراض لا على بداياتها، ومن تعجب من شيء فإنه يستعظمه، والتعجب في حق الله تعالى محمول

ص: 130

أن يتخيل العجب ويفرض، وقد جاء في الحديث:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على أنه تعالى يعظم تلك الحالة، إن كانت قبيحة فيترتب عليها العقاب، وإن كانت حسنة فيترتب عليها الثواب، تم كلامه.

والحاصل في إضافة التعجب إلى الله تعالى وجهان: عجب مما يرضى، ومعناه الاستحسان والخبر التام عن الرضا، وعجب مما أنكره ومعناه الإنكار والذم له، والله أعلم.

قوله: (أن يتخيل العجب ويفرض) أي: يجعل التركيب من الاستعارة التخييلية، كما في قولهم: لسان الحال ناطق بكذا، فيكون إثبات التعجب لله سبحانه وتعالى كتخييل اللسان للحال.

وقال صاحب "الفرائد": إن كان المراد من التخيل أنه يفرض له تعالى ذلك- ولم يكن- كان كذبًاعليه، وإن كان أنه مفروض له وكان جائزًا عليه- ومعلوم أنه لا يجوز- فكان كذبًا أيضًا، فلا وجه للفرض، ويمكن أن يجاب بأن يقال: هو عند الله تعالى بمنزلة لو جاز عليه العجب لعجب، ويمكن أن يقال: عجب، أي: حمل على العجب؛ لأن الحامل على الفعل يسمى فاعلًا. تم كلامه.

والعجب أنه سد باب الاستعارة بهذا البيان، وقد صرح المصنف بلفظ الاستعارة في "يس" عند قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ {[يس: 30]. وأما التفصي عن الكذب فيصيب القرينة كما نص عليه صاحب "المفتاح"، فيتصور معنى يليق بجلال الله عز وجل وإن لم تعرف كيفيته- موافقًا للأمر المتعارف يعني التعجب، ثم يطلق على هذا المتصور اسم المتعارف، والقرينة نسبته إلى ذاته المقدسة عن صفات المخلوقين.

ص: 131

"عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم". وكان شريح يقرأ بالفتح، ويقول: إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم. فقال إبراهيم النخعي: إن شريحًا كان يعجبه علمه، وعبد الله أعلمخ. يريد عبد الله بن مسعود، وكان يقرأ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقريب منه قول الإمام مالك رضي الله عنه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة. والله أعلم.

وأما الإسناد المجازي فوجه حسن، نقل محيي السنة عن سيد الطائفة جنيد قدس سرهما، قال: الله تعالى لا يعجب من شيء، ولكنه تعالى وافق رسوله صلى الله عليه وسلم لما عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] أي هو كما تقوله.

قوله: (عجب ربكم من ألكم)، النهاية. وفي الحديث:"عجب ربكم من ألكم وقنوطكم"، الأل: شدة القنوطن ويجوز أن يكون منرفع الصوت بالبكاء، يقال: أل يئل ألا، قال أبو عبيد: المحدثون يروونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عند أهل اللغة الفتح، وهو أشبه بالمصادر.

قوله: (إن شريحًا كان يعجبه علمه، وعبد الله أعلم) وعن بعضهم: مثله ما ورد: "نعم الله بيك عينًا"، وحدث به في مجلس شعبة فأنكره شعبة، فحدث إنكاره ابن الأعرابي فقال:

ص: 132

بالضم. وقيل: معناه: قل يا مجمد: بل عجبت. {وإذَا ذُكِّرُوا} : ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به، {وإذَا رَأَوْا آيَةً} من آيات الله البينة؛ كانشقاق القمر ونحوه، {يَسْتَسْخِرُونَ}: يبالغون في السخرية، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.

[{وقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وأَنتُمْ دَاخِرُونَ* فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإذَا هُمْ يَنظُرُونَ} 15 - 19].

و(آباؤنا) معطوف على محل (أن) واسمها، أو على الضمير في (مبعوثون)، والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفها. والمعنى: أيبعث أيضًا آباؤنا؟ ! على زيادة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أعذرهم فإنهم لا يعلمون. قال المصنف: وجهه أن الباء ها هنا للتعدية، أي: أنعمك الله عينًا، أي: أقر عينك، وظن شعبة أن العين وقع تمييزًا من الفاعل وأن الباء بمنزلة الباء في: سررت به وفرحت، ولذلك أنكره. وتأويل الآية على قراءة عبد الله: أن الله تعالى ذكر إنكاره عليهم ما هم فيه من الكفر والتكذيب، وذكر سخطه عليهم، وهم يسخرون ويستهزئون ولا يتذكرون.

قول: (الفصل بهمزة الاستفهام) قرأ قالون وابن عامر: "أو آباؤنا" بإسكان الواو، والباقون: بفتحها، أي: لولا همزة الاستفهام والفصل بها لما جاز العطف على الضمير المرفوع بالصريح من غير تأكيد. قال القاضي: أصله: أنبعث أئذا متنا؟ فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار وإشعارًا بان البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحال أشد استنكارًا، ويمكن أن يجعل الكلام ذا جملتين معطوفتين، والتقدير: أنبعث إذا كنا ترابًا وعظامًا؟ ويبعث أيضًا آباؤنا الأقدمون؟ ثم أدخل همزة الإنكار بين المعطوف والمفطوف عليه لمزيد الاستبعاد.

ص: 133

الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. وقرئ:{أَوْ آبَاؤُنَا} . {قُلْ نَعَمْ} : وقرئ: (نَعِم) بكسر العين، وهما لغتان. وقرئ:(قال نعم) أي: الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: نعم تبعثون {وأَنتُمْ دَاخِرُونَ} : صاغرون. {فَإِنَّمَا} جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان ذلك فما {هِيَ} إلا {زَجْرَةٌ واحِدَةٌ} وهي لا ترجع إلى شيء، إنما هي مبهمة موضعها خبرها.

ويجوز: فإنما البعثة زجرة واحدة؛ وهي النفخة الثانية. والزجرة: الصيحة من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إنما هي مبهمة موضعها خبرها) وهي {زَجْرَةٌ واحِدَةٌ} ، ونظيرها قول الشاعر:

هي النفس ما حملتها تتحمل

وقال الآخر:

هما خطتا إما إسار ومنة .... وإما دم، والقتل بالحر أجدر

الخطة: الحال والأمر. والإسار: القد الذي يشد به خشب الرحل. والإسار: الأسر.

قوله: (ويجوز: فإنما البعثة زجرة واحدة) أي: لفظة {وَهِيَ} يجوز أن ترجع إلى شيء، وهي البعثة المفهومة من قوله:{لَمَبْعُوثُونَ} . قال الزجاج: المعنى: قل لهم: نعم تبعثون وانتم صاغرون، ثم فسر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة؛ بقوله:{فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإذَا هُمْ} يحيون ويبعثون بصراء ينظرون.

وقول المصنف: "إذا كان ذلك": أي: القيامة أو نفخة القايمة، هو المراد بقول الزجاج:"ثم فسر أن بعثهم".

ص: 134

قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم؛ إذا صاح عليها فريعت لصوته، ومنه:

زجر أبي عروة السباع إذا .... أشفق أن يختلطن بالغنم

يريد تصويته بها. {فَإِذَا هُمْ} أحياء بصراء {يَنظُرُونَ} .

[{وقَالُوا يَا ويْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} 20 - 21].

يحتمل أن يكون {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} إلى قوله: {احْشُرُوا} [الصافات: 22] من كلام الكفرة بعضهم مع بعض، وان يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون {وقَالُوا يَا ويْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} كلام الكفرة، و {هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ} من كلام الملائكة جوابًا لهم ويوم الدين: اليوم الذي ندان فيه، أي: نجازى بأعمالنا. ويوم الفصل: يوم القضاء، والفرق بين فرق الهدى والضلالة.

[{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأَزْوَاجَهُمْ ومَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ * وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} 22 - 26].

{احْشُرُوا} خطاب الله للملائكة، أو خطاب بعضهم مع بعض، {وأَزْوَاجَهُمْ}:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (زجر أبي عروة) البيتن المصنف: "زجر" يروى بفتح الراء، عن بعضهم: وهو يحتمل وجهين: أن يكون مصدرًا، وأن يكون فعلًا ماضيًا، والأصل: زجر، ثم خفف، ويروى برفعها، وهو مصدر لا غير. فيه نظر.

روى المصنف: أن أبا عروة كنية العباس بن عبد المطلب في سورة "الحجرات"، وأنشد البيت، وقال: زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه، ولم أجد لهذا أصلًا. وكنيته في "الاستيعاب" و"جامع الأصول": أبو الفضل.

ص: 135

وضرباءهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة: أهل الزنى مع أهل الزنى، وأهل السرقة مع أهل السرقة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساءهم اللاتي على دينهم، {فَاهْدُوهُمْ}: فعرفوهم طريق النار حتى يسلكوها. هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين. {بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} : قد أسلم بعضهم بعضًا وخذله عن عجز، وكلهم مستسلم غير منتصر. وقرئ:(لا تتناصرون)، و:(لا تناصرون) بالإدغام.

[{وأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إنَّكُمْ كُنتُمْ تَاتُونَنَا عَنِ اليَمِينِ * قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * ومَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ* إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} 27 - 35].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وضرباءهم) الضرباء والأضراب: الأمثال. قال: سمعت غير واحد من العرب يقول: هذا ضربه، أي: مثله، بكسر الضاد، ويعضده قولهم: مثل ومثيل، وشبه وشبيه، وأنهم جمعوه على أضراب، والذي في الكتب المضبوطة: بفتح الضاد.

قوله: (وهم نظراؤهم وأشباههم) قال الزجاج: تقول: عندي من هذا أزواج، أي: أمثال، وكذلك: زوجان من الخفاف، أي: كل واحد نظير صاحبه، وكذلك: الزوج: المراة، والزوج: الرجل، وقد تناسبا بعقد النكاح.

وقال أبو البقاء: الجمهور على نصب {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: احشروا أزواجهم، وهو بمعنى "مع"، وهو في المعنى أقوى، وقرئ شاذًا بالرفع عطفًا على الضمير في {ظَلَمُوا} .

قوله: (وقرئ: لا "تتناصرون") روى البزي عن ابن كثير.

ص: 136

اليمين لما كانت أشرف العضوين وامتنهما وكانوا يتيمنون بها؛ فبها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال؛ ولذلك سموها: الشؤمى، كما سموا أختها اليمنى، وتيمنوا بالسانح، وتطيروا بالبارح، وكان الأعسر معيبًا عندهم، وعضدت الشريعة ذلك، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين، وأراذلها بالشمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات، والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله- استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين- أي: من قبل الخير وناحيته- فصده عنه وأضله.

وجاء في بعض التفاسير: من أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق، ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشهوات، ومن أتاه من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويماسحون) قيل: يعاقدون ويعاهدون، أو يتبركون. النهاية: إنما سمي عيسى بالمسيح؛ لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ.

قوله: (وتيمنوا بالسانح)، النهاية: هو ما مر من الطير والوحوش بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به؛ لأنه أمكن للرمي والصيد، والبارح: ضده.

قوله: (وكان الأعسر معيبًا) الجوهري: يقال: أعسر بين العسر، الذي يعمل بيساره.

قوله: (استعيرت لجهة الخير) جواب "لما".

قوله: (فقيل) متصل بقوله: "استعيرت"، وقصده بقوله:"أتاه" يعني: لما كانت اليمين أشرف العضوين استعيرت لجهة الخير، قيل: أتاه من جهة الخير، فصده عن الخير، وعليه معنى الآية، وتحريره: قال بعض أهل الجحيم لبعض: {إنَّكُمْ كُنتُمْ تَاتُونَنَا} من قبل الخير وتصدوننا عن الإيمان وتضلوننا عن سبيل الحق، ولذلك كان جواب البعض الآخر:{بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .

ص: 137

بين يديه: أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب، ومن أتاه من خلفه: خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده؛ فلم يصل رحمًا، ولم يؤد زكاة. فإن قلت: قولهم: أتاه من جهة الخير وناحيته: مجاز في نفسه، فكيف جعلت اليمين مجازًا عن المجاز؟ قلت: من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق، وهذا من ذاك؛ ولك أن تجعلها مستعارة للقوة والقهر؛ لأن اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش. والمعنى: أنكم كنتم تأتوننا عن القة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه.

وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم، {بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قولهم: أتاه من جهة الخير) يعني قولهم: أتاه من جهة اليمين كما تقرر، مستعار من قولهم: أتاه من جهة الخير، والخير لا جهة له، فكيف يستعار منه؟ وأجاب أنه مجاز في المرتبة الثانية، فهو كالمسافة، وهي موضع الشم في الأصل، من سافه [إذا] شمه، ثم استعير لبعد ما بين الموضعين، ثم استعير لفرق ما بين الكلامين.

قوله: (ول كان تجعلها مستعارة) عطف على قوله: "اليمين لما كانت أشرف العضوين"، ويجوز أن يقال: إنه عطف من حيث المعنى على قوله: "استعيرت لجهة الخير"، وهما نشر لما لف في قوله:"وكانوا يتيمنون بها، فبها يصافحون" إلى آخره؛ لأنه مناسب لقوله: "اليمين لما كانت أشرف العضوين"، كما أن قوله:"مستعارة للقوة والقهر" مناسب لقوله: "وأمتنهما" وليست هذه الاستعارة من التي مبناها على التشبيه، بل هي من إطلاق السبب على المسبب، وقد جمع المعنيين من قال:

وكنا الأيمنين إذا التقينا .... وكان الأيسرين بنو أبينا

ص: 138

بل أبيتم أنت الإيمان وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر، غير ملجئين إليه، {ومَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم} من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم، {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا} مختارين الطغيان {فَحَقَّ عَلَيْنَا}: فلزمنا {قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ} يعني: وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة؛ لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم؛ لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول القائل:

لقد زعمت هوازن قل مالي

ولو حكىت قولها لقال: قل مالك.

ومنه قول المحلف للحالف: احلف لأخرجن، ولتخرجن؛ الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على المحلف. {فَأَغْوَيْنَاكُمْ}: فدعوناكم إلى الغي دعوة محصلة للبغية، لقبولكم لها واستجابتكم الغي على الرشد، {إنَّا كُنَّا غَاوِينَ} فأردنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة؛ لعلمه بحالنا) قال القاضي: بينوا بقولهم: {َحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ} أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العقاب كان أمرًا مقضيًا لا محيص لهم عنه، وأن غاية ما فعلوا بهم أنهم دعوهم إلى الغي؛ لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن يكونوا مثلهم، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليس من قبلهم.

قوله: (لقد زعمت هوازن قل مالي) تمامه:

وهل لي غير ما أنفقت مال؟

قوله: (دعوة محصلة للبغية) يريد أن الإغواء ضد الهداية، كما أن الهداية معناها

ص: 139

إغواءكم؛ لتكونوا أثالنا، {فَإِنَّهُمْ} فإن الأتباع والمتبوعين جميعًا، {يَوْمَئِذ} يوم القيامة {مُشْتَرِكُونَ} في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية، {إِنَّا} مثل ذلك الفعل {نَفْعَلُ} بكل مجرم، يعني: أن سبب العقوبة هو الإجرام، فمن ارتكبه استوجبها. {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا} سمعوا بكلمة التوحيد نفروا واستكبروا عنها وأبوا إلا الشرك.

[{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ * إنَّكُمْ لَذَائِقُوا العَذَابِ الأَلِيمِ * ومَا تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 36 - 39].

{لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم، {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} رد على المشركين {وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} كقوله:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97]، وقرئ:(لذائقو العذاب) بالنصب على تقدير النون، كقوله:

ولا ذاكر الله إلا قليلا

بتقدير التنوين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدلالة الموصلة إلى البغية، كذلك الإغواء لكن على العكس، ولذلك قابل الغي بالرشد في قوله:"استحبابكم الغي على الرشد".

قوله: (ولا ذاكر الله إلا قليلا)، أوله:

فألفيته غير مستعتب

قبله.

فذكرته ثم عاتبته .... عتابًا رقيقًا وقولًا جميلًا

أي: غير راجع بالعتاب عن قبح ما فعل. والأصل: ولا ذاكرًا الله إلا قليلًا، بالتنوين ونصب "الله"، إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين لا للإضافة، ولهذا كان منصوبًا، و"ذاكر" مجرور، عطف على "مستعتب".

ص: 140

وقرئ على الأصل: (لذائقون العذاب). {إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : إلا مثل ما عملتم جزاء سيئًا بعمل سيء.

[{إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ ولا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} 40 - 49]

{إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ} : ولكن عباد الله، على الاستثناء المنقطع.

فسر الرزق المعلوم بالفواكه؛ وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولكن عباد الله، على الاستثناء المنقطع) وفي "المطلع": المعنى: لكن الموحدون الذين أخلصهم الله بالهدى والإيمان أولئك لهم رزق معلوم في الجنة بدل العذاب الأليم للكفرة. وقيل: الاستثناء متصل بالجزاء، أي: إلا عباد الله المخلصين فإن جزاؤهم يضاعف أضعافًا تفضلًا منه تعالى عليهم، وقيل: متصل بالذوق، أي: يذوقون إلا عباد الله المخلصين.

وقلت: والي عليه ظاهر كلام المصنف أنه متعلق بالجزاءن لكن على الانقطاع، والتقابل حاصل؛ لأن جزاءهم -كما سبق- هو ذوق العذاب الأليم إهانة، وجزاء أولئك الرزق المعلوم والفواكه كرامة.

وقال القاضي: هو استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في {تُجْزَوْنَ} لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة، فإن ثوابهم مضاعف، والمنقطع أيضًا بهذا الاعتبار.

قوله: (فسر الرزق المعلوم بالفواكه)، يعني {فَوَاكِهَ} عطف بيان للرزق، وفي المطلع: بدل منه بدل الكل من الكل، وعلى أنه يراد:{رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} منعوت بخصائص بدل البعض من الكل؛ لأن الفواكه بعض رزقكم.

ص: 141

يعني: أن رزقهم كله فواكه؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه على سبيل التلذذ. ويجوز أن يراد: رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها: من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت، كقوله:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62].

وعن قتادة: الرزق المعلوم: الجنة. وقوله: {فِي جَنَّاتِ} يأباه. وقوله: {وهُم مُّكْرَمُونَ} هو الذي يقوله العلماء في حد الثواب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: يمكن أن يقال: إن قوله: {مَعْلُومٌ} إما ممول على المتعارف، أي: كما عرف في الدنيا عند أهلها، فيكون بدل الكل من الكل لقوله: ورزقهم كله فواكه، وإما محمول على المعروف، أي كما عرف عند أهل التترف والتنعم، فيكون أيضًا بدل الكل؛ لأن قوله:(من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر) كله صفة الفواكه، ويؤيده قول الإمام: المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني: لما كانت الفاكهة حاضرة أبدًا كان الإدام أولى بالحضور، وإما محمول على الوقت كقوله:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] فيكون {فَوَاكِهَ} خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة، والمراد بالفواكه كل طعام يؤكل للتلذذن كما مر في الوجه الأول.

قوله: ({فِي جَنَّاتِ} يأباه) قال أبو البقاء: {فِي جَنَّاتِ} يجوز أن يكون ظرفًا أو حالًا أو خبرًا ثانيًا، وكذلك {عَلَى سُرُرٍ} . ويجوز أن يتعلق {عَلَى} بـ {مُتَقَابِلِينَ} ، ويكون {مُتَقَابِلِينَ} حالًا من {مُكْرَمُونَ} ، أو من الضمير في الجار، و {يُطَافُ عَلَيْهِم} ، يجوز أن يكون مستأنفًا وأن يكون كالذي قبله، وأن يكون صفة لـ {مُكْرَمُونَ} ، و {مِّن مَّعِينٍ} نعت لـ"كأس"، وكذلك {بَيْضَاءَ} و {عَنْهَا} يتعلق بـ {يُنزَفُونَ} .

ص: 142

على سبيل المدح والتعظيم، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوي الهمم، كما أن من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هوان أهل النار وصغارهم.

التقابل أتم للسرور وآنس. وقيل: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.

ويقال للزجاجة فيها الخمر: كأس، وتسمى الخمر نفسها كأسًا، قال:

وكأس شربت على لذة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على سبيل المدح): مقرن بقوله "العلماء"، يعني: يقولون: الثواب هو الخير الذي يوصل إلى العالم على سبيل التعظيم، احترزوا به عن الاستدراج، فقوله:{وهُم مُّكْرَمُونَ} كالتكميل للكلام السابق، والظاهر أنه كالتذييل.

قوله: (ويقال للزجاجة فيها الخمر: كأس)، الجوهري: الكأس: مؤنثة، قا الله تعالى:{بِكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ} .

وأنشد الأصمعي:

من لا يمت عبطة يمت هرمًا .... الموت كأس والمرء ذائقها

قال ابن الأعرابي: لا يسمى الكاس كأسًا إلا وفيها الشراب. يقال: مات فلان عبطة، أي صحيحًا شابًا؛ بالباء الموحدة والعين المهملة.

قوله: (وكأس شربت على لذة)، تمامه للأعشى:

وأخرى تداويت منها بها

وبعده

ص: 143

وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وكذا في تفسير ابن عباس. {مِّن مَّعِينٍ}: من شراب معين. أو: من نهر معين؛ وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون، وصف بما يوصف به الماء؛ لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء، قال الله تعالى:{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد: 15].

{بَيْضَاءَ} : صفة للكأس، {لَذَّةٍ} إما أن توصف باللذة كانها نفس اللذة وعينها؛ أو هي تأنيث اللذ، يقال: لذ الشيء فهو لذ ولذيذ، ووزنه: فعل، كقولك: رجل طب، قال:

ولذ كطعم الصر خي تركته .... بأرض العدى من خشية الحدثان

يريد النوم. الغول: من غاله يغوله غولًا؛ إذا أهلكه وأفسده. ومنه: الغول الذذي في تكاذيب العرب. وفي أمثالهم: الغصب غول الحلم. و {يُنزَفُونَ} على البناء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لكي يعلم الناس أني امرؤٌ .... أتيت المعيشة من بابها

يقول: رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها.

قوله: (وصف بما يوصف به الماء)، قال القاضي: وذلك للإشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة؛ لكمال اللذة.

قوله: (الصرخدي) أي: الشراب المنسوب إلى الصرخد، وهو موضع بالشام.

قوله: (يريد النوم)، الأساس: لذ الشيء لذة ولذاذة والتذ التذاذًا، وشيء لذ ولذيذ، وهو في لذ من العيش، وله عيش لذ. وأنشد البيت.

قوله: (الغصب غول الحلم)، أي العقل، قال الميداني: أي مهلكه، ويقال: أية غول

ص: 144

للمفعول، من: نزف الشارب؛ إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. ويقال للمطعون: نزف فمات؛ إذا خرج دمه كله. ونزحت الركية حتى نزفتها؛ إذا لم تترك فيها ماء. وفي أمثالهم: أجبن من المنزوف ضرطًا.

وقرئ: (يُنزِفون)؛ من: أنزف الشارب؛ إذا ذهب عقله أو شرابه. قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أغول من الغضب؟ وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول.

قوله: (أجبن من المنزوف ضرطًا)، وقال في "المستقصى": وقيل: سافر رجلان فلاحت لهما شجرة، فقال أحدهما: أرى قومًا رصدونا، وقال الآخر: إنما هي عُشرة، فظنه يقول: عشرة، فجعل يقول: وما غناء اثنين في عَشَرة ويضرط حتى مات. وقيل: هو دابة بين الكلب والذئب إذا صيح بها أخذها الضراط من الجبن.

العُشرة: اسم شجرة. وقال الميداني: ومن حديثه: أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل، فزوجن إحداهن رجلًا كان ينام الضحى، فإذا أتينه بصبوح، فيقول لهن: لو نبهتنني لعادية؟ فلما رأين ذلك قال بعضهن لبعض: إن صاحبنا لشجاع، فتعالين حتى نجربه، فأتينه كما كن يأتينه فأيقظنه، فقال: لو لعادية نبهتنني؟ فقلن: هذه نواصي الخيل، فجعل يقول: الخيل الخيل، ويضرط حتى مات.

قوله: (وقرئ: "يُنزِفُونَ") قرأها حمزة والكسائي.

ص: 145

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم .... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

ومعناه: صار ذا نزف، ونظيره: أقشع السحاب، وقشعته الريح، وأكب الرجل وكببته، وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب. وفي قراءة طلحة بن مصرف: (يَنزُفون) بضم الزاي، من: نزُف ينزُف، كقرب يقرب؛ إذا سكر.

والمعنى: لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر؛ من مغص، أو صداع، أو خمار، أو عربدة، أو لغو، أو تأثيم، أو غير ذلك، ولا هم يسكرون، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}: قصرن أبصارهن على أزواجهنن لا يمددن طرفًا إلى غيرهم، كقوله تعالى:{عُرُبًا} [الواقعة: 37]. والعِين:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لَعمري) البيت، يخاطب آل أبجر، ويقول: بئس الندامى أنتم سكارى أو صاحين. قال الزجاج: الشعر للأبيرد اليربوعي، وأبجر: هو الحر بن جابر العجلي، وأنزفتم: نفد شرابكم وفني، ويُروى: أو سكرتم.

قوله: (لا فيها فساد قط) معنى قوله: "لا فيها غولٌ ولا هم يسكرون": معنى {ولا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} ، فيكون من عطف الخاص على العام، ولذلك قال:"وهو أعظم مفاسدها فأفرزه".

قوله: (من مغص)، الجوهري: المغص- بالتسكين-: تقطيع في المعي ووجع، والعامة تقول: مغص، بالتحريك.

قوله: (أو عربدة) قال: عربد عليه: إذا أساء إليه، ولا يستعمل إلا في السكارى، مشتق من العربد، وهي حية تنفخ ولا تؤذي.

قوله: (أو تأثيم) أي: نسبة الرجل إلى الإثم.

قوله: (كقوله تعالى: {عُرُبًا} [الواقعة: 37]) قال: هو جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل.

ص: 146

النجل العيون، شبههن ببيض النعام المكنون في الأداحي، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور.

[{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * ولَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المُحْضَرِينَ} 50 - 57].

فغن قلت: علام عطف قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ؟ قلت: على {يُطَافُ عَلَيْهِم} ، والمعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب، قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في الأداحي)، الجوهري: مدحى النعامة: موضع بيضها، وأدحيها: موضعها الذي تفرخ فيه، وهو أفعول من دحوت؛ لأنها تدحوه برجلها ثم تبيض، وليس للنعام عش. قال صاحب "المطلع": شبههن ببيض النعام المكنون في الأداحي التي لا يصيبها شمس ولا ريح ولا غبار فيغير لونها. وقال: ألوانهن ألوان بيض النعام. ويجوز أن يكون {مَكْنُونٌ} مصون، يقال: كننت الشيء؛ إذا سترته وصنته، فهو مكنون.

قوله: (فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب)، الجوهري: الشرب: جمع شارب، مثل: صاحب وصحب.

واعلم أنه لما قيل: {وهُم مُّكْرَمُونَ} وجيء بالخبار المتوالية، أولها:{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، وثانيها:{عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} ، وثالثها:{يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ} ، وعلق بـ {يُطَافُ} قوله:{وعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} تكميلًا للذة الشراب بلذة الحسان الوجوه، وأريد تتميم معنى تلك النعمة ألقى في خلدهم تذكر ما كانوا عليه في الدنيا مع القرين السوء الذي كاد أن يفوت عليهم هذا النعيم المقيم؛ ليزيد غبطتهم وتبجحهم، وإليه الإشارة بقوله:{ولَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المُحْضَرِينَ} قال أبو البقاء: في جنات.

ص: 147

وما بقيت من اللذات إلا .... أحاديث الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض {يَتَسَاءَلُونَ} عما جرى لهم وعليهم في الدنيا، إلا أنه جيء به ماضيًا على عادة الله في أخباره. وقرئ:{لَمِنَ المُصَدِّقِينَ} من التصديق، و (من المصَّدِّقين) مشدد الصاد، من التصدق.

وقيل: نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه؛ فقال: وأين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله به في الاخرة خيرًا منه، فقال: أئنك لمن المصدقين بيم الدين؟ أو من المتصدقين لطلب الثواب؟ والله لا أعطيك شيئًا. {لَمَدِينُونَ} : لمجزيون، من الدين؛ وهو الجزاء. أو: لمسوسون مربوبون. يقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: {لَمِنَ المُصَدِّقِينَ}) بتشديد الدال: المشهورة، وبتشديد الصاد والدال: شاذة، قال الزجاج: المصدقين، خفيفة الصاد، من: صدّقت فأنا مصدق، ولا يجوز بتشديدها؛ لأن المصدِّين الذين يعطون الصدقة، والمصدقين الذين لا يكذبون. يريد: أن معنى التصدق غير مناسب لقوله: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا} بل هو مناسب للتصديق ملائم له، فالمعنى: كان لي قرين يقول: إنك ممن يصدق بالبعث بعد أن يصير ترابًا وعظامًا، فأحب قرينه المسلم أن يراه بعد أن قيل له:{هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} أي: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار؟ فاطلع المسلم فرأى قرينه الذي كان يك 1 ب بالبعث في وسط الجحيم.

قلت: هذا تقرير حسن ملائم للنظم، ويؤيده ما رواه محيي السنة: هما اللذان قص الله خبرهما في الكهف {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32] يقول: أئنك لمن المصدقين بالبعث؟

قوله: (فاستجدى) أي استعطى، الجوهري: الجدا: العطية، والجدوى: مثله.

ص: 148

دانه: ساسه، ومنه الحديث:"العاقل من دان نفسه".

{قَالَ} يعني ذلك القائل: {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} إلى النار لأريكم ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار. وقيل: القائل هو الله عز وجل. وقيل: بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار؟ وقرئ: {مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ} ، و (فأطَّلَعَ) بالتشديد، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب؛ و (مطلعون فأطلع)، و (فأُطلع) بالتخفيف على لفظ الماضي والمضارع المنصوب، يقال: طلع علينا فلان، واطَّلع وأطلع بمعنى واحد، والمعنى: هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضًا؟ أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه، فاطلع هو بعد ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومنه الحديث: "العاقل من دان نفسه") والحديث من رواية الترمذي عن شداد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنة على الله المغفرة".

دان نفسه: حاسبها في الدنيا قبل أن تحاسب يوم القيامة.

قوله: (يعني ذلك القائل) وهو المذكور في قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي: قرين في الدنيا ينكر الحشر، {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} لأريكم ذلك القرين؟ وقال الواحدي ومحي السنة: قال المؤمن لإخوانه في الجنة: هل أنتم مطلعون إلى النار لتنظروا كيف منزلة أخي؟ فقال أهل الجنة: إنك أعرف به منا فاطلع أنت، فاطلع فرأى أخاه في وسط الجحيم.

قوله: (والمعنى) أي: على أن "اطلع" و"أطلع" بمعنى واحد، فقوله:"هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضًا"، هذا على أن يكون "أطلع" مضارعًا جوابًا للاستفهام، نحو قوله:{فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53].

قوله: (أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه)، هذا على أن يكون "اطلع" ماضيًا

ص: 149

وإن جعلت الإطلاع من: أطلعه غيره، فالمعنى: أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم، -وهو من آداب المجالسة؛ أن لا يستبد بشيء دون جلسائه- فكأنهم مطلعوه. وقيل: الخطاب على هذا للملائكة. وقرئ: (مطلعون) بكسر النون، أراد: مطلعون إياي؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و{هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} بمعنى الأمر، نحو قوله تعالى" {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ ولذلك قال: فاعترضوه، أي: فامتثلوا أمره. و"اعترض" مطاوع "عرض"، أي: قبلوا عرضه وقالوا: نعم. فالفاء في {فَاطَّلَعَ} فصيحة؛ لأن "فاعترضوه" سبب لقوله: فاطلع، كقوله: فـ {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60].

وينصره ما روينا عن الواحدي: "فاطلِع أنت، فاطلع فرأى أخاه"، بالأمر والماضي.

قوله: (وإن جعلت الإطلاع من: أطلعه) معطوف على قوله: "واطلع وأطلع بمعنى واحد"، أي لك أن تجعل قراءة من قرأ "مطلَعون" من: أطلعه غيره فاطلع هو، فالمعنى: فهل أنتم مطلعون إياي على حال ذلك القرين فأطلع أنا؟ يعني انظروا إلى حاله حتى أنظر إليه، فإن نظري إليه متوقف على نظركم. وإليه الإشارة بقوله:"إنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم يقول هذا بعضهم لبعض"، بدليل قوله:"وهو من آداب المجالسة أن لا يستبد بشيء دون جلسائه".

قوله: (فكأنهم مطلعوه) جزاء "لما"، وما توسط بينهما اعتراض. وهذا المعنى يشتمل على التقديرين: الماضي والمضارع. ولا يجوز أن يكون القائل الله تعالى ولا الملائكة، نعم يجوز أن يكون الخطاب للملائكة، فيقول: هل أنتم يا ملائكة الله مطلعي على حال قريني فأطلع أنا عليها؟ أي: أطلعوني قريني أيها الملائكة لأطلع أنا قرنائي من أهل الجنة.

قوله: (وقرئ: "مطلعون" بكسر النون). قال أبو البقاء: وهو بعيد جدًا؛ لأن النون إن كانت للوقاية فلا تلحق بالأسماء، وإن كانت للجمع فلا تثبت في الإضافة.

ص: 150

فوضع المتصل موضع المنفصل، كقوله:

هم الفاعلون الخير والآمرونه

أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كانه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. {فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ}: في وسطها، يقال: تعبت حتى انقطع سوائي، وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب -يا أبا عبيدة-

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الزجاج: فهو شاذ بالإجماع، وله وجه ضعيف، وقد جاء في الشعر:

هم الفاعلون الخير والآمرونه .... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما

وكل أسماء الفاعلين إذا ذكرت بعدها المضمر لم تذكر النون ولا التنوين، تقول: زيد ضاربي، وهما ضارباك، وهم ضاربوك، ولا يجوز هو ضاربني، ولا هم ضاربونك إلا في الشعر؛ إلا أنه قد قرئ:"مطلعون" على: مطلعوني، فحذف الياء كما تحذف في رؤوس الآي، وبقيت الكسرة دليلًا عليها. وأجود القراءة وأكثرها:{مُّطَّلِعُونَ} ؛ بتشديد الطاء وفتح النون، ويليه:"مطلعون" بالتخفيف والفتح.

قوله: (حتى انقطع سوائي) أي وسطي وهو الظهر.

الراغب: سواء وسط، وقيل: سواء وسوى. قال تعالى: {مَكَانًا سُوًى} [طه: 58] أي: يستوي طرفاه، ويستعمل ذلك وصفًا وظرفًا، وأصل ذلك مصدر. والشيء المساوي، كعدل ومعادل وقتل ومقاتل، تقول: سيان زيد وعمرو، وأسواء: جمع سي: كنقض وأنقاض، يقال: قوم أسواء، والمساواة متعارفة في المثمنات، يقال: هذا الثوب يساوي كذا، وأصله ساواه في القدر.

قوله: (يا أبا عبيدة) قال رحمه الله: إن كانت الهمزة بعد حرف النداء همزة قطع أسقطت

ص: 151

حتى ينقطع سوائي. {إِن} مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على "كاد" كما تدخل على "كاد"، ونحوه {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} [الفرقان: 42]، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والإرداء: الإهلاك. وفي قراءة عبد الله: (لتُغوِين). {نِعْمَةُ رَبِّي} هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام، والبراءة من قرين السوء، أو: إنعام الله بالثواب، وكونه من أهل الجنة. {مِنَ المُحْضَرِينَ} من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك.

[{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 58 - 59].

الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا بمعذبين. وقرئ:(بمائتين)، والمعنى: أن هذه حال المءمنين وصفتهم وما قضى الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الألف وأثبت الهمزة، وإن كانت الهمزة همزة وصل أسقطت الهمزة وأثبت الألف، كقولك: يا ابني.

قوله: {نِعْمَةُ رَبِّي} هي العصمة إلى آخر ما قدر؛ لأنها لما كانت مطلقة قيدت بحسب اقتضاء المقام بما ذكر.

قوله: (أنحن مخلدون منعمون) هي الجملة المقدرة بعد الهمزة التي عطفت عليها: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} ، والهمزة للتقرير، وهو مقول آخر للمؤمن على سبيل الاغتباط والابتهاج، فإن تذكر الخلود في الجنة لذة دونها كل لذة، وفي عكسه أنشد المتنبي:

أشد النعم عندي في سرور .... تيقن عنه صاحبه انتقالا

قوله: (وما قضى الله) عطف تفسيري على حالهم، و"أن لا يذوق" مفعول "قضى"، وقوله:"للعلم باعمالهم" اعتراض أتى به بيانًا لمذهبه.

ص: 152

به لهم -للعلم بأعماله- أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما يتنون فيه الموت كل ساعة، وقيل لبعض الحكماء: ما شر من الموت؟ قال: الذي يُتمنى فيه الموت.

[{إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} 60 - 61]

يقوله المؤمن تحدثًا بنعمة الله واغتباطه بحاله وبمسمع من قرينه، ليكون توبيخًا له يزيد به تعذبًا، وليحكيه الله فيكون لنا لطفًا وزاجرًا. ويجوز أن يكون قولهم جميعًا، وكذلك قوله:{إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} أي: إن هذا الأمر الذي نحن فيه. وقيل: هو من وقل الله عز وجل تقديرًا لقولهم وتصديقًا له. وقرئ: (لهو الرزق العظيم)، وهو ما رزقوه من السعادة.

[{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وليحكيه الله) عطف على "ليكون"، يريد: أن هذا القول معروف معلوم ما أتى للإعلام بل للاغتباط والتحدث بنعمة الله تعالى توبيخًا ولطفًا.

قوله: (ويجوز أن يكون قولهم جميعًا) أي: المؤمن وأصحابه، وهو عطف على قوله:"يقوله المؤمن"، والمعنى: لما فرغ القرين من توبيخ قرينه.

وذكر عصمة الله له من تلك الورطة حمدًا لله تعالى أتبع ذلك هو ومن صحبه من عباد الله المخلصين اغتباطًا وتحدثًا بنعمة الله.

قوله: (وقيل: هو من قول الله) أي قوله: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} وعلى الوجهين السابقين كان من قول المؤمن أو المؤمنين.

ص: 153

ثُمَّ إنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الجَحِيمِ * إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 62 - 70].

تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال:{أَذَلِكَ} الرزق {خَيْرٌ نُّزُلًا} أي: خيرٌ حاصلًا {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} ؟ وأصل النزل: الفضل والريع في الطعام، يقال: طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغم. وانتصاب {نُزُلَا} على التمييز، ولك أن تجعله حالًا، كما تقول: أثمر النخلة خير بلحًا أم رطبًا؟ يعني:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى [ذكر] الرزق المعلوم) هذا بيان لنظم الآي، وفيه أن قصة المؤمن ذكرت مستطردة بين الكلامين المتصلين معنى، وذلك أنه تعالى لما ذكر رزق أهل الكرامة، ومن كرامتهم أنهم على سرر متقابلين، واتصل به قوله:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} واستوفى القصة أقبل إلى ذكر أهل الشقاوة وتهكم بهم بقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} .

قوله: (وأصل النزل: الفضل والريع)، المغرب: ومنه قوله: العسل ليس من أنزال الأرض، أي: من ريعها وما يحصل منها. وعن الشافعي رضي الله عنه: لا يجب فيه العشر، لأنه نزل طائر.

قوله: (أثمر النخلة خير بلحًا أم رطبًا؟ ) فإن قلت: المثال غير مطابق للآية؛ لأن السؤال عن حال الثمرة لا نفسها، وفي الآية السؤال عن الرزق المعلوم وعن شجرة الزقوم، قلت: ليس السؤال عن الرزق والشجرة نفسهما بل عن حالهما، ألا ترى كيف قال:"فأيهما خير في كونه نزلًا؟ ". نعم فيه اختلاف من جهة أن المثال فيه شؤال عن حالتي شيء واحد، والآية هنا سؤال عن حالة واحدة لشيئين مختلفين، وهذا لا يضر في الاستشهاد.

ص: 154

أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة، وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلًا؟ والنزل: ما يقام للنازل بالمكان من الرزق. ومنه: أنزال الجند؛ لأرزاقهم، كما يقال لما يقام لساكن الدار: السكن.

ومعنى الأول: أن للرزق المعلوم نزلًا، ولشجر الزقوم نزلًا، فأيهما خير نزلًا؟ ومخعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم، واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم؛ قيل لهم ذلك توبيخًا على سوء اختيارهم، {فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ}: محنة وعذابًا لهم في الآخرة. أو ابتلاءً لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؛ فكذبوا. وقرئ: (نابتة في أصل الجحيم)، قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. والطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: البلح: قبل البسر، والواحدة: بلحة، أول التمر طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر.

قوله: (ولكن المؤمنين لما اختاروا) يعني: لما كان مؤدى فعل الكافرين إلى شجرة الزقوم كمؤدى فعل المؤمنين إلى الرزق المعلوم؛ حمل ذاك على هذا حملًا للنقيض على النقيض تهكمًا. ويجوز أن يكون من المشاكلة المعنوية، ويجوز أن يكون من أسلوب قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

فإن قلت: لم فرق بين المعنيين في الاعتبارين؟ فإنه جعل {نُزُلًا} تمييزًا في الأول وحالًا في الثاني. قلت: لأنه لما استعار النزل للحاصل من الشيء تعين أن يكون تمييزًا دون الحال؛ لأن حاصل الشيء لا يصدق عليه، ومن شأن الحال صدقه على ذي الحال، ويجوز أن يحمل في الثاني على التمييز أيضًا نحو قوله: لله دره فارسًا.

ص: 155

إما استعارة لفظية، أو معنوية، وشبه برؤوس الشياطين؛ دلالة على تناهيه في الكراهية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إما استعارة لفظية أو معنوية) عن نور الدين الحكيم رحمه الله: اللفظية: نحو رأيت أسدًا، وعنَّت لنا ظبية. والمعنوية كقوله:

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

فإنك في الأول تجعل الشيء الشيء وليس به، وفي الثاني تجعل الشيء للشيء وليس له. وأيضًا إذا رجعت في الأول إلى التشبيه الذي هو المقصود يأتيك عفوًا، نحو:"رأيت رجلًا كالأسد"، وغن رمته في الثاني لم يواتك تلك المواتاة.

وقلت: يمكن أن يقال: أما اللفظية فهي أن الطلع موضوع لحمل الشجرة مع قيد أن تكون تلك الشجرة نخلة، فاستعمل هنا في غيرها، وهو كالمرسن فإنه موضوع لأنف بشرط أن يكون فيه رسن، فإذا استعمل في أنف إنسان كان مجازًا لفظيًا ليس فيه مبالغة؛ لأنهما كالمترادفين.

وأما المهنوية فهي أن تشبه حمل تلك الشجرة بالطلع الحقيقي تشبيهًا بليغًا، ثم يطلق على ذلك الحمل اسم الطلع، والقرينة الإضافة. ويحتمل أن تكون تحقيقية وأن تكون مكنية مستلزمة للتخييلية كقول القائل:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله .... وعري أفراس الصبا ورواحله

وفي تسمية الأول بالاستعارة تسامح؛ لأنه من المجاز المرسل الخالي من الفائدة فسماه بها مبالغة أو تعظيمًا.

قوله: (وشبه برؤوس الشياطين) يعني: استعير لحمل شجرة الزقوم اسم الطلع، وشبه برؤوس الشياطين، والتشبيه تخييلي؛ لأن المشبه به لا حقيقة له في الخارج؛ لأن قبح

ص: 156

وقبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس؛ لاعتقادهم أنه شرٌّ محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كانه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان، وإذا صوره المصورون جاؤوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله؛ كما أنهم اعتقدوا في المَلَك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وهذا تشبيه تخييلي. وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدًا. وقيل: إن شجرًا يقال له الأستن خشنًا منتنًا مرًا منكر الصورة، يسمى ثمره: رؤوس الشياطين. وما سمت العرب هذا الثمر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منظر الشياطين مركوز في الجبلة؛ لأن الشيطان -كما زعم- لا يُرى ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون -لو رأى الرائي- في أقبح صورة، وأنشد الزجاج قول امرئ القيس:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي .... ومسنونة زرق كأنياب أغوال

ولم ير الغول ولا أنيابها، ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ، ففي باب المذكر يمثل بالشيطان، وفي باب المؤنث يشبه بالغول فيما يستقبح.

قوله: (وقيل: الشيطان حية عرفاء) قال محيي السنة: قيل: أريد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانًا، فعلى هذا لا يكون التشبيه تخييلًا بل تحقيقًا.

العرفاء: طويلة العرف. الجوهري: العرف: عرف الفرس، سميت به لكثرة شعرها.

قوله: (يقال لها الأستن) قال أبو عبيد: الأستن: أصول الشجرة البالية، الواحدة: أستنة.

قوله: (وما سمت العرب هذا الثمر) يعني: ما سموا ثمرة الأستن برؤوس الشياطين إلا للقصد إلى أحد هذين التشبيهين أي: الصوري أو المعنوي عند بعضهم، والظاهر هو

ص: 157

برؤوس الشياطين إلا قصدًا إلى أحد التشبيهين، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلًا ثالثًا يشيه به. {مِنْهَا}: من الشجرة، أي: من طلعها {فَمَالِئُونَ} بطونهم؛ لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو: يقسرون على اكلها وإن كرهوها؛ ليكون بابًا من العذاب؛ فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شرابًا من غساق أو صديد، شوبه أي: مزاجه، {مِنْ حَمِيمٍ} يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم، كما قال في صفة شراب أهل الجنة:{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27]. وقرئ: (لَشُوبًا) بالضم، وهو اسم ما يشاب به، والأول تسمية بالمصدر. فغن قلت: ما معنى حرف التراخي في قوله: {ثُمَّ إنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} ، وفي قوله:{ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ} ؟ قلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنهم اعتقدوا أن الشيطان قبيح المنظر أو أنه في الحقيقة حية عرفاء، ثم أدخل هذا الثمر لكثرة الاستعمال في جنس هذين الأصلين وصار أصلًا ثالثًا مثلهما مشبهًا به، ومثله قول التنوخي:

فانهض بنار إلى فحم كأنهما .... في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتفقا

وذلك أنه لما سمع الله عز وجل نعت العدل بالنور في قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا و} [الزمر: 69] ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وصف الظلم بالظلمات في قوله: "الظلم ظلمات يوم القيامة" خيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام وجعلهما مشبهًا بهما.

قوله: (من غساق) الغساق: المنتن البارد. والغساق -بالتخفيف-: لغة.

قوله: (شوبه أي: مزاجه) ويروى: شوبًا أي: مزاجًا، و"شوبًا" يجوز ان يكون بمعنى مشوب، وأن يكون مصدرًا على بابه، والشوب الخلط، وسمي العسل شوبًا؛ لأنه كان عندهم مزاجًا لغيره من الأشربة.

ص: 158

في الأول وجهان؛ أحدهما: أنهم يملئون البطون من شجر الزقوم، وهو حار يحرق بطونهم ويعطشهم، فلا يسقون إلا بعد ملي؛ تعذيبًا بذلك العطش، ثم يسقون ما هو أحر؛ وهو الشراب المشوب بالحميم. والثاني: انه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع، فجاء بـ"ثم"؛ للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام، ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه. ومعنى الثاني: أنهم يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها، إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يتملؤوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك بين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في الأول وجهان) والجواب الأول مبني على أن "ثم" للتراخي في الزمان، والأسلوب من الترقي من الحار إلى الأحر، والثاني على أن "ثم" للتراخي في الرتبة، والأسلوب من التكميل، حيث كمل عذاب الأكل بالشرب. وأما معنى الثاني- أي: السؤال الثاني الذي تقدم على قوله تعالى: {ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ} - فظاهر.

وفي قوله: (ثم يرجعون إلى دركاتهم) إشعار بترتيب أنيق، وذلك أن أهل النار أول ما يقام لهم في النار من الرزق شجرة الزقوم، ثم يسقون شوبًا من حميم، ثم يستقرون بعد ذلك إلى دركاتهم، وعليه جرى العرف، وعلى هذا نزل أهل الجنة: الرزق المعلوم، وهو الفواكه وما يأكلونه على سبيل التلذذ، ثم السقي من كأس معين بيضاء لذة للشاربين، ثم يرجعون إلى ما وراء ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قائلين:{إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} اللهم بفضلك اجعلنا من الفائزين به.

قال القاضي: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} فيه دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقام للنازل، ولهم وراء ذ لك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار من الأمم.

ص: 159

وقرئ: (ثم إن منقلبهم)، (ثم غن مصيرهم)، (ثم إن منفذهم) إلى الجحيم؛ علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين، واتباعهم إياهم على الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يحثون حثًا. وقيل: إسراع فيه شبيه بالرعدة.

[{ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * ولَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنذَرِينَ * إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ} 71 - 74]

{ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} : قبل قومك قريش. {مُّنذِرِينَ} : أنبياء حذروهم العواقب. {المُنذَرِينَ} : الذين أنذروا وحذروا، أي: أهلكوا جميعًا {إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ} : الذين ىمنوا منهم واخلصوا الله دينهم، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين.

[{ولَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ (75) ونَجَّيْنَاهُ وأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ (76) وجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ (77) وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ (79) إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ (80) إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِين} 75 - 82].

لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذَرين، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه إياه حين أيس من قومه، واللام الداخلة على "نعم" جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فوالله لنعم المجيبون نحن. والجمع دليل العظمة والكبرياء. والمعنى: إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته؛ من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بألغ ما يكون. {هُمُ البَاقِينَ}: هم الذين بقوا وحدهم وقد فني غيرهم، فقد روي: أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو: هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هم الذين بقوا وحدهم) هذا الاختصاص يعطيه ضمير الفصل.

ص: 160

وكان لنوح عليه السلام ثلاثة اولاد: سام، وحام، ويافث، فسامٌ أبو العرب، وفارس، والروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} من الأمم هذه الكلمة؛ وهي:{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} يعني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} من الأمم هذه الكلمة) يريد أن "تركنا" واقع على قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} وهو مفعول به. كانه قيل: تركنا على نوح قولنا: سلام على نوح في كل أحد من العالمين، كما يقال: السلام على زيد في جميع الأمكنة وفي جميع الأزمنة، واللعنة على إبليس في المشرق والمغرب، فقوله:{فِي العَالَمِينَ} متعلق بالجار والمجرور.

قال صاحب "الكشف": {سَلَامٌ} مبتدأ، والجار بعده في موضع الخبر، والجملة في موضع المفعول لـ {وَتَرَكْنَا} ولو أعمل "تركنا" فيه لقيل:"سلامًا" ويجوز أن يكون التقدير: وتركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن، فحذف مفعول "تركنا"، ثم ابتدأ وقال:"سلام". ويجوز أن يكون التقدير: وتركنا عليه في الاخرين الثناء الحسن وقلنا: سلام.

وقال محيي السنة: "تركنا عليه"، أي: أبقينا له ثناء حسنًا وذكرًا جميلًا فيمن بعده إلى يوم القيامة. وقلت: هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: ان يكون المفعول {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} من حيث المعنى، كما قال الزجاج أي: تركنا عليه الذكر الجميل، وذلك الذكر قوله:{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} أي: تركنا عليه في الآخرين أن يسلم عليه إلى يوم القيامة.

وثانيهما: المفعول محذوف، وهو الثناء كما سبق، فعلى هذا: يبقى "تركنا" مطلقًا غير

ص: 161

يسلمون عليه تسليمًا، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1].

فإن قلت: فما معنى قوله: {فِي العَالَمِينَ} ؟ قلت: معناه: الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعًا، وأن لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه غلى آخر الدهر بأنه كان محسنًا، ثم علل كونه محسنًا بأنه كان عبدًا مؤمنًا، ليريكجلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه.

[{وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (83) إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إذْ قَالَ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} 83 - 87]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقيد، أي: تركنا على نوح في الآخرين من الأمم ذكرًا جميلًا، وكذا وكذا، كقوله:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} [الشعراء: 84]، ويكون {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} دعاء من الله تعالى كقوله تعالى:{وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].

قوله: (فما معنى قوله: {فِي العَالَمِينَ}؟ ) جاء في السؤال بالفاء، يعني: إذا كان معنى {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} : تركنا في الاخرين من الأمم أن يسلموا عليه تسليمًا ويدعوا له، فما معنى {فِي العَالَمِينَ} فإنه كالتكرار؟ وأجاب: إن في إعادة ذكر العالمين الشمول والاستغراق؛ لئلا يخرج أحد ممن يدخل في العالمين من الملائكة والثقلين منه، والحاصل أن {فِي العَالَمِينَ} كالتتميم للمعنى السابق والمبالغة فيه، ولو اكتفى بقوله:{وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} لقصر عن هذا المعنى، فرجع معنى:{وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} إلى قوله: "ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم".

قوله: (ليريك جلالة محل الإيمان) يعني: ان نوحًا ليس ممن لا يؤمن حتى يوصف بالإيمان تمييزًا، وإنما جيء به للمدح، يعني أن صفة الإيمان من الصفات التي تصلح أن يمتدح بها النبي المرسل ترغيبًا للمؤمن.

ص: 162

{مِن شِيعَتِهِ} : ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو: شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من أهل دينه وعلى سنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان: هود صالح، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وست مئة وأربعون سنة. فإن قلت: بم تعلق الظرف؟ قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم {لإبْرَاهِيمَ} ، او بمحذوف؛ وهو: اذكر، {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من جميع آفات القلوب.

وقيل: من الشرك، ولا معنى للتخصيص؛ لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها. فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه: أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلًا لذلك. {أَئِفْكًا} مفعلو له، تقديره:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكان بين نوح وإبراهيم عليهما السلام ألفان وست مئة وأربعون سنة)، وفي "جامع الأصول": ألف سنة ومئة واثناتن وأربعون سنة.

قوله: (وهو: اذكر) أي: اذكر إذ جاء ربه، أي: وقت مجيئه ربه.

قوله: (ولا معنى للتخصيص)، أي: لا معنى لتخصيص قوله: {سَلِيمٍ} بشيء من الآفات. قال صاحب "الفرائد": لما كان المقام مقام المدح وجب أن يكون سالمًا عن كل الآفات؛ لأن السالم عن البعض يدخل فيه كل القلوب؛ لأنه ما من قلب إلا وهو سالم من البعض.

قوله: (فضرب المجيء مثلًا لذلك)، أي: لقوله: "من أخلص لله قلبه". وفي "المطلع": ومعنى محبة ربه: أنه اخلص لله قلبه وعرف ذلك منه كما يعرف الغائب واحواله بمجيئه وحضوره، فضرب المجيء مثلًا لذلك. وقال الإمام: معناه انه إذا اخلص لله تعالى قلبه فكأنه استحق حضرة الله بذلك القلب. ورأيت في التوراة: أن الله تعالى قال لموسى: يا

ص: 163

أتريدون آلهة من دون الله إفكًا؟ ! وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية، وقدم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون {أَئِفْكًا} مفعولًا، يعني: اتريدون به إفكًا؟ ثم فسر الإفك بقوله" {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} على أنها إفك في نفسها.

ويجوز أن يكون حالًا، بمعنى: أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ {فَمَا ظَنُّكُم} بمن هو الحقيق بالعبادة؛ لأن من كان ربًا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام؟ والمعنى: أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء، حتى جعلتم الأصنام له أندادًا؟ أو: فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موسى أحب إلهك بكل قلبك. وقلت: يمكن أن يقال: كان أصل الكلام إذا أخلص لربه، فلما أريد مزيد التصوير وأن لا بد للإخلاص من السلوك وقطع العلائق والعروج من حضيض الأمارية إلى يفاع المطمئنية، قيل:{جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي: من آفاته، لكن في إسناد المجيء إليه شائبة بقاء الوجود، وفي وصفه بـ"السليم" نقاء القلب أيضًا.

وأما قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ففيه إشارة إلى الجذبة الحقانية التي لا تبقي من الوجود والصفات شيئًا، وإنما أثبت العبدية ليمكن الإخبار عن ذلك المقام، ولولا إزادة الإخبار لم يذكر ذلك أيضًان والله أعلم.

قوله: ({فَمَا ظَنُّكُم} بمن هو حقيق بالعبادة) إلى آخره، قال القاضي: معنى {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} إنكار ما يوجب ظنًا، فضلًا عن قطعه، فضلًا عن عبادته، أو يجوز الاشتراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام.

ص: 164

[{نَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} 88 - 90].

{فِي النُّجُومِ} : في علم النجوم، أو: في كتابها، أو في أحكامها، وعن بعض الملوك: أنه سئل عن مشتهاه، فقال: حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه. كان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: الإنكار والتجهيل راجع إلى ظنهم بري العالمين، إما باعتبار الوصف أو الحقيقة، أما الوصف فعلى وجهين:

أحدهما: معنى التربية وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئاَ؛ لأن الممكن كما هو مفتقر إلى المحدث حال حدوثه مفتقر إلى المبقي حال بقائه، وهذا معنى الإنعام الذي يجب أن يشكر عليه مسديه ولا يصد عن عبادة موليه، وهو المراد من قوله:{فَمَا ظَنُّكُم} بمن هو حقيق بالعبادة؛ لأن من كان ربًا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه.

وثانيهما: معنى المالكية وهو مستلزم لمعتى القهر والقدرة التامة، وإليه الإشارة بقوله:{فَمَا ظَنُّكُم} ماذا يفعل بكم؟ وكيف يعاقبكم؟

وأما الحقيقة فهو المعن بقوله: {فَمَا ظَنُّكُم} أي شيء هو من الأشياء؟ قال في "الشعراء" في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]: أي: أي شيء هو على الإطلاق؟ تفتيشًا عن حقيقته الخاصة ما هي؟ أي: إنما يصح جعل الأصنام ندًا له إذا عرفت المماثلة، فما لم يعرفوا حقيقته كيف يجعلون الأصنام ندًا له؟

الراغب: المثل أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال لما يشارك الجوهر فقط، والشبه فيما يشارك في الكيفية فقط، والمساوي فيما يشارك في الكمية فقط، والشكل فيما يشارك في القدر والمساحة، والمثل عام في جميع ذلك.

قوله: (حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه) ومنه قول القائل: هل من كتاب أو أخ أو فتى أنظر فيه أو له أو إليه؟

ص: 165

القوم نجامين، فاوهمهم انه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم {فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ}: إني مشارف للسقم؛ وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى؛ ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. فإن قلت: كيف جاز له أن يكذب؟ قلت: قد جوزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية، وإرضاء الزوج، والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. والصحيح: أن الكذب حرام إلا إذا عرض وورى، والذي قاله إبراهيم صلوات الله عليه: معراض من الكلام، وقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم، ومنه المثل: كفى بالسلامة داء، وقول لبيد:

فدعوت ربي بالسلامة جاهدا .... ليصحني فإذا السلامة داء

وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس، وقالوا: مات وهو صحيح، فقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ليتفرقوا عنه) يتعلق بقوله: {فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ} .

قوله: (معراض من الكلام) جمعه: معاريض، ومنه قولهم: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. ومر في فاتحة البقرة كلام مشبع فيه.

قوله: (فدعوت) قبله:

كانت قناتي لا تلين لغامز .... فألانها الإصباح والإمساء

فدعوت ربي بالسلامة جاهدًا .... ليصحني فإذا السلامة داء

القناة: الرمح، فاستعار لقامته. والغمز: العصر باليد. يصف قوته في الشباب وضعفه في الكبر. قيل لشيخ كبير: كيف أصبحت؟ قال: في داء يتمناه الناس.

ص: 166

أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه! وقيل: أراد: إني سقيم النفس لكفركم.

[{فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَاكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} 91 - 93]

{فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ} : فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، {إلَى آلِهَتِهِمْ}: إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله:{أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [النحل: 27]. {أَلا تَاكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها، {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} : فأقبل عليهم مستخفيًا، كأنه قال: فضربهم {ضَرْبًا} ؛ لأن "راغ عليهم" في معنى: ضربهم. أو: فراغ عليهم يضربهم ضربًا. أو: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا} بمعنى ضاربًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ}: فذهب إليها في خفية) يريد: ضمن {فَرَاغَ} معنى "ذهب" وعدي بـ"إلى"، كما أن {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} مضمن للإقبال ويعدى بـ"على"، ولذلك قال: فذهب إليها في خفية، "فأقبل عليهم مستخفيًا" بعد استعارة الروغان للخفية.

قال في "الأساس": ومن المجاز: فلان يروغ عن الحق، ولا يقال: راغ عن كذا إلا إذا كان عدوله عنه في خفية، وما زلت أراوغه على هذا الأمر فما راغ إليه أي: أدواره. وحقيقته: حملته على الروغان، مأخوذ من روغان الثعلب، وأراغ العقاب الصيد؛ إذا ذهب الصيد؛ هكذا وهكذا.

قوله: (بمعنى ضارباَ) فعلى هذا: {ضَرْباَ} حال، وعلى الأول: مفعول مطلي، نحو "قعدت جلوسًا"، وعلى الثاني: مصدر مؤكد والعامل مضمر. قال صاحب "الفرائد": يبعد أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ لأن الإقبال على الشيء مستخفيًا لا يدل على الضرب.

وقلت: في جعل الإقبال عليهم نفس الضرب مبالغة، فهو مجاز من باب إطلاق السبب على المسبب؛ لأن إقباله عليهم لم يكن للضرب. ويجوز أن يكون من باب المجاز باعتبار ما يؤول إليه، أي: أقبل عليهم إقبالًا مؤديًا إلى الضرب، كما قال في {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] هدىً للضالين الصائرين إلى التقوى، فالمعنى: فمال إلى الأصنام يضربها ضربًا؛ لأن الإنحاء على الضرب بمعنى الضرب.

ص: 167

وقرئ: (صفقًا)، و (سفقًا)، ومعناهما: الضرب. ومعنى {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} : ضربًا شديدًا قويًا؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما. وقيل: بالقوة والمتانة، وقيل: بسبب الحلف، وهو قوله:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57].

[{فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ} 94]

{يَزِفُّونَ} : يسرعون، من زفيف الناعم. و (يزفون): من أزف، إذا دخل في الزفيف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "صفقًا" و"سفقًا") قال ابن جني: قرأ الحسن: "سفقًا" باليمين، و"صفقًا" أيضًا. وقالوا: صفقت الباء وسفقته، والصاد أعلى.

قوله: (وقيل: بالقوة والمتانة)، فعلى هذا:{بِالْيَمِينِ} متعلق بـ {ضَرْبًا} ، وعلى الأول: متعلق بمحذوف صفة لـ {ضَرْبًا} .

قوله: ({يَزِفُّونَ}: يسرعون)، حمزة:"يُزِفون" بضم الياء، والباقون: بفتحها، من: أزف، أي صار إلى الزفيف، ومثله قول الشاعر:

تمنى حصين أن يسود جدذاعه .... فأضحى حصين قد أذل فأقهرا

أي: فصار إلى القهر.

قال الزجاج: أصله الفتح وتشديد الفاء، من زفيف النعام، وهو ابتداء عدوه وآخر مشيه، وبالضم والتشديد: معناه: يصيرون إلى الزفيف، و"يزفون" بالتخفيف: من: وزف يزف بمعنى: أسرع، ولم يعرفه الفراء والكسائي.

ص: 168

أو: من أزفه؛ إذا حمله على الزفيف، أي: يزف بعضهم بعضًا. و (يزفون)، على البناء للمفعول، أي يحملون على الزفيف. و (يزفون)، من وزف يزف؛ إذا أسرع. و (يزفون)، من: زفاه؛ إذا حداه، كأن بعضهم يزفو بعضًا لتسارعهم إليه.

فإن قلت: بين هذا وبين قوله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 59 - 60] كالتناقض؛ حيث ذكر ها هنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر، حتى قيل لهم: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر؛ ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخر: أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر! قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرًا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا: من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على السبيل التورية والتعريض بقولهم:{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] لبعض الصوارف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال ابن جني: وهي قراءة عبد الله، وذهب قطرب أنها تخفيف "يزفون"، كما قال تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] أي: اقررن.

قوله: (والتعريض بقولهم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] لبعض الصوارف)، خلاصة الدفع عن التناقض أن قوله:{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} لا يناقض قوله: {فَأَقْبَلُوا

ص: 169

والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر، وقولهم: قالوا: فأتوا به على أعين الناس.

[{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 95 - 96].

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعنى خلقكم وما تعملونه من الأصنام، كقوله:{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] أي: فطر الأصنام. فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقًا لله معمولًا لهم؛ حيث أوقع خلقه وعملهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، لأن هؤلاء الذين أبصروه وزفوا إليه سمعوه بعد مضي الجمهور إلى العيد يقول في نفسه:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] فلما ذهبوا وشرع في الضرب باليمين أقبل إليه المتخلفون يزفون ليكفوه، فلما رجع الجمهور من عيدهم سألوهم فلم يجسر هؤلاء أن يجيبوا بما سمعوا منه من القول فضلًا عن أن يظهروا ما شاهدوا منه من الفعل؛ لئلا ينسبوا إلى التقصير ويؤنبوا بالعجز، بل عرضوا بقولهم:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] لعل هذا هو المراد من قول المصنف: "والتعريض بقولهم لبعض الصوارف" وفي قوله في سورة "الأنبياء": "قال ذلك القول، أي {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] سرًا من قومه. وروي: سمعه رجل واحد منهم"، إيماء إلى هذا المعنى.

قوله: (كيف يكون الشيء الواحد) يعني: عطف {وَمَا تَعْمَلُونَ} على مفعول "خلق" فيكون مخلوقًا لله، وأوقع {تَعْمَلُونَ} على الضمير الراجع إلى "ما" فيكون معمولًا لهم، وهو المراد من قوله:"وقع خلقه وعملهم عليها" أي: على الشيء الواحد، وإنما أنثه ليكون معبرًا عن الأصنام بدليل قوله:"ما تعملونه من الأصنام".

ص: 170

عليها جميعًا؟ قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها الله، وعامل أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه. فإن قلت: فما أنكرت أن تكون "ما" مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى: والله خلقكم وعملكم، كما يقول المجبرة؟ قلت: أقرب ما يبطل به السؤال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أقرب ما يبطل به هذا السؤال) إلى آخره، وخلاصة الجواب أن قوله:{وَمَا تَعْمَلُونَ} هو عين ما ينحتون؛ لأن قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} احتجاج على ما أنكر عليهم بقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ، وإنما يصح أن يكون احتجاجًا ومطابقًا للسؤال أن يقال: والله خلقكم وما تنحتون.

قال مكي: قالت المعتزلة: "ما" بمعنى "الذي" فرارًا من أن يقروا بعموم الخلق لله تعالى، يريدون أنه خلق الأشياء التي نحتت الأصنام وبقيت الأعمال والحركات غير داخلة في خلق الله، تعالى الله عن ذلك، بل كل من خلق الله لا خالق إلا الله، وخلق الله لإبليس -الذي هو الشر كله- يدل على أنه تعالى خلق جميع الأشياء. وقال تعالى:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]؛ أجمع القراء كلهم -حتى أهل الشذوذ- على إضافة "شر" إلى "ما"، وقد فارق عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة وقرأ "مِنْ شَرٍّ مَا خَلَقَ" بالتنوين؛ ليثبت أن مع الله خالقين يخلقون الشر، والصحيح أن الله تعالى خلق الشر وأمرنا أن نتعود منه، فإذا خلق الشر وهو خالق الخير [بلا اختلاف]، دل ذلك على أنه تعالى خلق أعمال العباد كلها من خير وشر، فيجب أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى: أنه تعالى عم جميع الأشياء بأنها مخلوقة له، أي: الله خلقكم وعملكم.

ص: 171

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: هذا أبلغ؛ لأن فعلهم إذا كان بخلق الله فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال، ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيهما من حذف أو مجاز.

وقلت: تمام تقريره هو: أنه قد تقرر عند علماء البيان أن الكناية أولى من التصريح، فإذا نفى الحكم العام لينتفي الخاص كان أقوى وأثبت للحجة، وكم قد كرر في كتابه هذا المعنى، ومنه قوله تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] إذ أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كل موجود لا ينفك من حال عند وجوده، فكان إنكارًا لوجوده على الطريق البرهاني.

وقال صاحب "الانتصاف": يتعين حمل "ما" على المصدرية؛ إذ لم يعبدوا الأصنام من حيث هي حجارة عارية من الصورة، ولولاها لما خصوا حجرًا دون غيره، بل عبدوها باعتبار أشكالها وهي أثر عملهم، فعلى الحقيقة إنما عبدوا عملهم، فوضحت الحجة في أنها مخلوقة لله، فكيف يعبد مخلوق مخلوقًا؟ ! .

قوله: "هي موصولة والمراد عمل أشكالها" مخالفة للظاهر واحتياج إلى حذف مضاف، أي:"وما تعملون شكله وصورته" وهو موضع لبس، وإذا جعل المعبود نفس الجوهر كيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من صنعة العابد وهم يوافقون أن جواهر الأصنام ليست من خلقهم؟ فيكون على هذا ما هو من عملهم ليس معبودًا، وما هو معبود -وهو الجوهر- ليس عملًا لهم.

ص: 172

بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب: أن معنى الآية يأباه إباء جليًا، وينبؤ عنه نبوًا ظاهرًا؛ وذلك أن الله عز وجل قد احتج عليهم بأن العابد والمعبود جميعًا خلق الله، فكيف يعبد المخلوق المخلوق؟ ! على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله، ولولاه لما قدر أن يصور نفسه ويشكلها، ولو قلت: والله خلقكم وخلق عملكم؛ لم تكن محتجًا عليهم، ولا كان لكلامك طباق. وشيء آخر؛ وهو أن قوله:{وَمَا تَعْمَلُونَ} ترجمة عن قوله: {مَا تَنْحِتُونَ} ، و {مَا} في {مَا تَنْحِتُونَ} موصولة لا مقال فيها، فلا يعدل بها عن أختها إلا متعسف متعصب لمذهبه، من غير نظر في علم البيان، ولا تبصر لنظم القرآن.

فإن قلت: أجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت، وأريد: وما تعملونه من أعمالكم.

قلت: بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق؛ وذلك أنك وإن جعلتها موصولة، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: "المطابقة تنفك على رأي أهل السنة" لا يصح، فإنا نحمل الأولى على المصدر وهم في الحقيقة عبدوا نحتهم؛ لأنها قبل النحت لم تعبد، فالمطابقة والإلزام على هذا أبلغ، ولو كان كما قال لقامت الحجة لهم ولكافحوا وقالوا: ما خلق الله ما نعمل؛ لأنا عملنا الشكل والصورة، ولله الحجة البالغة.

قوله: (بل الإلزامان)، أي: بطلانه بحجج العقل ومطابقة المقام، في عنق المجبرة.

ص: 173

كحالك وقد جعلتها مصدرية، وأيضًا فإنك قاطع بذلك الوصلة بين {مَا تَعْمَلُونَ} و {مَا تَنْحِتُونَ} ؛ حيث تخالف بين المرادين بهما، فتريد بـ {مَا تَنْحِتُونَ}: الأعيان التي هي الأصنام، وبـ {وَمَا تَعْمَلُونَ}: المعاني التي هي الأعمال، وفي ذلك فك النظم وتبتيره، كما إذا جعلتها مصدرية.

[{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} 97 - 98].

الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر، فهي جحيم. والمعنى: أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعًا، وأذلهم بين يديه: أرادوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كحالك وقد جعلتها مصدرية) يعني: حالك في جعلها موصولة على هذا التأويل، كحالك في جعلها مصدرية في أنك غير محتج بالآية على المشركين؛ لأن المقصود نفس ما ينحتون لا العمل كما سبق، وأيضًا فإنك قاطع بذلك الوصلة بين ما يعملون وما ينحتون، يعني: إذا جعلت "ما" موصولة وحذفت الراجع وأردت ما تعملونه من أعمالكم لم يتجاوب الرد والاحتجاج.

وقلت: هذا تطويل، إذ لابد لصاحب المعاني أن يراعي الفرق بين العبارتين؛ بين أن يقال: والله خلقكم وما تنحتون، كما يقتضيه الظاهر، وبين ما عليه التلاوة، ويلتزم الأبلغية في الثاني صونًا لكلام الله تعالى من العبث، وليس ذلك إلا الكناية كما سبق، والله أعلم.

قوله: (الجحيم: النار الشديدة)، الراغب: الجحمة: شدة تأجج النار، ومنه الجحيم، وجحم وجهه من شدة الغضب استعارة من جحمه النار، وذلك من ثوران حرارة القلب.

قوله (في المقامين جميعًا) المقام الأول: قوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا

ص: 174

أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر، وقهرهم، فمالوا إلى المكر، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه.

[{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} 99 - 101].

أراد بذهابه إلى ربه: مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام؛ كما قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، {سَيَهْدِينِ}: سيرشدني إلى "ما فيه صلاحي في ديني، ويعصمني ويوفقني، كما قال موسى عليه السلام:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] كأن الله وعده وقال له: سأهديك، فأجرى كلامه على سنن موعد ربه، أو بناه على عادة الله تعالى معه في هدايته وإرشاده أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى الله.

ولو قصد الرجاء والطمع لقال، كما قال موسى صلى الله عليه:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تَعْمَلُونَ} وهو المراد من قوله: "فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم الحجر"، والثاني {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} ، وإليه الإشارة بقوله:"فأبطل الله مكرهم" إلى آخره.

قوله: (ولو قصد الرجاء والطمع لقال

: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} يريد أنه عليه السلام قطع بقوله {سَيَهْدِينِ} حصول الهداية؛ لأن سين الاستقبال للجزم بوقوع الفعل.

قال في "المفصل": إن "سيفعل" جواب "لم يفعل"، وكانت عادة الله معه جارية على القطع في الإرشاد، فحدث بذلك لقوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] أو أجرى كلامه على المشاكلة وسنن موعد ربه، أو أظهر بذلك للقوم ومن كان قاصده ويريد كيده التجلد، يعني أن حالي مع ربي بهذه المثابة فلا أبالي بكيدكم، فالمقام يأبى الرجاء والطمع.

ص: 175

{هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} : هب لي بعض الصالحين، يريد الولد؛ لأن لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] قال عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84]{وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90].

وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهما حين هنأه بولده علي أبي الأملاك: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة الله، وبموهوب، ووهب، وموهب.

وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أو أن الحلم، وأنه يكون حليمًا، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ثم استسلم لذلك؟ ! وقيل ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام، بأقل مما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت الله به إبراهيم في قوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]؛ لأن الحادثة شهدت بحلمهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هنأه بولده علي أبي الأملاك) يعني: أبي الخلفاء، وفي "جامع الأصول": هو أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم، أحد سادات بني هاشم، كان كثير العبادة، يقال: إنه ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسمي باسمه، ومات بالشام سنة ثماني عشرة ومئة، وقيل: سنة عشر ومئة.

وفي قوله: "أبي الأملاك" تعريض بهم وأنهم لم يكونوا خلفاء.

ص: 176

[{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} 102].

فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه.

فإن قلت: {مَعَهُ} بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو: إما أن يتعلق ب {بَلَغَ} ، أو بـ {السَّعْيَ} ، أو بمحذوف، فلا يصح تعلقه بـ {بَلَغَ} ؛ لاقتضائه بلوغهما معًا حد السعي، ولا بـ {السَّعْيَ} ؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه؛ فبقي أن يكون بيانًا، كأنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يسعى مع أبيه في أشغاله) الراغب: السعي: المشي السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر خيرًا كان أو شرًا، قال تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة كما قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي: أدرك ما سعى في طلبه.

قوله: (لاقتضائه بلوغهما معًا حد السعي) يريد أن لفظة "مع" تقتضي استحداث المصاحبة، قال في قوله تعالى:{دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36]: "مع" يدل على معنى الصحبة واستحداثها فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له؛ لأن "معه" على هذا حال من فاعل "بلغ" فيكون قيدًا للبلوغ فيلزم منه ما ذكره من المحذور؛ لأن معنى المعية المصاحبة وهي مفاعلة، وقد قيد الفعل بها فيجب الاشتراك فيه. لا يقال: إن قول بلقيس: {مَعَ سُلَيْمَانَ} -على ما ذكر- يقتضي استحداث إسلامهما معًا، وليس كذلك؛ لأنا نقول: لا يبعد ذلك، فلعله عليه السلام وافقها أو لقنها، وإنما المعنى على بلوغ إسماعيل عليه السلام الحد الذي يقدر فيه على العمل في صحبة أبيه إبراهيم عليه السلام.

وروى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنه: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم. والمعنى: بلغ أن يتصرف معه ويعينه، فإذن لابد من تعلقه بالسعي، لا كما ظن أنه يجوز أن

ص: 177

لما قال: فلما بلغ السعي، أي: الحد الذي يقدر فيه على السعي، قيل: مع من؟ فقال: مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب: أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء، فلا يحتمله؛ لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنه وتقلبه في حد الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتعلق بـ"بلغ" وحين لم يجز تقديمه عليه وجب أن يقدر مثله على شريطة التفسير، كما قال في تفسير قوله تعالى:{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]: "فيه" ليس من صلة "الزاهدين" لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أي شيء زهدوا؟ فقيل: زهدوا فيه. وهكذا التقدير، لما قال:"فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" أي القدرة على أن يسعى. فقيل: مع من يسعى؟ فقيل: مع أبيه.

والفائدة في التكرير التأكيد كما في تركيب الإضمار على شريطة التفسير والمبالغة في استصحابه إياه، كأنه بلغ معه واستكمل في أخلاقه من بدء حاله، وفي تخصيص ذكر الأب ما ذكره، والفائدة في تخصيص هذا الحد من العمر الدلالة على أنه على غضاضة سنه كان فيه من رصانة الحلم ما جسره على احتمال تلك البلية.

قال صاحب "الفرائد" أي افتقار إلى البيان وإلى السؤال؟ والوجه أن يقال: التقدير فلما بلغ السعي كائنًا معه، فيكون حالًا من "السعي" متقدمًا عليه.

وقلت: المعنى لا يساعد عليه؛ لأنه عليه السلام ما بلغ سعيًا وصفه أنه كائن مع أبيه؛ لأن المعنى أنه عليه السلام بلغ حدًا من العمر يسعى مع أبيه.

ص: 178

بذلك الجواب الحكيم: أتى في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة؛ فلهذا قال:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ، فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة. وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلًا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح رَوَّا في ذلك من الصباح إلى الرواح: أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، ثم سمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره؛ فسمي اليوم بيوم النحر. وقيل: إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له: أوف بنذرك.

{فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} من الرأي على وجه المشاورة. وقرئ: (ماذا تري)، أي: ماذا تبصر من رأيك وتبديه، و (ماذا ترى) على البناء المفعول، أي: ماذا تريك نفسك؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بذلك الجواب الحكيم) وذلك أنه فوض الأمر إليه في استشارته بقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ، وكان من الظاهر أن يجيب: افعل أولا تفعل، فأجاب بقوله:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ، أي ليس هذا من مقام المشاورة؛ لأن الواجب عليه إمضاء ما أمرت به وامتثال أمر ربك.

قوله: (وقيل إن الملائكة حين بشرته) عطف على قوله: "وقيل: رأى ليلة التروية".

فإن قيل: فعلى هذا لا يلزم أن يكون قد رأى شيئًا، فما يصنع بقوله:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَام} ؟ فيقال: يمكن أنه قد رأى رؤيا بعد قول الملائكة، وقيل له فيها: أوف بنذرك، تأكيدا لوفاء النذر.

قوله: ("وماذا ترى" على البناء المفعول) حمزة والكسائي: "ماذا تري"؛ بضم التاء

ص: 179

من الرأي، {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:

أمرتك بالخير فافعل ما أمرت به

أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمًرا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكسر الراء كسرة خالصة، يجعلانه فعلًا رباعيًا، والباقون: بفتحهما، يجعلونه ثلاثيًا، قال صاحب "الكشف": فمن قال: "ماذا تري" فالتقدير: ماذا ترينيه؟ إذا جعلت "ما" مبتدأ و"ذا" بمعنى "الذي" فالهاء عائدة إلى "ذا".

ومن جعل "ما" و"ذا" كالشيء الوحيد كان نصبًا مفعولًا ثانيًا لـ"ترى" وحذف المفعول الأول، أي: أي شيء تريني؟ وقوله: "تري" من: أرى يري، وليست التعدية إلى ثلاثة منقولًا من: رأى؛ إذا علم، لكنه منقول من قولهم: فلان يرى رأي أبي حنيفة.

هذا ويتعدى إلى مفعول واحد، فإذا دخلت عليه الهمزة تعدى إلى مفعولين؛ كقوله تعالى:{مَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي: بما أراكه الله.

ومن قال: {مَاذَا تَرَى} بفتح التاء إن جعل "ما" و"ذا" كالشيء الواحد كان مفعول {تَرَى} ، وإن جعل "ما" مبتدأ و"ذا" بمعنى "الذي" كان التقدير: ماذا تراه؟

وقال مكي: لا يحسن أن يكون {تَرَى} من العلم؛ لأنه يحتاج أن يتعدى إلى مفعولين، وليس في الكلام غير واحد وهو {مَاذَا} بجعلهما اسمًا واحدًا، وليس أيضًا من نظر العين؛ لأنه لم يأمره برؤية شيء، وإنما أمره أن يدبر رأيه فيما أمر به، ولا يحسن عمل {تَرَى} في "ذا" وهي بمعنى "الذي" لأن الصلة لا تعمل في الموصول.

ص: 180

وقرئ: (ما تؤمر به). فإذا قلت: لم شاوره في أمر حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطئها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله؛ ولأن المغافصة بالذبح مما يستسمج؛ وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك. فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟

قلت: كما أري يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحي إلى أبيه، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء؛ وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين؛ لأن الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد إحداهما.

[{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 103 - 111].

يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم، بمعنى واحد، وقد قرئ بهن جميعًا؛ إذا انقاذ له، وخضع، وأصلها من قولك: سلم هذا لفلان؛ إذا خلص له. ومعناه: سلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المغافصة)، الجوهري: غافصت الرجل؛ إذا أخذته على غرة.

قوله: (لو شاور آدم الملائكة) يعني أن الملائكة مع أنهم طعنوا فيه بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] لو استشيروا لنصحوا أو ظهرت له من كلامهم أمارة دلت على الترك.

ص: 181

من أن ينازع فيه، وقولهم: سلم لأمر الله، وأسلم له: منقولان منه، وحقيقة معناهما: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى: استسلم: استخلص نفسه لله. وعن قتادة في {أَسْلَمَا} : أسلم هذا ابنه وهذا نفسه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه على شقه، فوقع أحد جنبيه على الأرض، تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد، ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان. وروي: أن ذلك المكان عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى. وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. فإن قلت: أين جواب {لَمَّا} ؟ قلت: هو محذوف، تقديره:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف: من استبشارهما، واغتباطهما، وحمدهما لله، وشكرهما على ما أنعم به عليهما؛ من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب.

وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليل لتخويل ما خولهما من الفرج بعد الشدة، والظفر بالبغية بعد اليأس. {الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}: الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو: المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. الذبح: اسم ما يذبح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بمنى)، "منى" يصرف ولا يصرف، من: مني؛ إذا قدر، فسمي بذلك؛ لأنه تمنى فيه منايا الأضاحي، أي تقدر فيه، وقيل: تمنى فيه دماء الهدى، أي: تراق.

قوله: (من الثواب والأعواض) وقد سبق أن الثواب عندهم هو الجزاء على أعمال الخير، والعوض هو البدل عن الفائت، كالسلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي في مقابلة البلايا والمحن والرزايا والفتن.

ص: 182

وعن الحسن: فدي بوعل أهبط عليه من ثبير. وعن ابن عباس: لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة، وذبح الناس أبناءهم. {عَظِيمٍ}: ضخم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحي. وقوله عليه السلام:"استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم". وقيل: لأنه وقع فداء عن ولد إبراهيم. وروي: أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة، فرماه بسبع حصيات حتى أخذه، فبقيت سنة في الرمي.

وروي أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده. وروي: أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد؛ فبقي سنة.

وحكي في قصة الذبيح: أنه حين أراد ذبحه وقال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر. فقال له: اشدد رباطي لا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي حتى تجيز علي؛ ليكون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من ثبير)، النهاية: هو الجبل المعروف عند مكة، وهو أيضًا اسم ماء في ديار مزينة.

قوله: (استشرفوا ضحاياكم)، النهاية: وفي حديث الأضاحي: "أمرنا أن نستشرف العين والأذن"، أي نتأمل سلامتها من آفة تكون. وقيل: هو من الشرفة وهي خيار المال، أي: أمرنا أن نتخير.

قوله (حتى تجيز علي)، الجوهري: جزت الموضع أجوزه جوازًا: سلكته، وأجزته: خلفته وقطعته، وأجزته: أنقذته. وعن بعضهم: أجهزت على الجريح وأجزت: إذا أسرعت في قتله.

ص: 183

أهون؛ فإن الموت شديد، وأقرأ على أمي سلامي، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل؛ فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه، فلم يعمل؛ لأن الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه، فقال له: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه، فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح، فكبر جبريل والكبش، وإبراهيم وابنه، وأتى المنحر من منى فذبحه. وقيل: لما وصل موضع السجود إلى الأرض جاء الفرج.

وقد استشهد أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده: أنه يلزمه ذبح شاة.

فإن قلت: من كان الذبيح من ولديه؟ قلت: قد اختلف فيه؛ فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من التابعين: أنه إسماعيل. والحجة فيه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أملح)، الجوهري: الملحة من الألوان: بياض يخالطه سواد، يقال: كبش أملح.

قوله: (وقد استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فيمن نذر بذبح ولده أنه يلزمه ذبح شاة)، قال صاحب "التقريب" وفيه نظر؛ إذ ليس فيها ذكر النذر ولا لزوم الذبح، بل إن الله تفضل بالفداء وأيضًا هو شرع من قبلنا.

قوله: (من كان الذبيح)، "كان" زائدة، أي من الذبيح؟ ولو نصب وتكون "كان" ناقصة جاز.

ص: 184

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا ابن الذبيحين". وقال له أعرابي: يا ابن الذبيحين، فتبسم، فسئل عن ذلك، فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله: لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، وقالوا له: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل، والثاني إسماعيل". وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان مجتهد بني إسرائيل يقول إذا دعا: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، فقال موسى عليه السلام: يارب، ما لمجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، وأنا بين أظهرهم قد أسمعتني كلامك واصطفيتني برسالتك؟ قال: يا موسى، لم يجبني أحد حب إبراهيم قط، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني، وأما إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه، وأما إسرائيل، فإنه لم ييأس من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله)، روى ابن الجوزي في كتاب "الوفا": أن عبد المطلب قد رأى في المنام: احفر زمزم، ونعت له موضعها، فقام يحفر وليس له ولد يومئذ إلا الحارث، فنازعته قريش، فنذر لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما تموا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، وكتب كل واحد منهم اسمه في قدح فضرب القدح على عبد الله فأخذ الشفرة ليذبحه، فقامت قريش من أنديتها فقالوا: لا تفعل حتى نعذر فيه، فانطلق به إلى عرافة، فقالت له: كم الدية فيكم؟ قال: عشر من الإبل. قالت: قربوا صاحبكم وقربوا عشرًا من الإبل ثم اضربوا عليه القداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت على الإبل فقد رضي، ففعلوا حتى بلغ الإبل مئة، فخرج القدح على الإبل فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب عليه وعليها مرات، ففعل فخرج القدح على الإبل، فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع. وقد ذكر محمد بن هشام صاحب سير النبي صلى الله عليه وسلم أبسط من ذلك.

ص: 185

روحي في شدة نزلت به قط. ويدل عليه: أن الله تعالى لما أتم قصة الذبيح قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112].

وعن محمد بن كعب: أنه قال لعمر بن عبد العزيز: هو إسماعيل، فقال عمر: إن هذا شيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى يهودي قد أسلم فسأله، فقال: إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب. ويدل عليه: أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت.

وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصميعي، هو أين عزب عنك عقلك؟ ! ومتى كان إسحاق بمكة؟ ! وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة. ومما يدل عليه: أن الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85]، وهو من صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله:{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به؛ ولأن الله بشره بإسحاق وولده يعقوب في قوله {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفًا للموعد في يعقوب. وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين: أنه إسحاق.

والحجة فيه: أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدًا، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والحجة فيه أن الله تعالى أخبره عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا) إلى آخره، قلت: هذه الحجة ضعيفة؛ لأنه تعالى لما حكى عن خليله إبراهيم عليه السلام {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} وعقبه بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} بالفاء، وكذلك قصة الرؤيا والذبح، وذيل القصة بقوله:{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ} كما ذيل القصص المذكورة في هذه السورة الكريمة بمثله،

ص: 186

ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف: من يعقوب إسرائيل الله بن اسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله.

فإن قلت: قد أوحي إلى إبراهيم صوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له:{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} ، وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح، ولم يصح! .

قلت: قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح: من بطحه على شقه، وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيًا ولا مفرطًا، بل يسمى مطيعًا ومجتهدًا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ابتدأ بحديث إسحاق وبشارته وما يتعلق به، وقال {بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} والظاهر أن هذه البشارة غير البشارة الأولى والمبشر به غير الأول، وسيجيء تقريره بعيد هذا.

قوله: (وفرت الأوداج): الجوهري: فريت الشيء أفريه فريًا: قطعته لإصلاحه. والودج والوداج: عرق في العنق، وهما ودجان.

قوله: (وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل) يعني: لما بذل إبراهيم عليه السلام وسعه وفعل ما يفعله الذابح من بطحه على شقه، وأمر الشفرة على حلقه لم يكن هذا من ورود النسخ قبل الفعل في شيء كما يسبق إلى بعض الإفهام، يعني: ورود النسخ قبل الفعل جائز، لكن هذه الآية ليست من المسألة في شيء، يدل عليه قوله في قصة البقرة:"يجوز النسخ قبل الفعل، ولا يجوز قبل وقت الفعل"، يعني: أن إبراهيم عليه السلام

ص: 187

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتى بالمأمور به لأنه باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود ولم يكن منه تقصير، ولو لم يمنع مانه لتم الذبح المأمور به، ولهذا قال تعالى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} .

وعن بعضهم: الذبح هو الاعتماد، وقد وجد ذلك، لكن الانذباح لم يوجد، كما تقول: هديته فلم يهتد، أو هديته فاهتدي، وكسرته فانكسر، أو كسرته فلم ينكسر. هذا على خلاف ما ذكره المصنف في {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].

قال الإمام: وليس كذلك لأن معنى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أنه قد اعترف بكون الرؤيا واجب العمل، لا أنه بكل ما رآه في المنام، ولو كانت المباشرة كافية في كل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء، وحيث احتاج علمنا أنه م يكن آتيا في المباشرة بكل ما أمر به، هذا هو السؤال الذي أورده المصنف، فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح إلى آخره، وأجاب عنه بقوله:"قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل" يعني: نحن إن قلنا: إنه امتثل الأمر وخرج عن عهده المأمور به، لكن حقيقته لم تحصل فوهب الكبش ليقيم ذبحه مقاوم تلك الحقيقة. وفائدته إيجاد المأمور به بكل ما يدخل تحت الإمكان.

وقال ابن الحاجب: أما دفعهم أنه ذبح فكان يلتحم عقبيه، أو يجعل عنقه صفيحة فلا يسمع ويكون نسخا قبل التمكن. يعنى: هذا النقل مما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يسمع، وإن سمع يكون نسخا قبل التمكن من الفعل. قال الإمام: هذه مسألة شريفة من مسائل باب النسخ، واختلف الناس في أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور مدة الامتثال؟ قال أكثر أصحابنا: إنه يجوز.

وقالت المعتزلة وكثير من فقهائنا والحنفية: إنه لا يجوز. وقالت المعتزلة: إنه تعالى لو أمر شخصا بإيقاع فعل معين في وقت معين دل على حسن ذلك الفعل في ذلك الوقت، ثم إذا نهى عنه في ذلك الوقت دل على قبحه، وهذا مبني على تحسين الفعل وتقبيحه بحسب

ص: 188

ولا قبل أو أن الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشغل بالكلام فيه، فإن قلت: الله تعالى هو المفتدى منه؛ لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون فاديًا حتى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العقل وهو باطل، ولئن سلم فإن العقل قد يكون حسنًا باعتبار وقبيحًا باعتبار، فإن السيد إذا أمر عبده شيئًا في زمان مخصوص وينهاه بعينه فيه يكون غرضه من الأمر والنهي مجرد اختبار العبد في الانقياد والطاعة.

وقال البزدوي: شرط النسخ التمكن من عقد القلب، فأما التمكن من الفعل فليس بشرط عندنا، وقالت المعتزلة: إنه شرط. وحاصل الأمر: أن حكم النسخ بيان المدة لعمل القلب والبدن جميعًا، أو لعمل القلب بانفراده، وعمل القلب هو المحكم عندنا في هذا والآخر من الزوائد، لنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخمسين صلاة ثم نسخ ما زاد على الخمس وكان ذلك بعد العقد، ولأن النسخ صحيح إجماعًا بعد وجود جزء من الفعل أو مدة تصلح للتمكن من جزء منه، وإن كان ظاهر الأمر يحتمل كله؛ لأن الأدنى يصلح مقصودًا بالابتلاء وكذلك عقد القلب على حسن المأمور وعلى حقيقته.

قوله: (الله تعالى هو المفتدى منه)، الجوهري: افتدى منه بكذا أو فادى بكذا.

وقال المصنف في المقدمة: افتدى منه بكذا اشترى منه نفسه بشيء. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائدة: 36].

وهو يروى بفتح الدال وكسرها، وعلى الفتح ليس في "المفتدى" ضمير؛ لأنه مسند إلى الجار والمجرور، والضمير المجرور عائد إلى اللام، وعلى الكسر فيه ضمير راجع

ص: 189

قال: {وَفَدَيْنَاهُ} ؟ قلت: الفادي هو إبراهيم عليه السلام، والله عز وجل وهب له الكبش ليفدي به، وإنما قال:{وَفَدَيْنَاهُ} إسنادا للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته. فإن قلت: فإذا قلت: فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح، فما معنى الفداء، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل؟ قلت: قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فري الأوداج وإنهار الدم، هوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة؛ حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى الله تعالى، والمجرور إلى إبراهيم، وفيه تعسف ونبو عن مظنة استعماله. ولتضمنه معنى التخليص علله بقوله:"لأنه الآمر بالذبح"، فعلى هذا: الضمير في قوله: "ليفتدي به" راجع إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى الله تعالى كما سبق إلى بعض الأوهام.

وتلخيص السؤال أنه تعالى قال {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فيكون الفادي هو الله تعالى، وفي الحقيقة هو المفتدى منه، وإبراهيم هو الفادي، وأجاب بأن الإسناد مجازي؛ لأنه تعالى لما وهب لإبراهيم الكبش ليفتدي ابنه فكأنه تعالى هو الفادي؛ إذ لولا تمكنه من الفداء بهبته لما قدر إبراهيم أن يفتدي به. ونحوه:"كسا الخليفة الكعبة"، وفائدته تعظيم الفداء، وكذلك وصفه بالعظم والله أعلم.

قوله: (فإذا كان ما أتى به إبراهيم عليه السلام تقرير السؤال: أن الفداء إنما يكون إذا أريد التخليص من الذبح، فإذا فعل ما في حكم الذبح اضطرارًا فما معنى الفداء؟ وأجاب: أنه وإن فعل ما في حكم الذبح لكنه ليس بذبح في الحقيقة، فكان الفداء جبرانًا لذلك النقصان وتحصيلًا لتلك الحقيقة بما أمكن، ثم سأل: فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة وقد استغني عنها بما وجد منه عليه السلام من البطح وإمرار الشفرة؟ وأجاب: أن الفائدة بذل المجهود في امتثال الأمر، وحصول الذبح بأي وجه كان فحين لم يحصل في إسماعيل ينبغي أن يحصل في بدله، والفاءان في أثناء السؤالين مترتبتان على ما سبق عليهما.

ص: 190

ولكن في نفس الكبش بدلًا منه. فإن قلت: فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة، وقد استغني عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان؟ قلت: الفائدة في ذلك: أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه. فإن قلت: لم قيل هنا هنا {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وفي غيرها من القصص: {إِنَّا كَذَلِكَ} ، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية.

[{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} 112 - 113].

{نَبِيًّا} حال مقدرة كقوله تعالى {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ؛ وذلك أن المدخول موجود مع وجود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره)، قال الراغب في "درة التنزيل": إن قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} لما جعل أمارة لانتهاء كل قصة، وكانت قصة إبراهيم عليه السلام متضمنة ذكره وذكر ولده الذبيح فقيل له بعدما تله للجبين:{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فجاء في هذا المكان وقد بقيت من القصة آيات فلما أتمها جاء بما جعل خاتمة لكل قصة من قصصهم {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فلم يذكر "إنا" لسببين: أحدهما: تقدم ذكرها في هذه القصة، والآخر: أن يخالف بين منتهى هذه القصة لأنها من القصة الأولى التي ختمت بـ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وبين منتهى قصة ليس ما قبلها منها، فكأن {إِنَّا كَذَلِكَ} لما ذكر في هذه القصة مرة اكتفى بها ولم يكن منقطعاا لها فخالفت ما تقدمها وما تأخر عنها لذلك.

قوله: (فرق بين هذا وبين قوله)، مبتدأ وخبر، أي: فرق عظيم بين هذا وذلك؛ لأنه لما

ص: 191

الدخول، والخلود غير موجود معهما، فقدرت: مقدرين الخلود، فكان مستقيمًا، وليس كذلك المبشر به؛ فإنه معدوم وقت وجود البشارة، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لا محالة؛ لأن الحال حلية، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى، وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضًا بوجوده، بل تراخت عنه مدة متطاولة، فكيف تجعل {نَبِيًّا} حالا مقدرة، والحال صفة الفاعل أو المفعول عند وجود الفعل منه أو به؛ فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، فتقديرها صفتهم؛ لأن المعنى: مقدرين الخلود، وليس كذلك النبوة؛ فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق؛ قلت: هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك، والذي يحل الإشكال: أنه لابد من تقدير مضاف محذوف؛ وذلك قولك:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: {نَبِيًّا} حال مقدرة كقوله تعالى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] قال: لا يقاس هذا بذاك لافتراق بينهما وبعد أحدهما من الآخر.

قوله: (لابد من تقدير مضاف محذوف) أي: بشرناه بوجود إسحاق نبيًا بأن يوجد مقدرة نبوته.

هذا البحث موقوف على مقدمة وهي: أنه تقرر عند أصحاب المعاني أن لابد من تقرر الوصف والموصوف معا عند إثباته له. قال صاحب "المفتاح" إن حق كل ما يقصد ثبوته للغير أن يكون في نفسه ثابتًا وعندك، فما لا يكون ثابتًا كذلك أو متحققًا يمتنع منك جعله وصفًا. وقال: إن محاولة إثبات الثابت في نفسه لشيء آخر يستدعي ثبوت ذلك الشيء الآخر في نفسه لا محالة.

وهو المراد من قول المصنف، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله؛ لأن الحال حلية، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى، ولهذه النكتة قالوا في قوله {خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة: 162] حال مقدرة؛ لأن الخلود لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، وعلى هذا ذو الحال- الذي هو

ص: 192

وبشرناه بوجود إسحاق نبيًا، أي: بأن يوجد مقدرة نبوته؛ فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، وبذلك يرجع، نظير قوله تعالى:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. {مِنَ الصَّالِحِينَ} : حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريط؛ لأن كل نبي لابد أن يكون من الصالحين.

وعن قتادة: بشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه، وهذا جواب من يقول: الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه بقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموصوف في الحقيقة وهو إسحاق- لم يكن موجودًا عند البشارة، فلابد من التأويل وتقدير الوجود.

قال القاضي: معنى قوله {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} مقضيًا نبوته مقدرًا كونه، وبهذا الاعتبار وقعا حالين، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به للاعتبار المعني بالحال، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملًا فيهما مثل "وبشرناه بوجود إسحاق" أي: بأن يوجد إسحاق نبيًا من الصالحين، ومع ذلك لا يصير نظير قوله:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] فإن الداخلين مقدورون خلودهم وقت الدخول، وإسحاق لم يكن مقدرًا نبوة نفسه وصلاحهما حيثما توجد.

قوله: (الثناء والتفريط)، الجوهري: التقريظ: مدح الإنسان وهو حي، والتابين مدحه وهو ميت.

قوله: (وعن قتادة: بشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه)، جواب آخر عن السؤال بغير التزام الفرق بين قوله:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} وبين {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، لأن البشارة بالنبوة بعد الوجود.

قوله: (لصاحبه عن تعلقه)، "اللام" و"عن" متعلقان بقوله:"جواب" والضمير في

ص: 193

قالوا: ولا يجوز أن الله يبشره الله بمولده ونبوته معًا؛ لأن الامتحان بذبحه لا يصح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لـ"صاحبه" يرجع إلى "من يقول"، وفي "تعلقه" إلى "صاحبه"، وفي "بقوله" إلى "الله" تعالى.

قوله: (قالوا: لا يجوز) جملة مستأنفة بيان لاحتجاج صاحبه القائل بأن الذبيح إسماعيل؛ المعنى: قول قتادة: وبشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه، جواب من يقول: إن الذبيح إسحاق لصاحبه، أي: لمن يقول بأنه إسماعيل عليهما السلام، ويتمسك بقوله:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} لأن كونه نبيًا ينافي الامتحان بذبحه.

وتقريره: أن ليست البشارة بوجوده بل بنبوته بعدما امتحنه بذبحه. قال الزجاج: من قال: إن الذبيح إسحاق قال: إن فيه بشارتين:

إحداهما: قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} ، وثانيهما:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} حين استسلم للذبح.

وقال الإمام: ولا يجوز أن يكون المعنى: وبشرناه بإسحاق حال كون إسحاق نبيًا؛ لأن البشارة متقدمة على صيرورته نبيًا، فوجب أن يكون المعنى: فبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبيًا، وحال ما حكمنا عليه بكونه نبيًا، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ كانت هذه البشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق عليه السلام.

وقال صاحب "التقريب" وفي قولهم: لا يصح الامتحان بالذبح مع علمه بأنه سيكون نبيًا، نظر؛ لأن الحال المقدرة على ما قرر تقتضي أن يبشر بوجوده مقدرًا نبوته، ولا يلزم من تقدير نبوته العلم بتقديرها، اللهم إلا أن يبشر هكذا وهو أنه يوجد مقدرًا نبوته.

وقلت: من قال: إنها مقدرة يذهب إلى أن هذا ابتداء بشارة بالوجود وبالنبوة معه، فهو

ص: 194

مع علمه بأنه سيكون نبيًا. {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} وقرئ: (وبركنا) أي: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، كقوله:{وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]، وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه.

وقوله: {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} نظيره: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كقولك: خطت الثوب قميصًا، فلا يخفى على أحد أنه عند هذه البشارة لم يكن نبيًا، فالعلم بتقديرها ظاهر لم يحتج إلى التصريح، ولو بشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه- كما قال قتادة- لكان الظاهر أن يقال: وبشرناه بنبوة إسحاق بل بنبوته؛ لما سبق ذكره وذكر البشارة به.

ومما يدل على استقلال القصة تذييل القصة السابقة بما ذيلت به سائر القصص المذكورة من مثل قوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} فإذا صح ذلك فلا يجوز أن يؤمر بالذبح امتحانًا وهو عالم بأنه يصير نبيًا؛ لأن الامتحان إنما يصح إذا أيقن الذابح أنه سيذبح ولا يتأخر أجله.

قوله {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} نظيره: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، يعني: نظيره في أن ذريته عليه السلام لا يجب أن يكونوا محسنين كلهم. قال الإمام: دخل تحت قوله: "محسن" الأنبياء والمؤمنون، وتحت قوله:"الظالم" الفاسق والكافر. وفيه تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن؛ لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود. وقال التهامي:

لا تحسبن حسب الآباء مكرمة .... لمن يقصر عن غايات مجدهم

حسن الرجال بحسنى لا بحسنهم .... وطولهم في المعالي لا بطولهم

ص: 195

فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر. وهذا يهدم أمر الطبائع والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله أو فرعه.

[{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 114 - 122].

{مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من الغرق، أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم، َ {وَنَصَرْنَاهُمْ} الضمير لهما ولقومهما في قوله:{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} . {الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} البليغ في بيانه؛ وهو التوراة، كما قال:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44].

وقال من جوز أن تكون التوراة عربية أن تشتق من وري الزند "فوعلة" منه، على أن التاء مبدلة من واو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقال من جوز أن تكون التوراة عربية) عن بعضهم: إن "قال" عطف على "قال" في "كما قال"، و"أن" في "أن تشتق" مصدرية وهي مع "ما" في صلتها بمعنى المفعول أي مشتقة والتقدير: وكما قال من جوز هذا: إن فيها معنى الإنارة والضوء مشتق من الورى.

فإن قلت: فما وجه التشبيه بالآيتين؟ وكيف استشهد بهما على الاشتقاق؟ قلت: وجه التشبيع إثبات المبالغة في البيان، فكما أن استعمال سين الطلب فيما لا طلب له تدل على المبالغة كذلك استعارة النور- لما في الكتاب من البيانات الشافية الكافية- تدل على المبالغة، فإن قولك:"رأيت أسدًا يرمي" ابلغ من قولك: "رأيت شجاعا يرمي".

وأما وجه الاشتقال؛ فإن مراعاة تسمية الكتاب بالتوراة وإنما كانت لأنها اشتملت على

ص: 196

{الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} صراط أهل الإسلام، وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

[{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 123 - 132].

قرئ: {إِلْيَاسَ} بكسر الهمزة، (الياس) على لفظ الوصل. وقيل: هو إدريس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدلائل الباهرة والبراهين الساطعة كالنور في الظهور، وتحريره: أن الكتاب إنما وصف بالمستبين لما فيه من الكشف التام، كما سمي بالنور لذلك، وكما قيل: إن التوراة إنما اشتقت من الوري لما فيها من البيان التام.

قوله: ({الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} صراط أهل الإسلام) يعني أن الله تعالى كشف عن هذا الصراط المستقيم في الفاتحة وأوضحه بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] حيث قيده أولًا بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ليخرج اليهود، وثانيًا بقوله {وَلَا الضَّالِّينَ} ليخرج النصارى، فيختص بالمسلمين، فيكون ذكره ها هنا تعريضًا باليهود.

قوله: قرئ {إِلْيَاسَ} بكسر الهمزة، و"الياس" على لفظ الوصل)، بالوصل: ابن ذكوان عن ابن عامر، والباقون: بكسر الهمزة.

قال ابن جني: قرأ ابن محيصن وعكرمة والحسن بخلاف بغير همز، وكذا "الياسين" أما "الياس" فإن الاسم منه "ياس" ثم لحقه لام التعريف، كأنه على إرادة ياء النسب.

ص: 197

النبي. وقرأ ابن مسعود: (وإن إدريس)، في موضع {إِلْيَاسَ} .

وقرئ: (إدراس)، وقيل: هو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى. {أَتَدْعُونَ بَعْلًا}: أتعبدون بعلًا؛ وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل. وقيل: كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعًا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربع مئة سادن، وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقيل: البعل: الرب؛ بلغة اليمن، يقال: من بعل هذه الدار؟ أي: من ربها؟ والمعنى: أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"وإلياسين" على هذا كما حكى عنهم صاحب "الكتاب" والنميرون؟ ، يريد: الأشعريين والنمريين، وعن قطرب: هؤلاء زيدون، منسوبون إلى "زيد" بغير ياء النسبة.

ويجوز أن يجعل كل واحد من أهل إلياس: ياسا، يقال: الياسين، كقوله:

فدني من نصر الخبيبين قدي

يريد: أبا خبيب وأصحابه، كأنه جعل كل واحد منهم خبيبًا. ونحو منه قولهم:"شابت مفارقة" جعل كل جزء من مفرقة مفرقًا ثم جمعه. ويشهد لوصل ألف "ياسين" قوله:

أمهتي خندف والياس أبي

واللام بمنزلتها في "اليسع" زائدة؛ لأن الاسم علم، وليس بصفه.

قوله: (فتنوا به) افتتن الرجل وفتن فهو مفتون، إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله.

ص: 198

{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ} قرئ: بالرفع على الابتداء، والنصب على البدل، وكان حمزة إذا وصل نصب، وإذا وقف رفع.

وقرئ: (على إلياسين) و (إدريسين)، و (إدراسين)، و (إدراسين)، على أنها لغات في "إلياس" "وإدريس". ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. وقرئ:(على الياسين) بالوصل، على أنه جمع يراد به إلياس وقومه، كقولهم: الخبيبون والمهلبون. فإن قلت: فهذا حملت على هذا {إِلْ يَاسِينَ} على القطع وأخواته؟ قلت: لو كان جمعًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بالرفع على الابتداء) أي: "الله ربكم" حفص وحمزة والكسائي: بالنصب، والباقون: بالرفع.

قال الزجاج: النصب على صفة "أحسن الخالقين" والرفع على الابتداء والخبر. ولو قال على البدل في النصب كان أولى.

قوله: (وبالنصب على البدل) أي: قرئ بالثلاثة بالنصب بدلا من {أحسن} .

قوله: (وإدراسين) قال ابن جني: قرأها ابن مسعود ويحيى وغيرهما، وجاء عنه "إدرسين" وكذا عن قتادة، وفي بعض القراءة "إدريسين" وأما "إدراسين" فيجب أن تكون من تغيير العرب الكلم الأعجمي؛ لأنه ليس من لغتها، والقياس "إدريسين".

قوله: (الخبيبون) قيل لعبد الله بن الزبير ومن كان على رأيه؛ لأن خبيبًا من أجبن أولاده، وأولياؤه يسمونه أبا بكر، قيل في كونه مثل الخبيبيين: خبيب، وأجيب أن العرب إذا تكلمت بالعجمية قالت ما شاءت.

قوله: (فهذا حملت على هذا {إِلْ يَاسِينَ} على القطع) في السؤال شائبة إنكار، أي: لم ما

ص: 199

لعرف بالألف واللام. وأما من قرأ: (على آل ياسين) فعلى أن ياسين اسم أبي إلياس، أضيف إليه الآل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حملت على "الياسين" بالوصل قراءة من قرأ {إِلْ يَاسِينَ} بالقطع وإخوانه من (إدريس) و"إدراسين" و"إدرسين" وقلت: إنها جموع، بل زعمت أن زيادة الياء والنون لمعنى في السريانية؟ وأجاب: لو كان جمعًا لعرف بالألف واللازم كما في الخبيبون والمهلبون، وكما مر عن ابن جني في "الأشعرون" و"النميرون". وقال الزجاج: من قرأ بالوصل فهو جمع "الياس" هو وأمته المؤمنون، وكذا يجمع ما ينسب الشيء إليه بلفظ الشيء، نحو المهلبة أي بني المهلب.

قوله: (وأما من قرأ "على آل ياسين") نافع وابن عامر: "على آل ياسين" منفصلًا. مثل: آل محمد، والباقون: بكسر الهمزة وإسكان اللام متصلًا، وفي "المطلع" حجة من قرأ منفصلًا أنها في المصحف مفصولة.

قال الفراء وأبو عبيدة: الوجه قراءة العامة؛ لأنه لم يقل في شيء من السورة: سلام على آل فلان، إنما جيء بالاسم، كذلك "إلياسين"؛ لأنه بمعنى: إلياس أو إلياس واتباعه. وقيل: الوجه أن ياسين اسم أبي إلياس وأضيف إليه الأول.

وقيل القاضي" وقيل إل ياسين أبو إلياس، أو محمد، أو القرآن، أو غيره من كتب الله، والكل لا يناسب نظم سائر القصص ولا قوله:{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 131 - 132] إذ الظاهر في الضمير في {إِنَّهُ} لإلياس.

وقلت: لو حمل آل ياسين على نفس إلياس -كما في قوله تعالى: {آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] ويراد موسى وهارون- لم يبعد ذلك.

ص: 200

[{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 133 - 138}.

{مُصْبِحِينَ} : داخلين في الصباح، يعني: تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلًا ونهارًا، أفما فيكم عقول تعتبرون بها؟ ! .

[{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 139 - 148].

قرئ: (يونس) بضم النون وكسرها. وسمي هربه من قومه بغير إذن ربه إباقًا على طريقة المجاز. والمساهمة: المقارعة. ويقال: استهم القوم؛ إذا اقترعوا. والمدحض: المغلوب المقروع. وحقيقته: المزلق عن مقام الظفر والغلبة. روي: أنه حين ركب في السفينة وقفت، فقالوا: ها هنا عبد أبق من سيده، وفيما يزعم البحارون أن السفينة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وسمي هربه من قومه بغير إذن ربه إباقًا على طريقة المجاز)، أي: الاستعارة تصويرًا لقبحه؛ لأن "أبق" يستعمل في المملوك إذا هرب من سيده.

الجوهري: ابق العبد يابق إباقًا، أي: هرب، ويجوز أن يكون على طريقة استعمال المرسن في أنف الإنسان.

قوله: (والمساهمة: المقارعة)، الراغب: السهم ما يرمى به، وما يضرب به من القدح، قال تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وبرد مسهم عليه صورة سهم، وسهم وجهه تغير والسهام داء يتغير منه الوجه.

قوله: (البحارون) هم الذين يكونون أكثر أعمارهم في البحر للتجارة وغيرهما.

ص: 201

إذا كان فيها آبق لم تجر، فاقترعوا، فخرجت القرعة على يونس، فقال: أنا الآبق، وزج بنفسه في الماء، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}: داخل في الملامة. يقال: رب لائم مليم، أي: يلوم غيره وهو أحق منه باللوم. وقرئ: (مليم) بفتح الميم، من: ليم فهو مليم، كما جاء: مشيب في مشوب، مبنيًا على شيب. ونحوه: مدعي، بناء على دعي. {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}: من الذاكرين الله كثيرًا بالتسبيح والتقديس. وقيل: هو قوله في بطن الحوت {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وقيل: من المصلين. وعن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وعن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. قال: وكان يقال: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، وإذا صرع وجد متكئًا. وهذا ترغيب من الله عز وجل في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله، وإقباله على عبادته، وجمع همه لتقييد نعمته بالشكر في وقت المهلة والفسحة؛ لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد. {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} الظاهر: للبث فيه حيًا إلى يوم البعث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وزج بنفسه)، الجوهري: زجه: دفعه في وهدة.

قوله: ({وَهُوَ مُلِيمٌ}: داخل في الملامة)، قال الزجاج: يقال: قد ألام الرجلل فهم مليم إذا أتى ما يجب أن يلام عليه، وقد ليم إذا أتى بلوم ولا موه عليه. وأنشد غيره.

إن نفسي على هواها ألامت .... كل نفس على هواها مليمه

قوله: (وهذا ترغيب من الله في إكثار المؤمن)، الترغيب مستفاد من الوصف بالتسبيح دون النبوة والرسالة، والإكثار من جعله من زمرتهم ومن جملة مت يواظب على التسبيح، نحو "فلان من العلماء" أي: له مساهمة معهم في العلم، وهذا الوصف كاللقب المشهور له ولا يشتهر به إلا بكثرة الممارسة.

ص: 202

وعن قتادة: لكان بطن الحوت له قبرًا إلى يوم القيامة. وروي: أنه حين ابتعله أوحى الله إلى الحوت: إني جعلت بطنك له سجنًا، ولم أجعله لك طعامًا.

واختلف في مقدار لبثه: فعن الكلبي: أربعون يومًا، وعن الضحاك: عشرون، وعن عطاء: سبعة، وعن بعضهم: ثلاثة، وعن الحسن: لم يلبث إلا قليلًا، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه. وروي: أن الحوت سار مع السفينة رافعًا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظة سالمًا لم يتغير منه شيء، فأسلموا. وروي: أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل.

والعراء: المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه. {وَهُوَ سَقِيمٌ} اعتل مما حل به، وروي: أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد. واليقطين: كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق، كشجر البطيخ، والقثاء، والحنظل، وهو "يفعيل" من قطن بالمكان؛ إذا قام به. وقيل: هو الدباء. وفائدة الدباء: أن الذبان لا تجتمع عنده.

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال: "أجل هي شجرة أخي يونس".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والعراء: المكان الخالي) العراء: يمد ويقصر، فالمقصور: الناحية، والممدود: المكان الخالي. وقيل: معناه الأرض الخالي. وقيل: هو الدباء، لأم الدباء إن كان همزة من دبأ إذا هذا، يقال دبأت المكان، كما قيل له: اليقطين من قطن، جعل انسداحه قطونًا وهدوءًا إن كان ياء من تركيب "دبي" وهو الجراد، ويحتمل أن يكون كالدباء من الدبيب، جعل انبساطه دبيبا.

قوله: (إنك لتحب القرع) روينا عن البخاري عن أنس قال: "دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على غلام خياط، فقدم إليه قصعة فيها ثريد وعليه دباء، قال أنس: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع

ص: 203

وقيل: هي التين، وقيل: شجرة الموز، تغطي بورقها. واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها. وقيل: كان يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تختلف إليه، فيشرب من لبنها. وروى: أنه مر زمان على الشجرة فيبست، فبكى جزعا، فأوحي إليه: بكيت على شجرة ولا تبكي على مئة ألف على يد الكافر؟ ! فإن قلت: ما معنى: {أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً} ؟ قلت: أنبتناها فوقه مظلة له، كما يطنب البيت على الإنسان {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ}: المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه، وهم أهل نينوى. وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه من الأولين أو إلى غيرهم. وقيل: أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى؛ لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم، وقال لهم: إن الله باعث إليكم نبيا {أَوْ يَزِيدُونَ} في مرأى الناظر؛ أي: إذا رآها الرائي قال: هي مئة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدباء، قال أنس: فجعلت أتتبعه وأصفه بين يديه، قال: وما زلت بعد أحب الدباء".

وفي رواية الترمذي عن أنس: "أنه كان يأكل قرعًا وهو يقول: يا لك من شجرة! ما أحبك إلي لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك".

قوله: (ما معنى: {أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ}؟ ) يعني: {وَأَنْبَتْنَا} تعدى بـ"على" فأجاب: أن {عَلَيْهِ} ليس بصلة بل هو حال، أي انبتنا الشجرة مستعلية عليه، نحوه:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ} [يوسف: 18].

قوله: (وقيل: هو إرسال ثان) وعلى الأول: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ} عطف على قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} على سبيل البيان؛ لأنه دل على ابتداء الحال وعلى انتهائها وعلى ما هو المقصود بالإرسال من الإيمان، واعترض ما بينهما قصة اعتناء بشأنها لاحتوائها على أمر عجيب، وكذلك يقدر: اذكر إذ أبق.

ص: 204

ألف أو أكثر؛ والغرض: الوصف بالكثرة. {إِلَى حِينٍ} : إلى أجل مسمى. وقرئ: (ويزيدون) بالواو، و (حتى حين).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("ويزيدون" بالواو) قال ابن جني: هي قراءة جعفر بن محمد رضي الله عنهما. وفيه إعراب حسن، وذلك أن قوله:"يزيدون" خبر مبتدأ محذوف، أي: هم يزيدون، والواو لعطف الجملة على الجملة، كقولك: مررت برجل مثل الأسد وهو والله أشجع، ولقيت رجلا جوادا وهو والله فوق الجواد. ويفسد أن يقال: إن {يَزِيدُونَ} عطف على {مِئَةِ} ، لأن "إلى" لا تعمل في "يزيدون"، فلا يجوز أن يعطف {يَزِيدُونَ} على معموله.

فإن قلت: قد يجوز في العطف ما لا يجوز في المعطوف عليه، كقولنا: رب رجل وأخيه، ورب شاة وسخلتها، ومررت برجل صالح أبواه لا طالحين، ونحو ذلك، ونحو ذلك، قلنا: لو قدرت المتجوز في هذا ونحوه لا تبلغ ما رمته من تقدير حرف الجر مباشرًا للفعل، ألا تراك لا تجيز مررت بقائم ويقعد، وأنت تريد بقاعد، ومع ذلك يلزم فساد المعنى؛ لأن المعنى حينئذ: وأرسلناه إلى جمعين: مئة ألف والآخر زائد، وليس الغرض ذلك؛ لأن الغرض وأرسلناه إلى جمع لو: رأيتموهم لقلتم أنتم: هؤلاء مئة ألف وهم أيضًا يزيدون، فالجمع إذن واحد لا جمعان، وكذلك قراءة العامة:{أَوْ يَزِيدُونَ} أي: أو هم يزيدون.

قال الزجاج: روي عن الفراء وابي عبيدة: معنى {أَوْ يَزِيدُونَ} : بل يزيدون. وقال غيرهما: أو يزيدون في تقديركم أنتم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مئة ألف أو يزيدون. هذا هو القول. وقيل: معناه الواو، وهو يعيد؛ لأن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دليل على أن أحد الشيئيين قبل الآخر.

ص: 205

[{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 149 - 157].

{فَاسْتَفْتِهِمْ} معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة. أمر رسوله باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث أولًا، ثم ساق الكلام موصولًا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها؛ حيث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أمر رسوله صلوات الله عليه باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث، أولا، ثم ساق الكلام موصولًا بعضه ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة)، يريد أنه تعالى أمر حبيبه صلوات الله عليه أن يستفتي قريشًا في هذه السورة الكريمة مرتين، أولاهما: يستفتيهم في وجه إنكارهم البعث بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} ثم ساق الكلام في بيان أمر الحشر والنشر وما إليه مآل الفريقين المصدقين له والمكذبين إياه، وأشبع الكلام فيه، ثم علل أن إنكارهم ذلك ما نشأ إلا من التقليد بقوله:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} ولا فائدة في الحرص على إيمانهم، مسليا حبيبه صلوات الله عليه؛ لئلا تذهب نفسه عليهم حسرات، وقرر ذلك بقوله:{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} إذ دأب قومك معك كدأب سائر الأمم السالفة مع أنبيائهم، وبين وخامة عاقبة المكذبين وحسن عواقب المرسلين ومصدقيهم مفصلًا، فبدأ من نوح عليه السلام إلى أن ختم بيونس عليه السلام. ثم شرع في نوع آخر من الاستفتاء وهو الكلام في الإلهيات، وختم السورة بما يتصل بها.

فإن قلت: قد علم وجه اتصال الاستفتاء الأول بفاتحة السورة وأنه من جهة الخالقية وأن المخلوقات السابقة أشد خلقًا من خلق المنكرين للبعث، فما وجه اتصال هذا الاستفتاء بها؟

ص: 206

جعلو لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم الشديدة لهن، ووأدهم، واستنكافهم من ذكرهن. ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر؛ أحدها: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام. والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم: كما قال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17]، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].

والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه؛ حيث أنثوهم، ولو قيل لأقلهم وأدناهم: فيك أنوثة، أو شكلك شكل النساء؛ للبس لقائله جلد النمر، ولانقلبت حماليقه، وذلك في وأهاجيهم بين مكشوف، فكرر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرات، ودل على فظاعتها في آيات: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: من وجه كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وأنه مناف للمجانسة كما تقرر في قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].

قوله: "عن وجه القسمة الضيزى" وهي من ضاز حقه يضيزه ضيزا، بخسه ونقصه. قوله تعالى:{قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22] أي: جائزة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى، وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء؛ لأنه ليس في كلامهم فعلى صفة، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. وقال الفراء: بعض العرب تقول: ضأزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع بعض العرب يهمز الضيزى.

قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته وهو أنه يتزين في الزينة والنعمة؟ وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين لضعف عقول النساء ونقصانهن عن فطرة الرجال.

ص: 207

شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 88 - 90]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26]، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101]، {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات: 151 - 152]، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور، 39]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62]، {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16]، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]. {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} : فإن قلت: لم قال: {وَهُمْ شَاهِدُونَ} فخص علم المشاهدة؟ قلت: ما هو إلا استهزاء بهم وتجهيل، وكذلك قوله:{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]، ونحوه قوله:{أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]؛ وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر.

ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولًا عن ثلج صدور وطمأنينة نفس؛ لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقهم، وقرئ:(ولد الله) أي: الملائكة ولده. والولد "فعل" بمعنى مفعول، يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة) يعني: نفي طريق المشاهدة بالاستهزاء بهم وبتجهيلهم ليسند جميع طرق العلم، كأنه قيل: ما حصل لكم العلم الضروري بهذا القول ولا أخبركم به صادق ولا طريق للاستدلال والنظر إليه، فبقي أنكم شهدتم ذلك، أخبروني به إن حصل ذلك.

قوله: (عن ثلج صدر) أي: عن طمأنينة. الأساس: ومن المجاز: ثلج فؤاده، وهو مثلوج الفؤاد.

ص: 208

تقول: هذه ولدي، وهؤلاء ولدي. فإن قلت:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} بفتح الهمزة: استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبي جعفر الهمزة على الإثبات؟ قلت: جعله من كلام الكفرة بدلا عن قولهم: {وَلَدَ اللَّهُ} ، وقد قرأ بها حمزة والأعمش. وهذه القراءة وإن كان هذا محملها فهي ضعيفة، والذي أضعفها: أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها؛ وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقد قرأ بها حمزة والأعمش) أي: في الشاذ.

قوله: (فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين) يعني: قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} كلام الله تعالى على سبيل الإنكار، فلو جعل {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} إخباريا لكان من كلام الكفار فيختل النظم. وقلت: جعله إخباريًا لا يمنع من أن يكون من كلام الله على سبيل الإنكار، ألا ترى إلى قوله تعالى {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] بكسر الهمزة؟ وتفسير الحسن أنه قول الله يكذبهم. وقد قال المصنف: قول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون على نحو قوله:

أفرح أن أرزأ الكرام

وأنشدوا لعمر بن أبي ربيعة:

ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا! .... عدد الرمل والحصى والتراب

أي تحبها؟ وبهرًا، أي عجبًا.

ص: 209

وقرئ: (تَذَكَّرُونَ) من ذكر. {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ} أي: حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله، {فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ} الذي أنزل عليكم في ذلك، كقوله:{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35]، وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم، وإنكار فظيع، واستبعاد لأقاويلهم شديد، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام قريش، وتجهيل نفوسها، واستركاك عقولها، مع استهزاء وتهكم وتعجيب من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدث به نفسًا؛ فضلًا أن يجعله معتقدًا ويتظاهر به مذهبًا.

[{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} 158 - 160].

{وَجَعَلُوا} بين الله {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} وأراد الملائكة {نَسَبًا} ؛ وهو زعمهم أنهم بناته، والمعنى: جعلوا بما قالوا نسبة بين الله وبينهم، وأثبتوا له جنسية جامعة له وللملائكة. فإن قلت: لم سمي الملائكة جنة؟ قلت: قالوا: الجنس واحد، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شرًا كله فهو شيطان، ومن طهر منهم ونسك وكان خيرًا كله فهو ملك؛ فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم، وإنما ذكرهم بهذا الاسم؛ وضعًا منهم وتقصيرًا بهم، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "تذكرون"، من ذكر) يعني: بالتخفيف؛ حفص وحمزة والكسائي.

قوله: (أن يبلغوا منزلة المناسبة) ينازع فيه قوله: "وضعًا وتقصيرًا"، وقوله:"وإن كانوا معظمين في أنفسهم" تتميز للصيانة. اعترض بين العامل والمعمول، كما في قوله تعالى:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].

ص: 210

التي أضافوها إليهم. وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتبان والاستتار- وهو من صفات الأجرام- لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. ومثاله: أن تسوي بين الملك وبين بعض خواصه ومقربيه، فيقول لك: أتسوي بيني وبين عبدي؟ ! وإذا ذكره في غير هذا المقوم وقره وكناه. والضمير في {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} للكفرى. والمعنى: أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون، والمراد المبالغة في التكذيب؛ حيث أضيف إلى علم الذين ادعوا لهم تلك النسبة.

وقيل: قالوا: إن الله صاهر الجن فخرجت الملائكة. وقيل: قالوا: إن الله والشيطان أخوان. وعن الحسن: أشركوا الجن في طاعة الله. ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين: أن يكون الضمير في {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} لهم، والمعنى: أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذبهم. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع من المحضرين، معناه: ولكن المخلصين ناجون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمراد المبالغة في التكذيب) يعني كذبهم الله بقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} حيث سماهم بالجنة، ولما أريد التتميم ومزيد المبالغة قيل:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} حيث أوقع الجملة القسمية حالا وأعيد لفظ {الْجِنَّةُ} للتوضيع والتكذيب وجعلهم عالمين بأن معظمهم معذبون بتلك المقالة كما تقول: إن الذي مدحته وعظمته هو الذي يعلم أنك كاذب وهو يسعى في نكالك وخزيك.

قوله: (وقيل: قالوا إن الله والشيطان أخوان) قال الإمام: روينا أن قوما من الزنادقة يقولون: إن الله وإبليس أخوان، والله هو الأخ الكريم، وإبليس هو الأخ الشرير الخسيس. وعندى أن هذا القول أقرب وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن.

ص: 211

و {سُبْحَانَ اللَّهِ} : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه. ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في {يَصِفُونَ} ، أي: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن المخلصين براء من أن يصفوه به.

[{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 161 - 163].

الضمير في {عَلَيْهِ} لله عز وجل، ومعناه: فإنكم ومعبوديكم {مَا أَنْتُمْ} وهم جميعا {بِفَاتِنِينَ} على الله إلا صاحب النار الذين سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.

فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم، من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كيف تقول: أفسدها عليه وخببها عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في {يَصِفُونَ} فعلى هذا أيضًا منقطع، ولا يجوز أن يكون متصلا؛ لأن المعنى يأباه. وقيل: يجوز أن يكون الاستثناء من "جعلوا" واختار الواحدي الأول، وهو إنما يحسن كل الحسن، إذا فسر الجن بالشياطين ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] أي: إنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في إغوائنا إياهم، لكن الذين أخلصوا لطاعة الله وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون، ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضًا بالمشركين وإرغامًا لأنوفهم ومزيدا لغيظهم، أي أنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول. والله أعلم.

قوله: (وخببها عليه)، الجوهري: الخب: الرجل الخداع الحربز. وقد خبب غلامي فلان أي: خدعه. وقيل: خبها؛ من الخب، وهو الطرار، وقيل: التخبيب، تعليم الخب وهو الدهاء، والدهاء العلم بالشر.

ص: 212

ويجوز أن يكون الواو في {وَمَا تَعْبُدُونَ} بمعنى "مع" مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته؛ جاز أن يسكت على قوله:{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ؛ لأن قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ساد مسد الخبر، لأن معناه: فإنكم مع ما تعبدون. والمعنى: فإنكم مع آلهتكم، أي: فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها، ثم قال {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} ، أي: على ما تعبدون {بِفَاتِنِينَ} بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلاب، {إِلَّا مَنْ هُوَ} ضال مثلكم.

أو يكون في أسلوب قوله:

فإنك والكتاب إلى علي .... كدابغة وقد حلم الأديم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بمعنى مع) قال أبو البقاء: المشهور أن الواو في "وما تعبدون" للعطف، أي إنكم ومعبودكم. وقيل: يضعف أن يكون بمعنى "مع" إذ لا فعل هنا.

قوله: (أو يكون في أسلوب قوله: فإنك والكتاب إلى علي) عطف على قوله: (مثلها في قولهم) إلى آخره. أي تكون "الواو" بمعنى "مع" ويكون الخبر "ما أنتم" كقول الشاعر.

قال الميداني. كدابغة وقد حلم الأديم.

يضرب للأمر الذي قد انتهى فساده، وذلك أن الجلد إذا حلك فليس بعده إصلاح.

ويروى عن الوليد بن عقبة أنه كتب إلى معاوية البيت. وقال المفضل: إن المثل لخالد بن معاوية أحد بني عبد شمس بن سعيد حيث قال:

قد علمت أحسابنا تميم .... في الحرب حين حلم الأديم

ص: 213

وقرأ الحسن: (صال الجحيم) بضم اللام، وفيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون جمعًا وسقوط واوه لالتقاء الساكنين هي ولام التعريف. فإن قلت: كيف استقام الجمع مع قوله: {مَنْ هُوَ} ؟ قلت: {مَنْ} موحد اللفظ مجموع المعنى، فحمل هو على لفظه، والصالون على معناه، كما حمل في مواضع من التنزيل على لفظ "من" ومعناه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: الحلم بالتحريك: أن يفسد الإهاب في العمل وبقع فيه دود فيثقب. تقول منه: حلم الأديم؛ بالكسر.

يقول: حالك مع كتابك إلى علي، يعني إصلاح شأنك معه بالكتابة إليه بعدما فسد ما بينكما كحال من ترك الأديم حتى فسد ثم أخذ في دباغتها لا يفيده شيء ويبطل سعيه، كذلك أنتم أيها الكفرة مع عبادتكم قرناءكم لا يتسهل لكم أن تفتنوا الناس إلا من هو ضال مثلكم.

وفي بعض النسخ: "ويكون في أسلوب قوله: وإنك والكتاب على علي" بالواو وبدل "أو" في "الكشاف" وبـ"على" بدل "إلى" في البيت، وكتب في الحاشية أن الواو في الآية وفي البيت عاطفة، والاستشهاد في "علي"، كأن هذا القائل أراد أن قوله:"بفاتنين" متضمن معنى: باعثين وحاملين فعدي بـ"على" كما عدي الكتاب بـ"على" لتضمنه معنى البعث، فلا يخفى على من له أدنى مسكة بعد هذا التقرير وظهور الأول.

قوله: (وقرأ الحسن: "صال الجحيم") قال ابن جني: "صال الجحيم" كان شيخنا أبو علي يحمله على حذف ياء "صال" تخفيفًا، وتعرب اللام بالضم، كما حذفت ياء البالة من قولهم: ما باليت به بالةً، وهي البالية كالعافية والعاقبة. وذهب قطرب إلى أنه جمع "صال" أي: صالون، فحذف النون للإضافة وبقي الواو فحذفت لالتقاء الساكنين، وحمل على معنى "من" لأنه جمع معنى، وهذا حسن. وقول أبي علي وجه مأخوذ به.

ص: 214

في آية واحدة. والثاني: أن يكون أصله: صائل على القلب، ثم يقال: صال في صائل، كقولهم: شاك في شائك. والثالث: أن يحذف لام صال تخفيفًا، ويجرى الإعراب على عينه، كما حذف من قولهم: ما باليت به بالةً، وأصلها بالية من بالى، كعافية من عافى. ونظيره قراءة من قرأ:{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54]، {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ} [الرحمن: 24] بإجراء الإعراب على العين.

[{ومَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وإنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} 164 - 166]

[{ومَا مِنَّا} أحد {إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كقوله:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يكون أصله: صائل على القلب) يريد أن أصل "صال""صائل" و"صائل" مقلوب "صالي" فصار صائلًا ثم حذف الياء، كما أن "شاك" أصله "شائك" مقلوب "شاكي" على أنه أصل لا مقلوب، فإن صاحب "الصحاح" عد شاكي السلاح في باب "شكا" ثم قال: وقال الأخفش: هو مقلوب شاك، فكأنه لا اتفاق على كون "شاك" مقلوبًا، قال صاحب "التقريب"، وقال أبو البقاء: قرئ "صال" بضم اللام في الشاذ، من "صالي" قلب فصار "صائلًا" ثم حذف الياء فبقي "صال". وذكر الجوهري في باب "شوك": شاك الرجل يشاك شوكًا، أي: ظهرت شوكته وشدته، فهو شائك السلاح، وشاكي السلاح أيضًا مقلوب منه.

قوله: (أنا ابن جلا وطلاع الثنايا)، تمامه:

متى أضع العمامة تعرفوني

ص: 215

بكفي كان من أرمى البشر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: أنا ابن رجل جلا الأمور وكشفها، متى أضع العمامة على رأسي تعرفوني أني من أهل العمامة، والدليل على حذف الموصوف منع التنوين من الابن وامتناع أن يضاف الابن إلى "جلا"؛ لأنه ليس باسم أبيه فيضاف إليه، وإذا جعلناه صفة فلا بد أن يكون فعلًا، ولا يضاف إلى الفعل إلا اسم الزمان والمكان وليس الابن بواحد منهما، فثبت أن المضاف إليه محذوف وهو الموصوف.

فإن قلت: فلعل عدم دخول التنوين على "جلا" على مذهب عيسى بن عمر، فمذهبه أن الفعل إذا سمي به كان كونه على صيغة الفعل سببًا والعملية سبب آخر فيمتنع من الصرف، وإن لم يمنع صرف مثله الخليل وسيبوية والجمهور.

قلت: ذلك مذهب باطل بدليل ما نقله الثقات من صرف "كعسب"، وهو في الأصل فعل، يقال: كعسب الرجل إذا مشى بإسراع مع تقارب الخطو. ولا تنوين في "جلا" في البيت فيحمل على أنه فعل ماض وقع صفة لموصوف محذوف، وفيه تأويل آخر، وهو أن "جلا" من باب حكاية الجمل كأن "جلا" فيه ضمير فيجب حكايته كما حكى "يزيد" في قوله:

نبئت أخوالي بني يزيد

قال الميداني: يضرب للمشهور المتعالم، وهو من قول سحيم بن وثيل الرياحي، تقديره: أنا ابن الذي يقال له: جلا الأمور وكشفها.

قوله: (بكفي كان من أرمى البشر)، أوله:

مالك عندي غير سهم وحجر .... وغير كبداء شديدة الوتر

جادت بكفي (أي بكفي شخص) كان من أرمى البشر.

ص: 216

{مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} : مقام في العبادة، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه، كما روي:"فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه". {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} : نصف أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء، منتظرين ما نؤمر. وقيل: نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين. وقيل: إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية. وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين. {الْمُسَبِّحُونَ} : المنزهون، أو المصلون. والوجه: أن يكون هذا وما قبله من قوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكبداء: القوس الذي يملأ مقبضها الكف، والدليل على حذف الموصوف حذف النون.

قوله: (والوجه أن يكون هذا وما قبله) إلى آخره، عطف على قوله:{سُبْحَانَ اللهِ} اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه من حيث المعنى، يعني: يجعل من قوله: {ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ} إلى قوله: {وإنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} قصة واحدة؛ ليكون مفرغًا إفراغًا واحدًا، وتقريره: ولما علمت الملائكة أن الكفرة محضرون ومعذبون تبرؤوا منهم ونزهوا الله سبحانه وتعالى بقولهم: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي: يصفه هؤلاء ولكن المخلصون برآء مما يصفونه به، ثم التفتوا إلى الكفرة وجاؤوا بالفاء الجزائية، أي إذا صح أنكم تفترون- والله تعالى منزه عما تقولون- وأن المخلصين من عباد الله برآء مما تصفونه، فاعلموا أنكم وآلهتكم لا تقدرون على أن تفتنوا. على الله تعالى من عباده المخلصين الذين اصطفاهم لنفسه، بل الذي تقدرون أن تفتنوه من هو مثلكم ممن قدر الله أنه من أصحاب النار، ولما فرغوا من الاحتجاج رجعوا إلى إظهار العبودية والخضوع لربهم والاعتذار عما نسب إليهم بقوله:{ومَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} إلى آخره.

هذا تقرير حسن، لكن قوله:"ممن علم الله بكفرهم أنهم من أهل النار لا لتقديره وإرادته" تعريج من المحجة، وفسر بمجرد الرأي، حيث فرق بين علم الله وتقديره وإرادته. قال محيي السنة: إلا من قدر الله أنه سيدخل النار أي: سبق له في علم الله الشقاوة.

ص: 217

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] من كلام الملائكة، حتى يتصل بذكرهم في قوله:{ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ} [الصافات: 158]، كأنه قيل: ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة، وقالوا:{سُبْحَانَ اللهِ} ، فنزهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين، وبرؤوهم منه، وقالوا للكفرة: فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدًا من خلقه وتضلوه، إلا من كان مثلكم ممن علم الله- لكفرهم، لا لتقديره وإرادته، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا- أنهم من أهل النار، وكيف نكون مناسبين لرب العزة وتجمعنا وإياه جنسية واحدة؟ وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفرًا؛ خشوعًا لعظمته وتواضعًا لجلاله، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته وأجنحتنا، مذعنين خاضعين مسبحين ممجدين، وكما يجب على العباد لربهم. وقيل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الإمام: إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره. وذلك تصريح بأن المقتضي لوقع هذه الحوادث حكم الله، وكان عمر بن عبد العزبز يحتج بهذه الآية في إثبات هذا المطلوب، أي: أن حكم الله بالسعادة والشقاوة هو الذي يؤثر في حصولها. وقلت: ويساعد عليه النظم الذي لخصناه.

قوله: (أنهم من أهل النار) متعلق بقوله: "علم الله"، أي: علم الله بسبب كفرهم أنهم من أهل النار، وقوله:"ويجمعنا وإياه" داخل في حيز الإنكار، أي: كيف تجمعنا والله سبحانه وتعالى جنسية؟ !

قوله: (أن يزل عنه ظفرًا)، أي: مقدار ظفر، كقوله:

وقد جعلتني من خزيمة أصبعًا

قوله: (وكما يجب على العباد) تقديره: ونحن- كما ذكرنا- خاضعين مسبحين، وكما يجب على العباد لربهم من الطاعة.

ص: 218

هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى:{عَسَى أَن يَبْعَثُكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].

ثم ذكر أعمالهم وأنهم هم الذين يصطفون في الصلاة يسبحون الله وينزهونه مما يضيف إليه من لا يعرفه مما لا يجوز عليه.

[{وإن كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 167 - 170]

هم مشركو قريش كانوا يقولون: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا} أي: كتابًا {مِنَ} كتب {الْأَوَّلِينَ} الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ولا خالفنا كما خالفوا، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب، فكفروا به، ونحوه {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42]، فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام. و {إِن} هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة؛ وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادين فيه، فكم بين أول أمرهم وآخره!

[{ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} 171 - 173]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكون قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} اعترضًا، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم استطرادًا؛ لأنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستفتاء عن وجه تلك القسمة الضيزى التي قسموها بقوله:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَنَاتُ ولَهُمُ البَنُونَ} وبالإنكار البليغ واستجهال النفوس واستركاك العقول سخطًا عليهم وغضبًا على تلك المقالة الشنيعة أتى بما دل على ضد ذلك من معنى الرضا عن المؤمنين لأجل أعمالهم الصالحة من الصلاة في الجماعات، وتسبيح الله وتنزيهه عما أضاف إليه الكفرة.

ص: 219

الكلمة: قوله: {إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} ، وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدة؛ لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت حكم كلمة مفردة. وقرئ:(كلماتنا).

والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة، كما قال تعالى:{والَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} [البقرة: 212]، ولا يلزم انهزامهم في بعض المشاهد، وما جرى عليهم من القتل؛ فإن الغلبة كانت لهم يحتذى عليها وعبرًا يعتبر بها.

وعن الحسن رحمه الله: ما غلب نبي في حرب ولا قيل فيها. ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه: الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة، والحكم للغالب.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وفي قراءة ابن مسعود: (على عبادنا)، على تضمين {سبقت} معنى حقت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الكلمة: قوله {إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وإنَّ جُندَنَا})، الراغب: يقال للعسكر: الجند اعتبارًا بالغلظة من الجند أي: الأرض الغليظة التي فيها حجارة، ثم يقال لكل مجتمع: جند، نحو"الأرواح جنود مجندة" والجمع: أجناد وجنود. قال الله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9].

قوله: (كانت في حكم كلمة مفردة) عن بعضهم: نظير "الكلمة"، "الثمرة" يقال: باع فلان ثمرة بستانه، وإن كانت ثمرات، ويقال للقرية: مدرة؛ لأنها لما اجتمعت وتضامت صارت في حكم شيء واحد.

ص: 220

[{فتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} 174 - 175]

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} : فأعرض عنهم وأغض على أذاهم {حَتَّى حِينٍ} : إلى مدة يسيرة؛ وهي مدة الكف عن القتال.

وعن السدي: إلى يوم بدر. وقيل: الموت. وقيل: إلى يوم القيامة.

{وَأَبْصِرْهُمْ} وما يقتضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك، وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة. والمراد بالأمر بإربصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك. وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه. وقوله:{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} للوعيد كما سلف، لا للتبعيد.

[{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنذَرِينَ (177) وتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} 176 - 179]

مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض بصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرًا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة، فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الدلالة على أنها كائنة) يعني: إنما أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: {وَأَبْصِرْهُمْ} والمبصر منتظر بعد، للدلالة على أن وعد الله الآتي بمنزلة الكائن استحضارًا لتلك الحالة الآتية، كما في قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12].

قوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} للوعيد كما سلف)، يعني: قوله: " {وَأَبْصِرْهُمْ} وما يقضى عليهم من الأسر" إلى قوله: "وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة" لا للتعبيد، كما تقول: سوف أنتقم منك، وأنت متهيئ للانتقام.

قوله: (فشن عليهم الغارة) شن الماء على الشراب: فرقه عليه، ومنه قيل: شن عليهم الغارة وأشن، إذا فرقها عليهم من كل وجه.

ص: 221

مغاويرهم أن يغيروا صباحًا، فسميت الغارة "صباحًا"، وإن وقعت في آخر. وما فصحت هذه الآية، ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك تواردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل. وقرأ ابن مسعود:(فبئس صباح). وقرئ: (نزل بساحتهم) على إسناده إلى الجار والمجرور، كقولك: ذهب بزيد، و (نزل) على: ونزل العذاب. والمعنى: فساء صباح المنذرين صباحهم. واللام في {الْمُنذِرِينَ} مبهم في جنس من أنذروا؛ لأن "ساء" و"بئس" يقتضيان ذلك. وقيل: هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة.

وعن أنس رضي الله عنه: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي، قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم. فقال عليه السلام:"الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". وإنما ثني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مغاويرهم) جمع مغوار، وهو كثير الغارة. الجوهري: رجل مغوار ومغاور، أي: مقاتل، وقوم مغاوير، وخيل مغيرة.

قوله: (واللام في {الْمُنذِرِينَ} مبهم في جنس من أنذروا) ولا يجوز أن يكون للعهد؛ لأن أفعال المدح والذم تقتضي الشيوع للإبهام والتفصيل. لا يجوز أن تقول: بئس الرجل هذا، ونعم الرجل هذا، إذا أردت رجلًا بعينه.

قوله: (وعن أنس: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عنه مع زيادات، وهذه الرواية مختصر منه.

النهاية: الخميس: الجيش، سمي به لأنه مقسوم خمسة أقسام: المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب. وقيل: لأنه تخمس فيه الغنائم. و"محمد" خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا محمد صلوات الله عليه.

ص: 222

{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ؛ ليكون تسلية على تسلية، وتأكيدًا لوقع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة؛ وهي إطلاق الفعلين معًا عن التقييد بالمفعول، وأنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة. وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة.

[{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 180 - 182]

أضيف الرب إلى العزة؛ لا ختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق؛ لا ختصاصة بالصدق. ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، كقوله تعالى:{وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ} [آل عمران: 26].

اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه مما هو منزه عنه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهي إطلاق الفعلين) وهما في قوله {وأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ، أي: انتظر حتى ترى ويرون.

قوله: (كما تقول: "صاحب صدق" لا ختصاصه بالصدق) قال في قوله تعالى: {عَذَابَ الْهُونِ} [الانعام: 93]: "أضاف العذاب إليه، كقوله: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه"، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وهي مصدر نحو، رجل عدل، فإذا تجسم من الصدق فلا يكون شيئًا غيره، فيلزم أن يكون مختصًا به، وإليه الإشارة بقوله:"لاختصاصه به"، ويجوز أن تكون الإضافه بمعنى اللام، كقوله تعالى:{رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقوله: {رَبِّ الْعَرْشِ} [الزخرف: 82] والتعريف في "العزة" للجنس، فإذا كان مالك جنس العزة هو الله فلا يكون أحد معتزًا إلا به، وإليه الإشارة بقوله:"ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا هو ربها ومالكها".

ص: 223

وما عاناه المرسلون من جهتهم، وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم؛ فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين، {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} على ما قيض لهم من حسن العواقب، والغرض تعليم المؤمنين أن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما عاناه)، الجوهري: المعاناة: المقاساة، يقال: عاناه وتعناه وتعنى.

قوله: (قيض لهم)، الجوهري: قيض الله فلانا لفلان، أي: جاءه به وأباحه له.

قوله: (والغرض تعليم المؤمنين) يريد أن هذه الآية لما كانت خاتمة لما تضمنته السورة من تخاليط المشركين وتكاذبهم ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه، ومن فرطاتهم مع أنبيائه والصالحين من عباده وتجرعهم الغصص، ومن وخامة حالة المكذبين وحسن عاقبة المرسلين، وفذلكة لذلك التفصيل كانت أيضًا تعليمًا للمؤمنين؛ لأنه لا يخلو كل مقام يجلس فيه الإنسان من فلتات وهفوات ومن كلمات فيها رضي الله وسخطه، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلسه أن يتلو هذه الآية لتكون مكفرة لتلك السقطات ومحمدةً لما وفق من الطيبات، ومن ثم قال صلوات الله وسلامه عليه:"كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو.

وأخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسًا أو صلى تكلم بكلمات، فسألت عائشة عن الكلمات، فقال: إن تكلم بخير كان طابعًا عليهن إلى يوم القيامة، وإن تكلم بشر كانت كفارةً له: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

ص: 224

يقولوا ذلك، ولا يخلوا به، ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم، ومودعات قرآنه المجيد. وعن علي رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه:{سُبْحَانَ رَبِّكَ} إلى آخر السورة.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {وَالصَّافَّاتِ} أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنًا بالمرسلين".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم)، يعني: كما وقفتم على هذه الخاتمة وتضمنها لهذا المطلب الشريف كذلك سائر كتابه الكريم مودع تحت كل كلمة منه أسرار دقيقة وإشارات وتلويحات، فلا تغفلوا عنها. رزقنا الله بفضله العميم التوفيق للعمل بما فيه كما يرضيه، ووفقنا بكرمه الجسيم للاطلاع على تلك الأسرار، إنه هو البر الرحيم.

تمت السورة

حامدًا ومصليًا على رسوله.

* * *

ص: 225

‌سورة ص

مكية، وهي ست وثمانون، وقيل: ثمان وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} 1 - 2]

(صاد) على الوقف، وهي أكثر القراءة، وقرئ بالكسر والفتح؛ لالتقاء الساكنين، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم: الله لأفعلن، بالنصب، أو بإضمار حرف القسم، والفتح في موضع الجر، كقولهم: الله لأفعلن،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة ص

مكية، وهي ست وثمانون آية، وقيل: ثمان وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (وقرئ بالكسر والفتح)، قال الإمام: قرأ الحسن: بكسر الدال لالتقاء الساكنين، وعيسى بن عمر: بنصبها وبحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم:"الله لأفعلن"، وأكثر القراء على الةقف؛ لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر.

قوله: (أو بإضمار حرف القسم)، عطف على قوله:"بحذف حرف القسم"، والفرق

ص: 226

بالجر، وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث؛ لأنها بمعنى السورة، وقد صرفها من قرأ:(صاد) بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل. وقيل فيمن كسر: هو من المصاداة؛ وهي المعارضة والمعادلة، ومنها الصدى؛ وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه: عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. فإن قلت: قوله: {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بين الحذف والإضمار: أن المحذوف متروك أصلًا فلا يكون فيما يقوم مقامه أثر منه، والمضمر بخلافه. روي عن المصنف:"أقسمت" يعمل في اسم "الله" بواسطة الباء إذا كسرت، وإذا فتحت فقد حذفت وصار " أقسمت" عاملًا في الاسم من غير واسطة.

فإن قلت: هذا يخالف ما سبق في "البقرة" أن انتصابها بفعل مضمر نحو: "اذكر"، لا أنه مقسم بها، وانتصب قولهم:"الله لأفعلن" على حذف حرف الجر، إلى آخر السؤال، ويمكن أن يقال: إن المصنف قفا ها هنا أثر الزجاج، فإنه قال: وقيل: إنها قسم، و {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} عطف عليها، المعنى: أقسم بصاد والقرآن ذي الذكر. تم كلامه. ولأنه لم يمنع الجواز هناك ولكن ذكر ما لزم منه الاستكراه، بل ذكر ما يدل على أن هذا أيضًا وجه حيث قال: والأوجه أن يقال: ذاك نصب.

قوله: (وقيل فيمن كسر: هو من المصاداة)، قال ابن جني: المأثور عن الحسن: بكسر الدال من المصاداة، أي: عارض عملك بالقرآن. قال أبو علي: هو فاعل من الصدى، وليس فيه أكثر من جعل "الواو" بمعنى الباء في غير القسم.

وقال الزجاج: المعنى: صاد القرآن بعملك، من قولك: صادى يصادي؛ إذا قابل وعادل، يقال: صاديته؛ بمعنى: قابلته.

ص: 227

عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} كلام ظاهره متنافر غير منتظم، فما وجه انتظامه؟ قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، كما مر في أول الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب؛ لدلالة التحدي عليه، كأنه قال:{ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون {ص} خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه صاد، يعني: هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بـ {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إنه لمعجز، ثم قال:{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق، و {شِقَاقٍ} لله ورسوله، وإذا جعلتها مقسمًا بها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ظاهره متنافر غير متنظم)، يعني: لم يذكر المقسم عليه ملم يبين المضرب عنه. وفي كلامه سوء أدب، ولذلك قال الإمام: وفيه إشكالان: أحدهما: أن هنا مقسما به وليس له مقسم عليه، وثانيهما: {بَلِ يقتضي رفع حكم ثبت وإثبات ما يناقضه، فأين ذلك هنا؟

قوله: (وكذلك إذا أقسم بها)، أي: كذلك يكون"صاد" اسما للسورة. وحاصل الجواب: أن"صاد" إذا كان تعدادًا للحروف: إما للإيقاظ وقرع العصا، أو تقدمة لدلائل الإعجاز كان {وَالْقُرْآنِ} إنشاء قسم والجواب محذوف. وإذا كان اسمًا للسورة: إما أن يكون خبر مبتدأ محذوف أو مقسم بها، و {بَلِ} اسمًا للحروف أو خبر مبتدأ محذوف، وكان {وَالْقُرْآنِ} اسمًا للسورة لما يلزم من جعلها اسمًا للسورة وجعل القرآن اسمًا لها عطف الشيء على نفسه فنذهب إما: إلى عطف العام على الخاص أو: إلى الأسلوب التجريدي، والواو متعينة للعطف؛ لئلا يجتمع قسمان على مقسم به واحد كما سبق.

قوله: (ثم قال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} واستكبار عن الإذعان)، عن بعضهم: هو كما يقال: فلان عفيف جواد، بل قومه استخفوا به.

ص: 228

وعطفت عليها {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ؛ جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها، ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذي الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل. والذكر: الشرف والشهرة، من قولك: فلان مذكور، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]؛ أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كأقاصيص

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: فائدة {بَلِ} ها هنا تصحيح ما قبله وإبطال ما بعده. فإنه دل بقوله: {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أن القرآن مقر للتذكير وأن امتناع الكفار من الإصغاء إليه أن ليس موضعًا للذكر بل لتعززهم ومشاقتهم.

قوله: (ولا تريد بالنسمة غير الرجل)، فيكون من عطف الشيء على نفسه لكن هو من باب التجريد؛ جرد من الرجل آخر مثله متصف بصفة البركة، وعطفه عليه كأنه غيره وهو هو، قال في قوله تعال:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} [الأنبياء: 48]، أي آتيناهما الفرقان وهو التوراة وأتينا به ضياء وذكرًا حيث أتى بالباء التجريدية في التفسير نحو: رأيت بك أسدًا.

قوله (أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين)، الراغب: الذكر تارة يقال ويراد به: هيئة للنفس بها يتمكن الإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارًا بإجرازه، والذكر اعتبارًا باستحضاره. وتارة يقال لحضور الشيء: القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكل منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان؛ بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر. فمن الذكر باللسان قوله تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]، وقوله:{ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ، وقوله:{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا} [الطلاق: 10 - 11]، فقد قيل: الذكر هاهنا وصف للنبي صلى الله عليه وسلم كما أن "كلمة" وصف لعيسى عليه السلام من حيث إنه صلى الله عليه وسلم بشر به في الكتب المتقدمة فيكون قوله: "رسولًا" بدلًا منه.

ص: 229

الأنبياء والوعد والوعيد. والتنكير في {عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} ؛ للدلالة على شدتهما وتفاقمهما. وقرئ: (في غرة) أي: في غفلة عما يجب عليهم من النظر وأتباع الحق.

[{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا ولاتَ حِينَ مَنَاصٍ} 3]

{كَمْ أَهْلَكْنَا} : وعيد لذوي العزة والشقاق، {فَنَادَوْا}: فدعوا واستغاثوا، عن الحسن:(فنادوا بالتوبة). و"لات": هي"لا" المشبهة بـ"ليس"، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على"رب"، و"ثم" للتوكيد، وتغير بذلك حكمها؛ حيث لم تدخل إلا على الأحيان، ولم يبرز إلا أحد مقتضييها: إما الاسم وإما الخبر، وامتنع بروزهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن الذكر عن النسيان: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63]، ومن الذكر بالقلب واللسان معا:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، و {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].

قوله: (و"لات": هي لا المشبهة بـ"ليس")، قيل: مذهب البصريين أن "لات" بمعنى: "ليس" والكوفيين أنها لنفي الجنس، وهذا أولى لكثرتها في الاستعمال، وبمعنى:"ليس" إنما يكون في الشعر، فوجب أن يكون يحمل ما في القرآن على الشائع لا على القليل.

وحجة البصريين أن تاء التأنيث من خواص الفعل فوجب أن تكن المشبهة بالفعل، وإلحاق التاء في التي لنفي الجنس بعيد.

قوله: (لم تدخل إلا على الأحيان)، قيل: إنما اختصت بها لما في دخولها على غيرها من إلباس؛ لأن "لا" ليست لنفي الحال صريحًا فيختص دخولها على الأحيان، بخلاف "ليس" لأنها أينما وقعت؛ وقعت لنفي الحال فلا يختص بالأحيان.

قوله: (إلا أحد مقتضييها: إما الاسم وإما الخبر)، على حسب اختلاف القراءتين في {حِينَ}: النصب والرفع، فمن نصب فتقديره:"ولات الحين حين مناص"، ومن رفع فتقديره:"ولات حين مناص حاصلًا لهم".

ص: 230

جيمعًا، وهذا مذهب الخليل وسيبوية. وعند الأخفش: أنها "لا" النافية للجنس، زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان. و {حِينَ مَنَاصٍ} منصوب بها، كأنك قلت: ولا حين مناص لهم. وعنه: أن ما ينتصب بعده بفعل مضمر، أي: ولا أرى حين مناص ويرتفع بالابتداء، أي: ولا حين مناص كائن لهم، وعندهما أن النصب على: ولات الحين حين مناص، أي: وليس الحين حين مناص؛ والرفع على: ولات حين مناص؛ حاصلًا لهم. وقرئ: (حين مناص) بالكسر، ومثله قول أبي زبيد الطائي:

طلبوا صلحنا ولات أوان .... فأجبنا أن لات حين بقاء

فإن قلت: ما وجه الكسر في "أوان"؟ قلت: شبه بـ"إذ" في قوله:

وأنت إذ صحيح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعندهما)، أي: عند الخليل وسيبويه. قال الزجاج: أما من نصب فعلى أنها عملت عمل"ليس". المعنى: وليس الوقت حين مناص. ومن رفع بها جعل {حِينَ} اسم "ليس" وأضمر الخبر، على معنى: ليس حين منجى لنا، ومن خفض جعلها مبنية مكسورة لالتقاء الساكنين، والمعنى: ليس حين مناصنا، فلما قال:"ولات أوان" جعله على معنى: "ليس أواننا"، فلما حذف المضاف إليه بنى على الوقف ثم كسر لالتقاء الساكنين، والكسر شبيه بالخطأ عند البصريين.

قوله: (أن لات حين بقاء) أي: "إبقاء"، وضع "البقاء" موضع "الإبقاء"، كالعطاء يوضع موضع الإعطاء.

قوله: (شبه بـ"إذ" في قوله: وأنت إذ صحيح)، أوله في "المطلع":

نهيتك عن طلابك أم عمرو .... بعاقبة

قبله:

ص: 231

في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين؛ لأن الأصل: ولات أوان صلح. فإن قلت: فما تقول في {حِينَ مَنَاصٍ} والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من مناص- لأن أصله: حين مناصهم- منزلة قطعه من حين؛ لاتخاذ المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضًا من الضمير المحذوف، ثم بني الحين لكونه مضافًا إلى غير متمكن. وقرئ:(ولات) بكسر التاء على البناء، كجير. فإن قلت: كيف يوقف عليها بالتاء، كما تقف على الفعل الذي تتصل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جمالك أيها القلب الجريح .... ستلقى من تحب فتستريح

أي: نهيتك عن طلابك إياها بذكر سوء عاقبة الهوى وأنت إذ ذاك، أي: زمان النهي، صحيح القلب فلم تقبل نصحي، ولم تنته بنهي، فلا حيلة بعده، فحذف ذلك ووضع التنوين موضعه، فكسر المفتوح تشبيها بـ"إذ"؛ لأنه زمان مثله فحذف منه المضاف إليه.

قوله: (لكونه مضافًا إلى غير متمكن) قيل: الضمير في"لكونه" راجع إلى "المناص"، لا إلى {حِينَ} ضرورة كون المناص في "مناصهم" مضافًا إلى الضمير وهو غير متمكن، ولك أن تجعل الضمير للحين؛ لأن قطع المضاف إليه كقطع المضاف، وإضافته إلى المبني كإضافته. قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن الإضافة إلى المضمر لا توجب بناءه كغلامك، وأما "إذ" فبناؤه لإضافته إلى الجملة فيستبقى بناؤه بعد حذفها.

قوله: (كجير) معناه: حقًا، كذا جاءت في كلامهم مكسورًا.

قوله: (يوقف عليها بالتاء) قال أبو علي في "الإغفال": ينبغي أن يكون الوقف بالتاء؛ لأنه لا خلاف في أن الوقف على الفعل بالتاء، والحرف أشبه بالفعل منه بالاسم من حيث إن الفعل كان ثانيًا والاسم أولًا، فالحرف أشبه منه بالأول، وأيضًا إذا كانت هذه

ص: 232

به تاء التأنيث. وأما الكسائي فيقف عليها بالهاء، كما يقف على الأسماء المؤنثة. وأما قول أبي عبيد: إن التاء داخلة على حين: فلا وجه له. واستشهاده بأن التاء ملتزقة بـ"حين" في الإمام: لا متشبث به، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط. والمناص: المنجا والفوت، يقال: ناصه ينوصه؛ إذا فاته. واستناص: طلب المناص. قال حارثة بن بدر:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التاء في بعض اللغات تترك تاء في الأسماء كما حكاه سيبويه عن أبي الخطاب وكما أنشده أبو الحسن:

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت

فأن تترك في الحرف ولا تقلب أجدر.

قوله: (واستشهاده بأن التاء ملتزقة بـ {حِينَ} في الإمام: لا متشبث به)، وأنشد صاحب "المطلع":

العاطفون تحين ما من عاطف .... والمطعمون تحين ما من مطعم

قال المصنف: وإنما لم تغير لأنه لو أطلق لأدى إلى أمر عظيم، فربما غيروا ما لا يجوز تغييره.

ص: 233

غمر الجراء إذا قصرت عنانه .... بيدي استناص ورام جري المسحل

[{وعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 4 - 5]

{مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} : رسول من أنفسهم، {وقَالَ الكَافِرُونَ} ولم يقل: وقالوا؛ إظهارًا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر، المنهمكون في الغي، الذين قال فيهم:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151]، وهل ترى كفرًا أعظم وجهلًا أبلغ من أن يسموا من صدقه الله بوحيه كاذبًا، ويتعجبوا من التوحيد، وهو الحق الذي لا يصح غيره، ولا يتعجبوا من الشرك، وهو الباطل الذي لا وجه لصحته؟ ! روي: أن إسلام عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون فرحًا شديدًا، وشق على قريش، وبلغ منهم، فاجتمع خمسة وعشرون نفسًا من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (غمر الجراء) البيت، أي: كثير المجاراة، واستناص: طلب النوص، أي: الفوت، و"المسحل" حمار الوحش. يصف فرسًا. الراغب: ناص إلى كذا: التجأ إليه، وناص عنه: ارتد، ينوص نوصًا، والمناص: الملجأ.

قوله: (ومشوا إلى أبي طالب)، الحديث من رواية الإمام أحمد بن حنبل والترمذي عن ابن عباس، قال: مرض أبو طالب، فجاءت قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه من الجلوس فيه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: "أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية" قال: كلمة واحدة؟ ! فقال: "يا عم قولوا: لا إله إلا الله" فقالوا: إلهًا واحدًا؟ ! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، فنزل فيهم القرآن.

ص: 234

ما فعل هؤلاء السفهاء- يريدون: الذين دخلوا في الإسلام- وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ماذا يسألونني؟ " قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال عليه السلام:"أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمةً واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ " فقالوا: نعم وعشرًا، أي: نعطيكها وعشر كلمات معها، فقال:"قولوا: لا إله إلا الله"، فقاموا، وقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ؟ ! أي: بليغ في العجب. وقرئ: (عجاب) بالتشديد، كقوله تعالى:{مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] وهو أبلغ من المخفف، ونظيره: كريم وكرام وكرام. وقوله: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا} مثل قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] في أن معنى الجعل التصيير في القول على سبيل الدعوى والزعم، كأنه قال: أجعل الجماعة واحدًا في قوله؛ لأن ذلك في الفعل محال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أجعل الجماعة واحدًا في قوله)، أي: سمى الآلهة إلها واحدًا، فالجعل بمعنى: التصيير في القول، وبمعنى: التسمية؛ لأن هذا المعنى في الفعل محال لا يقدر أحد أن يجعل الجماعة إنسانًا واحدًا. قال الإمام بعدما نقل كلام المصنف، أقول: إن منشأ التعجب من وجهين: أحدهما: أن القوم ما كانوا أصحاب نظر واستدلال، بل كانت أوهامهم تابعةً للمحسوسات، فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا يفي قدرته وعلمه بحفظ الخلائق، قاسوا الغائب على الشاهد، فكذلك المجسمة فإنهم يقولون: لما كان كل موجود في الشاهد يجب أن يكون جسمًا متحيزًا يجب في الغائب، وكذا قول المعتزلة فإنهم يقولون: إن الأمر الفلاني قبيح منا فيجب أن يكون قبيحًا من الله تعالى.

والثاني. أن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا مطبقين في الشرك، توهموا أن كونهم

ص: 235

[{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ * ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} 6 - 7]

{الْمَلَأُ} : أشرف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد، قائلين بعضهم لبعض:{امْشُوا وَاصْبِرُوا} فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد، {إِنَّ هَذَا} الأمر {لَشَيْءٌ يُرادُ} أي: يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه، وما أراد الله كونه فلا مرد له، ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا، فلا انفكاك لنا منه، أو إن دينكم لشيء يراد، أي: يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه. و {أَنْ} بمعنى أي: لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على هذه الحال محال أن يكونوا مبطلين ويكون الإنسان الواحد محقا، فلعمري لو كان التقليد حقا لكانت هذه الشبهة لازمة.

قوله: (أو إن دينكم لشيء يراد)، تبعه الإمام في الوجود الثلاثة. فإن قيل: مقتضى النظم أن يكون المشار إليه المشي والصبر على آلهتهم، أي: هذا هو المطلوب الآن، ومن ثم عقبوه بقوله:{ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} إذا لو قيل: إن هذا لشيء يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه لم يستقم {إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} ؟ أجيب: أن هذا القول صدر عنهم من الحسد، كما نص عليه المصنف، ألا يرى كيف أردفوه بقوله:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا} أي: القرآن؛ لأن القوم معاندة.

قوله: (وتغلبوا عليه)، الأساس: غلبته على الشيء: أخذته منه، وهو مغلوب عليه. ويقال: أيغلب أحدكم أن يصاحب الناس معروفًا؟ أي: أيعجز؟

قوله: (لأن المنطلقين عن مجلس التقاول) يعني: الواجب أن يجعل {أَنْ} مفسرة؛ لأن {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} متضمن لمعنى القول على العادة المألوفة، وإنما قلنا: المألوفة؛

ص: 236

القول. يجوز أن يراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وأنهم قالوا: امشوا، أي: اكثروا واجتمعوا، من: مشت المرأة؛ إذا كثرت ولادتها، ومنه: الماشية؛ للتفؤل، كما قيل لها: الفاشية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ضموا فواشيكم". ومعنى {وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ} : واصبروا على عبادتها والتمسك بها؛ حتى لا تزالوا عنها. وقرئ: (وانطلق الملأ منهم امشوا) بغير {أَنِ} على إضمار القول. وعن ابن مسعود: (وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا). {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} : في ملة عيسى التي هي آخر الملل؛ لأن النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة. أو: في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. أو: ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يجعل {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} حالًا من {هَذَا} ، ولا يعلقه بـ {مَا سَمِعْنَا} كما في الوجهين. والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. ما {هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} أي: افتعال وكذب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليعلم أن ليس المراد أن"انطلق" متضمن معنى القول، نحو "إني أحمد إليك فلانًا"، ولا يجوز أيضًا أن يقدر القول بأن يقال:{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} قائلين: أن امشوا؛ لأن {أَن} المفسرة دافعة لذلك.

قال المصنف في قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة: 117]: أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهما حرف التفسير، لا نقول: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله، ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله. وقلت: لأن المفسرة تقتضي سبق المبهم لتوضحه وتبين أن المعني به القول، والقول لا يفتقر إلى البيان.

قوله: (كما في الوجهين)، يعني: الظرف كان معلقًا بقوله: {سَمِعْنَا} على أن يراد بالملة الآخرة ملة عيسى، أو قريش على أن يراد بها الملة المتجددة، وهي: ما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكون حالًا من اسم الإشارة أي: ما سمعنا أن يتجدد مثل هذه في الملة الآخرة؛ لأن الظرف حينئذ مستقر وبيان لاسم الإشارة وعلى الأولين كان لغوًا.

ص: 237

[{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ * جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ} 8 - 11]

أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، كما قالوا:{لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} من القرآن، يقولون في أنفسهم: إما وإما. وقولهم: {إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ} كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد. {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ} بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ، يعني: أنهم لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد)، يريد أن الاضراب الثاني متعلق بالكلامين بمعنى: لما وبخهم أولًا على ما بهم من الحسد وما تغلي به صدورهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختص بشرف النبوة من بينهم، ثم على الشك فيما لا شك فيه ولا يحوم حوله، جاء بتوبيخ أغلط منهما أي: بل لم يذوقوا عذابي بعد، وإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك. والظاهر أن قوله تعالى:{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} متصل بفاتحة السورة، أي: بـ {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ؛ لأنهما حديثان في الذكر. ومن قوله: {وعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ} إلى ههنا حديث في النبوة، فيكون {بَلِ} إضرابًا عما أثبت في الإضراب السابق كأنه لما قيل: أقسمت بـ {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ، أن صدقه ظاهر وحقيقته مكشوف {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ}: في عناد واستكبار عن الإذعان لذلك، وفي شقاق لله ولرسوله، ثم عقب بقوله:{وعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} مستطردًا، وبين تعجبهم بقوله:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا} بناء على التقليد، ثم بقوله:{أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} بناء على الحسد، فهم من ذلك: أنهم مترددون في أنفسهم في أن القرآن: إما حق وإما باطل كما قال: يقولون في أنفسهم: إما وإما، فحين نظروا إلى نظمه وإعجازه قالوا: حق، وحين نظروا إلى التقليد إلى أنهم أحق به منه قالوا: هو باطل، فأضرب الله تعالى عن إثبات العزة والشقاق بقوله:

ص: 238

يصدقون به إلا يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} يعني: ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا، ويتخيروا للنبوة بعض صناديدهم، ويترفعوا بها عن محمد عليه السلام. وإنما الذي يملك الرحمة وخزانها العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير المواهب المصيب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} ، وحين كان بناء الشك على شبهة ركيكة ومقدمة واهية لا تقاوم ذلك اليقين، أضرب عنه بقوله:{بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} .ثم جيء بإضراب آخر على أسلوب غير الأول وهو قوله: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} . وقال الزجاج: وجه اتصال {أَمْ} عندهم بقوله: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} هو: أنهم لما حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من فضل النبوة أعلم الله تعالى أن الملك له، والرسالة إليه يصطفي من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزل الرحمة على من يشاء.

وقلت: إلى معنى هذا الترقي ينظر قول من قال:

ألا قل لمن ظل لي حاسدًا .... أتدري على من أسات الأدب؟

أسأءت على الله في حكمه .... لأنك لم ترض لي ما وهب

قوله: (ويترفعوا بها عن محمد صلوات الله عليه)، الجوهري: الرفع: خلاف الوضع، رفعته فارتفع، ورفع رفعة، أي: ارتفع قدره.

قوله: (العزيز القاهر على خلقه)، المتصرف في ملكه كيف يشاء، ليس لأحد أن يمنعه من ذلك يهب لمن يشاء ما يشاء، ولذلك أردف بقوله:{أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ} . وأما معنى المبالغة في {الْوَهَّابِ} : فراجع إلى خطر الموهبة وعظمها، وهي: النبوة. هذا أنسب مما قال: " {الْوَهَّابِ}: الكثير المواهب" إلى آخره. وفيه: أن النبوة ليست بمكتسبة، بل هي موهبة ربانية يختص بها من يشاء من عباده، وأن يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدالته اعتزال خفي.

ص: 239

بها مواقعها، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله، كما قال {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف: 32]، ثم رشح هذا المعنى فقال:{أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء؟ ! ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال: فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوة دون من لا تحق له {فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ}: فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله، وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون، ثم خسأهم خسأة عن ذلك بقوله:{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأَحْزَابِ} يريد: ما هم إلا جند من الكفار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم رشح)، أي: ربي، الجوهري: فلان يرشح للوزارة، أي: يربي ويؤهل لها، ومنه الترشيح في الاستعارة. وخلاصته: أنه ترقى من لإضراب الأول وتمم ما أفاده من المبالغة، فإن قوله:{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ} أفاد تقريرًا بأن الله العزيز الوهاب وضع عندهم خزائنه وأمرهم أن يقسموها على من أرادوا، فإن قوله:{أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} دل على: اتصافهم بصفة الربوبية واستقلالهم بالمالكية تهكمًا، انظر إلى هذا التغليظ في شأن الحاسد وحسده.

قوله: (فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه)، الانتصاف: الاستواء المنسوب إلى الله ليس مما يتوصل إليه بالصعود في المعارج، فليس استواؤه اسقرارًا، بل لما خلق الله الخلق فعل فيه فعلًا سماه استواء، وعبارة الزمخشري ها هنا ليست بجتدة.

وقلت: ما أحسن عبارته لو تأمل فيه!

قوله: (ما هم إلا جند من الكفار)، هذا يشعر بأن {مَا} مزيدة، والتنكير للتفخيم، وفيها معنى الاستعظام، لكن حاصل الكلام ودلالة المقام مؤذنان بالتحقير، وإليه الإشارة

ص: 240

المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث لما به يهذون. و {مَّا} مزيدة، وفيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ القيس:

وحديث ما على قصره

إلا أنه على سبيل الهزء. و {هُنَالِكَ} إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقوله: "إلا أنه على سبيل الهزء" قال أبو البقاء: قوله تعالى: {جُندٌ} مبتدأ، و {مَّا} مزيدة، و {هُنَالِكَ} نعت، و {مَهْزُومٌ} الخبر. ويجوز أن يكون {هُنَالِكَ} ظرفًا لـ {مَهْزُومٌ} ، و {مِنَ الْأَحْزَابِ} يجوز أن يكون نعتًا لـ {جُندٌ} وأن يتعلق بـ {مَهْزُومٌ} ، وأن يكون نعتًا لـ {مَهْزُومٌ} .

قوله: (وحديث ما على قصره)، أي: حديث عظيم على قصره، وهو مستشهد للاستعظام، وفي بعض الحواشي عن المنصف: أوله:

وحديث الركب يوم هنا

يريد اليوم الأول. قال الأصمعي: يوم معروف وما حسبوا، أي: هو لنا سار على قصره، كأنه قال: وحديث، أي: حديث يعمني بالحسن، ولو حذف {مَّا} اختل هذا المعنى، والتنكير وإن أفاد تعظيمًا لكن الشياع المستفاد من {

} كالنص على هذا المعنى.

قوله: (من الانتداب)، الأساس: تكلم فانتدب له فلان؛ إذا عارضه، وندب لكذا، أو إلى كذا، فانتدب له.

قوله: (لست هنالك)، أي: ليس هذا مما يليق بأمثالك؛ لأنك أحط منزلة من أن

ص: 241

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تباشره. ومنه حديث الشفاعة في الصحيحين وقول الأنبياء: "لست هناكم" ومنه حديث النبيذ: "تعدي طوره"، أي: جاوز حده وحاله الذي يخصه. ذكره صاحب"النهاية" فظهر أن {هُنَالِكَ} هنا كناية عن تحقير شأنهم، ولهذا قال:{هُنَالِكَ} إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانيداب لمثل ذلك القول العظيم، يعني:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، والذي يستدعي هذا التفسير مراعاة النظم؛ لأن قولهم ذلك اقتضى أن يقال فيهم:{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} وأن يرفع من قدرهم إلى أوج أعلى عليين تهكما ثم يحط إلى حضيض أسفل السافلين استخفافًا، وعلى الأول الإشارة بقوله:"يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه" وإلى الثاني بقوله: "ثم خسأهم خسأةً"، أي: زجرهم زجر الكلب.

فإن قلت: قوله: ({هُنَالِكَ} إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم" كيف يلتئم مع قوله: "ما هم إلا جند من الكفار المتجرئين على رسول الله مهزوم مكسور عما قريب"، وكان الهزم والكسر يوم بدر، وذلك يقتضي أن يكون المشار إليه يوم بدر، على أن المفسرين صرحوا به؟

قال الواحدي: المشار إليه بقوله {هُنَالِكَ} : يوم بدر ومصارعهم. وقال الإمام: قيل: يوم بدر، وقيل: يوم الخندق. والأصوب عندي: يوم فتح مكة؛ لأنهم حينئذ انهزموا في موضع تكلموا فيه بهذه الكلمات.

قلت: إلالتئام على تأويله سهل؛ لأنه قال: هؤلاء الحمقى الذين وضعوا أنفسهم فيما هم ليسوا من أهله تراهم مهزومين مكسورين عن قريب، فمن أين لهم التدابير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية؟ ! ولا تكترث بقولهم ولا تبال بهم، فجعل الانتداب لمثل ذلك القول علة للهزم لا ينافي إرادة الهزم يوم بدر مثلًا.

ص: 242

[{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وثَمُودُ وقَوْمُ لُوطٍ وأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إن كُلٌّ إلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * ومَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} 12 - 15]

{ذُو الأَوْتَادِ} أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده، قال:

والبيت لا يبتنى إلا على عمد .... ولا عمادً إذا لم ترس أوتاد

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود:

في ظل ملك ثابت الأوتاد

وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار: طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والبيت لا يبتنى)، البيت، "لم ترس": لم تثبت، وكل ثابت فهو راس.

قوله: (في ظل ملك ثابت الأوتاد)، قبله:

ماذا أؤمل بعد آل محرق .... تركوا منازلهم وآل إياد؟

جرت الرياح على مقر ديارهم .... فكأنهم كانوا على ميعاد

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة .... في ظل ملك ثابت الأوتاد

فإذا النعيم وكل ما يلهى به .... يومًا يصير إلى بلًى ونفاد

"غنوا" أي: أقاموا.

قوله: (يشبح المعذب)، الأساس: شبح الإهاب: مده بين الأوتاد، وشبحه بين العقابين.

ص: 243

بها بين يديه. {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} : قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب. ولقد ذكر تكذيبهم أولًا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها: بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل؛ لأنهم إذا كذبوا واحدًا منهم فقد كذبوهم جميعًا. وفي تكرير التكذيب، وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولًا وبالاستثنائية ثانيًا، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص: أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هم هم)، يعني: أن المشار إليه بقوله: {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} السابق وهو جنس الأحزاب، يدلك عليه وجوه:

أحدها: قوله: "من الكفار المتحزبين على رسل الله"، و"من" للتبعيض.

وثانيها: قوله: "ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه بها"، بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل.

وثالثها: قوله: "ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب"، أي: الأحزاب المذكورة في قوله تعالى: {قَوْمُ نُوحٍ وعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وثَمُودُ وقَوْمُ لُوطٍ وأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} ولما أن أسماء الإشارة تقتضي أن يكون المشار إليه محسوسًا أو في حكم المحسوس، قال لاستحضارهم بالذكر أو لأنهم كالحضور عند الله.

قال صاحب"الانتصاف": كرر لفظ الأحزاب في الموضعين؛ تنبيهًا على أن الأولين والآخرين من واد واحد في التحزب على الأنبياء.

قوله: (في الجملة الخبرية)، وهي:{أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} لم يرد بها الخبرية التي في مقابلة الطلبية؛ لأن الجملة الاستثنائية أيضًا خبرية، بل يراد بها مطلق الإخبار عن المعنى الواقع، فإنه في مقابلة الاستثنائي.

ص: 244

العقاب وأبلغه. ثم قال: {فَحَقَّ عِقَابِ} أي: فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم. {هَؤُلَاءِ} : أهل مكة، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب؛ لاستحضارهم بالذكر، أو لأنهم كالحضور عند الله. والصيحة: النفخة، {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} - وقرئ بالضم- ما لها من توقف مقدار فواق؛ وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع. يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً} [النحل: 61] وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد، من:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: فوجب لذلك أن أعاقبهم)، يريد أن الفاء في قوله:{إن كُلٌّ إلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} جزاء شرط محذوف، وتقديره: أن هؤلاء الجند المهزوم من أهل مكة هم من جملة الأحزاب، وحكمهم حكمهم في أنهم لما كذبوا الرسل استوجبوا العقاب.

قوله: (لاستحضارهم بالذكر)، كما الفرزدق في قوله:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم .... إذا جمعتنا يا جرير المجامع

أحضرهم في مشاهدة جرير، ثم أشار إليهم كما يشار إلى المحسوسين.

قوله: (وقرئ بالضم)، حمزة والكسائي:"فواق" بضم الفاء، والباقون: بفتحها.

قال محيي السنة: فرق بعضهم بين الفتح والضم، قال الفراء وأبو عبيدة: الفتح بمعنى الراحة والإفاقة، كالجواب من الإجابة، من إفاقة المريض. والضم ما بين الحلبتين، وهو أن تحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن ثم تحلب. وقيل أيضًا: هما مستعاران من الرجوع؛ لأن اللبن يعود إلى الضرع بين الحلبتين، وإفاقة المريض رجوعه إلى الصحة، وعليه قول ابن عباس.

ص: 245

أفاق المريض؛ إذا رجع إلى الصحة. وفواق الناقة: ساعة يرجع الدر إلى ضرعها، يريد: أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.

[{وقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ} 16]

القط: القسط من الشيء؛ لأنه قطعة منه. من قطة؛ إذا قطعه. ويقال لصحيفة الجائزة: قط؛ لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسر بهما قوله تعالى:{عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي: نصيبنا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47]، وقيل: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد الله المؤمنين الجنة؛ فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها. أو: عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها.

[{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ * إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطَابِ} 17 - 20]

فإن قلت: كيف تطابق قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} وقوله: {واذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت: كأنه قال لنبيه عليه السلام: اصبر على ما يقولون، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود؛ وهو أنه نبي من أبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوة والملك؛ لكرامته عليه وزلفته لديه، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها، على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه، فاستغفر وأناب، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب، ونقش جنايته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (القط: القسط من الشيء)، واشتقاق القط من: قططت، أي: قطعت، وكذلك النصيب إنما هو القطعة من الشيء، والقطع والقطعة بمعنى: المقطوع، غير أن القطع غلب في الليل.

ص: 246

في بطن كفه حتى لا يزال مجددًا للندم عليها، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون، وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة اليسيرة فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي. {ذَا الأَيْدِ}: ذا القوة في الذين المضطلع بمشاقه وتكاليفه؛ كان على نهوضه بأعباء النبوة والملك يصوم يومًا ويفطر يومًا، وهو أشد الصوم، ويقوم نصف الليل. يقال: فلان أيد، وذو آد. وإياد كل شيء: ما يتقوى به. {أَوَّابٌ} : تواب رجاع إلى مرضاة الله. فإن قلت: ما دلك على أن الأيد القوة في الدين؟ قلت: قوله تعالى: {إنَّهُ أَوَّابٌ} ؛ لأنه تعليل لذي الأيد، {وَالْإِشْرَاقِ}: ووقت الإشراق؛ وهو حين تشرق الشمس، أي: تضيء ويصفو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو قال له صلى الله عليه وسلم: {اصْبِرْ})، جواب آخر، فعلى الأول"واذكر" محمول على الذكر اللساني، وعلى هذا على القلبي. الجوهري: وذكرت الشيء بعد النسيان: ذكرته بلساني وبقلبي.

قوله: (المضطلع)، الجوهري: فلان مضطلع بهذا الأمر، أي: قوي عليه، مفتعل، من الضلاعة.

قوله: (قوله تعالى {إنَّهُ أَوَّابٌ}؛ لأنه تعليل لذي الأيد)، لأن {ذَا الأَيْدِ} يحتمل أن يكون في الجسم لقوله تعالى:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]. وأن يكون في الدين، فلما جيء بقوله:{إنَّهُ أَوَّابٌ} أعلم أن المراد: القوة في الدين. قال صاحب"التقريب": وفيه نظر؛ إذ الأواب مطلق أيضًا كالأيد.

قلت: مطلق من حيث نفسه، لكن مقيد بالنسبة إلى الموصوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصف به دل على أنه رجاع إلى الله تعالى.

ص: 247

شعاعها، وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق. وعن أم هانئ: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بوضوء، فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى، فال:"يا أم هانئ، هذه صلاة الإشراق". وعن طاووس، عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا: لا، فقرأ:{إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ} ، وقال: كانت صلاةً يصليها داود عليه السلام. وعنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية: وعنه لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها في هذه الآية: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ} . وكان لا يصلي صلاة الضحى، ثم صلاها بعد. وعن كعب: أنه قال لابن عباس: إني لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس، فقال: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى. يعني هذه الآية.

ويحتمل أن يكون من: أشرق القوم؛ إذا دخلوا في الشرق- ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]، وقول أهل الجاهلية: أشرق ثبير-

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن أم هانئ)، عن البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها قالت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات.

قوله: (ويحتمل أن يكون من: أشرق القوم؛ إذا دخلوا في الشرق)، وهو الشمس. الانتصاف:{بِالْعَشِيِّ} ظرف بلا إشكال، فلو حمل"الإشراق" على الدخول في الشروق لكان مصدرًا لا ظرفًا؛ لأنه فعل المظروف، وعلى الأول وإن كان مصدرًا إلًا أنه ظرف؛ لأنه فعل الشمس، وهو يستعمل ظرفًا كالطلوع والغروب.

وقوله: (أشرق ثبير)، الجوهري، أشرق ثبي، كيما نغير، أي: نسرع للنحر، وثبير: جبل بمكة، وقال: أغار؛ أي: شد العدو وأسرع.

ص: 248

ويراد وقت صلاة الفجر؛ لانتهائه بالشرق. و {يُسَبِّحْنَ} : في معنى مسبحات على الحال. فإن قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات؟ قلت: نعم، وما اختير {يُسَبِّحْنَ} على مسبحات إلا لذلك؛ وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء وحالًا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لانتهائه بالشروق)، أي: إنما سمي صلاة الفجر باعتبار ما يؤول إليه. وقوله: "ويراد وقت صلاة الفجر"، متصل بقوله:"إذا دخلوا في الشرق"، وما بينهما اعتراض.

قوله: (وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء)، قال صاحب" الانتصاف": قال سحنون: إذا قال: "أنا محرم يوم كذا" بصيغة اسم الفاعل يكون محرمًا عند وجود التعليق، ولا كذلك بصيغة المضارع، إذا قال:"أنا أحرم يوم كذا" لا يكون محرمًا حتى يجدد الإحرام. واختلف المتأخرون من أصحابنا في معنى قول سحنون في اسم الفاعل: يكون محرمًا يوم يفعل، فمنهم من قال: أراد القول فينشئ إحرامًا، ومنهم من قال: يكون محرمًا بالعليق الأول. ومالك سوى بين اسم الفاعل والفعل.

ولما كان حشر الطير دفعة واحدةً أدل على القدرة لم يكن لاستعمال الفعل وجه.

قال صاحب" الإنصاف": تأمل ما قاله صاحب الانتصاف فليس فيه إلا نقل فرع على مذهب مالك لا يمس بالآية، ثم اختار أن مذهب مالك يخالف ما جاء من بديع الآية، فليت شعري أراد الرد على فصاحة الآية أو رد على إمامه الذي يقلده فيما يفتي به؟ !

وقلت- والله أعلم-: فرق بين مسألة الإحرام وبين ما في التنزيل؛ لأن ما في التنزيل معدول عن الظاهر؛ لأن قوله: {إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ} . إخبار عما مضى، فالمطابق مسبحات و {مَحْشُورَةً} ، ولهذا قال:{يُسَبِّحْنَ} في معنى: "مسبحات" وإنما عدل في

ص: 249

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأول لحكاية الحال الماضية واستحضار في نظر السامع فيشاهد حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء ويتعجب من تلك القدرة الربانية على ما سبق في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9].

أتي بالمضارع بين الماضيين للاستحضار وللاستعجاب؛ إذ لو قيل: "فأثارت" و"مسبحات" لم يكن من هذا المعنى في شيء. و {مَحْشُورَةً} على ما هي عليه أدل على القدرة، ولو عدل إلى خلاف المقتضى لكان خلفًا وغير سديد، وليت شعري من تكلم فيما لا دربة له فيه وتقدم على التأمل فلا يتأمل كلامه، وظهر أن كلام إمام المسلمين جاء مستطردًا وهو أجدر بالقبول؛ لأن العامي لم يقصد هذا المعنى، ورميه على عمياء- والله أعلم-.

قوله: (إلى ضوء نار في يفاع تحرق)، أوله:

لعمري لقد لاحت عيون كثرة

وبعده:

تشب لمقرورين يصطليانها .... وبات على النار الندى والمحلق

رضيعي لبان ثدي أم تقاسما .... بأسحم داج عوض لا نتفرق

اللبان- بكسر اللام-: لبن المرأة خاصة. تقاسما: تحالفا. بأسحم داج: ظرف، أي: في ليل داج أقسما أن لا يتفرقا. رضيعي لبان: حال، وقيل: خبر ثان ونصب على المدح، وهذا أوجه، و"عوض"- بسكون الواو-: الأبد، يضم وبفتح بغير تنوين، وهو للمستقبل من الزمان، كما أن"قط" للماضي؛ لأنك تقول: عوض لا أفارقك، ولا تقول: عوض ما فارقتك. اليفاع: الجبل المرتفع. تحرق، أي: الحطب؛ لأن الجواد منهم كان يوقد النار على الموضع المرتفع لتجتمع إليه كل من رآها من بعيد.

ص: 250

ولو قال: "محرقة": لم يكن شيئًا. وقوله: {مَحْشُورَةً} في مقابلة {يُسَبِّحْنَ} ؛ إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئًا بعد شيء، به اسمًا لا فعلًا؛ وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير يحشرن، على أن الحشر يوجد من حاشرها شيئًا بعد شيء والحاشر هو الله عز وجل؛ لكان خلفًا، لأن حشرها جملة واحدة أدل على القدرة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ:(والطير محشورة) بالرفع. {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} : كل واحد من الجبال والطير لأجل داود- أي: لأجل تسبيحه- مسبح؛ لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع" الأواب" موضع المسبح: إما لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعًا بعد رجوع؛ وإما لأن الأواب- وهو التواب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته- من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولو قال: "محرقة"لم يكن شيئًا)، معناه: لم يكن عدولًا من الظاهر فلا يكون فيه لطف؛ لأن قوله: "لقد لاحت" يقتضي محرقة، فلم يفد حدوث التحريق والإيقاد شيئًا بعد شيء ولا استحضار تلك الحالة في مشاهدة السامع.

قوله: (خلفًا)، أي: من حيث اختلال حسن المعنى، الجوهري: الخلف: الرديء من القول، يقال: سكت ألفًا ونطق خلفًا، أي: سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بالخطأ.

قوله: (أدل على القدرة)، قال: كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14]، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، قيام رجل واحد.

قوله: (ووضع"الأواب" موضع المسبح)، يعني: أصل الكلام: كل من الجبال والطير لأجل تسبيح داوود مسبح، فقيل:{أَوَّابٌ} ؛ لأن كل مرجع للتسبيح راجع إليه، كما أن كل مكذب للحق كاذب، وإنما عدل منه إلى الأواب لنكته وهي: إما أن يكون كناية

ص: 251

عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل: الضمير لله، أي: كل من داود والجبال والطير لله أواب، أي: مسبح مرجع للتسبيح. {وشَدَدْنَا مُلْكَهُ} : قويناه، قال تعالى:{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} [القصص: 35]، وقرئ:(شددنا) على المبالغة. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه. وقيل: الذي شد الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة: أن رجلًا ادعى عنده على آخر بقرةً، وعجز عن إقامة البينة، فأوحي إليه في المنام: أن اقتل المدعى عليه، فقال: هذا منام، فأعيد الوحي في اليقظة، فأعلم الرجل، فقال: إن الله عز وجل لم يأخذني بهذا الذنب، ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلةً، فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبًا أظهره الله عليه فقتله؛ فهابوه. {الْحِكْمَةَ} : الزبور وعلم الشرائع. وقيل: كل كلام وافق الحق فهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن الترجيع في التسبيح من"الأوب": الرجوع، أو عن كثرة التسبيح؛ لأن الأواب أي: التواب من عادته أن يكثر التسبيح، ولو ترك على ظاهره لم يعلم ذلك، ولو قيل: كل له كالأواب أي: التواب على التشبيه لم يفهم منه المقصود صريحًا.

قوله: (مستلئم): أي: دارع، و"اللأم": جمع"لأمة"، وهس: الدرع، واستلأم: إذا لبس لأمته.

قوله: (أن رجلًا ادعى عنده)، خبر"الذي شدد الله به ملكه".

وقوله: "أظهره الله عليه"، جواب للشرط، و"فقتله" من تتمة الجواب، والفاء في"فهابوه" نتيجة الكلام، أي: الذي شدد الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة هذه القضية، فلذلك هابوه، وإليه ينظر قول المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

قوله: (غيلة)، الغيلة: الاسم من الاغتيال.

الجوهري: الغلية هو: أن يخدع صاحبه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله

ص: 252

حكمه. الفصل: التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البين: فصل، بمعنى المفصول، كضرب الأمير؛ لأنهم قالوا: كلام ملتبس، وفي كلامه لبس. والملتبس: المختلط، فقيل في نقيضه: فصل، أي: مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه. ومن فصل الخطاب وملخصه: أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] إلا موصولًا بما بعده، ولا {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ} حتى يصله بقوله:{لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232]، ونحو ذلك، وكذلك مظان العطف وتركه، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل، كالصوم والزور، وأردت بفصل الخطاب: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ، وهو كلامه في القضايا والحكومات، وتدابير الملك والمشورات. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو قوله: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهو من الفصل بين الحق والباطل، ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله: "أما بعد"؛ لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد. ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل، ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل؛ لا نزر ولا هذر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل، لا نزر ولا هذر)، وروينا عن الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت:" ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام فصل يحفظه من جلس إليه". وعنها: " كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام فصل، يعيه كل من سمعه". أخرجه أبو داود. الحديثان يوفقان التفسير الأول، وقيل: الكلام البين فصل.

ص: 253

[{وهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} 21 - 22]

كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضًا أن ينزل له عن امرأته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب"النهاية": في صفة كلامه صلوات الله عليه: "فصل؛ لا نزر ولا هذر"، أي: بين ظاهر، يفصل بين الحق والباطل.

وقال في حديث أم معبد: "لا نزر ولا هذر"، أي: لا قليل ولا كثير، وقد هذر يهذر هذرًا- بالسكون- فهو هذر وهذار ومهذار، أي: كثير الكلام، والاسم: الهذر بالتحريك.

وقال الجوهري: النزر: القليل التافه، وعطاء منزور، أي: قليل.

قوله: (يسأل بعضهم بعضًا أن ينزل له عن امرأته)، روى محيي السنة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته. قال أهل التفسير: كان مباحًا، غير أن الله تعالى لم يرض له ذلك؛ لأنه كان رغبة في الدنيا وازديادًا للنساء، وقد أغناه الله تعالى بما أعطاه من غيرها.

وروى أيضًا حديث الطير الذهب عن السدي والكلبي ومقاتل والحسن، والله أعلم بحقيقة الحال، وما في"الكشاف" أولى بأن يقال. قال صاحب"المطلع" بعدما حكى القولين: والذي يؤيد هذا القول قوله تعالى: {وعَزَّنِي فِي الخِطَابِ} أي: غلبني في مخاطبتنا إياها. وقال الإمام: قد دل أول الكلام وآخره على مدح داوود عليه السلام، فلو دل وسطه على مقابحه ومعايبه لخرج عن النظام.

ص: 254

فيتزوجها إذا أعجبته، وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها، وقد روينا: أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له: أوريا، فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل، فتزوجها وهي أم سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلًا ليس له إلا امرأة واحدة النزول، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن حطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. وأما ما يذكر، أن داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال: يا رب إن آبائي قد ذهبوا بالخير كله، فأوحي إليه: إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها: قد ابتلي إبراهيم بنمروذ، وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف. فسأل الابتلاء، فأوحي إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا، فاحترس. فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فمد يده ليأخذها لابن له صغير، فطارت، فامتد إليها، فطارت فوقعت في كوة، فتبعها، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها، وهي امرأة أوريا، وهو من غزاة البلقاء، فكتب إلى أيوب بن صوريا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقد روينا: أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك)، روينا في"صحيح البخاري" عن ابن عوف قال:"آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالًا فأقاسمك مالي شطرين، ولي امرأتان فانظر أيتهما شئت حتى أنزل لك عنها فإذا حلت تزوجتها، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، دلوني على السوق" الحديث.

قوله: (البلقاء)، هو موضع، قال رحمه الله: سمعت أعرابيًا يقول: أرضها بلد الزعفران

ص: 255

وهو صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد، ففتح الله على يديه وسلم، فأمر برده مرة أخرى، وثالثةً، حتى قتل، وأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلًا عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مئة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء. وروي: أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترًا على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر: لسماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب. فإن قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ في التوبيخ، من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، وأشد تمكنًا من قلبه، وأعظم أثرًا فيه، وأجلب لاحتشامه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من أرض الشام قال: هي مدينة الكنعانيين، وكان اسم ملكهم: بالق، فقلب اسمه على بلده.

قوله: (وأجلب لاحتشامه)، الجوهري: أبو زيد: حشمت الرجل وأحشمته بمعنًى، وهو أن يجلس إليك فتؤذيه وتغضبه. ابن الأعرابي: حشمته: أخجلته. وأحشمته، أغضبته. واحتشمته واحتشمت منه بمعنى.

ص: 256

وحيائه، وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره به صريحًا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح، وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستسمج حال نفسه، ذلك أزجر له؛ لأنه ينصب ذلك مثالًا لحاله ومقياسًا لشأنه، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة. فإن قلت: فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟ قلت: ليحكم بما حكم به من قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] حتى يكون محجوجًا بحكمه ومعترفًا على نفسه بظلمه. {وَهَلْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره صريحًا)، وقلت: وهو نوع من باب الاستدراج وإرخاء العنان. قال صاحب "الانتصاف": نبه الزمخشري على مجيء الإنكار على طريق التمثيل، فإن التعريض داع إلى التأمل، وفيه أن اجتناب المهاجرة بالإنكار أبقى للحشمة.

قوله: (ليحكم بما حكم به) إلى قوله: (حتى يكون محجوجًا بحكمه)، الانتصاف: أي: جاء على وجه المحاكمة ليحكم بقوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} فتقوم عليه الحجة. قوله: {أَخِي} فإن الأخوة بصداقة أو دين أو شركة تمنع الاعتداء.

وقوله: ({فِي الْخِطَابِ})، أي: في المخاطبة، أي: أتاني بما لا أقدر على رده من الجدال، أو من الخطبة، أي: خطب فأوثر عليً، وهو مصدر المفاعلة؛ لأن الخطبة صدرت من كل واحد منهما، ولم يكن في المثل المضروب خطبة من مالكها إلا تقديرًا، "أو" أما في قصة داوود فهو ممكن، وجواب الزمخشري الذي يأتي ليس بجيد على ما ستراه.

ص: 257

أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ} ظاهره الاستفهام، ومعناه: الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد، والتشويق إلى استماعه. والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع؛ كالضيف، قال الله تعالى:{حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24]؛ لأنه مصدر في أصله، تقول: خصمه خصمًا، كما تقول: ضافه ضيفًا. فإن قلت: هذا جمع، وقوله:{خَصْمَانِ} تثنية، فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى {خَصْمَانِ} : فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ:(خصمان بغى بعضهم على بعض)، ونحوه قوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]. فإن قلت: فما تصنع بقوله: {إنَّ هَذَا أَخِي} [ص: 23]، وهو دليل على اثنين؟ قلت: هذا قول البعض المراد بقوله: {بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} . فإن قلت: فقد جاء في الرواية: أنه بعث إليه ملكان. قلت: معناه: أن التحاكم كان بين ملكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سهاهم جميعًا خصمًا في قوله: {نَبَأُ الخَصْمِ} و {خَصْمَانِ} ؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت: بم انتصب {إَذْ} ؟ قلت: لا يخلو: إما أن ينتصب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ظاهره الاستفهام، معناه: الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة)، وذلك أن هذه القصة إن كانت معلومة للسامع فيكون في الاستفهام بعث له وتحريض على إشاعتها وإعلام الناس بها، أي: كأنك ما علمتها حيث تخفيها ولا يؤدي حقها من الإذاعة، وإن لم تكن معلومة كان تأنيبًا على التقاعد عن استعلامها وتشويقًا إلى استماعها.

قوله: (والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع)، قال الزجاج: الخصم: مصدر، تقول: خصمته أخصمه خصمًا، فما كان من المصادر وقد وصفت به الأسماء: فتذكيره وتأنيثه وتوحيده وجمعه جائز.

ص: 258

بـ {أَتَاكَ} ، أو بـ {نَبَاُ} ، أو بمحذوف؛ فلا يسوغ انتصابه بـ {أَتَاكَ} ؛ لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبأ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها: لم يكن ناصبًا؛ فبقي أن ينتصب بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بـ {الْخَصْمِ} ؛ لما فيه من معنى الفعل. وأما {إِذْ} الثانية فبدل من الأولى. {تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ} : تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع، ونظيره في الأبنية: تسنمه؛ إذا علا سنامه، وتذراه: علا ذروته. روي: أن الله تعالى بعث إلى ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس، فتسورا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان {فَفَزِعَ مِنْهُمْ}. قال ابن عباس: إن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء، ويومًا للاشتغال بخواص أموره، ويومًا يجمع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم؛ فجاؤوه في غير يوم القضاء، ففزع منهم؛ ولأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه. {خَصْمَانِ}: خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن خصمان. {وَلَا تُشْطِطْ} : ولا تجر. وقرئ: (ولا تشطط)، أي: ولا تبعد عن الحق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا بالنبأ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال القاضي: ويجوز أن يتعلق {إِذْ} بالنبأ، على أن المراد به: الواقع في عهد داود عليه السلام، وأن إسناد "أتى: إليه على حذف مضاف، أي: أتى قصة نبأ الخصم، و {إِذْ} الثانية: يدل من الأولى أو: ظرف لـ {تَسَوَّرُوا} .

قوله: (وقرئ: "ولا تشطط")، قال ابن جني: هي قراءة أبي رجاء وقتادة؛ بفتح التاء وضم الطاء، يقال: شط يشط ويشط، إذا بعدـ، وأشط: إذا بعد، وعليه قراءة العامة:{وَلَا تُشْطِطْ} ، أي: ولا تبعد، وهو من: الشط: الجانب، ومعناه: أخذ جانبي الشيء وترك

ص: 259

وقرئ: (ولا تشطط)، (ولا تشاطط)، وكلها من معنى الشطط؛ وهو مجاوزة الحد وتخطي الحق. و {سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: وسطه ومحجته، ضربه مثلًا لعين الحق ومحضه.

[{إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وعَزَّنِي فِي الخِطَابِ} 23]{أَخِي} بدل من {هَذَا} أو خبر لـ {إِنَّ} . والمراد أخوة الدين، أو أخوة الصداقة والألفة، أو أخوة الشركة والخلطة؛ لقوله تعالى:{وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24]، وكل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم. وقرئ:(تسع وتسعون) بفتح التاء، و (نعجة) بكسر النون، وهذا اختلاف اللغات، نحو: نطع ونطع،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وسطه، كما قيل: تجاوز، وهو من الجيزة، وهي جانب الوادي، كما قيل: تعدى، وهو من: عدوة الوادي، أي: جانبه. وأنشدوا:

لئن غبت عن عيني وشطت بك لنوى .... فأنت الذي في القلب حطت رواحله

قوله: (تدلي بحق مانع)، المغرب: أدليت الدلو: أرسلتها في البئر، ومنه: أدلى بالحجة، أحضرها. وفلان يدلي إلى الميت بذكر، أي: يتصل.

قوله: (وقرئ: "تسع وتسعون" بفتح التاء): قال ابن جني: قرأها الحسن، وقد كثر عنهم مجيء الفعل والفعل بمعنى واحد، نحو: الشكر والشكر، ولا يبعد ذلك في التسع لا سيما وقد تجاوز العشر. وقرأ الحسن والأعرج:"نعجة" بكسر النون.

ص: 260

ولقوة ولقوة. {أَكْفِلْنِيهَا} ملكنيها. وحقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي.

{وَعَزَّنِي} : وغلبني. يقال: عزه يعزه. قال:

قطاة عزها شرك فباتت ..... تجاذبه وقد علق الجناح

يريد: جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به. وأراد بالخطاب: مخاطبة المحاج المجادل. أو أراد: خطبت المراة وخطبها هو فخاطبني خطابًا، أي: غالبني في الخطبة فغلبني؛ حيث زوجها دوني. وقرئ: (وعازني) من المعازة؛ وهي المغالبة. وقرأ أبو حيوة: (وعزني) بتخفيف الزاني؛ طلبًا للخفة، وهو تخفيف غريب، وكأنه قاسه على نحو: ظلت، ومست. فإن قلت: ما معنى ذكر النعاج؟ قلت: كان تحاكمهم في نفسه تمثيلًا وكلامهم تمثيلًا؛ لأن التمثيل أبلغ في التوبيخ؛ لما ذكرنا، وللتنبيه على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولقوة)، الجوهري: اللقوة: داء في الوجه. واللقوة: الناقة السريعة اللقاح. واللقوة: العقاب. واللقوة- بالكسر-: مثله.

قوله: (قطاة عزها)، البيت. قبله.

كأن القلب ليلة قيل يغدى .... بليلى العامرية أو يراح

قوله: ("وعزني" بتخفيف الزاي)، روى صاحب "الكشف" عن عاصم وقال: حمله الرازي على أنه مثل: رب ورب، وما أشبهه من تخفيف المضاعف.

قوله: (كان تحاكمهم في نفسه تمثيلًا وكلامهم تمثيلًا)، سئل: ما معنى ذكر النعاج؟ أي: ما موقعه في التمثيل؟ أجاب: بأنه تتميم لمعنى التمثيل؛ لأن تحاكمهم كان في نفسه تمثيلًا

ص: 261

أنه أمر يستحيا من كشفه، فيكنى عنه كما يكنى عما ستسمج الإفصاح به، وللستر على داود عليه السلام، والاحتفاظ بحرمته. ووجه التمثيل فيه: أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المئة فطمع في نعجة خليطه، وأراده على الخروج من ملكها إليه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، والدليل عليه قوله:{وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24]، وإنما خص هذه القصة؛ فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة. فإن قلت: إنما تستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة: لم تستقم. قلت: الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: تعريضًا وتورية، وكلامهم أيضًا تعريض وتورية، فجيء بقوله:{نَعْجَةً} تتميمًا لتلك التورية؛ لأن التعريض أبلغ في التوبيخ، وإنما قلنا: إن المراد بالتمثيل التعريض؛ لأنه فسر التمثيل به فيما سبق من قوله: "لم جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح"، فعطف التعريض عليه على سبيل البيان، ولأن المعنى عليه. قوله:"لما ذكرنا"، أي: في قوله: " إن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه" إلى قوله: "وأدعى إلى التنبيه على الخطإ فيه". وقوله: "وللتنبيه على أنه أمر يستحيا منه" عطف على قوله: "لأن التمثيل أبلغ".

قوله: (وأراده على الخروج)، الأساس: أراده على الأمر، حمله عليه. والإضافة في"ملكها" إلى المفعول.

قوله: (والدليل عليه)، أي: على أن الممثل به قصة رجل له نعجة واحدة، ولخليطه تسع وتسعون التصريح بذكر الخلطاء في قوله:{وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} ؛ لأن ظاهر قوله: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً} الآية، ليس فيه معنى الخلطة.

ص: 262

يا شاة ما قنص لمن حلت له

فرميت غفلة عينه عن شاته

وشبهها بالنعجة من قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يا شاة ما قنص لمن حلت له)، آخره:

حرمت علي وليتها لم تحرم

الشعر لعنترة، قال الزوزني:"ما" صلة زائدة، والشاة كناية عن المرأة، يقول: يا هؤلاء اشهدوا شاة قنص لمن حلت له، فتعجبوا من حسنها وجمالها فإنها قد حازت أتم الجمال، والمعنى: هي حسناء جميلة مقنعة لمن كلف وشغف بحبها، ولكنها حرمت علي وليتها حلت.

قال الأنباري: القنص: الصيد. والشاة منصوب على النداء، أي: شاة من اقتنصها فقد غنم، واللام صلة"قنص"، لمن حلت له: لمن قدر عليها، وحرمت علي: لم أقدر؛ لأنها من قوم أعداء.

قوله: (فرميت غفلة عينه عن شاته)، تمامه الأعشى:

فأصبت حبة قلبها وطحالها

أي: قصدت غفلته عن امرأته. طحالها، أي: أصبت طحالها، ولا يجوز خفضه؛ لأن الطحال لا حبة له. والبيت بتمامه أنشده الزجاج.

ص: 263

كنعاج الملا تعسفن رملًا

لولا أن {الْخُلَطَاءِ} يأباه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كنعاج الملا تعسفن رملا)، أوله:

قلت إذ أقبلت وزهر تهادى

بعده:

قد تنقبن بالحرير وأبديـ .... ــــن عيونًا حور المداعج نجلا

التهادي: أن يمشي بين الاثنين معتمدًا عليها لضعفه. والملا: الصحراء الواسعة.

أي: هؤلاء النسوة يمشين مشي نعاج الوحش إذا وقعت في الرمل.

قوله: (لولا أن {الْخُلَطَاءِ} يأباه)، يعني إن فسر الخطاب بالمفاعلة من الخطبة، وأجريت النعاج على حقيقتها لم يستقم؛ لأن الخطبة إنما تكون في التزوج والتزويج، فهي غير مناسبة للنعجة الحقيقية، وإن حملت النعاج على النساء استعارة أباه ذكر الخلطاء؛ لأن الخلطة غير مناسبة في النساء الحلائل، فالوجه أن يقطع ذكر الخلطاء عن التمثيل؛ ليكون تمثيلًا آخر مستقلًا فيصح.

وقلت: وكذا يأباه إذا جعل التسبيه تمثيليًا، ويجرى الخطاب على مخاطبة المحاج المجادل وتترك النعاج على حقيقتها؛ لأن الوجه حينئذ أمر توهمي منتزع من أمور جمة، وقد لمحت الخلطة في الممثل به، ومن ثم قال الواحدي: ظن داود أنهما شريكان فلذلك قال: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24].

وإذا لمح في المشبه به يجب أن يلمح في المشبه أيضًا. وقال صاحب"المفتاح": والذي نحن بصدده من الوصف غير الحقيقي أحوج منظور فيه إلى التأمل الصادق من ذوي بصيرة

ص: 264

إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداءً مثلًا لهم ولقصتهم.

فإن قلت: الملائكة عليهم السلام كيف صح منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناقدة ورؤية ثاقبة لالتباسه في كثير من المواضع بالعقلي الحقيقي لاسيما المعاني التي ينتزع منها، فربما انتزع من ثلاثة فأورث الخطأ لوجوب انتزعه من أكثر، ولعل الظاهر أن يجعل التشبيه من المركب العقلي؛ لأن الوجه حينئذ هو الزبدة والخلاصة من المجموع، وهو إظهار البغي والظلم وتقبيح أمر الباعي والظالم، فلا يدخل في المعنى الخلط، وإن شئت فجرب هذا من قول المصنف في تفسير قوله تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265]، الآية. فإنه حين جعل الوجه عقليا قال: ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله كمثل جنة، وحين جعل الوجه وهميًا قال: أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضاعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية عند الله زائدة في زلفاهم، وعلى هذا قوله بعد هذا:"وقيل: إن الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما، إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرًا" إلى آخره.

الانتصاف: إذا جعل تمثيلًا كان الذي سبق إلى فهم داود منه ظاهره في النعاج والشاة، ثم انتقل عنه إلى فهم تمثيله بحاله، وعلى الاستعارة يكون قد فهم التحاكم في النساء ثم استشعر أنه المراد.

قوله: (إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداءً ومثلًا لهم)، يعني: يصح جعلها مستعارًا إذا جعل قوله: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24]، تذييلًا للكلام على سبيل التمثيل، كقول الحطيئة:

ص: 265

لم يتلبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت: هو تصوير للمسألة وفرض لها، فصورها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي، كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة، وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليها الحول، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد. وتقول أيضًا في تصويرها: لي أربعون شاةً ولك أربعون فخلطناها، وما لكما من الأربعين أربعة ولا ربعها. للحسناء الجميلة. والمعنى: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أملح لها وأزيد في تكسيرها وتثنيها، ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال، وقوله:

فتور القيام قطيع الكلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولست بمستبق أخًا لا تلمه .... على شعت أي الرجال المهذب؟

وإليه الإشارة بقوله: "قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء".

قوله: (وأنت تشير إليهما)، أي: تقول: هذا، وتشير إلى زيد زعمرو.

قوله: (وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد)، قال الجوهري: أي: لا قليل ولا كثير. عن الأصمعي: السبد من الشعر، واللبد من الصوف. كناية عن المعز، واللبد عن الضأن.

قوله: (بالكسول والمكسال)، الجوهري: الكسل، التثاقل عن الأمر. وامرأة مكسال: لا تكاد تبرح مجلسها، وه مدح له، مثل:"نؤوم الضحى".

قوله: (فتور القيام قطيع الكلام)، تمامه:

لعوب العشاء إذا لم تنم

بعده:

تبز النساء بحسن الحديث .... ودل رخيم وخلق عمم

ص: 266

وقوله:

تمشي رويدًا تكاد تنغرف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قطيع الكلام: أي: لينه وضعفه. تبز؛ أي: تغلب وتسبق. والدلال: الغنج والشكل. وخلق عمم؛ أي: تام.

قوله: (تمشي رويدًا تكاد تنعرف)، أوله:

ما أنس سلمى غداة تنصرف

ويروى: "تنغرف" بالغين المعجمة، الغرف: غرفك الماء باليد، فرس غراف: كثير الأخذ بقوائمه. وصفها بالأناة والتؤدة وأنها تكاد تنغرف من الأرض بوطئها إياها، يقال: عرفت الشيء فانعرف- بالعين المهملة- أي: قطعته فانقطع. قال قيس بن الخطيم في معناه:

تنام عن كبر شأنها فإذا .... قامت رويدًا تكاد تنعرف

قال صاحب" الانتصاف": قوله: {وَلِيَ نَعْجَةٌ} ، أورده لتقليل ما عنده وحقارته، فكيف وصف ما عنده بالحسن الذي يوجب عذر خصمه في طلبه؟ ولذلك جاءت القراءة المشهورة بحذف ذلك، أي:"أنثى".

ص: 267

[{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وقَلِيلٌ مَّا هُمْ وظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعًا وأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وإنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وحُسْنَ مَآبٍ} 24 - 25]

{لَقَدْ ظَلَمَكَ} جواب قسم محذوف. وفي ذلك استنكار لفعل خليطه، وتهجين لطعمه. والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله تعالى:{مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]، وقد ضمن معنى لإضافة فعدي تعديتها، كأنه قيل بإضافة {نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} على وجه السؤال والطلب. فإن قلت: كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت: ما قال ذلك: ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، لكنه لم تحك في القرآن؛ لأنه معلوم. ويروى: أنه قال: وهذا، أنا أريد أن آخذها منه وأكمل نعاجي مئةً، فقال داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، وأشار إلى طرف الأنف والجبهة، فقال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، وأنت فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدًا، فعرف ما وقع فيه. والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد: خليط، وهي الخلطة، وقد غلبت في الماشية؛ والشافعي رحمه الله يعتبرها، فإذا كان الرجلان خليطين في ماشية بينهما غير مقسومة، أو لكل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: قد مر أن مثل هذه الزيارة قرينة لبيان إرادة المقصود من اللفظ، فذكره ها هنا لمزيد تحقير ما عنده فيكون تتميمًا للمعنى الذي في جانب المشبه والمبالغة في الظلم كما سبق، ويؤيده قوله:{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]، حيث صرح بذكر النعجة والنعاج.

قوله: (على وجه السؤال والطلب)، أي: السؤال سؤال مطالبة ومغالبة، لا سؤال خضوع وتفضل؛ إذ لو كان كذا لم يكن معارة.

ص: 268

واحد منهما ماشية على حدة إلا أن مراحهما ومسقاهما وموضع حلبهما والراعي والكلب واحد والفحولة مختلطة: فهما يزكيان زكاة الواحد؛ فإن كان لهما أربعون شاةً فعليهما شاة، وإن كانوا ثلاثةً ولهم مئة وعشرون لكل واحد أربعون؛ فعليهم واحدة كما لو كانت لواحد. وعند أبي حنيفة: لا تعتبر الخلطة، والخليط والمنفرد عنده واحد، ففي أربعين بين خليطين: لا شيء عنده، وفي مئة وعشرين بين ثلاثة: ثلاث شياه. فإن قلت: فهذه الخلطة ما تقول فيها؟ قلت: عليهما شاة واحدة، فيجب على ذي النعجة أداء جزء من مئة جزء من الشاة عند الشافعي رحمه الله، وعند أبي حنيفة لا شيء عليه. فإن قلت: ماذا أراد بذكر حال الخلطاء في ذلك المقام؟ قلت: قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم، مع التأسف على حالهم، وأن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلا أن مراحهما)، المغرب: أراح الإبل: ردها إلى المرح، وهو موضع إراحة الإبل والبقر والغنم، وفتح الميم خطأ.

قوله: (ماذا أريد بذكر حال الخلطاء)، أي: ما فائدة التذييل بقوله: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} إلى قوله: {وقَلِيلٌ مَّا هُمْ} ؟ فأجاب: أن فيها فوائد:

إحداها: أن يكون موعظة للسامع بأن يرغب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لقوله: {وقَلِيلٌ مَّا هُمْ} كقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وثانيتها: أن يكون لطفًا للخلطاء المعتدين فينزجروا عن الاعتداء.

وثالثتها: أن يكون تسلية للمظلوم.

قوله: (مع التأسف على حالهم)، من شأن الخلطاء وعادتهم أن يعتدوا إلا من عصمه الله.

ص: 269

يسلي المظلوم عما جرى عليه من خليطه، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة. وقرئ:(ليبغي) بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة، وحذفها، كقوله:

اضرب عنك الهموم طارقها

وهو جواب قسم محذوف؛ و: (ليبغ) بحذف الياء، اكتفاءً منها بالكسرة. و {مَّا} في {وقَلِيلٌ مَّا هُمْ} للإبهام. وفيه تعجب من قلتهم. وإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها، من قول امرئ القيس:

وحديث ما على قصره

وانظر هل بقي له معنى قط. لما كان الظن الغالب يداني العلم، استعير له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (اضرب عنك الهموم طارقها)، تمامه:

ضربك بالسيف قونس الفرس

أي: "اضربن" فحذفت النون الخفيفة، و"طارقها": بدل من" الهموم" بدل البعض، و"قونس" موضع ناصية الفرس، أي: ادفع طوارق الهموم عن نفسك عند غشيانها، كما يضرب قونس الفرس عند الإقبال.

قوله: (للإبهام)، قال أبو البقاء:{إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [ص: 24]، استثناء من الجنس، والمستثنى منه بعضهم، و {مَا} زائدة، {هُمْ} مبتدأ، و"قليل" خبره. وقيل: التقدير وهم قليل منهم.

قوله: (استعير له)، أي: استعير الظن موضع العلم لتلك العلاقة، والاستعارة يجوز أن تكون لفظيةً ومعنوية، وإنما كان بمعنى العلم؛ لإيقاعه على"إنما" المشتملة على مضاعفة التأكيد، وتعقيب ظنه بعد ذلك بالاستغفار من غير مهلة، وتسميته بالظن لسبقه بالأمارات

ص: 270

ومعناه: وعلم داود وأيقن {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} : أنا ابتليناه لا محالة بامرأة أوريا: هل يثبت أم يزل؟ وقرئ: (فتناه) بالتشديد للمبالغة، و:(أفتناه)، من قوله:

لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت

و(فتناه) و (فتناه)، على أن الألف ضمير الملكين. وعبر بالراكع عن الساجد؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الظاهرة على وقوعه في الفتنة من تسور الخصماء المحراب وفزعه منهم ثم تمثيلهم حالته بحالة الخلطاء وحكمه على أحد الخصمين بالظلم، والله أعلم.

قوله: (وقرئ: "فتناه" بالتشديد)، قال ابن جني: هي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما "فتناه" فهي قراءة قتادة وأبي عمرو في رواية عبد الوهاب، وعن بعضهم "فتناه" على وزن ضرباه و "فتناه" على وزن: فرقاه. وأنكر الأصمعي أفتنت- بالألف- يقال: فتنته المرأة وأفتنت: إذا دلهته وأحبها.

قوله: (لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت)، تمامه:

سعيدًا فأمسى قد قلى كل مسلم

بعده:

وألقى مصابيح القراءة واشترى .... وصال الغواني بالكتاب المنمنم

وأراد به سعيد جبير: نمنم الشيء نمنمة، أي: رقشه وزخرفه، وثوب منمنم، أي: موشى.

قوله: (وعبر بالراكع عن الساجد)، أي: كنى بالراكع عن الساجد لما بين الركوع

ص: 271

لأنه ينحني ويخضع كالساجد، وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة، على أن الركوع يقوم مقام السجود. وعن الحسن: لأنه لا يكون ساجدًا حتى يركع، ويجوز أن يكون قد استغفر الله لذنبه وحرم بركعتي الاستغفار والإنابة، فيكون المعنى: وخر للسجود راكعًا، أي: مصليًا؛ لأن الركوع يجعل عبارة عن الصلاة. {وَأَنَابَ} : ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والتنصل. وروي: أنه بقي ساجدًا أربعين يومًا وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبًا إلى الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والسجود من الانحناء والخضوع، ولما بينهما من المناسبة. استشهد أبو حنيفة في سجدة التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود، قال صاحب التقريب: وفيه نظر؛ لأنه بعد تعبيره به عن الساجد لا يبقى الاستشهاد، لعله استشهد بإطلاق الآية.

وقلت: لا إطلاق؛ لأن الركوع مقيد بالخرور الذي هو السقوط، فلا يحمل على مجرد الركوع. وفي "الروضة"، قال أصحابنا: يستحب أن يسجد في {ص} خارج الصلاة، ولو سجد في الصلاة جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته، وإن كان عامدًا بطلت على الأصح.

قوله: (حرم)، أي: دخل في التحريمة، يقال: أحرم بالصلاة وحرم، ومنه: تكبيرة التحريم.

قوله: (والتنصل)، هو: الاعتذار والتبرؤ من الذنب، ويروى: بالتنقل، يقال: انتقل من الشيء، انتفى منه.

قوله: (ولا يرقأ دمعه)، أي: لا يسكن.

الجوهري: يقال: رقأ الدمع يرقأ رقأ ورقورًا؛ سكن، وكذلك الدم.

ص: 272

تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له: إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه. وروي: أنه نقش خطيئته في كفه؛ حتى لا ينساها. وقيل: إن الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرًا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني: معسرًا ما له إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها، وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته.

[{يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} 26]

{خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} أي: استخلفناك على الملك في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها. ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه.

و{جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير. {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته)، الانتصاف: قصد الزمخشري في كلامه كله: تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأجرى هذه الآية على ظاهرها، وجعل الذنب عجلته في الحكم؛ لأن الباعث عليها التهاب الغضب للحق، وهو أخف من الأول، ويؤيده وصيته داود عليه السلام بعد ذلك بقوله:{فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى} [ص: 26]، فما جرت الوصية بذلك إلا والذي صدر منه من هذا النوع. والمختار: أن الأنبياء منزهون عن الصغائر، والتماس المخلص لمثل هذه القضية هو الحق الأبلج والسبيل الأنهج.

ص: 273

أي: بحكم الله تعالى؛ إذا كنت خليفته {وَلَا تَتَّبِعِ} هوى النفس في قضائك وغيره، مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا {فَيُضِلَّكَ} الهوى فيكون سببًا لضلالك {عَن سَبِيلِ اللهِ}: عن دلائله التي نصبها في العقول، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها. و {يَوْمَ الْحِسَابِ} متعلق بـ {نَسُوا} ، أي: بنسيانهم يوم الحساب، أو بقوله:{لَهُمْ} ، أي: لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم؛ وهو ضلالهم عن سبيل الله.

وعن بعض خلفاء بني مروان: أنه قال لعمر بن عبد العزيز، أو للزهري: هل سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تكتب عليه معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية.

[{ومَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 27]

{بَاطِلًا} : خلقًا باطلًا، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة. أو: مبطلين عابثين، كقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]، وتقديره: ذوي باطل، أو عبثًا، فوضع باطلًا موضعه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: بحكم الله إذ كنت خليفته)، يريد: أن الأمر بالحكم بالعدل بعد ذكر {إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} مشعر بأن وصف الخلافة يقتضي الحكم بالعدل، ولذلك رتب الحكم في التنزيل بالفاء على جعله خليفة.

قوله: ({فَيُضِلَّكَ} الهوى)، عن بعضهم:{فَيُضِلَّكَ} منصوب على الجواب، وقيل: مجزوم عطفًا على النهي، وفتحت اللام لالتقاء الساكنين.

قوله: (خلقًا باطلًا، لا لغرض صحيح)، قال القاضي: أي: خلقًا باطلًا لا حكمة فيه.

ص: 274

كما وضعوا {هَنِيئًا} [النساء: 4] موضع المصدر، وهو صفة، أي: ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب، ولكن للحق المبين؛ وهو أن خلقنا نفوسًا أودعناها العقل والتمييز، ومنحناها التمكين، وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف، وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالهم. و {ذّلِكَ} إشارة إلى خلقها باطلًا. والظن: بمعنى المظنون، أي: خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا. فإن قلت: إذا كانوا مقرين بأن الله خالق السماوات والأرض وما بينهما بدليل قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فبم جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة؟ قلت: لما كان إنكارهم للعبث والحساب والثواب والعقاب، مؤديًا إلى أن خلقها عبث وباطل، وجعلوا كأنهم يظنون ذلك، ويقولونه؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها، فمن جحده فقد جحد الحكمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما وضعوا {هَنِيئًا} موضع المصدر وهو: صفة) لقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وهما صفتان أقيمتا مقام المصدر.

قوله: (أن خلقنا نفوسًا)، إلى قوله:(ثم عرضناها للمنافع العظيمة) إلى آخره. قال الإمام: الآية تدل على صحة القول بالحشر والنشر؛ لأنه تعالى خلق الخلق إما للإضرار، أو للانتفاع، أو لا لهذا ولا لهذا، والأول: لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضًا: باطل؛ للعبث، فلم يبق إلا الثاني، فالانتفاع إما دنيوي أو أخروي، والأول باطل، والدليل المشاهدة {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64]، ولما بطل هذا ثبت القول بوجود حياة أخروية، فكل من أنكر الحشر والنشر كان شاكًا في حكم الله في خلق السماوات والأرض، وهو المراد من قوله:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، والدليل عليه قوله:{أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، فإنها كالتفصيل لذلك المجمل، وإلى هذا المعنى ينظر قول المصنف: لأنه الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها، فمن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها، إلى آخره.

ص: 275

من أصلها، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره، وكان إقراره بكونه خالقًا كلا إقرار.

[{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 28]

{أَمْ} منقطعة، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمراد: أنه لو بطل الجزاء - كما يقول الكافرون- لا ستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد، واتقى وفجر، ومن سوى بينهم كان سفيهًا ولم يكن حكيمًا.

[{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 29]

وقرئ: (مباركًا)، و (ليتدبروا) على الأصل، و (لتدبروا) على الخطاب. وتدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة؛ لأن من اقتنع بظاهر المتلو، لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحتلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله: حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد- والله- أسقطه كله؛ ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لم يحل)، من: حلوته بكذا فحلي به، أي: أعطيته فتناول، ومنه " حلوان الكاهن" لعطائه.

قوله: (لقحة درور)، الجوهري: اللقوح واللقاح- بالكسر-: الإبل بأعيانها، الواحدة: لقوح، وهي: الحلوب، والمهر: ولد الفرس، والأنثى: مهرة. والنثور: الكثيرة الولد.

ص: 276

حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعذنا من القراء المتكبرين.

[{ووَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ * إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والأَعْنَاقِ} 30 - 33]

وقرئ: (نعم العبد) على الأصل، والمخصوص بالمدح محذوف. وعلل كونه ممدوحًا بكونه أوابًا رجاعًا إليه بالتوبة، أو مسبحًا مؤوبًا للتسبيح مرجعًا له؛ لأن كل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا الوزعة)، أي: المانعين عن النواهي. الأساس: أوزعته: مانعته، والشيب وازع، ولابد للناس من وزعة؛ من كففة عن الشر والبغي، ووزع نفسه عن الجهل والهوى.

قال:

إذا لم أزع نفسي من الجهل والصبا .... لينفعها علمي فقد ضرها جهلي

قوله: (من القراء المتكبرين)، أي: الذين ليسوا بحكماء، أي: فقهاء، ولا يمنعون الناس عن الشر عملًا بالقرآن.

روي أن الحسن تعلم القرآن وهو ابن ثنتي عشرة سنة، لا حروفه فحسب، ولكن ما تعلم آية إلا وقد عرف تأويلها وجميع ما فيها من كل دقيق وجليل بقدر وسعه، فهو القراء الحقيقي.

قوله: (أوابًا رجاعًا إليه بالتوبة)، هو الوجه الأول، وقوله:"أو مسبحًا مؤويًا للتسبيح"، هو الوجه الثاني في قوله تعالى:{والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 19].

قال: وضع {أَوَّابٌ} موضع المسبح؛ لأن الأواب- وهو: التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى- من عبادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه، والفرق بين هذه الآية والسابقة أن

ص: 277

مؤوب أواب. والصافن: الذي في قوله:

ألف الصفون فما يزال كأنه .... مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقيل: الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل: هو المتخيم، وأما الصافن فالذي يجمع بين يديه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"من سره أن يقوم الناس له صفونًا فليتبوا مقعده من النار"، أي: واقفين كما خدم الجبابرة. فإن قلت: ما معنى وصفها بالصفون؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{أَوَّابٌ} في تلك الآية لا يجوز أن يجري على ظاهره؛ لإسناده إلى غير العقلاء، فلا بد من التأويل، بخلافه هاهنا، فإن الوجه الأول جار على حقيقته.

قوله: (ألف الصفون)، البيت. يقال: ألف هذا الفرس القيام على ثلاث قوائم وسنبك الرابعة. "كسيرًا": منصوب بـ"ما يزال"، وقيل: حال من الضمير في "مما يقوم"، أي: كأنه من جنس ما يقوم على ثلاث قوائم في حال كونه كسير القائمة الأخرى.

قوله: (هو المتخيم)، كأنه القائم على أربع قوائم سواء، روى صاحب " االمغرب" عن ابن الأعرابي: أن الخيمة عن العرب لا تكون إلا من أربعة أعواد، ثم تسقف. الأساس: ومن المجاز: خيمت البقر، أقامت في مواضعها لا تبرح، تخيمت الريح في الثوب. فقوله:"هو المتخيم" خبر "الذي يقوم"، وخبر " الصافن" المتقدم في قوله:"وأما الصافن فالذي يجمع يديه".

الراغب: الصفن: الجمع بين الشيئين ضامًا بعضهما إلى بعض، يقال: صفن الفرس قوائمه، قال تعالى:{الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ} [ص: 31] والصفن: الوعاء الذي يجمع الخصية. والصفن: دلو مجموع بحلقة.

قوله: (من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار)، "صفونًا" بالنون،

ص: 278

قلت: الصفون لا يكاد يكون في الهجن، وإنما هو في العراب الخلص. وقيل: وصفها بالصفون والجودة؛ ليجمع لها بين الوصفين المحمودين: واقفة وجارية، يعني: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنةً في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا في جريها. وروي: أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة. وقيل: خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يومًا بعدما صلى الأولى على كرسيه واستعرضها، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي، وتهيبوه فلم يعلموه، فاغتم لما فاته، فاستردها وعقرها مقر بالله، وبقي مئة، فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها. وقيل: لما عقرها أبدله الله خيرًا منها؛ وهي الريح تجري بأمره.

فإن قلت: ما معنى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي} ؟ قلت: {أَحْبَبْتُ} : مضمن معنى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحديث، من رواية أبي داود عن أبي مجلز، قال: خرج معاوية على ابن عامر وعلى ابن الزبير، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من أحب أن يمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار".

وعند الترمذي، قال: خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه، فقال: اجلسا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار".

قوله: (في الهجن)، الجوهري: الهجنة في الناس من قبل الأم، فإذا كان الأب عتيقًا والأم ليست كذلك، كان الولد هجينًا.

قوله: (والجودة)، في"المطلع": الجياد: جمع جواد، وهو: الشديد الحضر من الخيل، ومصدره: الجودة- بالضم-، وفي العمل: الجودة- بالفتح-، ويقال: جاد الفرس يجود جودة، وجاد الرجل جوادًا. والجودة: مصدر الجيد من كل شيء.

ص: 279

فعل يتعدى ب"عم"، كأنه قيل: أنبت حب الخير عن ذكر ربي. أو: جعلت حب الخير مجزئًا أو مغنيًا عن ذكر ربي. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب"التبيان": أن {أَحْبَبْتُ} بمعنى: لزمت، من قوله:

مثل بعير السوء إذ أحبا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنبت)، أي: جعلته نائبا، قال الزجاج: معنى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} آثرت حب الخير على ذكر الله عز وجل. الأساس: "استحبوا الكفر على الإيمان" آثروه عليه. وقال صاحب"الفرائد": ذهب جماعة من العلماء إلى أن {أَحْبَبْتُ} بمعنى: "آثرت"، وأن {عَنْ} بمعنى:"على" وجعلوا {أَحْبَبْتُ} بمعنى: "استحببت"، وقد جاء بمعنى الإيثار فو قوله تعالى:{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [إبراهيم: 3]، أي: يؤثرونها؛ الإيثار من لوازم الإحباب فيجوز أن يضمن الإحباب معناه ويعدى تعديته، ولكن {عَنْ} بمعنى:"على" فيه بعد.

وقال أبو البقاء: {حُبَّ الخَيْرِ} هو مفعول به {أَحْبَبْتُ} ؛ لأن مصدر {أَحْبَبْتُ} الإحباب، ويجوز أن يكون مصدرًا محذوف الزيادة. وقال صاحب"الفرائد": التقدير: أحببت الخير، أي: إحبابًا، ثم أضيف إلى المفعول.

قوله: (مثل بعير السوء إذ أحبا)، أوله:

تبًا لمن بالهون قد ألبا

قبله:

كيف قريت شيخك الأزبا .... لما أتاك بائسًا قرشبا؟

"تبًا" من التباب، وهو الهلاك، أي: أقام ولزم. "أحبا"، من: أحب البعير؛ بالحاء

ص: 280

وليس بذاك. والخير: المال، كقوله:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، وقوله {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. والمال: الخيل التي شغلته. أو: سمي الخيل خيرًا كأنها نفس الخير؛ لتعلق الخير بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"، وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: "ما وصف لي رجل فرأيته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المهملة: إذا وضع ركبتيه على الأرض بحيث لا يرفع بالضرب، ومنه اشتاق المحبة، قوله:"قرشبًا": أي: يابسًا فحلًا.

قال صاحب"المطلع": أحب، إذا لزم المكان، مردود؛ لأنها لغة غريبة لا تليق بفصاحة القرآن، مع ما فيه من إخلاء الكلمة عن الفائدة، أي: عن هذا الذي عناه المصنف بقوله: "ليس بذاك"، ولهذا لم يذكره في"الأساس" أصلًا، وإن ذكره الجوهري في"الصحاح" وأنشد المصراع، وقال: الإحباب، البروك. أبو زيد، يقال: بعير محب، وقد أحب إحبابًا، وهو: يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت.

وقال أبو البقاء: قال أبو علي: أحببت بمعنى: جلست، من إحباب البعير، وهو بروكه، و {حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] مفعول له مضاف إلى المفعول.

وقال صاحب"الفرائد": لا يبعد أن يفسر {أَحْبَبْتُ} بمعنى: "لزمت" لاستلزم الإحباب اللزوم؛ لأن من أحب شيئًا لزمه، وقال: و {ذِكْرِ رَبِّي} على هذا نصب على الحال، أي: لزمت الأرض لحب الخير معرضًا عن ذكر ربي.

قوله: (الخيل معقود بنواصيها الخير)، الحديث من رواية مسلم عن جرير، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرس بأصبعه وهو يقول: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر والغنيمة".

قوله: (وقال في زيد الخيل حين وفد عليه)، روى صاحب"الاستيعاب": هو زيد بن مهلهل بن زيد الطائي، قد مر على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد طيء سنة تسع، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 281

إلا كان دون ما بلغني، إلا زيد الخيل" وسماه زيد الخير. وسأل رجل بلالًا رضي الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زيد الخير، وقال:"ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون صفته، غيرك". وكان شاعرًا محسنًا خطيبًا لسنا شجاعًا كريمًا، وكذا في" جامع الأصول".

وروى الأنباري في" النزهة": أن الزمخشري لما قدم بغداد للحج جاءه الشيخ الشريف ابن الشجري مهنئًا بقدومه، فلما جالسه أنشده الشريف:

كانت مساءلة الركبان تخبرني .... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت .... أذني بأحسن مما قد رأى بصري

وقال:

وأستكبر الأخبار قبل لقائه .... فلما التقينا صغر الخبر الخبر

ولم ينطق الزمخشري، فلما فرغ الشريف قال: إن زيد الخيل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فحين بصر بالنبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا زيد الخيل، كل رجل وصف لي وجدته دون الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما وصفت لي وكذلك أنت، ودعا له وأثنى عليه".

قوله: (وسماه زيد الخير)، وضع موضع"الخيل":{الْخَيْرِ} ، فحصل منه ما قصده وكل فضل؛ لأنه أجمع منه لاشتماله عليه وعلى كل فضيلة، وعليه جواب بلال عن قول الرجل:"أردت الخيل، وأنا أردت الخير" فإن الرجل سأل: من السابق في الطراد؟ أجاب عنه بالسابق في الخيرات تمليحًا من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، وتنبيها على أن السبق الذي يعتنى بشأنه وينبغي أن يسأل عنه هذا لا ذاك كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتِ} [البقرة: 189].

ص: 282

عنه عن قوم يستبقون: من السابق؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير. والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك. أو المخبأة بحجابها. والذي دل على أن الضمير للشمس: مرور ذكر العشي، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر. وقيل: الضمير للصافنات، أي: حتى توارت بحجاب الليل، يعني الظلام. ومن بدع التفاسير: أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه. {فَطَفِقَ مَسْحًا} : فجعل يمسح مسحًا، أي: يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعني: يقطعها. تقول: مسح علاوته؛ إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب؛ إذا قطع أطرافه بسيفه. وعن الحسن: كسف عراقيبها وضرب أعناقها. أراد بالكسف: القطع، ومنه: الكسف في ألقاب الزحاف في العروض. ومن قاله بالشين المعجمة: فمصحف. وقيل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المخبأة بحجابها)، الأساس: خبأت الجارية، وجارية مخبأة، والنساء مخبآت، وامرأة خبأة تخنس بعد الاطلاع.

قوله: (وقيل: الضمير للصافنات)، قال الإمام: هذا أولى؛ لأن بقاءه عليه السلام مشتغلًا بالخيل حتى تغرب الشمس وتفوت صلاته ذنب عظيم، فالواجب عليه التضرع بالابتهال لا التهور والتحير بقوله:{رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والأَعْنَاقِ} [ص: 23]، وإذا قلنا: إن الضمير يعود إلى {الصَّافِنَاتُ} لا يلزم منه فوت الصلاة، وغايته أن الأولى استغراق الأوقات في ذكر الله من الاشتغال بأمر الدنيا، فترك الأولى وتحسر لذلك، وأمر بالقطع على أن رجوع الضمير حينئذ إلى المذكور القريب وعلى الأول إلى المقدر البعيد.

قوله: (تقول: مسح علاوته)، الجوهري: العلاوة رأس الإنسان ما دام في عنقه، يقال: ضرب علاوته، أي: رأسه.

قوله: (المسفر)، أي: المجلد والوراق. الجوهري: السفر- بالكسر-: الكتاب، والجمع: الأسفار.

ص: 283

مسحها بيده استحسانًا لها وإعجابًا بها. فإن قلت: بم اتصل قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} ؟ قلت: بمحذوف، تقديره: قال: ردوها علي، فأضمر وأضمر ما هو جواب له، كأن قائلًا قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاءً ظاهرًا؛ وهو اشتغال نبي من أنبياء الله بأمر الدنيا، حتى تفوته الصلاة عن وقتها. وقرئ:(بالسؤوق) بهمز الواو لضمتها، كما في أدؤر. ونظيره: الغؤور، في مصدر غارت الشمس. وأما من قرأ:(بالسؤق) فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق، كما قيل: مؤسى. ونظير ساق وسوق: أسد وأسد. وقرئ: (بالساق) اكتفاءً بالواحد عن الجميع؛ لأمن الإلباس.

[{ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} 34]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مسحها بيده استحسانًا)، وفي "المعالم": هو قول ضعيف. وقال الزجاج: مسح أعناقها وسوقها بالماء بيده، وإنما قال ذلك قوم؛ لأن قتلها كان عندهم منكرًا، وليس ما يبيحه الله تعالى منكرًا.

قوله: (بمحذوف تقديره "قال")، يعني: متعلقة لفظة "قال"، وهي مع المقول جواب عن سؤال مقدر يقتضيه المقام؛ لأن اشتغال مثله من أنبياء الله بأمر الدنيا بعيد، فكأنه عليه السلام لما قال:{إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} اتجه لسائل أن يقول: فماذا قال سليمان بعد هذا؟ فأجيب: قال {رُدُّوهَا عَلَيَّ} فأضمر القول وأضمر سؤال السائل. فقوله: "وأضمر ما هو جواب له"، معناه: أضمر في الكلام ما المحذوف جواب له.

قوله: (وأما من قرأ: "بالسؤق")، المطلع: وقرئ: "بالسؤوق" على "فعول"، بهمز الواو وبضمها، كما في:"أجوه" في: "وجوه"، ومنهم من يقرأ:"بالسؤق" مهموز، كما في:"مؤسى" بالهمز.

ص: 284

قيل: فتن سليمان بعدما ملك عشرين سنه، وملك بعد الفتنة عشرين سنة. وكان من فتنته: أنه ولد له ابن، فقالت: الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم ذلك، فكان يغذوه في السحابة، فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب إليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:"قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون"، فلذلك قوله تعالى:{ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} . وهذا ونحوه مما لا بأس به. وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان، فالله أعلم بصحته؛ حكوا: أن سليمان بلغه خبر صيدون، وهي مدينة في بعض الجزائر، وأن بها ملكًا عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر، فخرج إليه تحمله الريح، حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها وأصاب بنتًا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهًا، فاصطفاها لنفسه، وأسلمت، وأحبها، وكانت لا يرقأ دمعها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فما راعه)، أي: ما دخل في روعه، أي: قلبه، أي: ما شعر به، ومنه الحديث:"إن روح القدس نفث في روعي".

قوله: (قال سليمان: لأطوفن الليلة)، الحديث بتمامه أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة.

قوله: (فلم يحمل إلا امرأة)، صح " يحمل" بالياء التحتانية، أي: فلم يحمل شيء، كقوله تعالى:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة: 11].

ص: 285

حزنًا على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها، فكستها مثل كسوته، كانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد، فجلس عليه تائبًا إلى الله متضرعًا، وكانت له أم ولد يقال لها: أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يومًا، وأتاها الشيطان صاحب البحر، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس، واسمه صخر؛ على صورة سليمان، فقال: يا أمينة خاتمي! فتختم به وجلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وغير سليمان عن هيئته، فأتى أمينة لطلب الخاتم، فأنكرته وطردته، فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف، فإذا قال: أنا سليمان، حثوا عليه التراب وسبوه، ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين، فمكث على ذلك أربعين صباحًا عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان، وسأل آصف نساء سليمان فقلن: ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة. وقيل: بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن. ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، وابتلعته سمكة، ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو الخاتم، فتختم به ووقع ساجدًا، ورجع إليه ملكه، وجاب صخرةً لصخر فجعله فيها، وسد عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر. وقيل: لما افتنن كان يسقط الخاتم في يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقر في يدك، فتب إلى الله عز وجل. ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكان ملكه في خاتمه)، أي: ما دام الخاتم في يده كان ملكًا مطاعًا.

قوله: (الماس)، عن بعضهم: الألف واللام فيه للتعريف؛ من ماس الحديد؛ الذي يقطع به ويثقب الحديد به.

قوله: (ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله)، أي: قبول ما يروى، وقالوا: هذا من أباطيل

ص: 286

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اليهود، هكذا في "المطلع" أيضًا، وقال محيي السنة: هذه القصة عن آخرها ذكرها محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه، ولعمري إنها قريبة مما رويناه عن الأئمة البخاري ومسلم والترمذي، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: "إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر، فقال: كذب عدو الله" الحديث.

وروى محيي السنة: أن وزيره آصف أقام في ملكه يسير بسيرته أربعة عشر يومًا، وسليمان هارب إلى ربه يستغفر لذنبه إلى أن رد الله ملكه، وقال: وهو الجسد الذي قال الله تعالى: {ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص: 34]، وروي أيضًا أن سليمان قال يومًا:"لأطوفن الليلة". وساق الحديث إلى قوله: "فما خرج منهن إلا شق مولود، فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه فذلك قوله:{وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} . ثم قال: وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو الصخر الجني.

قال الإمام: هذا باطل من وجوه:

أحدها: أن الشيطان لو قدر أن يتشبه بصورة الأنبياء لزم عدم الوثوق بشيء من الشرائع.

وثانيها: أنه لو قدر أن يعامل النبي بهذه المعاملة فغيره أولى، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].

وثالثها: كيف يليق بحكمة الله أن يسلط الشيطان على غشيان نسائه؟ ! العياذ بالله هذه فرية ليس فيها مرية.

ورابعها: كيف يأذن نبي الله على عبادة الصنم؟

وخامسها: أن تفسير ألقاء الجسد على الكرسي بالولد لنفسه لمرض شديد ألقاه الله

ص: 287

وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل، وتسليط الله إياهم على عباه حتى يقعوا في تغيير الأحكام، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهن: قبيح، وأما اتخاذ التماثيل: فيجوز أن تختلف فيه الشرائع، ألا ترى إلى قوله:{مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]؟ وأما السجود للصورة: فلا يظن بنبي الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه: فلا عليه. وقوله: {وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} ناب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوًا ظاهرًا.

[{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} 35]

قدم الاستغفار على استيهاب الملك؛ جريًا على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور ديناهم. {لَا يَنبَغِي} : لا يتسهل ولا يكون. ومعنى {مِن بَعْدِ]} : دوني. فإن قلت: أما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطي الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان عليه السلام ناشئًا في بيت الملك والنبوة ووارثًا لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزةً، فطلب على حسب إلفه ملكًا زائدًا على المماليك زيادةً خارقة للعادة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه أو ابتلاه بتسليط خوف أو توقع بلاء، فصار لذلك كالجسد الضعيف الملقى على الكرسي أولى من تفسيره بتسليط عفريت مارد؛ لأن العرب تقول في الضعيف الزمن: إنه لحم على وضم، وجسد بلا روح.

هذا هو المراد من قول المصنف: "وألقينا على كرسيه جسدًا ناب عن إنابة الشيطان منابه نبوًا ظاهرًا"، وفي الوجوه التي نسبت إلى الإمام تصرف واختصار، وأشبه الأقاويل في إلقاء الجسد، هو شق الولد؛ لأنه مؤيد بما رويناه عن الأئمة المتقين.

قوله: (فأراد أن يطلب من ربه معجزة فطلب على حسب إلفه ملكًا زائدًا على الممالك زيادة خارقة للعادة)، قالوا: إنما طلب الملك من بين سائر المعجزات؛ لما أن الغالب

ص: 288

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في زمنه عليه السلام الملك، فطلب مثل ذلك ليكون حجة؛ لأن معجزة كل نبي كانت من جنس الغالب في زمانه، كالسحر في زمن موسى عليه السلام، فتحداهم بالعصا واليد البيضاء. والطب في زمن عيسى عليه السلام، فتحداهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى. والفصاحة في زمن نبينا صلوات الله عليه، فتحداهم بأقصر سورة من كلام ذي العزة والكبرياء. وأما الزيادة الخارقة للعادة من حيث تسخير ما لم يسخر للإنس، فقد روى محيي السنة عن مقاتل بن حيان: كان سليمان ملكًا، ولكنه أراد بقوله:{لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [ص: 35]، تسخير الرياح والطير والشياطين، بدليل ما بعده.

وروى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتًا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [ص: 35] فرددته خاسئًا.

وأما من حيث تسخير الملوك، فهو ما ذكر الفقيه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في"تاريخه": أن سليمان عليه السلام ورث ملك أبيه في عصر كيخسر وبن شباوش وسار من الشام إلى العراق، فبلغ خبره كيخسرو، فهرب إلى خراسان، فلم يلبث قليلًا حتى هلك، ثم سار سليمان إلى مرو، ثم إلى بلاد الترك فوغل فيها، وجاز بلاد الصين، ثم عطف إلى أن وافى بلاد الفرس فنزلها أيامًا، ثم عاد إلى السام فوافى تدمر وكانت مطنه، ثم أمر ببناء المقدس، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وتفقد الطير، وكان من حديثه مع صاحبة صنعاء ما ذكره الله تعالى، وغزا بلاد المغرب الأندلسي وطنجة وإفرنجة ونواحيها. والله أعلم بحقيقة الحال،

ص: 289

بالغة حد الإعجاز؛ ليكون ذلك دليلًا على نبوته قاهرًا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزةً حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله:{لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} . وقيل: كان ملكًا عظيمًا، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30]. وقيل: ملكًا لا أسلبه ولا يقوم غيري فيه مقامي، كما سلبته مرة وأقيم مقامي غيري. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول: ملكًا عظيمًا، فقال:{لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} ، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. وعن الحجاج: أنه قيل له: إنك حسود، فقال: أحسد مني من قال: {هَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} . وهذا من جرأته على الله وشيطنته، كما حكي عنه: طاعتنا أوجب من طاعة الله؛ لأنه شرط في طاعته فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وأطلق طاعتنا فقال:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

[{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * والشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وغَوَّاصٍ * وآخَرِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأطلق طاعتنا فقال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وروي عن المصنف: نسي الحجاج شرطًا آخر، وهو أن الله تعالى قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فشرط أن يكون من المؤمنين، وه لم يكن من المؤمنين، يريد أن"من" في {مِنْكُمْ} للاتصال، كقوله:"من غشنا فليس منا". وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، كالطوق في عنقه؛ لأنه قيد للمطلق، أي: فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدين فارجعوا إلى الكتاب والسنة.

ص: 290

مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وإنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وحُسْنَ مَآبٍ} 36 - 40]

قرئ: {الرِّيحَ} ، و (الرياح)، {رُخَاءً}: لينة طيبة لا تزعزع. وقيل: طيعة له لا تمتنع عليه، {حَيْثُ أَصَابَ}: حيث قصد وأراد. حكى الأصمعي عن العرب: أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن رؤبة: أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا، ورجعا. ويقال: أصاب الله بك خيرًا. {وَالشَّيَاطِنَ} عطف على {الرِّيحَ} ، و {كُلَّ بَنَّاءٍ} بدل من {وَالشَّيَاطِنَ} ، {وَآخَرينَ}: عطف على {كُلِّ} داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل: كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وهو أول من استخرج الدر من البحر، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. وعن السدي: كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع. والصفد القيد، وسمي به العطاء؛ لأنه ارتباط للمنعم عليه، ومنه قول علي رضي الله عنه: من برك فقد أسرك، ومن جفاك فقد أطلقك. وقول القائل: غل يدًا مطلقها، وأرق رقبة معتقها. وقال حبيب:

إن العطاء إسار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قريء: {الرِّيحَ} ، وهي المشهورة، و"الرياح": شاذة.

قوله: (في الجوامع)، الجوهري: الجامعة: الغل؛ لأنها تجمع اليدين إلى العنق.

قوله: (والصفد: القيد، وسمي به العطاء)، قال الزجاج: الأصفاد، هي: السلاسل من الحديد، وكل ما شددت به شدًا وثيقًا بالحديد وغيره فقد صفدته، وكل ما أعطيته عطاء جزيلًا فقد أصفدته، كأنك أعطيته ما ترتبطه به.

قوله: (إن العطاء إسار)، أوله لأبي تمام حبيب بن أوس:

ص: 291

وتبعه من قال:

ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدا

وفرقوا بين الفعلين؛ فقالوا: صفده: قيده، وأصفده: أعطاه، كوعده وأوعده، أي:{هَذَا} الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة {عَطَاؤُنَا} ، {بَغَيْرِ حِسَابٍ} ، يعني: جمًا كثيرًا لا يكاد يقدر على حسبه وحصره، {فَامْنُنْ} من المنة؛ وهي العطاء،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هممي معلقة عليك رقابها .... مغلولة إن العطاء إسار

الإسار: القيد، وهو مصدر أيضًا، يقال: أسرت الرجل أسرًا وإسارًا، والرواية في ديوانه:"إن الوفاء إسار" يقول: أحسنت إلي فصيرني إحسانك أسيرًا لك. قبله:

أيامنا مصقولة أطرفها .... بك والليالي كلها أسحار

ومودتي لك لا تعار بلى إذا .... ما كان تامور الفؤاد يعار

التامور: القلب، يقول: لا أعير مدتك سواك، كما أني لا أعير قلبي ودمي.

قوله: (وتبعه)، أي: المتنبي أخذ من هذا قوله:

وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدا

الذرة- بالفتح- كل ما استترت به، يقال: أنا في ظل فلان وفي ذراه، أي: في كنفه.

قوله: ({عَطَاؤُنَا}، {بَغَيْرِ حِسَابٍ})، قدم {بَغَيْرِ حِسَابٍ} على {فَامْنُنْ} ليشير إلى أن {بَغَيْرِ حِسَابٍ} متعلق بـ {عَطَاؤُنَا} ، والفاء في {فَامْنُنْ} للتفصيل أو جزاء شرط محذوف، و {أَوْ} للإباحة والتخيير، ولذلك قال:"مفوضًا إليك التصرف فيه". وعن بعضهم: {بَغَيْرِ حِسَابٍ} حال من {عَطَاؤُنَا} أي: هذا عطاؤنا واسعًا؛ لأن الحساب بمعنى: الكافي.

ص: 292

أي: فأعط منه ما شئت {أَوْ أَمْسِكْ} مفوضًا إليك التصرف فيه. وفي قراءة ابن مسعود: (هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب)؛ أو: هذا التسخير عطاؤنا، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب، أي: لا حساب عليك في ذلك.

[{واذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وشَرَابٌ * ووَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ * وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ ولا تَحْنَثْ إنَّا وجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} 41 - 44]

{أَيُّوبَ} عطف بيان، و {إِذْ} بدل اشتمال منه، {أَنِّي مَسَّنِيَ}: بأني مسني؛ حكايةً لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه؛ لأنه غائب. وقرئ:{بِنُصْبٍ} بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما، وضمهما، فالنصب والنصب: كالرشد والرشد، والنصب: على أصل المصدر والنصب: تثقيل نصب، والمعنى واحد؛ وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. وقيل: الضر في البدن، والعذاب في ذهاب الأهل والمال. فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحًا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو هذا التسخير عطاؤنا)، وعلى هذا {بَغَيْرِ حِسَابٍ} حال من الضمير في {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} والمعنى: غير محاسب عليك، و {أَوْ} للتنويع، ومن ثم أتى بالواو بدله، ويجوز الإباحة.

قوله: (وقرئ: {بِنُصْبٍ} بضم النون وفتحها)، المشهورة: بضم النون وسكون الصاد، والبواقي: شواذ.

قوله: (وقد نكبه)، الجوهري: النكبة: واحدة نكبات الدهر، تقول: أصابته نكبة،

ص: 293

أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببًا فيما مسه الله به من النصب والعذاب؛ نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك؛ حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه: من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروي: أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه، فقيل: ألقى إليه الشيطان: إن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين. وذكر في سبب بلائه: أن رجلًا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يعزه. وقيل: أعجب بكثرة ماله. {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} : حكاية ما أجيب به أيوب، أي: اضرب برجلك الأرض. وعن قتادة: هي أرض الجابية، فضربها، فنبعت عين فقيل:{هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وشَرَابٌ} أي: هذا ماء تغتسل به وتشرب منه، فيبرأ باطنك وظاهرك، وتنقلب ما بك قلبة. وقيل: نبعت له عينان، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله. وقيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها. {رَحْمَةً مِّنَّا وذِكْرَى} مفعول لهما. والمعنى: أن الهبة كانت للرحمة له

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونكب فلان فهو منكوب. والجابية: مدينة الشام، وقيل: فيها جباب كثيرة كانت في إقطاع إلى تمام.

قوله: (أي: هذا ماء تغتسل به)، الراغب: غسلت الشيء: أسلت عليه الماء فأزلت درنه، والغسل: الاسم، والغسل: ما يغسل به، والاغتسال: غسل البدن، والمغتسل: موضع يغتسل فيه.

قوله: (ما بك قلبة)، الأساس: قلبة: داء يتقلب منه على فراشه.

ص: 294

ولتذكير أولي الألباب؛ لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره، رغبهم في الصبر على البلاء وعاقبة الصابرين، وما يفعل الله بهم. {خُذْ} معطوف على {ارْكُضْ}. والضغث: الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن ابن عباس: قبضة من الشجر، كان حلف في مرضه ليضربن امرأته مئةً إذا برأ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها؛ لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وهذه الرخصة باقية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بمخدج، قد خبث بأمة، فقال:"خذوا عثكالًا فيه مئة شمراخ فاضربوه بها ضربة". ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المئة، إما أطرافها قائمةً، وإما أعراضها مبسوطةً مع وجود صورة الضرب. وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبةً في حاجة فخرج صدره. وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام. وقيل: قال لها الشيطان: اسجدي لي سجدةً فأرد عليكم مالكم وأولادكم، فهمت بذلك فأدركتها العصمة، فذكرت ذلك له، فحلف. وقيل: أوهمها الشيطان أن أيوب إذا شرب الخمر برأ، فعرضت له بذلك. وقيل: سألته أن يقرب للشيطان بعناق. {وَجَدْنَاهُ صّابِرًا} : علمناه صابرًا. فإن قلت: كيف وجده صابرًا وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عز وعلا لا تسمى جزعًا، ولقد قال يعقوب عليه السلام:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب؛ وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بمخدج)، أي: ضعيف ناقص البدن.

النهاية: الخداج، النقصان، يقال: خدجت الناقة: إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق. "العثكال": العذق، وكل غصن من أغصانه شمراخ، وهو الذي عليه البسر.

قوله: (ويجب أن يصيب) إلى آخره، وقيل: الصواب لا يجب، بل إن أصابه ثقل الجميع بأن ينكس عليه الشمراخ كفى.

ص: 295

وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابرًا مع تمني العافية وطلب الشفاء، فليسم صابرًا مع اللجأ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به، ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم كما كان يوسوس إليه أنه لو كان نبيًا لما ابتلي بمثل ما ابتلي به؛ وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى: أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يهبني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيًا ومعي جائع أو عريان؛ فكشف الله عنه.

[{واذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ * إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} 45 - 47]

{إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ} : عطف بيان لـ {عِبَادَنَا} ، ومن قرأ:(عبدنا) جعل {إبْرَاهِيمَ} وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على (عبدنا)؛ وهي: إسحاق ويعقوب، كقراءة ابن عباس:{وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]. لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي؛ غلبت، فقيل في كل عمل: هذا مما عملت أيديهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولم يهبني)، من الهبة والروع وهو كناية عن التعظيم والإعجاب، قال الشاعر:

بدا فراع فؤادي حسن منظره

قوله: (ومن قرأ: "عبدنا")، وهو ابن كثير.

قوله: (جعل {إبْرَاهِيمَ} وحده عطف بيان)، قال مكي: فيكون إبراهيم داخلًا في العبودية والذكر، {وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ} داخلان في الذكر لا غير، وهما داخلان في العبودية بغير هذه الآية.

ص: 296

وإن كان عملًا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمال جذمًا لا أيدي لهم وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا:{أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ} يريد: أولي الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات، ولا يستبصرون؛ في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما. وقرئ:(أولي الأيادي) على جمع الجمع. وفي قراءة ابن مسعود: (أولي الأيد) على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة. وتفسيره بالأيد- من التأييد- قلق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتفسيره بالأيد- من التأييد- قلق)، يريد قول الزجاج: ومن قرأ: "أولي الأيد" بغير ياء، فمعناه: من التأييد والتقوية على الشيء، وإنما كان قلقًا؛ لأنه لا يلائم الأبصار. قال: الأبصار: جمع البصر، وهي الجارحة، والمراد ها هنا البصيرة، فإذا لم يجعل {الْأَيْدِي} جمع اليد المراد بها العمل لم يتطابقا لفظًا ولا معنى، ولأن التأييد من أفعال الله تعالى وهو لفظه وتوفيقه.

وقال ابن جني: وهي قراءة الحسن والثقفي والأعمش، ويحتمل أن يراد بها {الْأَيْدِي} على قراءة العامة، فحذف الياء تخفيفًا، كقوله تعالى:{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6]، فيراد القوة في إطاعة الله، والعمل بما يرضيه، لقراءته بالأبصار، أي: البصر بما يحظى عند الله، فـ {الْأَيْدِي} على هذا جمع اليد التي هي القوة، كقولك: له يد في الطاعة وقدم في المتابعة، فالمعنيان واحد، وهو: البصيرة والنهضة في طاعة الله تعالى. وقال الشماخ:

إذا ما راية رفعت لمجد .... تلقاها عرابة باليمين

فلما جعلوا اليد عبارة هن القوة، أغرق فيه وجعل اليمين عبارة عنها؛ لأنها أقوى من الشمال، ويحتمل أن يراد بها النعمة والتأييد، هذا خلاصة كلام ابن جني.

ص: 297

غير متمكن {أَخْلَصْنَاهُم} : جعلناهم لنا خالصين {بِخَالِصَةٍ} : بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثم فسرها بـ {ذِكْرَى الدَّارِ} شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتقاء الكدورة عنها. وقرئ على الإضافة. والمعنى: بما خلص من ذكرى الدار،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ثم فسرها {ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46]، أو شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء، هذا كقوله في إبدال {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، بقوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ} [الفاتحة: 7]، الإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، إلى آخره.

وقال الزجاج وأبو البقاء: يجوز أن يكون {ذِكْرَى الدَّارِ} بدلًا من"خالصة".

وقال القاضي: المعنى أن مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه، وذلك في الآخرة، وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار الحقيقية، والدنيا معبر. وأضاف نافع"خالصة" إلى {ذِكْرَى} للبيان.

وقال أبو البقاء: والإضافة من باب إضافة الشيء إلى ما يبينه لأن الخالصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى، والخالصة مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: بإخلاصهم ذكرى الدار، وقيل: بمعنى خلوص، فالإضافة إلى الفاعل، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار.

وعن بعضهم: "خالصة" اسم فاعل، تقديره: بخالص ذكرى الدار، أي: خالص أن يشاب بغيره، وقرئ بتنوين"خالصة"، فيجوز أن يكون {ذِكْرَى} في موضع نصب مفعول"خالصة"، أو على إضمار: أعني، وأن يكون في موضع رفع فاعل"خالصة"، أو على تقدير: في {ذِكْرَى} . والمصنف اختار أن يكون مضافًا إلى المفعول له، لقوله:"إنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهم آخر".

ص: 298

على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهم آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير. ومعنى {ذِكْرَى الدَّارِ}: ذكراهم الآخرة دائبًا، ونسيانهم إليها ذكر الدنيا. أو: تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، وتزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء وديدنهم. وقيل:{ذِكْرَى الدَّارِ} : الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. فإن قلت: ما معنى {أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ} ؟ قلت: معناه: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة، وبأنهم من أهلها. أو: أخلصناهم بتوفيقهم لها، واللطف بهم في اختيارها. وتعضد الأول قراءة من قرأ:(بخالصتهم). {المُصْطَفَيْنَ} : المختارين من بين أبناء جنسهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ونسيانهم إليها)، ضمن النسيان معنى: الضم، يعني: معنى {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} ذكراهم الآخرة منضمًا إليها نسيان ذكر الدنيا، أي: هم مستغرقون في ذكر الآخرة مشتغلون بها عن ذكر الدنيا.

قوله: (وقيل: {ذِكْرَى الدَّارِ} الثناء الجميل في الدنيا)، قال أبو البقاء: إضافة "الذكرى" إلى" الدار" في المعنى ظرف، أي: ذكرهم في الدار الدنيا، وهو: إما مفعول به على السعة نحو: "يا سارق الليلة"، أو على حذف حرف الجر نحو:"ذهبت الشام".

وقال الجوهري: الذكر والذكرى نقيض النسيان، وذكرت الشيء بعد النسيان وذكرته بلساني وبقلبي، والذكر: الصيت والثناء.

فقول المصنف: "ومعنى: {ذِكْرَى الدَّارِ} ذكراهم الآخرة دائبًا" مبني على أن الذكرى نقيض النسيان، لقوله:"ونسيانهم إليها ذكرى الدنيا". وقوله: "أو تذكيرهم الآخرة" على أنها من الذكر اللساني، لقوله:"هو شأن الأنبياء وديدنهم". وقوله: " الثناء الجميل في الدنيا" على أن"الذكرى": الصيت والثناء.

قوله: (وتعضد الأول)، أي: على تكون التاء للسببية، والمعنى: أنهم من أهلها، أي: هذه الخصلة لهم وحقهم، وتضاف إليهم كما أضيفت في هذه القراءة لا أن تكون

ص: 299

و {الْأَخْيَارِ} جمع خير، أو: خير على التخفيف؛ كالأموات في جمع ميت أو ميت.

[{واذْكُرْ إسْمَاعِيلَ والْيَسَعَ وذَا الكِفْلِ وكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ} 48]

{والْيَسَعَ} كأن حرف التعريف دخل على يسع. وقرئ: (والليسع)، كأن حرف التعريف

دخل على ليسع، فيعل من اللسع. والتنوين في {وكُلٌّ} عوض من المضاف إليه، معناه: وكلهم من الأخيار.

[{هَذَا ذِكْرٌ وإنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وشَرَابٍ * وعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} 49 - 52]

{هَذَا ذِكْرٌ} أي: هذا نوع من الذكر؛ وهو القرآن. لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل، ونوع من أنوعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابًا آخر؛ وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بتوفيقهم، أي: أخلصناهم بتوفيقنا إياهم لها، ويعضد الوجه الثاني قوله:{أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ} لما وصفوا بأنهم أولو الأعمال والفكر، علل بأن ذلك من توفيق الله وتسديده، ولو قيل: إنهم أولو الأعمال والفكر وأصحاب البصائر والنظر؛ لأنًا اخلصناهم لنا بسبب هذا الذكر والفكر، لم يحسن ذلك الحسن.

قوله: (وقرئ: "والليسع")، قرأها حمزة والكسائي، ودخول حرف التعريف عليه نحو قولهم:

رأيت الوليد بن اليزيد

في "الموضح".

ص: 300

ذكر الجنة وأهلها؛ قال: {هَذَا ذِكْرٌ} ، ثم قال:{وإنَّ لِلْمُتَّقِينَ} كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وقد كان كيت وكيت؛ والدليل عليه: أنه لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار؛ قال: {هَذَا وإنَّ لِلطَّاغِينَ} [ص: 55]. وقيل: معناه: هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبدًا. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هذا ذكر من مضى من الأنبياء. {جَنَّاتِ عَدْنٍ} معرفة لقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61]، وانتصابها على أنها عطف بيان لـ {لَحُسْنَ مَآبٍ} . {مُّفَتَّحَةً} حال، والعامل فيها ما في {لِلْمُتَّقِينَ} من معنى الفعل. وفي {مُّفَتَّحَةً} ضمير "الجنات"، و {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب، كقولهم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: معناه: هذا شرف)، {هَذَا} مبتدأ و {ذِكْرٌ} خبر، فالمناسب أن الذكر إذا أريد به القرآن يكون بمعنى التذكير والشرف، وإذا أريد به ذكر من مضى من الأنبياء يكون بمعنى الذكر المتعارف على ما مضى في قوله:{ذِكْرَى الدَّارِ} .

قوله: (لقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ})، يعني: أن "عدنًا" علم، بدليل وصفه بالموصوف.

قوله: (وفي {مُّفَتَّحَةً} ضمير "الجنات"، و {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير)، قال أبو البقاء: أما ارتفاع {الأَبْوَابُ} ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو فاعل {مُّفَتَّحَةً} ، والعائد محذوف، أي: مفتحة لهم الأبواب منها. والثاني: هي بدل من الضمير في {مُّفَتَّحَةً} ، وهو ضمير "الجنات" و {الأَبْوَابُ} غير أجنبي منها؛ لأنها من الجنة وقد يقال:"فتحت الجنة" يراد أبوابها {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19]، وقيل: إن من شرط إعمال الصفة أن يكون في السبب دون الأجنبي. والثالث: كالأول إلا أن الألف واللام بدل من الهاء العائدة، وفيه بعد، وهو قول الكوفيين.

ص: 301

ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. وقرئ:(جنات عدن مفتحة)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الزجاج: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} منها، أجود من أن تجعل الألف واللام بدلًا من الضمير لأن معنى اللام ليس من الضمير في شيء، ولأن الحرف لا يبدل من الاسم.

وقال أبو علي في "الإغفال": لا يخلو الألف واللام من أن يكون للتعريف أو بدلًا من الضمير، كما في قوله: حسن الوجه، فلو كان الثاني لوجب أن يكون في {مُّفَتَّحَةً} ضمير {جَنَّاتٍ} كما في قولنا: مررت برجل حسن الوجه، ضمير الرجل، بدليل قولنا: مررت بامرأة حسنة الوجه، ولو كان في {مُّفَتَّحَةً} ضمير " الجنات" لوجب أن تنتصب {الأَبْوَابُ} ، كقوله: الشعرى رقابًا والعقور كلبًا، ولا يرتفع؛ لا متناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد على وجه الاشتراك، فما لم ينتصب دل على خلو الضمير، فإذا لم يكن مثل "حسن الوجه"، فلا تكون اللام إلا للتعريف فيحتاج حينئذ ألى ضمير يرجع إلى الموصوف لنحو "منها" و {فِيهَا} ، هكذا ينبغي أن يرد قولهم، لا كما قال الزجاج: إن معنى اللام ليس من الضمير في شيء، فإنه يجبيء في معناه، كما في "حسن الوجه" لقولهم: الحسن الوجه، والحسن وجهه، فأدخلوا اللام في المعنيين كما أدخلوا فيه الضمير، ألا تراهم: إن التنوين بدل من المضاف إليه ويقولون: الضارب زيد. وقال أبو علي أيضًا: يجوز أن يكون {الأَبْوَابُ} بدلًا من الضمير الذي في {مُّفَتَّحَةً} ، كقولك: جاءني القوم بعضهم؛ لأن الأبواب من الجنة؟

قوله: (ضرب زيد اليد والرجل)، روي عن المصنف أنه قال: الجار مع المجرور في حكم الظرف، كأنه قيل: جنات عدن استقرت للمتقين حال كونها مفتحة لهم الأبواب، {الأَبْوَابُ}: بدل الاشتمال، واليد والرجل: بدل البعض من الكل، فإنما يستشهد به من حيث إنه ليس فيه ضمير راجع إلى زيد، كما أنه ليس في {الأَبْوَابُ} ضمير راجع إلى "الجنات"، قال أبو علي: من قدر: "مفتحة أبوابها"، إن أراد إفهامها المعنى فإنه لا بد من تقدير شيء ليرجع إلى الموصوف فيستقيم، وإن أراد أن الألف واللام في {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير؛ فغير مستقيم.

ص: 302

بالرفع، على أن (جنات عدن) مبتدأ، و (مفتحة) خبره، أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي: هو جنات عدن هي مفتحة لهم. كأن اللدات سمين أترابًا؛ لأن التراب مسهن في وقت واحد، وإنما جعلن على سن واحدة؛ لأن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هن أتراب لأزواجهن، أسنانهن كأسنانهم.

[{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحِسَابِ * إنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} 53 - 54]

قرئ: {تُوعَدُونَ} بالتاء والياء {لِيَوْمِ الحِسَابِ} : لأجل يوم الحساب، كما تقول: هذا ما تدخرونه ليوم الحساب، أي: ليوم تجزى كل نفس ما عملت.

[{هَذَا وإنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال ابن الحاجب: وفي {مُّفَتَّحَةً} ضمير "الجنات"، و {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير؛ بدل الاشتمال كما تقول: فتحت الجنة أبوابها، والأبواب منها فحذف الضمير للعلم به، كما تقول: ضرب زيد الرأس والظهر.

وقال أبو البقاء: {مُتَّكِئِينَ} حال من المجرور في {لَهُمْ} ، والعامل {مُّفَتَّحَةً} ، ويجوز أن يكون حالًا من "المتقين"، لأنه قد أخبر عنهم قبل الحال، وقيل: هو حال من الضمير في {يَدْعُونَ} وقد تقدم على العامل.

قوله: (كأن اللدات سمين أترابًا)، الجوهري: لدة الرجل: تربه، والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة، وهما لدان والجمع: لدات ولدون، وقولهم: هذه، أي: لدتها. وهن أتراب.

قوله: (قرئ: {تُوعَدُونَ} بالتاء والياء)، بالياء التحتانية: ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بالتاء.

ص: 303

وغَسَّاقٌ * وآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} 55 - 61]

{هَذَا} أي: الأمر هذا، أو: هذا كما ذكر. {فَبِئْسَ المِهَادُ} ، كقوله:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم، أي: هذا حميم فليذوقوه. أو: العذاب هذا فليذوقوه، ثم ابتدأ فقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({هَذَا}، أي: الأمر هذا، أو: هذا كما ذكر)، أي:{هَذَا} إما خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف، والأول من فصل الخطاب دون الثاني، وقوله تعالى:{جَهَنَّمَ} بدل من "شر"، و {يَصْلَوْنَهَا} حال، والعامل فيه الاستقرار في قوله:{لِلطَّاغِينَ} وقيل: التقدير: يصلونها جهنم، فحذف الفعل لدلالة ما بعده عليه.

قوله: (أي: هذا حميم فليذوقوه)، ذكر فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: {هَذَا} مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بفعل مضمر على شريطة التفسير. قال مكي: قيل: {فَلْيَذُوقُوهُ} خبر {هَذَا} ودخلت الفاء للتنبيه الذي في {هَذَا} ، ويجوز أن يكون {هَذَا} في موضع نصب بـ"يذوقوا" والفاء زائدة، كقولك: هذا زيد فاضربه، ولولا الفاء لكان الاختيار النصب؛ لأنه أمر فهو بالفعل أولى.

وقال صاحب "الكشف": جوز أبو علي أن يكون {هَذَا} مبتدأ، والخبر {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} صفة لـ {حَمِيمٌ} وليس بنوع آخر، فيكون قوله:{فَلْيَذُوقُوهُ} عنده اعتراضًا، كما تقول: زيد- فافهم- رجل صالح.

قال أبو علي: هو مثل قول الشاعر:

ص: 304

هو {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} . أو: هذا فليذوقوه، بمنزلة {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] أي: ليذوقوا هذا فليذوقوه. والغساق: بالتخفيف والتشديد: ما يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين؛ إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحره، والغساق يحرق ببرده.

وقيل: لو قطرت قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق. وعن الحسن رضي الله عنه: الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى، إن الناس أخفوا الله طاعةً فأخفى لهم ثوابًا في قوله:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وأخفوا معصيةً فأخفى لهم عقوبة. (وأخر): ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة. {أَزْوَاجٌ} :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خولان فانكح فتاتهم

حمله سيبويه على أن "خولان" حملة، وكأنه قال: هؤلاء خولان، فالمعنى على هذا: أنبه- أو أشير- إلى الذي توعدوه من قبل وعرفوه حق معرفته {فَلْيَذُوقُوهُ} .

قوله: (والغساق: بالتخفيف والتشديد)، بالتشديد: حفص وحمزة والكسائي.

الراغب: الغساق: ما يقطر من جلود أهل النار.

قوله: ("وأخر": ومذوقات أخر)، قال مكي: و {مِنْ شَكْلِهِ} صفة لـ {آخَرُ} و {أَزْوَاجٌ} الخبر، والهاء في {شَكْلِهِ} يعود على المعنى، أي: وآخر من شكله ما ذكرنا،

ص: 305

أجناس. وقرئ: {وَآخَرُ} : أي: وعذاب آخر، أو: مذوق آخر. و {أَزْوَاجٌ} : صفة لـ {وَآخَرُ} ؛ لأنه يجوز أن يكون ضروبًا، أو صفة للثلاثة، وهي: حميم، وغساق، وآخر. {مِنْ شَكْلِهِ} وقرئ:(من شكله) بالكسر، وهي لغة، وأما الغنج فبالكسر لا غير. {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ}: هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أي: دخل النار في صحبتكم وقرانكم. والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها. والقحمة: الشدة. وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض، أي: يقولون هذا. والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب {لا مَرْحَبًا بِهِمْ}: دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له: مرحبًا، أي: أتيت رحبًا من البلاد لا ضيقًا، أو: رحبت بلادك رحبًا، ثم تدخل عليه "لا" في دعاء السوء. و {بِهِمْ} بيان للمدعو عليهم، {إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم، ونحوه قوله تعالى:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38]. وقيل: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} : كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم، و {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} كلام الرؤساء. وقيل: هذا كله كلام الخزنة. {قَالُوا} أي: الأتباع: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقولهم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: يعود على الحميم، ويجوز أن يكون الخبر محذوفًا، أي: ولهم آخر، ومن {شَكْلِهِ} و {أَزْوَاجٌ} صفتان، ومن قرأ:{آخَرَ} بالتوحيد رفعه بالابتداء أيضًا، و {أَزْوَاجٌ} مبتدأ ثان، و {مِنْ شَكْلِهِ} خبر الأزواج، والجملة خبر "آخر". ويجوز أن يكون "آخر" معطوفًا على {حَمِيمٌ} ، و {مِنْ شَكْلِهِ} نعت له، و {أَزْوَاجٌ} يرتفع بالجار، ولا يحسن أن يكون {أَزْوَاجٌ} خبرًا عن " آخر"؛ لأن الجمع لا يكون خبرًا عن الواحد.

قوله: (وأما الغنج فبالكسر لا غير)، يعني:"الشكل" بالفتح، والكسر: المثل، وأما الذي بمعنى الغنج فبالكسر لا غير. الجوهري: الشكل؛ بالفتح: المثل، وبالكسر: الدل، يقال: امرأة ذات شكل.

قوله: ({بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ})، {مِرْحَبًا بِهِمْ} دعاء منهم. وقال أبو البقاء:{لا مَرْحَبًا}

ص: 306

{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} ، والضمير للعذاب أو لصليهم. فإن قلت: ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلت: المقدم هو عمل السوء، قال الله تعالى:{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 50 - 51]، ولكن الرؤساء لما كانوا السبب فيه بإغوائهم، وكان العذاب جزاءهم عليه؛ قيل:{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} ، فجعل الرؤساء هم المقدمين، وجعل الجزاء هو المقدم، فجمع بين مجازين؛ لأن العاملين هم المقدمون في الحقيقة لارؤساؤهم، والعمل هو المقدم لا جزاؤه. فإن قلت: فالذي جعل قوله: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} من كلام الخزنة ما يصنع بقوله: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يجوز أن يكون مستأنفًا وأن يكون حالًا، أي: هذا مقولًا له: {لا مَرْحَبًا} ، و {مَرْحَبًا} منصوب على المصدر، أو على المفعول، أي: لا تسمعون مرحبًا. وقوله تعالى: {مَّعَكُمْ} يجوز أن يكون حالًا من الضمير في {مُقْتَحِمٌ} أو من {فَوْجٌ} ؛ لأنه قد وصف، ولا يجوز أن يكون ظرفًا لفساد المعنى، ولا يجوز أن يكون نعتًا ثانيًا.

قوله: (فجمع بين مجازين)، المجاز الأول في الإسناد:(هم)؛ لأن المقدمين هم الأتباع، فجعل الرؤساء هم المقدمين، ولما كانوا السبب في الإغراء أسند الفعل إليهم. والثاني: العمل هو المقدم، فجعل المقدم الجزاء، وهو من إطلاق اسم المسبب على السبب.

قوله: (فالذي جعل قوله: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} من كلام الخزنة ما يصنع بقوله: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ}؟ ) يعني: قد سبق أن الرؤساءإذا قالوا لأجل الأتباع: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} دعاء عليهم، صح أن يجيبهم الأتباع بقوله:{بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} وإذا كان {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} كلامًا للخزنة فكيف يكون هذا جوابًا لهم؟ وأجاب: أن الأتباع إذا سمعوا من الخزنة هذا الدعاء أقبلوا على رؤسائهم قائلين: يا رؤساء السوء أنتم أحق به منا لإغوائكم إيانا.

ص: 307

والمخاطبون - أعني رؤساءهم- لم يتكلموا بما يكون هذا جوابًا لهم؟ قلت: كأنه قيل: هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا؛ لإغوائكم إيانًا وتسببكم فيما نحن فيه من العذاب، وهذا صحيح كما لو زين قوم لقوم بعض المساوئ فارتكبوه، فقيل: للمزينين: أخزى الله هؤلاء ما أسوأ فعلهم! فقال المزين لهم للمزينين: بل أنتم أولى بالخزي منا؛ فلولا أنتم لم نرتكب ذلك. {قَالُوا} هم الأتباع أيضًا: {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا} أي: مضاعفًا، ومعناه: ذا ضعف، ونحوه قوله تعالى:{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} [الأعراف: 38]، وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين، كقوله عز وجل:{رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68]، وجاء في التفسير:{عَذَابًا ضِعْفًا} [ص: 61]: حيات وأفاعي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فقيل للمزينين)، يروى بكسر الياء وفتحها، فتقدير الفتح: المزين لهم، أي: الذين زين الفعل لهم، و"لهم" صلته بنزع الخافض، وهذا أوفق للمستشهد له؛ لأن الذين قيل في حقهم:{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} وهم الأتباع كالمزينين، أي: المزين لهم، وهم الذين قالوا للرؤساء:{لا مَرْحَبًا بِكُمْ} ، والمتبوعون كالمزينين؛ بالكسر.

قوله: {قَالُوا} هم الأتباع أيضًا)، أي: القائلون لقوله: {مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا} هم الأتباع أيضًا. قال أبو البقاء: {مَن قَدَّمَ} هي بمعنى: "الذي"، و {فَزِدْهُ} الخبر، ويجوز أن يكون {مَنْ} نصبًا، أي: فزد من قدم.

وقلت: فعلى هذا يكون منصوبًا على شريطة التفسير، والأتباع لما كافحوا الرؤساء بقولهم:{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} وصلوا به متضرعين: ربنا فزد من قدم لنا هذا، ثم عطفوا عليه {فَزِدْهُ} أي: زيادة غب زيادة من غير انقطاع.

قوله: (كقوله: {رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68])، يعني: وصف العذاب بالضعف في الآيتين على معنى: مضاعفًا، وذا ضعف، وفي الآية الثالثة بين ضعفين

ص: 308

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقوله: {مِنَ الْعَذَابِ} ليدل على أن المراد بالضعف: أن يزاد على عذابه مثله؛ لأن القصة واحدة، وأنه من كلام الأتباع للرؤساء. وقيل: بل الصواب أن تقول: إذا زيد عليه ضعفه يصير أضعافًا لا ضعفيه، فإن ضعف الشيء مثلاه، وضعفيه ثلاثة أمثاله، وهو الموافق لقوله تعالى:{فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} وإذا زاد على عذابهم ضعفًا فيكون قد أتاهم ضعفين فتطابق قوله في موضع آخر: {رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68]، ونحمد الله على التوفيق لاستخراج المعاني الدقيق.

وقلت: نظير هذا البحث ذكره صاحب" المغرب"، وقد ذكرناه ولا باس أن نعيده ها هنا، قال: روى أبو عمرو عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] قال: معناه: جعل الواحد ثلاثة أي: تعذب ثلاثًا أعذبة. وأنكره الأزهري وقال: هذا هو الذي يستعمله الناس في كلامهم ومتعارفهم، وإنما الذي قال الحذاق: إنما تعذب مثلي عذاب غيرها؛ لأن الضعف في كلام العرب: المثل إلى ما زاد، وليست تلك الزيادة بمقصورة على مثلين فيكون ما قال أبو عبيدة صوابًا، وبهذا علم أن ما قاله الفقهاء غير مرضي، ألا ترى كيف صرح بقوله يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين، أي: مثلين؟

الراغب: الضعف: من الألفاظ المتضايفة كالنصف والزوج، وهو تركب زوجين متساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل: أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته: ضممت إليه مثله فصاعدًا. والضعف: مصدر، والضعف: اسم، كالمثنى والثني، فضعف المثنى هو الذي يثنيه، ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد ومثله نحو أن يقال: ضعف العشرة فذلك عشرون بلا خلاف، وإذا قيل: أعطه ضعفي واحد، فإن ذلك يقتضي الواحد ومثليه وذلك ثلاثة؛ لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه، هذا إذا كان الضعف مضافًا، فإذا لم يكن مضافًا فقلت: الضعفين، قيل: ذلك يجري مجرى الزوجين في أن كلا منهما يزاوج الآخر

ص: 309

[{وقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} 62 - 63]

{وقَالُوا} الضمير للطاغين، {رِجَالًا} يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم، {مِّنَ الأَشْرَارِ}: من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى؛ ولأنهم كانوا على خلاف دينهم، فكانوا عندهم أشرارًا. {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لـ {رِجَالًا} مثل قوله:{كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ} ؛ وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم. وقوله: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} له وجهان من الاتصال؛ أحدهما: أن يتصل بقوله: {مَا لَنَا} أي: ما لنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها؟ قسموا أمرهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيقتضي ذلك اثنين لأن كلا منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان عن الاثنين، بخلاف إذا أضيف الضعفان إلى واحد فيثلثهما، نحو: ضعفين الواحد.

قوله: (لا يؤبه لهم)، أي: لا يبالى بهم. الأساس: لا يؤبه به، وما أبهمت له.

قوله: ({أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} قرئ بلفظ الإخبار)، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي:{مِّنَ الأَشْرَارِ * اتَّخَذْنَاهُمْ} بوصل الألف، وإذا ابتدؤوا كسروها. والباقون: بقطعها في الحالين مستفهمين.

قوله: (وتأنيب لها، الجوهري: أنبه تأنيبًا، عنفه ولامه. وقال: التأنيب، التوبيخ، حقيقته أنه مأخوذ من الإناب وهو: المسك، مكأنه بالتوبيخ بزيل عنه الطيب والإناب، فإنه يقدح فيه ويعد عليه العيوب والجنايات.

قوله: (قسموا أمرهم) أي: قسم الطاغون أمر الرجال بين أن يكونوا من أهل الجنة

ص: 310

بين أن يكونوا من أهل الجنة، وبين أن يكونوا من أهل النار، إلا أنه خفي عليهم مكانهم. والوجه الثاني: أن يتصل بـ {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} ، إما أن تكون {أَمْ} متصلة على معنى: أي: الفعلين فعلنا بهم: الاستسخار منهم، أم ازدراءهم وتحقيرهم، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم؟ على معنى أنكار الأمرين جميعًا على أنفسهم. وعن الحسن: كل ذلك قد فعلوا: اتخذوهم سخريًا، فزاغت عنهم أبصارهم محقرةً لهم. وإما أن تكون منقطعة بعد مضي {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} على الخبر أو الاستفهام،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبين أن يكونوا من أهل النار، فعلى هذا: المناسب أن يكون {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} إخبارًا صفة لـ {رِجَالًا} .

قوله: (تعلو عنهم)، أي: تحقرهم. الأساس: اعل عني: تنح عني، وعال عن الوسادة واعل عنها، قال:

فيا حب ليلى اعل عني قتلتني .... وأعقب بإنسان صحيح مكانيا

قوله: (على الخبر أو الاستفهام)، التعريف في"الخبر" للعهد، و"الاستفهام" للعهد والمعهود قوله:" {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا}، قرئ بلفظ الإخبار"، إلى قوله:"وبهمزة الاستفهام"، أما المعنى على الخبر فإنهم أخبروا عن أنفسهم وسوء صنيعهم بالمسلمين من الاستهزاء والسخرية على سبيل الندم والتحسر، ثم أضربوا عن الإخبار بالأخذ في الإنكار وتأنيب أنفسهم، يعني: لم يكن موضع الإخبار؛ بل هو موضع الإنكار، أزاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حيث ازدرينا بهم واستسخرنا منهم؟ فهو كقولك: إنها لإبل أم شاء، وأما على الاستفهام: فإنهم أنكروا أولًا على أنفسهم الاستسخار منهم ثم أضربوا عنه وأنكروا على أنفسهم أبلغ من ذلك، أي: دع ذلك، أزاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حيث خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين ونحن على الباطل وما تبعناهم؟ فهو كقولك: أزيد عندك؟ أم عندك عمرو؟ فالمثالان في الكتاب نشر لقوله: "على الخبر أو الاستفهام".

ص: 311

كقولك: إنها لإبل أم شاء؟ و: أزيد عندك أم عندك عمرو؟ ولك أن تقدر همزة الاستفهام محذوفةً فيمن قرأ بغير همزته؛ لأن {أَمْ} تدل عليها، فلا تفترق القراءتان: إثبات همزة الاستفهام وحذفها. وقيل: الضمير في {وَقَالُوا} لصناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما، والرجال: عمار وصهيب وبلال وأشباههم. وقرئ: {سِخْرِيًّا} بالضم والكسر.

[{إنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} 64]

{إنَّ ذَلِكَ} أي: الذي حكينا عنهم {لَحَقٌّ} لا بد أن يتكلما به، ثم بين ما هو فقال: هو {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} . وقرئ بالنصب على أنه صفة لـ {ذَلِكَ} ؛ لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. فإن قلت: لم سمي ذلك تخاصمًا؟ قلت: شبه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: الضمير في {وَقَالُوا} لصناديد قريش)، عطف على قوله:" {وَقَالُوا} الضمير للطاغين"، فعلى هذا يلزم الإضمار قبل الذكر وحذم النظم، ولا يجوز أن يختص قوله:{لِلطَّاغِينَ} بصناديد قريش؛ لأنه في مقابل قوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} وهو عام.

قوله: (وقرئ: {سِخْرِيًّا} بالضم والكسر)، بالضم: نافع وحمزة والكسائي، والباقون: بالكسر.

قوله: (لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس)، هذا مناقض لقوله في"المفضل": اسم الإشارة لا يوصف إلا بما فيه الألف واللام.

قال صاحب" التقريب": {تَخَاصُمُ} بدل من {ذَلِكَ} ، لا صفة لاسم الإشارة؛ إنما يوصف بما فيه الألف واللام. وقال ابن الحاجب: إنما التزم وصف باب {هَذَا} بذي اللام للإبهام، يعني: أن المبهم يدل على الحضور والتعيين، ولم يدل على حقيقة الذات التي أشير به إليها، فلا بد أن يذكر بعده ما يدل على حقيقة الذات، ولا طريق له إلا وصفه به،

ص: 312

تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك؛ ولأن قول الرؤساء: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} ، وقول أتباعهم:{بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} ، من باب الخصومة، فسمي التقاول كله تخاصمًا؛ لأجل اشتماله على ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فوصفه بما يدل على خصوصية الذات، قبل وصفه بما يدل على معنى الذات، هو القياس، والأسماء الدالة على حقيقة الذوات هي أسماء الأجناس لا العلم ونحوه، وتعريفها باعتبار معناها في نفسها إنما هو باللام. قال بعض المغاربة: وذلك أن اللام معرفة لحقيقة الذات بخلاف الإضافة، فإن تأثيرها في اختصاص حقيقة الذات بالمضاف إليه وذلك بعد تعرف حقيقة الذات.

وقلت: هاهنا سيء آخر، وهو الفصل بين اسم الإشارة وصفته بالخبر، وهو غير جائز.

وقال صاحب"المقتبس": ومن المسائل في هذا النحو لا يجوز أن تقول: مررت بهذا يوم الجمعة الرجل، ويجوز: مررت بزيد يوم الجمعة العاقل، والفرق: أن اتصال الصفة بالمبهم أشد من اتصالها بسائر الموصوفات؛ لأن اسم الإشارة واسم الجنس كالشيء الواحد من جهة أن المقصود بهما جميعًا ما يقصد من الأسماء، ومنه امتنع: مررت بهذين العاقل والطويل، وجاز: مررت بالزيدين العاقل والطويل؛ لأن صفة غير اسم المبهم ليست في الامتزاج كالمبهم، قالوا: ولذلك لم يجز أيضًا نحو قولك: مررت بهذا ذي المال؛ لأن ذلك يؤدي إلى جعل ثلاثة أشياء شيئًا واحدًا، وإنه مرفوض. ومما مثلوا أيضًا لا تقول: لقيت هذا والخطوب كثيرة الرجل، وقريب من الفصل الأول في شرح الركني.

قوله: (ولأن قول الرؤساء: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} وقول أتباعهم: {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} من باب الخصومة)، الانتصاف: هذا يوافق التخاصم؛ لأن الخصومة من الجبهتين، خلافًا لمن قال: إن الكلام الأول من كلام خزنة جهنم، والثاني من كلام الأتباع؛ لأن الخصومة حينئذ من أحد الفريقين. والجواب ما سيجيء في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ} .

ص: 313

[{قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ ومَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ} 65 - 66]

{قُلْ} يا محمد لمشركي مكة: ما {أَنَا} إلا رسول {مُنذِرٌ} : أنذركم عذاب الله للمشركين، وأقول لكم: إن دين الحق توحيد الله، وأن يعتقد أن لا إله إلا الله {الوَاحِدُ} بلا ند ولا شريك {القَهَّارُ} لكل شيء، وأن الملك والربوبية له في العالم كله، وهو {العَزِيزُ} الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة، وهو مع ذلك {الغَفَّارُ} لذنوب من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({قُلْ} يا محمد لمشركي مكة: {أَنَا} إلا رسول {مُنذِرٌ})، يعني: هذه الآية متعلقة بأول السورة، فإنه تعالى لما أقسم بقوله: ص، إن القرآن حق، وإن محمدًا صلوات الله عليه لصادق، ثم أنكر على مشركي مكة عزتهم وشقاقهم وقولهم:{هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]، وتعجبهم من كونه منذرًا وأن الإله واحد، وعد قبائحهم وعنادهم وحسدهم، ثم استهزأ بهم بقوله:{فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} ثم خسأهم وأنهم جند ما هنالك مهزوم من جنس الأحزاب الخالية الذين كذبوا رسلهم فأهلكهم الله، وفصل ذكر الأنبياء مسليًا لحبيبه صلوات الله عليه ومستصبرًا له، كل ذلك تمهيدًا للأمر بالإنذار والبشارة والدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وتوطئة له، فقال:{قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} ويدل عليه قوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} وإنما قرن مع"المنذر" الرسول في الوجه الأول دون الثاني؛ لأن المنذر إذن كناية عن كونه رسولًا، فلا يكون رسولًا إلا أن يكون منذرًا ومبشرًا، ولهذا عطف قوله:"وأقول لكم: إن دين الحق توحيد الله" على"أنذركم"، وفسره بقوله:"وأن يعتقد أن لا إله إلا الله" إلى قوله: "وهو مع ذلك الغفار لذنوب من التجأ إليه"، وعلى الوجه الثاني:"المنذر" مجرى على حقيقته. وقوله: "ما أعلم" إشارة إلى إطلاق لفظ {مُنذِرٌ} وإبهامه لتفخيم أمر ما ينذر به، وقوله:"أنا أنذر عقوبة من هذه صفته" عطف تفسيري وتقييد للمطلق، والحاصل أن قوله:{ومَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ} في التنزيل على الوجهين عطف على مضمر يقدر بحسب تفسير قوله: {مُنذِرٌ} وينصر الوجه الأول قوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} وإليه الإشارة بقوله: "من كوني رسولًا منذرًا وأن الله واحد".

ص: 314

التجأ إليه. أو: قل لهم: ما أنا إلا منذر لكم ما أعلم، وأنا أنذركم عقوبة من هذه صفته، فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه، كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه.

[{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ * إن يُوحَى إلَيَّ إلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} 67 - 70]

{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي أنبأتكم به- من كوني رسولًا منذرًا، وأن الله واحد لا شريك له- نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم احتج لصحة نبوته بأن ما ينبئ به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب، فعلم أن ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله. {إن يُوحَى إلَيَّ إلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ} أي: لأنما نذير. ومعناه: ما يوحى إلى إلا للإنذار، فحذف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: لأنما أنا نذير)، هذا إذا قرئ:{أَنَّمَا} بالفتح، وهي المشهورة، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على نزع الخافض وإفضاء الفعل، والقائم مقام الفاعل في:{يُوحَى} الظرف، والمعنى: ما يوحى من أمر من الأمور إلا لأنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك. وثانيهما: أن يكون {أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ} هو القائم مقام الفاعل و {إلَيَّ} ظرف، والوحي على هذا بمعنى: الأمر، ولهذا قال:"ما أومر إلا بهذا الأمر"، فقوله:"وحده وليس إلى غير ذلك" معنى: {أَنَّمَا} ؛ لأن في الكلام حصرين كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت: 6].

فإن قلت: فما هذا الحصر؟ كأنه صلوات الله عليه لم يوح إليه إلا لاختصاص النذارة أولم يؤمر إلا باختصاص الإنذار، كما قال:"وليس إلى غير ذلك"؟ قلت: المخاطبون مشركون، وكان الذي ينكرون عليه صلوات الله عليه الإنذار والدعوة إلى التوحيد، كما مضى من مفتتح السورة إلى أن بلغ إلى قوله:{إنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} فما أوثر اختصاص

ص: 315

اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه. ويجوز أن يرتفع على معنى: ما يوحى إلى إلا هذا، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك، أي: ما أومر إلا بهذا الأمر وحده، وليس غير ذلك. وقرئ:(إنما) بالكسر على الحكاية، أي: إلا هذا القول؛ وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين، ولا أدعي شيئًا آخر. وقيل: النبأ العظيم: قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد. وعن ابن عباس: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. فإن قلت: بم يتعلق {إذْ يَخْتَصِمُونَ} ؟ قلت: بمحذوف؛ لأن المعنى ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم. و {إِذْ قَالَ} بدل من {إذْ يَخْتَصِمُونَ} . فإن قلت: ما المراد بالملإ الأعلى؟ قلت: أصحاب القصة: الملائكة وآدم وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء، وكان التقاول بينهم. فإن قلت: ما كان التقاول بينهم، إنما كان بين الله تعالى وبينهم؛ لأن الله سبحانه هو الذي قال لهم وقالوا له، فأنت بين أمرين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإنذار إلا لاختصاص من المنذرين وبذا أمرهم، وكان الواجب قلع الشرك وإزالة ما ينبغي إزالته، فإذا أزيل ذلك وبدل بالإيمان والأعمال الصالحة جاز أن يبشروا، كما قال تعالى:{لِيُنْذِرَ بَاسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 2]، كأنه قال صلوات الله عليه: ما يوحى الآن في شأنكم إلا لأن أنذركم.

قوله: (فأنت بين أمرين)، أي: أمرين ممتنعين؛ لأنك إذا قلت: الملأ الأعلى: الملائكة، والخصومة: هي المقاولة التي جرت بينهم وبين الله في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، إلى آخره، يدل عليه قوله ها هنا:{إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ} فلا يصح معنى {إذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، لأن الاختصام ليس بين الملائكة، بل بينهم وبين الله تعالى، وإن جعلت {اللهُ} من قبيل الملأ الأعلى التغليب فقد أبعدت المرمى.

وأجاب بما يلزم إسناد {يَخْتَصِمُونَ} أن يكون حقيقة ومجازًا معًا، وهو ضعيف كما علم، والأولى أن لا يجعل {إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} بدلًا من {إذْ يَخْتَصِمُونَ} ، بل يكون منصوبًا

ص: 316

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بإضمار "اذكر" ويفسر المخاصمة بما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي عن معاذ ابن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فتعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت لبيك يا ربي، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثًا، قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين المكروهات، قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حق، فادرسوها ثم تعلموها". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا صحيح. وبه فسر محيي السنة الآية وصاحب"المطلع" أيضًا.

وقال التوربشتي: ومعنى اختصام الملائكة: تفاوضهم في فضل كل واحد من الجنسين، أعني الدرجات والكفارات، ويحتمل أن يكون المراد منه: اغتباط الملائكة بني آدم بهذه الفضائل لاختصاصهم بها وتقاولهم في فضل البشر، والسبب الموجب لذلك مع تهافتهم في الشهوات، ثم قال: والاختصام الذي في الآية والذي في الحديث يحتمل أنما في قضية واحدة، ويحتمل أن كل واحد في قضية، أما الأول فقد ذهب إليه بعض أهل العلم من

ص: 317

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المفسرين والمحدثين، وقد ذكروا الحديث في تفسير الآية، غير أنهم لم يبينوا وجه التناسب، وهو يسير على من يسره الله، وهو أن الملائكة لما استقروا الأوضاع البشرية فلم يهتدوا إلى وجه الحكمة في تكريم آدم بسجودهم، نبأهم الله عما أيدوا به من الدرجات والكفارات، ثم قال: والأظهر أن نقول: الاختصاص في الآية غير ما في الحديث، وذلك أن ما في الآية هو تقاول الملائكة في أمر السجود، وقد أمر الله نبيه بأن يحتج على منكري نبوته بما أوحى إليه من قصة الملائكة وآدم؛ ليكون دليلًا على نبوته، أما الحديث فإنه إخبار عما كوشف به في المنام، ومما يدل على التغاير أن في الآية نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم العلم باختصام الملائكة، وفي الحديث لم ينف هو عن نفسه علم الاختصام، وإنما نفى عنه علم ما كان الملائكة يختصمون فيه، مما يدل عليه أيضًا كشف الآية عن اختصام قد مضى، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن اختصام لم يمض، إذ قال له ربه: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ تنبيها على أن حال الاختصام باقيه. وأيضًا إن السورة مكية، والحديث يدل على أن الرؤيا أريها صلوات الله عليه بالمدينة.

أما الجواب عن قوله: "إن تقاول الملائكة في أمر السجود"، وقوله:"وأما الحديث فإنه إخبار عما كوشف بها في المنام"، فإن هذا مبني على أن قوله:{إذْ قَالَ رَبُّكَ} بدل من {إذْ يَخْتَصِمُونَ} وقد بينا ضعفه، على أن البدل فيه ما ينافي الخصومة وهو الفاء في {فَسَجَدَ} فإنها فصيحة، كأنه قيل: فسواه الله ونفخ فيه فسجد الملائكة، فآذنت بسرعة الامتثال وأنه عليه السلام كما وجد لم يتوقف سجودهم عن الوجود مدحًا لهم عليه بالإذعان لأمر الله، فلو توهم التوقف كان ذمًا لهم، كما ذم إبليس بقوله:{إلاَّ إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} فضلًا عن المقاولة في المأمور به، وأيضًا لو كان قوله:{إذْ قَالَ} بدلًا من {إذْ يَخْتَصِمُونَ} لكان الظاهر أن يقال: إذ قال ربي للملائكة؛ لقوله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى} ، وليس المقام مما يقتضي الالتفات.

وعن قوله: "إن النفي في الآية غير النفي في الحديث؛ لأن نفي الاختصام غير، ونفي ما

ص: 318

إما أن تقول: الملأ الأعلى هؤلاء، وكان التقاول بينهم، فلم يكن التقاول بينهم؛ وإما أن تقول: التقاول كان بين الله وبينهم؛ فقد جعلته من الملإ الأعلى. قلت: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، وكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فصح أن التقاول كان بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى. والمراد بالاختصام: التقاول، على ما سبق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيه الاختصام غير"، فإن غايته أن ما في الآية مبهم وما في الحديث مؤقت، فيكون الحديث مفسرًا للآية، على أن لابد من التفسير، ولذلك جعل المصنف {إِذْ قَالَ} بدلًا منه.

وعن قوله: "كشف الآية عن اختصام قد مضى، والخبر عن اختصام لم يمض"، فإن {يَخْتَصِمُونَ} في الآية وارد على حكاية الحال الماضية، فيدل على استمرار الخصومة واستحضارها في مشاهدة السامع فيما مضى وقتًا فوقتًا، وفيما سيجيء حالًا فحالًا.

وعن قوله: "السورة مكية، والحديث مدني"، فإن هذا النقل موقوف على بيان الرواية وصحتها على أنه يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نبهه صلوات الله عليه في مكة على اختصام الملائكة واغتباطهم لبني آدم وما فيهم من الفضائل مجملًا، ثم نبهه ثانيًا في المدينة مفصلًا، والله أعلم بحقيقة الحال.

وأما بيان النظم فإنه تعالى لما أمر نبيه صلوات الله عليه بأن يقول: {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولًا منذرًا وأن الله واحد لا شريك له وقهار ومالك للعالمين وعزيز غفار، وأدمج فيه معنى العبادة، وأنه تعالى ما خلق الخلق إلا ليعبد ويعرف، وأراد أن يعظم ذلك أمر نبيه صلوات الله عليه بأن يعظمه ثانيًا ويقول:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى} أي: بفضل هذا واختصاصه ببني آدم واختصام الملائكة فيه واغتباطهم للبشر، وما أمروا بالسجود لآدم إلا لتلك الكرامات والفضائل، إلا أن الله تعالى أعلمني بالوحي وأمرني بالدعوة فيه والإنذار لمن امتنع منه، فيكون قوله:{إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} مستطردًا لحديث الخصومة في فضائل البشر؛ لما فيه من التكرمة لآدم من كونه مسجودًا للملائكة، والله أعلم.

ص: 319

[{إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إلاَّ إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} 71 - 74]

فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم: {إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا} وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه: أن يكون قد قال لهم: إني خالق خلقًا من صفته كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم. {فَإذَا سَوَّيْتُهُ}: فإذا أتممت خلقه وعدلته، {ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}: وأحييته وجعلته حساسًا متنفسًا {فَقَعُوا} : فخروا.

"كل": للإحاطة. و {أَجْمَعُونَ} : للاجتماع، فأفادا معًا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعًا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات.

فإن قلت: كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت: الذي يسوغ هو السجود لغير الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فأفادا معًا أنهم سجدوا عن آخرهم

وأنهم سجدوا جميعًا في وقت واحد)، قال صاحب"الفرائد": يشكل ما ذكر بقوله حكايةً عن إبليس: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، ورأيت في بعض الحواشي عن الشيخ عبد القاهر: أن زعم من زعم أن {أَجْمَعِينَ} للاجتماع خطأ؛ لأنه صح أن يقال: ناظرت علماء الشرق أجمعين، ولم تكن المناظرة بالاجتماع في وقت واحد، ويمكن أن يقال: إذا كان {أَجْمَعُونَ} بدون الكل أفاد التأكيد المجرد، وهو أن لا يخرج أحد من الفعل، فلم يكن الاجتماع في وقت واحد، بل الاجتماع في الفعل، وإذا كان مع الكل، فالكل للإحاطة، والأجمعون للاجتماع في وقت واحد.

وبيانه: أن اللام في الملائكة للاستغراق دخلت على صيغة الجمع فتفيد الشمول، ثم أكد بقوله:{كُلُّهُمْ} لدفع توهم غير الشمول والإحاطة، فأردف بقوله:{أَجْمَعُونَ} ولا بد له من فائدة زائدة، وحاصله أن سبيل {أَجْمَعُونَ} سبيل المظهر إذا وضع موضع المضمر، لاسيما دلالة الفاء الفصيحة في قوله:{فَسَجَدَ المَلائِكَةُ} على ما سبق، على أن مطلق الأمر في هذا المقام لا يفيد إلا الفور.

ص: 320

على وجه العبادة، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل، إلا أن يعرف الله فيه مفسدة فينهى عنه. فإن قلت: كيف استثني إبليس من الملائكة وهو من الجن؟ قلت: قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ} ، ثم استثني كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلًا. {وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} أريد: وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافرًا؛ لأن"كان" مطلق في جنس الأوقات الماضية في، فهو صالح لأيها شئت. ويجوز أن يراد: وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله.

[{قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} 75 - 76]

فإن قلت: ما وجه قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ؟ قلت: قد سبق لنا أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن"كان" مطلق في جنس الأوقات الماضية)، روى الزجاج عن أبي العباس أن"كان" لقوته على معنى المضي عبارة عن كل فعل ماض، ثم قال الزجاج: إن"كان" هو على باب سائر الأفعال؛ إلا أن فيه إخبارًا عن الحال قيما مضى، إذا قلت: كان زيد عالمًا، فقد أنبأت أن حاله فيما مضى من الدهر هذا، وإذا قلت: سيكون عالمًا، فقد أنبأت أن حاله سيقع فيما يستقبل، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال.

قوله: (فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال)، الراغب: لما كانت اليد العاملة يختص بها الإنسان- وهي أعظم جارحة- نفعًا، بل عامة المنافع راجعة إليها حتى لو توهمناها مرتفعة ارتفع بها الصناعات التي بها قوام العالم كالبناء والحوك والصوغ والكتابة، صارت مستعارة في القوى جميعا والمنافع كلها، حتى قيل: فلان يد فلان، إذا قواه. وقيل

ص: 321

قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدي له:"يداك أو كتا وفوك نفخ"، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته، وهذا مما عملته يداك.

ومنه قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِنَا} [يس: 71] و: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . فإن قلت: فما معنى قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للنعمة: يد؛ لما صارت معينةً للمعطي إعانة يده، وحتى صارت مستعارةً في الله تعالى.

قوله: (يداك أو كتا وفوك نفخ)، قال الميداني: قال المفضل: أصله أن رجلًا كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعبر على زق قد نفخ فيه، فلم يحسن إحكامه، حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق، فلما غشيه الموت استغاث برجل، فقال له: يداك أو كتا. يضرب لمن يجني على نفسه الحين.

وقال المصنف في " المستقصى": أصله أن شابًا انتهى إلى جوار يستقين بالقرب، فكان يلاعبهن وينفخ في بعض القرب ثم يوكيه، فقتله بعض إخوانهن غيرة، فأخبر أخ المقتول بملاعنتهن، فقال ذلك، فضرب للجاني على نفسه.

قوله: (فما معنى قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، الفاء للتسبيب، يعني إذا كان معنى:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} العمل وكونه مخلوقًا لله، فما وجه اختصاصه في هذا المقام؟ وخلاصة الجواب: أن ذلك الأمر كان ابتلاءً محضًا للملائكة وإبليس في أنهم هل يؤثرون النص على القياس أو يرجحون القياس؟ بدليل التمثيل بالوزير والملك، فالملائكة مع جلالتهم آثروا النص فامتثلوا لأمر الله تعظيمًا له وإجلالًا لخطابه، وإبليس مع ضعته آثر القياس، حيث قال:{خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فقيل له على سبيل القول بالموجب: هب أنه كان مخلوقًا من تراب فهلا نظرت إلى أمري فسجدت ولم تنظر إلى تلك العلة فلم تمتنع؟ وإليه الإشارة بقوله: "لم تركته مع وجود هذه العلة"، فقوله:"من السجود" بيان"ما

ص: 322

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تركته"، يعني: ذكر لإبليس السجود مع تلك العلة ووبخه عليها في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} هذا تطويل وإخفاء للشمس بالطين لحب المذهب، فإنه تعالى علل إنكاره عليه بعدم السجود بهذه العلة التي تدل عل تكرمة المسجود له، بدليل قوله:{أَسْتَكْبَرْتَ} ثم إيراد اللعين ذلك القياس الفاسد حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فكيف يجعل قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} متضمنا لهذا، وقد جعل جوابًا للإنكار.

قال صاحب" الانتصاف": أطال الزمخشري فارًا من معتقدين:

أحدهما: أن اليدين من صفات الذات أثبتها السمع، هذا مذهب الشيخ أبي الحسن والقاضي، وأبطلا حمل اليدين على القدرة، بأن اليدين تثنية، وقدرة الله واحدة، وأبطلا الحمل على النعمة، فإن نعم الله لا تحصى. وأما غيرهما من أهل السنة كإمام الحرمين وغيه فاختار الحمل على النعمة والقدرة، أجاب عما ذكراه بنعمة الدنيا والآخرة، وبهذا يتحقق فضله على إبليس إذ لم يخلق لنعمة الآخرة، وقد يراد بالتثنية التعظيم.

والمعتقد الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك، والزمخشري شديد التعصب فيه، فلا جرم مثل قصة آدم في انحطاط رتبته ببعض سقاط الحشم مثالًا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء، وأقام لإبليس عذره وصحح اعتقاده في أنه أفضل من آدم، وإنما غلطه من جهة أنه لم يجعل نفسه أسوة الملائكة مع علمهم بأن آدم عليه السلام ساقط المنزلة، والمراد ضد ما ذكره الزمخشري وهو: تعظيم معصية إبليس إذ لم يعظم من كرمه الله عليه وخلقه بيديه؛ وذلك تعظيم لا تحقير، وفي حديث الشفاعة يقولون:"أنت آدم خلقك الله بيديه وأسجد لك ملائكته" وذلك كله تعظيم آدم وخصائصه، وقلت: كذلك في محاجة موسى وآدم.

ص: 323

قلت: الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم، واستنكف منه: أنه سجود لمخلوق، فذهب بنفسه، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق، وانضم إلى ذلك أن آدم مخلوق من طين، وهو مخلوق من نار، ورأى للنار فضلًا على الطين؛ فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر به أعز عباده عليه وأقربهم منه زلفى، وهم الملائكة، وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم، ثم لم يفعلوا وتبعوا أمر الله وجعلوه قدام أعينهم، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له؛ تعظيمًا لأمر ربهم وإجلالًا لخطابه- كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدي بهم يقتضي أثرهم، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله، أوغل في عبادته منهم في السجود له؛ لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح، فقيل له:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، أي: ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي- لا شك في كونه مخلوقًا- امتثالًا لأمري وإعظامًا لخطابي كما فعلت الملائكة؟ فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه، وقيل له: لم تركته مع وجود هذه العلة، وقد أمرك الله به؟ يعني: كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة، ومثاله: أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم، فيمتنع اعتبارًا لسقوطه، فيقول له: ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علي سقوطه؟ يريد: هلا اعتبرت أمري وخطابي وتركت اعتبار سقوطه! وفيه: أني خلقته بيدي، فأنا أعلم بحاله، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه: من إنعام عليه بالتكرمة السنية، وابتلاء للملائكة، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له؟ ! . وقيل: معنى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : لما خلقت بغير واسطة. وقرئ: (بيدي)، كما قرئ:{بِمُصْرِخِيِّ} [إبراهيم: 22]، و:(بيدي) على التوحيد. {مِنَ الْعَالِينَ} : ممن علوت وفقت،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ممن علوت وفقت)، "من" في "ممن علوت" موصلة، وصلته "علوت"، فسر

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} به؛ لأن أصله"أستكبرت أم علوت؟ " فأريد مزيد الإنكار عليه، فقيل: أستكبرت أم كنت الذي علوت؟ كما نقل عن سيبويه: أنت الذي يفعل، على الخطاب، ثم لمزيد التوبيخ جمعه وأدخله في زمرة العالين وقال:{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} فوضع {مِنَ الْعَالِينَ} موضع"الذي علوت"، كقوله تعالى {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]، أي: قال، وقولك: فلان من العلماء، أي: عالم، إيذانًا بأن له مساهمة معهم في العلم وأن الوصف كاللقب المشهود له، وإنما قلنا: إن الأصل ذلك؛ لأنه قال في قوله تعالى: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 61]، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَلَاتِ رَبِّي} [الأعراف: 62]، أبلغكم صفة {رَسُولٌ} وجاز وإن كان الرسول لفظه لفظ الغائب؛ لأن الرسول واقع خبرًا عن ضمير المتكلم فكان في معناه، فعلم أن أصله: لكني أبلغكم رسالات ربي، فأدخل:{رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} توطئةً وتمهيدًا المزيد الإيهام والتعظيم.

ومن الأسلوب ما روينا في حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". أخرجه مسلم والبخاري.

أنا الذي سمتني أمي حيدره .... كليث غابات كريه المنظره

لأنه رضي الله عنه بيدي به بسالته، وأنه ممن لا يخفى حالة على أحد في شجاعته، ولو قيل: أنا الذي سمته أمه حيدرة؛ لكان أخبر عن شخص ما بينه وبين المخاطب عهد، وأنه مسمى بهذا الاسم، فقال: أنا ذلك المسمى فاعرفه، لكن عدل إلى قوله:"سمتني" لتلك النكتة، وإن شئت أن تعرف أن الموصولات مقحمة للتفخيم جرب ذوقك في الحديث الذي رويناه:"وقل: أنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي":

ص: 325

فأجاب بأنه من العالين حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} . وقيل: أستكبرت الآن، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين؟ ومعنى الهمزة: التقرير. وقرئ: (استكبرت) بحذف حرف الاستفهام؛ لأن {أَمْ} تدل عليه. أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى، أي: لو كان مخلوقًا من نار لما سجدت له؛ لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني؛ لأنه من طين، والنار تغلب الطين وتأكله، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى- وهي:{خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} - مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح.

[{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ} 77 - 78]

{مِنْهَا} : من الجنة. وقيل: من السماوات. وقيل: من الخلقة التي أنت فيها؛ لأنه كان يفتخر بخلقته، فغير الله خلقته فاسود بعدما كان أبيض، وقبح بعدما كان حسنًا، وأظلم بعدما كان نورانيًا. والرجيم: المرجوم، ومعناه: المطرود، كما قيل له: المدحور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقل: أنا سمتني أمي حيدرة، وفي استشهاد سيبويه: أنت تفعل. لتجد صحة التركيب مع فقدان الذوق عند الحذف.

قوله: (هذا على سبيل الأولى)، {هَذَا} إشارة إلى قوله:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} في قوله: "فأجاب بأنه من العالين"، حيث قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} ، يعني: هذا المذكور أولى من الجواب المطابق وهو قوله: {مِنَ الْعَالِينَ} ؛ لأنه جواب مع العلة، ولهذا قال: لو كان مخلوقًا من نار سجدت له؛ لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني؟ ولو أجاب على مقتضى الظاهر وقال: أنا من العالين، لم يفد هذه الفائدة، ويقرب أن يسمى جواب إبليس من الأسلوب الأحمق، ولهذا عقبه بقوله:{فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ} .

قوله: (وأظلم بعدما كان نورانيا)، قال: هذا يدل على أنه لم يكن كافرًا حين كان من الملائكة، ولأن الله سبحانه وتعالى لم يحك عنه إلا الاستكبار بأنه لم يسجد، وهذا دليل على أنه صار كافرًا حين لم يسجد.

ص: 326

والملعون؛ لأن من طرد رمي بالحجارة على أثره. والرجم: الرمي بالحجارة. أو لأن الشياطين يرجمون بالشهب. فإن قلت: قوله: {لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ} كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع؟ قلت: كيف تنقطع وقد قال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]. ولكن المعنى: أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة، فكأنها انقطعت.

[{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ} 79 - 81]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة)، يريد: أن اللعنة في الدنيا هي الطرد والبعد، فهي مطلقة من العذاب، فينتهي هذا المطلق ذلك اليوم ثم يصير المطلق مقيدًا بالعذاب، ونحوه حديث عائشة رضي الله عنها:"إذا حاضت حرم الحجران"، ومعناه أن حرمه الدبر قبل الحيض منفردة، وإذا حاضت انضمت إلى حرمة الدبر حرمة القبل وانقطع انفراد حرمة الدبر.

قال صاحب"الفرائد": سألني بعض الأكابر عن هذا فقلت: اللعنة: التبعيد عن رحمة الله تعالى، وتبعيد إبليس في كل زمان إلى يوم القيامة؛ لأن تبعيده بقدر إغوائه عباد الله وذلك إلى يوم القيامة؛ لأنه جاء يوم القيامة لم يكن له إغواء فبعده من رحمة الله في التزايد إلى يوم القيامة، فقبلوا هذا الجواب واستحسنوه.

وقلت: هاهنا ثلاث عبارات: {يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20]، وهو: يوم الجزاء، و {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87]، وهو يوم الحشر، و {يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ} [ص: 81]، وهو الوقت الذي فيه النفخة الأولى، ولا ارتياب أن إغواءه إنما ينتهي إلى آخر أيام التكليف وهو الوقت المعلوم، ولهذا لما طلب الإغواء إلى يوم البعث أجيب إلى يوم الوقت المعلوم، واختصاص يوم الدين؛ لأجل أن الجزاء والعذاب إنما يبتدأ منه، فصح قول المصنف.

ص: 327

فإن قلت: ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم؟ قلت: الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى. ويومه: اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه. ومعنى {الْمَعْلُومِ} : أنه معلوم عند الله معين، لا يستقدم ولا يستأخر.

[{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} 82 - 83]

{فَبِعِزَّتِكَ} : إقسام بعزة الله تعالى؛ وهي سلطانه وقهره

[{قَالَ فَالْحَقُّ والْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 84 - 85]

قرئ: (فالحق والحق) منصوبين؛ على أن الأول مقسم به، ك"الله" في:

إن عليك الله أن تبايعا

وجوابه: {لأَمْلأَنَّ} ، {والْحَقَّ أَقُولُ}: اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه، ومعناه: ولا أقول إلا الحق. والمراد بالحق: إما اسمه عز وعلا الذي في قوله: {أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]، أو: الحق الذي هو نقيض الباطل؛ عظمه الله بإقسامه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: "فالحق")، كلهم إلا حمزة وعاصمًا.

قوله: (إن عليك الله أن تبايعا)، تمامه في"المطلع" من بيت الكتاب:

تؤخذ كرها أو ترد طائعا

كان شخص أخذ قهرًا بأن يبايع والياء، وقيل: إن عليك أن تبايع، أي: الواجب أو القسم عليك وحق الله أن تبايع فلانًا أخذت كرهًا لأجل ذلك، ثم بعد المبايعة ترد طوعًا، و"تؤخذ" بدل من"تبايع"، أي: بدل الفعل من الفعل كبدل الاسم من الاسم.

ص: 328

به؛ ومرفوعين على أن الأول مبتدأ محذوف الخبر، كقوله:{لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]، أي: فالحق قسمي لأملأن، والحق أقول، أي: أقول، كقوله:

كله لم أصنع

ومجرورين: على أن الأول مقسم به قد أضمر حرف قسمه، كقولك: الله لأفعلن، و"الحق" أقول، أي: ولا أقول إلا "الحق" على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه: التوكيد والتشديد. وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضًا، وهو وجه دقيق حسن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كقوله: كله لم أصنع)، يعني: أن الضمير المنصوب محذوف للتخفيف، تقديره: لم أصنعه. أوله لأبي النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعي .... علي ذنبًا كله لم أصنع

"كله" لم ينصبه؛ ولأنه لو نصبه لكان ذلك إقرارًا منه بأنه قد صنع بعضه، ورفعه ليؤذن بأنه لم يصنع منه شيئًا قط، ففي أحدهما: سلب العموم، وفي الآخر: عموم السلب.

قوله: (وهو وجه حسن دقيق)، أي: جعل الثاني حكاية عن الأول ومعربًا بإعرابه، فتقول على المجرور: فالله لأملأن جهنم. والحق أن القسم حق، وعلى المنصوب: فالله لأملان، والحق أن هذا القول حق، وعلى المرفوع: فالحق قسمي لأملأن.

{والْحَقَّ أَقُولُ} ، أي: هو سنتي وعادتي، فعلى هذا لا يكون اعتراضًا بل يكون لمجرد التوحيد كالتكرير.

فإن قلت: فسر على تقدير النصب معنى قوله: "الحق أقول" على الحصر بقوله: "ولا أقول إلا الحق" وهو جائز؛ لأنه مفعول قدم على عامله؟ وما وجهه على الجر؟

ص: 329

وقرئ: برفع الأول وجره مع نصب الثاني، وتخريجه على ما ذكرنا.

{مِنْكَ} : من جنسك؛ وهم الشياطين، {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من ذرية آدم. فإن قلت:{أَجْمَعِينَ} تأكيد لماذا؟ قلت: لا يخلو أن يؤكد به الضمير في {مِنْهُمْ} ، أو الكاف في {مِنْكَ} مع (من تبعك). ومعناه: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحدًا. أو: لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم.

[{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ * إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 86 - 88]

{عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الضمير للقرآن، أو للوحي، {ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ}: من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعًا ولا مدعيًا ما ليس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: إنه على القسم، والقسم في المعنى يفيد معنى الحصر والجزم في القول.

قوله: (وتخريجه على ما ذكرنا)، فرفع الأول للابتداء، وجره للقسم، ونصب الثاني على أنه مفعول مقدم، والجملة معترضة.

قوله: (ومعناه: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين {أَجْمَعِينَ})، هذا على أن يكون {أَجْمَعِينَ} تأكيدًا للكاف مع {مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر: 42]، فيرجع معنى التأكيد إلى التابع والمتبوع معًا، ولذلك قال:"لا أترك منهم أحدًا"، وقوله:"أو لأملأنها من الشياطين وممن يتبعهم من جميع الناس"، وعلى هذا يرجع معنى التأكيد إلى التابعين دون المتبوعين، ولذلك قال:"من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس"؛ وإنما ترك توكيد الشياطين لما أن حال التابعين إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الإنسان، فما بال المتبوعين؟

قوله: (وما عرفتموني قط متصنعًا)، يعنى: أن قوله: {ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} ليس

ص: 330

عندي، حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن، {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ} من الله {لِّلْعَالَمِينَ}: للثقلين أوحي إلي فأنا أبلغه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم". {ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي: ما يأتيكم عند الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وفشوه، من صحة خبره، وأنه الحق والصدق. وفيه تهديد.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة {ص} كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات، وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بإعلام لهم، بل يستشهدهم ويذكرهم علمهم فيه بأن كما رأوه وعلموه ليس بمتكلف فيه.

تمت السورة

حامدًا الله ومصليًا على رسول الله

* * *

ص: 331

‌سورة الزمر

مكية، إلا قوله:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} الآية

وتسمى سورة الغرف

وهي خمس وسبعون آية، وقيل: ثنتان وسبعون

بسم الله الرحمن الرحيم

[{تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * إنَّا أَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ ولَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} 1 - 4]

{تَنزِيلُ الكِتَابِ} قرئ: بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف، أو خبر مبتدأ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الزمر

مكية إلا قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الاية

وهي خمس وسبعون، وقيل: ثنتان وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (قرئ بالرفع)، وهي المشهورة.

ص: 332

محذوف، والجار صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند الله، أو غير صلة، كقولك: هذا الكتاب من فلان، وهو على هذا خبر بعد خبر؛ أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، هذا من الله، أوحال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة؛ بالنصب على إضمار فعل، نحو: اقرأ، والزم. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول: أنه القرآن، وعلى الثاني: أنه السورة. {مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} : ممحضًا له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. وقرئ: (الدين) بالرفع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة)، هذا مما منعه بعضهم واختاره الزجاج، وقد استقصينا القول فيه في فاتحة"البقرة".

قوله: (الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن)، والوجه الأول: هو أن يكون {تَنزِيلُ الكِتَابِ} مبتدأ أخبر عنه بالظرف؛ لأن المعنى: تنزيل القرآن من عند الله العزيز الحكيم.

والوجه الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه السورة قول من عند الله أو هذا تنزيل السورة كائنًا من عند الله، يدل عليه ما جاء في فواتح السور التي حليت بأسماء الإشارة نحو {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} فإن الكتاب مفسر فيها باسم السورة غالبا، كما استقرأنا من كلامه، وأما القراءة بالنصب على تقدير" الزم" أو اقرأ" فالظاهر أنه القرآن.

قوله: (من الشرك والرياء)، لف لقوله:"بالتوحيد وتصفية السر"، وفي"المطلع": قصد العبد بعمله ونيته رضا الله لا يشوبه بشيء من عرض الدنيا. الراغب: الخالص كالصافي؛ إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه يقال: خلصته فخلص، ولذلك قال الشاعر:

ص: 333

وحق من رفعه أن يقرأ (مخلصًا) بفتح اللام، كقوله تعالى:{وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خلاص الخمر من نسج الفدام

والفدام: ما يوضع في فم الإبريق ليصفى به ما فيه. وقال الله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139] وإخلاص المؤمنين أنهم قد تبرؤوا مما يدعيه اليهود من التشبيه، والنصارى من التثليث. قال تعالى:{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] وحقيقة الإخلاص: التعري عن كل ما دون الله، وقال الشيخ العارف الأنصاري: الإخلاص إخراج رؤية العمل من العمل، والخلاص من طلب العوض على العمل، والنزول عن الرضا بالعمل.

قوله: (وحق من رفعه أن يقرأ" مخلصًا بفتح اللام)، إلى آخره، معرفة هذا الكلام موقوفة على معرفة كلام الزجاج؛ لأنه بناه عليه، قال الزجاج: قوله {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} منصوب بوقع الفعل عليه، و {مُخْلِصًا} منصوب على الحال، أي: فاعبد الله موحدًا له لا تشرك به شيئًا. وزعم بعض النحويين أنه يجوز" مخلصًا له الدين" برفع {الدِّينَ} ؛ على أن قولك" مخلصًا" تمام الكلام، ويكون {لَهُ الدِّينَ} مبتدأ وخبرًا، وهذا لا يجوز من وجهين: أحدهما أنه لم يقرأ به، والآخر أنه يفسده {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ} ، فيصير {لَهُ الدِّينَ} مكررًا في الكلام لا يحتاج إليه.

وهو المراد من قول المصنف: "رجع الكلام إلى قولك: لله الدين، ألا لله الدين الخالص"، ولهذا الإشكال قال:"وحق من رفعه أن يقرأ" مخلصًا" بفتح اللام"، فيكون حالًا من" الله" تعالى لا من"العابد"، فيتصل قوله:{لَهُ الدِّينَ} بالحال اتصال قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قال عربيًا حال موطئة كقولك: جاءني زيد رجلًا صالحًا، فيقع الاستئناف في موقعه، أي:

ص: 334

[النساء: 146] حتى يطابق قوله: {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، والخالص والمخلص واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي، كقولهم: شعر شاعر، وأما من جعل {مُخْلِصًا} حالًا من العابد، و {لَهُ الدِّينَ} مبتدًا وخبرًا، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر؛ لاطلاعه على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عند قوله: {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} اللهم إلا أن يجعل من رفع"الدين" و {مُخْلِصًا} بالكسر " الدين" فاعل {مُخْلِصًا} على الإسناد المجازي، أي: فاعبد الله مخلصًا دينك لله، وأصله مخلصًا الدين لله؛ بالنصب، فيتصل به ويقع الاستئناف في موقعه، وقوله:"إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه" مستثنى من قوله: "وحق من رفعه أن يقرأ مخلصًا بفتح اللام".

قال صاحب"التقريب" في قوله: "رجع الكلام إلى قولك: لله الدين ألا لله الدين الخالص" نظر، لأن تغاير دلالتي الجملتين على الإجمال والتفصيل ظاهر، وهو توكيد. وقلت: بين الجملتين بون؛ وغاية معنى الجملة الأولى بسبب تقديم الخبر تأكيد الاختصاص؛ لأن اللام أيضًا الاختصاص، وأما الجملة الثانية فهي منقطعة عنها؛ لتصدرها بكلمة التنبيه، قال:{ألَا} مركب من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقًا، وموقع الجملة في هذا المقام موقع التذييل للكلام السابق، وحسنه أن يكون مؤكدًا لمضمون جملة قوله:{فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} لاتفاقهما وتطابقهما، وإليه الإشارة بقوله:"الخالص والمخلص"، أي: بفتح اللام "واحد" لأن الدين إذا كان مخلصًا كان خالصا، ولو جعل تذييلًا لقوله: له الدين وحده، جاء الكلام مبتورًا ونباه الطبع السليم، فإن معنى {للهِ الدِّينُ} أن الدين مختص به لا بغيره، وهو معنى {أَلَا للهِ الدِّينُ} فيبقى وصف الدين بالخالص خارجًا وتطويلًا، ومن ثم أحاله إلى الذوق في قوله:"رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين ألا الله الدين الخالص".

قوله: (أي: هو الذي وجب اختصاصه)، تفسير للتذييل، قال القاضي: ألا هو الذي

ص: 335

الغيوب والأسرار؛ ولأنه الحقيق بذلك؛ لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها. وعن قتادة: {الدِّينُ الْخَالِصُ} : شهادة أن لا إله إلا الله. وعن الحسن: الإسلام. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} يحتمل المتخذين؛ وهم الكفرة، والمتخذين؛ وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى. عن ابن عباس رضي الله عنهما. فالضمير في {اتَّخَذُوا} على الأول: راجع إلى {وَالَّذِينَ} ، وعلى الثاني: إلى المشركين، ولم يجر ذكرهم؛ لكونه مفهومًا، والراجع إلى {وَالَّذِينَ} محذوف، والمعنى: والذين اتخذهم المشركون أولياء، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} في موضوع الرفع على الابتداء. فإن قلت: فالخبر ما هو؟ قلت: هو على الأول: إما {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ، وأما ما أضمر من القول قبل قوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ} . وعلى الثاني: {إِنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجب اختصاصه بأن يخلص له العبادة والطاعة، فإنه المنفرد بصفات الإلهية والاطلاع على الأسرار والضمائر.

وقلت: في إبراز اسم الجامع شأن عظيم وخطب جليل في هذا الباب، والمصنف خصه بحسب اقتضاء المقام، وهو إيجاب اختصاصه بأن تخلص له العبادة بأمرين مناسبين: أحدهما: أنه مطلع على الغيوب والأسرار، فيطلع على سر من أخلص ومن راءى. وثانيهما: أنه منعم على الإطلاق لا يستجر بما أنعم به نفعًا، فلا ينبغي أن يشوب عبادته بما يكدره، ولما أمر عباده المخلصين بما أمر عقبه على سبيل الاستطراد، وذكر من يكدر العبادة بالشرك ويتعلل بقوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا مِنَ اللهِ زُلْفَى} .

قوله: (وعلى الثاني: {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ، فإن قلت: لم خص الثاني بوجه واحد؟ قلت: المعنى على الأول- أي: على تقدير المتخذين؛ بكسر الخاء- الكفرة الذين اتخذوا من دون الله أولياء {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أو يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا مِنَ اللهِ زُلْفَى} ، وعلى الثاني- أي: على تقدير فتح الخاء- الذين اتخذهم المشركون أولياء {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ، ولا يصح: يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللهِ} .

ص: 336

اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. فإن قلت: فإذا كان {إِنَّ اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الخبر، فما موضع القول المضمر؟ قلت: يجوز أن يكون في موضع الحال، أي: قائلين ذلك. ويجوز أن يكون بدلًا من الصلة، فلا يكون له محل، كما أن المبدل منه كذلك. وقرأ ابن مسعود بإظهار القول:(قالوا ما نعبدهم)، وفي قراءة أبي:(ما نعبدكم إلا لتقربونا) على الخطاب، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم. وقرئ:(نعبدهم) بضم النون إتباعًا للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر والتنوين في {وَعَذَابٍ * ارْكُضْ} [ص: 41 - 42]، والضمير في {بَيْنَهُمْ} لهم ولأوليائهم. والمعنى: أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها؛ حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم. واختلافهم: أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون، وألئك يعادونهم ويلعنونهم، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى. وقيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات والأرض، أقروا وقالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا مِنَ اللهِ زُلْفَى} ؛ فالضمير في {بَيْنَهُمْ} عائد إليهم وإلى المسلمين. والمعنى: أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين. والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلًا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يكون بدلًا من الصلة)، والتقدير: والكفرة الذين يقولون: لا نعبد الأصنام إلا ليقربونا، إن الله يحكم بينهم.

قوله: (وقيل: كان المسلمون)، عطف على قوله:"الضمير في {بَيْنَهُمْ} لهم ولأوليائهم"، وعلى هذا: الضمير في {بَيْنَهُمْ} لهم وللمسلمين، كما صرح بذلك.

قوله: (والمراد بمنع الهداية منع اللطف)، الانتصاف: يجب حمل الآية على ظاهرها وأن الله خالق الإيمان والضلال؛ لقوله: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفًّارُ} . وقلت: قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الظاهر أنه اعترض للتأكيد ودفع ذلك التأويل.

ص: 337

وقرئ: (كذاب)، (كذوب)، وكذبهم: قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء: بنات الله؛ ولذلك عقبه محتجًا عليهم بقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ ولَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يعني: أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح؛ لكونه محالًا، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكذبهم: قولهم في بعض ما تخذوا)، يعني: وضع {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} موضع ضمير المتخذين -بكسر الخاء-، والمتخذ -بالفتح- بعض ما اتخذوه، وهو الملائكة والمسيح واللات والعزى، كما سبق.

قوله: (فافتتنتم به)، افتتن الرجل وفتن فهو مفتون: إذا أصابه فتنة فذهب ماله وعقله.

وتقرير المسألة على ما قال صاحب "التقريب": لو أراد اتخاذ الولد لم يصح إلا أن يصطفي بعض خلقه، وقد اصطفى الملائكة وشرفهم، فغركم اختصاصه فزعمتم أنهم أولاده بل بناته فكنتم كذابين. وفي تحقيق معنى التلازم ونفي اللازم أو إثبات الملزوم على ما قرر نظر، فالأولى ما قيل: لو أراد يتخذ ولدًا كما زعمتم لاختار الأفضل لا الأنقص وهن الإناث.

وقلت: مراد المصنف: أن مؤدى {لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} في هذا المقام مؤدى قولنا: لامتنع، ولم يصح، إلى آخره. والاستثناء في قوله:"ولم يتأت إلا أن يصطفي" على أسلوب قول لبيد:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .... بهن فلول من قراع الكتائب

أراد: ليس فيهم عيب البتة، فوضع "غير أن سيوفهم بهن فلول" موضعه، أي: لو كان هذا عيبًا فهم موصوفون به، فإذن لا عيب فيهم، وكذلك المعنى: لو أراد الله أن يتخذ ولدًا

ص: 338

أولاده، جهلًا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه؛ وهم الملائكة، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادًا، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته، غالين في الكفر، ثم قال:{سُبْحَانَهُ} فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لاصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، ولا خفاء أن هذا الاصطفاء ليس من اتخاذ الولد في شيء، فإذا محال أن يتخذ ولدًا. تلخيصه: أنه لو أراد أن يتخذ ولدًا لكان الطريق إلى ذلك ما يمتنع أن يكون طريقًا وهو اصطفاء الملائكة، وإليه أشار بقوله:"لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل"، ونظيره من حيث المبالغة قوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} قال: أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوضع قوله:{إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] موضع ذلك؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل. وقال الإمام: المعنى لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لما رضى إلا بالأكمل وهو الابن، فكيف نسبتم إليه البنت؟ كقوله تعالى:{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء: 40] تم كلامه.

فإن قيل: الكلام غير وارد في اتخاذ الإناث حتى يرد إلى الذكور، بل في نفي الولد مطلقًا. قلت: إذن لا ينبغي أن يكون المفروض في قوله: {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} الملائكة، بل غيرهم ممن هو أعلى مرتبة منهم وأقرب نسبة إلى الله وإلى الألوهية؛ ليصح الترقي من اتخاذ الملائكة والمسيح ولدًا إليهم، ولهذا جيء بالتنزيه والتوحيد الصرف، وتم المعنى بوصف القهارية وكلمه بدليلي الآفاق والأنفس، يعني: قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} وقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية. ثم بين غناه عن الخلق بقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} .

ص: 339

من الأولاد والأولياء. ودل على ذلك بما ينافيه؛ وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبه؛ لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه، ولا جنس له؛ وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة؛ لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهث صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]. وقهار: غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟

[{خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ويُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ} 5]

ثم دل بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر، وتسخير النيرين، وجريهما لأجل مسمى، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام، على أنه واحد لا يشارك، قهار لا يغالب. والتكوير: اللف واللي، يقال: كار العمامة على رأسه، وكورها. وفيه أوجه؛ منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشي مكانه فكأنهما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس، ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب:

تلوي الثنايا بأحقيها حواشيه .... لي الملاء بأبواب التفاريج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تلوي الثنايا بأحقيها)، البيت. الثنية: العقبة، والثنايا: جمع، والحقو: الخصر مشد الإزار. حواشيه: جوانب السراب، والملاء جمع ملاءة، وهي: الجلباب، والتفراج -بالجيم- الباب الصغير، وجمعه التفاريج. يقول: تلوي الهضاب بأوساطها حواشي السراب مثل لي المرط بأبواب الدار، وليها بالدار هو أن لا يطرد اطرادًا.

والحاصل أن الآية تحتمل ثلاثة أوجه من التشبيه:

أحدها: أن يكون من تشبيه المحسوس بالمحسوس، والوجه أمور، ولكن في حكم واحد وهو تشبيه الهيئة الحاصلة من اختلاط الليل بالنهار عند طلوع الفجرين وظهور

ص: 340

ومنها: أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها: أن هذا يكر على هذا كرورًا متتابعًا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على عقاب المصرين {الْغَفَّارُ} لذنوب التائبين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخيطين، في قوله:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] بالهيئة الحاصلة من لف اللباس على اللابس بحيث لا يطرد اللباس في التستر كما يرى من لي الهضبات حواشي السراب، ولي الملاء بأبواب التفاريج في بيت ذي الرمة.

وثانيها: تشبيه محسوس بمحسوس والوجه واحد حقيقة. شبه غشيان كل واحد من الليل والنهار الآخر في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ} [يس: 37] بشيء ظاهر لف ما غيبه عم مطامح الأبصار.

وثالثها: يحتمل أن يكون تمثيلًا بأن يشبه حالة كرور الليل والنهار ومجيء أحدهما في أثر بعض وما يتصل بها من المنافع كقوله: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] بحالة تتابع أكوار العمامة بعضها عقيب بعض وما يتصل بها من الحسن، فإنها كالتيجان للعرب وما يحصل من التغيير وتبديل الأحوال، كما قال الحماسي:

أشاب الصغير وأفنى الكبيـ .... ــــر كر الغداة ومر العشي

فإن قلت: هل يعد ما في الآية تشبيهًا كما صرح به المصنف؟ قلت: لا، بل استعارة، فإن قوله:{يُكَوِّرُ} إما مستعار للاختلاط على الأول، وإما للغشيان في الثاني، وإما للتتابع في الثالث، والمستعار له غير مذكور، وذكره التشبيه توطئة وبيان لطريق الاستعارة؛ لأن الاستعارة متفرعة على التشبيه.

قوله: ({الْغَفَّارُ} لذنوب التائبين)، الانتصاف: ولمن شاء من المصرين دون الشرك على ما سبق.

ص: 341

أو: الغالب الذي يقدر على أن يعالجهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم مغفرةً.

[{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 6]

فإن قلت: ما وجه قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالًا على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه؛ إلا أن أحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والآخرى لم يجر بها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قيصرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بـ {ثُمَّ} على الآية الأولى؛ للدلالة على مباينتها لها فضلًا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم)، إلى قوله:(فسمى الحلم عنهم مغفرة)، وقلت: هذا أوفق لتأليف النظم؛ لأن قوله: {ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} مقابل لقوله: {ألَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} لأنه تعالى ذكر أولًا ما يدل على الدين من ذكر الكتاب، وأنه منزل من لدن عزيز حكيم، وأنه إنما نزل ملتبسًا بالحق ليترتب عليه العبادة والإخلاص وكان قوله:{ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} تذييلًا له، وذكر بعده ما يدل على عظم شأن ما نسبوا إليه من الشرك والأولاد وما دل على تنزيهه عن ذلك، وأنه منفرد بالإلهية قهار خالق للأشياء كلها، ثم ذيله بقوله:{ألَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} توكيدًا لتفظيع معنى ما نسبوا إليه، فلابد من تفسيره بما قال:"الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم وهو يحلم عنهم".

قوله: (وخلق حواء)، عطف على "تشعيب"، وهما بدلان من قوله:"آيتان"، و"هما" ضمير مبهم مفسر بـ"آيتان".

قوله: (قصيراه)، وهو الضلع الأسفل، وهو أقصر الضلوع.

ص: 342

زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. وقيل:{ثُمَّ} متعلق بمعنى {وَاحِدَةٌ} ، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدت، ثم شفعها الله بزوج. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ}: وقضى لكم وقسم؛ لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح كل كائن يكون. وقيل: لا تعيش الأنعام إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها. وقيل: خلقها في الجنة، ثم أنزلها. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}: ذكرًا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر، قال الله تعالى:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39]. {خَلْقًا مِن بَعْدِخَلْقٍ} : حيوانًا سويًا، من بعد عظام مكسوة لحمًا، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. والظلمات الثلاثة: البطن والرحم والمشيمة. وقيل: الصلب والرحم والبطن. {ذَلِكُمُ} الذي هذه أفعاله هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لا إلَهَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود)، قال صاحب "الفرائد": أي مانع يمنع من أن يكون التراخي في الوجود، لعل خلق حواء من آدم بعد مدة.

قلت: المانع جعل قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} معطوفًا على قوله: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ} عطف الجملة على الجملة، ولا شك أن تشعيب الخلق الفائت للحصر من آدم لم يكن مقدمًا على خلق حواء من ضلع آدم، ولهذا لما أراد ذلك المعنى عدل من الظاهر وأوله على وجهين: أحدهما: قال: "وقيل: {ثُمَّ} متعلق بمعنى {وَاحِدَةٍ} "، أي: أنها صفة لـ {نَفْسٍ} معطوفة على {وَاحِدَةٍ} على تأويل "وحدت"، إذ لو قيل:"وحدت" بدلها لصح على منوال "فأصدق وأكن"، وثانيهما: وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعدها حواء، فالمراد من قوله:{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ} أخرج الذرية من ظهره، فيكون من عطف الجملة على الجملة على هذا التأويل، و {ثُمَّ} على حقيقتها، ولا يخفى على ذي دربة بالأساليب أن التأويل الأول أولى وأبعد من التعسف.

ص: 343

إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟

[{إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 7]

{فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ} : عن إيمانكم، وإنكم المحتاجون إليه؛ لاستضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان، {ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} رحمةً لهم؛ لأنه يوقعهم في الهلكة. {وإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي: يرض الشكر لكم؛ لأنه سبب فوزكم وفلا حكم؛ فإذًا ما كره كفركم ولا رضي شكركم إلا لكم ولصلاحكم؛ لا لأن منفعة ترجع إليه؛ لأنه الغني الذي لا يجوز عليه الحاجة. ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا رضي شكركم إلا لكم ولصلاحكم، لا لأن منفعة ترجع إليه)، هذا من التراكيب التي منعها صاحب "المفتاح"، قال: لا يجوز ما جاء إلا زيد لا عمرو، وقد أجبنا عنه مرارًا.

قوله: (ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر)، قال الإمام: احتج الجبائي بهذه الآية من وجهين: أحدهما أن المجبرة يقولون: الله تعالى خلق كفر العباد، وإنه من جهة أنه من خلقه حق وصواب. فقال: لو كان الأمر كذلك لكان قد رضي الكفر من الوجه الذي خلقه، وذلك ضد الآية. والثاني: لو كان الكفر بقضاء الله لوجب علينا أن نرضى به؛ لأن الرضا بقضاء الله واجب، والرضا بالكفر كفر. وأجاب الأصحاب من وجوه:

أحدها: أن عادة الله جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ

ص: 344

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] وقال: {عَيْنًا يَّشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6] وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطّانٌ} [الحجر: 42].

قلت: ويؤيده ما روى محيي السنة عن ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطّانٌ} فيكون عامًا في اللفظ خاصًا في المعنى.

وثانيها: أن الكفر بإرادة الله لا برضاه؛ لأن الرضا من الله عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله.

وثالثها: أن الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض لا عن الإرادة. قال ابن دريد:

رضيت قسرًا وعلى القسر رضا .... من كان ذا سخط على صرف القضا

وأقول- وبالله التوفيق-: اعلم أن قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا} متصل بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وهم قوم مخصوصون، قال الواحدي: إن تكفروا يا أهل مكة، وقد تقرر أن قوله:{أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} مقابل لقوله: {أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وهو متضمن لتهديد عظيم، والمشار إليه بقوله:{ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ} جميع ما سبق من إجراء الأوصاف على من وصفوه بما لا ينبغي ونسبوه إلى ما هو منزه عنه من اتخاذ الأولياء والأولاد، يدل عليه قوله:{لَا إِلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ، فيكون قوله:{ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} جملةً مستطردةً كالتتميم للشرط الأول، تعريضًا بهم وبكفرهم، وهو مع الشرط كالمقابل للشرط الثاني. المعنى: أنهم ليسوا من جملة عباده المرتضين بل هم من الذين سخط الله عليهم، فوزانه وزان قوله:{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، أي:

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غني عنكم وعن شكركم، حميد ومستوجب للحمد لكثرة نعمة فإن لم تحمدوه أنتم بحمده غيركم ممن هو خير منكم، كقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] فإن المرا بـ {قَوْمًا} : الأنبياء والصحابة. وكقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] كأنه قيل: وإن تكفروا فإني غني عنكم وعن شكركم؛ لأن لي عبادًا مكرمين ما أرضى أن ينزل الكفر بساحتهم ويحل قريبًا من دارهم، يشكرون نعمتي ولا يكفرونها، ومع ذلك إن تشكروا وترجعوا عما أنتم فيه أرض الشكر لكم وأدخلكم في زمرة المرتضين من عبادي، فإني غفور شكور. وستقف إن شاء الله في سورة "الشورى" عند قوله تعالى:{اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} على كلام في تخصيص لفظ عباده بالمصطفين.

انظر أيها المتأمل الناقد البصير بين التأويلين، واعجب بحصى عقول أهل السنة والجماعة، واقطع بأنهم هم المحدثون الملهمون، ومن مشكاة النبوة مقتبسون، وعلى آثار السلف الصالح مقتفون، ولأمثالهم هداة، وإلى دين الله دعاة، أيقال: غواة، اللهم غفرًا.

وقال صاحب "الانتصاف": إن المصر على قلبه رين، وفي ميزان نظره غين، ولا يخفى أن وجود المشروط قبل الشرط ممتنع عقلًا ونقلًا، فإرادة الله الشكر مقدمة لوجوده منهم، فكيف يسوغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية شرطًا وجزاء، وجعل وقوع الشكر شرطًا والرضا جزاء؟ فيلزم تقدم الشكر على الإرادة. والزمخشري أحد من يقول: إذا كان الجزاء ماضيًا مخصًا لزمته الفاء، نحو: إن تكرمني فقد أكرمتك قبل، وقد عريت الآية عن الحرف المذكور على أنه لا بد من تأويل يصحح الشرطية، فإذا بطل حمل الرضا على الإرادة، وجب حمله على المجازاة على الشكر بالكرامة، أي: وإن تشكروا يجزكم عليه الجزاء المرضي عنه، والمجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر، ومثله:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي: لا يجازي عليه جزاء الراضي للمرضي عليه، بل جزاء المغضوب عليه.

ص: 346

هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلا عبادة الذين عناهم في قوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65]، يريد: المعصومين، كقوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6]، تعالى الله عما يقول الظالمون. وقرئ:{يَرْضَهُ} بضم الهاء بوصل وبغير وصل، وبسكونها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هذا من العام الذي أريد به الخاص)، الراغب: البعد على ضربين: عبد للإيجاد والتسخير، وذلك يطلق على كل أحد، وإياه عنى بقوله:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. وعبد على طريق التخصيص، وذلك قوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] فعلى هذا يصح إن قال: فلان ليس عبدًا لله، وإنه عبد الهوى وعبد الشهوة، ومنه الحديث:"تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميصة". وقال: تخصيص إضافة العبد إلى الله في كثير من المواضع تنبيه على مدحه في كونه مطيعًا له منصرفًا عن أمره، وأنه غير معرج على غيره، ثم أضافه بنون الملوكية مبالغةً في الاختصاص، وكل إضافة إلى الله تعالى بهذا الوجه فللمبالغة.

قوله: (وقرئ {يَرْضَهُ لَكُمْ} بضم الهاء بوصل)، قال القاضي: قرأه ابن كثير ونافع في رواية، وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها. وقال الواحدي: منهم من أشبع الهاء حتى ألحق بها واوا؛ لأن ما قبلها متحركة فصار بمنزلة ضربه وله، ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق بالواو؛ لأن أصله:

ص: 347

[{وإذَا مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ ثُمَّ إذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِن قَبْلُ وجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 8]

{خَوَّلَهُ} : أعطاه. قال أبو النجم:

أعطى فلم يبخل ولم يبخل .... كوم الذرى من خول المخول

وفي حقيقته وجهان؛ أحدهما: جعله خائل مال، من قولهم: هو خائل مال، وخال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يرضاه، والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو.

قوله: (أعطى فلم يبخل)، البيت. قبله في "المطلع":

الحمد لله الوهوب المجزل

ناقة كوماء: عظيمة السنام. والمخول: هو الله، يقال: خوله الله الشيء، أي: ملكه إياه. وقوله: "ولم يبخل" تأكيد، يقال: أبخلته، إذا وجدته بخيلا، وبخلته، نسبته إلى البخل، و "من خول" أي: من مال، وقيل: ما أعطى الله الإنسان من العبيد والنعم.

قوله: (خائل) قال الجوهري: قد خلت المال أخوله، إذا أحسنت القيام عليه. يقال: هو خال مال وخائل وخولي مال، أي: حسن القيام عليه. والتخول: التعهد. وفي الحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة".

النهاية: قال أبو عمرو: الصواب أنه كان يتخولنا بالحال، أي: يطلب الحال التي ينشطون فيها للموعظة فيعطيهم فيها ولا يكثر عليهم فيملوا. وقال في "الفائق": وروي "يتخونهم"، أي: يتعهدهم. وقيل: يتخولهم، أي: يتأمل حالاتهم التي ينشطون فيها للموعظة.

ص: 348

مال: إذا كان متعهدًا له حسن القيام به، ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة. والثاني: جعله يخول من خال يخول؛ إذا اختال وافتخر، وفي معناه قول العرب:

إن الغني طويل الذيل مياس

{مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ} أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، {مَا} بمعنى "من"، كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3]. وقرئ: {لِيُضِلَّ} بفتح الياء وضمها، بمعنى: أن نتيجة جعله لله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روينا عن البخاري ومسلم والترميذي، عن عبد الله "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا"، في اختلاف، ولم يختلفوا في أنه "يتخولنا"، بالخاء المعجمة.

قوله: (مياس)، الجوهري: الميس: التبختر. وقد ماس يميس ميسًا وميسانًا فهو مياس. وتميس مثله.

قوله: و {مَا} بمعنى "من" كقوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3])، وعن بعضهم: في هذا الوجه تكلف؛ لأنه لا يقال: دعا إليه بمعنى دعاه، كذلك "ما" بمعنى "من" لا حاجة إليه.

قلت: لا يقول هذا من ذاق حسن موقع "ما" في موقع "من" لإرادة الوصيفة باقتضاء المقام، ولطف محل تضمين {دَعَا} معنى "تصرع وابتهل"، كأنه نسي الكاشف لضر المضطرين، والسميع لدعاء المضطهدين، والعليم بأحوال الملهوفين، الذي كان يتضرع إليه هذا الفخور المختال، ويبتهل إليه هذا المتكبر المياس، كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3] أي: القادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى.

قوله: (وقرئ: {لِيُضِلَّ}) ابن كثير وأبو عمرو: بفتح الياء، والباقون: بضمها.

ص: 349

أندادًا ضلاله عن سبيل الله، أو إضلاله. والنتيجة قد تكون غرضًا في الفعل، وقد تكون غير غرض. وقول:{تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه؛ مبالغةً في خذلانه وتخليته وشأنه؛ لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمر به، ونظيره في المعنى قوله:{مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمَ} [آل عمران: 197].

[{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 9]

قرئ: (أمن هو قانت) بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على "من"، وبالتشديد على إدخال "أم" عليه. و "من" مبتدأ خبره محذوف، وتقديره: أمن هو قانت كغيره، وإنما حذف؛ لدلالة الكلام عليه؛ وهو جري ذكر الكافر قبله، وقوله بعده:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والنتيجة قد تكون غرضًا في الفعل وقد تكون غير غرض)، أي: اللام في {لِيُضِلَّ} كاللام في قوله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

قوله: (قرئ: "أمن هو قانت" بالتخفبف)، نافع وحمزة، والباقون: بالتشديد.

قوله: (و "من" مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أمن هو قانت كغيره)، هذا على التقديرين، أما على التخفيف فيقال: أمن هو قانت كغيره، وعلى التشديد "أم" منقطعة، والتقدير: بل أم من هو قانت كغيره، فعلى التقديرين لا بد من الخبر، وهذا مأخوذ من قول الزجاج: أم من هو قانت كهذا الذي ذكرناه ممن جعل له ندًا. وقيل: أمن هو قانت كغيره، أي: أمن هو مطيع كمن هو عاص.

ص: 350

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . وقيل: معناه: أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر؟ و: أهذا أفضل أم من هو قانت؟ على الاستفهام المتصل. والقانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله عليه السلام:"أفضل الصلاة طول القنوت"؛ وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: مراد الزجاج بالعاصي هو الذي ذكره قبل في تقدير المتصلة: من جعل له ندًا، إشارة إلى أن المضرب عنه بـ"بل" الكلام المذكور فيه {وجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} وهو الآية السابقة، أي: دع ذلك الذم وسلهم: أمن هو مطيع كمن هو عاص؟ وهو من باب إرخاء العنان.

قوله: (وقيل: معناه: أمن هو قانت)، هذا على أن تكون الهمزة و "أم" معادلتين، ولا بد من تقدير إحدى المعادلتين، فعلى التخفيف الاستفهام مذكور فيقدر "أم" مذكورة فيقدر. ونظيره، أي: نظير قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} فتقدر الهمزة، وإليه الإشارة بقوله:"أهذا أفضل أم من هو قانت؟ ". هذا مأخوذ من قول أبي علي: ومن قرأ "أمن" فإن الجملة التي عادلتها "أم" قد حذفت، المعنى: الجاحد الكافر بربه خير أمن هو قانت؟ و "من" موصولة، ودل على الجملة المحذوفة المعادلة لـ"أم" ما جاء بعده من قوله:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لأن التسوية لا تكون إلا بين اثنين، ومثل هذا الحذف قوله تعالى:{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] فجمع بين قول أبي علي والزجاج.

قوله: (أفضل الصلاة طول القنوت)، الحديث من رواية مسلم عن جابر:"أفضل الصلاة طول القنوت". ومن رواية الترمذي عنه أيضًا: "قيل: يا رسول الله أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت".

ص: 351

القيام فيها، ومنه: القنوت في الوتر؛ لأنه دعاء المصلي قائمًا. {سَاجِدًا} : حال. وقرئ: (ساجد وقائم) على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين. وقرئ:(ويحذر عذاب الآخرة). وأراد بـ {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} : العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة؛ حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العاملون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النهاية: القنوت يرد لمعان متعددة كالطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام والسكوت، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه.

قوله: (وأراد بـ {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}: العاملين)، متصل بقوله:"وقيل: معناه أمن هو قانت"، أي: قال القائل: معناه كذا، وأراد بالذين يعلمون العاملين، فيكون {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} وصفًا للمظهر موضع الضمير للإشعار بالعلية، ويفهم منه أن غير العالمين الجاهلون، وإليه أومأ بقوله:"فهم عند الله جهلة"، حيث جعل القانتين هم العلماء، كأنه قيل: أمن هو قانت أفضل أمن هو قانت؟ وهل يستويان، أي: بينهما بون بعيد، فالجملة الثانية بيان للفرق، ولهذا قال:"فيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقتنون"، وأما قوله:"ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه" فهو عطف على قوله: "وأراد بالذين يعلمون: العاملين"، أي: دل على المحذوف جري ذكر الكافر قبله وجري قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} : بعده وأراد بالذين يعلمون العالمين؛ لأنه كالتقدير لقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} لأن العالم الحقيقي هو العامل. ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه فيكون القانت غيرًا والعالم غيرًا.

ص: 352

وعن الحسن: أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو، فقال: هذا تمن، وإنما الرجاء قوله، فتلا هذه الآية. وقرئ:(إنما يذكر) بالإدغام.

[{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} 10]

{فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {أَحْسَنُوا} لا بـ {حَسَنَةٌ} ، معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة؛ وهي دخول الجنة، أي: حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدي بـ {حَسَنَةٌ} ، ففسر الحسنة بالصحة والعافية. فإن قلت: إذا علق الظرف بـ {أَحْسَنُوا} فإعرابه ظاهر، فما معنى تعليقه بـ {حَسَنَةٌ} ، ولا يصح أن يقع صفة لها؛ لتقدمه؟ قلت: هو صفة لها إذا تأخر، فإذا تقدم كان بيانًا لمكانها، فلم يخل التقدم بالتعليق، وإن لم يكن التعلق وصفًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن الحسن: أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو، فقال: هذا تمن، وإنما الرجاء هذه الآية)، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} الآية. الانتصاف: كلام الحسن صحيح أراد به الزمخشري باطلًا، فمراد الحسن أن حق المصر أن يغلب خوفه رجاءه، ولم يرد إقناطه من رحمة الله، ويظهر من حال الزمخشري واعتقاده أن هذا العاصي لا يدخل الجنة فلا وجه لرجائه، فأورد قول الحسن رمزًا لهذه العقيدة، فلا ينفع القانت قنوته إذا أودى به قنوطه، يريد:{لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

قوله: (فلم يخل التقدم بالتعليق)، يعني:{حَسَنَةٌ} مبتدأ، والخبر {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {حَسَنَةٌ} ولو كان متأخرًا عنها لكان وصفا، وحين تقدم كان بيانًا لمكانها؛ لأن التقدم لم يخل بالتعلق، كما أن الجملة إذا كانت صفة لنكره- وهي إما فاعل أو مفعول- فإذا تقدمت صارت حالًا، وهذه وإن لم تكن وصفًا لتقدمها، ولا حالًا

ص: 353

ومعنى "أرض الله واسعة": أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة؛ حتى إن اعتلوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لفقدان العامل، لم يخل التقدم بتعلقها بالحسنة فيكون بيانًا لمكانها أي: مكان الحسنة على نحو {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] كأن قائلًا لما سمع {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} سأل: أين هي؟ قيل: في هذه الدنيا.

قوله: (ومعنى "أرض الله واسعة")، المبتدأ، والخبر:"أن لا عذر"، و "حتى" غاية "أن لا عذر"، وهي التي تدخل على الجملة، والجملة هي الشرطية، أعني:"إن اعتلوا" مع جزائه، وهو "قيل لهم: فإن أرض الله واسعة" إلى آخره.

فإن قلت: من أين أفاد {أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ} هذه المعاني المتكاثرة؟ قلت: من حيث اتصاله بالكلام السابق، وذلك أن جملة قوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} مع ما اتصل به من قوله: {أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ} مستأنفة تعليل للأمر بالتقوى، إنما قيد الفعل بالظرف وهو {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} للإشعار بأن الدنيا مكان الإحسان ومزرعة لحرث الآخرة، فأريد تتميم ذلك المعنى فقيل:{أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ} لئلا يعتذر العامل لتفريطه في الأعمال بالاعتلال بالأوطان، وأنه لم يكن متمكنًا من التوفر على الإحسان في أرضه كأنه قيل لهم: اتقوا ربكم فيما تأتون به وتذرون، وتيقنوا بحصول أمرين: جزاء الإحسان وفسحة المكان فتهاجروا وتحولوا إن لم تتمكنوا من التقوى في أرضكم، ثم اتجه لهم أن يسألوا ويقولوا: فماذا يكون بعد تلك الحسنة لنا من الأجر حينئذ؟ فأجيبوا {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: أن الله تعالى وفي أجر من سبق عليكم من الأنبياء والصالحين بصبرهم على مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم وطاعةً إلى طاعتهم، فلكم الأجر وتوفيته إذا اقتفيتم أثرهم واقتديتم بهداهم، هذا التأويل إنما يحسن إذا علق الظرف بـ {أَحْسَنُوا} لا بـ {حَسَنَةٌ} ومن ثم كان الوجه الثاني مرجوحًا لا لما قاله مكي، والأول أحسن؛ لأن الدنيا ليست بدار جزاء؛ لأن المعنى حينئذ: لهم في هذه الدنيا الصحة والعافية، وفي الآخرة يوفون أجورهم كاملة. وعلى الأول المعنى: أن لهم وراء دخول الجنة مالا عين رأت

ص: 354

بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فلا تجثموا مع العجز، وتحولوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم؛ ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم وطاعةً إلى طاعتهم. وقيل: هو الذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]. وقيل: هي أرض الجنة. و {الصَّابِرُونَ} : الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى غيرها؛ من تجرع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير. {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: لا يحاسبون عليه. وقيل: بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفًا، وهو تمثيل للتكثير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ينصب الله الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولا أذن سمعت، فوضع {الصَّابِرُونَ} موضع الضمير للغلبة، وهاهنا أيضًا نكتة سرية وهي أن اسم الإشارة في قوله:{فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} كما هو في قوله:

هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه

لا كما في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} للإشعار بأن الدار الدنيا نعم الدار إن جعلت مكانًا للعمل وحرثًا للآخرة.

قوله: (لا يهتدي إليه حساب الحساب)، مثال لقوله:"لا يحاسبون عليه"، أي: لا حساب ولا اهتداء إليه. وقوله: "وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ينصب الله الموازين" الحديث: مثال لقوله: "بغير مكيال وغير ميزان"، فإنه لما قال أولًا:"يغرف لهم غرفًا" جاء بقوله: "ويصب عليهم الأجر صبًا"، فتطابقا. وحاصل معنى الآية: ما يوفى الصابرون أجرهم إلا بغير حساب؛ لأن الحصر في {إِنَّمَا} هو في القيد الأخير؛ لأنه فرغ {مَا} و {إِلَّا} وفيه معنيان: أحدهما: أنوفيه معنيان: أحدهما: أن

ص: 355

ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبًا، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل".

[{قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ * قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} 11 - 15]

{قُلْ إنِّي أُمِرْتُ} بإخلاص الدين {وأُمِرْتُ} بذلك {لِـ} أجل أن {أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ} أي: مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة، ولمعنى: أن الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقًا. فإن قلت: كيف عطف {أُمِرْتُ} على {أُمِرْتُ} وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد؛ لاختلاف جهتيهما؛ وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حكم الغير بخلافه، وعليه ظاهر الحديث الذي أورده. المعنى: من جمع بين الصبر والصلاة والصدقة والحج لا يكون أجره كأجر من أفرد تلك الطاعات؛ لأن ذلك الصبر لا يعتد به إذا أتى به مفردًا. والثاني: أن لا يكون أجر صبر هؤلاء كأجر صلاتهم وصدقتهم وحجهم، فالمراد بأجرهم على الأول ما ينسب إليهم، وعلى الثاني أجر صبرهم، ودلالة الآية عل معنى الحديث من حيث تخصيص وصف الصابرين وترتب الثواب عليه نحو:"في سائمة الغنم زكاة" ودلالتها على المعنى الثاني من أداة الحصر، والله أعلم.

قوله: (وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء)، يعنى: إذا كرر المعنى ليناط به معنى زائد كان المجموع غير المفرد، فالتقدير: أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك؛ لأن أكون

ص: 356

وجها الشيء وصفتاه تنزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدةً مثلها في: أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع"أن" خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضًا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في"أسطاع" عوضًا من ترك الأصل الذي مو"أطوع"، والدليل على هذا الوجه: مجيئه بغير لام في قوله: {وَاُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، {وَاُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104]. {وَاُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من السابقين. وفائدته التنبيه على أن السبق المعتبر ليس بتقدم الزمان بل بالتقدم بالقدم، قال الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11] قال القاضي: والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والأشعار بأن العبادة المقرونه بالإخلاص وإن اقتضت لذاتها أن تؤمر بها فهي أيضًا تقتضيه لما يلزم من السبقة في الدين. وقوله: "ولك أن تجعل اللام مزيدة" عطف على قوله: "وأمرت بذلك لأجل أن أكون"، يعني: أن اللام إما للتعليل أو مزيدة، وكان يلزم على الأول تقدير المأمور به المستلزم للتكرير، وأن يقال: وأمرت بذلك، فسأل عنه وأجاب، ثم شرع في بيان أن اللام مزيدة؛ لأن {أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ} هو المأمور به، واستشهد بأمثاله من قوله:{أَنْ َكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِين} وغيره.

قوله: (من ترك الأصل الذي هو أطوع)، إلى"أطاع"، روي عن المصنف أنه قال: إن"أطاع" أضله"أطوع"، فحين غيروا الأصل عوضوا من تغييره زيادة السين، ونحوه زيادة الهاء في"أهراق" وأصله"أراق". وقيل: الأصل في الآية أن يكون المفعول به اسمًا صريحًا، فإذا أتى بدله أن مع الفعل فقد عدل عن الأصل إلى غيره.

قال صاحب" الإنصاف": قوله: إنها لا تزاد إلا مع"أن"، ليس بصحيح، فمن مسائلها:{يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، و {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، و {وَاُمِرْتُ لِأُسْلِمَ} ، فلو اقتصر على أنها لا تزاد مع الاسم الصريح لكان أصح.

ص: 357

وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي؛ لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها. وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلامًا، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره؛ لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعًا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين؛ دلالة على السبب بالمسبب، يعني: أن الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي معناه أوجه)، أي: في معنى الأولية وجوه أربعة، ومدار الوجوه على وجهين: أحدهما: السبق بحسب الزمان. وثانيهما: بحسب المعنى.

والوجه الأول على وجوه:

أحدها: أن يراد بالأولية أول المخالفين لغير دين الإسلام الدافعين لما يضاد الإيمان، قال تعالى:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] فإن دفع نقيض الشيء إثبات له، كقول المنافقين:{إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وهو من قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14].

وثانيها: أن يراد بالأولية أول الموافقين والمدعوين إلى الإسلام وإليه الإشارة بقوله: "أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلامًا"، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحليًا به.

وثالثها: أن يراد بالسبق السبق بحسب الدعوة، فإن الأفضل أن من يدعو الغير إلى خلق كريم أن يدعو نفسه إليه أولًا، ويتخلق به حتى يؤثر في الغير سنة الأنبياء والصالحين لا الملوك والمتجبرين، والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق أن الأول مطلق وهذا مقيد.

الانتصاف: هذا الوجه أحسن الوجوه. والوجه الثاني: أن يراد بالسبق السبق بالقدم والأعمال الصالحة، وهو المراد من قوله:"وأن أفعل ما أستحق به الأولية" كقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]، وهذا الوجه أوفق للتأليف على ما سبق. فقوله:"إسلامًا" الظاهر أنه تمييز وبيان لما أبهم في الأولية.

قوله: (دلالة على السبب بالمسبب)، يعني: أطلق التقدم في الإسلام وأراد الأعمال

ص: 358

أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكل شوب، بدليل العقل والوحي، فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه، فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} قلت: ليس بتكرير؛ لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصًا له دينه؛ ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول، فالكلام أولًا واقع في الفعل نفسه، وإيجاده، وثانيًا فيمن يفعل الفعل لأجله؛ ولذلك رتب عليه قوله:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} ، والمراد بهذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصالحة؛ لأن الأعمال سبب في السبق، على أن من لم يأت من المؤمنين بالأعمال حاصل في منزلة بين المنزلتين عندهم، وعند المحدثين والسلف الصالح هو من إطلاق الكل على البعض؛ لأن الأعمال ركن من ركني الإسلام.

قوله: (فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين)، هذا بيان اتصال هذه الآية بما سبق، يعني: ما ذكرت من الأمر بالإخلاص في الدين والتبري من الشرك والرياء هو ما عرفته بالدليلين، أي: العقل والوحي.

قوله: (ليس بتكرير)، وتلخيص الجواب: أن الأول: إخبار عن كونه كان مأمورًا بإيجاد الإخلاص. والثاني: إخبار عن أنه امتثل لذلك الأمر وأوجد المأمور به، ولذلك قدم المفعول على الفعل، وقد تقرر عند أصحاب المعاني أنهم إذا قدموا على الفعل معموله آذنوا بتقرير الفعل والترديد في المعمول، كأنهم قالوا له: اعبد ما نعبد لنعبد ما تعبد، كما قال في {الْكَافِرُونَ} يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد إلهنا سنةً ونعبد إلهك سنة، فأجاب هاهنا بما أجاب هناك بقوله:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ} ، {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم} ، فهو بين القصر الإفرادي، وبهذا سقط قول ابن الحاجب والتمسك بمثل {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} ضعيف؛ لأنه جاء {فَاعْبُدِ اللهَ} و {اعْبُدُوا اللهَ} .

ص: 359

الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. {قُلْ إِنَّ} الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه: هم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ؛ لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها، {وَ} خسروا {أَهْلِيهِمْ} ؛ لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابًا لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعني: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله:{أّلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ؛ حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدإ والخبر، وعرف الخسران، ونعته بالمبين.

[{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ ومِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 16]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على ما حققت فيه القول مرتين)، أحدهما: في هذه السورة في قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} ، وثانيهما في قوله:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

قوله: ({قُلْ إِنَّ} الكاملين في الخسران)، هذا من إفادة تعريف الجنس، نحو {ذّلِكَ الْكِتَابُ} بالبقرة: 2]، وحاتم الجواد. وقوله:"الجامعين لوجوهه" بيان له. قال في قوله: هو الرجل، أي: الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، يعني: إنما يطلق اسم الجنس على فرد من أفراده إذا اجتمع فيه الخصائل المعتبرة في ذلك، فكأنه لذلك الجنس كله. وقوله:"هم الذين خسروا" إشارة إلى ما يعطيه التركيب من معنى الاختصاص، وفي إعادة {الَّذِينَ خَسِرُوا} في الخبر بعد ذكر {الْخَاسِرِينَ} مبالغة أخرى.

قوله: (وقيل: وخسروهم؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين)، وعلى هذا المراد بالأهل: ما يعد الأهل في الجنة من الحور والغلمان وغيرهم، وفيه تتميم، كأنه قيل: خسروا رأس المال والربح. وقوله: {أَلَا ذّلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} تذييل، ولهذا قال:"ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة".

ص: 360

{وَمِنْ تَحْتِهِمْ} أطباق من النار هي {ظُلَلٌ} لآخرين، {ذّلِكَ} العذاب هو الذي يتوعد {اللهُ بِهِ عِبَادَهُ} ويخوفهم؛ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ:(يا عبادي).

[{والَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وأَنَابُوا إلَى اللَّهِ لَهُمُ البُشْرَى فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 17 - 18]

{الطَّاغُوتَ} : فعلوت؛ من الطغيان، كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبًا بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين؛ لكونها مصدرًا وفيها مبالغات؛ وهي التسمية بالمصدر، كأن عين الشيطان ظغيان، وأن البناء بناء مبالغة؛ فإن الرحموت: الرحمة الواسعة، والملكوت: الملك المبسوط؛ والقلب وهو للاختصاص؛ إذ لا تطلق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هي {ظُلَلٌ} لآخرين)، يريد أن ظللًا إنما يكون من فوق، فلما خصت بقوله:{مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} نبه على الإدماج. وأن طبقة هؤلاء المشركين ظلة لآخرين وهم المنافقون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] و {مِنْ تَحْتِهِمْ} إما عطف جملة على {مِنْ فَوْقِهِمْ} و {ظُلَلٌ} على {ظُلَلٌ} أو يقدر {لَهُمْ} فيكون عطف جملة على جملة؛ لأن {لَهثمْ} خبر و {ظُلَلٌ} مبتدأ و {مِنَ النَّارِ} صفة و {مِنْ فَوْقِهِمْ} يجوز أن يكون حالًا من {ظُلَلٌ} أو متعلقًا بالخبر {وَأَهْلِيهِمْ} ظلل كائنة من فوقهم.

قوله: {ذَلِكَ} العذاب هو الذي يتوعد {اللهُ بِهِ عِبَادَهُ} )، هذا تصحيح لمعنى {يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ} وأنه خبر لذلك، والمشار إليه ما سبق.

قوله: (والقلب)، أي: ومن المبالغات القلب، وحكمه حكم أسماء الأجناس إذا غلب على إحدى مسمياتها بأن تجعل مع الألف واللام علمًا له، فإن المصدر كما قال "فعلوت" من "الطغيان" يطلق على من طغى وتجاوز فيه الحد، ثم قلب وغلب على الشيطان، وإليه

ص: 361

على غير الشيطان، والمراد بما ها هنا الجمع. وقرئ:(الطواغيت). {أَنْ يَعْبُدُوهَا} : بدل من {الطَّاغُوتِ} بدل الاشتمال. {لَهُمُ الْبُشْرَى} : هي البشارة بالثواب، كقوله تعالى:{لَهُمث الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]، الله عز وجل يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين، وحين يحشرون، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} [الحديد: 12]. وأراد بعباده {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} : الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وإنما أراد بهم أن يكونوا نقادًا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاصل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإشارة بقوله: "وهو للاختصاص".

قوله: (وقرئ: "الطواغيت")، قال ابن جني: قرأها الحسن: {الطَّاغُوتِ} مقلوب، ووزنه "فلعوت" من: طغيت، وقالوا أيضًا: طغوت. وقولهم: "طغيان" دليل على أن اللام ياء فاصلة، إذن "طغيوت" مصدر كالرغبوت والرهبوت، ثم قدم اللام على العين فصارت "طيغوت" ثم قلبت الياء لتحركها وانفتاح ما قلبها الفاء فصار "طاغوت"، وكان القياس إذا كسر أن يقال:"طياغيت" إلا أنه قيل: "طواغيت" على لغة من قال: "طغوت".

قوله: (وأراد بعباده {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}: الذين اجتنبوا لا غيرهم)، يعني: لا يجوز أن يراد غيرهم؛ لأن قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} مترتب على جملة قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا} إلى قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} على معنى إذا كان لهم البشرى فبشرهم، فأقيم المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق لتكرير استحقاق البشارة، أحدهما: الترتيب، والآخر: تخصيص الذكر، ولو ترك إقامة المظهر موضع المضمر وقيل:{فَبَشِّرْهُمْ} لم ينبه على كونهم نقادًا مميزين مع الاجتناب والإنابة.

ص: 362

اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب، حراصًا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابًا ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلًا أو أمارة، وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل:

ولا تكن مثل غير قيد فانقادا

يريد المقلد. وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها، نحو القصاص والعفو، والانتصار والإغضاء، والإبداء والإخفاء؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو، فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الوقفة من يقف على:(فبشر عبادي)، ويبتدئ:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ} ، ويرفعه على الابتداء، وخبره {أُولَئِكَ} .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا تكن مثل عير قيد فانقادا)، أوله:

شمر وكن في أمور الدين مجتهدًا

أي: لا تكن في مذهبك مقلدًا واختر أقوى المذاهب. الانتصاف: ملأ كتابه من الاعتزال، وهو يظن أه قد أجاد فلا مطمع في رجوعه عن تقليده ونسأل الله العصمة.

قوله: (ومن الوقفة من يقف)، وفي "التيسير": قرأ أبو شعيب: "فبشر عبادي الذين" بياء مفتوحة في الوصل، ساكنة في الوقف. وقال أبو حمدون وغيره عن اليزيدي: مفتوحة في الوصل، محذوفة في الوقف. وهو عند قياس قول أبي عمرو، وفي اتباع المرسوم عند الوقف. والباقون يحذفونها في الحالين. وفي "المرشد": إن جعلت {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} صفةً لـ {عِبَادِي} لم تفصل بينهما ووقفت على قوله: {أَحْسَنَهُ} ثم تبتدئ {أُولَئِكَ} مبتدأ،

ص: 363

[{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} 19]

أصل الكلام: أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار، والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقيذه؟ والهمزة الثانية هي الأولى، كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع {مَن فِي النَّارِ} موضع الضمير، فالآية- على هذا- جملة واحدة. ووجه آخر؛ وهو أن تكون الآية جملتين: أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه؟ أفأنت تنقذ من النار؟ وإنما جاز حذف: فأنت تخلصه؛ لأن {أَفَأَنتَ تُنقِذُ} يدل عليه. نزل استحقاقهم العذاب- وهم في الدنيا- منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكده نفسه في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار. وقوله:{أَفَأَنتَ تُنقِذُ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخبره: {الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ} . وإن جعلته مبتدأ كان الوقف على {عِبَادِ} تامًا، وتبتدئ {الَّذِينَ} على أنه مبتدأ، وخبره:{الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ} ، وعلى الوجهين: الوقف عند {هَدَاهُمُ اللهُ} جائز. وقلت: من وقف على {عِبَادِي} جعل موقع السؤال عنده، فيكون الاستئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث، وقد مضى الفرق في أول البقرة.

قوله: (والهمزة الثانية هي الأولى، كررت للتوكيد)، قال الزجاج:{أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} فيه معنى الجزاء، والهمزة في {أَفَأَنتَ} جاءت مؤكدةً معادةً لما طال الكلام؛ لأنه لا يصلح أن تأتي بهمزة الاستفهام في الاسم والأخرى في الخبر، والمعنى: أفمن حق عليه العذاب أفأنت تنقذه؟

قوله: (نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم

في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار)، تلخيصه: أن أصل الكلام:

ص: 364

يفيد أن الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فكما لا تقدر أنت أن تنقذ الداخل في النار من النار، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه.

[{َكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ المِيعَادَ} 20]

{غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} : علالي بعضها فوق بعض. فإن قلت: ما معنى قوله: {مَّبْنِيَّةٌ} ؟ قلت: معناه، والله أعلم: أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوت تسويتها. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} كما تجري تحت المنازل، من غير تفاوت بين العلو والسفل. {وعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد؛ لأن قوله:{لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى: وعدهم الله ذلك.

[{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال؟ فوضع النار موضع الضلال وضعًا للمسبب موضع السبب لقوة أمره، ثم عقب المجاز بما يناسبه من قوله:{تُنْقِذُ} بدل {تَهْدِي} كما يعقب الاستعارة بالترشيح؛ لأن الإنقاذ أنسب لمن هو في النار من الهداية، وذلك لشدة حرصه صلوات الله عليه على إيمانهم والمبالغة في اجتهاده.

قوله: (يفيد أن الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ)، إلى آخره. أراد أن تقديم الفاعل المعنوي على الفعل وإيلاءه همزة الإنكار يدل على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل، أي: لست أنت الفاعل لهذا الفعل بل فاعله غيرك وهو الله وحده.

قوله: (ما معنى قوله: {مَّبْنِيَّةٌ}؟ )، يعني: وصف الغرف بالمبنية، والمتعارف أنها من أوصاف التحتانية لا العلالي، وخلاصة الجواب: أن غرف الجنة على خلاف ما في الدنيا، فيكون بناؤها بناء المنازل التي على الأرض وسويت بتسويتها، تجري من تحتها الأنهار كما تجري من تحت المنازل.

ص: 365

مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} 21]

{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : هو المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة، ثم يقسمه الله، {فَسَلَكَهُ}: فأدخله ونظمه {يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} : عيونًا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد {مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} : هيئاته؛ من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، أو أصنافه؛ من بر وشعير وسمسم وغيرها. {يَهِيجُ}: يتم جفافه، عن الأصمعي؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب، { ..... }: فتاتًا ودرينًا. {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} : لتذكيرًا وتنبيهًا على أنه لابد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال. ويجوز أن يكون مثلًا للدنيا، كقوله:{إِنَّمَا مَثْلُ الْحِيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24]، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45]. وقرئ: (مصفارًا).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلى الصخرة)، وهي التي في بيت المقدس.

قوله: (عيونًا ومسالك)، نصب على التفسير لقوله:{يَنَابِيعَ} ، قال القاضي: أي: عيونًا ومجاري كامنةً فيها، أو قنوات نابعات فيها؛ إذ الينبوع جاء للمنع وللنابع فنصبها على المصدر أو على الحال.

المغرب: نبع الماء ينبع، خرج من الأرض نبوعًا ونبعًا ونبعانًا.

قوله: (أو أصنافه من بر)، عطف على "هيئاته". الجوهري: اللون هيئته كالسواد والحمرة، واللون: النوع.

قوله: (فتاتًا ودرينًا)، الجوهري: الدرين حطام المرعى إذا قدم، وهو ما بلي من الحشيش، وقلما تنتفع به الإبل.

قول: (ويجوز أن يكون مثلًا للدنيا)، عطف على قوله:"هو المطر"، أي: الآية إما واردة

ص: 366

[{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} 22]

{أَفَمَنْ} عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقلبه كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسي القلب، ونور الله: هو لطفه. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقيل: يا رسول الله، كيف انشراح الصدر؟ قال:"إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح"، فقيل: يا رسول الله، فما علامة ذلك؟ قال:"الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للمت قبل نزول الموت"، وهو نظير قوله:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] في حذف الخبر. {مِنْ ذِكْرِ اللهِ} : من أجل ذكره، أي: إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوةً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على ظاهرها حاثة على التفكر في آيات الله الباهرة، أو المراد بها: التمثيل باعثةً على التذكير والإيقاظ، زاجرةً عن الركون إلى اللذات العاجلة. منبهةً أنها في وشك الزوال وسرعة الانفصال، يدل على الثاني سوابقها ولواحقها، فإنها مسبوقة للتذكير والوعظ لاسيما قوله:{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} أي: لمن لا يلين قلبه لمواعظ الله وزواجره، ولذلك استشهد بقوله:"الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت".

الزجاج: هـ له: (هو نظير قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} في حذف الخبر)، أي: في أحد وجهيه، قال فلم يهتد لقسوذه الفاء للمجازاة، المعنى: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع الله على قلبه} ..... ؟ لأن في الكلام دليلًا على هذا المقدر، وهو قوله:{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم}

ص: 367

كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. وقرئ: (عن ذكر الله). فإن قلت: ما الفرق بين"من"و"عن" في هذا؟ قلت: إذا قلت: قسا قلبه من ذر الله، فالمعنى ما ذكرت؛ من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره: سقاه من العيمة، أي: من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة: إذا أرواه حتى أبعده عن العطش.

[{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 23]

عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا له حدثنا؛ فنزلت. وإيقاع اسم"الله" مبتدًا، وبناء {نَزَّلَ} عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله، وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث. و {كِتَابًا} بدل من {أَحْسَنَ الحَدِيثِ} ، ويحتمل أن يكون حالًا منه. {مُّتَشَابِهًا}: مطلق في مشابهة بعضه بعضًا، فكان متناولًا معانيه في الصحة والإحكام،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ملوا ملة)، الجوهري: مللت الشيء بالكسر أمله، ومللت منه أيضًا، مللًا وملةً وملالةً؛ إذا سئمته.

قوله: (وإيقاع"اسم الله" مبتدأ)، يعني: التركيب من باب تقوي الحكم، لكن في تخصيص اسم الله الجامع بالذكر وإيقاع الفعل على أحسن الحديث وإبدال {كِتَابًا} عنه ووصفه بـ {مُّتَشَابِهًا} الإشعار بترتب الحكم على الوصف والدلالة على الاختصاص، وأن مثل هذا الكلام في حسن نظمه وغرابته وكونه جامعًا للمعارف الحقة وحائزًا لمحاسن الأخلاق ومكارم الشيم لا ينبغي أن يصدر إلا عمن استجمع فيه الأسماء الحسنى والصفات العليا، وفي قوله:"وأن مثله" إشارة إلى الكناية التي ذكرناها؛ لأنها على منوال مثلك يجود.

ص: 368

والبناء على الحق والصدق، ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون {مَثَانِيَ} بيانًا لكونه متشابهًا؛ لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني: جمع مثنى بمعنى: مردد ومكرر، لما ثني من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه: لا يتفه ولا يتشان ولا يخلق على كثرة الرد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتناصفها في التخير والإصابة)، الجوهري: أنصف، أي: عدل، يقال: أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه، وتناصفوا، أي: أنصف بعضهم بعضًا من نفسه، ومنه قول الشاعر:

إني غرضت إلى تناصف وجهها .... غرض المحب إلى الحبيب الغائب

يعني: اشتقت إلى استواء المحاسن، كأن بعض أعضاء الوجه أنصف بعضًا في أخذ القسط من الجمال.

قوله: (ويجوز أن يكون {مَثَانِيَ} بيانًا)، عطف على قوله:"مطلق في مشابهة بعضه بعضًا"، أي يقيد {مثتَشَابِهًا} تارة بـ {مَثَانِيَ} ، ويطلق أخرى ليبقى على إطلاقه دالًا على ما هو شائع في جنسه، ومن ثم قدر ما قدر.

قوله: (لا يتفه ولا يتشان)، النهاية: في حديث ابن مسعود يصف القرآن: "لا يتفه ولا يتشان". هو من الشيء التافه الحقير، يقال: تفه يتفه فهو تافه، ولا يتشان، أي: لا يخلق عن كثرة الرد، مأخوذ من الشن وهو السقاء الخلق.

قال في"الفائق": أي: القرآن حلو طيب لا تذهب طلاوته ولا يبلى رونقه وطراوته بترديد القراءة كالشعر وغيره. وتفه، أي: من: تفه الطعام؛ إذا سنخ، أو من: تفه الثوب؛

ص: 369

بمعنى التكرير والإعادة، كما كان قوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 3] بمعنى: كرة بعد كرة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صح ذلك؛ لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب؟ إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة؛ وأصله: كتابًا متشابهًا فصولًا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون {مَثَانِيَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا بلي، "ولا يتشان" تأكيد له، أو من: تفه الشيء؛ إذا قل وحقر، أي: هو معظم في القلوب أبدًا، وقيل: معنى"التشان": الامتزاج بالباطل من الشنانة وهي: اللبن المذيق.

وقلت: روينا عن علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة" قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الحبل المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم". أخرجه الترمذي والدارمي.

قوله: (برمة أعشار)، الجوهري: البرمة: القدر. وبرمة أعشار: إذا انكسرت قطعًا.

وقلت: أعشار: جاء على بناء الجمع، كما قالوا: رمح أقصاد، وثوب أخلاق، إذا كانت الخلوقة فيه كله، كما قالوا: أرض سباسب، وبرمة أعشار. وعن بعضهم: وهي التي تسع

ص: 370

صفةً، ويكون منتصبًا على التمييز من {مُتَشَابِهًا} ، كما تقول: رأيت رجلًا حسنًا شمائل، والمعنى: متشابهةً مثانيه. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودًا عن بدء، لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعًا، ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضًا شديدًا، وتركيبه من حروف القشع، وهو الأديم اليابس، مضمومًا إليها حرف رابع وهو الراء؛ ليكون رباعيًا ودالًا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف، وقف شعره،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيها أعشار الجزور وهي أنصباؤها جمع عشر، والأقصاد: جمع قصد، وهو ما يكسر به الرمح.

أخلق الثوب: إذا بلي، يتعدى ولا يتعدى.

قوله: (حسنًا شمائل)، أي: شمائله، و"شمائل" نصب على التمييز.

قوله: (عودًا عن بدء)، هو حال من الذي أقيم مقام الفاعل في"يكرره"، ونحوه: رجع عوده على بدء، أي: راجع في الطريق الذي جاء منه، ويجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا، نحو قعدت جلوسًا.

قوله: (ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم)، روى الترمذي عن أنس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلمة ثلاثًا لتعقل عنه".

وروى أبو داود عن رجل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثًا أعاده ثلاث مرات.

قوله: (وتركيبه من حروف القشع)، إلى قوله:(وقف شعره)، عن بعضهم: هذا بيان الحكمة لفعل الواضع، لا أنه اشتقاق، كما "اقمطر" فإن "القمط" هو الأصل، ثم

ص: 371

وهو مثل في شدة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل؛ تصويرًا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق، والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده: أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة: لانت جلودهم وقلوبهم، وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. فإن قلت: ما وجه تعدية "لان" ب"إلى"؟ قلت: ضمن معنى فعل متعد ب"إلى"، كأنه قيل: سكنت، أو: اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأن أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غضبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رؤوفًا رحيمًا. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولًا، ثم قرنت بها القلوب ثانيًا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زيدت فيها الراء، فيكون رباعيا دالا على معنى زائد، ونظيره قوله النحويين: إن الضاد اسم للحرف الأول من: ضرب.

قوله: (وهو مثل في شدة الخوف)، أي: استعمل القشعريرة في تغير يحصل في جلد الإنسان عند الوجل، فينتصب شعره، وكثر فيه حتى صار مثلًا لمجرد شدة الخوف.

قوله: (لم اقتصر على ذكر الله من غير الرحمة)، يعني: ذكرت أن المعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وآيات وعيده أصابتهم خشية، ثم إذا ذكروا رحمته لانت جلودهم، فلم حذفت الرحمة وليس في الكلام ما يدل على المحذوف؟ وأيضًا فلم اقتصر على المضاف إليه؟ وخلاصة الجواب: أن اسم الله وإن كان جامعًا لسائر الأسماء الحسنى، وتقييده بشيء من تلك الأسامي إنما يعلم بحسب القرائن، لكن عند فقدان القرينة يغلب جانب الرحمة على الغضب؛ لأن رحمته سبقت غضبه، وإليه الإشارة بقوله:" فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال إلا كونه رؤوفًا رحيمًا".

قوله: (إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب فقد ذكرت القلوب)، يعني: إن لم تذكر "القلوب" في الأول صريحًا فقد ذكرت" الخشية" التي من عوارضها، فكأنها قد ذكرت،

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتحرير المعنى: أنهم إذا فوجئوا بالقرآن وما فيه من القوارع والزواجر مجملًا تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم، فإذا ورد عليهم من ذكر اسم الذات وارد رحماني استبدلوا بالخشية رجاء، وبالقشعريرة لينًا، فلمًا جعل اقشعرار الجلود أصلًا في الاعتبار أولًا أتبع بذكر نا يناسب الاقشعرار من اللبن ثانيًا تغليبًا، وإلا كان مناسب الخشية الرجاء كما صرح به، وروى في تفسير قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 2] عن أم الدرداء: "الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجدله قشعريرة"، يعني: فزعت لذكره استعظاما له وتهيبًا من جلاله وعزة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله:{ثُمَّ تَلِينُ جُلُدُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه.

وروى الإمام عن لسان أهل العرفان: العارفون السائرون في بيداء جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا.

وقلت- والله أعلم-: إن الله تعالى لما وصف القرآن المجيد وبالغ في مدحه حتى بلغ غايته من الكمال على ما سبق في قوله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} وأراد أن يبين كيفية هدايته للخلق، فإن جل الغرض من الكتب السماوية الهداية، قال:{مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ، يعني: من أراد الله أن يهديه به أوقع في قلبه الخشية، كقوله:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ثم يتأثر منه ظاهره بأن يأخذه في بدء الحال قشعريرة في الجلد لضعف الحال أو قوة سطوة الوارد، فإذا أدمن سماعه وألف أنواره تلين جلوده فيتأثر منه القلب فيطمئن إليه فتنقلب النفس الأمارة مطمئنة، {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ، فكما يتأثر الظاهر من القلب في بدء الحال ينعكس في ثاني الحال، ويتأثر القلب من الظاهر، ولذلك جعل اقشعرار الجلد تابعًا لخشية الله أولًا، ولين القلب تابعًا للين الجلد ثانيًا، فيستمد الظاهر من الباطن أنواره، والباطن من الظاهر آثاره، فلا يزالان يتناوبان حتى يصعد السالك بذلك إلى مدارج القدس ومعارج الكمال، فيتوطن في مخدع

ص: 373

فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والمرحمة: استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم {ذلِكَ} إشارة إلى الكتاب، وهو {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ}: يوفق به من يشاء، يعنى: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2). {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} : ومن يخذله من الفساق والفجرة {فَما لَهُ مِنْ هادٍ} ، أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله، أي: أثر هداه، وهو لطفه، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى، {يَهْدِي بِهِ} بهذا الأثر {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، يعنى: من صحب أولئك ورآهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبًا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}: ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره، {فَما لَهُ مِنْ هادٍ} من مؤثر فيه بشيء قط.

[{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} 24 - 26].

يقال: اتقاه بدرقته: استقبله بها فوقى بها نفسه إياه واتقاه بيده. وتقديره:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القرب ثم يفيض نوره المستفيض على الغير، كما قال تعالى:{ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يِشَاءُ} ، وكشف عن القناع حيث أشار من صحب أولئك ورآهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبًا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسوك طريقتهم، رزقنا الله الاقتداء بهم بفضله وجوده.

قوله: (أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء)، عطف على قوله:"ذلك إشارة إلى الكتاب"، وعلى الأول: المراد بذكر الله القرآن في نفسه، قد أقيم مقام المضمر من غير لفظه السابق؛ تعظيمًا للحال وتحقيقًا لما قال.

قوله: (بدرقته)، أي: بترسه، يقال: اتقى بدرقته، أي: استقبل زيدًا بدرقته فوقى

ص: 374

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ} كمن أمن العذاب، فحذف الخبر كما حذف في نظائره: و {سُوءَ الْعَذَابِ} : شدّته. ومعناه: أن الإنسان إذا لقي مخوفًا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه، لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه؛ فلا يتهيأ له أن يتقى النار إلا بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره، وقاية له ومحاماة عليه. وقيل: المراد بالوجه الجملة، وقيل: نزلت في أبي جهل. وقال لهم خزنة النار: {ذُوقُوا} وبال {مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} . {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} : من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم. والخزي: الذل والصغار، كالمسخ والخسف والقتل والجلاء، وما أشبه ذلك من نكال الله.

[{وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 27 - 28]

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حال مؤكدة، كقولك: جاءني زيد رجلًا صالحًا وإنسانًا عاقلًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بدرقته نفسه زيدًا. الأساس: هذا وقاء ووقاية له لما يوقى به الشيء. ووقاه الله كل سوء ومن السوء وقاية. فعلى هذا: اتقاه بدرقته؛ استقبله بدرقته فوقى بها نفسه إياه، أي: منه.

قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حال مؤكدة)، قال الزجاج:{عَرَبِيًّا} منصوب على الحال، أي: ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه، وذكر {قُرْآنًا} توكيدًا، كما تقول: جاءني زيد رجلًا صالحًا، فتذكر رجلًا توكيدًا. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: {قُرْآنًا} حال، و {عَرَبِيًّا} صفة؛ لأن القرآن مصدر، فيمكن أن يقع حالًا، أي: مقروءًا عربيًا. وقال أبو البقاء: {قُرْآنًا} هو حال من {الْقُرْآن} موطئة، والحال في المعنى قوله:{عَرَبِيًّا} . وقيل: انتصب بـ {يَتَذَكَّرُونَ} .

ص: 375

ويجوز أن ينتصب على المدح، {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}: مستقيمًا بريئًا من التناقض والاختلاف.

فإن قلت: فهلا قيل: مستقيمًا، أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان؛ إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج قط، كما قال:{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]. والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس. وأنشد:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نفي أن يكون فيه عوج قط)، وذلك من طريق الكتابة، فإنه إذا لم يكن صاحب عوج، فأن لا يكون معوجًا فبالطريق الأولى، كقوله:{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، أي: عوجًا وما يقال له عوج.

قوله: (والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان)، معناه: أن المطلوب أن يقال: إن معانيه صحيحة مستقيمة لا ترى فيها اختلافًا، كما قال:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فلو قيل: غير معوج، لفهم أن ألفاظه مستقيمة وكان تكريرًا؛ لأن قوله:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} دل على ذلك، أو لأن العوج إذا استعمل في الأعيان دل على بلوغه في الاستقامة إلى حد لا يدرك العقل فيه خللًا كما ذكره في "طه".

قوله: (والثاني: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان)، قال الزجاج: العوج -بكسر العين- فيما لا يرى له شخص، وما كان شخصًا قلت فيه: عوج -بالفتح- تقول: في دينه عوج، وفي العصا عوج، فإذن لا بد من "ذي"، أي: غير ذي معانٍ مائلٍ عن الاستقامة.

الانتصاف: تقدم له في "طه" الاعتذار عن استعمال العوج المكسورة في الأشخاص في قوله: {لَا عِوَجَ لَهُ} بأن الأشياء التي تستوي في العادة لا تخلو عن عوج، وإن دق عن البصر ينفرد بإدراكه العقل، وبين أن الأرض بلغت من الاستواء إلى الحد الحقيقي الذي لا يدرك العقل فيه خللًا، فعبر عنه بالمكسور العين؛ لكونه مشبهًا بالمعاني، وحاصله يجوز غير ذي عوج، والمراد: ألفاظ القرآن.

ص: 376

وقد أتاك يقين غير ذي عوج .... من الإله وقول غير مكذوب

[{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 29]

اضرب لقومك مثلًا، وقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهنٍ شتى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واضرب لقومك مثلًا وقل لهم ما تقولون)، إنما دعاه إلى جعل الإخباري، أي: قوله {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} طلبيًا، وأتى بواو العطف ليتصل بما جاء في هذه السورة الكريمة من الأمر كقوله:{قُلْ} أو دعاه قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلَا} فإنه سؤال تقرير وتبكيت للمشركين، فلا بد من السائل، والسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} ماضٍ، فيجب التأويل وأن يقال: واضرب لقومك مثلًا وقل لهم كذا، ثم سل: هل يستويان مثلًا؟ أي: قل لهم: ما تقولون في هذا التمثيل؟ ثم بعد الفراغ سلهم: هل يستويان مثلًا؟ ثم إذا ألزمتهم الحجة قل: الحمد لله شكرًا على ما أولاك من النصرة وقهر الأعداء بالحجج الساطعة.

قال صاحب "الكشف": {رَجُلًا} بدل من قوله: {مَثَلًا} ، و {شُرَكَاءُ} ترتفع بالظرف.

قوله: (ويتعاورونه)، أي: يتداولونه. الجوهري: يقال: هم يعورون العواري بينهم. وقد قيل: مستعار بمعنى: متعاور، أي: متداول.

قوله: (في مهن شتى)، الجوهري: المهنة -بالفتح- الخدمة. وحكى أبو زيد والكسائي: المهنة؛ بالكسر، وأنكره الأصمعي. والماهن: الخادم.

ص: 377

ومشاده، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره سادر، قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته؛ وفي آخر قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أي هذين العبدين أحسن حالًا وأجمل شأنًا؟ والمراد: تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعى كل واحد منهم عبوديته، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، كما قال تعالى:{وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، ويبقى هو متحيرًا ضائعًا لا يدرى أيهم يعبد، وعلى ربوبية أيهم يعتمد، وممن يطلب رزقه، وممن يلتمس رفقه، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع؛ وحال من لم يثبت إلا إلهًا واحدًا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله، مؤمل للثواب في آجله. و {فِيهِ} صلة {شُرَكَاءَ} ، كما تقول: اشتركوا فيه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومشاده)، الأساس: وهو مشدوه؛ مشغول مدهوش، وهو في مشاده: في مشاغل.

قوله: (سادر)، الجوهري: السادر: المتحير.

قوله: (فهمه شعاع)، الجوهري: رأي شعاع، متفرق. ونفس شعاع، تفرقت هممها.

قوله: (وقلبه أوزاع)، الأساس: وزع المال والخراج توزيعًا: قسمه، وبها أوزاع من الناس: ضروب متفرقون. تقول: ذهبت نفسه شعاعًا ولحمه أوزاعًا. أوزاع: جمع صورة لا واحد له.

قوله: (و {فِيهِ} صلة {شُرَكَاءُ} ، هذا يدل على أن الظرف مع اعتماده يجوز أن يكون غير عامل فيما بعده بل متعلقًا به، ويجوز أن يكون خبرًا له، كما ذهب إليه صاحب "المفتاح" في قوله:

كأنه علمٌ في رأسه نار

ص: 378

والتشاكس والتشاخس: الاختلاف، تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسنانه. (سَالِمًا لِرَجُلٍ) خالصًا له. وقرئ:{سَلَمًا} ، بفتح الفاء والعين، وفتح الفاء وكسرها مع سكون العين، وهي مصادر "سلم"، والمعنى: ذا سلامة لرجل، أي: ذا خلوص له من الشركة، من قولهم: سلمت له الضيعة. وقرئ بالرفع على الابتداء، أي: وهناك رجل سالم لرجل، وإنما جعله رجلًا، ليكون أفطن لما شقي به أو سعد، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا}: هل يستويان صفة؟ على التمييز. والمعنى: هل يستوي صفتاهما وحالاهما، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. وقرئ:(مثلين)، كقوله تعالى:{وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا} مع قوله: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر: 44]، ويجوز فيمن قرأ:(مثلين)، أن يكون الضمير في {يَسْتَوِيانِ} للمثلين؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتشاخست أسنانه)، الأساس: تشاخس فوه، إذا اختلفت أسنانه. شاخس الحمار، إذا فتح فاه رافعًا رأسه بعد شم الروثة.

قوله: (وقرئ: {سَلَمًا})، بفتح السين، قرأ ابن كثير وأبو عمرو:"سالمًا" بألف بعد السين وكسر اللام، والباقون: بفتح اللام من غير ألف.

قوله: (وإنما جعله رجلًا)، في "المطلع": إنما خص المالك بالرجل دون الصبي والمرأة؛ ليكون أفطن بحال العبد من الدعة والكد، والمرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك.

قوله: (كقوله: {وَأَكْثَرَ أَمْوالًا})، عن بعضهم: كونه نظيرًا له في أن التمييز ليس بمفرد مع أنه سبق تمييز بمفرد.

وقلت: شبه القراءتين- أعني: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} و "يستويان مثلين" بالآية لمجيء المثالين فيها، أي: وقرئ "مثلين" مع قراءة {مَثَلًا} كقوله: {وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا} [التوبة: 69] مع قوله: {أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر: 44] لكن الآية في "البراءة": {أَشَدَّ مِنْكُمْ} [التوبة: 69] بالخطاب، نعم جاء {أَشَدُّ مِنْهُمْ} بدون {وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا} .

ص: 379

لأن التقدير: مثل رجل ومثل رجل. والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، كما تقول: كفى بهما رجلين. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه، أي: يجب أن يكون الحمد متوجهًا إليه وحده والعبادة، فقد ثبت أنه لا إله إلا هو. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فيشركون به غيره.

[{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} 30 - 32}

كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، فأخبر أن الموت يعمهم، فلا معنى للتربص، وشماتة الباقي بالفاني. وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه، ونعى إليكم أنفسكم: وقرئ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن التقدير: مثل رجل ومثل رجل)، يعني: أجمل ثم فصل، نحو:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: أبدل {الَّذِينَ ظَلَمُوا} من أو {وَأَسَرُّوا} إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به.

قوله: (فيما يرجع إلى الوصفية)، إشارة إلى أن {مَثَلًا} في قوله:{هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} بمعنى: صفة، مستعار لها، وهو تمييز كما سبق. {هَلْ يَسْتَوِيانِ} صفة على التمييز.

قوله: (كما تقول: كفى بهما رجلين)، أي: فيما يرجع إلى الرجولية، إذا اعتبرت رجلين رجلين. الجوهري: هذا رجل كافيك من رجل، وهما رجلان كافيك من رجلين.

قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الواحد] الذي لا شريك له دون [كل] معبود سواه)، وصف الله بنفي الشريك ليؤذن بأن الاسم الجامع في مقام ضرب المثل لنفي الأضداد والأنداد متجل بصفة الوحدانية والفردانية، و"دون" متعلق بالظرف المستقل وهو {للهِ} ، يدل عليه قوله:"أي: يجب أن يكون الحمد لله متوجهًا إليه وحده" والاختصاص مستفاد من اللام. ترتب الحمد على ضرب المثل ولزوم التوحيد منه، ومن ثم أتى بالفاء في قوله:"فقد ثبت أنه لا إله إلا هو"، أي: من ضرب المثل.

ص: 380

مائت ومائتون. والفرق بين الميت والمائت: أن الميت صفة لازمة كالسيد، وأما المائت، فصفة حادثة. تقول: زيد مائت غدًا، كما تقول: سائد غدًا، أي: سيموت وسيسود. وإذا قلت: زيد ميت، فكما تقول: حي في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت. والمعنى في قوله:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} إنك وإياهم وإن كنتم أحياء، فأنتم في عداد الموتى؛ لأن ما هو كائن فكأن قد كان. {ثُمَّ إِنَّكُمْ}: ثم إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب، {تَخْتَصِمُونَ} فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع:{أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} ، وتقول السادات: أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون؛ وقد حمل على اختصام الجميع وأن الكفار يخاصم بعضهم بعضًا، حتى يقال لهم:{لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28]؛ ، والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. قال عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأما المائت فصفة حادثة)، الانتصاف: فاستعمال {مَيِّتٌ} مجاز؛ إذ الخطاب مع الأحياء، و"مائت" حقيقة؛ إذ لا يعطى اسم الفاعل حال الخطاب خلاف معناه.

الإنصاف: هذا وهم؛ لأن "المائت" أيضًا مجاز، فإن اسم الفاعل حقيقة عند بقاء ما اشتق منه اسم الفاعل، والمختار أن استعماله فيما مضى مجاز، وأما استعماله في المستقبل عند الأصوليين فمجازٌ بلا خلاف.

وقلت: لا بد من الفرق بين {عَالِمَ} و {يَعْلَمُ} قال صاحب "المفتاح": وليتعين -أي: المسند- كونه اسمًا كنحو: زيد عالم، فيستفاد الثبوت صريحًا، فأصل الاسم صفة وغير صفة للدلالة على الثبوت، نعم دلالة الصفة المشبهة عليه أظهر وألزم.

قوله: (والمؤمنون الكافرين)، و"المؤمنون" عطف على محل "أن" واسمها. روى هذا

ص: 381

نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب؟ قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد؟ حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها أنزلت فينا. وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا. وعن إبراهيم النخعي: قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا. وعن أبى العالية: نزلت في أهل القبلة. والوجه الذي يدل عليه كلام الله هو ما قدمت أولًا، ألا ترى إلى قوله:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} وقوله: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه محيي السنة عن ابن عباس قال: {عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} يعني: المحق والمبطل والظالم والمظلوم.

قوله: (والوجه الذي يدل عليه كلام الله هو ما قدمت)، وهو قوله:"ثم إنك وإياهم تختصمون فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا"، أي: يدل عليه الكلام السابق واللاحق، أما السابق فهو الاحتجاج من لدن مفتتح السورة إلى انتهاء ضرب المثل، وذلك أنه لما ختم الحجج بضرب المثل وتوهين أمر شركائهم وتسفيه رأيهم، وأمر حبيبه بعد ذلك كله بأن يذكر ربه بالمحامد والفضائل ويشكره على إثبات الفردانية والوحدانية، وأضرب عن ذلك كله بقوله:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونِ} تسجيلًا عليهم بالجهل المفرط، وأنهم ممن طبع على قلوبهم، فلا يلتفتون إلى هذه البيانات الظاهرة والحجج المتظاهرة اتجه لحبيبه صلوات الله عليه من حرصه على إيمان القوم وتهالكه عليهم أن يسأل: فإلى ماذا يرجع حالي وحالهم؟ فأجيب بقوله: {إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُم مَّيِّتُونَ} تأييسًا لهم وإقناطًا كليًا من إيمانهم، يعني: لم يبق إلا الموت والاختصام عند مالك يوم الدين. قال:

إلى ديان يوم الدين نمضي .... وعند الله تجتمع الخصوم

ص: 382

وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة. {كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} : افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ}: بالأمر الذي هو الصدق بعينه، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إِذْ جاءَهُ}: فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة لإعمال روية واهتمام بتمييز بين حق وباطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون. {مَثْوىً لِلْكافِرِينَ}: أي لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في {لِلْكافِرِينَ} إشارة إليهم.

[{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} 33 - 35]

{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإليه الإشارة بقوله: {إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُم مَّيِّتُونَ} و {يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فتحتج عليهم أنت بأنك بلغت فكذبوا، واجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، وأما اللاحق فقوله:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} وقوله: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} ، وإليه الإشارة بقوله:" وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة"، وقوله بعده:" {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} بالذي جاء به محمد صلوات الله عليه" فاجأه بالتكذيب، والذي جاء بالصدق: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق به.

قوله: (وأراد به إياه ومن تبعه)، يعني: جيء بقوله: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} على الإفراد، ثم حمل عليه:{أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، وحكم بقوله:{لَهُمْ ما يَشاؤُنَ} ، ولا بد من التأويل وأن يقال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم، وأن مجيئه بالصدق وتصديقه كمجيئهم به وتصديقهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا، ونجوه قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة: 87] أي: موسى وقومه، بدليل قوله:{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} .

ص: 383

يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49]، فلذلك قال:{أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، إلا أن هذا في الصفة وذاك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهم الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. وفي قراءة ابن مسعود:(والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به). وقرئ: (وصدق به) بالتخفيف، أي: صدق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن هذا في الصفة وذاك في الاسم)، لأن هناك ذكر الاسم وهو موسى، وها هنا ذكر الصفة وهي: المجيء بالصدق. وقال محيي السنة: قال ابن عباس: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله، {وَصَدَّقَ بِهِ}: الرسول أيضًا بلغه إلى الخلق.

قوله: (ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريق)، روى محيي السنة هذا الوجه عن مقاتل وقتادة، قال أبو البقاء: الذي هنا وفي "البقرة" مفرد في اللفظ، والمعنى على الجمع، وفيه وجهان: أحدهما: هو جنس مثل {مَنْ} . والثاني: أريد {الَّذِينَ} فحذف النون لطول الكلام بالصلة.

وقال الزجاج: و {الَّذِينَ} و {الَّذِي} في معنى واحد؛ لأنه غير موقف، والذي ها هنا للجنس المعني والقبيل الذي جاء بالصدق. وقلت: يعني الفريق الذي وقع فيه مجيء الصدق من بعض والتصديق من بعض، وهو المراد بقوله:"وهم الرسول" إلى آخره.

قوله: (وقرئ: "وصدق به" بالتخفيف)، قال ابن جني: وهي قراءة أبي صالح وعكرمة بن سليمان، وفيه ضرب من الثناء على المؤمنين، فهو كقولك: الذي يأمر بالمعروف ويتبع سبيل الخير فيه مثاب عند الله، فكذا قوله:{وَصَدَّقَ بِهِ} أي: استحق اسم الصدق بمجيئه.

ص: 384

به الناس ولم بكذبهم به، يعنى: أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: صار صادقًا به، أي: بسببه، لأنّ القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يده، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقًا بالمعجزة. وقرئ:(وصدّق به). فإن قلت: ما معنى إضافة الأسوأ والأحسن إلى الذي عملوا، وما معنى التفضيل فيهما؟ قلت: أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بني مروان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: يستعمل الصدق في فعل الجوارح، نحو صدق في القتال، إذا وفى حقه وفعل ما يجب. وكذب في القتال، إذا كع وجبن. وعليه قوله تعالى:{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أي: حقق ما أورده قولًا بما تحراه فعلًا.

قوله: (فيصير لذلك صادقًا بالمعجزة)، إشارة إلى توجيه قول من قال: إن معنى: {وَصَدَّقَ بِهِ} صار صادقًا به. أي قوله: {وَصَدَّقَ بِهِ} كناية عن كونه صلوات الله عليه صار صادقًا بسبب القرآن، وذلك أنه صلوات الله عليه جاء بالصدق الذي هو القرآن، وسمي بالصدق مبالغة، كما أشار إليه بقوله:" {بِالصِّدْقِ} بالأمر الذي هو الصدق بعينه"، أي: جاء بالقرآن الذي هو محض الصدق، والحال أنه هو السبب في صيرورته صادقًا؛ لأنه معجزة، والمعجزة تصديق من الله الذي لا يصدق إلا الصادق.

قوله: (الأشج أعدل بني مروان)، روي أن عمر بن عبد العزيز سمي بالأشج، بشجة أصابت رأسه. وروى الشيخ إسماعيل صاحب "سير السلف": أن عمر بن عبد العزيز كان ربعة، رقيق الوجه، نحيف الجسم، بجبهته أثر نفخة الدابة. وروى الشيخ أبو نعيم في "حلية الأولياء" عن نافع، قال: كنت أسمع عمر يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلًا.

ص: 385

وأما التفضيل فإيذان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "الجامع": هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، أنه بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وكان على صفة من العبادة والزهد والتقى والعفة وحسن السيرة، لا سيما أيام ولايته، ومناقبه كثيرة ظاهرة.

قوله: (وأما التفضيل فإيذان)، إلى آخره. تلخيصه: أن إيراد صيغة التفضيل ها هنا لإرادة المبالغة، ذكر في "المفصل":"أفعل" يضاف إلى نحو ما يضاف إليه، أي: وله معنيان: أحدهما: أن يراد أنه زائد على المضاف إليهم في الخصلة التي هو وهم فيها شركاء. والثاني: أن يؤخذ مطلقًا له الزيادة فيها إطلاقًا، ثم يضاف لا للتفضيل على المضاف إليهم، لكن لمجرد التخصيص، كما لا يضاف ما لا تفضيل فيه، وذلك قولك: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، كأنك قلت: عادلا بني مروان.

قوله: "أن يؤخذ مطلقًا له الزيادة فيها إطلاقًا"، يحتمل معنيين، أحدهما- وهو الظاهر-: أن "أفعل" قطع عن متعلقه قصدًا إلى نفس الزيادة إيهامًا للمبالغة، نحو: فلان يعطي ويمنع، أي: يوجد حقيقتهما، وإفادته المبالغة من حيث إن الموصوف تفرد بهذا الوصف وانتهى أمره فيه إلى أن لا يتصور له من يشاركه فيه. وقال المالكي: وقد يستعمل العاري الذي ليس له {مِن} مجردًا عن التفضيل مؤولًا باسم الفاعل كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم: 32] ومؤولًا بصفة المشبهة، كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] فـ"أعلم" ها هنا بمعنى: {عَالِمُ} إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك، و {أَهْوَنُ} بمعنى:{هَيِّن} إذ لا تفاوت في نسب المقدورات إلى قدرته تعالى.

ومنه قول الشنفري:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن .... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

ص: 386

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أراد: لم أكن عجلًا، ولم يرد: أكثرهم عجلة؛ لأن قصد ذلك يستلزم ثبوت العجلة غير الفائقة، وليس غرضه إلا التمدح بنفي العجلة قليلها وكثيرها. الجشع أشد الحرص.

وقال أبو الطيب:

وما أنا إلا عاشق كل عاشق .... أعق خليليه الصفيين لائمه

قال الواحدي: ومعنى "الأعق" ها هنا: العاق، كما قال حسان بن قرط:

خالي بنو أنس وخال سراتهم .... أوس فأيهما أدق وألأم؟

أي: فأيهما الدقيق واللئيم، وليس يريد أن الدقة واللؤم اشتملا عليهما معًا ثم زاد أحدهما على صاحبه.

وقد يطلق هذا اللفظ وليس يراد به الاشتراك كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًا وأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] ولا خير في مستقر أهل النار ولا حسن، كذلك جاز أن تقول:"أعق خليله" وإن لم يكن للممسك عن اللؤم صفة عقوق.

وقلت: وعلى هذا ينزل قول المصنف في هذه الآية: "إن السيء يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ"، يعني: أنهم يعدون صغائرهم كبائر؛ لرفعة منزلته وعلو مرتبتهم، كما جاء: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وكذلك حسناتهم الأدنى عند الله كالحسنات الفضلى. قال تعالى: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]. نحوه في إرادة المبالغة من قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] في أحد وجهيه. قال: كان القياس على هذا أن يقال: ادفع بالتي حسنة، لكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة؛ ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة.

ص: 387

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والاحتمال الثاني: أن يراد بالزيادة الزيادة على الغير لكن على العموم، وامتناع أن يقصره السامع على ما ذكر معه دون غيره. وجاء في بعض الحواشي: إن قوله: "الأشج أعدل بني مروان" ليس المراد منه التفضيل؛ لأن المروانية كلهم جورة، لكن المراد: تعريف أنه من بني مروان، كأنه قال: أشج أعدل الناس، وهذا الأعدل من بني مروان، لعل هذا القائل أخذه من شارح "اللباب"، فإذا قلت: زيد أحسن قريش، فمعناه: زيد أحسن الناس مطلقًا، وهو من جملة قريش، هذا إن أريد به أن مآل ذلك المعنى راجع إلى هذا فهو صحيح، وإن أريد أن المتعلق منوي؛ فإن قوله:"يؤخذ مطلقًا" وتوكيده بقوله: "إطلاقًا" لا يساعده؛ لأن المنوي كالملفوظ، ولا قوله: كأنك قلت: عادلًا بني مروان؛ لأن "أعدلا" إذا أريد به "عادلًا" كان بالنسبة إلى بني مروان مجازًا، وهو حينئذ حقيقة في إيراده الغير، فتجتمع الحقيقة والمجاز على لفظ واحد في حالة واحدة، وأيضًا يلزم أن تكون الإضافة محضة وغير محضة، فثبت أن الاحتمال الأولى أولى.

ثم الأنسب أن يكون هذا التأويل مبنيًا على الوجه الأول، هو أن يراد بقوله:"الذي جاء بالصدق وصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة، والمخلصون من الصحابة تبعًا" لأنه إذا لم يقل: إن المراد بقوله: {ويَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} الحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن، يلزم أن تكون صغار حسناتهم غير مجزي بها، وكذلك الصغائر من الذنوب تكون غير مكفرة، ويمكن أن ينبني على الوجه الثاني، وهو أن يراد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ويصدق به صحابته كلهم، وتجري الإضافة على ظاهرها، ويكون قوله:{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} إلى آخره تعليلًا لقوله: {وَصَدَّقَ بِهِ} أي: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صدقوا به وآمنوا بما جاء من الحق به؛ ليكفر الله عنهم، وكان جل همهم مصروفًا في تكفير ذنوبهم العظام في الجاهلية من عبادة الأوثان وقتل النفس التي حرم الله ونهب مال الغير وفي أن يشكر لهم مكارم أفعالهم من صلة الرحم وقري الضيفان وإغاثة الملهوف وكسب المعدوم، وقد ذكر في سورة إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10]

ص: 388

بأن السيئ الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن؛ لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ وحسنهم بالأحسن. وقرئ:(أسواء الذي عملوا) جمع سوء.

[{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن الأصم: أن {مِنْ} للتبعيض، والمعنى إذ اتبتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر، وأما الصغائر فلا كلام في غفرانها.

وعن المصنف: أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله يغفر له، فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان؟ فنزلت:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، وقصة وحشي تذكر بعد هذا، ولعل افتقار ما في الآية إلى البيان ليس كافتقار المثال إليه؛ لأن قوله:{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ} مناد بأن لهم ما يفتقر إلى التكفير لا سيما وقد أردف بقوله: {أَسْوَأَ} ، فأي فائدة في قوله:{الَّذِينَ عَمِلُوا} غلا ما ذهبنا إليه.

وإلى معنى الآية ينظر ما رويناه عن النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أسلم العبد وحسن إسلامه كتب الله له حسنة كان يزلفها، وحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، وكان بعد ذلك القصاص كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه".

النهاية: أزلفها: أي: قدمها وأسلفها، والأصل فيه: القرب والتقدم، وسيجيء في سورة "حم السجدة" في قوله:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 27] ما يشد بعضد هذا التقريب.

ص: 389

لَهُ مِنْ هادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ} 36 - 37]

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عِبَادَهُ} أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي، فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها. وقرئ:{بِكَاٍف عَبْدَهُ} ؛ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (بكاف عباده)؛ وهم الأنبياء؛ وذلك: أن قريشًا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وإنا نخشى عليك معرّتها لعيبك إياها.

ويروى: أنه بعث خالدًا إلى العزى ليكسرها، فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها لشدّة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم أنفها. فقال الله عز وجل: أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف؟ وفي هذا تهكم بهم؛ لأنهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضرر. أو: أليس الله بكاف أنبياءه ولقد قالت أممهم نحو ذلك، فكفاهم الله؛ وذلك قول قوم هود:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ} [هود: 54]. ويجوز أن يريد: العبد والعباد على الإطلاق، لأنه كافيهم في الشدائد وكافل مصالحهم. وقرئ:(بكافي عباده) على الإضافة، و (يكافي عباده)، و (يكافي): يحتمل أن يكون غير مهموز مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازي في يجزي، وهو أبلغ من كفى؛ لبنائه على لفظ المبالغة والمباراة؛ أن يكون مهموزًا، من المكافأة وهي المجازاة؛ لما تقدم من قوله:{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ} [الزمر: 35]. {بِالَّذِينَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({بِكَاٍف عَبْدَهُ})، قرأ حمزة والكسائي:"عباده"، والباقون:{عَبْدَهُ} .

قوله: (من المكافأة)، وهي المجازاة، لما تقدم من قوله:{ولَنَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم} ، يعني: لما قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، قرره بقوله:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبدَهُ} أي: أليس من صفة الكريم القادر العادل أن يجزي عبده بما عملوا، كقوله تعالى:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] لكن لا يلتئم قوله: {ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} بما قبله وبما بعده إلا إذا حمل على الكفاية، فيتصل بقوله: {ضَرَبَ اللهُ

ص: 390

مِنْ دُونِهِ} أراد: الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه. {بِعَزِيزٍ} بغالب منيع {ذِي انْتِقامٍ} ينتقم من أعدائه، وفيه وعيد لقريش، ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم، وينصرهم عليهم.

[{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 38]

قرئ: (كاشفات ضرّه) و (ممسكات رحمته) بالتنوين على الأصل، وبالإضافة؛ للتخفيف. فإن قلت: لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت: لأنهم خوّفوه معرّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ} الآية. لأنه لما أذن بتوهين أمر الأصنام وتسفيه رأيهم والتسجيل على جهلهم شجع رسوله صلوات الله عليه وأمره أن لا يكترث بهم وبأصنامهم، فكأنهم لما عجزوا عن الجواب وظهر تبكيتهم خوفوه بمعبودهم.

وما أحسن هذا النظم، وما ألطف موقع معنى الكفاية، وتخصيص لفظ "العبد"، ووصف الأصنام بالذين من دونه في هذا المقام، وما أدق هذا التعريض بحال عبد يثبت معبودات شتى، ويدعي كل واحد عبوديته، ويبقى هو متحيرًا ضائعًا، وحال عبد لم يثبت إلا معبودًا واحدًا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما يرضاه.

ويتصل بما بعده من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

قوله: (قرئ: "كاشفات ضره" و"ممسكات رحمته") أبو عمرو: بالتنوين وفتح الراء والتاء، والباقون: بالإضافة.

قوله: (م فرض المسألة في نفسه دونهم) أي: لم قال: {أَرَادَنِيَ} ، ولم يقل: أرادكم، أو

ص: 391

الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقرّرهم أوّلًا بأنّ خالق العالم هو الله وحده. ثم يقول لهم بعد التقرير: فإذا أرادنى خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل، أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما، هل هؤلاء اللاتي خوّفتمونى إياهن كاشفات عنى ضره أو ممسكات رحمته، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم حتى لا يحيروا ببنت شفة قال:{حَسْبِيَ اللَّهُ} كافيًا لمعرّة أوثانكم {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ، وفيه تهكم. ويروى: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا، فنزل: {قُلْ حَسْبِيَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن أرادنا الله بضر، أو إن أرادنا الله برحمته، والحال أن الكلام بعد تقرير أن خالق العالم الله؟ وأجاب: ان التقرير لم يكن إلا لأمر نفسه؛ لأنهم خوفوه معرة الأوثان، بدليل قوله:{ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} فأوجب ذلك أن تقدم لهم مسألة التقرير، ثم ينبني عليها الجواب ليكون أثبت للحجة وألزم لها.

قوله: (لا يحيروا ببنت شفة)، الجوهري: المحاورة: المجاوبة والتجاوب، ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابًا، وما كلمته ببنت شفة؛ أي: بكلمة.

قوله: (وفيه تهكم)، لأنه لا معرة للأوثان، فكيف يقول:{حَسْبِيَ اللَّهُ} كافيًا لمعرة أوثانكم، ثم يردفه بقوله:{عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} .

قوله: (ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا)، يجوز أن يكون بيانًا لما سبق، وأن يكون وجهًا آخر. وعلى الثاني:"قل" مستقل، والمعنى عام، وليس فيه تهكم، وهو أنبل وأفحم؛ لأنه صلوات الله عليه لما بكتهم أولًا بقوله:{مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} ، بدليل قوله:{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وألقمهم الحجر ثانيًا بقوله:{هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ} {هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ} ، ولم يحيروا ببنت شفة، أي: لنهم عند أنفسهم إذا كان حزبهم أمر دعوا الله مخلصين له الدين دون أصنامهم، كما قال صاحب "المفتاح": كانت حالهم المستمرة أن يكونوا عن دعوتهم صامتين ابتدأ بقوله: {حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ، أي: إذا كان لا خالق للعالم إلا الله، ولا ضار ولا نافع إلا هو، قل: هو حسبي وعليه توكلي.

ص: 392

اللَّهُ}. فإن قلت. لم قيل: {كَاشِفَاتُ} ، و {مُمْسِكَاتُ} ، على التأنيث بعد قوله تعالى:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ؟ قلت: أنثهن وكن إناثًا وهن اللات والعزى ومناة، قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 19 - 21]؛ ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة، لأنّ الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة، كأنه قال: الإناث اللاتي هنّ اللات والعزى ومناة أضعف مما تدعون لهنّ وأعجز. وفيه تهكم أيضًا.

[{قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} 39 - 40]

{عَلى مَكانَتِكُمْ} على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها. والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا. و"حيث" للزمان، وهما للمكان. فإن قلت: حق الكلام: فإني عامل على مكانتي، فلم حذف؟ قلت: للاختصار، ولما فيه من زيادة الوعيد، والإيذان بأنّ حاله لا تقف، وتزداد كل يوم قوّة وشدّة؛ لأنّ الله ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فاستعيرت عن العين للمعنى) ضمن "استعار" معنى "نقل"، وعدي بـ"عن"، أي: المكانة تستعمل حقيقة فيما يدرك بالعين، فنقل عنه إلى المعنى، وهو الحالة والجهة، كما تستعار لفظة "هنا" و"حيث"، وهما للزمان والمكان.

قوله: (للاختصار، ولما فيه من زيادة الوعيد)، يعني: أضمر متعلق {عَامِلٌ} ، وجعل مطلقًا لئلا يكون على وزان عملهم وتعلقه بالمكانة؛ لأن حالته وجهته لا تقف على أمر يتمكن الواصف من وصفه، بل إنها لا تزال في الترقي ساعة فساعة إلى أن تنتهي في القوة إلى أقصى غايات الكمال، ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولو ذكر لاقتصر على المذكور، وأن يقال: إني عامل على مكانتي؛ أي: حالتي التي أنا عليها.

ص: 393

ألا ترى إلى قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَاتِيهِ} كيف توعدهم بكونه منصورًا عليهم غالبًا عليهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته، من حيث أن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه، وبذل ذليل من أعدائه. {يُخْزِيهِ} مثل {مُقِيمٌ} في وقوعه صفة للعذاب، أي: عذاب مخز له، وهو يوم بدر، وعذاب دائم وهو عذاب النار. وقرئ:(مكاناتكم).

[{إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 41]

{لِلنَّاسِ} : لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية. ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغنى، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها. وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى، فإنّ التكليف مبنى على الاختيار دون الإجبار.

[{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ألا ترى إلى قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ})، أي: الدليل على أن في ترك ذكر مكانتي زيادة في الوعيد والإنذار، وأن حاله لم تزل في التزايد إلى الأبد ترتب قوله:{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} بالفاعلية، وكان من حق الظاهر: فسوف تعلمون مكانتي وأني غالب عليكم في الدنيا والآخرة، فوضع موضع "عذاب الدنيا" قوله:{مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ} ، و"عذاب الآخرة" قوله:{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} ، وإنما سمي نكالهم في الدنيا والعقبى بالعز والغلبة في قوله:"فذلك عزه وغلبته"؛ لأن الغلبة والعز قسمان: نصر الأولياء، وذل الأعداء. وهذه الغلبة والعز من القسم الأخير.

قوله: (مكاناتكم)، أبو بكر عن عاصم.

ص: 394

قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 42]

{الْأَنْفُسَ} : الجمل كما هي. وتوفيها: إماتتها؛ وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة درّاكة من صحة أجزائها وسلامتها، لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({الْأَنْفُسَ}: الجمل كما هي)، وعن بعض العدلية: أراد بالجمل الأرواح والأبدان جميعًا، فيكون على هذا التقدير البنية المخصوصة شرطًا للحياة، خلافًا للأشعرية.

قوله: (لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت)، تعليل لمحذوف على طريقة الجواب عن سؤال مقدر، يعني: إذا كانت الإماتة عبارة عن سلب ما به النفس دراكة، لا سلب ذات النفس، فكيف قال الله تعالى:{يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} ؟ والنفس كما تقرر: الجمل كما هي.

وأجاب: أن النفس عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت مبالغة.

واعلم أنه فسر التوفي بوجهين:

أحدهما: أنه في معنى الإماتة، نحو قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] على بناء اسم المفعول، فالأنفس حينئذ بمعنى: الأرواح والأبدان جميعًا، فلهذا قال: الأنفس الجمل كما هي، والتوفي لما كان بمعنى سلب الصحة لا النفس، حمل على المجاز، كما قرره.

وثانيهما: أن يكون التوفي بمعنى الاستيفاء والقبض، كقراءة من قرأ:"الذين يتوفون" على بناء اسم الفاعل، والأنفس حينئذ: إما ما به التميز، وإما نفس الحياة، فيصح حمله على حقيقته؛ لأنه سلب ما به النفس دراكة، لكن يلزم من هذا الوجه أن تكون نفس الحياة متصفًا بالموت، لا الجملة الحساسة، ويكون ما به التميز متصفًا بالموت والنوم. فرد هذا

ص: 395

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه بقوله: "والصحيح ما ذكرت لك أولًا"، أي: المراد بالنفس الجملة، وبالتوفي سلب ما هي به حية حساسة دراكة.

وقلت: الوجه الأول من باب الجمع والتفريق، جمع النفسين الميتة والنائمة في حكم التوفي أولًا، ثم فرق بين جهتي التوفي، فحكم على النفس الميتة بالإمساك، وعلى النائمة بالإرسال والتقدير. و {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} النفس التي تقبض والنفس التي لم تقبض، فيمسك الأولى ويرسل الأخرى. ويؤيده قول صاحب "الكشف": التقدير: ويتوفى التي لم تمت، فاستغنى عن ذكر "يتوفى" ثانيًا؛ لجريه أولًا.

وتحريره: الله يميت الشخص بأن يسلب منه ما به تصح حياته وينيم الآخر نومة تشبه الموت في عدم التصرف والتميز، ثم لا يرد الحياة إلى النفس التي أماتها موتة حقيقية، يورد التميز إلى التي أماتها موتة مجازية إلى أجل مسمى.

فإن قلت: يلزم على ما ذكرت أن يكون التوفي مستعملًا في مفهومي حقيقته ومجازه.

قلت: يجعل مجازًا عن قطع تعلق النفس عن البدن مطلقًا.

قال الإمام: النفس الإنسانية: عبارة عن جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء، وهي الحياة، ثم إنه في وقت النوم ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن دون باطنه، وفي وقت الموت ينقطع التعلق عن ظاهره وباطنه. فالموت والنوم من جنس واحد بهذا الاعتبار، لكن الموت انقطاع تام كامل، والنوم انقطاع ناقص، فظهر أن القادر الحكيم دبر تعلق النفس بالبدن على ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه دبر أمرها بحيث يقع ضوء الروح على جميع أجزاء البدن ظاهرة وباطنة، وذلك هو اليقظة.

ص: 396

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثانيها: بحيث يقطع الضوء عن الظاهر والباطن، وهو الموت.

وثالثها: بحيث يقطع عن الظاهر دون الباطن، وهو النوم.

فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفي الأنفس، ويمتاز أحدهما بخواص معينة، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

وفي ألفاظ النبوي ما روينا في "صحيح البخاري" عن أبي قتادة قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله، قال:"أخاف أن تناموا عن الصلاة"، قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، فغلبت عينا بلال فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال:"يا بلال، أين ما قلت؟ " قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط. قال: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء" الحديث.

وروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء النوم:"باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".

وروي عن لقمان أنه قال لابنه: "يا بني، كما أنك تنام ثم تستيقظ، كذلك تموت ثم تحيا". قاس الموت بالنوم فكانا موتتين.

الراغب: توفية الشيء: بذله وافيًا، واستيفاؤه: تناوله وافيًا. قال عز وجل: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آل عمران: 25]، قد عبر عن الموت والنوم بالتوفي، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} ، وقوله تعالى:{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] فقد قيل: توفي رفعة واختصاص، لا توفي موت.

ص: 397

{وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} يريد: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي: يتوفاها حين تنام، تشبيهًا للنائمين بالموتى. ومنه قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 6] حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أنّ الموتى كذلك، {فَيُمْسِكُ} الأنفس {الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} الحقيقي، أي: لا يردّها في وقتها حية، {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} النائمة {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} " إلى وقت ضربه لموتها. وقيل:{يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} يستوفيها ويقضيها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها؛ وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة؛ لأنّ نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. ورووا عن ابن عباس رضي الله عنهما في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. والصحيح ما ذكرت أوّلًا؛ لأنّ الله عز وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعًا بالأنفس، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}: إن في توفى الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإرسالها إلى أجل {لَآيَاتٍ} على قدرة الله وعلمه، {لِقَوْمٍ} يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرئ: قضى عليها الموت، على البناء للمفعول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والوافي: الذي بلغ التمام، يقال: درهم واف، وكيل واف. ووفى بعهده، وأوفى: إذا تمم العهد.

قوله: (أي: لا يردها في وقتها حية)، "حية": حال من "ها""يردها"، و"في وقتها" أي: وقت إماتتها وأجلها.

قوله: (وقرئ: "قضي عليها الموت" على البناء للمفعول)، وهي قراءة حمزة والكسائي.

ص: 398

[{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 43 - 44]

{أَمِ اتَّخَذُوا} : بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: من دون إذنه {شُفَعاءَ} حين قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ألا ترى إلى قوله:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا} ؟ أي: هو مالكها، فلا يستطيع أحد شفاعةً إلا بشرطين: أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذونًا له. وهاهنا الشرطان مفقودان جميعًا. {أَوَلَوْ كانُوا} معناه: أيشفعون ولو كانوا {لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} أي: ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئًا قط، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم. {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تقرير لقوله:{لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا} ؛ لأنه إذا كان له الملك كله، والشفاعة من الملك؛ كان مالكًا لها. فإن قلت: بم يتصل قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؟ قلت: بما يليه، ومعناه:{لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} اليوم {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له، فله ملك الدنيا والآخرة.

[{وإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 45]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والباقون: على البناء للفاعل.

قوله: (أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذونًا له)، لكن الذي هو مشروط في الآية شيئان: الملك المطلق والعقل، والشرطان مفقودان، أي: الأصنام لا يملكون شيئًا، ولا لهم مرتبة العقلاء، يدل عليه قوله:{أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} ، ولذلك أتبعه بما اشتمل على الاسم الجامع والملك على الإطلاق دنيا وأخرى من غير منازع فيه حيث قال:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} الآية.

ص: 399

مدار المعنى على قوله: {وَحْدَهُ} ، أي: إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا، أي: نفروا وانقبضوا، {وإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}؛ وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكروا: استبشروا؛ لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هواهم فيها. وقيل: إذا قيل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له: نفروا؛ لأن فيه نفيًا لآلهتهم. وقيل: أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم حين قرأ (والنجم) عند

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مدار المعنى على قوله: {وَحْدَهُ})، عن بعضهم: من قال: المراد بقوله: {وَحْدَهُ} الثناء على الله تعالى، ويصير بمنزله قوله: الله تعالى، أو سبحانه، أو شبه ذلك، فقد أخطأ.

قلت: يريد: أن لفظة {وَحْدَهُ} في كلام المصنف ليست بمعترضة، كما يقع في سائر المواضع، مثل: سبحانه وتعالى، بل المعنى: أن مدار معنى هذه الآية وما سبق له الكلام معنى {وَحْدَهُ} ، إذا لو قيل: وإذا ذكر الله اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون، لكان عن المعنى بمعزل؛ لأنهم ما كانوا يشمئزون إذا شفع ذكر الله بذكر آلهتهم، وإذا ذكرت آلهتهم وحدها كانوا يستبشرون، وإنما كان اشمئزازهم من ذكر الله وحده، ونبه الله سبحانه وتعالى بوضع قوله:{الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} موضع الضمير على أنهم إنما اشمأزوا؛ لأنهم ركنوا إلى اللذات العاجلة، وانغمسوا في الشهوات النفسانية، فإذا سمعوا بأن لا إله إلا هو وحده، واستلزم ذلك العبادة والتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، ظهرت آثار الكآبة على وجوههم، وانقبضت قلوبهم، وضاقت صدروهم، وإذا ذكرت الأصنام مالت قلوبهم إلى اللذات العاجلة، واستبشروا وفرحوا.

قوله: (ما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: قرأ سورة "النجم"، وألقى الشيطان في أمنيته:"تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى"، ففرح به الكفار.

وقلت: قد أبطل هذا القول الإمام، واستقصينا القول في إبطاله في "الأنبياء".

ص: 400

باب الكعبة، فسجدوا معه لفرحهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز؛ إذ كل واحد منهما غاية في بابه؛ لأن الاستبشار: أن يمتلئ قلبه سرورًا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غمًا وغيظًا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه. فإن قلت: ما العامل في {وإذَا ذُكِرَ} ؟ قلت: العامل في "إذا" المفاجأة، تقريره: وقت ذكر الذين من دونه، فاجأوا وقت الاستبشار.

[{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 46]

بعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وبشدة شكيمتهم في الكفر والعناد، فقيل له: ادع الله بأسمائه العظمى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم. وفيه وصف حالهم، وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، ووعيد لهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (العامل في "إذا" المفاجأة)، أي: العامل في "إذا ذكر" هو العامل في "إذا" المفاجأة، وهو "فاجؤؤا"، الأول ظرف، والثاني مفعول به، أي: فاجؤوا في وقت الذكر وقت الاستبشار، ومنه الحديث:"بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل"، أي: فاجأنا في زمان جلوسنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت طلوع الرجل.

قوله: (بعل)، الأساس: بعل بالأمر: إذا عي به.

قوله: (وفيه وصف لحالهم) إلى آخره، يعني: سيق الكلام في الأمر بالدعاء في الأسماء الحسنى، والأمر بالتفويض في الحكم بينهم إلى الله تعالى، وأدمج فيه معان أربعة:

أحدها: قوله: {أَنتَ تَحْكُمُ} دل على الاختصاص؛ لأنه من قبيل: أنت عرفت، وأفاد أنه تعالى هو وحده يحكم بينهم، فدل ذلك على شدة شكيمتهم في الكفر والعناد، وهو كناية.

وثانيها: اعتذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وسعه فيما وجب

ص: 401

وعن الربيع بن خثيم، وكان قليل الكلام: أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وسخط على قاتله، وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: آه أو قد فعلوا؟ ! وقرأ هذه الآية. وروي: أنه قال على أثره: قتل من كان صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.

[{ولَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 47 - 48]

{وبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ} وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدته، وهو نظير قوله في الوعد:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه، أي: أبلغت وأديت ما عليك، بقي الآن على من هو أحكم لحاكمين هو وحده يحكم بينهم.

وثالثها: تسلية له صلوات الله عليه؛ لأنه كان حريصًا على إيمان القوم، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ} [الكهف: 6]، وهذه الآية كالمتاركة والموادعة واليأس من إيمانهم، واليأس إحدى الراحتين.

ورابعها: وعيد لهم، ولا وعيد بعده، وقوله:{فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} دل على القدرة التامة، وقوله:{عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ} على العلم الشامل، وأنه عالم بما ظهر منهم وما بطن، فيجازيهم عليها، وقوله:{أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} على القضاء الحق والحكم العدل، والله أعلم.

قوله: (كما قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا})، لم يرد أنه مثله في المشاكلة، بل أنه مثله في إطلاق السبب على المسبب.

قوله: (وعن الربيع بن خثيم)، وفي "سير السلف": هو: الربيع بن خثيم الكوفي، وهو من العباد السبعة، مات سنة ثلاث وستين.

ص: 402

{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17]، والمعنى: وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدثوا به نفوسهم. وقيل: عملوا أعمالًا حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات. وعن سفيان الثوري: أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء. وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له، فقال: أخشى آية من كتاب الله، وتلاها؛ فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه. {وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أي: سيئات أعمالهم التي كسبوها. أو سيئات كسبهم، حين تعرض صحائفهم، وكانت خافية عليهم، كقوله:{أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]. وأراد بالسيئات: أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا، فسماها سيئات، كما قال {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]. {وَحاقَ بِهِمْ} : ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم.

[{فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 49]

التخويل: مختص بالتفضل. يقال: خولني، إذا أعطاك على غير جزاء. {عَلى عِلْمٍ} أي: على علم منى أني سأعطاه، لما في من فضل واستحقاق. أو على علم من الله بي وباستحقاقي. أو على علم منى بوجوه الكسب، كما قال قارون:{عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. فإن قلت: لم ذكر الضمير في {أُوتِيتُهُ} وهو للنعمة؟ قلت: ذهابًا به إلى المعنى؛ لأنّ قوله: {نِعْمَةً مِنَّا} شيئًا من النعمة وقسمًا منها. ويحتمل أن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: على علم منى أني سأعطاه)، هو حال من الضمير المرفوع، ولهذا ما أبرز الضمير المنصوب. الانتصاف: ولذلك تقول القدرية: إن الإثابة على الله واجبة، يؤتاها على علم من الله باستحقاقه، وغنما سلم منها أهل السنة الذين جعلوا الثواب فضلًا لا استحقاقًا.

ص: 403

تكون "ما" في {إِنَّمَا} موصولة لا كافة؛ فيرجع إليها الضمير، على معنى: إن الذي أوتيته على علم. {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} إنكار لقوله، كأنه لقوله، كأنه قال: ما خولناك من النعمة لما تقول، بل هي فتنة، أي: ابتلاء وامتحان لك، أتشكر أم تكفر. فإن قلت: كيف ذكر الضمير ثم أنثه؟ قلت: حملًا على المعنى أولًا، وعلى الفظ آخرًا؛ ولأن الخبر لما كان مؤنثًا- أعني:{فِتْنَةٌ} - ساغ تأنيث المبتدأ لأجله؛ لأنه في معناه، كقولهم: ما جاءت حاجتك. وقرئ: (بل هو فتنة) على وفق {إِنَّما أُوتِيتُهُ} . فإن قلت: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ قلت: السبب في ذلك: أن هذه وقعت مسببةً عن قوله: {وإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} [الزمر: 45] على معنى: أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الآي اعتراض. فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولأن الخبر لما كان مؤنثًا- أعني: {فِتْنَةٌ} - ساغ تأنيث المبتدأ)، هذا الوجه أولى من الأول؛ لأن ابن جني ذكر أنه إذا حمل على المعنى أولًا لا يحسن بعده الحمل على اللفظ في قوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، وتبعه المصنف.

قوله: (ما جاءت)، عن بعضهم:"جاء" بمعنى: كان هاهنا، أي: أي شيء كانت حاجتك؟ ومنه ما روي: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فجاء قريش له سابقًا. أي: كان قريش له سابقًا.

قوله: (أن يؤكد المعترض بينه وبينه)، قيل: الضميران راجعان إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله: "وما بينهما من الآي"، أي: الاعتراض يؤكد معنى ما يلحقه وما يسبقه،

ص: 404

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونحوه قولك: قعدت بينك وبين زيد، والبين واحد بالنسبة إليك، والنسبة إليها متعذر، وعن بعضهم: التقدير: بينه؛ أي: بين السبب، وهو قوله:{وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ} ، وبينه؛ أي: بين المسبب، وهو قوله:{فَإِذَا مَسَّ} ، وقوله:"بينه" متعلق بقوله: "اعتراض" فالهاء في بينه وبينه راجع إلى السبب والمسبب.

وقلت: أما تلخيص التسبب، وكأنهم لشدة عنادهم وإبائهم عن الحق المحض جعلوا اشمئزازهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر الغير غرضًا في أن إذا مسهم ضر دعوا الله دون الغير، على منوال {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، فحكى الله تعالى عنهم ذلك إنكارًا وتعجيبًا. ثم أمر حبيبه صلوات الله عليه بقوله:{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} أن يشنع عليهم ذلك على سبيل التضرع، ويظهر بأنه لا يجدي فيهم إنذاره واجتهاده، ويقول: لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك هذه الجرأة إلا أنت، وجعل هذا الدعاء معترضًا بين الكلامين؛ اهتمامًا به وتوكيدًا للوعيد، ثم إن جعل {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} عامًا كانت الآية اعتراضًا بعد اعتراض، وإذا جعل من إقامة المظهر موضع المظهر موضع المضمر إشعارًا بالعلية كان استطرادًا بعد اعتراض.

وأما تلخيص العطف فإنه تعالى أخبر عن وعيده للمشركين، وأنه غني عنهم بسبب كفرانهم، ثم أخبر عن حال مطلق الإنسان، وأن جبلته على أنه إذا مسه الضر رجع إلى الله، وإذا مسه الخير أظهر البطر والأشر، وعطفه عليه لجامع الكفران وقلة الثبات. وإليه الإشارة بقوله:"وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها"، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة تذييلية، وتخصيص ذكر الإنسان في الآية الأخيرة من إقامة المظهر موضع المضمر للتلويح إلى قوله تعالى:{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]. ما ألطف هذا التقرير، ولهذا قال تعريضًا بنفسه:"وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم- أي: العالم بالنظم- وإلا بقيت محتجبة في أكمامها"، لله دره.

قال صاحب "الانتصاف": هذا كلام فافهمه فإنه عزيز، وقيل: يمكن أن يقال: المعنى المفهوم من المجموع، وهما الدعاء عند الضر، وترك الدعاء عند تحويل النعمة، هو المسبب،

ص: 405

قلت: ما في الاعتراض من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله: أنت تحكم بينهم، ثم ما عقبه من الوعيد العظيم: تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم، كأنه قيل: قل: يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت. وقوله:{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزمر: 47] متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقًا، أو إياهم خاصة إن عنيتهم به كأنه قيل: ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعًا ومثله معه لافتدوا به حين أحكم عليهم بسوء العذاب. وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها. وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة، وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو، كقولك: قام زيد وقعد عمرو. فإن قلت: من أي وجه وقعت مسببة، والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه، بل هو مقتض لصدوفهم عنه؟ قلت: في هذا التسبيب لطف، وبيانه: أن تقول: زيد مؤمن بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه، ثم تقول: زيد كافر بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة، كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه، مقيم كفره مقام الإيمان، ومجريه مجراه في جعله سببًا في الالتجاء، فأنت تحكي ما عكس فيه الكافر. ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجيب من فعله؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فكان اشمئزازه عن ذكر الله وحده واستبشاره عند ذكر الذين من دونه سبب أن لا يذكره إلا عند الاضطرار، ويتركه عند النعمة.

وقلت: يؤيد هذا التأويل إقامة المظهر موضع المضمر في {قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ، أي: المشتغلون بلذات الدنيا وشهواتها.

قوله: (لصدوفهم)، أي: إعراضهم.

ص: 406

[{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا والَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ومَا هُم بُمُعْجِزِينَ (51) أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ ويَقْدِرُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 50 - 52]

الضمير في {قَالَهَا} راجع إلى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص: 78]، [الزمر: 49]؛ لأنها كلمة أو جملة من القول. وقرئ: (قد قاله) على معنى القول والكلام، وذلك و {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}: هم قارون وقومه، حيث قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا ويجمعون منه. {مِنْ هَؤُلاءِ}: من مشركي قومك {سَيُصِيبُهُمْ} مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر، وحبس عنهم الرزق، فقحطوا سبع سنين، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين، فقيل لهم:{أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا} أنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل؟

[{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} 53]

{أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} : جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها {لا تَقْنَطُوا}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على معنى القول والكلام، وذلك)، هذه ألفاظ تستعمل في تأويل المؤنث الراجع إليه ضمير المذكر، قال ابن جني في قول الشاعر:

مثل الفراخ نتفت حواصله

أي: حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا.

ص: 407

قرئ: بفتح النون وكسرها وضمها. {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} يعني بشرط التوبة، وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرًا له فيما لم يذكر فيه؛ لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقص. وفي قراءة ابن عباس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض)، يعني: يحمل هذا المطلق على ذلك المقيد ليتفقا. قال صاحب "الفرائد": ما ذكر من التناقض غير لازم؛ لأن من ذكر المغفرة بعد التوبة لا يلزم عدم حصول المغفرة بدونها، وما ذكر من الدلالة على أنها شرط فيها لازم لا يحصل بدونه ممنوع؛ لأن غاية ما يفهم من قوله:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} وجوب الإنابة، وقوله:"وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة"؛ لأن الآخر يشعر بأن ذكر الشيء بعد الشيء يوجب توقف الأول على الثاني، وهو ظاهر البطلان.

وقلت: مراد المصنف من قوله: "قد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن": أنه كل موضع ذكر فيه نحو قوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} قيده بقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} ، وهو قيد للتوبة، يدل عليه استشهاده بقراءة ابن عباس:"يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء"، ومن ذلك في "آل عمران" قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] تفسير بين لـ"من يشاء"، وأنهم المتوب عليهم أو الظالمون، وقوله في النساء:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قال: كأنه قيل: "إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك"، على أن المراد بالأول: من لم يتب، وبالثاني: من تاب، ونحوهما. وقد بينا وجه ضعف كل ما ذكر.

وأما الذي يقول هاهنا في قوله: "وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة للدلالة على أنه شرط فيها"، فإنه حزم للنظم المعجز؛ لأنه تعالى لما وبخ المشركين وأطنب الكلام فيه وأرعد وأبرق، عقبه بخطاب العام بقوله:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} استعطافًا وترغيبًا غب ترهيب، والمراد بالإسراف: جمع ما ينطوي تحت هذا الاسم من التفريط الصادر من الكافرين والمؤمنين، والمقصود الأولي: الكافرون وما كانوا عليه من أمور الجاهلية.

يؤيده قوله: "وقيل: قال أهل مكة" إلى آخره، وكان قوله:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا} عطفًا على قوله: {لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، واعترض بين المعطوف والمعطوف

ص: 408

وابن مسعود: (يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء)، والمراد بمن يشاء: من تاب؛ لأن مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته. وقيل: في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها: (يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه قوله: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} على سبيل العموم للتعليل اهتمامًا واعتناءً بشأن الترغيب إلى الإنابة، وإخلاص العمل لله تعالى.

ونظير موقع هذا الاعتراض قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وسبق تقريره ومناسبته للآية.

قال القاضي: تقييد {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} بالتوبة خلاف الظاهر، ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، والتعليل بقوله:{إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} على المبالغة وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة بما في (عبادي) من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم، والنهي عن القنوط عن الرحمة مطلقًا فضلًا عن المغفرة وإطلاقها، وتعليله بـ {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، ووضع اسم "الله" موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق، والتأكيد بـ"الجميع". وما روي من أسباب النزول لا ينفي عمومها، وكذا قوله:{وَأَنِيبُوا} فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد بالتوبة.

قوله: (يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي)، جاء في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" و "سنن الترمذي" عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: " {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ولا يبالي".

وقلت: معناه: لا يبالي بما تقول المعتزلة: إن التوبة شرط، لأنه تحجر للواسع، وإن مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته، لأن عدم المبالاة من الجبروت.

ص: 409

ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله: {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15]. وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أن عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله؟ ! فنزلت. وروي: أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما، ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله لهم صرفًا ولا عدلًا أبدًا؛ فنزلت، فكتب بها عمر رضي الله عنه إليهم، فأسلموا وهاجروا. وقيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية"، فقال رجل: يا رسول الله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ونظير نفي المبالاة) عن بعضهم: الظاهر أن نظير نفي مقول "قيل"، والواو فيه حكاية ما في لفظ القائلين، مثل قوله:{وَلَا يَخَافُ} [الشمس: 20]، والواو فيه.

قوله: (وقيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة)، روى محيي السنة عن ابن عباس:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: كيف تدعوني إلى دينك، وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثامًا يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله؟ فأنزل الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فقال وحشي: أراني بعد في شبهة، فلا أدري يغفر لا أم لا؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} الآية: فقال وحشي: نعم، هذا، فجاء وأسلم، فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل للمسلمين عامة".

قوله: (ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية) الحديث، مثله رواه الإمام أحمد بن حنبل عن ثوبان رضي الله عنه، والباء في "بهذه" بدلية، والواو في "ومن أشرك" عاطفة، والمعطوف عليه: ما دل عليه كلام الرسول المعني: "ما أحب أن أملك الدنيا وما فيها بدل

ص: 410

ومن أشرك؟ فسكت ساعةً، ثم قال:"ألا ومن أشرك" ثلاث مرات.

[{وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واسْتَكْبَرْتَ وكُنتَ مِنَ الكَافِرِينَ} 54 - 59]

{وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ} : وتوبوا إليه {وأَسْلِمُوا لَهُ} : وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة؛ لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه الآية"؛ لأنه تعالى من على من أسرف من عباده، ووعدهم أنه يغفر لهم ذنوبهم جميعًا، ونهاهم أن يقنطوا من رحمته الواسعة، فقال الرجل: ومن أشرك، وهو يحتمل أن يكون مرفوعًا، أي: ومن أشرك أيضًا موعود ومنهي، أو منصوبًا، أي: أوعد الله عباده وأوعد من أشرك، أو مجرورًا، أي: إن الله يغفر ذنوب من آمن من عباده وحده، أو من ذنوب من آمن ومن أشرك. وهذه الوجوه تترتب أيضًا على قوله: "ألا ومن أشرك".

ولعل الصحابي لما نظر إلى معنى قوله: {يَا عِبَادِيَ} ، وأن له مزيد اختصاص بالمؤمنين خص الغفران بهم، ولما تفكر في عموم قوله:{الذُّنُوبَ جَمِيعًا} عنه فتردد فسأل، ولذلك توقف صلوات الله عليه حتى أوحي إليه أو اجتهد.

قوله: (وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة)، الراغب: النوب: الرجوع للشيء بعد أخرى قال: ناب نوبًا ونوبة، وسمي النحل نوبًا لرجوعها إلى محلها، ونابته نائبة، أي: حادثة من شأنها أن تنوب دائبًا. والإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل. قال تعالى: {وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا} ، وفلان ينتاب فلانًا، أي: يقصده مرةً بعد أخرى.

ص: 411

شرط فيها لازم لا تحصل بدونه. {واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم} مثل قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. {وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي: يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئًا لفرط غفلتكم وسهوكم، {أَن تَقُولَ نَفْسٌ}: كراهة أن تقول. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في لكفر شديد، أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير، كما قال الأعشى:

ورب بقيع لو هتفت بجوه .... أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يراد التكثير)، ذكر في تنكير {نَفْسٌ} وجوهًا:

أحدها: قوله: "بعض الأنفس"، أي: بعض من الجنس، ونوع منه، وهو نفس الكافر، بدليل قوله:{لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ} ، لأن هذا لا تقوله نفس المؤمن.

وثانيها: أن يكون التنكير للأفراد شخصًا، وهو الكافر الذي علم منه اللجاج في الكفر في الدنيا، أو الكافر الذي شوهد تعذيبه في الآخرة.

وثالثها: أن يكون التنكير للتكثير، لكن على الاستعارة، لأن وضع التنكير ليس للتكثير حقيقة، مثله "كريم" في قوله:"رب بقيع" البيت، يريد: إكثار من يجيب إلى نصرته؛ لأنه في مقام مدح نفسه وكثرة ناصريه، لا أن كريمًا واحدًا أجابه، وكذا "رب" في قوله:"رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت" يصف نفسه بأنه جواب للفيافي، ودأبه وعادته مقارعة الأبطال، كقوله:

قد أترك القرن مصفرًا أنامله

فعلى هذا المراد بالنفس: جميع الأنفس المؤمنة والكافرة، ولفظ "أو" في قوله تعالى:{أَوْ تَقُولَ} لتنويع النفس القائلة، لا لتنويع القول.

وأما تنظيره التنكير في {نَفْسٌ} بـ"رب" فلأنهما موضوعان للتقليل، وقد استعملا في التكثير مجازًا.

قوله: (ورب بقيع) البيت، قبله:

ص: 412

وهو يريد: أفواجًا من الكرام ينصرونه، لا كريمًا واحدًا. ونظيره: ربّ بلد قطعت، ورب بطل قارعت.

وقد أختلس الطعنة

ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: {يَا حَسْرَتَى} ، على الأصل، و (يا حسرتاي) على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دعا قومه حولي فجاؤوا لنصره .... وناديت قومًا بالمسناة غيبا

المسناة: العرم، والبقيع: موقع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، ومنه سمي بقيع الغرقد، وهو مقبرة المدينة، والغرقد: شجر كريم، أي: كرام كثيرون، والتنكير ينفض الرأس، أي يحركه غضبًا، يشكو من قومه ويلهيهم حين قعدوا عن نصره.

قوله: (وقد أختلس الطعنة)، تمامه:

لا تدمي لها نصلي

والبيت لامرئ القيس بن عابس، قال المرزوقي: أما في قوله: "بضربة لم تكن مني مخالسة" فهو على خلاف قول الآخر: "وقد أختلس الضربة لا تدمى لها نصلي"، لأنه قصد الشاعر هنا إلى أنه تناول من خصمه ما تناول من تثبيت وقوة قلب، لا كما يفعله الجبان، ثم ذكر تمكنه من خصمه على شدة احتراز منه حتى تناول ما تناوله خلسًا، وقد وصف الشجاع بالمخالس والخليس، ومن مدح خصمه ثم ذكر غلبته عليه، كان أبلغ في الافتخار به.

قوله: (وقرئ: {يَا حَسْرَتَى}، على الأصل)، وهي المشهورة، قال ابن جني: قرأ أبو جعفر: "يا حسرتاي" وفيها إشكال؛ لأن الألف فيه بدل من ياء "يا حسرتي" هربًا من ثقل الياء إلى خفة الألف، نحو: يا غلامي، وكان ينبغي أن لا يؤتى بياء المتكلم بعد الألف؛ لئلا يجتمع العوض والمعوض عنه، ومثله: ما أنشده أبو زيد:

إني إذا ما حدث ألما .... دعوت يا اللهم يا اللهما

فجمع بين "يا" النداء والميم، وإنما الميم عوض من "يا" النداء، ويمكن أن يقال: إن

ص: 413

الجمع بين العوض والمعوّض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون: في حقه. قال سابق البربري:

أما تتّقين الله في جنب وامق .... له كبد حرّى عليك تقطّع؟

وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه، ألا ترى إلى قوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المفرط لما شاهد نتيجة كمال تفريطه فيما ينجيه من ذلك الهول، ونهاية خيبته من الفوز والفلاح، تضجر وتفجع ومد صوته، كما يفعل الملهوف، فنزل الألف منزلة نفس الكلمة، وألحق الياء المعوض به، أو أنه من هول ذلك اليوم ذهل فلم يدر ما يقول. نحوه ذكر المصنف في قوله:{مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لًا عِلْمَ لَنَا} .

قوله: (أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته)، الراغب: أصل "الجنب": الجارحة، ثم يستعار للناحية التي تليها، كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك، نحو: اليمين والشمال. قال الشاعر:

مِن عن يميني مرة وأمامي

وقيل: جنب الحائط وجانبه، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]، أي: القريب، وقوله تعالى:{فِي جَنْبِ اللهِ} أي: أمره الذي حده لنا، وبني من الجنب الفعل، نحو: جنبته وأجنبته واجتنبته، ومنه:{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، وجنب فلان خيرًا وجنب شرًا، وإذا أطلق فقيل: جنب فلان، فمعناه: أبعد عن الخير، وذلك يقال في الدعاء وفي الخير، وسميت الجنابة بذلك، لكونها سببًا لتجنب الصلاة في حكم الشرع، والجنوب: يصح أن يعتبر فيها معنى المجيء من جنب الكعبة، ويعتبر معنى الذهاب عنه؛ لأن المعنيين موجودان.

قوله: (لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل [وحيزه]، فقد أثبته فيه)، على الطريق

ص: 414

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى .... في قبّة ضربت على ابن الحشرج

ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: "من الشرك الخفي أن يصلي الرجل لمكان الرجل"، وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه: قيل: {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ، على معنى: فرطت في ذات الله. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطي من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرّطت في الله؛ فما معنى فرّطت في الله؟ قلت: لا بدّ من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر: والمعنى: فرّطت في طاعة الله وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة:(في ذكر الله). و"ما" في {مَا فَرَّطْتُ} مصدرية مثلها في: {بِما رَحُبَتْ} [التوبة: 25]. {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها. ومحل {وَإِنْ كُنْتُ} النصب على الحال، كأنه قال: فرّطت وأنا ساخر، أي: فرّطت في حال سخريتي. وروي: أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق، وأتاه إبليس، وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي. فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن. {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} لا يخلو: إما أن يريد الهداية بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي: فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الإلطاف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البرهاني، كما أن زيادًا الأعجم جعل السماحة والمروءة والندى المعرفة بتعريف الجنس في مكان ابن الحشرج، أي: في قبة مضروبة عليه في قوله:

إن السماحة والمروءة والندى .... في قبة ضربت على ابن الحشرج

فأفاد اختصاصها به بأبلغ وجه، يعني: إذا رمتها لم تجد حصة منها خارجة عن هذا المكان. وعن بعضهم: إنما سمي الشاعر بالأعجم للثغة؛ كان يبدل السين شينًا، والطاء تاء.

ص: 415

فيلطف به. وأما الوحي فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدي، وإنما يقول هذا تحيرًا في أمره وتعلالًا بما لا يجدي عليه، كما حكي عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك، ونحوه:{لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ} [إبراهيم: 21]، وقوله:{بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي} ردّ من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى. وقرئ بكسر التاء على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله:{لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن)، وفي أكثر النسخ:"أخرى القرائن"، وهي أبين وأكشف، ومعنى "إحدى" وإن كانت عامة إلا أنه يريد بها غير الأولى؛ لأن الجواب لا يتقدم. قال صاحب "التقريب": إنما لم يقرن "بلى" بما هو جواب له، وهو:{أَنَّ اللهَ هَدَانِي} ، لأنه لو أخر {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي} انتقض الترتيب بين التحسر، ثم التعلل، ثم تمني الرجعة، ولو وسط "بلى" ليقترنا تبتر النظم بالفصل بين القرائن.

وقال القاضي: فصل الجواب عن السؤال، لأن تقديمه يفرق القرائن، وتأخير المردود يخل بالنظم المطابق للوجود؛ لأنه يتحسر بالتفريط، ثم يعلل بفقد الهداية، ثم يتمنى الرجعة، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله تعالى في فعل العبد، ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه.

وقلت: مراد المصنف أنه لم يقرن قوله: {بَلَى قَدْ جِاءَتْكَ آياتِي} مع قوله: {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي} وهو جوابه؛ لأنه لو قرن به لا يخلو: إما أن يقدم الجواب على أخرى القرائن الثلاث، يعني: قوله: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} ، لأن أولى القرائن:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى} ، وثانيتها:{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي} ، وآخرها:{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} ، وإنما كانت قرائن؛ لأن كلَا منها مصدرة بالقول، ومرتبة على ترتيب أنيق، أو

ص: 416

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تؤخر الوسطى، أي: قوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي} ، عن الأخرى، وهي:{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} ، فلا يحسن الأول؛ لما يلزم منه الافتراق بين الأقوال الثلاثة المنتظمة، واختلاط كلام الغير بها، ولا الثاني وإن انتظمت الأقوال، واتصل الجواب بالسؤال؛ لما يلزم منه تفكيك الترتيب من حيث المعنى، وهو أولى بالمراعاة من اللفظ؛ لأن التحسر مقدم على التعلل، وهو على التمني؛ لأن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة ترى الناس مجزئين بأعمالهم تتحسر على تفوتها عليها، ثم قد يتعلل بأن لم يكن التقصير مني، فلو هداني الله لكنت من المتقين، فإذا تفكر وعلم أن التقصير كان منه يتمنى الرجوع لتلافي ما فوته {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ، فلو قدم شيء من ذلك لا ينقض الالتئام.

وقلت -والله أعلم-: قد مر أن الخطاب بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} عام شامل للمسرفين كلهم، وأن المقصود الأولي منهم المشركون، وكذلك قوله:{وَأَسْلِمُوا} هو المطلوب الأولي، وان التنكير في {نَفْسٌ} يجوز أن يكون للتكثير، فكأنه قيل: قل: يا عبادي الذين فرطت منهم سقطات لا تقنطوا من رحمتي، وأنيبوا وأسلموا، واتبعوا ما أنزلت إليكم، أي: أجمعوا كلكم على الرجوع إلى الله بالتوبة، وأحدثوا الإسلام، واقرنوا بها الأعمال الصالحة من قبل أن يفجأكم ما يفوت عليكم، فتفترق كل نفس بما يلزمها من طائرها في عنقها، فتقول النفس المفرطة: يا حسرتى على ما فرطت في طاعة الله، وقصرت عن متابعة ما أنزل الله تعالى، والحال أني سخرت. وتقول النفس الكارفة المكذبة: لو أن الله هداني، أي: دعاني إلى الإسلام، لكنت من الذين اجتنبوا عن الشرك، وتقول النفس الأبية المعرضة: لو أن لي كرة فأكون من الذين أحسنوا في الرجوع إلى الله والإنابة، فيقال لكل واحد منهما: أيتها المكذبة، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها، أي: دعوناك إلى الإسلام، فاستكبرت واستمررت على كفرك، حيث كنت من مرة الكاملين في الكفر. ولهذا ذكر الضمير في:{جَاءَتْكَ} ، ولم يؤنثها باعتبار النفس، فظهر أن "أو" العاطفة لتنويع الأنفس، أو بمعنى "بل".

أنشد الجوهري:

ص: 417

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى .... وصورتها أو أنت في العين أملح

والكلام مرتبط بقوله: {يَا عِبَادِيَ} ، وهذا كله عند إنزال البأس، وحين لم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، لقوله تعالى:{واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ} الآية، وأما يوم القيامة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فترى من بين الأنفس الذين كذبوا على الله الكاملين في الكفر وجوههم مسودة، وإنما خصها بالذكر لما سبق أن الكلام وارد فيه، فينطبق على هذا قوله:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} ، وقوله من قبل:{وَاسْتَكْبَرْتَ} ، ثم ينجي الله الذين اتقوا من الشرك بفلاحهم من الإيمان، وبالتصديق في العاقبة على حسب مراتبهم وأعمالهم بفضله وكرمه من تسويد الوجوه ومن الثوي في جهنم؛ لأنهم ما كذبوا بآيات الله وما استكبروا وما كانوا من زمرة الكافرين.

وظهر أيضًا بهذا النظم السري أن قوله: "لا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح، وتجويز أن يخلق خلقًا لا لغرض، ويؤلم لا لعوض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيًا معاينًا" إلى آخره، بعيد عن المرام، وينبو عنه المقام.

وقال صاحب "الانتصاف": الزمخشري عدا طوره، فنقيم عليه حد الرد، أما نسبة أهل السنة إلى أنهم ينسبون القبائح إلى الله تعالى، فلم ينسبوا إليه قبيحًا، فإن التصرفات في الملك لا توصف بالقبح. وأما المعتزلة فيقولون: ليس خالق كل شيء، ويكذبون؛ لأن الأفعال شيء، لقوله بعيد هذا:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءِ} ، ويقولون: الله يخلق لا لغرض، لأنه الفعال لما يشاء، وعندهم أنه تعالى ليس فعالًا لما يشاء، لأن الفعل إما منطو على مصلحة فيجب عليه فعله، أو مفسدة فيجب عليه تركه، فأين أثر المشيئة له؟ !

وأما اعتقاد تكليف ما لا يطاق تظليمًا؛ فباطل، لأنه من لازم خلق الله، ولازم الحق حق، وإنما الظلم التصرف في ملك الغير بغير إذنه.

ص: 418

الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل، لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني: فلما فيه من نقص الترتيب؛ وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمني الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه؛ وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع {بَلَى} جوابًا لغير منفي؟ قلت: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} فيه معنى: ما هديت.

[{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} 60]

{كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى، وهو متعال عنه، فأضافوا إليه الولد والشريك، وقالوا:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18]، وقالوا:{لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} [الزخرف: 20]، وقالوا:{وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها} [الأعراف: 28]، ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح، وتجويز أن يخلق خلقًا لا لغرض، ويؤلم لا لعوض،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: "ويجوزون الألم لا لعوض"؛ فما يقول في إيلام البهائم والأطفال، وليس بسبب سابق، ولا في البهائم لثواب لاحق.

وأما الرؤية التي دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته"؛ فنص لا يقبل التأويل بالتهاويل، والتستر بالبكلفة ستر لا تستر، وليس كالتهتك بالباطل الذي اعتمده، وتعريضه بأنهم أثبتوا قدمًا لكونهم أثبتوا لله صفات الكمال، كلا والله ما جعل له أندادًا إلا القدرية الذين جعلوا نفوسهم يخلقون ما يريدون على خلاف مراد ربهم، حتى شاء الله ما لم يكن، وكان ما لم يشأ، فمن أثبت من صفات الله ما شهد به كتابه وسنة رسوله، فلا طعن عليه، ولو كره المبطلون.

وأما إثبات القدم واليد والجنب ففرية، ولم يقل بهذا أحد من أهل السنة، وإنما أثبت

ص: 419

ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيًا معاينًا مدركًا بالحاسة، ويثبتون له يدًا وقدمًا وجنبًا متسترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادًا بإثباتهم معه قدماء. {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}: جملة في موضع الحال إن كان {تَرَى} من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب.

[{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 61]

قرئ: (ينجي) و {يُنَجِّي} ، {بِمَفازَتِهِمْ}: بفلاحهم، يقال: فاز بكذا؛ إذا أفلح به وظفر بمراده منه. وتفسير المفازة: قوله: {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} ، أي: ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القاضي صفات سمعية وردت في القرآن، ولم يتجاوزوا في إثباتها على ما وردت به السنة، وغيره حمل اليد على النعمة والقدرة، والوجه على الذات، فلا وجه لإساءة أدبه.

قوله: ({وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}: جملة في موضع الحال)، قال صاحب "الكشف": واستغنى عن الواو لمكان الضمير. وقال الزجاج: يجوز {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} على البدل من {الَّذِينَ كَذَبُوا} ، أي: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة.

قوله: (أو بسبب منجاتهم)، عطف على قوله:"بفلاحهم". الأساس: نجوت منه نجاة، ونجاني الله، وأنجاني، وهو منجاة من السيل. قال الباهلي:

فهل تأوي إلى المنجاة أني .... أخاف عليك معتلج السيول

ص: 420

الْعَذابِ} [آل عمران: 188] أي: بمنجاة منه، لأنّ النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح؛ ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة. ويجوز: بسبب فلاحهم؛ لأنّ العمل الصالح سبب الفلاح؛ وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه: مفازة؛ لأنه سببها. وقرئ: (بمفازاتهم)، على أن لكل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واعلم أن "مفازتهم" قد فسر أولًا بفلاحهم حقيقة، يدل عليه قوله:"يقال: فاز بكذا؛ إذا ظفر بمراده". وقال في "الأساس": طوبى لمن فاز بالثواب، وفاز من العقاب، أي: ظفر ونجا. وثانيًا: بالمنجاة مجازًا، ولذلك علله بقوله:"لأن النجاة من أعظم الفلاح"، وقال في "الأساس": ومن المجاز: المفازة، سميت باسم المنجاة على سبيل التفاؤل، وفوز المسافر: ركب المفازة ومضى فيها. ولما لم يستتب معنى السببية بهذا التفسير قال: "وسبب منجاتهم العمل الصالح"، ورجع المعنى إلى قوله:"ينجي الله الذين اتقوا بسبب منجاتهم"، المسبب عن العمل، فهو مجاز في المرتبة الثانية. وثالثًا: بالفلاح المفسر بدخول الجنة المسبب عن العمل، وهو قريب من الوجه السابق، فالفلاح على الأول هو النجاة من العذاب، وعلى هذا: الظفر بالمراد. ورابعًا: بالعمل الصالح، لكن في المرتبة الأولى؛ لأن الفوز والفلاح مترادفان.

ويمكن أن يقال: إن "مفازتهم" على الوجه الثاني كناية تلويحية؛ لأن "المفازة" التي هي الفلاح دلت على النجاة، والنجاة على العمل الصالح، وعلى الثالث: كناية رمزية؛ لأنه استدل بفلاحهم المفسر بدخول الجنة على وجود العمل، وعلى الرابع: مجاز مرسل من إطلاق المسبب على السبب.

وقيل: قوله: (ويجوز أن يسمى) إلى آخره، تأكيد لإرادة العمل بالمفازة، لأنها سببها، وليس بشيء.

قوله: (وقرئ "بمفازاتهم")، أبو بكر وحمزة، والباقون" {بِمَفَازَتِهِمْ} بغير ألف. قال أبو علي: الإفراد للمصدر والجمع؛ لأن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها.

ص: 421

متق مفازة. فإن قلت: {لَا يَمَسُّهُمُ} ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأول: فلا محل له؛ لأنه كلام مستأنف. وأما على الثاني: فمحله النصب على الحال.

[{اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} 62 - 63]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على التفسيرين)، أحدهما: أن تكون الباء في {بِمَفَازَتِهِمْ} حالًا أو صلة؛ نحو: كتبت بالقلم، والمراد بالمفازة: الفلاح والفوز بالمطلوب وإدراك السعادة الأزلية.

وقوله تعالى: {إِنَّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] إشارة إلى هذا المعنى.

نقل الواحدي عن المبرد أنه قال: المفازة: مفعلة من الفرز، وهو السعادة، وإن جمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات. والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم- أي: بنجاتهم- من النار، وفوزهم بالجنة. تم كلامه.

ولما كان اهتمام شأن المتقين حينئذ التفادي عما لحق المكذبين على الله من سواد الوجوه والثوي في جهنم؛ لقوله تعالى: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أو قوله: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بيانًا له، فظهر أن المتقين هم المصدقون الذين تواضعوا وأخبتوا لله، والمراد بـ"السوء": سواد الوجوه، وبـ"الحزن": الثواء في جهنم.

والثاني: أن يراد بـ"المفازة": العمل على الوجوه المذكورة، والباء: للتسبب، و {لَا يَمَسُّهُمُ} حال، والمعنى: وينجي الله الذين اتقوا بسبب أعمالهم غير ملتبسين بالسوء والحزن، فقوله:"لا محل له؛ لأنه كلام مستأنف" إشارة إلى قوله: "كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء".

ص: 422

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية؛ لأن حافظ الخرائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت إليه مقاليد الملك؛ وهي المفاتيح، ولا واحد لها من لفظها، وقيل: مقليد، ويقال: إقليد، و: أقاليد، والكلمة أصلها فارسية. فإن قلت: ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملًا. فإن قلت: بم اتصل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} ؟ قلت: بقوله: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر: 61]، أي ينجي الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخاسرون. واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء، وقد جعل متصلًا بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: هو مالك أمرها وحافظها)، قال القاضي: أي: لا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها، وفيها مزيد دلالة على الاختصاص؛ لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها. وفي قوله:" مزيد دلالة على الاختصاص" إشارة إلى أن التقديم للاختصاص أيضًا.

قوله: (بقوله: {وَيُنَجِّي اللهُ})، أي: قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} متصل بقوله: {وَيُنَجَّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} على سبيل التقابل لتضاد بين مفردات الجملتين من حيث المعنى.

قال القاضي: وتغير النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله، وفي هلاك الكافرين بأن خسروا أنفسهم، والتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية الكرم.

قوله: (وقد جعل متصلًا بما يليه)، عطف على قوله:"فقوله"، أي: اتصل بقوله: {وَيُنَجَّي اللهُ} ، وقد جعل متصلًا بقوله:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .

ص: 423

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا أن يكون الأمر كذلك {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . وقيل: سأل عثمان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فقال:"يا عثمان، ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير"، وتأويله على هذا: أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصابه، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده، أولئك هم الخاسرون.

[{قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 64]

{أَفَغَيْرَ اللهِ} منصوب بـ {أَعْبُدُ} . و {تَامُرُونِّي} اعتراض. ومعناه: أفغير الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك. أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله: {تَامُرُونِّي أَعْبُدُ} ؛ لأنه في معنى: تعبدونني وتقولون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: هذا الثاني أوفق لتأليف النظم؛ لأن قوله: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} من جنس قوله تعالى فيما سبق: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، وفاصلة تلك:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ليكون كالتخلص إلى قوله:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا} ، كما أن فاصلة هذا:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كالتخلص إلى ما بدئ به السورة، وشحنت منه؛ من حديث الأمر بالعبادة بالإخلاص ونفي الشرك، وهو قوله:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ} .

وأما معنى الاعتراض فإن قوله: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وقوله:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيه معنى إثبات القدرة والعلم، وهما المصححان للبعث والحشر، وعند ذلك يوفى جزاء المحسن والمسيء؛ فهو لذلك مؤكد لمعنى الكلام السابق واللاحق.

قوله: (لأنه في معنى: تعبدونني)، أي: الجملتان في تأويل: " تعبدونني"، بمعنى: تقولون

ص: 424

لي: اعبد، والأصل: تأمرونني أن أعبد، فحذف "أن" ورفع الفعل، كما في قوله:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

ألا تراك تقول: أفغير الله تقولون لي: اعبده، و: أفغير الله تقولون لي: أعبد؟ فكذلك: أفغير الله تأمرونني أن أعبده، و: أفغير الله تأمرونني أن أعبد، والدليل على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لي: اعبد؛ ليرجع المعنى إلى قولك: أفغير الله تقولون لي: اعبده؛ على الإضمار على شريطة التفسير، أفغير الله تقولون لي: اعبد؛ بلا ضمير على التقديم، وأصله: أفتقولون: اعبد غير الله. يجوز أن يقال: أفغير الله تأمرونني أن أعبده، وأفغير الله تأمرونني أن أعبد. ففيه التفادي عما حظره أبو البقاء، بأنه يفضي إلى تقديم الصلة على الموصول، أو يلزم حذف الموصول وبقاء صلته.

وحاصل الوجهين: أن "غير الله" منصوب ب {أَعْبُدُ} ، ويحجره ظاهر {تَامُرُونِّي} لما يستدعي تقدير:"أن"، فيلزم المحذور السابق، فيجعل {تَامُرُونِّي}: إما اعتراضًا؛ لئلا تقدر "أن"، أو أن تجعل الجملة بمعنى: تقولون لي: اعبد؛ لينتصب بـ {أَعْبُدُ} ها هنا، لأن القول لا يستدعي "أن"، كما يستدعيه الأمر. أما قوله:"ألا تراك تقول" إلى آخره؛ فتعليل لتصحيح {تَامُرُونِّي أَعْبُدُ} بقوله: تقولون لي: اعبد.

وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون منصوبًا بـ {تَامُرُونِّي} ، و {أَعْبُدُ} بدلًا منه، والتقدير: قل: أفتأمرونني بعبادة غير الله، وهو بدل الاشتمال، ومن باب: أمرتك الخير. ورواه صاحب "الكشف" عن أبي علي، وقال: هو الصواب، وليس "غيره" الخبر، وقيل: إن "غير" منصوب بفعل محذوف، أي: فتلزمونني غير الله، وفسره ما بعده.

قوله: (والأصل: تأمرونني أن أعبد)، قال أبو البقاء: وقد ضعف هذا الوجه حيث كان التقدير: أن أعبد، فعند ذلك يفضي إلى تقديم الصلة على الموصول. وليس بشيء؛ لأن

ص: 425

صحة هذا الوجه: قراءة من قرأ (أعبد) بالنصب.

وقرئ: (تأمرونني) على الأصل؛ و {تَامُرُونِّي} ، على إدغام النون أو حذفها.

[{ولَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وإلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} 65 - 66]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"أن" ليست في اللفظ، ولا نفي عملها، فلو قدرنا بقاء حكمها؛ لأفضى إلى حذف الموصول وبقاء صلته؛ وذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.

وروى صاحب"الكشف" عن أبي سعيد: "أن" ها هنا لما حذفت بطل حكمها، ولو كان حكم "أن" باقيًا لوجب نصب "أعبد"، ولم يقرأ به أحد.

قوله: (وقرئ: "تأمرونني" على الأصل)، ابن عامر ونافع: بنون واحدة مخففة، والباقون: بواحدة مشددة. قال صاحب "الكشف": من قرأ بالتخفيف حذف إحدى النونين، كقوله:{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، وقوله:{أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ} [الأنعام: 80]، وقول عمرو:

يسوء الفاليات إذا فليني

أي: فلينني. وأنكر هذه القراءة بعضهم، ومن أنكر مثل هذا حرم عليه الشروع في كتاب الله، والنظر في كلام الأئمة، وشهد ببلادته.

ص: 426

قرئ: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، و (ليحبطن) على البناء للمفعول، و (ليحبطن) بالنون والياء، أي: ليحبطن الله، أو الشرك. فإن قلت: الموحى إليهم جماعة، فكيف قال:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ} على التوحيد؟ قلت: معناه: أوحي إليك: لئن أشركت ليحبطن عملك، وإلى الذين من قبلك مثله، أو: أوحي إليك وإلى كل واحد منهم: لئن أشركت، كما تقول: كسانا حلة، أي: كل واحد منا. فإن قلت: ما الفرق بين اللامين؟ قلت: الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية: لام الجواب، وهذا الجواب ساد مسد الجوابين، أعني: جوابي القسم والشرط. فإن قلت: كيف صح هذا الكلام مع علم الله أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها لأغراض، فكيف بما ليس بمحال؟ ألا ترى إلى قوله:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمء جَمِيعًا} [يونس: 99]؟ يعني على سبيل الإلجاء، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت: ما معنى قوله: {ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} ؟ قلت: يحتمل: ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ {لَيَحْبَطَنَّ})، بفتح الياء والباء: المشهورة، والبواقي: شواذ.

قوله: (هو على سبيل الفرض)، والمراد به: تهييج الرسل وإقناط الكفرة، وإطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم؛ لأن شركهم أقبح، أو يكون على التقييد بالموت، كما صرح في قوله:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]، وعطف:{ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} من عطف المسبب على السبب.

قوله: (ولن يكون ذلك)، أي: مشيئة الإيمان على القسر والإلجاء، لا متناع الداعي إلى القسر والإلجاء؛ لأن بناء التكليف على الاختيار ووجود الصارف، وهو الحكمة، لأن المشيئة عنده تابعة للحكمة؛ لأن الحكيم لا يقسر على الكفر، ثم يعذب عليه.

قوله: (ما معنى قوله: {ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ}؟ )، أي: لم أطلقه؟ ولذلك قيد في الجواب تارة بقوله: {مِنَ الخَاسِرِينَ} بسبب حبوط العمل، فعطف {ولَتَكُونَنَّ} على

ص: 427

ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشد، فلا يمهله بعد الردة: ألا ترى إلى قوله: {إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75]؟ {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} : رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه. {وَكُنْ مِنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{لَيَحْبَطَنَّ} من باب عطف المسبب على السبب، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتِيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلهِ} [النمل: 15]، على رأي صاحب "المفتاح"، وأخرى بقوله:{فِي الْآخِرَةِ} من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم. وقوله: "ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشد"، فعلى هذا يترك على إطلاقه مبالغة، أي ليحبطن عملك وليقهرنك بلا مهلة.

قوله: (بل إن كنت عاقلًا فاعبد الله)، هذا مذهب الزجاج. قال مكي: نصب "الله" بـ"اعبد"، وقال الفراء والكسائي: هو نصب بإضمار فعل، تقديره: بل اعبد الله فاعبد، والفاء للمجازاة عند أبي إسحاق، وزائدة عند الأخفش.

الانتصاف: مقتضى كلام سيبويه: أن الأصل: تنبه فاعبد الله، فحذفوا الفعل الأول اختصارًا، واستنكروا الابتداء بـ"الفاء"، ومن شأنها التوسط، فقدموا المفعول، وصارت "الفاء" متوسطة لفظًا، ودالة على المحذوف، وانضاف إليها فائدة الحصر؛ لإشعار التقدم بالاختصاص.

فإن قلت: هب أن الفاء في قوله: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} دلت على إضمار الشرط، فما الدال على تخصيص "إن كنت عاقلًا" على رأي المصنف، أو "تنبه" كما فهم صاحب "الانتصاف" من كلام سيبويه؟

ص: 428

الشَّاكِرِينَ} على ما أنعم به عليك من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه، تقديره: بل الله أعبد فاعبد.

[{ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 67]

لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره؛ عظمه حق تعظيمه قيل: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . وقرئ بالتشديد على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: دل عليه {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ، أي: السفهاء الخفاف الأحلام، كأنه تعالى حين سمع أن رهطا من قريش قالوا على نحو ما ورد في سورة الكافرون: يا محمد، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بقوله:{أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ، وحين سمعهم أيضًا يقولون: استلم بعض آلهتنا، كما نص عليه المصنف هنا، رده بقوله:{بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} ، يعني: لما سفهتهم في ذلك الرد خص ربك بالعبادة إن كنت عاقلا، واشكره حيث لم يجعلك من جنس ما هو أضل من الأنعام، وجعلك من أفضل الخلق وأشرفهم، بل رفع منزلتك عليهم، وجعلك سيد ولد آدم. فافهم هذه الرموز والتلويحات، وترحم على المصنف في إبرازه لتلك المحاسن.

قوله: (وجوز الفراء نصبه بفعل مضمر، والتقدير: بل الله أعبد فاعبد)، قال صاحب" التقريب": غرضه أن لا يتقدم على الفاء ما في حيزه.

قوله: (عظمه حق تعظيمه)، جواب "إذا"، وقوله:"قيل: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} " جواب "لما"، يعني: لما تعورف واشتهر بين الناس أن العظيم إذا عرف حق معرفته عظم حق تعظيمه، ولما لم يوجد ذلك في حق الملك العظيم ذي الملك والملكوت والجلال

ص: 429

معنى: وما عظموه كنه تعظيمه ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل، فقال:{والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والجبروت، قيل:{ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . والأسلوب من باب الكناية؛ لأن تعظيمك الشيء واحترامك إياه وقيامك بواجبه مستلزم لتقديرك إياه في نفسك حق تقديره، وهو مستلزم لأن تكون قد عرفته حق معرفته، فذكر اللازم الوسط، وأريد الملزوم، كما يقال: فلان نحار؛ أي: مضياف، بدل مهزول الفصيل، ظاهر كلام المصنف على أنه من إطلاق السبب المركب على المسبب، وأن قوله:"وقدره حق تقديره" عطف تفسيري.

قوله: (على طريقة التخييل)، وعن بعضهم: التخييل: تصوير حقيقة الشيء، والتمثيل: تشبيه قصة بقصة، والاستعارة: تشبيه مفرد بمفرد أو مركب بمركب، وفيه بحث.

وقال القاضي: في الآية تنبيه على عظمته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازًا، كقولهم: شابت لمة الليل.

الانتصاف: لفظ "التخييل" عبارة موهمة.

وقلت: المراد بـ"التخييل": التصوير؛ بأن تخيل عند ذكرك هذه الأشياء في ذهنك معنى عظمة الله، ليمتلئ قلبك رعبًا ومهابة، ويحصل لك من ذلك روعة وهزة لم تحصل من مجرد قولك: عظمة الله، كما إذا أردت أن تقول بدل "فلان جواد":"فلان كثير الرماد"، فأنت عند ذكرك " كثير الرماد" متصور كثرة إحراق الحطب، ثم كثرة الطبخ، ثم كثرة تردد الضيفان، فتجد من الروعة ما لا تجده إذا قلت: فلان جواد، والأسلوب من الكناية الإيمائية، نحوه قول البحتري:

أو ما رأيت المجد ألقى رحله .... في آل طلحة ثم لم يتحول؟

واعلم أن الإمام أورد في هذا المقام إشكالًا في سورة "طه"، وأجبنا عنه.

ص: 430

والغرض من هذا الكلام- إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه_ تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى: أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال، ثم قرأ تصديقًا له:{ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية، وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب؛ لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخر على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيما الأفهام والأذهان ولا يكتنهها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تصوير عظمته)، خبر "الغرض"، و"إذا" متعلق بـ"الغرض".

قوله: (ما يروي: أن جبريل عليه السلام جاءه)، وعن بعضهم: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وإنما صح:"جاء حبر" و"جاء يهودي"، و"جاء رجل من أهل الكتاب".

وقلت: الحديث بتمامه رواه البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود، مع تغيير يسير، وفيه:"جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قوله: (وأن الأفعال العظام)، عطف تفسيري على "القدرة"، و"هينة" خبر "إن"، و"لا يوصل السامع" صفة "هوانًا"، و"حتى أن يعلموا" غاية عنايتهم بالمبحث، أي: ما اعتنوا بالبحث حتى يعلموا.

ص: 431

الأوهام هينة عليه هوانًا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابًا في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإن أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديمًا، وما أتي الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفي عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه؛ إذ لا يحل عقدها الموربة، ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة؛ لأن من تأول ليس من هذا العلم في عبر ولا نفير، ولا يعرف قبيلًا منه من دبير. والمراد بالأرض: الأرضون السبع،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يحل عقدها الموربة)، الأساس: تأربت العقدة: توثقت، وأربتها: وثقتها، ومن المجاز: تأرب علينا فلان: تعسر. وعقد مكرب ومكروب: موثق، وكربه الأمر: غمه وأخذ بنفسه.

الجوهري: الكرب: الحبل الذي يشد في وسط العراقي، ثم يثنى، ثم يثلث، ليكون هو الذي يلي الماء، فلا يعفن الحبل الكبير، تقول منه: أكربت الدلو فهي مكربة.

قوله: (في عبر ولا نفير)، المثل:"في العبر ولا في النفير"، يريدون ب"العبر": عير أبي سفيان، وبـ"النفير": الذين نفروا إلى قتاله صلى الله عليه وسلم، فكل من تخلف عنهما قالوا فيه ذلك.

يضرب لمن لا يصلح لمهمة. وسبق في "الأنفال" بيانه مستوفى.

قوله: (ولا يعرف قبيلًا من دبير)، قال الميداني: القبيل: ما أقبل به من الفتل على الصدر، والدبير: ما أدبر عنه. الجوهري: القبيل: ما أقبلت به المرأة من غزلها حين تفتله. وقال الأصمعي: هو مأخوذ من الشاة المقابلة والمدابرة؛ فالمقابلة: التي شق أذنها [إلى] قدام،

ص: 432

يشهد لذلك شاهدان: قوله: {جَمِيعًا} ، وقوله:{وَالسَّمَوَاتُ} ؛ ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع" الجميع" مؤكدة قبل مجيء الخبر؛ ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمدابرة: هي التي شقت أذنها إلى خلف. وقال في "الأساس": ومن المجاز: ما يعرف قبيلًا من دبير. وأصله في الحبل إذا مسح اليمين على اليسار علوا فهو قبيل، وإذا مسحها عليها سفلًا فهو دبير.

قوله: (يشهد لذلك {جَمِيعًا}، وقوله: {وَالسَّمَوَاتُ})، يعني: دل عطف {وَالسَّمَوَاتُ} على سبيل التقابل_ وهي: جمع محلى باللام الاستغراقي، وأنها سبع_ على أن المراد ب"الأرض": الأرضون السبع.

قال القاضي: "السموات" معطوفة على"الأرض" منطوية في حكمها.

قوله: (ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم)، وذلك أنهم نسبوا إليه ما لا يليق بجلاله وما هو منزه عنه، ولذلك أتبعه بقوله:{سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

قال القفال: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} كقول القائل: ما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا، أي: لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، فوجب أن لا تحط عن قدري ومنزلتي. ونظيره قوله تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، فالمعنى: ما قدروا الله حق قدره، إذ زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى، مع أن جميع الأرضين والسماوات كلها تحت قهره وسلطانه.

قوله: (أتبع"الجميع" مؤكدة)، أي: من حيث المعنى، وكان من حقه أن يجاء به بعد مضي

ص: 433

يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضي كلهن. والقبضة: المرة من القبض، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96]، والقبضة بالضم: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضًا: أعطني قبضة من كذا؛ تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، كما روي: أنه نهى عن خطفة السبع. وكلا المعنيين محتمل. والمعنى: والأرضون جميعاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخبر؛ لأنه معموله، فقدم لهذا الاهتمام. قال أبو البقاء:"الأرض" مبتدأ، و {قَبْضَتُهُ} الخبر، {جَمِيعًا} حال من "الأرض"، أي: إذا كانت مجتمعة قبضته، أي: مقبوضة، فالعامل في "إذا" المصدر، لأنه بمعنى المفعول. وقال أبو علي: التقدير: ذات قبضته. ورد عليه بأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله. وأجيب أنه الآن غير مضاف إليه؛ لأن بعد حذف المضاف لا يبقى حكمه.

وقال صاحب "الكشف": قدر أبو علي في "الحجة": والأرض ذات قبضته، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، وعلى ما في "الحلبيات" يتأتى إعمال {قَبْضَتُهُ} في "إذا"، لأنه بمعنى المفعول.

وقال أبو البقاء: ويقرأ "قبضته" بالنصب؛ على معنى: في قبضته، وهو ضعيف؛ لأن هذا الظرف محدود، فهو كقولك: زيد في الدار.

ولهذا جاء المصنف بالعذر في قوله: "جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم".

قوله: (أنه نهى عن خطفة السبع)، النهاية:"أنه نهى عن المجثمة والخطفة"، يريد: ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة، وهي حية؛ لأن ما أبين من حي فهو ميت، والخطفة: المرة الواحدة، فسمي بها العضو المختطف.

ص: 434

قبضته، أي: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعنى: أن الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أي: ذات أكلته وذات جرعته؛ تريد: أنهما لا تفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته. وإذا أريد معنى القبضة فظاهر؛ لأن المعنى: أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة.

فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: (قبضته) بالنصب؟ قلت: جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم. {مَطْوِيَّاتٌ} من الطي الذي هو ضد النشر، كما قال تعالى:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ} [الأنبياء: 104]، وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه. وقيل:{قَبْضَتُهُ} : ملكه بلا مدافع ولا منازع، و {بِيَمِنِهِ}: بقدرته. وقيل: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِنِهِ} : مفنيات بقسمه؛ لأنه أقسم أن يفنيها، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله، ثم يبكي حمية لكلام الله المعجز بفصاحته، وما مني به من أمثاله؛ وأثقل منه على الروح، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله، واستحسانهم له، وحكايته على فروع المنابر، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ:(مطويات) على نظم السماوات في حكم الأرض،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الجزور أكلة لقمان)، وهو لقمان بن عاد، وكان أكولًا، وأفرطوا في الإفراط في أكله، حتى رووا أنه كان يتغدى بجزور ويتعشى بجزور ويتعلل بفصيل، فأفضى إلى امرأته فلم يصل إليها، فقال: كيف أصل إليك وبيني وبينك جزوران، وكان شجاعًا.

قوله: (وقيل: {قَبْضَتُهُ}: ملكه) إلى آخره، شروع فيما قيل في تفسير الآية، وقوله (ومن اشتم رائحة من علمنا) تحكم في الفرق بين التفسيرين؛ تفسيره وتفسيرهم.

قوله: (على نظم السماوات في حكم الأرض)، يعني: كما أن الأرض أخبر عنها بقبضته، فدخلت تحت القبضة، أخبر عن السماوات بيمينه، فدخلن تحت اليمين، وكما أن {جَمِيعًا} حال مقدم، كذا {مَطْوِيَّاتٌ} ، وافتراق هذه القراءة من الأولى افتراق قولك: الكتاب مطوي بيمينه، وبيمينه مطويًا، والأولى أولى؛ لما يتصور منه السامع طي النشر

ص: 435

ودخولها تحت القبضة، ونصب (مطويات) على الحال. {سبحانه وتعالى}: ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.

[{ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ ومَن فِي الأَرْضِ إلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} 68]

فإن قلت: {أُخْرَى} ما محلها من الإعراب؟ يحتمل الرفع والنصب: أما الرفع فعلى قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]، وأما النصب فعلى قراءة من قرأ:{نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]، والمعنى: ونفخ في الصور نفخة واحدة، ثم نفخ فيه أخرى. وإنما حذف لدلالة {أُخْرَى} عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ:(قيامًا ينظرون): يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب. وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود في مكان لتحيرهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في مشاهدته، ومن ثم جاء:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وأما حكم الأرض فبالقبض أنسب، فاختلف لذلك التركيب؛ ولأن تقديم الحال على العامل المعنوي ضعيف.

قال ابن الحاجب: وقد اختلف في مثل: " زيد كائنا في الدار"، فجوزه بعضهم؛ لأن التقدير: استقر أو مستقر، وبعضهم يجعلون المقدر نسيًا منسيًا، والظرف هو العامل في المعنى، وهذا أرجح؛ لأنه لم يثبت ملثه في فصيح الكلام؛ ولأنه في حكم العدم، وصارت العاملة مع النائب عنه.

قوله: (فعلى قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}) يعني: جاء في ذلك الموضع كذا، فيحمل هذا عليه. وقال القاضي: دل قوله تعالى: {أُخْرَى} على أن المراد من قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} نفخة واحدة.

ص: 436

[{وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ووُضِعَ الكِتَابُ وجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَدَاءِ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ * ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} 69 - 70]

قد استعار الله عز وجل النور للحق والقرآن والبرهان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قد استعار الله النور للحق والقرآن والبرهان)، يعني: لا يحمل "النور" الذي في الآية على حقيقته للصارف، وقد ورد في التنزيل بمعنى الحق والقرآن والبرهان على المجاز من ذلك، فعلى هذا: قوله تعالى: {وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} مستعار لقولنا: وتزينت أرض القيامة بما يقام فيها من الحق وبسط العدل من القسط في الحساب. وينادي على أنه مستعار الإضافتان؛ أي: إضافة "النور" إلى "الرب"، وإضافة "الرب" إلى "الأرض". عن بعضهم: دل على أنه مستعار إضافة" النور" إلى"الرب"؛ لأن الله هو الحق العدل، فناسب أن يراد بـ"النور": الحقية والعدالة، فالحق والعدل صفة الله وما أضيف إليه المراد به المصدر لا الوصف؛ ليتغايرا.

وقلت: شبه إقامة الله الحق والعدل في أرض القيامة للاستنفاع بهما، وتزيينهما بهما، بإشراق النيرين وجه الأرض، وتبيين ما فيها، ثم حذف المشبه، وأقيم المشبه به مقامة، وجعلت القرينة الإضافتين، وفي الممثل به ثلاثة أشياء: وجود النيرين، وإشراقها الأرض، وإبانة الأشياء بنورهما؛ ففي المشبه تحقبق وجود الحق والعدل، وبسطهما في أرض القيامة، وإقامتهما بحسب اقتضاء صالح الأعمال وسيئها، لا على أن هذه الأشياء كل واحد مشبه ومشبه به، بل على جعل الوجه منتزعا من المجموع، إما على التوهم؛ ليكون تمثيلية، أو على التحقيق والزبدة؛ لتكون عقلية.

إذن قوله أولًا: "استعار النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع" تصحيح هذه الاستعارة بحسب العرف التنزيلي. وثابيًا: "وينادي عليه بأنه مستعار" بإقامة الصارف الموجب للتأويل، وثالثا:"وإضافة اسمه إلى الأرض" بتخصيص المستعار له وأنه العدل لكن بطريق اللوزم، وكأن الرتبة في هذا المقام ملزوم العدل. ورابعا:"ثم ما عطف على إشراق الأرض"

ص: 437

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بأن النظم أيضًا يقتضي ذلك التخصيص. وخامسا: "ترى الناس يقولون للملك العادل" بتصحيحها بحسب العرف العام. وسادسًا: "الظلم ظلمات يوم القيامة" بإنشائها بحسب استعمال الضد في الألفاظ النبوية. وسابعًا: "وكما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم"، بأن مراعاة رد العجز على الصدر على طريقة الطرد والعكس داعية إلى تفسير النور بالعدل.

كأنه قصد بذلك كله مخالفة أقوال بعض المفسرين وترجيح أحد الأقوال فيها، فوجب لذلك أن يوردها في الذكر، ثم ينظر إلى وجه الترجيح نظر إنصاف.

قال الواحدي رحمة الله: إن الله يخلق في القيامة نورا يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به من غير شمس ولا قمر. هذا أحد قولي الزجاج. وقال محيي السنة: أشرقت الأرض بنور خالقها، وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا تضارون في الشمس في اليوم الصحو. وهذا قول آخر للزجاج. وقال الحسن والسدي: بعدل ربها، وأراد بالأرض: عرصات القيامة. وهذا القول هو المختار عند المصنف، وتبعه القاضي.

وقال السجاوندي: {بِنُورِ رَبِّهَا} عدله الصافي عن ملكة الغير. واختار الإمام قول الواحدي وقال: الآية تدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى، ولا يلزم أن يكون ذلك النور من خلق الله تعالى؛ لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب، فلما كان ذلك النور من خلق الله شرفه الله تعالى بأن أضافه إلى نفسه كبيت الله وناقة الله، هذا أقوى من حمله على العدل؛ لأنا نفتقر إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى المجاز.

وقلت: القول ما اختار محيي السنة. وقد روى الإمام مسلم بن الحجاج في"صحيحه" عن أبي هريرة: " قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في

ص: 438

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة"؟ قالوا: لا. قال: "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ " قالوا: لا، قال: فو الذي نفسي بيده لا تضارون في ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما، فيلقى العبد ربه فيقول_ أي له_: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك؟ " الحديث، قال الزجاج: روي "لا تضارون" بتشديد الراء، ولا "تضامون" بتشديد الميم، ومعنى "لا تضارون" لا يضار بعضكم بعضًا، أي: لا يخالف بعضكم بعضًا في ذلك، يقال: ضاررت الرجل أضار مضارة وضرارًا، إذا خالفه.

ومعنى "لا تضامون": لا يضم بعضكم بعضًا فيقول واحد للآخر: أرنيه. كما يفعلون عند النظر إلى الهلال. وما اختار محيي السنة ما اختاره إلا لهذا النص الصريح، وما تعسف المصنف تلك التعسفات إلا فرارا منه، وقد جاء وصف الباري بالنور، ومن أسمائه الحسنى النور، روينا عن الإمام أحمد بن حنيل ومسلم والترمذي عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه؟ ". وزاد أحمد: "نور أني أراه". على طريق الإيجاب. وقال حجة الإسلام في "مشكاة الأنوار" بأن النور الحق هو الله تعالى، ثم قال: بل أقول ولا أبالي: إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض.

ص: 439

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا، وإن من مذهب السلف الصالح أن يجري الكلام فيه وفي أمثاله على ظاهره بعد أن نقر أن هذا النور ليس من نوع هذه الكيفية الفائضة على الأجسام، ونحيل كنه معرفته إلى قصور أفهام البشر. ووجدت في تضاعيف كلام الإمام ما معناه: أن طريق المحققين من الموحدين القول بأنا نعلم أنه ليس مراد الله في أمثال هذه الصفات هذه المشاهدات، وأما تعيين المراد فهو مفرض إلى الله تعالى، وأما قول محيي السنة: ذلك حين يتحلى الله الرب لفصل القضاء بين خلقه، فهو الذي يقتضيه المقام من التأويل وعليه التعويل؛ لأن المقام مقام تجلي الذات بصفات الجلال والعظمة؛ لما يلوح من صفحات معنى الآية تباشير معنى قوله:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ولمجيء الأفعال المتناسقة على البناء للمفعول على نحو قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] الآية.

قال المصنف: ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل قادر قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في أفعاله، ولا يذهب الوهم إلى أن غيره الفاعل. بل الكلام من مبدئه وارد على سنن أحوال الملوك ومرون عادتهم، فإن الملك العظيم إذا ضرب سرداق جلاله وعظمته ليوم يشهد لقضاء شؤون العامة يأمر بإحضار خواص حضرته وأساطين مملكته، ثم يبرز من الحجب بحيث يشاهده الظالم والمظلوم، ويتصدى لفصل القضاء بنفسه، والحاكم العادل إذا جلس للقضاء في مسنده يضع بين يديه فرقان حكم الله ويأمر بإحضار العدول وإقامة الشهود، ولا مانع من إجراء هذه الألفاظ على هذه المعاني، على أن كنه معرفته موكول إلى علم الله.

وفي جعل النور مجازًا عن العدل تحجير للواسع، وتقصير للكلام الجامع، على أن العدل من لوازم هذا البيان. وأما قوله:{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فهو متصل بقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} وتذييل لمعناه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

وكان الوالد المغفور له_ تغمده الله بغفرانه_ كثيرًا ما يجري على لسانه أن جماعة من

ص: 440

في مواضع من التنزيل، وهذا من ذاك. والمعنى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه؛ لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض؛ لأنه يزينها؛ حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربا وخالقها هو الذي يعدل فيها، وإنما يجوز فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق، وهو النور المذكور. وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرفت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة". وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم. وقرئ:(وأشرقت) على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصت. وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلًا وطبقها عدلًا. و {الْكِتَابِ} : صحائف الأعمال، ولكنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضلاء الشرق كانوا يتحسرون على الظفر بالتفسير الكبير الموسوم بـ"مفاتيح الغيب"؛ ليقفوا على تفسير تحقيق هذه الآية فيها، والله ولي الإفضال.

وأنشد صاحب "المطلع" لعباس بن عبد المطلب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:

وأنت لما ولدت أشرقت الـ .... أرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النـ .... ــــنور وسبل الرشاد نخترق

قوله: (الظلم ظلمات يوم القيامة)، الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر.

قوله: (واغتصت)، الجوهري: المنزل غاص بالقوم، أي: ممتلئ بهم.

ص: 441

اكتفي باسم الجنس. وقيل: اللوح المحفوظ. {وَالشُّهَدَاءِ} : الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخبار. وقيل: المستشهدون في سبيل الله.

[{وسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ ويُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى ولَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ} 71 - 72]

الزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض، وقد تزمروا، قال:

حتى احزألت زمر بعد زمر

وقيل في زمر الذين اتقوا: هي الطبقات المختلفة: الشهداء، والزهاد، والعلماء، والقراء، وغيرهم. وقرئ:(نذر منكم). فإن قلت: لم أضيف إليهم اليوم؟ قلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (حتى احزألت زمر بعد زمر)، قيل أوله:

إن العفاة بالسيوب قد غمر

الأساس: احزأل السراب بالظعن: زهاها. واحزألت الإبل في السير: ارتفعت. وأنشد المصراع.

الراغب: الزمرة: الجماعة القليلة، ومنه قيل: شاة زمرة، قليلة الشعر. ورجل زمر، قليل المروءة، ومنه اشتق الزمر والزمارة كناية عن الفاجرة.

ص: 442

أرادوا لقاء وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة. وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضًا في أوقات الشدة.

{قَالُوا بَلَى} أتونا وتلوا علينا، ولكن وجبت علينا كلمة الله:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18]؛ لسوء أعمالنا، كما قالوا:{غضلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قِوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106]، فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب؛ وهو الكفر والضلال. واللام في {المُتَكَبِّرِينَ} للجنس؛ لأن {مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ} فاعل "بئس"، و"بئس" فاعلها: اسم معرف بلام الجنس، أو مضاف إلى مثله، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: فبئس مثوى المتكبرين جهنم.

[{وسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وعْدَهُ وأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} 73 - 74]

{حَتَّى} هي التي تحكى بعدها الجمل، والجملة المحكية بعدها هي الشرطية،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} لسوء أعمالنا) إلى قوله: (فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب) هذا موافق لمذهبه، قال القاضي: كلمة العذاب هو الحكم عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل النار، ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على اختصاص ذلك بالفكر.

وقيل: كلمة العذاب: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مشنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. قال أيضًا في قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ} : "اللام في {المُتَكَبِّرِينَ} للجنس"، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأجل أن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عن كلمة العذاب.

ص: 443

إلا أن جزاءها محذوف، وإنما حذف؛ لأنه في صفة ثواب أهل الجنة؛ فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وحق موقعه ما بعد {خَالِدِينَ}. وقيل:{حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} جاؤوها (وفتحت أبوابها)، أي: مع فتح أبوابها. وقيل: أبواب جهنم لا تتفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها، بدليل قوله:{جَنَّاتُ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]؛ فلذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها. فإن قلت: كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعًا بلفظ السوق؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وحق موقعه)، أي: الجزاء المقدر بعد قوله: {خَالِدِينَ} . وعن بعضهم: أي: فادخلوها خالدين كان ما كان ووقعوا فيما وقعوا. وقوله: كان ما كان ووقعوا فيما وقعوا؛ جزاء {إِذَا جَاؤُوهَا} ، قال الزجاج: اختلف الناس في جواب "إذا" قيل: الواو مسقطة، أي: حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها. وسمعت محمد بن يزيد_ يعني المبرد_ يذكر أن الجواب محذوف، التقدير:{حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} إلى آخر الآية سعدوا، أي: حتى إذا جاؤوها وقع مجيئهم مع فتح أبوابها حتى يجتمع المجيء مع الفتح في حال واحدة.

قال الزجاج: والذي عندي: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} إلى قوله: {خَالِدِينَ} دخلوها. وقول المبرد موافق للقول الأول للمصنف.

قوله: (أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها)، قال الراغب: إن جهنم لما كانت أشد المحابس، ومن عادة الناس إذا شددوا أمرها ألا يفتحوا أبوابها إلا لداخل أو خارج، ولما كانت جهنم أهولها أمرًا وأبلغها عقابًا أخبر عنها بما شوهد من أحوال الحبوس، وأما الجنة فلأن من فيها يتشوقون للقاء أهلها، ومن رسم المنازل إذ بشر من فيها بإياب أربابها إليها أن تفتح أبوابها استبشارًا لهم وتطلعا إليهم، ويكون ذلك قبل مجيئهم، فأخبر عن ذلك على ما جرت به العادة، فيكون حذف الجزاء وإدخال الواو على المعطوف عليه لذلك فاعرفه.

ص: 444

قلت: المراد بسوق أهل النار: طردهم إليها بالهون والعنف، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى جبس أو قتل. والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكين، وحثها إسراعًا بهم إلى دار الكرامة والرضوان،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المراد بسوق أهل النار: طردهم إليها بالهوان

وبسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين، راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا"، الحديث.

وعن الترمذي، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تحشرون رجالًا وركبانا وتجرون على وجوهكم".

وعن الترمذي، ع أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانا، وصنفًا على وجوههم". الحديث.

قال القاضي: المشاة المؤمنون الذين خلطوا صالح أعمالهم بسيئها ويكونون مترددين بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة الله لإيمانهم، ويخافون عذابة بسوء أعمالهم، فلعلهم أصحاب اليمين. والصنف الركبان هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات واجتنبوا عن السيئات، يسرعون إلى ما أعدلهم في الجنان إسراع الركبان، ولعلهم السابقون؛ لقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11] واثنان على بعير، وثلاثة على بعير،

ص: 445

كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين. {طِبْتُمْ} من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطابا {فَادْخُلُوهَا} جعل دخول الجنة مسببًا عن الطيب والطهارة، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفصيل لمراتبهم ومنازلهم في السبق وعلو الدرجة، أو على سبيل التمثيل؛ لأن تفاوتهم في المراكب بحسب تفاوت نفوسهم واختلاف أقدامهم في العلم والعمل.

قوله: (جعل دخول الجنة مسببًا عن الطيب والطهارة)، يعني: رتب الأمر بالدخول بالفاء على {طِبْتُمْ} . قال الإمام: قالت المعتزلة: هذا يدل على أن أحدًا لا يدخلها إلا إذا كان طاهرًا عن كل المعاصي. وإلى هذا أشار المصنف بقوله: "فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة" إلى قوله: "إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحًا" تعريضًا.

وقلت: ويحصل ذلك أيضًا بأن يبدل الله سيئاتهم حسنات فيدخلون طاهرين طيبين بفضل الله، على أن أحدًا لا يدخلها إلا بفضله.

روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة وجابر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله"، قالوا: ولا أنت؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته". وفي رواية أخرى لأبي هريرة: "لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة". وبالشفاعة أيضًا، والأحاديث فيها بلغت مبلغ التواتر، وبعد التعذيب أيضًا على ما روينا عن مسلم، عن جابر في حديث طويل:"أن قومًا يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهرًا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس". يؤيده ما رواه الواحدي عن قتادة: إنهم طيبوا قبل

ص: 446

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دخول الجنة بالمغفرة واقتص بعضهم من بعض، فلما هذبوا وطيبوا قال لهم الخونة:{طِبْتُمْ فَادْخُلُوها} .

اعلم أن خاصية التركيب ومقتضى التأليف لا يساعد تفسير المصنف "السوق" بقوله: "والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين"، ولا تأويله {الَّذِينَ اتَّقَوْا} بقوله:"وقيل: في زمر الذين اتقوا؛ هي الطبقات المختلفة: الشهداء والزهاد والعلماء والقراء"؛ لأن الآيات من باب الجمع مع التقسيم، فإن قوله:{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} جمع الأنفس كلها في حكم توفي أجور الأعمال صالحها وسيئها. وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} إلى آخر الآيات تقسيم لذلك الجمع وتفصيل لذلك المجمل، وقد أوثر فيهما الذين كفروا والذين اتقوا على الكافرين والمتقين ليدل على العموم قال في قوله تعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. وتأمل قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] أي: الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين. وأوقع {زُمَرًا} في الموضعين حالًا من ضمير الفريقين؛ ليدل على أنهم على طرائق شتى أفواجا متفرقة على تفاوت منازلهم مراتبهم، كما ورد في حديث أبي هريرة:"صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، ورأبعة على بعير"، وحققه القاضي، وقوبل كل من المفضلين بالآخر فوجب أن يفسر {الَّذِينَ اتَّقَوْا} بما يكون مقابلا لقوله:" الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ورسله واليوم الآخر وغلبت عليهم شقوتهم وحقت عليهم كلمة العذاب"، بأن يقال: وسيق الذين اتقوا الشرك وآمنوا بآيات الله ورسله وباليوم الآخر إلى الجنة زمرًا، فرقة طيبين، وفرقة طابوا بالشفاعة، وفرقة هذبوا بالاقتصاص، وأخرى نجوا بالمغفرة وأدركتهم كلمة ربهم الحسنى، كما قال:{وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} كما حقت كلمة العذاب على أولئك الأشقياء.

ص: 447

فما هي إلا دار الطيبين ومثوى الطاهرين؛ لأنها دار طهرها الله من كل دنس، وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة! ما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة! إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحًا، تقي أنفسنا من درن الذنوب، وتميط وضر هذه القلوب. {خَالِدِينَ}: مقدرين الخلود. {الْأَرْضَ} : عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوه مقرًا ومتبوا وقد ورثوها، أي: ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون، تشبها بحال الوراث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه، وذهابه في إنفاقه طولًا وعرضًا.

فإن قلت: ما معنى قوله: {حَيْثُ نَشَاءُ} ؟ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت: يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ من جنته حيث يشاء،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما اختيار لفظ" السوق" وبناء الفعل للمفعول فلللدلالة على عظمة الكبرياء والجلال، ولتوافق ما ختم به الكلام بما بدئ به، ألا ترى كيف قيل:{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وض الشُّهَدَاءِ} ؟ فكما أن ذلك المجيء لا يدل على فضلهم وكرامتهم بل على الكبرياء والجلال، وكذلك هذا السرق. وأيضا: لا يليق بهذا المقام أن يقال: وحثها إسراعًا بهم إلى دار الكرامة كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك؛ لأنه صدور من جناب ملك الملوك بعد قضاء الحق وتوفي الأجور، ويمكن أن يجرى على المشاكلة، فإن لما نسب السوق إلى الكفار وانضم معه مقام الجبروت والكبرياء، قيل:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وفي عكسه قوبل في الكهف: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] بقوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} : [الكهف: 31]. قال: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} متكأ، من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله:{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} .

قوله: (يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة)، ينصره ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلًا لمن ينظر إلى جناية وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة،

ص: 448

ولا يحتاج إلى جنة غيره.

[{وتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 75]

{حَافِّينَ} : محدقين من حوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} : يقولون: سبحان الله والحمد لله، متلذذين لا متعبدين. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {بَيْنَهُم} ؟ قلت: يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلا قضاء بينهم بالحق والعدل، وأن يرجع إلى الملائكة، على أن ثوابهم_ وإن كانوا معصومين جميعًا_ لا يكون على سنن واحد، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فهو القضاء بينهم بالحق. فإن قلت: قوله: {وقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ} من القائل ذلك؟ قلت: المقضي بينهم، إما جميع العباد، وإما الملائكة، كأنه قيل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].

قوله: ({حَافِّينَ}: محدقين)، قال مكي: هو نصب على الحال؛ لأن"ترى" رؤية العين، وواحدة: حاف. وقال الفراء: لا واحد له.

قوله: (لا متعبدين)، يقال: تعبد الله: أي: عبده. وتعبده الله أي: استعبده. وفلان يتعبد، كما تقول: يتزهد. الأساس: فلان قد استعبده الطمع، وتعبدني فلان واعتبدني، صيرني كالعبد له.

قوله: (المقضي بينهم إما جميع العباد أو الملائكة)، وعلى الأول: تكرير الحمد لإناطة معنى زائد به؛ لأن الأول: للتفضلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط

ص: 449

وقضى بينهم بالحق، وقالوا: الحمد لله على قضائه بيننا بالحق، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة، وأعطاه الله ثواب الخائفين الذين خافوا". وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والرضوان، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان: فريق في الجنة وفريق في السعير، فتكون الآية كالتتميم بالنسبة إلى الأولى في إتمام القضاء، وعلى الثاني كالتكميل؛ لأن ذلك القضاء في حق بني آدم، وهذا في حق الملائكة، ويؤيد التأويل الثاني: تكرير التحميد في الآيتين. فإن قلت: إنما يستقيم هذا في حق المؤمنين الذين قضي لهم بالجنة، وأما الكافرون الذين قضي لهم بالنار فكيف يحمدون عليه؟ قلت: بحمل الجميع على المجاز، بأن يراد بالعباد المؤمنين، أو أن يقصد بالحمد المدح على قضائه بالحق والقسط، كما يرى الظالم المنصف إذا استوفى الحاكم العادل منه حق جنايته، فإنه قد يأخذ في مدحه، وإليه الإشارة بقوله:"وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه".

قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها، الحديث من رواية الترمذي عنها:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل".

تمت السورة

حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم

* * *

ص: 450

سورة المؤمن

مكية. قال الحسن: إلا قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ؛

لأن الصلوات نزلت بالمدينة، وقد قيل في الحواميم كلها:

إنها مكيات، عن ابن عباس وابن الحنفية

وهي خمس وثمانون آية، وقيل: ثنتان وثمانون

بسم الله الرحمن الرحيم

[{حم (1) تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ إلَيْهِ المَصِيرُ} 1 - 3]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة المؤمن

مكية، وهي خمس وثمانون آية،

وقيل: ثنتان وثمانون آية

بس الله الرحمن الرحيم

ربما يوجد في بعض النسخ هذه الزيادة، وهي أن" سورة المؤمن مكية، قال الحسن: إلا قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر: 55]؛ لأن الصلاة نزلت بالمدينة. وقد قيل في الحواميم كلها: إنها مكيات عن ابن عباس وابن الحنفية"، وكأن الرواية غير صحيحة؛ لأن الصلاة إنما فرضت بمكة بلا خلاف سنة إحدى عشرة من النبوة، وأما حديث المعراج والإسراء من المسجد الحرام من الحجر، وإيجاب فرض الصلاة خمسين كل يوم، والترجيع فيها إلى أن بلغ

ص: 451

قرئ بإمالة ألف (حا) وتفخيمها، وبتسكين الميم وفتحها. ووجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، وإيثار أخف الحركات، نحو أين وكيف، أو: النصب بإضمار"اقرأ"، ومنع الصرف للتأنيت والتعريف، أو للتعريف، وأنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل. التوب والنوب والأوب اخوات في معنى الرجوع. والطول: الفضل والزيادة، يقال: لفلان على فلان طول،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خمس صلوات فقد رواه الأئمة مثل البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وروي عن ابن مسعود: الحواميم ديباج القرآن. وقال أيضًا: إذا وقعت في آل حم_ أي: الحواميم_ كأني وقعت في روضات دمثات، أي: لينات الترب.

قوله: (بإمالة ألف "حا" وتفخيمها)، ابن كثير وقالون وحفص وهشام بفتح الحاء في جميع الحواميم، وورش وأبو عمرو بين بين، والباقون بالإمالة وبتسكين الميم السبعة، قال الزجاج: فأما الميم فساكنة في قراءة القراء كلهم إلا عيسى بن عمر فإنه فتحها، وهو على وجهين: أحدهما أن يجعل اسمًا للسورة، وعدم صرفها؛ لأنها على لفظ الأسماء الأعجمية، نحو هابيل وقابيل، والمعنى على "اتل حم يا هذا" والأجود أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين، حيث جعله اسمًا للسورة حكاية عن حروف الهجاء.

قوله: (أو النصب)، عطف على قوله:"ووجه الفتح" أي: قرئ "حم" بفتحها أو نصبها. وجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، ووجه النصب بإضمار"اقرأ" ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يعطف على التحريك، وفيه حزازة.

ص: 452

والإفضال، يقال: طال عليه وتطويل؛ إذا تفضل. فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفًا وتنكيرًا، والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف؟ قلت: أما {غَافِرِ الذَّنبِ وقَابِلِ التَّوْبِ} فمعرفتان؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن أو غدًا حتى يكونا في تقدير الانفضال، فيكون إضافتهما غير حقيقيه؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش. وأما {شَدِيدِ العِقَابِ} فأمره مشكل؛ لأنه في تقدير: شديد عقابه، لا ينفك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والإفضال)، وهو عطف على "الفضل".

الراغب: الطول من الأسماء المتضايفة، يقال: طويل وطوال كعريض وعراض، والجمع: طوال. وقيل: طيال، وتطاول: أظهر الطول أو الطول، قال تعالى:{فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص: 45] والطول خص به الفضل والمن، قال تعالى:{ذِي الطَّوْلِ} .

قوله: (فأمره مشكيل)، قال ابن الحاجب في" الأمالي": لأن إضافته غير محضة على كل حال؛ لأنه صفة مشبهة فلا يفرق بين ماضيه وغيره، بخلاف اسم الفاعل. وقال أيضًا: في هذه الصفات إشكال آخر وهو قوله: {ذِي الطَّوْلِ} فإنه معرفة فلا يحسن أن يكون صفة لقوله: {مِنَ اللهِ} لأنك فصلت بينه بالبدل، ولا يحسن أن يكون صفة للبدل؛ لأنه نكرة و {ذِي الطَّوْلِ} معرفة، فالأولى أن يقال: هو بدل ثان من البدل الأول، فكأنه قال: من الله العزيز العليم، من الله غافر الذنب، من الله ذي الطول.

وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون {شَدِيدُ} بمعنى "مشدد"، كما جاء "أذين" بمعنى "مؤذن"، فتكون الإضافة محضة.

ص: 453

من هذا التقدير، وقد جعله الزجاج بدلًا، وفي كونه بدلًا وحده بين الصفات نبو ظاهر، والوجه: أن يقال: لما صودف بين هؤلاء والمعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك: قصيدة جاءت تفاعيها كلها على "مستفعلن"، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على "متفاعلين" كانت من الكامل. ولقائل أن يقول: هي صفات، وإنما حذف الألف واللام من {شَدِيدِ العِقَابِ} ، ليزاوج ما قبله وما بعده لفظًا، فقد غيرا وا كثيرا من كلامهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: لما كان القابل بالنظر إلى أنه شيء له القبول، لا بالنظر إلى أنه عامل، صلح أن يكون صفة له بالإضافة إلى التوبة، وكان معرفة فصلح أن يكون "الشديد" من حيث إنه شيء له الشدة لا بالنظر إلى أنه عامل صفة له لإضافة إلى التوبة، وكان "العقاب" معرفة، فعلى هذا يكون "شديد العقاب" معرفة كما أنهما معرفتان، فليتأمل.

ويؤيده قول الإمام: لا نزاع في أن {غَافِرِ الذَّنبِ وقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3] صفتان، ومصححهما كونهما مفيدين معنى الدوام والاستمرار، فكذلك قوله:{شَدِيدِ العِقَابِ} لأن صفات الله منزهة عن الحدوث والتجدد، فكونه شديد العقاب معناه كونه بحيث يشد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبدًا وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن.

وقلت: نحو من هذا مر في {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وقوله: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96].

قوله: (نبو ظاهر)، عن بعضهم: توسيط البدل بين الصفات جائز في النحو، لكنه قبيح بين علماء البيان؛ لأن الصفات تدل على أنه مقصود، والبدل يدل على أنه غير مقصود، فيلزم التناقض.

ص: 454

عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع؛ على أن الخليل قال_في قولهم: ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل_: إنه على نية الألف واللام كما كان "الجماء الغفير" على نية طرح الألف واللام، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة، وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما يعرف سحادليه من عنادليه)، ما وجدت في الأصول له وجها سوى في الحاشية، السحادل: الذكر. والعنادلان: الخصيتان. وذكر بعضهم أنه مذكور في كتاب "الشامل في اللغة".

قوله: (بالرجل خير منك

على نية الألف واللام)؛ لأنه صفة للمعرفة، يعن: إن منع لفظة من إدخال الألف واللام فهو منوي؛ لأن"أفعل من كذا" معهود بين المتكلم والمخاطب، ولذلك جاز أن يدخل ضمير الفصل بينه وبين المبتدأ.

قوله: (الجماء الغفير)، عن بعضهم: إنما نصب"الجماء الغفير" على الحكاية، كما يقال: جاء القوم الجماء الغفير، أي: جما غفيرًا. وقال الميداني: قال سيبويه: هو اسم جعل مصدرًا فانتصب كانتصاب قوله:

فأرسلها العراك ولم يذدها

قوله: (قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة)، كأنه قيل: من الله غافر الذنب وقابل التوب ولا شيء أذنى من عقابه، ونظيره قوله:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}

ص: 455

إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. فإن قلت: ما بال الواو في قوله: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ؟ قلت: فيها نكتة جليلة؛ وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[القمر: 55] أي: عند مليك لا يوصف ملكه، ومقتدر لا يكتنه اقتداره، ولكن لما كانت السورة متضمنة للإنذار البليغ والدعوة إلى الإنابة والتوبة استدعى ذلك لبراعة الاستهلال أن يسلك بالأوصاف كلها طريقة الإبدال المستلزمة لتكرير العوامل؛ ليكون أنبل وأفخم.

وقوله: (وهي غفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين)، قال القاضي: ويجوز أن يستدل بالواو على تغاير الوصفين؛ إذ ربما يتوهم الاتحاد وتغاير موقع الفعلين؛ لأن الغفر هو الستر فيكون الذنب باقيًا، وهو لمن لم يتب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، و"التوب" مصدر كالتوبة، وقيل: جمعها.

وقلت: كأنه أراد بقوله: "تغاير موقع الفعلين رد قول المصنف، يعني: إنما جيء بالواو ليفرق بين الوصفين ويؤذن بتغاير موقع الستر والقبول، فيكون الغفران بالنسبة إلى من لم يتب، والقبول بالنسبة إلى من تاب.

روى السلمي عن سهل رحمهما الله: {غَافِرِ الذَّنبِ} أي: ساتره على من يشاء، {وقَابِلِ التَّوْبِ} أي: ممن تاب إليه وأخلص العمل، وعليه النظم؛ لأن تأخير القبول عن الغفران_ على أن رتبته التقديم بحسب الموجود في شخص واحد_ دل على نفي توهم الجمع فيه.

الراغب: الغفر: إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس، ومنه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء، واصبغ ثوبك، فإنه أغفر للوسخ، والغفران والمغفرة من الله تعالى: هو أن يصون

ص: 456

للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. وروي: أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلًا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتايع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب: من عمر إلى فلان: سلام عليك، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، {بسم الله الرحمن الرحيم * حم] إلى قوله:{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيًا. ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه! فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن الزوع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زل فسددوه ووقفوه، وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشياطين عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العبد من أن يمسه العذاب. والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال. وقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَغَفَّارًا} [نوح: 10] لم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان دون الفعل، فقد قيل: الاستغفار باللسان دون الفعال فعل الكاذبين.

قوله: (تتابع في هذا الشراب)، الأساس: فلان يتتايع في الأمور: يرمي بنفسه فيها من غير تثبيت. وتتايع الناس في الشر: تهافتوا.

قوله: (فسددوه ووقفوه)، قيل: وقفه على الترتيب: أطلعه عليه. ويروى: " وفقوه" عن بعضهم؛ أي: ادعو الله بالسداد وبالتوفيق.

ص: 457

[{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلادِ} 4]

سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر_ والمراد: الجدال بالباطل_ من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله، وقد دل على ذلك في قوله:{وجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ} [غافر: 5]، أما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن جدالًا في القرآن كفر" وإيراده منكرًا، وأن لم يقل: إن الجدال، تمييز منه بين جدال وجدال. فإن قلت: من أين تسبب لقوله: {فَلا يَغْرُرْكَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إن جدالًا في القرآن كفر)، هذا الحديث مذكور في "شرح السنة"، أوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء فيه كفر". رواه أبو جهيم، وفيه أيضًا: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المراء في القرآن كفر".

قوله: (وإيراده منكرًا، وأن لم يقل: إن الجدال تمييز بين جدال وجدال)، قال الإمام: استعمال الجدال_ أي: تعديه_ بـ"في" مشعر بالجدال الباطل، واستعماله بـ"عن" مشعر بدلجدال لأجل تقريره والذب عنه، فإن الجدال نوعان: حق وباطل، أما الحق فهو حرفة الأنبياء، قال تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، {قَالُوا يًا نُوحُ قَدْ جِادِلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]. والجدال في آيات الله هو أن يقول مرة: إنه سحر، ومرة: إنه شعر، ومرة: إنه أساطير الأولين.

ص: 458

ما قبله؟ قلت: من حيث إنهم لما كانوا مشهودًا عليهم من قبل الله بالكفر، والكافر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من: جدلت الحبل أحكمت فتله. وجدلت البناء: أحكمته.

قوله: (من حيث إنهم [لما] كانوا مشهودًا عليهم من قبل الله بالكفر)، أي: مسجلًا عليهم بالكفر في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} بأداة الحصر، يعني لما بالغ في الحكم بالكفر عليهم صار سببًا لأن يقال:{فَلا يَغْرُرْكَ} ؛ لأن الكافر شقي مطلقًا منغمس في لذات هذا العاجل غافل عن الآجل، وعاقبته الدمار، والعاقل لا ينظر إلى ظاهر الحال والتمتع بزهرة الحياة الدنيوية، فالفاء جواب شرط محذوف، وإليه الإشارة بقوله:"لما كانوا مشهودًا عليهم بالكفر"، والكافر لا أحد أشقى منه، وجب على من تحقق ذلك أن لا ترجح أحوالهم في عينه، ويكون قوله:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} كالتذييل على سبيل التمثيل لجملة أحوال المجادلين الكافرين.

وقلت: الظاهر أن اتصال {فَلا يَغْرُرْكَ} بما قبله من حيث الإنظار والإمهال للتمتع باللذات العاجلة للاستدراج، وإلا كان حقهم أن يصب عليهم العذاب صبًا بسبب عنادهم وجدالهم الباطل ليدحضوا به الحق، أي: لا يجادل في آيات الله الظاهرة إلا المعاند المكابر، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلادِ} وتمتعهم أيامًا قلائل، فإنا نأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ألا ترى إلى سوء عاقبة أولئك المكذبة المجادلة من قوم نوح والأحزاب من بعدهم، فأمهلتهم ثم أخذتهم فكيف كان عقاب؟ وكذلك حقت كلمة ربك على هؤلاء الذين كفروا وجادلوا بالباطل، وأما اتصال {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} بالكلام السابق، فهو أنه تعالى لما قال:{حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} وفخم السورة أو الكتاب بكونه تنزيلًا من الإله المعبود الموصوف.

ص: 459

لا أحد أشقى منه عند الله؛ وجب على من تحقق ذلك أن لا ترجح أحوالهم في عينه. ولا يغره إقباله في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة، وكانت قريس كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون، فإن مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال، ووراءه شقاوة الأبد. ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادخر لهم من سوء العاقبة مثلًا: ما كان من نحو ذلك من الأمم، وما أخذهم به من عقابه، وأحله بساحتهم من انتقامه.

وقرئ: (لا يغرك).

[{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَاخُذُوهُ وجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} 5]

{والأَحْزَابُ} الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم؛ وهم: عاد وثمود وفرعون وغيرهم، {وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ} من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصفات العلم الكلي والعز الغالب، والجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة، المتفرد بالعقاب الذي لا يكتنه كنهه، وبالإفضال الذي لا يقادر قدره قال:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} أي: ما يجادل في مثل هذا الكتاب الذي اشتمل على الآيات البينات إبانة وإعجازًا المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغروري، فلا يغرن مثلك في منصب الرسالة تقلب أولئك الأنعام المنغمسين في هذا الحطام. فقوله:{آيَاتِ اللَّهِ} مظهر أقيم مقام المضمر للتعظيم والتفخيم.

قوله: (ما كان من نحو ذلك)، قيل: هو مفعول ثان ل"ضرب"، وقيل: بدل من"مثلًا".

والأحسن أن يكون مفعولًا أول؛ لأن المعنى: ضرب ما وجد من نحو ذلك من لأمم "وأحله بساحتهم" عطف على"أخذهم" والضمير راجع إلى "ما"، ومن انتقامه " XXXX

ص: 460

{بِرَسُولِهِمْ} ، وقرئ:(برسولها)، {لِيَاخُذُوهُ}: ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير: أخيذ. {فَأَخَذْتُهُمْ} يعني أنهم قصدوا أخذه، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب.

[{وكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} 6]

{أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} في محل الرفع بدل من {كَلِمَةُ رَبِّكَ} ، أي: مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار. ومعناه: كما وجب إهلاكهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({لِيَاخُذُوهُ}: ليتمكنوا منه)، يريد أن يقوله:{لِيَاخُذُوهُ} كناية عن عن القتل والتعذيب؛ لأنهم ما اهتموا بالأخذ المتعارف، قال تعالى:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] ولا قتضاء مقام التسلي. وقوله: "ليتمكنوا منه" بيان لا ستلزم الأخذ القتل.

قوله: (فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه)، "على" صلة"جزائهم"، أي: جازيتهم على إرادة أخذهم الرسول.

فإن قلت: الظاهر أن قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} جزاء لتكذبيهم واهتمامهم بأخذ الرسول والجدال بالبناطل، لا سيما وأصل الكلام في الجدال لقوله تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فكيف جعله جزاء لقوله:{وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَاخُذُوهُ} ؟

قلت: السؤال ظاهر، والجواب مشكل، ويمكن أن يقال: إن تكذيبهم وجدالهم كان للحسد، وأن مثل ذلك الرسول لا ينبغي أن يكون موطًا العقب، فلن يتخلصوا منه إلا بالقتل، فجعل ذلك أخذًا في الاعتبار تغليبًا أو مشاكلة، وإنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة مزيدًا للتسلي.

ص: 461

في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة؛ أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. و {الَّذِينَ كَفَرُوا}: قريش، ومعناه: كما وجب إهلاك أولئك الأمم، كذلك وجب إهلاك هؤلاء؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو في محل النصب)، عطف على قوله:" في محل الرفع"، وعلى الأول: المراد الأمم المذكورة في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} يدل عليه قوله: " كما وجب إهلاكهم في الدنيا إلى الآخره"، والتشبيه واقع في حالتهم، والوجه الجامع للطرفين إيجاب العذاب، يعني: كما وجب عليهم عذاب الاستئصال في الدنيا؛ لأجل الكفر، كذلك وجب عليهم عذاب النار في الآخرة؛ لأجل قولنا:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. وعلى الثاني: التشبيه واقع بين حالتي أولئك الكفرة وهؤلاء الحاضرين، والوجه الجامع قوله:{أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} .

فإن قلت: ما وجه اختصاص كل من الوجهين بما خصه؟

قلت: على الأول: الذين كفروا مظهر وضع موضع المضمر للعلية فلم يحتج إلى تعليل آخر، فأبدل {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} تقريرًا وتوكيدًا. وعلى الثاني: ليس بذلك، فاستدعى أن يكون تعليلًا على وجه يبين وجه تشبيه حالة هؤلاء بأولئك، ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ كَفَرُوا} عامًا متناولًا للمذكورين وغيرهم، و"أنهم" تعليل أو بدل، فيدخل في العموم المذكورون دخولًا أوليًا، فعلى الأول:"أنهم" بدل لا غير، وعلى الثاني: تعليل. وعلى الثالث: يحتملهما. والنظم أوفق للثاني لقوله: "ثم ضرب لتكذيبهم مثلًا ما كان من نحو من الأمم".

ولما فرغ من ضرب المثل وإدخال المجادلين في آيات الله المعرضين عن الإنابة إلى غافر الذنب وقابل التوب في زمرة الذين ظهرت عليهم آثار وصف شديد العقاب تذييلًا، وأراد أن يشرع في ذكر مخالفيهم من المؤمنين المخبتين المنيبين إلى قابل التوب ذي الطول، أجل قدرهم وعظم شأنهم، فاستأنف بذكر الكروبيين المقربين عنده، وجعل التخلص

ص: 462

وقرئ: (كلمات).

[{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * رَبَّنَا وأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدتَّهُمْ ومَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * وقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ومَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} 7 - 9]

روي: أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتفكروا في عظم ربكم، ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة، فإن خلقًا من الملائكة يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات، وإنه ليتضاءل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والرابطة بينهم وبينهم الإيمان، فأدخلهم في زمرتهم لهذا الوصف، كما أدخل أولئك في زمرة الأمم السالفة لجامع الكفر، وذكر ثناءهم لهم واستغفارهم إياهم، وصرح بذكر ما به امتازوا من الفرقة السابقة بقولهم:{لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} .

قوله: (وقرئ"كلمات")، نافع وابن عامر: على الجمع، والباقون: بالتوحيد.

قوله: (وقد مرق رأسه)، أي: جاوز وخرق وتعدى. الأساس: مرق السهم مروقا، ومن المجاز: مرق من الذين مروقًا.

قوله: (ليتضاءل)، النهاية: يتضاءل: يتصاغر تواضعًا له. وتضاءل الشيء: إذا انقبض وانضم بعضه إلى بعض.

ص: 463

من عظمة الله حتى يصير كأنه "الوصع". وفي الحديث: "إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغذوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيالً لهم على سائر الملائكة". وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة، يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مئة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس:(العرش) بضم العين. فإن قلت: ما فائدة قوله: {ويُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]، فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى؛ وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان؛ لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب، فلما وصفوا به على سبيل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الوصع)، يروى بفتح الصاد المهملة وسكونها، طائر أصغر من العصفور، والجمع: وصعان.

قوله: (لو كان كما تقول المجسمة، لكان حملة العرش ومن حوله معاينين مشاهدين ولما وصفوا بالإيمان)، قال الإمام: إنهم مدحوا بوصف الإيمان، والإقرار بوجود شيء معين لا يوجب المدح، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس بكونها مضيئة لا يوجب المدح؟ ورحم الله صاحب "الكشاف"، فلو لم يحصل في الكتابه إلا هذه النكتة لكفاه شرفًا وفخرًا.

ص: 464

الثناء عليهم، علم أن إيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وهو منزه عن صفات الأجرام. وقد روعي التناسب في قوله:{ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم. وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن. فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضي قط، ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض، قال الله تعالى:{ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَنء فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]. أي: يقولون: {رَبَّنَا} ، وهذا المضمر يحتمل أن يكون بيانًا ل {ويَسْتَغْفِرُونَ} مرفوع المحل مثله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "التقريب": وفي لزوم المشاهدة من الحمل واختصاص الإيمان بالغيب ولزوم استواء الإيمانين من كل وجه نظر.

الانتصاف: استدلالة على أنهم لا يشاهدون؛ بقوله: "يؤمنون"؛ لا يصح؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولا يشترط فيه غيبة المصدق به بدليل الإيمان بالآيات المشاهدة من انشقاق القمر وقلب العصا.

الإنصاف: الإيمان بالآيات المشاهدة ليس إيمانًا بوجودها بل إيمان بأنها دالة على صدق النبي المتحدي بها.

الانتصاف: غرض الزمخشري من هذا التقرير وقصده نفي صحة الرؤية، وقوله:"لو كانت الرؤية صحيحة لرأته حملة العرش"، لا يلزم؛ فإن الرؤية عبارة عن إدراك يخلقه الله، ويجوز أن لا يخلق لهم هذه الرؤية أو لا يرفع المانع والحجاب.

ص: 465

وأن يكون حالًا. فإن قلت: تعالى الله عن المكان، فكيف صح أن يقال: وسع كل شيء؟ قلت: الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل: وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء)، أصلة نحو قول صاحب "المفتاح" في قوله تعالى:{وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا} [مريم: 4]: إسناد الاشتعال إلى الرأس. وعليه ما روينا عن مسلم عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فبمها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة". وإلى هذا المعنى ينظر ما جاء في سورة "الشورى": {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] فإن الاستغفار فيها محمول على عموم المجاز، وهو طلب مطلق الغفران، فيراد بالاستغفار في حق المؤمنين خاصة: غفران الذنوب وإزالة العقاب في الآخر وإيصال الثواب، كما قال ها هنا:{وقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} ثم قال: {رَبَّنَا وأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} ، وفي حق الكافرين: ترك معاجلة العقاب في الدنيا بشؤم كفرهم، كما ذكر في "الفرقان" في قوله:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]. وفي حقهما جميعًا بإدرار الرزق والارتفاق بما خلق لهم من المنافع الجمة، وبالترجم فيما بينهم.

ويعضده تذييل تلك الآية بقوله: {أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5] حيث صدره بكلمة التنبيه المؤذنة بالتحقيق، وأردفها بـ"إن" المؤكدة، وأتى بالاسم الجامع، ووسط ضمير الفصل بين المعرفتين، فإذن هذه الآية التي في سورة "المؤمن" مختصة بمن وجد منهم الإيمان بدليل العدول من المؤمنين إلى الذين آمنوا، وأما قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ

ص: 466

فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} فكالمقدمة للاستغفار والوسيلة إلى طلب الحاجة، فيجب أن يقصد العموم فيها؛ ليكون أنجح إلى المطلوب، ويعني شأنك هذا فافعل بهؤلاء خاصة في الآخرة ما هم مفتقرون إليه حينئذ، فإذن الفاء في {فَاغْفِرْ} مرتبة للدعاء على الوصفين.

فإن قلت: جعل الرحمة علة للمغفرة ظاهر، فما بال العلم؟ قلت: معناه حققنا أن رحمتك وسعت كل شيء فاغفر للذين تابوا، وعرفنا أن علمك أحاط بكل شيء فأنجح مقاصدهم ما علموا وما لم يعلموا فإنك أعلم بأحوالهم ومصالحهم، وعليه قول الخليل عليه السلام:{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 38 - 39]، فإنه عليه السلام جعل العلم وحده وسيلة إلى الطلب.

قال المصنف في "تفسيره": إنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا ويفسدنا، وأنت أرحم بنا منا، وأنصح لنا منا بأنفسنا. تم كلامه.

وهاهنا نكتة في نهاية من اللطف ولا بد من إظهارها، وهي أن الخليل عليه السلام حين وصف الله تعالى بسعة العلم واستلزم ذلك سعة الرحمة واستغرق في بحار رحمته ورأى أن رحمته وسعت كل شيء، طمع في غفران والديه وقال:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] فأدخل الكافر في الرحمة والغفران ان تناسيًا عن جواز ذلك، فضلًا عن المؤمنين. ذكر المصنف نحو هذا في سورة" التوبة" عند قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] وما نحن بصدده أولى وأخرى بالرجاء، وكيف لا وقد نص الله تعالى على ذكر الرحمة والعلم، وقدم الرحمة، وأغرق في وصف ذاته تعالى بهما كما مر.

قوله: (قد ذكر الرحمة والعلم)، خلاصة السؤال: أن الفاء في "فاغفر" مما يعقب بالتفصيل

ص: 467

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المفصل، والمفصل مشتمل على شئين، وليس في التفصيل إلا شيء واحد. وأجاب أن العلم مندرج في قوله:{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} ومراد فيه؛ إذ ليس المراد أنهم يستغفرون لمن آمن مطلقا كما يقتضيه مطلق قوله: {ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: الذين وجد منهم الإيمان، بل لمن آمن وعلم منه التوبة عن المعاصي والكفر جميعًا، كما هو قضية مذهبه، يؤيد هذا التأويل قوله في سورة "الشورى": ألا ترى إلى قوله في سورة "المؤمن": {ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، وحكايته عنهم:{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب الاستغفار؟ فما تركوا للذين آمنوا من المصدقين طمعًا في استغفارهم، فكيف بالكفرة؟

وقوله ها هنا: "ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم"، أي: في الطهارة عن أرجاس الشرك وأوضار الذنوب، والعاصي غير التائب ليس بطاهر.

وقال صاحب "الانتصاف": أخطأ الزمخشري في هذا المقام من وجوه: مراعاة المصلحة، واعتقاد امتناع غفران الكبائر بلا توبة، واعتقاد وجوب التوبة على الله، وجحد الشفاعة، وأقبح ما فيه المراد بالاستغفار زيادة الكرامة، مع أن صريح المسؤول إنما هو المغفرة، ووقاية عذاب الجحيم.

فأقول: إذا جعل العلم قيدًا للمذكور ولا يجعل مستقلا في الدلالة كما مر فلا طائل إذن تحت وصفه بتلك السعة والمبالغة فيها، ولا فائدة في ذكر الرحمة والإغراق فيها، وأن المغفور له إذا كان في مثل الملائكة من الطهارة فأي حاجة إلى الاستغفار؟ فضلًا عن تلك المبالغات، هذا تحجر للواسع. كما روينا عن البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقمنا معه، فقال أعرابي: اللهم ارحمني

ص: 468

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لقد تحجرت واسعًا"، يريد: رحمة الله.

تحجرت واسعًا، أي: ضيقت، من قولهم: حجر فلان إذا اتخذ له على الأرض حجارة محدقة بها.

أما قوله: "أن السيئات هي الصغائر أو الكبار المتوب عنها، والوقاية منها: التكفير"، فقد أجاب عنه الإمام: لا يجوز ذلك؛ لأن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة عندكم واجب، وما كان فعله واجبًا كان طلبه بالدعاء عيبًا قبيحًا عندكم، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة واجب، فلا يحسن طلبه بالدعاء، ولا يجوز أن يكون ذلك لطلب زيادة منفعة على الثواب؛ لأن ذلك لا يسمى مغفرة. انتهى.

فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك، كما قال الواحدي:{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من الشرك {واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي: دينك الإسلام.

فإن قلت: لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادًا لكان يكفي أن يقولوا: فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق؟

قلت_ والله أعلم_: هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق، وبيانه أن قوله:{رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} الآية، جاء مفصولًا عن قوله:{ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: الذين وجد منهم الإيمان، بيانًا لكيفية استغفارهم، كأن قيل: كيف يستغفرون للذين وجد منهم الإيمان؟ وما تلك الكلمات؟ فقيل: يقولون: {رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} ، فالآية بيان لكيفية الاستغفار لحال المستغفر لهم، ووصفهم المميز يعرف بالذوق.

ص: 469

فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملًا على حديثهما جميعًا، وما ذكر إلا الغفران وحده! قلت: معناه: فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك. وسبيل الله: سبيل الحق التي نهجها لعبادة ودعا إليها. {إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} أي: الملك الذي لا يغلب، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئًا إلا بداعي الحكمة، وموجب حكمتك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما فائدة العدول عن المضمر وأن لم يقل: فاغفر لهم، بل قيل:{لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} فهي أن الملائكة كما عللوا الغفوان في حق مفيض الخيرات بالعلم الشامل والرحمة الواسعة، عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات بالعلم الشامل والرحمة الواسعة، عللوا قابل الفيض أيضًا بالتوبة عن الشرك واتباع سبيل الإسلام.

روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن معاذ بن جبل قال:"كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال: يا معاذ، هل تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا. فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا".

وفي رواية أنس: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد يشهد أن لا إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا. فأخبر بها معاذ عند موته".

فإن قلت: هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركة على إسلامه، ومن ولد مسلمًا ودام عليه كيف يدخل فيه؟ قلت: الآية نازلة في زمن الصحابة، وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام. ولو قيل: اغفر لمن لم يشرك لخرجوا. فغلب الصحابة على سنن جميع الأحكام، والله أعلم.

ص: 470

أن تفي بوعدك. {وقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أي: العقوبات. أو: جزاء السيئات، فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها. والوقاية منها: التفكير، أو قبول التوبة. فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة، والله لا يخلف الميعاد؟ قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدته: زيادة الكرامة والثواب. وقوئ: (جنة عدن)، و:(صلح) بضم اللام، والفتح أفصح، يقال: صلح فهو صالح، وصلح فهو صليح؛ و:(ذريتهم).

[{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَلِكُم بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} 10 - 12]

أي: ينادون يوم القيامة، فيقال لهم:{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغني بذكرها مرة. و {إذْ تُدْعَوْنَ} منصوب بالمقت الأول. والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كأن الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و {إذْ تُدْعَوْنَ} منصوب بالمقت الأول)، قال أبو البقاء ومكي وصاحب "الكشف":{لَمَقْتُ اللَّهِ} لا يعمل في {إذْ تُدْعَوْنَ} ؛ لأن المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يعلق به شيء يكون في صلته؛ لأنه الإخبار عنه يؤذن بتمامه، وما يتعلق به يؤذن بنقصانه.

وقال ابن الحاجب في"الأمالي": والمعنى إذا انتصب {إذْ تُدْعَوْنَ} بالمقت الأول: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم في الآخرة،

ص: 471

الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذ أوقعنكم فيها باتباعكم هواهن." وعن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا:{لَمَقْتُ اللَّهِ} . وقيل: معناه: لمقت الله إياكم الأن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله:{يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]. و {إذْ تُدْعَوْنَ} : تعليل. والمقت: أشد البغض، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشده. {اثْنَتَيْنِ}: إماتتين وإحياءتين. أو:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وليس فيه من الاعتراض سوى الرق بين المصدر ومعموله بالأجنبي، وهو "أكبر" الذي هو الخبر، وهو جائز؛ لأن الظروف يتسع فيها.

قوله: (و {إذْ تُدْعَوْنَ} تعليل)، وإنما جعله تعليلًا لا ظرفًا في هذا الوجه؛ لأنهم لم يمقتوا أنفسهم حين دعوا إلى الإيمان، وإنما مقتوها في النار، وعند ذلك لا يدعون إلى الإيمان، قاله أبو البقاء صاحب "الكشف"، وقالا: إذا بطل هذان الوجهان علمت أنه متعلق بمضمر دل عليه قوله: {لَمَقْتُ اللَّهِ} أي: مقتكم الله حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم.

وقلت: ولا ارتياب في تعسفه، والأحسن ما قدره مكي، حيث قال: والعامل فيه"اذكروا" أي: اذكروا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، ونحوه:{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43]. قال المنصف: (وهو تحسير لهم وتنديم على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود وهم سالمو الأصلاب ممكنون مزاحو العلل).

ص: 472

موتتين وحياتين. وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتًا أولًا، وإماتتهم عند انفضاء آجالهم، وبالإحياءتين: الإحياءة الأولى، وإحياءة البعث. وناهيك تفسيرًا لذلك قوله تعالى:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وناهيك تفسيرًا لذلك قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] الآية)، قال الإمام: احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر، وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين: موته في الدنيا، ولا بد من إثبات حياة في القبر لتحصل الموتتان، ثم قال: والسؤال عليه أنه لو كان الأمر كذلك لقد حصلت الحياة ثلاث مرات، وهذا الذي عناه المصنف بقوله:"لزمه ثلاث إحياءات" وزيفه بل تهكم بقوله: "إلا أن يتحمل فيجعل إحدى الحياتين غير معتدبها"، قال الإمام: أهملوا ذكر الحياة في القبر؛ لقلة وجودها وقصر مدتها. ثم قال المصنف: "أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور" إلى آخره. يعني: لا عذرلهم في الدفع عن إثبات ثلاث إحياءات إلا أن يزعموا هذا، وهو باطل بالاتفاق، فالا ستثناء في قوله:"إلا أن يتحمل" نحو الاستثناء في قول الأعشى:

وقفت فيها أصيلًا لا أسائلها .... أعيت جوابًا وما بالربع من أحد

إلا أواري

أي: إن كان الآري يعد أحدًا فلا أحد فيه إلا إياه، أي ليس لهم جواب البتة.

وفي قوله: "خلاف ما في القرآن" معنى النفي، كما في قوله:{وَيَابَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَه} [التوبة: 32]، أي: ليس كما قال إلا أن يتمحل.

وقلت: لهم أن يحبيبوا: إنما يلزما ثلاث إحياءات في الآية إذا حملت الإماتة الأولى على المجاز، وأما إذا أجريت على الحقيقة على ما اقتضاه المقام فلا؛ لأن مراد الكفار من

ص: 473

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر، لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله:{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} كأنهم أجابوا أن الأنبياء دعونا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وكنا نعتقد ما تعتقده الدهرية أن لا حياة بعد الممات، فلم نلتفت إلى دعوتهم ودمنا على ما كنا عليه من الكفر والمعاصي، فالآن نعترف بالموتتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأهوالهما، ولهذا الفائدة استعقب قوله {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قوله:{فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} كما في قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فيكون الذنب تكذيب البعث. نظيره قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9] إلى قوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 11]. قال المصنف: " بذنبهم: بكفرهم في تكذيبهم الرسل".

قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: لا يلزم ثلاث إحياءات؛ لأن مرادهم من قولهم: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أنا الآن تيقنا أنك أحييتنا بعد الإماته فاعترفنا. فقولهم: {أَمَتَّنَا} إلى الآخر سبب لاعترافهم؛ فلذلك جاؤوا بالفاء، وذلك أنهم كانوا منكرين للبعث، وبسبب ذلك كانوا كثيري الذنوب، فاعترفوا بما علموا أن الله تعالى كما كان قادرًا على الإنشاء كان قادرًا على الإعادة، وهذا موافق لقول المصنف في بيان وجه التسبب في {فَاعْتَرَفْنَا} أنهم أنكروا البعث، فلما تكرر عليهم الإماته والإحياء علموا قدرته على الإعادة، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها بسبب إنكار البعث. هكذا لخصه صاحب "التقريب".

فظهر من هذا البيان أن مقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] فإن هذه لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في

ص: 474

وكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. فإن قلت: كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتًا إماته؟ قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر، ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب في صحته: أن الصغر والكبر جائزان معًا على المصنوع الواحد، من غير ترجع لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر: لزمه ثلاث إحياءات، وهو خلاف ما في القرآن، إلا أن يتحمل فيجعل إحداها غير معتدبها، أو يزعم أن الله يحييهم في القبور، وتستمر بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، وبعدهم في المستثنين من الصعقة في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [النمل: 87].

فإن قلت: كيف تسبب هذا لقوله: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} ؟ قلت: قد أنكروا البعث فكفروا، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى؛ لأن من لم يخش العاقبة تحرق في المعاصي، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم. {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ} أي: إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء {مِنْ سَبِيلٍ} قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه؟ وهذا كلام من غلب عليه اليأس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدنيا، وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم، أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر كما صرحه المصنف، ولا يلزم أيضًا على هذا ما أورده في السؤال:"كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتًا إماته؟ " فيحتاج إلى ذلك الجواب المتعسف.

قوله: (أي: إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء {مِنْ سَبِيلٍ} قط، أم اليأس واقع؟ ). الانتصاف: وعلى هذا بنى من قال:

ص: 475

والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللًا وتحيرًا؛ ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله:{ذَلِكُمْ} أي: ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به {فَالْحُكْمُ لِلهِ} حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد. وقوله:{الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} دلالة على الكبرياء والعظمة، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل: كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا الله، من هذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هل إلى نجد وصول .... أو على الخيف نزول؟

أي: إن هذا الأمر غلب فيه اليأس على الطمع.

الإنصاف: ليس المثال مطابقًا لما في الآية؛ لأن "خروج" و"سبيل" نكرتان، أي: ليس طريق من الطرق إلى نوع من الخروج، وفي الشعر:"الخيف" و"نجد" معرفتان، لكن حصل اليأس من أحد الأمرين.

وقلت: يكفي في التشبيه أن يقابل: "وصول" و"نزول" وهما نكرتان بقوله: "سبيل" في إرادة الإبهام والشيوع، وأما اليأس فحاصل من المفهوم بحسب المقام، على أن الآية خلت مما يدل على أحد الأمرين، نعم الآية أبلغ؛ لأن الشيوع فيها في "خروج" و"سبيل" معًا. وله أن يقول: إن الشاعر لم يرد بـ"نجد" و"الخيف" الموضعين بعينهما، بل إنه قصد به اليأس من حصول الوصول إلى المحبوب في أي مكان كان، دل عليه ذكر المكانين، كما دل ذكر الزمانين على عموم الأزمتة في قوله تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62].

قوله: (على حسب ذلك)، أي: ذلك الكلام الذي صدر عن اليأس والقنوط.

قوله: (ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج)، جعل المشار إليه ما دل عليه قوله:{فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} مع ما يتصل به من كلامه السابق، وهو قوله:{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} .

قوله: (كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا الله من هذا)، الجوهري: حرورا: اسم

ص: 476

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قرية، يمد ويقصر، نسبت إليها الحرورية من الخوارج، وكان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها.

وعن بعضهم: ومعنى تحكيمهم قولهم: لا حكم إلا الله، وكان القياس حراوراوي، لكنه استطيل فحذف الزوائد، كما تقول براكي في النسبة إلى براكا.

وقال الفقيه أحمد بن داود الدينوري في "تاريخه": لما بايع الخوارج رئيسهم عبد الله ابن وهب الراسبي قام فيهم خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد، فإن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق والجهاد في سبيله {إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص: 26]، وقال الله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وأشهد على أهل دعوتنا من أهل ديننا أن قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في الحكم، وإن جهادهم لحق. يعني: عليًا ومعاوية رضي الله عنهما.

وكتب في جواب كتاب إلى علي رضي الله عنه: أما بعد، إنك لم تغضب لربك، ولكن غضبت لنفسك، فإنك كفرت فيما كان من تحكيمك الحكمين_ يعني: أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص_، وشهدت على نفسك أنك كفرت فيه، فإن استأنفت التوبة رجعنا إليك، وإن تكن الأخرى فإنا ننابذك على سواء، وإن الله لا يهدي كيدًا الخائنين. فقاتلهم علي رضي الله عنه.

ولعل تمسكهم بالآية من حيث إنه تعالى أثبت الحكم لله ووصف نفسه بالعلي الكبير، فآذن بأن الوصفين علتان لذلك الإثبات، وعلي رضي الله عنه لما رضي بحكم الحكمين خالف النص، وليس كذلك؛ لأنه ليس في عبارة النص، ولا إشارته دلالة على ذلك؛ لأن

ص: 477

[{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ومَا يَتَذَكَّرُ إلاَّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} 13 - 16]

{يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها. والرزق: المطر؛ لأنه سببه. {ومَا يَتَذَكَّرُ إلاَّ مَن يُنِيبُ} : وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه. ثم قال للمنيبين:{فَادْعُوا اللَّهَ} أي: اعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من الشرك، وإن غاظ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى ما دل عليه قوله {فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} من اليأس التام والإقناط الكلي والحكم بالخلود في النار، وقوله:{ذَلِكُم بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} تعليل لذلك الحكم، وقوله:{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} إشارة إلى قطع ذلك الحكم وبت القضاء، أي: لا سبيل إلى الخروج؛ لأنكم آثرتم الشرك على التوحيد، والله تعالى حكم في الأزل أنه لا يغفر لمن يشرك به شيئًا، فلا راد الحكمه ولا دافع لقضائه؛ لعلو شأنه وعظمة كبريائه. هذا تأويل ظاهر مكشوف، وينصره ما ذكره الواحدي: فالحكم لله، أي: أنه حكم بعذاب من أشرك به ولا يرد حكمه، والعلي الكبير الذي لا أعلى منه ولا أكبر. وفيه أن قول المصنف:" على أن عذاب مثله لا يكون إلا كذلك"، غير مطابق.

قوله: (ثم قال للمنيبين: {فَادْعُوا اللَّهَ} أي: اعبدوه)، بيان لربط الفاء بما قبلها، يعني: ختم الآيات البينات، والبيانات الشافية الكافية من مفتتح السورة إلى هنا بقوله:{ومَا يَتَذَكَّرُ إلاَّ مَن يُنِيبُ} تعريضًا بمن تمرد وعصى، وأشرك بالله وعتا، ثم قال للمنيبين: وإذا كان كذلك فأنتم منيبون {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، فقوله:{ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} عطف على قوله: {يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ، والآيات ما سبق، وذلك أنه تعالى لما حكى

ص: 478

ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ} ثلاثة أخبار لقوله: {هُوَ} مترتبة على قوله: {الَّذِي يُرِيكُمْ} ، أو أخبار مبتدإ محذوف،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحوال المشركين في هذه السورة، وأراد أن يشرع في أحوال المخلصين المنيبين على قضية التضاد كما قال:"وإن غاظ ذلك أعداءكم"، جعل قوله:{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} وما يتصل به تخلصًا إلى ذكرهم، يعني: هو الذي يريكم آياته جميعًا من الآفاق والأنفس ويفصلها، ويدبر أمور معاشكم بإنزال الرزق من السماء، ولمعادكم بالدعوة إلى الدين الخالص؛ لأنه رفيع الدرجات، ولأنه ذو العرش، ولأنه يلقي الوحي الذي هو الحياة الأبدية، وهو الأمر بالخير والدعوة إلى الدين الخالص.

ويدل على المناسبة بين هذه الصفات وتلك الصفات اختلافها تعريفًا وتنكيرًا، أما {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} فهو مثل قوله:{شَدِيدُ الْعِقَابِ} يحتمل التعريف والتنكير، وأما فائدة التنكير فالدلالة على التجدد والإيذان باستمرار صعود الملائكة وقتا بعد وقت، وإليه الإشارة بقوله:(وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش) وأما التعريف فيه، فقد قال الواحدي: الرفيع بمعنىى الرافع.

وأما قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ} ففي إفادته استمرار الوحي من لدن آدم إلى انتهاء زمن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اتصاله إلى قيام يوم التناد بإقامة من يقوم بالدعوة_ على ما روى أبو داود عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله يبعث لهذا الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها"_ ظاهر مكشوف، ومعنى التجديد إحياء ما اندرس من العلم بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وهو مناسب لقوله:{مِنْ أَمْرِهِ} يريد الوحي الذي هو أمر بالخير وبعث إليه.

ص: 479

وهي مختلفة تعريفًا وتنكيرًا. وقرئ: (رفيع الدرجات) بالنصب على المدح، و {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} ، كقوله:{ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3]؛ وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل على عزته وملكوته. وعن ابن جبير: سماء فوق سماء، والعرش فوقهن. ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلو سلطانه، كما أن ذا العرش عبارة عن ملكه. وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة. {الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} الذي هو سبب الحياة من أمره، يريد: الوحي الذي هو أمر بالخير وبعث عليه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما أن ذا العرش عبارة)، يعني: أن "ذا العرش" هنا مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كناية عن الملك من غير إرادة الحقيقة.

قال المصنف فيه: يقال: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، كذلك" رفيع الدرجات" كناية عن رفعة شأنه وعلو سلطانه من غير إرادة الدرجات الحقيقة، وعلى الوجه الأول أيضًا كناية، لكن مع إرادة الحقيقة؛ لقوله:"وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش" وهو دليل على عزته وملكوته، وهو أنسب لقوله:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} والمراد الوحي؛ ليكون على وزان قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا} [النحل: 1 - 2]

وأما قول من قال: هي درجات ثوابة التي ينزلها أولياءه في الجنة، فمناسب لقوله:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فتكون قرينة دالة على أن الدرجات مستعارة لمراتب الثواب استعارة محسوس لمعقول.

الأساس: ومن المجاز: لفلان درجة رفيعة.

قوله: ({مِنْ أَمْرِهِ}

يريد الوحي)، يعني: المراد بالأمر ها هنا: الوحي، وصح ذلك؛ لأن الوحي أمر بالخير، وإنما ذهب إليه؛ لأن {مِنْ أَمْرِهِ} بيان لـ"الروح" فلذلك استعير للوحي الروح، وقد حققنا وجه الاستعارة في مفتتح سورة "النحل"، فـ {مِنْ} على هذا

ص: 480

فاستعار له الروح، كما قال:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. {لِيُنْذِرَ} الله، أو الملقى عليه؛ وهو الرسول، أو الروح. وقئ:(لتنذر) أي: لتنذر الروح؛ لأنها تؤنث، أو على خطاب الرسول. وقرئ:(لينذر يوم التلاق) على البناء للمفعول. و {يَوْمَ التَّلاقِ} : يوم القيامة؛ لأن الخلائق تلتقي فيه. وقيل: يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض. وقيل: المعبود والعابد. {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} : ظاهرون لا يسترهم شيء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بيانية، والذي يفهم من ظاهر كلام الواحدي:" {مِنْ أَمْرِهِ} من قضائه أو بأمره" أنها ابتدائية؛ أي: من جهته وبأمره.

قال أبو البقاء: "من" يجوز أن يكون حالًا من {الرُّوحَ} ، وأن يكون متعلقًا بـ {يُلْقِي} .

وقال القاضي: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} خبر رابع، تمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد، وفيه دليل على أن النبوة من عطاء الله يختار لها من يشاء من عباده.

قوله: ({لِيُنْذِرَ} الله أو الملقى عليه

أو الروح)، فالإسناد إلى الرسول حقيقي، وإلى الله نحو: كسا الخليفة الكعبة؛ لاحتمال الحقيقة والمجاز. وإلى نحو: أنبت الربيع البقل، في أنه لا يحتمل إلا المجاز. والوجه الثاني أقرب من جهة اللفظ والمعنى؛ لقرب المرجع إليه وقوة الإسناد.

قوله: (وقيل: المعبود والعابد)، هذا أولى الوجوه؛ لأن هذا المطلق محمول على ما ورد في كثير من المواضع، نحو:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110]{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7]، ولإبدال قوله:{يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} من {يَوْمَ التَّلاقِ} ، وبيان {هُم بَارِزُونَ} بقوله:{لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} .

قال مكي: {هُم بَارِزُونَ} مبتدأ وخبر في وخبر في موضع خفض بإضافة {يَوْمَ} إليها، وظروف

ص: 481

من جبل أو أكمة أو بناء؛ لأن الأرض بارزة قاع صفصف، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما جاء في الحديث:" يحشرون عراة حفاة غرلًا". {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} أي: من أعمالهم وأحوالهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: لا يخفى عليه منهم شيء. فإن قلت: قوله: {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} بيان وتقرير لبروزهم، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا، فما معناه؟ قلت: معناه: أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى:{وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22]، وقال تعالى:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 108]؛ وذلك لعلمهم أن الناس يبصرونهم، وظنهم أن الله لا يبصرهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الزمان إذا كانت بمعنى "إذ" أضيفت إلى الجمل؛ الفعلي والاسمي، وإن كانت بمعنى "إذا" لم تضف إلا إلى الفعل، فإذا وقع بعدها اسم مرفوع أضمر فعل يرتفع به؛ لأن "إذا" حينئذ بمعنى الشرط، وهي لا تستقبل في اللفظ وفي المعنى، وليست "إذا" كذلك؛ لأنه لا معنى للشرط فيها؛ لأن"إذ" لما مضى، والشرط لا يكون لما مضى، فافهم ذلك.

قوله: (كما جاء في الحديث)، والحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا". في "الجامع": الغرل: القلفة التي تقطع من جلد الذكر.

ص: 482

وهو معنى قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]. {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} : حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به. ومعناه: أنه ينادي مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر: لله الواحد القهار. وقيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم به أن ينادى مناد:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} ، الآية فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهو معنى قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48])، يعني: معنى قوله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} ، ومعنى {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} واحد؛ لأنهم إذا برزوا لله الواحد القهار في ذلك اليوم لا يخفى على الله منهم شيء في زعمهم، كما قال:" فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى الحال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه".

قوله: (بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة)، الحديث من رواية البخاري ومسلم عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد".

قوله: (فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب)، يعني: دل الاستئناف من قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} على التعليل، فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عز وجل، فإنه لما سأل:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وأجاب هو بنفسه: {للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، وكان المقام موقع السؤال وطلب التعليل، فأوقع {الْيَوْمَ تُجْزَى} جوابًا عنه، يعني: إنما اختص الملك به؛ لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس ما كسبت، وله العدل التام فلا يظلم أحدًا، وله التصرف التام فلا يشغله شأن عن شأن، فيسرع الحساب. ولو أوقع:{للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} جوابًا عن أهل المحشر، لم يحسن هذا الاستئناف.

ص: 483

[{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليَوْمَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ} 17]

لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك؛ وهي أن كل نفس تجزى ما كسبت، وأن الظلم مأمون؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ؛ لأن الله لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد، وهو أسرع الحاسبين. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها، ولا أهل النار إلا فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب الكواشي: بعد فناء الخلق يقول تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلم يجب، فيقول تعالى {للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} والوقف على "اليوم" كاف، وعلى "القهار" تام، "اليوم" الثاي: معمول "تجزى". وكذا عن أبي البقاء.

قوله: (لم يقل) من القيلولة، وهو من قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] وقد فسر هناك المقيل بالمكان الذي يأوون إليه للاسترواح.

وروينا في "شرح السنة": "لا ينتصف النهار من يوم الجمعة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء". وروى الواحدي عن ابن مسعود وابن عباس: "لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار". وفيه: أن حكم الكل في تلك الساعة كذلك، لكن ليس فيه بقاء ذلك الحكم، فكيف وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة البالغة مبلغ التواتر خروج العصاة من أمة محمد صلوات الله عليه من النار، إما بمحض الغفران أو بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ منها ما روينا عن البخاري ومسلم:"يخرج من النار قوم كأنهم الثعارير".

الثعارير: صغار القثاء.

ص: 484

[{وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 18]

الآزفة: القيامة، سميت بذلك لأزوفها، أي: لقربها. ويجوز أن يريد بـ {يَوْمَ الآزِفَةِ} : وقت الخطة الآزفة؛ وهي مشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا، ولكنها معترضة كالشجا، كما قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]. فإن قلت: {كَاظِمِينَ} بما انتصب؟ ؟ قلت: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى؛ لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالًا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر، ، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة؛ لأن وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال تعالى:{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وقال: {فَظَلَّتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (معترضة كالشجا)، الجوهري: أشجاه يشجيه إشجاء: إذا أغصه. يقال: شجي _ بالكسر _ يشجى شجى.

قوله: (كما قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]، مثال لقوله: (وهي مشارفتهم دخول النار)، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها.

قوله: (وأن القلوب كاظمة على غم وكرب)، أي: تبقى القلوب كالساكت الممتلئ قلبه غمًا وغيظًا. قال صاحب "الكشف": نسبة الكظم إلى القلب كنسبة الكتابة إلى اليد.

وقال: معنى "كاظمين" متوقفين عن كل شيء إلا عما دفعت إليه من فكرها فيه، كذلك قوله:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] المتوقفين عما يدعو إليه الغضب.

ص: 485

أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، ويعضده قراءة من قرأ:(كاظمون)، ويجوز أن يكون حالًا عن قوله:{وَأَنْذِرْهُمْ} ، أي: وأنذرهم مقدرين أو مشارفين الكظم، كقوله:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. الحميم: المحب المشفق. والمطاع: مجاز في المشفع؛ لأن حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معًا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفي البيع وحده، وأن عندك كتابًا إلا أنك لا تبيعه؛ ونفيهما جميعًا، وأن لا كتاب عندك، ولا كونه مبيعًا. ونحوه:

ولا ترى الضب بها ينجحر

يريد: نفي الضب وانجحاره. فإن قلت: فعلى أي الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفي الأمرين جميعًا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويعضده قراءة من قرأ "كاظمون")، لأن "كاظمون" على هذا محمول على "القلوب" خبر لها، و {لَدَى الحَنَاجِرِ} ظرف "كاظمون" قدم عليه، أو هو خبر بعد خبر. وعلى التقدير الأول وهو قوله:"إذ قلوبهم لدى حناجرهم" كان {كَاظِمِينَ} حالًا من الضمير المجرور في الخبر، ولا يجوز إجراء "كاظمون" عليه حالًا، ولا على المبتدأ خبرًا؛ إلا على التأويل. وقدر صاحب الكواشي:"هم كاظمون" فعلى هذا يقوى إرادة أصحاب القلوب.

قوله: (وأن عندك كتابًا إلا أنك لا تبيعه)، عطف تفسيري على قوله:"نفي البيع وحده"، وكذا قوله:"وأن لا كتاب عندك ولا كونه مبيعًا" تفسير لقوله: "ونفيهما جميعًا".

ص: 486

من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين، فلا يحبونهم، وإذا لم يحبونهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم، قال الله تعالى:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]، وقال:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]؛ ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل، وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب، بدليل قوله تعالى:{وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173]، وعن الحسن: والله ما يكون لهم شفيع البتة. فإن قلت: الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت: في ذكرها فائدة جليلة؛ وهي أنها ضمت إليه؛ ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله)، يعني: الواجب أن ينفي الشافع والطاعة، لا أن هناك شافعًا غير مطاع؛ إذ ليس للظالمين شافع البتة؛ لأن الشفعاء أولياء الله، والأولياء لا يشفعون للظالمين، والتعريف في "الظالمين" عنده للجنس، وعندنا للعهد؛ لأن "الظالمين" من وضع المظهر موضع المضمر والمراد بهم "المنذرين" في قوله:{وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ} .

قوله: (ليقام انتفاء الموصوف في مقام الشاهد على انتفاء الصفة)؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها قال صاحب "التقريب". وإنما لم يقتصر على نفي الشفيع؛ لأن المقصود نفي كونه مشفعًا، لا نفي ذات الشفيع، وإن كان الثاني دليلًا على الأول ومستلزمًا له، فأراد ذكر المقصود مع الاستشهاد عليه، كقول من عوتب على العقود عن الغزو: ما لي فرس أركبه. أي: لا يمكنني الركوب لعدم الفرس، فكذا لا يمكن التشفيع لعدم الشفيع، فذكر المقصود والدليل عليه - وهو التقرير - أظهر مما في الأصل.

وقال والده صاحب "التهذيب": حاصل كلام الزمخشري أنه استدل بعدم الموصوف

ص: 487

الموصوف، بيانه: أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، ولا معي سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على عدم الصفة؛ لأن وجود الصفة بلا موصوف محال. وقوله: "فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف"، كأنه استدلال بعدم الصفة على عدم الموصوف، وهو يناقض ذلك التقرير.

وقلت: مقصود المصنف من قوله: "في ذكرها فائدة جليلة" أن مجيء الصفة ونفيها ليس إلا للمبالغة في نفي الموصوف، فمعنى قوله تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} في هذا المقام: كيف يتأتى الشفيع ولا الشفيع؟ كمعنى قول القائل لمن يعاتبه على القعود عن الغزو: ما لي فرس أركبه. أي: كيف يتأتى مني الركوب ولا فرس لي؟ فكان ذكر الركوب والاستدلال على عدم تأتيه بعد الفرس دليلًا على أن انتفاء الفرس أمر لا نزاع فيه، وأن المخاطب لا يناقشه فيه، وكذلك ذكر التشفيع والاستدلال على عدم تأتيه بعدم الشفيع دليل على فقدان الشفيع، أمر محقق مشهور لا نزاع فيه، وإليه الإشارة بقوله:" الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه"، والأسلوب من باب نفي الشيء بنفي لازمه، فجيء بالصفة ليجعل نفي الموصوف دليلًا على انتفائها، فيلزم منه نفي توهم الموصوف، يعني: بلغ الموصوف في الانتفاء مبلغًا متناهيًا حتى صار دليلًا على انتفاء الصفة؛ لما يلزم من انتفاء الموصوف انتفاء الصفة؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون المجموع دليلًا على المطلوب وهو انتفاء الموصوف بالكلية. وقد استقصينا في البقرة عند قوله تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] القول فيه.

قال صاحب " الانتصاف": نفي المجموع يصح بنفي جزئه وبنفي كله، فإن كان المراد نفي الأمرين فذكر الصفة كالعلة لنفي الذات، أي لا طاعة فلا شفاعة، أو لا ذات فلا صفة، فيكون النفي مرتين من وجهين مختلفين، فظهر أن الفاء في "فيكون ذلك" نتيجة من قوله:""ليقام انتفاء الموصوف"، لا من قوله: "لأن الصفة لا تتأتى"، فلا يلزم التناقض كما ظن.

ص: 488

والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي؟ ! فكذلك قوله: {ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} معناه: كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع؟ فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع وضعًا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه.

[{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} 19]

الخائنة: صفة للنظرة، أو مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، والمراد: استراق النظر إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين؛ لأن قوله:{ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} لا يساعد عليه. فإن قلت: بم اتصل قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} ؟ قلت: هو خبر من أخبار {هُوَ} في قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ} ، مثل {يُلْقِي الرُّوحَ} ، ولكن {يُلْقِي الرُّوحَ} قد علل بقوله:{لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاق.} ، ثم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الأمر المعروف)، أي: المشهور الثابت القائم، فكأنه قد علم من غير شبهة أن لا شفيع، فيستدل به على عدم الشفيع.

قوله: (لأن قوله: {ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} لا يساعد عليه)، لأن مراعاة النسبة بين القريتين في فصيح الكلام واجب، فإذن لا يجوز أن يكون "الخائنة" صفة للعين، أي: العين الخائنة، ثم أضيف الصفة إلى موصوفها؛ لأن قوله:{ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} لا يناسبه؛ لأنه نسب الإخفاء إلى الصدور فأوجب ذلك أن ينسب الخائنة إلى الأعين. ويقال: يعلم نظرة الأعين ويعلم ما تخفي الصدور. وفيه بحث؛ لأن المقصود من الإسناد المبالغة، وأن الله تعالى يعلم استراق العين لا العين الخائنة، سواء ضم إليه قرينتها أو لم يضم.

وقال القاضي: النظرة الخائنة النظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه، أو خيانة الأعين. والجملة خبر خامس للدلالة على أنه ما من خفى إلا وهو متعلق للعلم والجزاء. قوله: (هو خبر من أخبار {هُوَ} ، أي: لفظة {هُوَ} في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} ، يعني:{يَعْلَمُ} خبر لـ {هُوَ} ، مثل {يُلْقِي} .

ص: 489

استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: {ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ؛ فبعد لذلك عن أخواته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فبعد لذلك عن أخواته)، فإن قلت: فهلا لم يقدم على {يُلْقِي الرُّوحَ} أو على إخوانه؛ لئلا يحصل هذا البعد؟ قلت: لا يخلو إما أن يؤتى به قبل قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} أو بعده، ولا يجوز الأول؛ لأن هذا متضمن للتهديد كما قال:"والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل".

وقال الواحدي: يعلم مسارقة النظر إلى ما لا يحل، وما تسر القلوب في السر من المعصية، ، {واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} فيجزي بالحسنة والسيئة، وذلك وارد في الامتنان على ما يوجب الشكر من نعمة الحياتين، وقد سبق اتصاله بما قبله.

ولا الثاني؛ لأنه إما أن يقدم على "رفيع الدرجات" أو يؤخر عنه.

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ

ولا يجوز الأول؛ لأن {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} في الوجه المختار مفسر بمصاعد الملائكة ومهابطها للسفارة بين المرسل والمرسل إليه، وهو كالمقدمة لقوله:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، وورودهما عقيب {ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} للإيذان بأن الماء كما هو حياة الأرض الميتة، كذلك الوحي حياة للقلوب الميتة.

ولا الثاني؛ لأنه إذا لم يجز ذلك فالبطريق الأولى هذا؛ لئلا يتخلل بين المقدمة ولاحقتها أجنبي، وإنما عقب به قوله:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} وما يتصل به من الاستطراد لمناسبة بينهما لفظًا ومعنى، كما قال: هو مثل {يُلْقِي الرُّوحَ} ، أما اللفظ فكلاهما مضارعان، وأما المعنى فلدلالة كل منهما على الوعيد والتهديد، أما العلم فكما سبق، وأما الوحي فلتصريح تعليله بقوله:{لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} إلى آخره.

فإن قلت: لم لا تجعل العلم علة لنفي شفاعة الشفيع، كما في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي

ص: 490

[{واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 20]

{واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} يعني: والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضي إلا بالحق والعدل؛ لاستغنائه عن الظلم، وآلهتكم لا يقضون بشيء. وهذا تهكم بهم؛ لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضي، أو: لا يقضي. {إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تقرير لقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، ووعيد لهم بأنه يسمع ما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255] فكأنه قيل: ما للظالمين من شفيع؛ لما يعلم الله منهم الخيانة سرًا وعلانية ظاهرًا وباطنًا، فتخلص من تلك الورطة؟

قلت: إذا جعل من الأخبار المستقلة بالدلالة لإثبات وصف العلم ويتصل به حديث العدل والقضاء الحق، ، ويكون تخلصًا إلى ذم آلهتهم، ولا يفوت تعليل نفي الشفاعة أيضًا على سبيل الإدماج لاقترانه به، كان أحسن من تعليقه بنفي الشفاعة وحده. لله در المصنف ولطيف اعتباراته ودقيق إشاراته، ورحم الله من كان سببًا لمثار هذه النكات.

قوله: (والذي هذه صفاته وأحواله لا يقتضي إلا بالحق)، يعني: عومل بالاسم الجامع معاملة اسم الإشارة، مثل "أولئك" و "ذلك" إذا وقع بعده حكم؛ ليؤذن بأن ما بعده جدير بما قبله لإجراء تلك الصفات عليه، وإنما عدل من اسم الإشارة إلى اسم الذات؛ ليكون أجمع وأفخم.

قوله: (وهذا تهكم بهم)، فإن قلت: لم لم يجعله من المشاكلة؟ قلت: جعله استعارة تهكمية أبلغ، والاختيار أولى، والمقام له أذعى، وهو تحقير شأن آلهتهم وتسفيه رأيهم.

قوله: ({إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تقرير لقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ})، أي: يعلم خائنة الأعين؛ لأنه بصير لا يحجبه شيء من المبصرات التي تخفى على كل ذي بصر، ويعلم ما تخفي الصدور من الهواجس التي ربما تخفى على صاحبها؛ لأنه سميع حقيقي، وإنما فضل هذه الفقرة بهذه الفاصلة يكون ظاهرًا في التعريض بما يدعون من دون الله، وأنها لا تقدر على القضاء؛ لأنها لا تسمع ولا تبصر.

ص: 491

يقولون ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه، وتعريض بما يدعون من دون الله، وأنها لا تسمع ولا تبصر. وقرئ:{يَدْعُونَ} بالياء والتاء.

[{أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ومَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن واقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّاتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ} 21 - 22]

{هُمْ} في {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ} فصل. فإن قلت: من حق الفصل أن لا يقع إلا بين معرفتين، فما باله واقعًا بين معرفة وغير معرفة؛ وهو {أَشَدَّ مِنْهُمْ}؟ قلت: قد ضارع المعرفة في أنه لا يدخله الألف واللام؛ فأجري مجراه. وقرئ: (منكم) وهي في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيه إشارة إلى أن الحاكم والقاضي ينبغي ألا يكون فاقد السمع والبصر، فيكون قوله:{واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} إلى آخره معترضة بين المقرر والمقرر.

قوله: (وقرئ {يَدْعُونَ} بالياء والتاء)، الفوقانية: نافع وابن ذكوان، والباقون: بالياء.

قوله: (قد ضارع المعرفة في أنه لا يدخله الألف واللام)، قال ابن الحاجب: ولا يجوز أن تقول: زيد هو غلام رجل، وإن كان ممتنعًا دخول حرف التعريف عليه؛ لأن هذا مخصوص بـ"أفعل من كذا"، والفرق بينهما أن "أفعل من كذا" يشبه المعرفة شبها قويًا من حيث المعنى، حتى إن معنى قولك: أفضل من كذا، الأفضل باعتبار فضلية معهودة، ولذلك قام مقامه، ، وليس غلام رجل كذلك، فإنه إنما امتنع دخول حرف التعريف عليه من جهة أن الإضافة قد تكون للتعريف، واللام للتعريف، فكره الجمع بينهما، بخلاف "أفضل منك".

قوله: (وقرئ: "منكم")، ابن عامر.

ص: 492

مصاحف أهل الشام. {وآثَارًا} : يريد حصونهم وقصورهم وعددهم، وما يوصف بالشدة من آثارهم. أو أراد: وأكثر آثارًا كقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا

[{ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إلَى فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ومَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلال} 23 - 25]

{وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} : وحجة ظاهرة؛ وهي المعجزات، فقالوا: هو ساحر كذاب، فسموا السلطان المبين سحرًا وكذابًا، {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ}: بالنبوة. فإن قلت: أما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما يوصف بالشدة من آثارهم)، الراغب: أثر الشيء: حصول ما يدل على وجوده. يقال: أثر وإثر، والجمع: الآثار. ويقال للطريق المستدل به على تقديم أشخاص: آثار. وأثرت العلم: رويته، آثره أثرًا وأثارة وأثرة. وأصله: تتبعت أثره، قال تعالى:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، وقرئ:"أثرة"، وهو ما يروى ويكتب فيبقى له أثر. والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان. ويستعار الأثر للفضل، والإيثار للتفضل، ومنه قولهم: آثرته، وقوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] والاستئثار: التفرد بالشيء من دون غيره. وفي الحديث: "سكتون بعدي أثرة"أي: يستأثر بعضكم على بعض.

قوله: (أو أراد: وأكثر آثارًا)، فعلى الأول {وآثَارًا} عطف على {قُوَّةً} ، فتختص الآثار بما فيه قوة وشدة، وعلى الثاني عطف على {أَشَدَّ} على تقدير أكثر مطلقًا، سواء كانت الآثار قوية أو لا.

ص: 493

كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله:{قَالُوا اقْتُلُوا} : أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولًا. يريد: أن هذا قتل غير القتل الأول. {فِي ضَلال} : في ضياع وذهاب، باطلًا لم يجد عليهم، يعني: أنهم باشروا قتلهم أولًا فما أعنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الوالدان، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع أعاده عليهم غيًا وحنقًا، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين جميعًا.

[{وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} 26]

{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (غيظًا وحنقًا وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه السلام، وقال في موضع آخر: "إلباسًا عليهم وتعمية وأن ذلك المولود منتظر بعد، وليس موسى بذلك"، وينصره قوله: {ومَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلال}، وقوله تعالى: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}، وقوله: (كان هذا تمويهًا على قومه وإيهامًا أنهم هم الذين يكفونه)، وقال في "الأعراف"- في قوله:{سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]-: "سعيد عليهم ما كنا محناهم به من قتل الأبناء؛ ليلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة وأنهم مقهورون تحت أيدينا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي تحدث المنجمون والكهنة بزوال ملكنا على يده".

ص: 494

وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحرًا مثله، ويقولون: إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة. والظاهر أن فرعون -لعنه الله - كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالًا سفاكًا للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه؟ ! ولكنه كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، وقوله:{ولْيَدْعُ رَبَّهُ} شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله:{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[قوله: (وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة)، الانتصاف: هو مثل قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] يوهم قلة الاحتفال بهم، وأن قتالهم إنما هو لأجل أنهم لنا غائظون، ومن عادتنا الحذر على دولتنا بحسن الحفظ وحماية حوزة المملكة، ولقد كذب وكان فؤاده مملوءًا رعبًا.

قوله: ({ولْيَدْعُ رَبَّهُ} شاهد صدق)، يعني صدر منه هذا الكلام على سبيل الإيهام والتورية، والتورية -كما علمت- هو أن يطلق لفظ له معنيان: قريب وبعيد، فيراد البعيد منهما، واللعين أوهم قومه المعنى القريب وهو التهكم، وفي ضميره البعيد، أظهر أن ليس له رب والذي يدعوه ليس برب، أي: لا يجدي دعاؤه شيئًا؛ لأنه يدعو ما لا حقيقة له، وهو كما تقول لمن ظفرت به وليس له ناصر: أنا أنتقم منك فادع ناصرك؛ تهكما به، والمراد: ما في ضميره أنه إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، لأنه كان قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به آيات، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا} [النمل: 14]. قال محيي السنة: أيك وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا. وفي "اللباب": أي: ليدع ربه فإنه لا يجاب، وليستعن بربه فإنه لا يعان. وقيل: ليدع ربه فإنه لا يجيء من دعائه شيء؛ لأنه يدعو ما لا حقيقة له.

ص: 495

تمويهًا على قومه، وإيهامًا أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع. {أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}: أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام/ بدليل قوله:{وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]. والفساد في الأرض: التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلًا وضياعًا، كأنه قال: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه، أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه. وفي مصاحف أهل الحجاز:(وأن يظهر) بالواو، ومعناه: إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معًا.

وقرئ: {يُظْهِرَ} من: أظهر. و {الْفَسَادَ} منصوب، أي: يظهر موسى الفساد. وقرئ: 0 يظهر) بتشديد الظاء والهاء، من تظهر، بمعنى تظاهر، أي: تتابع وتعاون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام)، قال المصنف: كان فرعون يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] فكيف عبد الصنم وذلك قوله: {وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] فأجاب بأنه أمر بنحت الأصنام وبأن تجعل شفعاء لهم عنده، كما كانوا يقولون:{شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فأضافوا الآلهة إليه بهذا المعنى.

قوله: (وضياعًا)، الجوهري: ضاع الشيء يضيع ضيعةً وضياعًا -بالفتح- أي: هلك.

قوله: (وفي مصاحف أهل الحجاز: "وأن يظهر" بالواو)، قال صاحب "التيسير": وقرأ بها عاصم وحمزة والكسائي. وقال الزجاج: وفي مصحف أهل العراق: "أو أن" على معنى: إني أخاف أن يبطل دينكم البتة، وإن لم يبطله أوقع فيه الفساد. وعلى الواو: أخاف إبطال دينكم والفساد معه.

قوله: (وقرئ: {يُظْهِرَ})، نافع وأبو عمرو وحفص، والباقون: بفتح الياء والهاء.

ص: 496

[{وقَالَ مُوسَى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ} 27]

لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله قال لقومه: {إنِّي عُذْتُ} بالله الذي هو ربي وربكم. وقوله: {ورَبِّكُم} فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال:{مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} ؛ لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة؛ وليكون على طريقة التعريض؛ فيكون أبلغ. وأراد بالتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه، وعلى فرط ظلمه وعسفه، ، وقال:{لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ} ؛ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها. وعذت ولذت أخوان. وقرئ:(عت) بالإدغام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({ورَبِّكُم} فيه بعث لهم على أن يقتدوا به)، يريد أن موسى عليه السلام لما سمع قولهم:{اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} شجع قومه وقال: تعوذوا بالله عياذة واعتصموا بالتوكل عليه، كما تعوذت واعتصمت؛ ليخلصكم من شر هذا المتكبر الذي لا عقل له ليردعه، ولا دين ليزجره. ودل على هذا كله عطف {ورَبِّكُم} .

قوله: (وليكون على طريقة التعريض)، عطف على "ليشمل"، كرر اللام على"ربي" للاستقلال. يعني: في التعميم فائدتان: إحداهما: دخول الغير في المستعاذ منه. وثانيتهما: ترك المواجهة بقوله: أنت متكبر مكذب مع إرادة ذلك بأبلغ وجه.

قوله: (لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب)، إلى قوله:(استكمل أسباب القسوة)، وفي الخاتمية: الظلم من طبع النفس، وإنما يصدها عن ذاك أحد علتين: إما علة دينية كخوف معاد، أو علة سياسية كخوف السيف. قال أبو الطيب:

ص: 497

[{وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} 28]

{رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} وقرئ: (رجل) بسكون الجيم، كما يقال: عضد، في عضد، وكان قبطيًا ابن عم فرعون، آمن بموسى سرًا. وقيل: كان إسرائيليًا. و {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة لـ {رَجُلٌ} ، أو صلة لـ {يَكْتُمُ} ، أي: يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه سمعان أو حبيب، وقيل: خربيل أو خزبيل، والظاهر أنه كان من آل فرعون؛ فإن المؤمنين من بني إسرائيل لم يقلوا ولم يعزلوا، والدليل عليه قول فرعون:{أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25]. وقول المؤمن: {فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} [غافر: 29] دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه. {أَن يَقُولَ} : لأن يقول، وهذا إنكار منه عظيم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والظلم من شيم النفوس وإن تجد .... ذا عفة فلعلة لا يظلم

قوله: (و {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة لـ {رَجُلٌ}، أو صلة لـ {يَكْتُمُ})، لأن الرجل إذا كان قبطيًا كان {آلِ فِرْعَوْنَ} صفة لـ {رَجُلٌ} ، وإذا كان إسرائيليًا كان صلة لـ {يَكْتُمُ} ، وعلى هذا الوقف على قوله:{وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} له وجه، ثم يبتدأ {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ، والظاهر الأول؛ لأن تقديم الصلة على الفعل لا معنى له في هذا المقام، ولأنه موجب للإلباس، وعليه قوله:"والظاهر أنه كان من آل فرعون"، لأن تخصيص الفردية وكتمان الإيمان لا يحسن إذا قيل: إن الرجل كان إسرائيليا؛ لأن بني إسرائيل كانوا كثيرين وأنهم لم يكتموا إيمانهم عن آل فرعون، يدل عليه قول اللعين:{أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ؛ لأن التصريح بلفظ "آمنوا" دليل على أنه كان عارفًا بإيمان قوم موسى، فكيف يحمل الكاتم على رجل من بني إسرائيل؟

قوله: (دليل ظاهر على أنه يتنصح لقومه)، حيث قال:{يَنصُرُنَا} و {جَاءَنَا} ؛

ص: 498

وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشعناء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها؛ وهي قوله:{رَبِّيَ اللَّهُ} مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة، ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده؟ ! وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم. ولك أن تقدر مضافًا محذوفًا، أي: وقت أن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأنه دل على أنه منهم في القرابة، وأنه يعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو ما هم لهم منه.

قوله: (وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم)، اعلم أنه قد أشار في كلامه إلى ثلاث عبارات كلها دالة على الاختصاص بمعونة التركيب والمقام الاستدراجي:

أحدهما: قوله: "ما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق"، وذلك من قوله: : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} حيث نكر الرجل وأوقع قوله: {رَبِّيَ اللَّهُ} علة للقتل على سبيل التوبيخ، كأنه لم يعلم من موسى عليه السلام إلا أنه رجل ما، ولم يسمع منه قول إلا {رَبِّيَ اللَّهُ} ، وهو عندهم أظهر من الشمس، وأقواله لا تحصى، نحوه قوله تعالى:{هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] قال: "فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول".

وثانيها: قوله: "لم يحضر لتصحيح قوله بينه واحدة، ولكن بينات عدة"، وهو من جمع البينات، وتحليتها باللام.

وثالثها: قوله: "وهو ربكم لا ره وحده"، وهو من تخصيص ذكر الرب وإضافته إليهم، أي: الذي يدعو إليه موسى هذا المعلوم المتميز الذي لو قيل لكل مميز عاقل: من رب السماوات والأرض؟ ليقولن: الله. كما قال في "الشعراء" بعدما سأل اللعين: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23 - 24].

وإليه الإشارة بقوله: "من عند من نسب إليه الربوبية"، ولهذا لما قال اللعين:{ولْيَدْعُ رَبَّهُ} ، أجاب عليه السلام بقوله:{إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم} .

قوله: (ولك أن تقدر مضافًا محذوفًا)، عطف على قوله: "لأن يقول، وهذا إنكار منه

ص: 499

تقول. والمعنى: أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره؟ ! وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ} يريد: بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبًا أو صادقًا، ، {وإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي: يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره، {وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ} ما يعدكم إن تعرضتم له. فإن قلت: لم قال: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وهو نبي صادق، لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومناكريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال:{وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ، وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه؛ ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقًا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه {يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ؛ ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيًا، فضلًا أن يتعصب له، أو يرمي بالحصى من ورائه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى قوله: "ما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق"، أي: قوله: {أَن يَقُولَ} إما توبيخ على جعل قول الحق علة القتل، وهو موجب للتسليم والتقليد بإضمار اللام، أو إنكار على عدم التفكر، على "أن" مصدرية والوقت مقدر.

قوله: (أن يلاوصهم)، الجوهري: فلان يلاوص الشجر، أي: ينظر كيف يأتيها ليقلعها، وعن بعضهم: يقال: لاوص القرن، إذا نظر من أي وجه يضربه.

قوله: (غير المشتط فيه))، اشتط في كذا: جازف فيه. والمشتط: هو الغالي.

قوله: (أو يرمي بالحصى من ورائه)، قيل: هو كناية عن الذب عنه، أي: فضلًا عن أن يذب عن موسى. والوراء بمعنى قدام.

ص: 500

وتقديم الكاذب على الصادق أيضًا من هذا القبيل، وكذلك قوله:{إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} . فإن قلت: فعن أبي عبيدة: أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:

تراك أمكنة إذا لم أرضها .... أو يرتبط بعض النفوس حمامها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتقديم الكاذب على الصادق أيضًا من هذا القبيل)، الانتصاف: نظيره: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] قدم ما تصدق به المرأة؛ لدفع التهمة وإبعاد الظن، ولم يضره تأخر المقصد لهذه الفائدة، وقريب منه:{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} [يوسف: 76].

قوله: (تراك أمكنة)، البيت، أي: أترك أمكنة إذا لم أرضها إلى أن يرتبط الحمام بعض النفوس، أي: كلا، وهو يوم القيامة، وهذا خطأ؛ لأنه أراد ببعض النفوس نفسه، أي: إلى أن يموت من هو مشهور معروف ولا يخفى على كل أحد. وعليه قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]. وقال الزجاج: قوله: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من لطيف المسائل؛ لأن النبي عليه السلام إذا أوعد وعدًا وقع بأسره لا بعضه، وحق اللفظ:"كل الذي يعدكم"، لكن هذا من باب النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إصابة الكل. ومثله قول الشاعر:

قد يدرك المتأني بعض حاجته .... وقد يكون مع المستعجل الزلل

إنما ذكر البعض؛ ليوجب له الكل، لا أن البعض هو الكل، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد بان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه. وذكر الزجاج في "آل عمران": وأنشد أبو عبيدة بيتًا غلط في معناه، يعني هذا البيت، وقال: المعنى: أو يعتلق كل النفوس حمامها.

ص: 501

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإنما المعنى: أو تعتلق نفسي حمامها. وفي كلام الناس: بعض يعرفك، أي: أنا أعرفك.

وقال ابن الأنباري في "النزهة": هو أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي. وقال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة. وقال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالمًا بالشعر والغريب والأخبار والنسب، وصنف كتابًا في القرآن وسماه "المجاز".

وفي حاشية "الكشاف": قال أبو عثمان المازني للمبرد: سمعت أبا عبيدة يقول: ما أكذب النحويين على العرب حيث يزعمون أن الألف في "العلقى" للتأنيث، وسمعناهم يقولون: علقاة للواحد. فقال له المبرد: هلا قاولته؟ قال: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له.

والجوب على قول أبي عبيدة: أن من جعل الألف للتأنيث لم يقل في الواحد: علقاة، ومن نون جعل الألف للإلحاق وصح له أن يقول: علقاة. روى الجوهري عن سيبويه: علقى: نبت، تكون واحدةً وجمعًا، وألفه للتأنيث فلا ينون. قال العجاج يصف ثورًا:

فحط في علقى وفي مكور

"فحط": بالفاء والحاء المهملة. "المكور": ضرب من الشجر، بضم الميم والكاف، والواحد: مكر. ويروى:

استن في علقى وفي مكور

استن الفرس وغيره، أي: قمص، وهي أن يرفع يديه ويدفعهما معًا ويعجن برجليه.

وفي "التقريب": قال أبو عبيدة للمازني: ما رأيت ككذب النحويين، يقولون تاء التأنيث لا تدخل على ألفه، وسمعت رؤبة يقول: واحد علقى: علقاة. فقيل للمازني: فما

ص: 502

قلت: إن صحت الرواية عنه، فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} يحتمل أنه إن كان مسرفًا كذابًا خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فيتخلصون منه، وأنه لو كان مسرفًا كذابًا لما هداه الله للنبوة، ولما عضده بالبينات. وقيل: ما تولى أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد من ذلك: طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه، فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال: "أنا ذاك"، فقام أبو بكر رضي الله عنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت لأبي عبيدة؟ فقال: ذاك - أي: التاء- إنما تدخل على لغة من يقول: إن ألفها للإلحاق لا للتأنيث.

قوله: (يحتمل أنه إن كان مسرفًا)، إلى آخره، يريد أن قوله:{إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي} الآية، تعليل للشرطين وارد على ذلك النمط ذا وجهين، أي: إن يك كاذبًا فعليه كذبه، أي: وبال كذبه وضرره؛ لأن الله لا يهدي {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} . {وإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} إن تعرضتم له؛ لأن الله هداه للحق، ولو كان مسرفًا كذابًا لما هداه الله للنبوة ولما عضده بالبينات.

قوله: (ما تولى أبو بكر رضي الله عنه، عن الإمام أحمد بن حنبل، عن عروة بن الزبير:"قلت لعبد الله بن عمر"، وعن البخاري:"سألت عمر: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلف ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} ".

ص: 503

فالتزمه من ورائه، وقال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} ؟ ! رافعًا صوته بذلك، وعيناه تسفحان، حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق: أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرًا، وأبو بكر قاله ظاهرًا.

[{يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 29]

{ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} : في أرض مصر عالين فيها على بني إسرائيل، يعني: أن لكم ملك مصر، وقد علوتم الناس، وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد. وقال:{يَنصُرُنَا} و: {جَاءَنَا} ؛ لأنه منهم في القرابة؛ ؛ وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه. {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله، يعني: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب، {ومَا أَهْدِيكُمْ} بهذا الرأي {إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} يريد: سبيل الصواب والصلاح. أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، ولا أدخر منه شيئًا، ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني: أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب؛ فقد كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدًا ولم يقف الأمر على الإشارة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((فإنه لا قبل لكم به)، الراغب: قبل فلان: أي عند فلان. قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9]، ويستعار للقوة والقدرة على المقابلة، أي: المجازاة، فيقال: لا قبل لي بكذا، أي: لا يمكنني أن أقابله.

ص: 504

وقرئ: (الرشاد)؛ فعال من: رشد؛ بالكسر، كعلام، أو من: رشد بالفتح كعباد، وقيل: هو من أرشد كجبار من أجبر. وليس بذاك؛ لأن فعالًا من أفعل لم يجئ إلا في عدة أحرف، نحو: دراك وسار وقصار وجبار، ولا يصح القياس على القليل. ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد، كعواج وبتات، غير منظور فيه إلى فعل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ "الرشاد")، قال ابن جني: قرأه معاذ بن جبل على المنبر، وهو إما من: رشد يرشد، كعلام؛ من: علم يعلم، أو من: رشد يرشد، كعباد؛ من: عبد يعبد. ولا يحمل على: أرشد يرشد؛ لأن فعالًا لم يأت من أفعل إلا [في أحرف] محفوظة، نحو: أجبر فهو جبار، وأسأر فهو سار، وأقصر فهو قصار، وأدرك فهو دراك، على أنهم قالوا: جبره على الأمر، وقصر عن الأمر. وينبغي أن يكون جبار وقصار من فعل، فكذا ينبغي أن يعتقد في سار ودراك على أنهما خرجا بحرف الزيادة فصارا إلى سار ودراك تقديرًا، وإن لم يخرجا إلى اللفظ استعمالًا، كما قالوا: أبقل المكان فهو باقل، وأورس الرمث فهو وارس، وقالوا: ألقحت الريح السحاب وهي لاقح. وهذا على حذف همزة "أفعل"، وإنما قياسه "ملقح"، فعلى هذا خرج الرشاد، أي: رشد بمعنى: أرشد، تقديرًا لا استعمالًا.

فإن قيل: فإن المعنى إنما هو على أرشد، فكيف أجزت لأن يكون مجيئه من: رشد أو رشد، في معنى: أرشد، وأنه ليس من لفظ: أرشد؟

قيل: المعنى راجع إلى أنه مرشد؛ لأنه إذا رشد أرشد؛ لأن الإرشاد من: الرشد فهو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب، وعليه قوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، أنها من لقحت هي، وإذا لقحت ألقحت غيرها.

قوله: (كعواج وبتات)، أي: بياع العاج وبياع البت وهو الطيلسان من خز أو صوف.

ص: 505

[{وقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَابِ قَوْمِ نُوحٍ وعَادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} 30 - 31]

{مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} : مثل أيامهم؛ لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، ولم يلبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار؛ اقتصر على الواحد من الجمع؛ لأن المضاف إليه أغنى عن ذلك، كقوله:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

وقال الزجاج: مثل يوم حزب حزب. ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، وكون ذلك دائبًا دائمًا منهم لا يفترون عنه. ولابد من حذف مضاف، ويريد: مثل جزاء دأبهم. فإن قلت: بم انتصب {مِّثْلَ} الثاني؟ قلت: بأنه عطف بيان لـ {مِّثْلَ} الأول؛ لأن آخر ما تناولته الإضافة "قوم نوح"، ولو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنه أضافه إلى الأحزاب)، يعني: لابد من تقدير جمع اليوم؛ لأن الأحزاب لم يهلكوا مرة واحدة في يوم واحد، وإنما هلك كل حزب في يوم مختص به، لكن لما جاء بالتفصيل بعد الإفراد -وهو قوم نوح وعاد وثمود- قيل:{يَوْمِ} لأنه لم يلبس.

قوله: (يوم حزب حزب)، عن بعضهم: أفرد الحزب كما جمع اليوم في الأول، كما هو عادته من رد الأول إلى الثاني، أو العكس.

قوله: (وكون ذلك دائبًا دائمًا)، عطف تفسيري على قوله:"دؤوبهم"، و"ذلك" إشارة إلى الكفر والتكذيب وسائر المعاصي.

قوله: (ولابد من حذف مضاف) لأن {مِّثْلَ} الثاني عطف بيان للمثل الأول، وقد ذكر فيه اليوم وهو دال على الهلاك لجزاء أعمالهم، وغليه أشار بقوله:"إن كل حزب منهم كان له يوم دمار".

قوله (لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح)، أضاف {مِّثْلَ} إلى {دَابِ} ثم إلى {قَوْمِ نُوحٍ} وهو آخر ما تناولته الإضافة.

ص: 506

قلت: أهلك الله الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود؛ لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام، فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة. {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} يعني: أن تدميرهم كان عدلًا وقسطًا؛ لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ حيث جعل المنفي إرادة الظلم؛ لأن من كان عن إرادة الظلم بعيدًا، كان عن الظلم أبعد؛ وحيث نكر الظلم، كأنه نفى أن يريد ظلمًا ما لعباده. ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله:{ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7] أي: لا يريد أن يظلموا؛ يعني: أنه دمرهم؛ لأنهم كانوا ظالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نكر الظلم، كأنه نفى أن يكون ظلمًا ما)، وليس التنكير في "ظلام" مثله؛ لأن "ظلامًا" بناء مبالغة، والتنكير يتبعه في التفخيم والتكثير.

قوله: (كمعنى قوله: {ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7])، ومعناه على ما قال: لا يرضى لعباده الكفر رحمةً لهم؛ لأنه يوقعهم في الهلكة، وفيه: أنهم بأنفسهم يكفرون ويوقعونها في الهلكة، وكذلك قوله:"وما الله يريد ظلمًا للعباد" معناه: لا يريد لهم أن يظلموا فيوقعوا أنفسهم بسببه في الدمار، ولكنهم هم الذين ظلموا فتعرضوا للدمار فلذلك دمرناهم، وإليه الإشارة بقوله:"يعني: أنه دمرهم لأنهم كانوا ظالمين"، والمعنى على الأول: جازيناهم بالهلاك فعدلنا فيهم. وعلى الثاني: : أهلكناهم؛ لأنهم كانوا ظالمين.

الانتصاف: هذا من الطراز الأول، وقد سبق من إبطاله ما يغني عن إعادته.

وقلت: إن مؤمن آل فرعون لما نصح القوم بقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ} وأثبت أنه نبي صادق ثابتة نبوته، واجب اتباعه، وما قصر في النصح وإرشاد طريق الإيمان إلى أن انتهى إلى قوله:{فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} ، وما زاد اللعين على ما بدأ أولًا:{مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلا بما أرى من

ص: 507

[{ويَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} غافر: 32 - 33]

(التنادي) ما حكى الله في سورة الأعراف من قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]، و {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50]، ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور. وقرئ بالتشديد، وهو أن يند بعضهم من بعض؛ كقوله:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34]. وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندوا هربًا، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفًا، فبيناهم يموج بعضهم في بعض، إذ سمعوا مناديًا: أقبلوا إلى الحساب. {تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} عن قتادة: منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وعن مجاهد: فارين عن النار غير معجزين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القتل، فحينئذ أيس المؤمن واستشعر الخوف وأيقن أن حجة الله لزمتهم، قال:{إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} ، لأنه تعالى بعث إليهم الرسل مصحوبًا بالبينات كرسولكم فلم يؤمنوا، فدمرهم الله، {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} .

وينصره ما ذكره محيي السنة: {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} أي: لا يهلكهم قبل اتخذ الحجة عليهم. يعني: عبر عن سنة الله الجارية -وهي إرادة بعثة الرسل إلى الأمم حتى إن أهلكهم لا يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] فنحن مظلومون- بقوله: {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} أي: الله لا يريد الإهلاك قبل اتخاذ الحجة، وقد بعث إليهم وإليكم الحجة.

وظهر أن قول المصنف: "لا يريد لهم أن يظلموا" مما ينبو عنه المقام، وقضية مذهبه جره إليه.

قوله: (وقرئ بالتشديد)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن عباس والضحاك والكلبي، وهو "تفاعل" مصدر "تناد القوم"، أي: تفرقوا، من قولهم: ند يند، كنفر ينفر، وتنادوا كتنافروا. والتناد كالتنافر، وأصله: التنادد، فأدغم.

ص: 508

[{ولَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 34 - 35]

هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام. وقيل: هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. أقام فيهم نبيًا عشرين سنة. وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمنه. وقيل: فرعون آخر. وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها، ولم تزالوا شاكين كافرين، {حَتَّى إذَا} قبض {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} حكمًا من عند أنفسكم من غير برهان، وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أسستموه، وليس قولهم:{لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} بتصديق لرسالة يوسف، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها! وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته. وقرئ:(ألن يبعث الله) على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضًا بنفي البعث. ثم قال:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} أي: مثل هذا الخذلان المبين يخذل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه، {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} بدل من {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}. فإن قلت: كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتقدمه عزم)، عطف على قوله:"حكمًا"، ومفعول له أو مفعول مطلق.

قوله: (وإنما هو تكذيب)، يعني: قولهم: {لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34] ليس فيه أنهم أثبتوا رسالة يوسف، بل فيه أنهم شكوا فيه وضجوا منه، حتى إذا هلك قالوا: خلصنا من هذا المدعي الزاعم أنه رسول ولن يجيء بعده مثله.

قوله: (كأن بعضهم يقرر بعضًا)، يعني: دخلت همزة التقرير على حرف النفي لدلالة أن كل واحد من المكذبين كان يقرر صاحبه بنفي البعث.

ص: 509

لأنه لا يريد مسرفًا واحدًا، فكأنه قال: كل مسرف. فإن قلت: فما فاعل {كَبُرَ} ؟ قلت: ضمير {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} . فإن قلت: أما قلت: هو جمع؛ ولهذا أبدلت منه {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} ؟ قلت: بلى هو جمع في المعنى، وأما اللفظ فموحد، فحمل البدل على معناه، والضمير الراجع إليه على لفظه، وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، وله نظائر، ، ويجوز أن يرفع {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} على الابتداء، ولابد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في {كَبُرَ} ، تقديره: جدال الذين يجادلون كبر مقتًا، ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} مبتدأ، و {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} خبرًا، وفاعل {كَذَلِكَ} قوله:{ ........ } أي: كبر مقتًا مثل ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى)، الانتصاف: فيما ذكره عود إلى معاملة اللفظ من بعد معاملة معناه وأهل العربية يجتنبونه، والأولى ألا يعتمد في إعراب القرآن عليه، والصواب أن فاعل {كَبُرَ} ضمير مصدر {يُجَادِلُونَ} ، أي: كبر جدالهم مقتًا، أو يجعل {الَّذِينَ} مبتدأ بتقدير حذف المضاف، أي: جدال الذين يجادلون، والضمير في "كبر" يعود إلى الجدال المحذوف، والجملة مبتدأ وخبر. ومثله في حذف المضاف وعود الضمير إليه:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [التوبة: 19] في أحد تأويليه، وهو: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله. ومثله كثير. وفيه ما يوجب السلامة عما ذكره، فالأولى العدول عنه.

وقلت: ولعل في قوله: "وليس ببدع أن يحمل" إشارة إلى هذا المعنى.

قوله: (وفاعل {كَبُرَ} قوله: {كَذَلِكَ})، قيل: فعلى هذا قد تقدم التمييز على الفاعل، ومثله جائز. قال المرزوقي في قوله:

أرى كل أرض دمنتها وإن مضت .... لها حجج يزداد طيبًا ترابها

ص: 510

الجدال، و {يَطْبَعُ اللَّهُ} كلام مستأنف، ومن قال: كبر مقتًا عند الله جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. وفي {كَبُرَ مَقْتًا} ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم، والشهادة على خروجه من حد أشكاله من الكبائر. وقرئ:(سلطان) بضم اللام. وقرئ: (قلب) بالتنوين. ووصف القلب بالتكبر والتجبر، لأنه مركزهما ومنبعهما، كما تقول: رأت العين، وسمعت الأذن، ونحوه قوله عز وجل:{فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وإن كان الآثم هو الجملة. ويجوز أن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنه يجوز تقديم التمييز على الفاعل، وليس في جوازه خلاف.

قوله: (فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه)، قيل: فيه نظر. قال أبو البقاء: يجوز أن يكون الخبر {كَبُرَ مَقْتًا} ، أي: كبر قولهم مقتًا.

وقلت: وإذا جاز في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة: 26] ذلك، وقد قال: الضمير في {بَلَغَتِ} للنفس، وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها. وتقول العرب: أرسلت، أي: السماء، يريدون: جاء المطر، فلأن يجوز هذا لدلالة {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} على جدالهم أحرى. وقوله:"كلام مستأنف" كأنه لما قيل: {كَبُرَ مَقْتًا} مثال جدال الذين يجادلون في آيات الله، قيل: فما يفعل الله بهم إذن؟ قيل: يطبع الله على قلوبهم، فوضع {كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} موضع الضمير إشعارًا بأن المجادل في آيات الله بغير علم متكبر جبار.

قوله: (وقرئ: "قلب")، بالتنوين: أبو عمرو وابن ذكوان، والباقون: بغير تنوين.

قوله: (ونحوه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283])، أي: كما أسند الإثم إلى

ص: 511

يكون على حذف المضاف، أي: على كل ذي قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب.

[{وقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وإنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ومَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاَّ فِي تَبَابٍ} 36 - 37]

قيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء؛ إذا ظهر، وأسباب السماوات: طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، كالرشاء ونحوه. فإن قلت: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لعلى أبلغ أسباب السماوات! قلت: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها؛ ولأنه لما كان بلوغها أمرًا عجيبًا أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه؛ ليعطيه السامع حقه من التعجب، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان، ثم أوضحه. وقرئ:{فَأَطَّلِعَ} بالنصب على جواب الترجي، تشبيهًا للترجي بالتمني. ومثل ذلك التزيين وذلك الصد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القلب وهو للجملة من الروح والبدن والقلب للتأكيد، كذلك التكبر مسند إلى القلب، وهو للجملة؛ لأن القلب رئيس الأعضاء، وكتمان الشهادة ومنشأ الكبر منه.

قوله: (على نفس متشوقة)، يروى بالفاء والقاف. عن بعضهم: شاف الشيء: صقله. ويقال: شفت الشيء: جلوته. التشوف: التطلع. وتشوفت المرأة: تزينت.

اطلع إليه، أي: صعد. وطلع الجبل كذلك.

قوله: ({فَأَطَّلِعَ} بالنصب)، حفص، والباقون: برفعها.

قوله: (تشبيهًا للترجي بالتمني)، لأن الترجي: طلب ما يتوقع حصوله، والتمني:

ص: 512

{زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} ، والمزين: إما الشيطان بوسوسته، كقوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24]، أو الله تعالى على وجه التسبيب؛ لأنه مكن الشيطان وأمهله، ومثله:{زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4]. وقرئ: (وزين) له (سوء عمله) على البناء للفاعل، والفعل لله عز وجل، دل عليه قوله:{إلَى إلَهِ مُوسَى} ؛ و (صد) بفتح الصاد، وضمها، وكسرها، على نقل حركة العين إلى الفاء، كما قيل: قيل. والتباب: الخسران والهلاك. وصد: مصدر معطوف على {سُوءُ عَمَلِهِ} ، وصدوا هو وقومه.

[{وقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ} 38 - 39]

قال: {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فأجمل لهم، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها؛ لأن الإخلاد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طلب ما لا يمكن حصوله، نحو: : ليت الشباب يعود. قال الزجاج: المعنى: لعلي أبلغ الذي يؤديني إلى إله موسى، وإنما قلت هذا على دعوى موسى، لا أني على يقين من ذلك.

قوله: (على نقل حركة العين إلى الفاء)، أي: أصله: صدد؛ مجهولًا، نقل كسرة الدال إلى الصد، وصد يجوز أن يكون لازمًا أو متعديًا. والفعل لفرعون، أي: صد الناس عن الإيمان، ويجوز أن يكون الفاعل الله تعالى، أي: صده الله عن إبطال أمر موسى، وقيل: عن نبأ الصرح.

قوله: (والتباب: الخسران والهلاك)، الراغب: التب والتباب: الاستمرار في الخسران. يقال: تبًا له وتب له وتببته، إذا قلت له ذلك، ولتضمن الاستمرار قيل: استتب لفلان كذا، أي: استمر. و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] أي: استمرت في الخسران.

ص: 513

سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة، وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما؛ ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين: دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد في ذلك واحتشد، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين، وهو قوله:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ} [غافر: 45]. وفي هذا أيضًا دليل بين على أن الرجل كان من آل فرعون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن الله استثناه من آل فرعون)، أي: اختاره منهم وجعله داعيًا إلى الله ونجاه مما حل بهم من سوء العذاب، وذلك قوله:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}

المغرب: يقال: ثنى العود، إذا حناه وعطفه؛ لأنه ضم أحد طرفيه إلى الآخر، ثم قيل: ثناه عن وجهه، إذا كفه وصرفه؛ لأنه مسبب عنه. ومنه: استثنيت الشيء، زويته لنفسي. والاسم: الثنيا بوزن الدنيا، ومنه الحديث:"من استثنى فله ثنياه"، أي: ما استثناه. والاستثناء في الاصطلاح: إخراج الشيء مما دخل فيه غيره؛ لأنه فيه كفًا وردا عن الدخول، والاستثناء في اليمين أن يقول الحالف: إن شاء الله؛ لأن فيه رد ما قاله بمشيئة الله تعالىً.

قوله: (في هذا أيضًا دليل بين على أن الرجل كان من آل فرعون)، إشارة إلى ما سبق له في تفسير قوله تعالى:{وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وهو قوله: "وقول المؤمن: {فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} دليل ظاهر على أنه يتنصح قومه"، يعني: كما كان في تلك الآية دلالة ظاهرة على أن المؤمن من آل فرعون، كذلك في هذه الآية؛ لإضافة القوم إلى نفسه مرتين. وقوله:"اتبعوني" ولم يقل: اتبعوا موسى، وسلوك طريقة الإجمال والتفصيل، والمبالغة في التحذير والإنذار؛ لأن مثل هذه النصيحة وإمحاضها قلما يصدر من الأجانب، كما

ص: 514

والرشاد: نقيض الغي. وفيه تعريض سبيه بالتصريح أن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي.

[{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا ومَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 40]

{فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا} ؛ لأن الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة؛ لأنها ظلم، وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة؛ لأنها فضل. قرئ:{يَدْخُلُونَ} ، و (يدخلون). {بِغَيْرِ حِسَابٍ} واقع في مقابلة {إلاَّ مِثْلَهَا} ، يعني: أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير؛ لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: "وإنهم قومه وعشيرته، ونصيحتهم عليه واجبة، وسرورهم سروره، وغمهم غمه"، ثم إدخال الفاء الفصيحة بعد الفراغ من النصيحة تتميم للمقصود، يعني: لما فرغ من النصيحة قصدوا إهلاكه ومكروا وهموا بتعذيبه، فوقاه الله مما هموا به، ورجع كيدهم إلى نحورهم.

قوله: (والرشاد: نقيض الغي)، الراغب: الرشد والرشد: خلاف الغي، يستعمل استعمال الهداية، قال تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] وقال بعضهم: الرشد -بالفتح- أخص؛ فإن الرشد -بالضم- يقال في الأمور الدنيوية، وبالفتح في الدنيوية والأخروية، والراشد والرشيد يقال فيهما.

قوله: ({يَدْخُلُونَ} و"يدخلون")، ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر:"يدخلون"؛ بضم الياء وفتح الخاء، والباقون: بفتح الياء وضم الخاء.

قوله: (فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير)، قال القاضي: ولعل تقسيم العمال، وجعل الجزاء اسمية مصدرة باسم الإشارة، وتفضيل الثواب لتغليب الرحمة، وجعل العمل عمدة والإيمان حالًا؛ للدلالة على أنه شرط في اعتبار العمل، وأن ثوابه أعلى من ذلك.

ص: 515

وحساب، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة.

[{ويَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى العَزِيزِ الغَفَّارِ} 41 - 42]

فإن قلت: لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: أما تكرير النداء: ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة. وفيه: أنهم قومه وعشيرته، وهم فيما يوبقهم، وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، ، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم، ويستدعي بذلك أن لا يتهموه، فإن سرورهم سروره، وغمهم غمه؛ وينزلوا على تنصيحه لهم، كما كرر إبراهيم -صلى الله عليه- في نصيحة أبيه:{يَا أَبَتِ} [مريم: 42 - 45]. وأما المجيء بالواو العاطفة: فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث: فداخل على كلام ليس بتلك المثابة: يقال: دعاه إلى كذا ودعاه له، كما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهم فيما يوبقهم)، أي: فيما يهلك أنفسهم، "هم" مبتدأ، و"فيما يوبقهم" خبر.

قوله: (وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة)، يعني: قوله: {ويَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ} ليس من جنس الكلام المفسر، وهو {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فجيء بالعاطف ليكون عطفًا على قوله:{يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} ، أتاهم بنوعين من الكلام:

أحدهما: في الترغيب عن الدنيا وتصغير شأنها، والتحريض على الاطلاع على حقيقة الآخرة وتعظيم شأنها، وعلى ما يقربهم إليها من الأعمال الصالحة، وما يبعدهم عنها من الأعمال السيئة ..

وثانيهما: في بيان مجادلة جرت بينهم وبينه، وأنه محق وأنهم مبطلون، وختمها بما ينبئ عن المتاركة بالكلية، وتحقق اعتزاله عنهم وتدميرهم، وهو قوله:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . وقال القاضي: كرر نداءهم إيقاظًا لهم عن سنة الغفلة، واهتمامًا بالمنادى له، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه،

ص: 516

تقول: هداه إلى الطريق وهداه له. {بِهِ عِلْمٌ} أي: بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفي المعلوم، كأنه قال: وأشرك به ما ليس بإله، وليس بإله كيف يصح أن يعلم إلهًا؟

[{لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ وأَنَّ مَرَدَّنَا إلَى اللَّهِ وأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 43 - 44]

{لا جَرَمَ} سياقه على مذهب البصريين: أن يجعل {لَا} ردًا لما دعاه إليه قومه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعطف {مَا لِي أَدْعُوكُمْ} على النداء الثاني الداخل على ما هو بيان لما قبله لا على الأول، فإن ما بعده أيضًا تفسير لما أجمل فيه تصريحًا وتعريضًا.

وقلت: يأبي أن يكون الثاني داخلًا في البيان لما فيه من الغلظة والوعيد إلى حلول الدمار وتصريح المتاركة، وقد مر غيره مرة أن دأب الأنبياء والداعين إلى الله سلوك طريق الملاطفة، وسبيل إرخاء العنان في الدعوة، ثم إذا أيقنوا أن ذلك النوع لا يجدي فيهم أتوا بالتوبيخ والتغليظ، ثم بعده بما يؤذن بالمتاركة والإقناط، وبتحقق الفصل بالهلاك والدمار. كذلك سلك هاهنا، ولهذا قال:"وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة"، وبينا مغزاه.

قوله: (والمراد بنفي العلم نفي المعلوم)، أي: هو من باب نفي الشيء بنفي لازمه على سبيل الكناية. وعن بعضهم: نفي العلم عن الخاص-بناءً على الدليل الواضح الشامل للكل- يكون نفيًا للعلم عن الكل.

قوله: (أن يجعل {لَا} ردًا لما دعاه إليه قومه)، قال الزجاج في سورة "هود": قال المفسرون: المعنى: حقًا إنهم في الآخرة هم الأخسرون. وزعم سيبويه أن "جرم" بمعنى "حق"، قال الشاعر:

ص: 517

و {جَرَمَ} : فعل بمعنى حق، و"أن" مع ما في حيزه فاعله، أي: حق ووجب بطلان دعوته. أو بمعنى: كسب، من قوله تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى: أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته. ويجوز أن يقال: إن "لا جرم" نظير "لابد"، فعل من الجرم؛ وهو القطع، كما أن بدا فعل من التبديد؛ وهو التفريق؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة .... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

أي: حقت فزارة بالغضب. ومعنى "لا" نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك، جرم في الآخرة هم الأخسرون، أي: كتب ذلك الفعل لهم الخسران. وعن بعضهم: "لا" هاهنا كـ"لا"؛ في "لا أقسم" في أنه رد لكلام سابق ..

قوله: (و"أن" مع ما في حيزه فاعله)، أي:"ما" في {أَنَّمَا} بمعنى: الذي، أي: حق وثبت أن الذي تدعونني إليه ليس له دعوة، ولما كان معنى قوله:{لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} قريبًا من معنى: بطل دعوته، رجع تلخيص المعنى إلى أنه حق وثبت بطلان دعوته؛ لما سيجيء بعيد هذا أن معناه: إن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، إلى قوله:"ولو كان حيوانًا ناطقًا لضج من دعائكم".

قوله: (أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته)، "ذلك الدعاء": فاعل "كسب"، وهو معنى قوله:{أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ} وقوله: "بطلان دعوته" معنى قوله: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ} ، والضمير راجع إلى المدعو الذي في قوله:{لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وأُشْرِكَ بِهِ} .

قوله: (نظير "لابد")، فعلى هذا {جَرَمَ} اسم "لا"، و {جَرَمَ} مرفوع المحل مبتدأ، والخبر {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ} .

ص: 518

فكما أن معنى: لابد أنك تفعل كذا، بمعنى: لا بد لك من فعله، فكذلك {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [النحل: 62]، أي: لا قطع لذلك، بمعنى: أنهم أبدًا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي: لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقًا. وروي عن العرب: لا جرم أنه يفعل، بضم الجيم وسكون الراء، بزنة "بد"، وفعل وفعل أخوان، كرشد ورشد، وعدم وعدم. {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} معناه: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، أي: من حق المعبود بالحق أن يدعو إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارًا لدعوة ربهم، وما تدعون إليه وإلى عبادته لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية، ولو كان حيوانًا ناطقًا لضج من دعائكم. وقوله:{فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ} يعني: أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئًا من دعاء غيره، وفي الآخرة: إذا أنشأه الله حيوانًا، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته. وقيل: معناه: ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة. أو: دعوة مستجابة. جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة. أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمي الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان. قال الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14]. {الْمُسْرِفِينَ} عن قتادة: المشركين. وعن مجاهد:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم يدعو العباد إليها)، يعني: دل التنكير في {دَعْوَةٌ} ، وهي نكرة في سياق النفي، على نفي الدعوة عن الأصنام بالكلية، وذلك أن من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين مثل الملائكة والرسل والعلماء الوارث إلى طاعته، ثم أولئك العباد يدعون غيرهم إلى عبادته إظهارًا لدعوة ربهم، وليس كذلك الأصنام.

قوله: (سميت الاستجابة باسم الدعوة)، يعني: أنه من باب المشاكلة، وأصله: إن الذي تدعونني ليس له استجابة، أي: لا يجيب دعوتي، كما في قولك: كما تدين تدان، أي: كما تجازي تجازى، وأصله: كما تفعل تجازى، لكن قيل: كما تجازى؛ لوقوعه في صحبة "تجازى" الثاني.

ص: 519

السفاكين للدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون. وقرئ: (فستذكرون) أيك فسيذكر بعضكم بعضًا. {وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ} ؛ لأنهم توعدوه.

[{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} 45 - 46]

{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} : شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم. وقيل: نجا مع موسى، {وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} ما هموا به من تعذيب المسلمين، ورجع عليهم كيدهم. {النَّارُ} بدل من {سُوءُ العَذَابِ} ، أو خبر مبتدأ محذوف، كأن قائلًا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار؛ أو مبتدأ خبره {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} . وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها. وعرضهم عليها: إحراقهم بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف؛ إذا قتلهم به وقرئ: (النار)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (السفاكين للدماء بغير حلها) يريد أنه عود إلى بدء، افتتح بقوله:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} جوابًا عن قول اللعين: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} فاختتم به تعريضًا.

قوله: (وفي هذا الوجه تعظيم للنار)، قال صاحب "التقريب": من حيث الاستئناف. وقلت: الاستئناف غير مختص به؛ لأن السابق أيضًا وارد عليه، بل التعظيم من أن التركيب حينئذ من باب تقوي الحكم وجعل "النار" مبتدأ معتمدًا عليه، وبناء"يعرضون" عليها، فالجواب عن السؤال المقدر جملة الكلام إلى آخر الآية. قيل: سوء العذاب النار المحكوم عليها بكيت وكيت.

قوله: (وعرضهم عليها إحراقهم بها)، ونحوه: عرضت الناقة على الحوض، وقول أبي العلاء:

إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت .... عن الماء فاشتاقت إليه المناهل

ص: 520

بالنصب، وهي تعضد الوجه الأخير، وتقديره: يدخلون النار يعرضون عليها، ويجوز أن ينتصب على الاختصاص. {غُدُوًا وعَشِيًا} في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم. ويجوز أن يكون {غُدُوًا وعَشِيًا} عبارة عن الدوام، هذا مادامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قبل لهم:(ادخلوا) يا {آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ} عذاب جهنم. وقرئ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} أي: يقال لخزنة جهنم: أدخلوهم. فإن قلت: قوله: {وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ} معناه: أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جبا، وقع فيه منكبا، فإذا فسر {سُوءُ العَذَابِ} بنار جهنم؛ لم يكن مكرهم راجعًا عليهم؛ لأنهم لا يعذبون بجهنم؟ قلت: يجوز أن يهم الإنسان بأن يغرق قوما فيحرق بالنار، ويسمى ذلك حيقا؛ لأنه هم بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء. ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه، ويجوز أن يهم فرعون لما سمع إنذار المسلمين بالنار، وقول المؤمن:{وأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهي تعضد الوجه الأخير)، أي: جعل "النار" مفعولًا دل على اتصال {النَّارُ} بـ {يُعْرَضُونَ} ، فينبغي في ذلك الوجه أيضًا أن يجعل خبرًا لها لتتصل بها، لا استئنافًا كما يقتضيه الوجهان السابقان.

قوله: (هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم: ادخلوا)، اقتضى هذا التقدير الواو العاطفة في قوله:{ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} ، ووجه اتصاله بالكلام السابق، وإنما أتى في التفسير بالفاء؛ ليؤذن باتصال العذابين في مثل هذا المقام.

قوله: (وقرئ: {أَدْخِلُوا} ، ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر:" الساعة ادخلوا" بوصل الألف وضم الخاء، ويبتدئونها بالضم. والباقون: بقطعها في الحالين وكسر الخاء.

ص: 521

فيفعل نحو ما فعل نمرود ويعذبهم بالنار، فحاق به مثل ما أضمره وهم بفعله. ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر.

[{وإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} 47]

واذكر وقت يتحاجون. {تَبَعًا} : تباعًا، كخدم في جمع خادم. أو: ذوي تبع، أي: اتباع، أو وصفًا بالمصدر.

[{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ} 48]

وقرئ: (كلا) على التأكيد لاسم "إن"، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه يريد:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فيفعل) عطف على "أن يهم"، أي: يجوز أن يهم فرعون حينما سمع، فيكون سببًا لأن يقتدي بنمرود ويعذبهم بالنار.

قوله: (ويستدل بهذا الآية على إثبات عذاب القبر)، قال الإمام: احتج أصحابنا بها على إثبات عذاب القبر، قالوا: الآية تقضي عرض النار عليهم غدوا وعشيًا، وليس المراد يوم القيامة لقوله تعالى {ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46]، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم.

ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض ليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله.

ص: 522

إنا كلنا- أو: كلنا- فيها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون (كلا) حالًا قد عمل فيها {فِيهَا} ؟ قلت: لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدمًا، تقول: كل يوم لك ثوب، ولا تقول: قائمًا في الدار زيد. {قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ} : قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

[{وقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ العَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَاتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} 49 - 50]

{لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} : للقوام بتعذيب أهلها. فإن قلت: هلا قيل: الذين في النار لخزنتها! قلت: لأن في ذكر جهنم تهويلًا وتفظيعًا، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إنا كلنا- أو: كلنا- فيها)، والرفع أبلغ؛ لأن "كلنا" مبتدأ و"فيها" الخبر، والجملة خبر"إن"، فيكون "كل" مقصودًا بالذكر بخلاف النصب؛ لأنه فضلة في الكلام.

قال ابن جني: زيد ضربته، أقوى من قولنا: زيدًا ضربت؛ لأن" زيدًا" في الأول رب الجملة، وفي الثاني فضلة.

قوله: (لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدمًا)، قال صاحب"التقريب": وفيه نظر؛ لأنه ذكر في "الواقعة" بخلافه، قال:{مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} وهو العامل فيها، أي: استقروا عليها متكئين. وقلت: ليس بخلاف ما ذكر في "الواقعة" لأنه قال: {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} أي: في قوله: {عَلَى سُرُرٍ} [الطور: 20] لا في قوله: {عَلَيْهَا} ، وذلك أن {عَلَى سُرُرٍ} إما خبر لـ {ثُلَّةٌ} ، والعامل الاستقرار، أو حال من الضمير في {مِنَ الْأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13] إذا جعل {ثُلَّةٌ} خبر مبتدأ محذوف، فالمعنى: هم مستقرون على سرر متكئين، {عَلَيْهَا} صلة {مُتَّكِئِينَ} .

قوله: (لأن في ذكر جهنم تهويلًا وتفظيعًا)، الانتصاف: هذا الوجه أظهر من الثاني،

ص: 523

قعرًا، من قولهم: بئر جهنام: بعيدة القعر، وقولهم في النابغة: جهنام، تسمية بها؛ لزعمهم أنه يلقي الشعر على لسان المنتسب إليه، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر:

قليذم من العياليم الخسف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والتفخيم فيه من وضع الظاهر موضع المضمر. والثاني أن جهنم أفظع من النار، إذ النار مطلقة، وجهنم أفظعها.

قوله: (في النابغة) بالنون والغين المعجمة، ويروى:"في التابعة"، بالتاء والعين المهملة. عن بعضهم: التابعة: الذي يكون مع الجني وهو الذي يلقي على الكهنة والشعراء أشياء على زعمهم، وربما يجعلونه غولًا وجنية أيضًا.

قوله: (أنه يلقي الشعر على لسان المنتسب إليه)، قيل: يروى: "يلقي" بفتح اللام وتشديد القاف، كأنه اقتبس من قوله:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] و"على لسان" متعلق بمحذوف، أي: جاريًا على لسان المنسب إليه، والمراد بالمنتسب إليه العالم به علمًا كاملًا بحيث إذا ذكر إنما ذكر بطريق النسبة إليه لشهرته بحذاقته، كما يقال للفائق في النحو: النحوي. وإذا روي بسكون اللام وكسر القاف الخفيفة، ف"على" متعلق به، و"المنتسب إليه" التابعة، يعني: إذا قال شعرًا ألقاه على لسانه، فإنه يلقيه على لسان من ينسب إليه الشعر. وقيل: المراد بالمنتسب إليه الجني، أي: أنه لقي الشعر على الناس كائنًا على لسان الجني الذي انتسب إليه كما يلقي الجن على الكهنة والشعراء أشياء.

قوله: (قليذم من العياليم الخسف)، أوله:

أودى جميع العلم مذ أودى خلف .... من لا يعد العلم إلا ما عرف

رواية لا يجتني من الصحف

ص: 524

وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة؛ لزيادة قربهم من الله؛ فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم. {أَوَ لَمْ تَكُ تَاتِيكُمْ} إلزام للحجة وتوبيخ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع، وعلطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات، {قَالُوا فَادْعُوا} أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين، وليس قولهم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القليذم: صح بفتح القاف والذال؛ البحر الكثير الماء. والعيلم: الركية الكثيرة الماء. والخسف: البئر التي تخفر في حجارة فلا ينقطع ماؤها، والجمع: خسف. رواية: كثير الرواية. قوله: لايجتني العلم من الصحف، بل هو محفوظ في صدره.

خلف هذا قيل: هو خلف بن أحمد بن الأحمر، وهو الذي قيل فيه:

خلف بن أحمر أحمر الأخلاف .... أربى بسؤدده على الأسلاف

قوله: (أجوب دعوة)، أي: أشد إجابة من جهة الدعوة، أي: دعاؤهم أقرب إلى الإجابة.

قوله: (كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها)، قلت: الشرط الأول مدفوع بما روينا عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". أخرجه الترمذي وأبو داود. وفي أخرى للترمذي قال جابر: "من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة".

والقيد في الشرط الثاني مردود بقوله صلوات الله عليه: "ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة". أخرجه

ص: 525

{فَادْعُوا} لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة، وإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه، كيف يسمع دعاء الكافر!

[{إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 51 - 52]

{فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} أي: في الدنيا والآخرة، يعني: أنه يغلبهم في الدارين جميعًا بالحجة والظفر على مخالفيهم، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانًا من الله، فالعاقبة لهم، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين. والأشهاد: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. واليوم الثاني بدل من الأول، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع؛ لأنها باطلة، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسلم عن أبي الزبير. ولذلك قال الإمام: تقول الملائكة للكفار: لا يشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له مؤمنا. والثاني: حصول الإذن في الشفاعة.

وينصر هذا التأويل قوله: {أَوَ لَمْ تَكُ تَاتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ} وقوله: {ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} ، ووضع الظاهر موضع المضمر للإشعار بالعلية وأن المانع هو صفة الكفر.

قوله: (ويتيح الله)، الجوهري: تاح له الشيء وأتيح له الشيء: قدر له.

قوله: (يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع؛ لأنها باطلة، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة)، الانتصاف: هما الاحتمالان في قوله: {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، لكن هاهنا يصير المعنى عكس الآخر على تقدير: ألا يكون لهم عذر ينفي صفة المعذرة وهي

ص: 526

لقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]. {ولَهُمُ اللَّعْنَةُ} : البعد من رحمة الله، {ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي: سوء دار الآخرة؛ وهو عذابها. وقرئ: {يَقُومُ} و {لا يَنفَعُ} بالتاء والياء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المنفعة، أي: إذا لم تحصل ثمرة المعذرة فكيف يقع ما لا ثمرة فيه؟ وفي تلك الآية جعل نفي الموصوف تبعًا لنفي الصفة، فهاهنا الأولى بالنفي الصفة، وفي هناك الأولى بالنفي الذات.

وقلت: الكلام يفتقر إلى فضل بسط، وهو أن ما في تلك الآية وأمثالها من باب نفي الشيء بنفي لازمه، يعني: لما أريد نفي الشفيع مثلًا شفع بالتشفيع، فجعل انتفاء الشفيع دليلًا على انتفاء التشفيع بالطريق النهائي. وتلخيصه: أنه إذا لم يحصل الشفع فكيف يحصل التشفيع وهاهنا بالعكس؛ لأن الأصل ليس لهم معذرة نافعة، فعدل إلى "لا ينفع الظالمين معذرتهم" للمبالغة، وجعل انتفاء النفع دليلًا على انتفاء العذر، وعليه كلام صاحب "الانتصاف": وإذا لم يحصل ثمرة العذر فكيف يقع ما لا ثمرة له؟ فحينئذ ينتفي النفع بالطريق المذكور؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها؛ ألا ترى إلى المصنف كيف قال في تلك الآية: ضمت الصفة إلى الموصوف؛ ليقام انتفاء الموصوف في مقامه الشاهد على انتفاء الصفة؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف.

قوله: (لقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]، قال:{فَيَعْتَذِرُونَ} عطف على {وَلَا يُؤْذَنُ} منخرط في سلك المنفي، والمعنى: ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له، وقد روعي في الآيتين المناسبة بين الفقرتين. ولما قال هناك:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} شفعه بنفي الشفيع والتشفيع، ولما أوقع الكلام هاهنا على نفي المنفعة قرنه بإثبات المضرة، حيث قال:{ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} .

قوله: (وقرئ: {يَقُومُ} و {لا يَنفَعُ} بالتاء والياء)، والكوفيون ونافع: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء.

ص: 527

[{ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَى وأَوْرَثْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الكِتَابَ * هُدًى وذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} 53 - 54]

يريد بالهدى: جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع. {وأَوْرَثْنَا} : وتركنا على بني إسرائيل من بعده {الكِتَابَ} أي: التوراة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتركنا على بني إسرائيل من بعده الكتاب)، يعني: استعير {وأَوْرَثْنَا} لـ: تركنا. النهاية: في أسماء الله تعالى "الوارث"، وهو الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فنائهم، ومنه:"اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني"، أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت. وفيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي الناطق بالحكمة والموعظة، ألا ترى كيف أطلق الهدى في قوله:" ولقد آتينا موسى الهدى" ليكون شائعًا في جميع جنسه، فيتناول جميع ما آتاه الله في باب الدين، ثم جعل نصيب أمته الكتاب وحده؟ وكيف أومأ إليه سيدنا صلوات الله عليه في قوله:"من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طريق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". أخرجه أبو داود والترمذي، عن قيس بن كثير، عن أبي الدرداء.

قال صاحب "الجامع": معنى وضع أجنحة الملائكة التواضع والخشوع تعظيمًا للطالب وتوقيرًا للعلم، قال تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].

وقيل: معناه الكف عن الطيران، أي: لا يزول عنده، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ما من قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة".

ص: 528

{هُدًى وذِكْرَى} : إرشادًا وتذكرة، وانتصابهما على المفعول له، أو على الحال. وأولوا الألباب: المؤمنون به العاملون بما فيه.

[{فَاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ والإبْكَارِ} 55]

{فَاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يعني أن نصرة الرسل في ضمان الله، وضمان الله لا يخلف، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل، والله ناصرك كما نصرهم، ومظهرك على الدين كله، ومبلغ ملك أمتك مشارق الأرض ومغاربها، فاصبر على ما يجرعك قومك من الغصص، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق، وأقبل على التقوى، واستدراك الفرطات بالاستغفار، ودم على عبادة ربك والثناء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومبلغ ملك أمتك مشارق الأرض ومغاربها)، إشارة إلى ما روينا عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها". أخرجه مسلم وأبو داود والترميذي، وأخرجه الإمام أحمد ابن حنبل عن شداد بن أوس. وقلت: هذا الذي ذكره وإن كان غرضًا يصار إليه، لكن النظم يقتضي أبلغ من ذلك، وهو أن يقال:{فَاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر: 55]، يعني: أنه ينصرك على أعدائك كما نصر موسى على أعدائه، ويظهرك على الدين كله، ويورث هذا الكتاب الكريم الذين اصطفينا من عبادنا ليعتصموا به، فيكون لهم هدى ينالون به رضا الله وزلفاه في العقبى وذكرًا أي: شرقًا وغربًا، كما قال:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، فيملكون به مشارق الأرض ومغاربها.

ص: 529

عليه {بِالْعَشِيِّ والإبْكَارِ} . وقيل: هما صلاتا العصر والفجر.

[{إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 56]

{إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ} : إلا تكبر وتعظم؛ وهو إرادة التقدم والرياسة، وأن لا يكون أحد فوقهم؛ ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك؛ لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة؛ أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك حسدًا وبغيًا، ويدل عليه قوله:{لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]؛ أو إرادة دفع الآيات بالجدال. {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} أي: ببالغي موجب الكبر ومقتضيه؛ وهو متعلق إرادتهم من الرئاسة أو النبوة أو دفع الآيات. وقيل: المجادلون: هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود- يريدون الدجال- ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيهم ذلك كبرًا، ، ونفى أن يبلغوا متمناهم. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فالتجئ إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك {إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لما تقول ويقولون، {البَصِيرُ} بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويدل عليه {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ})، [الأحقاف: 11] أي: يدل على أن المراد من الكبر إرادة أن تكون لهم النبوة، وأن المجادلين في قوله:{إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} الذين جادلوا في أمر النبوة، وأنه لم اختص بك دونهم، وأن تلك المجادلة لم تكن إلا من الكبر والحسد.

قوله: (ويدل عليه قوله: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ})، لأن مثل هذه المجادلة لا تصدر إلا من الحاسد والباغي؛ لأن الله يختص بنبوته من يشاء، وليس تناولها والاختصاص بها من المسابقة، وما نشأ ذلك الحسد إلا من الكبر.

قوله: (وهو متعلق إرادتهم من الرئاسة أو من النبوة أو دفع الآيات)، نشر للوجوه الثلاثة.

ص: 530

[{لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 57]

فإن قلت: كيف اتصل قوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} بما قبله؟ قلت: إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض؛ لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها، وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلق الإنسان_ مع مهانته_ أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله، {لا يَعْلَمُونَ} ؛ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إتكار البعث)، هذا مناسب للوجه الثالث من تفسير الكبر، وهو قوله:" أو إرادة دفع الآيات بالجدال". المعنى: إن الذين يجادلون في الآيات الدالة على إثبات الحشر والنشر والبعث لم تكن تلك المجادلة منهم من حجة وبرهان، لكن مما في قلوبهم من الكبر واستبعاد قدرة الله، فقل لهم: من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظمتهما كان على خلق أمثالكم في المهانة أقدر، وهو كقولهم تكبراُ وعنادًا واستكبارًا:{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا} [يس: 79] إلى قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] أي: مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السماوات والأرض، وينصر هذا التأويل قوله:{ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون ما في البعث من الحكمة؛ لأنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء، ولا يتم ذلك إلا بمجيء الساعة {إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} .

وقال القاضي: {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} : لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم، وما يستوي العاقل والمتبصر، وينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، وهي فيما بعد البعث.

ص: 531

[{ومَا يَسْتَوِي الأَعْمَى والبَصِيرُ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولا المُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} 58]

ضرب الأعمى والبصير مثلًا للمحسن والمسيء. وقرئ: {تَتَذَكَّرُونَ} بالياء والتاء، والتاء أعم.

[{إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} 59]

{لاَّ رَيْبَ فِيهَا} : لا بد من مجيئها ولا محالة، وليس بمرتاب فيها؛ لأنه لا بد من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({يَتّذَكَّرُونَ} بالياء والتاء)، عاصم وحمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء.

قوله: (والتاء أعم)، قال صاحب "التقريب": إنما أتم لتغليب الخطاب على الغيبة.

وقال القاضي: لدلالة التاء على تغليب المخاطب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة.

قلت: التغليب وإن كان أعم؛ لأنه أشمل في التناول، ولكن غير مناسب للمقام، وأما الالتفات فإنه أتم فائدة وهو أنسب للمقام. وهذه الآية متصلة بقوله:{لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وهو كلام مع المجادلين، كما قال: فحجوا بخلق السماوات والأرض. والعدول من الغيبة إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العن الشديد والإنكار البليغ.

وقال القاضي: وزيادة "لا" في {المُسِيءُ} لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة.

قوله: (وليس بمرتاب فيها)، عطف تفسيري على قوله:"لا بد من مجيئها" وليس من شأنها أن يرتاب فيها المرتاب، وإن إرتاب فيها المبطلون فليس من روية وتفكر.

ص: 532

جزاء. {لا يُؤْمِنُونَ} : لا يصدقون بها.

[{وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 60]

{ادْعُونِي} : اعبدوني، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن، ويدل عليه قوله:{إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} . والاستجابة: الإثابة، وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن وقد سئل عنها: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. وعن الثوري: أنه قيل له: ادع الله، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. وفي الحديث: "إذا شغل عبدي طاعتي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا)، عن الإمام مالك، عن نافع: أنه سمع ابن عمر يدعو على الصفا يقول: " اللهم إنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وإنك لا تخلف المعياد، فإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم".

قوله: (إن ترك الذنوب هو الدعاء)، يعني: أن المذنب متجرئ على الله مستكبر عن عبادته لا يعرف جلاله وعظمته، والمجتنب عن الذنب مطيع لربه خاضع مستكين مستحي لجلاله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا". فإذن قوله: "إن ترك الذنوب هو الدعاء" من الجوامع.

قوله: (إذا شغل عبدي طاعتي)، الحديث من رواية أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". أخرجه الترمذي والدارمي.

ص: 533

عن الدعاء، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". وروى النعمان بن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهر هما ويريد ب {عِبَادَتِي} : دعائي؛ لأن الدعاء باب من العبادة، ومن أفضل أبوابها، يصدقه قول ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء. وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلا نبيًا مرسلا: كان يقول لكل نبي: أنت شاهدي على خلقي، وقال لهذه الأمة:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]؛ وكان يقول: ما عليك من حرج، وقال لنا:{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وروى النعمان بن بشير)، الحديث أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عنه.

قوله: (ويجوز أن يريد الدعاء)، فيكون قوله:{إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} تعليلًا للأمر بالدعاء لمعنى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} لأن من لا يدعو فهو مستكبر، فأنا أعذبه، فوضع الدعاء العبادة ليؤذن بأن الدعاء مخ العبادة، عن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدعاء مخ العبادة". وأوقع الصلة {يَسْتَكْبِرُونَ} ليشعر بأن الدعاء هو الخضوع للباري، وفيه إظهار الافتقار والاستكانة. روينا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لم يسأل الله يغضب عليه"، وعن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل".

وهذه الآية معطوفة على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} لجامع وجود المجادلة في الآيات، وإما بحسب ترك الدعاء والعبادة، وما بينهما استطراد لحديث المجادلة في البعث.

ص: 534

وكان يقول: ادعني أستجب لك، وقال لنا:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . وعن ابن عباس: وحدوني أغفر لكم. وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد. {دَاخِرِينَ}: صاغرين.

[{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِرًا إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} 61]

{مُبْصِرًا} من الإسناد المجازي؛ لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار. فإن قلت: لم قرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولًا لها فيراعى الآخر؛ لأنه لو قيل: لتبصروا فيه: فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن ابن عباس)، عطف على قوله:" {ادْعُونِي}: اعبدوني"، يعني: معنى {ادْعُونِي} : وحدوني. ومعنى {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} : أغفر لكم. فدل {ادْعُونِي} على: اعبدوني، ودل "اعبدوني " على: وحدوني، فهو كناية تلويحية لوجود لوازم ليتصل إلى المقصود، هذا معنى قوله:"وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد"، وينصره قوله:{اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} الآيات.

قوله: (فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي)، وذلك أن الملابس إذا وصف بصفة الملابس به كان ذلك إيذانًا بكمال ذلك الوصف في الأصل، وأنه سرى منه إليه لكثرة صدوره منه، فإذا قيل:" نهاره صائم" بدل "هو في النهار صائم" أفاد أنه بلغ فيه إلى أن اتصف نهاره بصفته. وكذلك المراد في الآية المبالغة في رصف تهيؤ أسباب المعاش وسهولة تأتيها؛ لأن زمان التعيش هو النهار لنورانيته واستزادة قوة المبصر فيه، فجعل كأنه هو المبصر، ولو قيل:"لتبصروا" لم يعلم ذلك.

ص: 535

ولو قيل: ساكنًا- والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولو قيل: ساكنًا

لم يتميز الحقيقة من المجاز)، وذلك أن "ساكنًا" يجوز حمله على الحقيقة كما قال، ويجوز حمله على المجاز. ولو قيل:" ساكنًا" لبقي اللفظ دائرًا بين المعنيين أحدهما المقصود- وهو إرادة المجاز- إذ المراد أن يكون الناس في الليل ساكنين، والآخر غير مقصود- وهو إرادة الحقيقة_ فوجب التصريح بقوله:"لتسكنوا" لئلا يلتبس الغرض.

قال صاحب "الفرائد": قوله: {اللَّيْلَ} يجوز أن يوصف على الحقيقة بالسكون منظور فيه لأن إضافة السكون إلى الليل باعتبار أنه لا ريح فيه، فالسكون للريح في الحقيقة لا لليل، ولا يلزم من قولهم:"ليل ساج وساكن" أن يكون السكون لليل حقيقة، فليتأمل.

والجواب: أن من المجاز ما يسبق منه إلى الفهم بحسب كثرة الاستعمال معنى المنقول إليه لا المنقول منه، فإذا قلت:"جعل الليل ساكنًا" لم يتبادر منه سكون الريح، بل يفهم منه هدوؤه، وعلى تقدير جواز المجاز لا يتم المقصود؛ لأن القصد أن ينتقل الإسناد من الإنسان إليه، كما في {والنَّهَارَ مُبْصِرًا} لا من الريح.

هذا وإن كلام المصنف مدخول فيه من جهة أخرى؛ لأنه كان ينبغي له أن يبين فائدة الاختلاف، لأنه لو قيل:" ساكنًا" لم تتبين الحقيقة من المجاز، على أنه لو أريد ب"ساكنًا" الإسناد المجازي لم يلتبس لقرينة التقابل، وهو كثيرًا يسلك هذا المسلك، والفائدة فيه أن الكلام وارد على الامتنان، والامتنان بجعل النهار مبصرًا أدخل من جعل الليل لتسكنوا؛ لأن رغبة الناس في ابتغاء الفضل والتهيؤ للمعاش في النهار أكثر من النوم في الليل، فعدل في إحدى القرينتين من الظاهر، وقال:{مُبْصِرًا} بدل "لتبصروا فيه" للمبالغة، وترك الأخرى على الظاهر لهذه الدقيقة، ومن ثم جاء في موضع آخر:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11]، والسبات: الموت. روي عن أبي الهيثم أنه قال: المناسب أن ينسب السكون إلى الليل؛ لأن الحركة إما حركة طبع أو اختيار، وحركة الطبع من الحرارة، وحركة الاختيار من الخطرات المتتابعة بسبب الحواس، فخلق الليل باردًا مظلمًا.

ص: 536

ليل ساج، وساكن لا ريح فيه - لم يتميز الحقيقة من المجاز. فإن قلت: فهلا قيل: لمفضل، أو: لمتفضل! قلت: لأن الغرض تنكير الفضل، وأن يجعل فضلًا لا يوازنه فضل، وذاك إنما يستوي بالإضافة. فإن قلت: فلو قيل: ولكن أكثرهم، فلا يتكرر ذكر الناس؟ قلت: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: لتستريحوا فيه بأن خلقه باردًا مظلمًا؛ ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس.

قوله: (وذاك إنما يستوي بالإضافة)، أي: إذا جعل "فضل" مضافًا إليه يرجع معنى التنكير إليه، أي: فضل، ولو قيل: متفضل لم يكن هذا المعنى.

قوله: (في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم)، قال صاحب "الفرائد": وضع الظاهر موضع المضمر؛ للإيذان بأنهم لا يشكرون لكونهم ناسًا؛ لأن الشر معجون في طينة الناس، وهو الغالب عليهم. قال الراغب في "غرة التنزيل": فإن قيل: لم اختلف أواخر هذه الآي، أعني {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} بعده:{إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} وبعده: {إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} ، ثم بعده:{إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ؟ الجواب: إن من أقر بخلق السماوات والأرض ثم أنكر الإعادة، فالمناسب أن ينبه على ذلك بأن يقال له: إن من قدر على الأكبر فهو أقدر على الأصغر، فلذلك اختص بنفي العلم؛ لأن العلم هو المحتاج إليه والمبعوث عليه، وإن من أنكر البعث فهو محتاج إلى الإيمان به بعد علمه بأن القادر على خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، وأما قوله:{إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} فمعناه: ومن كان الله عليه فضل فهو محتاج إلى أن يؤدي حقه بالشكر وبما يستديمها له ويربطها لديه.

ص: 537

فضل الله ولا يشكرونه، ، كقوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} [الزخرف: 15]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].

[{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 62 - 63]

{ذَلِكُمُ} المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ} أخبار مترادفة، أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وخلق كل شيء، وإنشائه، لا يمتنع عليه شيء؛ والوحدانية: لا ثاني له {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : فكيف ومن أي وجه يصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان. ثم ذكر أن ل من جحد بآيات الله، ولم يتأملها، ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة: أفك كما أفكوا. وقرئ: (خالق كل شيء) نصبًا على الاختصاص، و {تُؤْفَكُونَ} بالتاء والياء.

[{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا والسَّمَاءَ بِنَاءً وصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ * هُوَ الحَيُّ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 64 - 65]

هذه أيضًا دلالة أخرى على تميزه بأفعال خاصة؛ وهي أنه جعل الأرض مستقرًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أفك كما أفكوا)، قال محيي السنة: كما أفكتم عن الحق مع قيام الدليل، {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .

قوله: (هذه أيضًا دلالة أخرى على تميزه بأفعال خاصة)، يريد أن قوله تعالى: {اللهُ

ص: 538

{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي: قبة، ومنه: أبنية العرب؛ لمضاربهم؛ لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض. {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وقرئ بكسر الصاد، والمعنى واحد. قيل: لم يخلق حيوانًا أحسن صورة من الإنسان. وقيل: لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله:{في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. {فَادْعُوهُ} : فاعبدوه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى آخره قد بني فيه الخبر وهو الموصولة المشتملة على صلات هي أفعال يختص بها الباري على الاسم الجامع ليتم بها عن الغير، كذلك قوله:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا} ، وكما أن قوله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أتى ليشير به إلى أن الموصوف بتلك الصفات المذكورة مستحق لأن يكون ربا خالقًا لا إله إلا هو، كذلك قوله:{هُوَ الحَيُّ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ} ، وإن جيء بالضمير بدل اسم الإشارة.

وأما قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنء تُرَابٍ} فإن المبتدأ وإن بني على الموصولة المشتملة على الصلوات المختلفة، لكن استغلاله في الدلالة على التميز ليس كاستغلالهما؛ لأنه من تتمة قوله:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ، ولذلك اكتفي بالضمير دون الاسم الجامع، ولم يؤت باسم الإشارة أو بما يقوم مقامه من الضمير لانبناء التوحيد عليه، لكن فيه اعتناء بدليل الأنفس لذكره أولًا مجملًا ثم مفصلًا ثانيًا، والله أعلم.

قوله: ({بِنَاءً})، عن بعضهم: ومنه يقال للنطع: البناء والمبنأة؛ لأنهم يتخذون منه أبنية. وفي الحديث: "طرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناء في يوم مطير"، أي: نطع. قوله: (لم يخلق حيوانًا أحسن صورة من الإنسان)، قال القاضي: أحسن صوركم بأن خلقكم منتصب القامة، بادي البشرة، متناسب الأعضاء والتخطيطات، متهيئًا لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات.

قوله: ({فَادْعُوهُ}: فاعبدوه)، وإنما فسر الدعاء بالعبادة؛ لأنه أمر يترتب على

ص: 539

{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: الطاعة من الشرك والرياء، قائلين:{الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . وعن ابن عباس رضي الله عنه: من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين.

[{قُلْ إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} 66]

فإن قلت: أما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت: بلى، ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأوصاف السابقة، وهي تقتضي غاية الخضوع والتذلل وليست إلا العبادة، وعدل منها إلى الدعاء؛ لأنها محض الافتقار وفيها نهاية الانكسار، ولما كان المطلوب غاية الخضوع والإخلاص جيء بمفعول {مُخْلِصِين} ، وقد الصلة على المفعول به؛ ليؤذن بأن الإخلاص في العبادة مطلوب لذاته. والإخلاص في الإخلاص هو أن يخلص الإخلاص؛ لتكون له الطاعة لا لشيء آخر.

قوله: (من قال: لا إله إلا الله، فليقل في أثرها: الحمد لله)، وذلك أن قوله:{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أمر بالإخلاص عقب بالتحميد ورتب على التهليل، يعني: إذا تكلمت بكلمة التوحيد فاعمل بالإخلاص، فإنه من مقتضاه، ثم احمد الله على التوفيق، كما قال:"قل آمنت بالله ثم استقم".

قوله: (بلى، ولكن البينات لما كانت مقوية) إلى آخره، الانتصاف: معرفة الله ووحدانيته معلومتان بالعقل، ترد الأدلة العقلية في مضمون السمعية، أما وجوب عبادة الله وتحريم عبادة الأصنام فحكم شرعي، فقوله:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ} أي: حرم علي، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة خلافًا للمعتزلة في الإيجاب قبل الشرع للتحسين والتقبيح. ثم قوله: " إنما تقوي أدلة

ص: 540

ومضمنة ذكرها -نحو قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96] وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل- كان ذكر البينات ذكرًا الأدلة العقل والسمع جميعًا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعًا؛ لأن ذكر تناصر الأدلة، أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية.

[{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 67]

{لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} متعلق بفعل محذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا. وكذلك {لِتَكُونُوا} . وأما {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} معناه: ونفعل ذلك لتبلغوا أجلًا مسمًى، وهو وقت الموت. وقيل: يوم القيامة. .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العقل" باطل؛ لأن القطعي لا يقبل القوة.

وقلت -والله أعلم-: إن مغزى الكلام على التعريض وإرخاء العنان وجريان البيان على الألف والاستمرار على المألوف، يعني: قضية التقليد توجب ما أنتم عليه، ولكني خصصت بأمر دونكم فتأملوا فيه واستعملوا عقولكم فيه، وأنتم مراجيح العقول، كما قال إبراهيم عليه السلام:{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَاتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 43 - 44] ولما كان المقصود قطع المألوف كان الجواب العتيد: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46].

قوله: (وهو وقت الموت. وقيل: يوم القيامة)، هذا هو الوجه؛ لأن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا موقف الجزاء، كما قال تعالى:{إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [يونس: 4] الآية.

ص: 541

وقرئ: (شِيوخًا)، بكسر الشين. و (شيخًا)، على التوحيد، كقوله:{طِفْلًا} [الحج: 5]، والمعنى: كل واحد منكم. واقتصر على الواحد؛ لأنّ الغرض بيان الجنس. {مِنْ قَبْلُ} : من قبل الشيخوخة، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطًا، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ما في ذلك من العبر والحجج.

[{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 68]

{فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّما} يكونه من غير كلفة ولا معاناة. جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدورًا لا يمتنع عليه، كأنه قال: فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرًا كان أهون شيء وأسرعه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ "شيوخًا")، ابن كثير وابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي.

قوله: (فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرًا كان أهون شيء وأسرعه)، والمعنى: اعلموا وتنبهوا على أن من كان قادرًا على تلك المقدورات العظيمة كما شاء كيف شاء ومتى شاء بلا مانع ولا مدافع، كان أمره إذا قضى أمر الإعادة وجد كأهون شيء وأسرعه، وإنما قيدناه بذكر الإعادة؛ لأن جميع ما ذكر من الآيات عقيب قوله:{إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} ، وقد عطف على هذا المجموع مجموع قوله:{وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} على طريق الحصول والوجود، وتفويض الترتيب بينها إلى الذهن، يعني: لما اقتضت الحكمة إيجاد الخلق للعبادة ثم ترتب الجزاء عليها وذلك عند قيام الساعة، فلا بد من حصولهما، {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} يستكبرون عن العبادة وينكرون الإعادة، "أفلا يتفكرون" في تلك الدلائل الدالة على كمال القدرة ونفاذ الإرادة؛ ليعلموا أن من كان قادرًا على ذلك كان أمر الإعادة أهون شيء وأسرعه عليه، والله أعلم.

ص: 542

[{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ *ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ * ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} 69 - 76]

{بِالْكِتابِ} : بالقرآن {وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا} من الكتب. فإن قلت: وهل قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} إلى مثل قولك: سوف أصوم أمس؟ قلت: المعنى على إذا، إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في إخبار الله تعالى متيقنة مقطوعًا بها: عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: فإذا أراد شيئًا كان، فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة من حيث إنه تعالى يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد.

وقلت: في هذا التنبيه تقريع عظيم للمجادلين في الآيات الشاهدة على إثبات البعث واستبعادهم الإعادة، ولذلك جعل هذه النتيجة تخلصًا وكرًا إلى إعادة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ} على سبيل التعجب والتعجيب، وسجل على جهالتهم وصرفهم عن الطريق الحق مع قيام تلك الحجج القاطعة والبراهين الساطعة بقوله:{أَنَّى يُصْرَفُونَ} ، كما قال في تلك الآية:{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4].

قوله: (والمعنى على "إذا")، ويروى على "إذ"، أي: فسوف يعلمون حين الأغلال في أعناقهم. قال أبو البقاء: "إذ" ظرف زمان ماض، والمراد بها الاستقبال ها هنا؛ لقوله:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

ص: 543

وعن ابن عباس: (والسلاسل يسحبون) بالنصب وفتح الياء، على عطف الجملة الفعلية على الاسمية. وعنه:(والسلاسل يسحبون) بجر "السلاسل"، ووجهه: أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال، مكان قوله:{إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} لكان صحيحًا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن ابن عباس: "والسلاسل يسحبون"؛ بالنصب)، قال ابن جني: وقرأها ابن مسعود، والتقدير: إذ الأغلال في أعناقهم ويسحبون السلاسل، بفتح الياء واللام بعطف الجملة الفعلية على الاسمية، ونحوه قول الشاعر:

أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد .... أموف بأدراع ابن طيبة أم تذم

أي: أنت موف بها أم تذم؟ فقابل بالمبتدأ الخبر الذي من الفعل والمفعول الجاري مجرى الفاعل، على أن {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} يشبه في اللفظ الجملة الفعلية لتقدم الظرف على المبتدأ كتقدم الفعل على الفاعل مع قوة شبه الظرف بالفعل، على أن أبا الحسن يرفع "زيدًا"- من قولك: في الدار زيد- بالظرف، كما يرفعه بالفعل. ومن غريب شبه الظرف بالفعل أنهم لم يجيزوا في قولهم:"فيك يرغب"، أن يكون "فيك" مرفوعًا بالابتداء، وفي "يرغب" ضمير، كقولك: زيد يضرب، لن الفعل لا يرفع بالابتداء، فكذلك الظرف، ومن ذلك أيضًا قوله:

زمان علي غراب غداف .... فطيره الشيب عني فطارا

فعطف الفعل على الظرف، وفي الأمثلة كثرة. نم كلام ابن جني.

قوله: (بجر "السلاسل")، قال مكي: هذا على العطف على الأعناق غلط؛ لأنه يصير الأعناق في السلاسل، ولا معنى للغل في السلسة، ومن ثم قال المصنف:"ووجهه أنه لو قيل" إلى آخره، تصحيحًا له.

ص: 544

مستقيمًا، فلما كانتا عبارتين معتقبتين: حمل قوله" (وَالسَّلاسِلِ) على العبارة الأخرى، ونظيره:

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة .... ولا ناعب

كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: (وبالسلاسل يسحبون). {فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} : من سجر التنور؛ إذا ملأه بالوقود. ومنه: السجير، كأنه سجر بالحب، أي: ملئ. ومعناه: أنهم في النار فهي محيطة بهم، وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم. ومنه قوله تعالى:{نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 6 - 7]. اللهم أجرنا من نارك، فإنا عائذون بجوارك. {ضَلُّوا عَنَّا}: غابوا عن عيوننا، فلا نراهم ولا ننتفع بهم. فإن قلت: أما ذكرت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]: أنهم مقرونون بآلهتهم، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم؟ قلت: يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم: أينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم ويشفعوا لكم؟ وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم؛ إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم. {بَلْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومنه السجير)، كأنه سجر بالحب، الجوهري: سجير الرجل: خليله وصفيه، والجمع: السجراء.

قوله: ({ضَلُّوا عَنَّا}: غابوا عن عيوننا)، الجوهري: ضللت الدار والمسجد، إذا لم تعرف موضعهما، وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدى له. وفي الحديث:"لعلي أضل الله"، يريد: أضل عنه، أي: أخفى عليه، من قوله تعالى:{أئِذَا ضَلَلْنَا في الْأَرْضِ} [السجدة: 10] أي: خفينا.

قوله: (مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم)، هذا إنما يستقيم إذا فسر {ضَلُّوا

ص: 545

لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} أي: تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئًا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئًا، كما تقول: حسبت أنّ فلانًا شيء فإذا هو ليس بشيء؛ إذا خبرته فلم تر عنده خيرًا. {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ} مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا، {ذلِكُمْ} الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح {بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهو الشرك وعبادة الأوثان، {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ} السبعة المقسومة لكم، قال الله تعالى:{لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44]، {خالِدِينَ}: مقدّرين الخلود {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} عن الحق المستخفين به مثواكم، أو جهنم: فإن قلت: أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عَنَّا} غابوا عنا، لا على أن يكونوا معهم في سائر الأوقات؛ إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضلوا على طريق المشاكلة، وإليه الإشارة بقوله:"حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا"، وإنما ركب هذا المتعسف؛ لأن إسناد الإضلال إلى الله غير جائز عنده؛ وإلا فالمعنى على التذييل.

وقال محيي السنة: كما أضل هؤلاء يضل الله الكافرين. والقاضي: مثل هذا الإضلال يضل الله الكافرين حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة. وذهب هذا عن صاحب "التقريب" حتى تبع المصنف فيه.

قوله: (مثواكم أو جهنم)، إشارة إلى أن المخصوص بالذم هذا أو ذاك؛ لأن {الْمُتَكَبِّرِينَ} إذا كان من وضع المظهر موضع المضمر للعلية بدليل قوله:{ادْخُلُوا} ، كان التقدير: فبئس المثوى مثواكم، وإذا كان عامًا ليدخلوا فيه دخولًا أوليًا كان التقدير: فبئس المثوى جهنم.

قوله: (أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل)، حين صدر الكلام بلفظ {ادْخُلُوا} ناسب أن يجاء في العجز بـ"مدخل" ليتجاوبا؟ وأجاب: إنما لم يناسبه إذا اكتفى بقوله:

ص: 546

المتكبرين، كما تقول: زر بيت الله فنعم المزار، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى؟ قلت: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء.

[{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} 77]

{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أصله: فإن نرك، و"ما" مزيدة لتأكيد معنى الشرط؛ ولذلك ألحقت النون بالفعل، ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك. فإن قلت: لا يخلو: إما أن تعطف {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} على {نُرِيَنَّكَ} وتشركهما في جزاء واحد؛ وهو قوله: {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} فقولك: فإمّا نرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون: غير صحيح، وإن جعلت {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} مختصًا بالمعطوف الذي هو {نَتَوَفَّيَنَّكَ} ، بقي المعطوف عليه بغير جزاء. قلت:{فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} متعلق بـ {نَتَوَفَّيَنَّكَ} ، وجزاء {نُرِيَنَّكَ} محذوف،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ادْخُلُوا} ولم يقيد بالخلود، ولما قيد به كان معناه مع التقييد معنى {مَثْوَى} فصح التجاوب.

قوله: (و"ما" مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون)، الانتصاف: أي: المصحح لدخول نون التوكيد دخول "ما" على الشرط، ولولاه لم يجز؛ لأن النون المؤكدة مخصوصة بغير الواجب، والشرط من قسم الواجب؛ إلا أنه إذا أكد قوي بها، فساغ دخول النون.

قوله: ({فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} متعلق بـ {نَتَوَفَّيَنَّكَ}، وجزاء {نُرِيَنَّكَ} محذوف)، الانتصاف: أما حذف الأول دون الثاني؛ لأن الأول إذا وقع فهو غاية الأمل في إنكائهم، وإن لم يقع دفع الثاني وهو الذي يحتاج إليه في التسلية.

وقال القاضي: ويجوز أن يكون {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} جوابًا لهما، بمعنى: إن تعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب، ويدل على شدته الاقتصار بذكر

ص: 547

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرجوع في هذا المعرض.

وقلت: تفسير المصنف آذن بالعذاب الواقع في الدنيا مهتم بشأنه معقود به الهمة؛ لأن المعنى: فذاك مناك ومطلوبك، وأما الأخروي فلا بد من كينونته.

وتفسير القاضي دل على أن الاهتمام ببيان الأخروي والدنيوي إن وقع أو لم يقع سواء، والمصنف فسر ما في "الرعد" بما يوافق تفسير القاضي، حيث قال:" {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما أوعدناهم من إنزال العذاب عليهم، أو توفيناك قبل ذلك فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم"، حيث جعل "أريناك" و"توفيناك" بيانًا لأحوال الدائرة، وأوقع قوله:"فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب" المعبر عن قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [الرعد: 40] جزاءً للشرط.

فإن قلت: ما الفرق؟ قلت: بين المقامين بون بعيد؛ لأن الجزاء في "الرعد" مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم ودال على الردع عن توقع الحساب والعقاب، وأن عليه تبليغ الرسالة فحسب، والجزاء ها هنا مختص بالكفار، ولذلك ما جوز أن يكون جوابًا لقوله:{نُرِيَنَّكَ} ولا له ولقوله: {نَتَوَفَّيَنَّكَ} معًا؛ لأن هذا المقام مقام التسلية والتصبير على أذى القوم، والتشفي عنهم مطلوب، ولا سيما قد فازوا بمباغيهم يوم بدر، وقضية النظم يساعد هذا التقرير، وذلك أن قوله:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} متصل بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ} وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد لهم على مجادلتهم وتكذيبهم، و {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} ظرف {يَعْلَمُونَ} أي: لم تتعجب من حال هؤلاء المعاندين ومجادلتهم وكفرهم مع ما يفعل بهم من النكال إليه؟ فسوف يعلمون هم سوء عاقبة

ص: 548

تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب؛ وهو القتل [والأسر] يوم بدر، فذاك، أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام، ونحوه قوله تعالى:{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41 - 42].

[{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ} 78]

{وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} قيل: بعث الله ثمانية آلاف نبىّ: أربعة آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن علىّ رضي الله عنه: أنّ الله تعالى بعث نبيًا أسود، فهو ممن لم يقصص عليه. وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنادًا، يعنى: إنا قد أرسلنا كثيرًا من الرسل وما كان لواحد منهم أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عنادهم وكفرهم إذ الغلال في أعناقهم، فاصبر على أذاهم، فإن الله وعد المؤمنين أن يشفي صدورهم بالانتقام منهم في الدنيا، فإما نرينك بعض ذاك فذاك مناك، أو نتوفينك فألينا يرجعون، فيصلون إلى ما أوعدناهم وأعددنا لهم من الخزي والنكال وجر السلاسل والأغلال والسحب إلى جهنم والسجر في النار، فبئس المآل.

قوله: قيل (بعث الله ثمانية آلاف نبي)، والصحيح ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم وفى عدة الأنبياء؟ قال:"مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاث مئة وخمسة عشر، جمًا غفيرًا".

ص: 549

فمن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها. {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وعيد وردّ عقيب اقتراح الآيات. وأمر الله: القيامة. {الْمُبْطِلُونَ} : هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات، وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحرًا.

[{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} 79 - 81]

الأنعام: الإبل خاصة. فإن قلت: لم قال: {لِتَرْكَبُوا مِنْها}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فمن لي بأن آتي بآية)، أي: فمن يضمن لي الخلاص من عذاب الله بأن آتي بآية مقترحة؟

قوله: (لم قال: {لِتَرْكَبُوا مِنْها})، وجه السؤال: أنه تعالى ذكر أمورًا ولم يجعلها على وتيرة واحدة، إما بأن تسلب لام الغرض منها جميعًا، وإما أن تدخل فيها جميعًا، وخلاصة الجواب: أن الغالب في الأكل وسائر المنافع استيفاء مجرد الشهوة، ولا يناط به أمر ديني إلا في الندرة، فالناس والبهائم فيهما سواء، وان الغالب في الركوب وبلوغ الحاجة عليها قضاء حق العبادة، فلا يكون الاهتمام فيها سواء ففرق باللام. ونظيره قوله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]

قال صاحب "الفرائد": كيف يكون الأكل وإصابة المنافع بدون تعلق إرادته؟ هذا خارج عن حد الاستقامة، والوجه أن يقال: إنما قال: {وَمِنْها تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ} كاللبن والوبر، ولم يقل: لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع؛ لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع، وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران، فجيء بما يدل على الاستقبال.

وقال صاحب "الانتصاف": بنى الزمخشري على أن الأمر راجع إلى الإرادة، والحق أنه لا ربط بين الأمر والإرادة، والصحيح أن المهم في الأنعام الركوب وبلوغ الحوائج في السفر

ص: 550

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والنقلة فقرنا ياللام، وأما الأكل وبقية المنافع كالأصواف والألبان فهي تابعة بالنسبة إلى الركوب والحمل، فلذلك جردت عن اللام.

وقال القاضي: وتغير النظم في الأكل؛ لأنه في حيز الضرورة. وقال صاحب "التقريب": فيما ذكر المصنف نظر؛ إذ قد يكون الأولان لمباح والباقيان لأمر ديني.

وقلت: نظير الآية قوله تعالى في "النحل": {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8]، قال المصنف هناك: إنما قدم الظرف في قوله: {وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} ؛ لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وإنما اختلف في {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ؛ لأن الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن. انتهى كلامه.

ولا ارتياب أن أصل الكلام ها هنا: جعل لكم الأنعام لتركبوا منها وتأكلوا منها وتنتفعوا بأصوافها وأوبارها وألبانها ونسلها. ولما كانت هذه العبارة من الجوامع احتمل ما قال المصنف. وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم، وما ذكره محيي السنة ورواه الواحدي عن مجاهد ومقاتل: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد وتبلغوا عليها حاجاتكم في البلاد. وما يعطيه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] من معنى التجمل، قال في تفسيره: من الله بالتجمل بها من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معاظمها، إلى قوله: ويسلبهم الجاه والحرمة عند الناس.

وأما معنى التكرير في قوله: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} على رأي مجاهد: فلإناطة معنيين:

ص: 551

{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا} ، ولم يقل: لتأكلوا منها، ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال: منها تركبون، ومنها تأكلون وتبلغون عليها حاجة في صدوركم! قلت: في الركوب: الركوب في الحج والغزو، وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم؛ وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به إرادته، ومعنى قوله: {وَعَلَيْها وَعَلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحدهما: تشبيه الجمال بالسفن، قال في سورة "المؤمنين": وقرنها بالفلك التي هي السفائن؛ لأنها سفائن البر.

وثانيهما: إدخال منة أخرى في هذه المنن على سبيل الاستطراد، وإنما خولف بين العبارات للتفنن ولاختلاف أغراض الناس، فإن الناس في الحضر لا يهتمون بشأن الركوب اهتمامهم في السفر، فأجرى الركوب على الظاهر، وغير في قوله:{وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] وإنما غير النظم في الأكل؛ لأنه في حيز الضرورة-كما قال القاضي- أو لرعاية الفواصل وهو الوجه؛ إذ لو جيء على ظاهره لاختلت، وكذلك جرى في الفاصلة الآتية.

وأما قوله: {وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ} فكالتابع للأكل، فأجري مجراه، كما قال صاحب "الانتصاف"، ولما اشتمل {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} على تلك الفوائد المتكاثرة جعله مستقلًا في الغرض بإعادة اللام ونكر الحاجة وقرنها بقوله:{فِي صُدُورِكُمْ} ، تأكيدًا كما في قوله تعالى:{الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] وقوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وفي تخصيصه الأنعام ها هنا بالإبل وتفسيره قوله: {وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} [النحل: 5] في "النحل" بان تقديم الظرف للاختصاص، وأن الأكل منها هو الأصل إلى آخره، وليس له العذر إلا مراعاة الفواصل. والله أعلم بمراده من كلامه.

ص: 552

الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}: وعلى الأنعام وحدها لا تحملون، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر. فإن قلت: هلا قيل: وفي الفلك، كما قال:{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ؟ [هود: 40]! قلت: معنى الإيعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم؛ لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها، فلما صح المعنيان صحت العبارتان. وأيضًا فليطابق قوله:{وَعَلَيْها} ويزاوجه. {فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ} جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله: قليل؛ لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو "حمار" و"حمارة": غريب، وهي في "أي" أغرب؛ لإبهامه.

[{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} 82 - 83]

{وَآثارًا} : قصورهم ومصانعهم. وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم. {فَما أَغْنى عَنْهُمْ} "ما" نافية أو مضمنة معنى الاستفهام، ومحلها النصب، والثانية: موصولة، أو مصدرية، ومحلها الرفع، يعنى: أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم، أو كسبهم. {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} فيه وجوه؛ منها: أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [النمل: 66]، وعلمهم في الآخرة: أنهم كانوا يقولون: لا نبعث ولا نعذب، {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [فصلت: 50]، {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو "حمار" و"حمارة": غريب)، ليس بمطلق، بل إذا لم يرد التمييز بأمر خارجي لئلا يخالف قوله:{قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18]، واستشهاد أبي حنيفة رضي الله عنه في أنها أنثى بدليل {قَالَتْ} ولهذا قال:"وهي في "أي" أغرب لأن التمييز فيها غير مطلوب أصلًا". ويؤيده قول صاحب "التقريب": وفي "أي" أغرب لمطلوبية الإبهام فيه ومنافاته التمييز.

ص: 553

وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]، وكانوا يفرحون بذلك، ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء، كما قال عز وجل:{كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]. ومنها: أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه، وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط: أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه، وقيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها: أن يوضع قوله: {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} -ولا علم عندهم البتة- موضع قوله: لم يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم. ومنها: أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين مرحين. ويدل عليه قوله: {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} . ومنها: أن يجعل الفرح للرسل، ومعناه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يونان)، في نسخة صحيحة: صح بفتح الياء.

قوله: (أن يوضع قوله: {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ})، يعني: حق الظاهر أن يقال: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بها لجهلهم، فوضع موضعه {فرحوا بما عندهم من العلم} على سبيل التهكم تعريضًا، كما تقول لمن لا يدري ولا يدري أنه لا يدري: قد جاءك فلان العلامة، فرحت بما عندك من العلم، أي: لم تنتهز تلك الفرصة واغتررت بجهلك المركب.

قوله: (ويدل عليه قوله: {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ})، أي: يدل على أن {فَرِحُوا} في قوله: {بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} مضمن معنى الاستهزاء على سبيل الكناية؛ لاقتضاء المقام، وأن المعنى: استهزؤوا بما جاء به الرسل من الوحي فرحين، من رد العجز على الصدر من حيث المعنى، كأنه قيل: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات استهزؤوا بما عندهم من العلم، فوضع {فَرِحُوا} موضع "استهزؤوا" كناية؛ لأن المستهزئ فرح مرح، ودل عليه قوله:{ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} .

ص: 554

أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادي، واستهزائهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم، وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم؛ فرحوا بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى:{يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [الروم: 7]، {ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30]، فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم؛ لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات؛ لم يلتفتوا إليها، وصغروها، واستهزؤا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم؛ ففرحوا به.

[{فَلَمَّا رَأَوْا بَاسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} 84 - 85].

البأس: شدّة العذاب، ومنه قوله تعالى:{بِعَذابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165]. فإن قلت: أي فرق بين قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ} وبينه لو قيل: فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت: هو من "كان" في نحو قوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، والمعنى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والظلف عن الملاذ)، الجوهري: ظلف نفسه عن الشيء يظلفها، أي: منعها من أن تفعله أو تأتيه.

قوله: (هو من "كان" في نحو قوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35])، الانتصاف: فائدة دخول "كان" المبالغة في نفي الفعل الداخلة هي عليه بتعديد جهة نفيه عمومًا باعتبار الكون، وخصوصًا باعتبار النفع مثلًا، فهو نفي مرتين.

وقلت: تفسيره لا يصح ولا يستقيم، وارد من جهة تسليط النفي على الكون المتضمن

ص: 555

فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم. فإن قلت: كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت: أما قوله: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ} : فهو نتيجة قوله: {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} ، وأما قوله:{فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} : فجار مجرى البيان والتفسير، لقوله تعالى:{فَما أَغْنى عَنْهُمْ} ، كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله: {لَمَّا رَأَوْا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للفعل المنفي، كأنه قيل: هذا الفعل من الشؤون التي عدمها راجح على الوجود، وإنها من قبيل المحال.

قوله: (أما قوله: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ}: فهو نتيجة قوله: {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ})، لكن على القلب، يعني: اجتمعوا وتحشدوا مع قوة أجسادهم وحصلوا ما زاد في قوتهم من المال والمنال وما يلجئون إليه من الحصون والمصانع لتغنيهم إذا حزبهم أمر الإغناء التام، فانقلب التدبير عليهم وما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما أحسن ما قال:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم .... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنزلوا من أعالي عن معاقلهم .... فأسكنوا حفرًا يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا .... أين الأسرة والتيجان والحلل؟

أين الوجوه التي كانت منعمة .... من دونها تضرب الأستار والكلل؟

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم .... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طال ما أكلوا يومًا وما شربوا .... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا

قوله: (فجار مجرى التفسير والبيان، لقوله تعالى: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ})، نحو قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] إذ لا بد لنفي الاغتناء من سبق معالجة منهم وتصور دفعهم من ينازعهم بمكسوبهم، يعني: جمعوا وفعلوا كيت وكيت، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات لبعثهم على رفض ما جمعوا، والظلف عن ملاذ الدنيا والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واعتقدوا أنه لا علم أنفع للفوائد من علمهم، وما قصروا في الدفع،

ص: 556

بَاسَنا} تابع لقوله: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ} ، كأنه قال: فكفروا، فلما رأوا بأسنا آمنوا، وكذلك:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ} تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله. {سُنَّتَ اللَّهِ} بمنزلة {وَعَدَ اللَّهُ} [النساء: 122] وما أشبهه من المصادر المؤكدة. و {هُنالِكَ} مكان مستعار للزمان، أي: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله:{وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ} بعد قوله: {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي: وخسروا وقت مجيء أمر الله، أو وقت القضاء بالحق.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فانقلب الأمر عليهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، أي: يستخفون، ولا يبعد أن تسمى مثل هذه الفاء فاء تفسيرية.

قوله: (كأنه قال: فكفروا، فلما رأوا بأسنا آمنوا)، فالتقدير: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم فكفروا، أي: استهزؤوا وصغروا شأنها، وحاق بهم جزاء استهزائهم، فلما رأوا بأسنا، أي: جزاء استهزائهم، آمنوا.

تمت السورة

بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.

* * *

ص: 557

سورة السجدة

مكية، وهي أربع وخمسون، وقيل: ثلاث وخمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} 1 - 4]

إن جعلت {حم} اسمًا للسورة كانت في موضع المبتدأ، و {تَنْزِيلٌ} خبره. وإن جعلتها تعديدًا للحروف كان {تَنْزِيلٌ} خبرًا لمبتدأ محذوف، و {كِتابٌ} بدل من {تَنْزِيلٌ} ، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز الزجاج أن يكون {تَنْزِيلٌ} مبتدأ، و {كِتابٌ} خبره. ووجهه: أن تنزيلًا تخصص بالصفة؛ فساغ وقوعه مبتدأ. {فُصِّلَتْ آياتُهُ} : ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة؛ من أحكام، وأمثال، ومواعظ، ووعد، ووعيد، وغير ذلك. وقرئ:(فصلت)، أي: فرقت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة السجدة

مكية، وهي أربع وخمسون آية، وقيل: ثلاث وخمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (وقرئ "فَصلت")، قال أبو علي: كلهم بضم الفاء وكسر الصاد والتشديد.

ص: 558

بين الحق والباطل. أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولك: فصل من البلد، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نصب على الاختصاص والمدح، أي: أريد بهذا الكتاب المفصل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن بعضهم: لم ينقل في "المنتقى" و"الموضح" بالتخفيف. وقلت: ولا في "المحتسب".

قوله: (أو فصل بعضها من بعض) أي تباعد، عطف على "فرقت" يدل عليه قوله: فصل من البلد. ومعنى هذه القراءة على هذا التقدير يرجع إلى المشهورة فصلت ميزت وجعلت تفاصيل، لكن الأول يحتاج إلى سبق مجمل وتقدم مبهم مختلط بحق وباطل.

قال القاضي: ولعل افتتاح هذه السور السبع بـ {حم} وتسميتها به؛ لكونها مصدرة ببيان مشاكله في النظم والمعنى. وإضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنياوية.

وقلت: ولذلك اشتركت في أن اقترن كل منهما بذكر الكتاب وجعل {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نصبًا على الاختصاص والمدح أو حالًا، وعلل بقوله:{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يعلمون ما نول عليهم من الآيات المفصلة المبينة لا يلتبس عليهم شيء منه.

قال أبو البقاء: {كِتَابٌ} أي هو كتاب، ويجوز أن يكون مرفوعًا بـ {تَنْزِيلٌ} أي: نزل كتابًا، {قُرْآنًا} حال موطئة من {آيَاتِهِ} ويجوز أن يكون حالًا من {كِتَابٌ} لأنه قد وصف.

قوله: (فصل من البلد) روي عن المصنف أنه قال: أصله: فصل نفسه، فطرحت العرب نفسه وتناسته، كقولهم: نزع عن الأمر نزوعًا، وأصله: نزع نفسه. ولهذا قال أبو نواس:

وإذا نزعت عن الغواية فليكن .... لله ذاك النزع لا للناس

لامحًا الأصل المتروك.

ص: 559

قرآنًا من صفته كيت وكيت. وقيل: هو نصب على الحال، أي: فصلت آياته في حال كونه قرآنًا عربيًا. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه. فإن قلت: بم يتعلق قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ؟ قلت: يجوز أن يتعلق بـ {تَنْزِيلٌ} أو بـ {فُصِّلَتْ} ، أي: تنزيل من الله لأجلهم، أو فصلت آياته لهم، والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي: قرآنًا عربيًا كائنًا لقوم عرب؛ لئلا يفرق بين الصلات والصفات. وقرئ: (بشير ونذير)، صفة للكتاب، أو خبر مبتدأ محذوف. {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}: لا يقبلون ولا يطيعون، من قولك: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه، فكأنه لم يسمعه.

[{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} 5]

والأكنة: جمع كنان؛ وهو الغطاء. الوقر، بالفتح: الثقل. وقرئ بالكسر. وهذه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لئلا يفرق بين الصلات والصفات) يعني: إن علق {لِقَوْمٍ} بـ {تَنْزِيلٌ} تقع التفرقة بين المفعول له وبين متعلقه بقوله: {كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وبين الصفات أيضًا؛ لأن {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} صفة {قُرْآنًا} . وإن علق بـ {فُصِّلَتْ} فالتفرقة بين الصفات -وهي {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} و {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} حاصلة، وإنما جمع الصلات وهي واحدة لتوافق قرينتها نحو: إني لآتيه بالغدايا والعشايا. وعن بعضهم: إنما جمعها وهي واحدة وهي اللام لتعدد ما اتصل بها من قوله: {تَنْزِيلٌ} و {فُصِّلَتْ} وأراد بالصلات العلاقات بالمعاني.

قوله: (وقرئ: "بشيرٌ ونذير")، قال القاضي: قراءة نافع.

قوله: (والوقر، بالفتح: الثقل)، الراغب: الوقر بالفتح الثقل في الأذن، يقال: وقرت

ص: 560

تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله:{وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ} [البقرة: 88]؛ ومج أسماعهم له كأن بها صممًا عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه حجابًا ساترًا وحاجزًا منيعًا من جبل أو نحوه، فلا تلاقي ولا ترائي. {فَاعْمَلْ} على دينك {إِنَّنا عامِلُونَ} على ديننا، أو: فاعمل في إبطال أمرنا، إننا عاملون في إبطال أمرك. وقرئ:(إنا عاملون). فإن قلت: هل لزيادة {مِنْ} في قوله: {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} فائدة؟ قلت: نعم؛ لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجابًا حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة {مِنْ} فالمعنى: أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أذنه تقر وتوقر، والوقر بالكسر -الحمل للحمار والبغل. وقد أوقرته، ونخلة موقر وموقرة، والوقار السكون. وفلان ذو قرة.

قوله: (ومج أسماعهم) عطف على قوله: "نبو قلوبهم" وأما قوله: "حاجزًا منيعًا من جبل أو نحوه، فلا تلاقي ولا ترائي" فلدلالة التنكير في "حجاب"، ونحوه قال الشاعر:

له حاجب في كل أمر يشينه

وزيادة من قوله: "كأن بينهم وما هم عليه" قيل: الوجه أن يجعل الواو بمعنى "مع" لئلا يلزم العطف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار، ويحمل الواو "في" وبين رسول الله وما هو عليه "مع" أيضًا وإن كان العطف صحيحًا؛ لئلا يفرق الحكم بين القرينتين، ويجوز العكس لتوافق قوله هل لزيادة "من" فائدة؟ ليست هذه الزيادة مثل قولك: ما جاءني من أحد؛ لأنها في الإثبات، بل المراد أن المعنى كان يحصل بدونها كما قدره.

قوله: (أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك)، الانتصاف: مقتضى كلامه أن يكون

ص: 561

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"من" مقدرة على "بين" الثانية؛ لأنه جعلها مقيدة للابتداء، فكأنه قيل: ومن بيننا ومن بينك حجاب، وهو غلط، فإن لا يصح معها إعادة عامل؛ لأنه يجعل "بين" داخلة على المفرد، ومن شأنها الدخول على متعدد، وقد زاد على هذا بأن جعل الأولى الحجاب من جهتهم، والثانية من جهته، وليس كذلك، والأولى هي الثانية بعينها وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف عليه مضمر مخفوض يوجب تكرار خافضه، ولا تفاوت بين قولك: حلت بين زيد وعمرو، وحلت بين زيد وبين عمرو. وأما ذكرها مع الظاهر فجائز ومع المضمر واجب، فالصحيح أنها ها هنا مثل {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} [يس: 9] للإشعار بأن الجهة المتوسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم مبدأ الحجاب، ووجود "من" قريب من عدمها لقوله تعالى:{جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] بغير "من".

وفي هذه الآية مبالغات بثلاثة حجب: أحدها: الحجاب الخارج، ثم حجاب الصمم، ثم حجاب أكنة قلوبهم، نعوذ بالله من ذلك.

وقلت: حاصل المعنى أن "بين"تقتضي متعددًا، وليس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم حجاب واحد، وهو متعدد معنى ولم يفتقر إلى تقدير حجاب آخرـ، ثم زيف قوله:"فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة" وهو عمله لقولهم بعد ذلك: {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} مرتبًا بالفاء، أي: اعمل أنت فيما يتعلق بك وبجهتك من إثبات نبوتك بأي طريق كان، ومن الدعوة إلى التوحيد والمنع من تقليد الآباء وغير ذلك على قدر جهدك وطاقتك، ونعمل نحن بقدر وسعنا فيما يتعلق بنا وبجهتنا من الدفع لرسالتك والثبات على الشرك وتقليد الآباء، فظهر أن "بين" ها هنا معبر عن المسافة والجهة بواسطة "من" الابتدائية، والبين المذكور في الكتاب لازم المعنى، وسنبين إن شاء الله أن مغزى قولهم هو أنك تزعم أن لك دليلًا على إثبات نبوتك بإقامة المعجزة، ونحن ندعي أن لنا دليلًا على نفيها عنك؛ لأنك بشر، وأنى يقع الاتفاق بيننا وبينك؟ وإن شئت فذق هذا مع قول الشاعر:

ص: 562

فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها. فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل:{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} ، ليكون الكلام على نمط واحد!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

راحت مشرقة ورحت مغربًا .... وأنى التقاء مشرق ومغرب؟

ومن حرم مراعاة حسن النظم خبط خبط عشواء، وجعل في كلام الملك العلام فضلات. وقد استحسن الإمام كلام المصنف كل الاستحسان. وقال صاحب "التقريب": وفي تقريره نظر؛ لأن البين إذا فسر بالوسط و"من" للابتداء فيكون الابتداء من الوسط لا من الطرف، فلا يلزم استيعاب الوسط، ولعله لم يرد بالوسط حاق الوسط بل المسافة المتوسطة بينهما، فصح ما ذكره. تم كلامه.

قوله: (هلا قيل: على قلوبنا أكنة) يعني أن المطابقة بين القرائن فلم قدم الجار في الثانية وأخره في الأولى؟ وأجاب: أن المطابقة حاصلة من حيث المعنى؛ لأن المظروف كما هو مستقر في الظرف، الظرف أيضًا مشتمل عليه، فإذن معنى قوله:{قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] وقوله: "على قلوبنا أكنة" واحد، فجاء التطابق.

قال صاحب "الفرائد": الفرق بين الصورتين بين؛ لأن الأولى تفيد استيعاب الأكنة القلوب؛ لأن الأكنة لا بد من تجاوز أطرافها على المظروف فكأنهم قالوا: الأكنة محتوية على القلوب ساترة من جميع جوانبها. ولا كذلك الثاني؛ لأن الأكنة حينئذ ساتر سطحها فلا يلزم من هذه الاحتواء من كل جانب.

وقلت: إنما يتفاوت هذا بتفاوت الظرف، فإن الظرف إذا كان كنًا لا بد من ستر المظروف من كل جانب على أن "على" أبلغ لمعنى الاستعلاء ومغلوبية المظروف والإيذان بأن ليس للوصول إليه سبيل، على أن للقول فيه مجالًا، وهو أنه لو قيل:"على قلوبنا أكنة" كما في تلك الآية: {وَفِي آذانِنا وَقْرٌ} لم يحصل التطابق في معنى الاستقراء وجعل أحدهما ظرفًا والآخر مظروفًا. ولو قيل: "على آذاننا وقر" لم يكن بتلك المبالغة؛ لأن المراد

ص: 563

قلت: هو على نمط واحد؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة، وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الكهف: 57]، ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة: لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني.

[{قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} 6 - 7]

فإن قلت: من أين كان قوله: {إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} جوابًا لقولهم: {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ} ؟ قلت: من حيث أنه قال لهم: إني لست بملك، وإنما أنا بشر مثلكم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن الأصمخة قد سدت فلا يدخل فيها الهواء فضلًا عن الكلام. وأما معنى "على" في تلك الآية فلإرادة معنى الاستعلاء والقهر من الله تعالى، والله أعلم.

قوله: (ترى المطابيع)، الأساس: وهو مطبوع على الكرم، وقد طبع على الخلاق المحمودة، وهذا كلام عليه طابع الفصاحة، وعن بعضهم: المطابيع، جمع مطبوع، وهو الذي طبع على العربية. وقيل: هو الذي طبع على الكيوسة.

قوله: (من حيث أنه قال لهم: إني لست بملك، وإنما أنا بشر مثلكم)، قال صاحب الفرائد": لم لزم أن يكون هذا جوابًا لقولهم؟ إذ قولهم لا يقتضي أن يكون له جواب، وإنما يشعر هذا بأن قيل له صلى الله عليه وسلم: لا تتركهم بما ذكروا إنا لا نسمع ما تذكر، ومرادهم مما قالوا أن نتركهم وما يدينون وما يفعلون، سلمنا أنه جواب، لكن المراد منه: إني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين، والوقر من الآذان، ولكن أوحي إلي وأمرت بتبليغ {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} هذا ينظر إلى قول الإمام كأنه قال: إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرًا وقهرًا، فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا أني مخبر

ص: 564

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن الله تعالى أوحى إلي، فإني أبلغ هذا الوحي إليكم، إن شرفكم الله بالتوفيق قبلتموه، وإن خذلكم بالحرمان رددتموه، وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي.

وفسر صاحب "الانتصاف" كلام المصنف بأن قال: إنما كان قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} جوابًا لما سبق؛ لأنهم لما أبوا القبول منه كل الإباء قال: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} لا قدرة لي على إظهار المعجزات، بل تختص القدرة عليها بالله تعالى تصديقًا لي، ثم عقبه بما يتم المقصود وهو التوحيد، وأدرج تحت الاستقامة جميع تفاصيل الشرع، وتممه بإنذارهم على ترك القبول بالويل. وقدر بعضهم كأنهم قالوا: لا نصغي إلى قولك ولا نرعوي إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا صحت نبوتي وجب عليكم الارعواء والإصغاء إلى قولي".

وقلت: كيفما كان الجواب من الأسلوب الحكيم، والمطابقة بين الجواب والسؤال إنما تظهر إذا نظر إلى الجانبين والمعنى والتركيب وما يقتضيه من المعنى بحسب المقام فنقول: : لفظة "إنما" من أدوات الحصر، ومعنى التركيب ها هنا ما أنا إلا بشر موحى له، وإنما يستقيم هذا إذا قيل له: أنت فيما تدعيه من الوحي والرسالة كمدعي ما يوجب الخروج من البشرية والدخول في الملكية؛ لأن الرسالة منافية للبشرية، وإنها من مناصب الملائكة، وكتاب الله مملوء من هذا الرد، وهذا المعنى إنما يعطيه معنى قولهم:{وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا} ، على إرادة إنك فيما تدعيه من الرسالة وإثبات التوحيد، ونحن فيما نعتقد من أن البشرية منافية للرسالة في حاجز منيع وحجاب ساتر كما مر.

وتمام التقرير أنه صلوات الله عليه حين تحداهم بقوله: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ} كأنه قال: إني رسول الله إليكم، ومعجزتي هذا الكتاب الفارق بين الحق والباطل والكاذب والصادق، وإنه نازل بلسانكم وأنتم زعماء الحوار وأرباب البيان تعلمون أنه كذلك لما عجزتم عن الإتيان بمثله، وهو المراد من قوله: يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المنبئة بلسانهم العربي المبين، وعند ذلك أعرضوا وعاندوا

ص: 565

وقد أوحي إلي دونكم فصحت بالوحي إلىّ وأنا بشر نبوّتي، وإذا صحت نبوّتي: وجب عليكم اتباعي، وفيما يوحى إلي: أن إلهكم إله واحد {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} : فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يمينًا ولا شمالًا، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وردوا الشبهة الركيكة معارضين، وإلى الإعراض الإشارة بقوله:{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 4]، وإلى الاعتراض لمح بقوله:{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ} الآية، فكأنهم قالوا: سلمنا دعواك، لكن عندنا ما ينافيه وهو أن الرسالة منحصرة في الملائكة، وما أنت إلا بشر مثلنا، وما أنزل الرحمن من شيء، وليس عندك ما تدفع به هذا الدليل وإن اجتهدت كل الاجتهاد.

هذا معنى قوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} على أحد وجهيه، وهو: فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك. فأجابهم بقوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} على سبيل القول بالموجب، يعني لا شك أني بشر ولست بملك، وذلك كيف يقدح في دعواي؟ لأن الرسالة إنما تثبت بالدعوى وتصديقها بالمعجزة، وقد حصل ذلك، وهو دليل قاطع، ولا أترك القاطع وأشتغل بجواب شبهتكم إلا هذا القدر؛ لأن الذي علي الآن الدعوة إلى التوحيد وبيان سبيل الرشاد والأمر بالتوبة مما سبق لكم من الشرك، والتحريض على مكارم الأخلاق من أداء الزكاة والإيمان بالآخرة إلى غير ذلك، هكذا ينبغي أن يفسر تأويل المصنف، وهو أقرب الأقوال السابقة؛ لأن مقتضى "إنما" وموجب {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} لا يساعد عليع تأويلهم.

فإن قيل: هذا التأويل مبني على معنى {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} في إبطال الأمر، فما معنى الآية على الوجه الآخر، وهو "إننا عاملون على ديننا؟ قلت: تأويله ما رواه الواحدي عن مقاتل: أن أبا جهل رفع ثوبه بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أنت من ذلك الجانب ونحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك ومذهبك إننا عاملون على ديننا ومذهبنا، قال الله:{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: كواحد منكم ولولا الوحي ما دعوتكم. والنظم مع الأول، والله أعلم.

ص: 566

الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك {وَاسْتَغْفِرُوهُ}. وقرئ:(قال إنما أنا بشر). فإن قلت: لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونًا بالكفر بالآخرة؟ قلت: لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته. ألا ترى إلى قوله عز وجل:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265]؟ أي: يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرّت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم، وأهل الردّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة، فنصبت لهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا)، الانتصاف: كلام الزمخشري حسن بعد تبديل "خدع المؤلفة"فالتأليف على الإيمان ليس خداعًا، إنما التأليف ملاطفة لا خديعة.

وقلت: ما أحسن موقع الخداع وقرانه مع لمظة من الدنيا، ثم أردفه بقوله:" فقرّت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم". روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أنس:"أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين غنائم، فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئًا، فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا، فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: "يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني عنكم"؟ فسكتوا، فقال: "يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد تحوزونه في بيوتكم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله رضينا. فقال: "لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار شعبًا لأخذت شعب الأنصار".

وفي رواية: قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون". الحديث.

ص: 567

الحرب، وجوهدوا. وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة، وتخويف شديد من منعها؛ حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج، ويحرمون من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روينا في "صحيح البخاري"، عن عمرو بن ثعلب قال:"أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه، فقال: إني أعطي قومًا أخاف ظلعهم وجزعهم، وأكل قومًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى". ظلعهم، أي: ميلهم عن الحق وضعف إيمانهم، وأصله داء في قوائم الدابة تغمز منها.

قوله: (بلمظة) الجوهري: لمظ يلمظ بالضم لمظًا، إذا تتبع بلسانه بقية طعامه، أو أرخج لسانه فمسح به شفتيه.

قوله: (لا يفعلون ما يكونون به أزكياء)، الراغب: أصل الزكاة: النمو الحاصل من بركة الله، ويعتبر ذلك بالمور الدنيوية والأخروية، وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره.

وقلت: في هذا المقام هو الإيمان كما قال المصنف. روى محيي السنة عن ابن عباس: يعني الذين يقولون: لا إله إلا الله، وهي زكاة الأنفس. المعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم. وقلت: المعنى على هذا فاستقيموا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة له، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله، فوضع موضعه مع إيتاء الزكاة؛ ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد وإخلاص العمل لله

ص: 568

[{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 8]

الممنون: المقطوع. وقيل: لا يمنّ عليهم؛ لأنه إنما يمنّ التفضل، فأما الأجر فحق أداؤه. وقيل: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى: إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.

[{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ * فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 9 - 12]

{أَإِنَّكُمْ} بهمزتين، الثانية بين بين، و (آئنكم) بألف بين همزتين. {ذلِكَ} الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين. هو {رَبُّ الْعالَمِينَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والتبري عن الشرك هو تزكية النفس، وهو أوفق لتأليف النظم، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم، ثم جيء بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} الآية، مستطردًا تعريضًا بالمشركين وأن نصيبهم مقطوع، حيث لم يزكوا أنفسهم كما زكوا، ويدل على أنه مستطرد قوله:{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} .

قوله: (كأصح ما كانوا يعملون)، قيل: كما عملوا في حال كونهم أصح الأصحاء.

قوله: {ذَلِكَ} الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين هو {رَبُّ الْعالَمِينَ} إشارة إلى اتصال قوله: {رَبُّ الْعالَمِينَ} بما قبله بتوسط اسم الإشارة، وان المذكور قبله مستحق لأن يقال له رب العالمين؛ لأجل ما اتصف بالقدرة التامة الكاملة وهو خلق الأرض في يومين، أما بيان كيفية اتصال اللفظ فإن صاحب "الكشف" قال: ظاهر الآية مشكل؛

ص: 569

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأن قوله: "وجعل" عطف على "خلق" وداخل في حيز صلة "الذي" وقد فصل بقوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ} وإن قلت: هو في الحال من الضمير في "حلق" أي قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين مجعولًا له أندادًا، فهو وجه؛ لأنه حال من الضمير الذي في "خلق" لا من نفس الموصول.

وقال أبو البقاء: "وجعل فيها" مستأنف غير معطوف على "خلق" لما يلزم الفصل، وليس من الصلة في شيء.

وقلت: الكلام مفرغ في قالب محكم رصين لا يجوز التفكيك لا بالحال ولا بالاستئناف، فإن قوله:{وَجَعَلَ} عطف على {خَلَقَ} ، وكذلك {وَتَجْعَلُونَ} عطف على "تكفرون" وكأن أصل الكلام: أئنكم لتكفرون بالذي حلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها، بدليل قوله:{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً} لأنه فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها، كما قال المصنف، وفيه تصريح بأن "جعل" معطوف على "خلق"، ثم لمزيد الإنكار جيء بقوله:{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا} أبين من "تكفرون" و {رَبُّ الْعالَمِينَ} أجمع من "الذي خلق الأرض" ومن ثم قال المصنف: "ذلك الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين هو رب العالمين" نظيره قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على {سَبِيلِ اللَّهِ} .

قال المصنف: "فإن قلت: كيف ساغ العطف قبل الفراغ من المعطوف عليه؟ قلت: إنما ساغ لأن {وَكُفْرٌ بِهِ} في معنى الصد عن سبيل الله، واتحادهما جوز ذلك، كأنه قيل: صد عن سبيل الله والمسجد الحرام، كذلك ها هنا التقدير: أئنكم لتجعلون أندادًا لمن خلق

ص: 570

{رَواسِيَ} جبالًا ثوابت. فإن قلت: ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِها} ؟ وهلا اختصر على قوله: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} ، كقوله:{وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ} [المرسلات: 27]، {وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ} [الأنبياء: 31]، {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ} [النلم: 61]! قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مركوزة فيها كالمسامير لمنعت من الميدان، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض؛ لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأرض في يومين وجعل فيها كذا وكذا؟ ".

وقال الراغب: لا بد من أحد أمرين، إما أن ينوي بقوله:{وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} التقديم حتى يعطف على {خَلَقَ} ، وينوي قبله:{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا} التأخير، وهذا مما يجوز في ضرورات الشعر، وإما أن يعطف على فعل مثل ما وقع في الصلة بدلالة الأول عليه، فيضمر "خلق الأرض" ثم يعطف عليه {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} كأنه قيل: أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام؟ فيضم اليومان اللذان يقتضيهما خلق الأرض إلى اليومين اللذين هما لخلق ما فيها، والوجه ما قررناه.

قوله: (ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِها}؟ )، أي ما فائدة الزيادة في هذه الآية؛ لأن تلك الآيات التي وردت بدون هذه الزيادة معطية معنى الفوقية من غير ذكره؟ وأجاب: فائدتها التنبيه على الحكمة التي اقتضت جعلها كذلك؛ لأنها لو كانت تحتها كالأساطين جعل للأرض الاستقرار على الأساطين، لكن فإن منافع الجبال كما لو كانت الجبال مركوزة فيها، حاصله أن القصد من خلق الجبال المنع من ميدان الأرض كما قال تعالى:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] وكان ذلك إما بجعلها كالأساطين أو بجعلها مركوزة فيها أو بجعلها رواسي شامخات، فاختير الثالث لإفادة المنافع المذكورة مع حصول ما قصد منها.

قوله: (الميدان)، الجوهري: ماد الشيء يميد ميدًا: تحرك.

قوله: (معرضة) هو من قولهم: أعرض لك الخير، إذا أمكنك. يقال: أعرض لك

ص: 571

لمحصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه، وهو ممسكها عز وعلا بقدرته. {وَبارَكَ فِيهَا}: وأكثر خيرها وأنماه، {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها}: أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وفي قراءة ابن مسعود: (وقسم فيها أقواتها)، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) فذلكة لمدة خلق الأرض وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. قيل: خلق الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء. وقال الزجاج:{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامِ} :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الظبي، إذا أمكنك من عرضه، إذا ولاك عرضه، وأعرضت الشيء فأعرض، أي: أبرزته فبرز.

قوله: (وليبصر أن الأرض)، بيانه ما قال الإمام: أنه تعالى لو جعلها على غير هذه الصورة لأفهم أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض عن النزول، ولكنه تعالى خلق هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان أن الأرض والجبال أثقال على أثقال وكلها مفتقرة إلى حافظ وممسك، وما ذاك إلا الله تعالى.

قوله: (فذلكة) الفذلكة في الحساب: هي أن تذكر أولًا أشياء مفصلًا، ثم تجمع تلك التفاصيل، وتكتب في معرض الحساب: فذلك كذا وكذا.

قوله: (قيل: خلق الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين) روينا عن مسلم عن أبي هريرة، قال:"أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة فيها فيما بين العصر إلى الليل".

قوله: (وقال الزجاج) وكلامه: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها

ص: 572

في تتمة أربعة أيام. يريد بالتتمة اليومين. وقرئ: {سَوَاءً} بالحركات الثلاث؛ الجر على الوصف، والنصب على: استوت سواءً، أي: استواءً، والرفع على: هي سواءٌ. فإن قلت: بم تعلق قوله: {لِلسَّائِلِينَ} ؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو بـ {وَقَدَّرَ} : أي: قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين. وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامِ}، أي: في تتمة أربعة أيام، {سَواءً لِلسَّائِلِينَ} معلق بقوله:{وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها} لكل محتاج إلى القوت. وإنما قيل: {لِلسَّائِلِينَ} لن كلًا يطلب القوت ويسأله، ويجوز أن يكون المعنى لمن سأل: في كم خلقت السماوات والأرضون؟ فقيل: خلقت وما فيها في أربعة أيام سواء جوابًا لمن سأل.

وقال الإمام: نحوه قول القائل: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يومًا، معناه أن المسافتين خمسة عشر. ويقال: أعطيتك ألفًا في شهر وألوفًا في شهرين، فيدخل الألف في الألوف، والشهر في الشهرين.

قوله: (وقرئ: {سَوَاءً} بالحركات الثلاث). قال محيي السنة: أبو جعفر: بالرفع على الابتداء، ويعقوب: بالجر على نعت {أَرْبَعَةِ} ، والباقون: بالنصب على المصدر، أي: استوت سواءً واستواءً.

قوله: (وهذا الوجه الأخير لا يستقيم)، الانتصاف: وجه امتناعه على الأول أن قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامِ} فذلكة ومن شانها الوقوع في طرف الكلام، فلو جعل {لِلسَّائِلِينَ} متعلقًا بـ"قدر" على تأويل حذف التتمة تعلق الظرف بالمظروف ولا يتم الكلام. وقال: وتفسير الزجاج أرجح؛ إذ هو مشتمل على ذكر مدة خلق الأقوات بالتأويل الغريب الذي قدره،

ص: 573

تفسير الزجاج. فإن قلت: هلا قيل: في يومين! وأي فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت: إذا قال في أربعة أيام، وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين؛ علم أن ما فيها خلق في يومين، فبقيت المخايرة بين أن يقول: في يومين، وأن يقول: في أربعة أيام سواء، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين؛ وهي الدلالة على أنها كانت أيامًا كاملة بغير زيادة ولا نقصان. ولو قال: في يومين، وقد يطلق اليومان على أكثرهما:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومضمن ما يقوم مقام الفذلكة؛ إذ قد ذكر جملة العدد الذي هو ظرف لخلقها وخلق أقواتها، وعلى اختيار الزمخشري تكون الفذلكة مذكورة من غير تقدم تصريح بجملة تفاصيلها، فلم يذكر سوى يومين، والفذلكة بتقدم فيها النص على جميع أعدادها، كقوله:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].

وقلت: أي حاجة إلى النص وقد دل التنصيص في قوله: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} على أن التقدير: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين، ثم يقال: كل ذلك في أربعة أيام؟ على أن في تفسير الزجاج الاختلاف الذي بين الإمامين.

قال الشافعي: المتعقب للجمل يعود إليها جميعًا، وأبو حنيفة خص بالأخيرة، ولنا الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات.

قوله: (وقد يطلق اليومان على أكثرهما)، قال صاحب "الفرائد": لا شك أنه صح أن يقال: فعلته في يومين، وكان الفعل في أقل منهما. ويصح أن يقال: فعلته في يومين، وكان الفعل في أكثر منهما. فإذا عرفت هذا تقول: يمكن أن يكون خلق الأرض في أقل من يومين، وجعل رواسي من فوقها، وتقدير الأقوات وغيرهما في يومين وبقية اليومين المذكورين، وكان خلق الأرض وجعل رواسي فيها وغيره في أربعة أيام من غير زيادة ولا نقصان، فعلى هذا لم يجز إلا أن يقال: في أربعة أيام.

ص: 574

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: قوله: "قد يطلق اليومان على أكثرهما" غير مختص بل على أقل منهما أيضًا، وقد يراد باليومين يوم ونصف مثلًا، فإن بعض الشيء قد يسمى باسمه كقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والمراد شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر، وفيه بحث؛ لأن أبا علي قال في "الحجة": "سمي الشهرين وبعض الثالث أشهرًا، لأن الاثنين قد يوقع عليه لفظ الجمع، كما في قوله:

ظهراهما مثل ظهور الترسين

فعلى هذا لا يجوز أن يوقع على الاثنين وبعض الثالث "قروء" في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، لأن هذا محصور بالعدد فلا يكون اثنان وبعض الثالث ثلاثة"، وهذا يدفع قول المصنف: "وقد يطلق اليومان على أكثرهما".

وقلت: لا يدفع؛ لأن إطلاق الجمع على الاثنين وعلى أكثر منه بطريق الاشتراك واختلاف اللغتين سائغ وإطلاق العدد المخصوص على أكثر منه وأقل بطريق التغليب والمجاز شائع، ومن ثم قال في قوله تعالى:{فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وقد فسر بأنه تعالى خلق السماوات في يومين وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم، في هذا دليل على ما ذكرته من أنه لو قيل:"في يومين" في موضع "أربعة أيام سواءً" لم يعلم أنهما يومان كاملان أم ناقصان؛ لأنه تعالى لم يخلق السماوات في يومين كاملين على هذا؛ لأنه خلق آدم في آخر ساعة من باقي اليوم، وكما دل عليه الحديث الذي رويناه عن مسلم.

فإن قلت: ما الداعي إلى صرف الآية عن حقيقتها، وانه تعالى حلق الأرض في يومين وخلق ما فيهما في أربعة أيام؟ قلت: لزوم ما قاله الإمام أن قوله: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} إذا جمع مع العدد يصير ثمانية، وقد ذكر في سائر الآيات أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.

ص: 575

لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما. {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ} : من قولك: استوى إلى مكان كذا؛ إذا توجه إليه توجهًا لا يلوى على شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه قولهم: استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى:{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت: 6]، والمعنى: ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل: كان عرشه قبل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج)، الراغب: المساواة: المعادلة المعتمدة بالذرع والوزن والكيل، وقد يعتبر بالكيفية، ونحو: هذا السواد مساوٍ لذلك السواد، وإن كان تحقيقه راجعًا إلى اعتبار مكانه دون ذاته، واستوى على الوجهين؛ بمعنى: تساوى، كقوله تعالى:{لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ} [التوبة: 19]، وبمعنى اعتدال الشيء في ذاته، نحو قوله تعالى:{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29] واستوى أمر فلان، ومتى عدي بـ"على" فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى:{الرَّحِمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقيل: معناه: استوى له ما في السماوات وما في الأرض، أي استقام الكل على مراده بتسويته تعالى إياه، كقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29 [وإذا عدي بـ"إلى" فبمعنى الانتهاء إليه، إما بالذات أو بالتدبر، وعلى الثني قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ} والمساواة متعارفة في المثمنات، يقال: هذا الثوب يساوي كذا. وأصله من ساواه في القدر، قال تعالى: [حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96].

قوله: (ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها) سوء أدب، ومعناه مشكل مع قوله بعد هذا:"خلق جرم الأرض أولًا غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء" وقوله في البقرة: "جرم الأرض تقدم خلقه السماء، وأما دحوها فمتأخر"، وبيانه ما ذكر الإمام أن الله سبحانه وتعالى بين أنه خلق الأرض في يومين، ثم إنه تعالى في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال.

ص: 576

خلق السماوات والأرض على الماء، فأخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء، فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يستقيم دخولها في الوجود إلا بعد الدحو، وأيضًا إنه لا نزاع أن قوله تعالى:{فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} كناية عن إيجاد السماء والأرض، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله:{ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} يقتضي إيجاد الموجود.

ونقل الواحدي في "البسيط" عن مقاتل أنه قال: خلق السماء قيل: قبل الأرض، وتأويل الآية: ثم استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يخلق الأرض، على الإضمار، ثم قال: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض، والخلق ها هنا ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل عن التقدير كما في قوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ىل عمران: 59] لئلا يلزم أنه تعالى قال للشيء الذي وجد: كن، والتقدير في حق الله سبحانه وتعالى حكمه بأنه سيوجد ويقضى بذلك، وعليه معنى الآية.

وقال القاضي: والظاهر أن "ثم" لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في المدة؛ لقوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] مقدم على خلق الجبال من فوقها.

وقال صاحب "الكشف": قال قوم: إن "ثم" لترتيب الخبر على الخبر، أخبر أولًا بخلق الأرض ثم اخبر بخلق السماء، وقد تقدم مثل هذه الآية، آي جمة.

قوله: (وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه) قال القاضي: معنى {ائْتِيا} ائتيا

ص: 577

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعت فيكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو ائتيا في الموجود، على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب في المرتبة، أو للإخبار، ومعنى {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده، لا إثبات الطوع والكره لهما. ومعنى {أَتَيْنا طائِعِينَ} الأظهر أنه تصوير تأثير قدرته فيهما، وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع الطائع، كقوله:{كُنْ فَيَكُونَ} [البقرة: 117].

وقلت: يرد على تأويل الإمام إشكالان: أحدهما: ترتب الفاء في قوله: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} فإنه يوجب أنه تعالى بعدما خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام استوى إلى خلق السماوات فقضاهن في يومين تكملة للعدد المذكور في قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة: 4]. وثانيهما: تأويله "خلق الأرض في يومين" بـ"قدر" لا يساعد عليه عطف "وجعل فيها""وقدر فيها" لأن كلًا من ذلك فعل خاص.

والظاهر - والعلم عند الله-: أن "ثم" للتراخي في المرتبة، كما سبق في "البقرة" عن المصنف في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] ترقيًا من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الكلام مع المعاندين المتمردين، كما ترقى الخليل عليه السلام مع قومه في الأخذ من الكواكب إلى القمر ثم الشمس، وختم الكلام بقوله:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] ألا ترى إلى أنه تعالى لما ختم الكلام قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} والمعنى: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وفعل كذا وكذا، وأعظم من ذلك أنه استوى- أي: قصد إلى خلق السماء- وهي شيء حقير ظلماني كالدخان- {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ * فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} ، وكان الأصل: فقضاهن سبع سماوات في يومين، وخلق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسي وقدر فيها أقواتها الآية {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فقدم وأخر

ص: 578

ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلًا ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض، وقال لهما: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه، فقالتا: أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: اسأل من يدقني، فلم يتركني، ورائي الحجر الذي ورائي. فإن قلت، لم ذكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لتلك النكتة، ثم قال:{فَإِنْ أَعْرَضُوا} أي: فإن أعرضتم بعدما تتلى عليكم هذه الحجج على الوحدانية والقدرة التامة فكنتم محجوبين، فيترتب العذاب عليكم كما فعل بأشياعكم من قبل، وفيه التفات. وهذا التأويل موافق لما نقل الواحدي عن مقاتل، ولما قال القاضي، أو الترتيب في المرتبة أو الإخبار، والله أعلم.

قوله: (ويجوز أن يكون تخييلًا) يعني إثبات المقاولة مع السماء والأرض يمكن أن يكون من الاستعارة التمثيلية كما سبق، ويجوز أن يكون من الاستعارة التخييلية بعد أن تكون الاستعارة في ذاتها مكنية كما تقول: نطقت الحال، بدل "دلت" فتجعل الحال كالإنسان الذي يتكلم في الدلالة والبرهان، ثم تتخيل له النطق الذي هو من لازم المشبه به وينسب إليه. وأما بيان الاستعارة التمثيلية فهو انه لما شبه فيه حالة السماء والأرض والمقاولة بينهما وبين فاطرهما في إرادة تكوينهما أو إيجادهما بحالة آمر ذي جبروت له نفاذ في سلطانه وإطاعة من تحت ملكه من غير ريب. والأوجه أن يراد بقوله:"تخييلًا" تصويرًا لقدرته وعظمة سلطانه، وأن القصد في التركيب إلى أخذ الزبدة والخلاصة من المجموع على سبيل الكناية الإيمائية من غير نظر إلى مفرداته كما سبق في قوله:{والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ويعضده قوله: من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب.

قوله: (فلم يتركني، ورائي) الواو في "ورائي" الأول بمعنى "مع"، "ورائي" الأول:

ص: 579

الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولًا غير مدحوّة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} [النازعات: 30]، فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائتي يا أرض مدحوّة قرارًا ومهادًا لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفًا لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما تقول: أتى عمله مرضيًا، وجاء مقبولًا. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة والتدبير؛ من كون الأرض قرارًا للسماء، وكون السماء سقفًا للأرض. وتنصره قراءة من قرأ:(آتيا)، و (آتينا) من المواتاة؛ وهي الموافقة، أي: لتؤات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا: وافقنا وساعدنا. ويحتمل: وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت: ما معنى: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} ؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن تحت يده:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بمعنى النظر والرأي، والواو في "ورائي" الثاني عاطفة، و"ورائي" بمعنى خلفي.

قوله: (ويجوز أن يكون المعنى) عطف على قوله: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف وعليه كلام القاضي: ائتيا لما خلقت فيكما من التأثير والتأثر.

قوله: (قراءة من قرأ: (آتيا)، و (آتينا) من المواتاة) قال ابن جني: قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: "آتينا طائعين" بالمد من "فاعلنا" نحو سارعنا وسابقنا، ولا يكون أفعلنا؛ لأن ذلك متعد إلى مفعولين، و"فاعلنا" متعد إلى واحد، وحذف الواحد أسهل، ولما في "سارعنا" من معنى "أسرعنا".

قوله: (من المواتاة؛ وهي الموافقة)، الجوهري: يقال: أتيته على ذلك الأمر مواتاة؛ إذا وافقته وطاوعته.

ص: 580

لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعًا أو كرهًا. وانتصابهما على الحال، بمعنى: طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل: طائعتين، على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى. لأنها سماوات وأرضون! قلت: لما جعلن مخاطبات ومجيبات، ووصفن بالطوع والكره؛ قيل: طائعين، في موضع: طائعات، نحو قوله:{سَّاجِدِينَ} [يوسف: 4]. {فَقَضاهُنَّ} : يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى، كما قال:{طائِعِينَ} ، ونحوه:{أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، ويجوز أن يكون ضميرًا مبهمًا مفسرًا بـ {سَبْعِ سَموَاتٍ} ، والفرق بين النصبين: أن أحدهما على الحال، والثاني على التمييز. قيل: خلق الله السماوات وما فيها في يومين، في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وفي هذا دليل على ما ذكرت، من أنه لو قيل: في يومين في موضع (أربعة أيام سواء)، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان. فإن قلت: فلو قيل: خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين! أو قيل بعد ذكر اليومين: تلك أربعة سواء! قلت: الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن، طباقًا لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك الركب؛ ليتميز الفاضل من الناقص، والمتقدم من الناكص، وترتفع الدرجات، ويتضاعف الثواب. {أَمْرَها}: ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. أو شأنها وما يصلحها. {وَحِفْظًا} : وحفظناها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والفرق بين النصين)، أي: في قوله: "سبع سماوات" وذلك أن الضمير في "فقضاهن" إذا رجع إلى السماء على المعنى كائنة سبع سماوات أو متعددة سبع سماوات، وإذا كان الضمير مبهمًا كان "سبع سماوات" نصبًا على التمييز والتفسير، نحو: ربه رجلًا.

قوله: (من مغاصات القرائح)، مغاصات: جمع الغوص على غير قياس؛ أو جمع المغاص من المصدر الميمي لاختلاف أنواعه، وكذا المصاك جمع مصك.

قوله: (أو شأنها) عطف على قوله: "ما أمر به" والأمر على الأول: مصدر؛ بمعنى

ص: 581

حفظًا، يعني: من المسترقة بالثواقب. ويجوز أن يكون مفعولًا له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظًا.

[{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} 13 - 14]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واحد الأوامر. وقوله: "من خلق الملائكة" بيان، أي: قيل فيها للملائكة والنيرات: "كن"، وفي "شرح التأويلات": أي: أمر أهل كل سماء أمرها وامتحنهم بمحنة. وعلى الثاني: اسم بمعنى واحد الأمور.

قوله: (حفظًا) يعني: من المسترقة بالثواقب، وعن بعضهم: ومن الزوال؛ ليكون الإطلاق مفيدًا فائدة جديدة سوى ما فهم من المفيد في قوله: {وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 7].

قوله: (كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظًا)، هذا على أن يكون من عطف المفرد على المفرد. وقوله:"وحفظناها حفظًا" على أن يكون من عطف الجملة على الجملة، وهذا أحسن وأغرب وأوكد وللإيجازات التنزيلية أنسب وللفائدة أملأ بكونه أن التقدير: وزينا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظناها، فدل بالفعل في الأول علة إضمار فعل في الثاني مناسب للمصدر المذكور، ودل بالمصدر في الثاني على إضمار مصدر مناسب للفعل المذكور، مثله قول القائل:

يرمون بالخطب الطوال وتارة .... وحي الملاحظ خيفة الرقباء

أي: يرمون رميًا، ويوحون وحيًا. ومنه قوله تعالى:{أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]، أي: أصلها ثابت في الأرض، وفرعها متصاعد في السماء.

ص: 582

{فَإِنْ أَعْرَضُوا} بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة، أي: عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. وقرئ: (صعقة مِثْلَ صعقة عاد وثمود)؛ وهي المرة من الصعق أو الصعق. يقال: صعقته الصاعقة صعقًا فصعق صعقًا، وهو من باب: فعلته ففعل.

{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي: أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما حكى الله عن الشيطان:{لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17]، يعني: لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة، وتقول: استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة. وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة؛ لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم. وقيل: معناه: إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم.

فإن قلت: الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاءوهم؟ وكيف يخاطبونهم بقولهم: {فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} ؟ قلت: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم- أي: من قبلهم- وممن يجيء من خلفهم- أي: من بعدهم- فكأن الرسل جميعًا قد جاءوهم. وقولهم: {فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} : خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. "أن" في {أَلَّا تَعْبُدُوا} بمعنى "أي"، أو مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا، ومفعول {شَاءَ} محذوف،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأنه صاعقة) قال: الصاعقة: قصفة رعد ينقض معها شقة من نار.

قوله: (صعقته) أي: أهلكته، (فصعق صعقًا)، أي: مات، إما بشدة الضرب أو بالإحراق.

ص: 583

أي: {لَوْ شاءَ رَبُّنا} إرسال الرسل {لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} معناه: فإذ أنتم بشر ولستم بملائكة؛ فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به. وقولهم: {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} بِهِ ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكم، كما قال فرعون:{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. روي: أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلًا عالمًا بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علمًا، وما يخفى علي. فأتاه، فقال: أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ ! فإن كنت تريد الرياسة: عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تك بك الباءة: زوّجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال: جمعنا لك ما تستغني به. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال:"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {حم} إلى قوله: "{مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1 - 13] "، فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه، وقالوا: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت. فغضب، وأقسم لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عقدنا لك اللواء)، النهاية: وفي حديث عمر: "هلك أهل العقد"، يعني: أصحاب الولايات على الأمصار، هو من عقد الألوية للأمراء.

قوله: (الباءة)، الباءة فيها ثلاث لغات: الباء، والباه، بالهاء عراقي وهو أرذلها، والباءة. وفي الحديث:"يا معشر الشباب من خاف منكم الباءة فعليه بالصوم، فإنه لو وجاء".

ص: 584

يكلم محمدًا أبدًا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.

[{فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} 15 - 16]

{فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} أي: تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم؛ وهو القوّة وعظم الأجرام. أو: استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية. {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} : كانوا ذوى أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ من قوّتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده. فإن قلت: القوّة هي الشدّة والصلابة في البنية، وهي نقيضة الضعف، وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل)، الانتصاف: فسر الزمخشري القدرة بخلاف ما قاله المتكلمون، ثم عاد إلى تفسيرها بالقدرة، وجعل الفرق بينهما أن قدرة الله لذاته، وقدرة المخلوق بقدرته، فهو كما قال: زيد أفضل من عمرو، بمعنى سلب القدرة عن زيد الأفضل، والحق أن قدرة العبد مقارنة لفعله، لا قبله ولا بعده، غير مؤثرة في إيجاده، وقدرة الله -جلت قدرته- مؤثرة في جميع المقدورات أزلًا وأبدًا عامة التعلق.

قال الإمام في "شرح أسماء الله الحسنى": اتفق الخائضون في تفسير أسمائه الحسنى على أن القوة ها هنا عبارة عن كمال القدرة، وعندي أن كمال حال الشيء في أن يؤثر يسمى قوة، وكمال حال الشيء ألا يقبل الأثر من الغير يسمى أيضًا قوة، فإن حملنا القوة في حق الله تعالى

ص: 585

من تميز بذات أو بصحة بنية، وهي نقيضة العجز، والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوّة إلا على معنى القدرة، فكيف صحّ قوله:{هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، وإنما يصح إذا أريد بالقوّة في الموضعين شيء واحد؟ قلت: القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوّة والشدّة والصلابة في البنية، وحقيقتها: زيادة القدرة، فكما صحّ أن يقال: الله أقدر منهم، جاز أن يقال: أقوى منهم، على معنى: أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم. {يَجْحَدُونَ} : كانوا يعرفون أنها حق، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة، وهو معطوف على:{فَاسْتَكْبَرُوا} ، أي: كانوا كفرة فسقة. الصرصر: العاصفة التي تصرصر، أي: تصوّت في هبوبها. وقيل: الباردة التي تحرق بشدّة بردها، تكرير لبناء الصر؛ وهو البرد الذي يصر؛ أي: يجمع ويقبض. {نَحِساتٍ} قرئ بكسر الحاء وسكونها. ونحس نحسًا: نقيض سعد سعدًا، وهو نحس. وأما نحس:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على كونه كاملًا في التأثير في قوته هو كونه ثابتًا وحقًا لذاته؛ لأن كل ما كان بالذات لا يقبل الأثر.

قوله: (من تميز بذات)، عن بعضهم: أي: تخصص بذات الله، و"من" بيان "ما".

قوله: (جحدوها كما يجحد المودع الوديعة)، الراغب: الجحود: نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. يقال: جحد جحودًا وجحدًا، قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] وتجحد تخصص بفعل ذلك، يقال: رجل جحد شحيح، قليل الخير يظهر الفقر. وأرض جحد، قليل النبت.

قوله: (أي: كانوا كفرة فسقة)، والظاهر: كانوا فسقة كفرة؛ لأن قوله: {وكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} دل على كفرهم، وقوله:{فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} دل على فسقهم؛ لأن الاستكبار طلب العلو وهو موجب فساد الأرض، قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] فيكون ترقيًا من الأدنى إلى الأغلظ.

قوله: ({نَحِسَاتٍ} قرئ بكسر الحاء): الكوفيون وابن عامر، والباقون: بسكونها.

ص: 586

فإمّا مخفف نحس، أو صفة على فعل، كالضخم وشبهه، أو وصف بمصدر. وقرئ:(لنذيقهم)، على أنّ الإذاقة للريح، أو للأيام النحسات. وأضاف العذاب إلى الخزي -وهو الذل والاستكانة- على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزٍ، كما تقول: فعل السوء، تريد: الفعل السيئ، والدليل عليه قوله:{وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى} ، وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به، ألا ترى إلى البون بين قوليك: هو شاعر، وله شعر شاعر.

[{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} 17 - 18]

وقرئ: {ثَمُودُ} بالرفع والنصب منونًا وغير منون، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عذاب خز) الأصل: خزي، أعل إعلال "قاض"، أي: عذاب ذليل؛ لأن الخزي هو الذل والاستكانة، وإنما المعذب ذليل مهان، فهو على الإسناد المجازي. الجوهري: خزي بالكسر يخزى خزيًا: ذل وهان. قال ابن السكيت: وقع في بلية وأخزاه الله، والدليل على أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة، قوله تعالى:{وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى} ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصف الكفار به؛ لما يلزم منه انه بلغت ذلتهم إلى أن سرت إلى ما يلابسهم من العذاب نحو قولك: شعر شاعر، أي: بلغ الرجل في الشاعرية إلى أن شعره أيضًا شاعر. قال المتنبي:

وما انا وحدي قلت ذا الشعر كله .... ولكن شعري فيك من نفسه شعر

قوله: (قرئ: {ثَمُودُ} بالرفع والنصب)، الرفع: هو المضهور، والنصب: شاذ.

ص: 587

وقرئ بضم الثاء. {فَهَدَيْناهُمْ} : فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، كقوله تعالى:{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدى} : فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، بمعنى: تحصيل البغية وحصولها، كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم، وأزاح عللهم، ولم يبق له عذرًا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. {صاعِقَةُ الْعَذابِ}: داهية العذاب، وقارعة العذاب. والْهُونِ: الهوان، وصف به العذاب مبالغة، أو أبدله منه، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية -الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم، وكفى به شاهدًا- إلا هذه؛ لكفى بها حجة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ بضم الثاء) وعن بعضهم: الثمد، قلة الماء، يقال: ركية ثمود، قليلة الماء. والثمود جمع ثمد، فكأنهم سموا بذلك؛ لأنهم كانوا قليلي الماء.

قوله: (ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية -الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم، وكفى به شاهدًا- إلا هذه؛ لكفى بها حجة) أنطقه الله الذي أنطق كل شيء.

نبه أهل السنة على الأدلة التي تلزمهم والحجة التي تبهرهم، وها هنا أبحاث لا بد منها، وهي أن القدر ما هو لغة وعرفًا؟ ثم بعد تحققه من أولى بهذه التسمية؟ ثم ما وجه مناسبة القدري بالمجوس؟ ثم تلفيق الآية بعد تحقق معناها.

فنقول -وبالله التوفيق-: أما تحقيق القدر لغة فقد ذكر في "الأساس": هو قادر مقتدر وقدرة ومقدرة، وأقدره الله عليه وقادرته، قاويته. والأمور تجري بقدر الله ومقداره وتقديره وأقداره ومقاديره.

الجوهري: القدر ما يقدر الله تعالى من القضاء. وقال أبو سليمان الخطابي: معنى

ص: 588

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القدر والقضاء الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق له خيرها وشرها. والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر، كالهدم والقبض اسم لما صدر عن فعل الهادم والقابض. يقال: قدرت الشيء بالتخفيف والتثقيل. وأما النقل فقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {[القمر: 49] وسيجيء تقريره.

وروينا عن الترمذي وأبي داود: قال عبد الرحمن بن سليم: قدمت مكة فلقيت عطاء بن رباح فقلت: يا أبا محمد، إن بالبصرة قومًا يقولون: لا قدر. قال: يا بني، أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ "الزخرف فقرأت: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1 - 2] إلى قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] قال: أتدري ما الكتاب؟ فقلت: لا. قال: فغنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السماوات والأرض، فيه ان فرعون من أهل النار، وفيه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].

وعن البخاري ومسلم، عن عمر وأبي هريرة:"ان تؤمن بالقدر خيره وشره"، الحديث المستفيض. وعن مسلم ومالك وأحمد بن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل شيء بقدر حتى العجز والكيس".

والحاديث المروية في القدر لا تحصى كثرة، فثبت بما أوردناه أن اسم القدر يطلق على ما يقدره الله من الخير والشر، وبناء النسبة منه قدري، وهو يحتمل في نفسه ان يكون صفة مدح وصفة ذم، ويحتمل ان يطلق على من يقول: إن المقدورات كلها بخلق الله تعالى، وعلى من يثبت للغير قدرة مستقلة، رجحنا الثاني لكونها صفة ذمه، وأن القول بإثبات القدرة للغير على خلاف قول الله تعالى وقول رسوله صلوات الله عليه، فثبت ان هذا الوصف بالمعتزلة أولى.

ص: 589

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروينا عن أبي داود عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل امة مجوس، ومجوس هذه المة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيع الدجال". وعنه عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القدرية مجوس هذه المة". الحديث.

واما وجه المشابهة فإن القدرية يثبتون قادرًا مستقلًا غير الله، كما أن المجوس يثبتون قادرين فاعلين: فاعل خير محض وفاعل شر محض، ويسمون الأول بيزدان والثاني باهرمن. واما تفسير الهداية بالدلالة الموصلة إلى البغية حقيقة، وبمجرد الدلالة مجازًا عن إزاحة العلة وتمكينهم على الإيمان، فقول مجرد عن تقليد المذهب وقد استقصينا القول فيها في "البقرة".

قال صاحب "الانتصاف": الهدى من الله خلق الهدى في قلوب المؤمنين، والإضلال خلق الضلال في قلوب الكافرين، وقد استعملا مجازًا في غير ذلك، ففي هذه الآية المراد البيان، وقد اتفق الفريقان على ان الهدى ها هنا مجاز غير أن اهل السنة يحملونه في كثير من المواضع على الحقيقة، والمعتزلة يجعلونه مجازًا في جميع موارده، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأي دليل في هذه الآية لأهل البدعة؟

قال الإمام: قالت المعتزلة: الآية دالة على انه تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل؛ إلا أن الإيمان يحصل من العبد؛ لأن قوله: {وًامَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} يدل على نصب الأدلة وإزاحة العلة. وقوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} يدل على أنهم من عند أنفسهم اتوا بذلك العمى.

ص: 590

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والجواب من وجهين: أحدهما: أنه صدر عنهم ذلك العمى؛ لأنهم استحبوا تحصيله فلم وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة ضده؟ فإن حصل لا لمرجح فهو باطل، وإن كان من العبد عاد الطلب، وإن كان من الله فهو المطلوب. وثانيهما: أنه تعالى قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} ، ومن المعلوم أن احدًا لا يحب العمى والجهل؛ لكونه عمىَ وجهلَا، بل ما لم يطلق فيهما كونهما بصيرة وعلمًا لا يرغب فيه، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد ان يكون مسبوقًا بجهل آخر لا عن اختيار منه.

ثم قال الإمام: شرع صاحب "الكشاف" ها هنا في سفاهة عظيمة والأولى ألا يلتفت إليه؛ لأنه وغن كان يعى سعيًا حسنًا فيما يتعلق بالألفاظ؛ إلا أنه كان بعيدًا من هذه المعاني.

وقلت: هذا يشعر بأن الإمام أقر أن ظاهر الألفاظ التنزيلية مع المصنف، لكن دلائل العقل لا تساعد عليه، وليس كذلك؛ لأن الألفاظ أيضًا تنبو عن تفسيره، وبيانه: أنا نوافقه ان الهدى ها هنا مستعمل في مجرد الدلالة إما مجازًا على ما قال او حقيقة إذا قلنا بالاشتراك، لكن الخلاف في آية البيان والدلالة، أو لإزاحة العلة والتمكين على الهدى بمثابة تحصيل البغية فيم بتحصيل ما يوجبها فلينظر إلى مقتضى المفام ليظهر الحق، فإنه كثيرًا ما يصرف اللفظ المستقيم من جهة النحو واللغة عن موضعه للتناسب المعنوي كما فعل في قوله:{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة آية: 5 - 6] قال: "قيل: الطاغية مصدر كالعافية، أي: بطغيانهم، وليس بذاك؛ لعدم الطباق بينها وبين قوله: {رِيحًا صَرْصَرًا} "، وفسرها بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة لتوافق قوله: بالعاتية.

وفي هذا المقام أغمض عن ذلك عصبيته، وذلك ان قوله:{وًامَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} معطوف على قوله: {وَأَمَّا عَادٌ} وهما تفصيل لما أجمل، ونشر لما لف في قوله:{أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} ألا ترى كيف جمعهما وعم فيه قوله:

ص: 591

[{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 19 - 21]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ؟ قال: يحشر الله عز وجل أعداء الله الكفار من الأولين والآخرين، فإن قوله:"فهديناهم" في مقابل {إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ} وأن قوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} في مقابل {قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} الآية، وكذا في قوله:{فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا} فصيحة تفصح عن محذوف، أي فهديناهم فاستكبروا، بدلالة قرينتها، فظهر أن المراد من قوله:"فهديناهم" دللناهم إلى الإيمان وبينا لهم سبيل الرشاد، يعني: أرسلنا إليهم صالحًا يدعوهم إلى التوحيد والعبادة فاستحبوا العمى على الهدى فأحبوا التقليد والإقامة على ما كانوا عليه من الكفر والضلالة. ويؤيد هذا التفسير إجماع المفسرين قاطبة.

قال محيي السنة: {وًامَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} دعوناهم. قال مجاهد وقال ابن عباس: بينا لهم سبيل الهدى. وقيل: دللناهم على الخير والشر، كقوله:{هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} فاختاروا الكفر على الإيمان.

وروى الزجاج عن قتادة: بينا لهم طريق الهدى وطريق الضلالة. وروى الواحدي عن الفراء: دللناهم مذهب الخير بإرسال الرسل فاختاروا الكفر على الإيمان، وعليه أول كلامه. وهذا القدر لا يمنع من تقدير الله فيهم الكفر؛ لأن القول بالكسب حق، وإذا وافق أقوال المفسرين ذلك النظم السري كيف يتوهم أن الألفاظ تساعد قوله، والحمد لله على ذلك.

ص: 592

قرئ: {يُحْشَرُ} على البناء للمفعول، و (نحشر) بالنون وضم الشين وكسرها، و:(يحشر): على البناء للفاعل، أي: يحشر الله عز وجل، {أَعْداءُ اللَّهِ}: الكفار من الأوّلين والآخرين. {يُوزَعُونَ} أي: يحبس أوّلهم على آخرهم، أي: يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار نسأل الله أن يجيرنا منها بسعة رحمته. فإن قلت:{مَا} في قوله: {حَتَّى إِذا ما جاؤُها} ما هي؟ قلت: مزيدة للتأكيد، ومعنى التأكيد فيها: أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها. ومثله قوله تعالى:{أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] أي: لا بدّ لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. شهادة الجلود بالملامسة للحرام، وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات. فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت: الله عز وجل ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلامًا. وقيل: المراد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: {يُحْشَرُ} على البناء للمفعول) نافع: "ويوم نحشر" بالنون مفتوحة وضم الشين، و"أعداء الله" بالنصب. والباقون: بالياء مضمومة وفتح الشين، {أَعْداءُ اللَّهِ} بالرفع.

قوله: (وهي عبارة عن كثرة أهل النار)، أي: كناية. قال في قوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] أي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك الكثرة العظيمة. قال صاحب "الكشف": عالم الظرف -يعني "يوم"- ما دل عليه {يُوزَعُونَ} .

قوله: (الله تعالى ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلامًا)، قال الإمام: فعلى هذا يلزم ان يكون المتكلم هو الله تعالى؛ لأنه هو الذي فعل الكلام لا ما كان موصوفًا به كما قلتم في الشجرة، كما أنه تعالى متكلم هناك لا الشجرة، كذلك ها هنا الشاهد هو الله تعالى

ص: 593

بالجلود: الجوارح. وقيل: هي كناية عن الفروج، أراد بـ {كُلِّ شَيْءٍ}: كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله:{وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بالبقرة: 284] كل شيء من المقدورات، والمعنى: أنّ نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم أوّل مرّة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه. وإنما قالوا لهم:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا} ؛ لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.

[{وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} 22 - 23]

والمعنى: أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم؛ لأنكم كنتم غير عالمين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا الأعضاء، وظاهر القرآن بخلافه؛ لأنهم قالوا لها:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} .

واما على مذهبنا فسها؛ لأن البنية ليست شرطًا للحياة والعلم والقدرة، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق كل في كل جزء من اجزاء هذه العضاء.

قوله: (ما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم) جعل "أن تشهد" مفعولًا له بإضمار المضاف؛ لأن "يستتر" لا يتعدى بنفسه فلا يكون مفعولًا به. وقال صاحب "الكشف": التقدير من أن يشهد، فحذف، ثم كلامه المستدرك لقوله:{وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ} هذا المفعول له، ولهذا قال:"ولكنكم إنما استترتم لظنكم"، المعنى: لم يكن استتاركم لخوف الحساب في

ص: 594

بشهادتها عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلًا، ولكنكم إنما استترتم لظنكم {أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا} كنتم {تَعْمَلُونَ} ؛ وهو الخفيات من أعمالكم، وذلك الظنّ هو الذي أهلككم. وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ولا يزل عن ذهنه أن عليه من الله عينًا كالئة ورقيبًا مهيمنًا، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشامًا وأوفر تحفظًا وتصونًا منه مع الملأ، ولا يتبسط في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يوم التناد؛ لأنكم قم دهرية، ولكن الخوف لأهل الفضيحة في الدنيا من أبناء جنسكم؛ فاستترتم منهم لا من العالم بالسر والخفيات؛ لأنكم كنتم تعتقدون اعتقاد القلاسفة- خذلهم الله- أن الله غير عالم بما تفعلون في الحجب من ارتكاب الفواحش.

قوله: (وذلك الظنّ هو الذي أهلككم) إنما أدخل ضمير الفعل ليؤذن أن الكلام فيه تخصيص، وذلك من تعريف الظن الموصوف بالموصولة، وإيقاعه خبرًا لاسم الإشارة الدال على ما بعده. جدير من قبله لأجل اتصافه بذلك الظن الفاسد ثم تكرير الظن؛ لأن الأصل: ذلكم أرداكم، وعلى هذا أيضًا إذا جعل {ظَنُّكُمُ} بدلًا من "ذلكم"، لأنه حينئذ توضيح للواضح؛ وتوكيد للنسبة مظيدًا للتقدير، وجعل المشار إليه كالمشخص المعين الذي لا نزاع فيه كما سبق في الفاتحة، "ذلكم" مبتدأ، و {ظَنُّكُمُ} الخبر، و {الَّذِي} نعت للخبر أو خبر بعد خبر، و {أَرْداكُمْ} خبر آخر، ويجوز أن يكون الجميع صفة أو بدلًا، و {أَرْداكُمْ} الخبر، ويجوز أن يكون {أَرْداكُمْ} حالًا.

قال صاحب "الكشف": تقديره: ذلكم ظنكم مرديًا إياكم.

قوله: (أن عليه من الله عينًا كالئة ورقيبًا مهيمنًا)، فيه تجريد.

قوله: (من ربه أهيب)، "من ربه: متعلق بـ"أهيب"، يقال: هاب منه. وقوله: "احتشامًا" يقدر له مثل ذلك، أي؛ احتشامًا من ربه؛ لأن المصدر لا يتقدمه معموله، ولا معمول التمييز يتقدم على عامل التمييز، وكذا لا يتقدم معمول تنازع فيه العاملان على

ص: 595

سره مراقبة من التشبه بهؤلاء الظانين. وقرئ: (ولكن زعمتم). {وَذلِكُمْ} : رفع بالابتداء، و {ظَنُّكُمُ} و {أَرْداكُمْ} خبران، ويجوز أن يكون {ظَنُّكُمُ} بدلًا من {ذلِكُمْ} ، و {أَرْداكُمْ} الخبر.

[{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} 24 - 25]

{فَإِنْ يَصْبِرُوا} لم ينفعهم الصبر، ولم ينفكوا به من الثواء في النار، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا}: وإن يسألوا العتبى -وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعًا مما هم فيه-

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العاملين، ولكن قوله:"منه" مما تنازع فيه أسماء التفضيل، وضميره يعود إلى المؤمن. وقوله:"ما الملأ" مقابل لقوله: "في أوقات خلواته" قهو مثل قولك: زيد قائم أحسن منه قاعدًا في تفضيل إحدى حالتي الشيء على الأخرى، تلخيصه يكون في الخلوة أحسن احتشامًا من ربه من نفسه مع الملأ.

قوله: (وإن يسألوا العتبى، وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون)، الجوهري: أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرتي راجعًا عن الإساءة، والاسم منه: العتبى. واستعتب، طلب أن يعتب، يقال: استعتبته فأعتبني، أي؛ استرضيته فأرضاني.

الراغب: العتب كل مكان ناب بنازله، ومنه قيل للمرقاة ولأسكفة الباب عتبة. واستعير العتب والمعتبة لغلظة يجدها الإنسان في نفسه على غيره، وأصله من العتب وبحسبه قيل: خشنت بصدر فلان ووجد في صدره غلظة، وقولهم: عتبت فلانًا، أي: أبرزت له الغلظة التي وجدت له في الصدر، واعتبت فلانًا: حملته على العتب، ويقال: أعتبته: أزلت عتبه. والاستعتاب: أن يذكر عتبه ليعتب، يقال: استعتبت فلانًا. ويقال: لك العتبى، وهو إزالة ما لأجله يعتب، وبينهم أعتوبة، أي: ما يتعاتبون به.

ص: 596

لم يعتبوا: لم يعطوا العتبى، ولم يجابوا إليها، ونحوه قوله عز وعلا:{أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21]. وقرئ: وإن يستعتبوا {فَمَا هُمْ مِنَ المُعْتَبِينَ} أي: إن سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، أي: لا سبيل لهم إلى ذلك. {وَقَيَّضْنا لَهُمْ} : وقدّرنا لهم، يعنى لمشركي مكة. يقال: هذان ثوبان قيضان: إذا كانا متكافئين. والمقايضة: المعاوضة. {قُرَناءَ} : أخدانًا من الشياطين، جمع قرين، كقوله:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وَقَيَّضْنا لَهُمْ}: وقدّرنا لهم) روي عن المصنف: ومنه: قيض البيضة: قشرها؛ لأنه لباسها، واللباس بقدر اللابس، قال معاوية رضي الله عنه: ولو أن يزيد قياض غوطة دمش رجالًا ما رضيت.

الراغب: في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا} [الزخرف: 36]، أي: نتح ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض.

قوله: (المقايضة: المعاوضة)، الجوهري: قايضت الرجل مقايضة، أي: عاوضته بمتاع؛ وهما قيضان، كما تقول: بيعان.

قوله: (كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ )، الإنتصاف: الآية على ظاهرها، فالله تعالى ينهى عما يريد وقوعه، وبذلك صرحت هذه الآية، فتقول لمن يخرجها عن موضعها: ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه المة بشهادة نبيها صلوات الله عليه سوى هذه الآية لكفى بها، فهذا موضع هذه المقالة التي أنطقه الله بها.

ص: 597

والدليل عليه: {وَمَنْ يَعْشُ} {نُقَيِّضْ} . {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} : ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها. أو {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا واتباع الشهوات، {وَمَا خَلْفَهُمْ}: من أمر العاقبة، وأن لا بعث ولا حساب. {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يعني: كلمة العذاب، {فِي أُمَمٍ}: في جملة أمم. ومثل "في" هذه ما في قوله:

إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ .... فوكًا ففي آخرين قد أفكوا

يريد: فأنت في جملة آخرين، وأنت في عداد آخرين، لست في ذلك بأوحد. فإن قلت:{فِي أُمَمٍ} ما محله؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في {عَلَيْهِمْ} أي: حق عليهم القول كائنين في جملة أمم. {إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} : تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.

[{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ * ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} 26 - 28]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وَمَنْ يَعْشُ} {نُقَيِّضْ})، أي:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، فأوقع {نُقَيِّضْ} -وهو فعل الله- جزاءً للشرط ومسببًا عن فعل العبد خلقًا، وعند أهل السنة: من فعله كسبًا.

وقلت: ويؤيد قول صاحب الانتصاف" قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} أي: حق عليهم قولنا: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].

قوله: (مأفوكًا)، أي: مصروفًا، والإفك: الصرف، وأفكته: صرفته بالكذب والباطل، والأفاك: الذي يصد الناس عن الحق بالكذب.

ص: 598

قرئ: ({وَالْغَوْا فِيهِ})، بفتح الغين وضمها. يقال: لغى يلغى، ولغا يلغو. واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته. قال:

من اللغا ورفث التكلم

والمعنى: لا تسمعوا له إذا قرئ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: قريء ({وَالْغَوْا فِيهِ}، بفتح الغين وضمها) الفتح مشهورة، والضم شاذ، قال صاحب "المطلع": هي قراءة عيسى بن عمر، وهو على الفتح من حد: صنع، وعلى الضم من حد: دخل، قاله الأخفش، وفي "ديوان الأدب" من حد علم يقال: لغا يلغو لغوًا ولغى يلغى، او لغي يلغي لغى.

قوله: (من اللغا ورفث التكلم) أوله:

ورب أسرى بالحجيج الكظم

وفي الشرح:

أستغفر الرحمن ذا التعظم

قوله: (بالخرافات)، النهاية: خرافة، اسم رجل من عذرة استهوته الجن، وكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا: حديث خرافة، وأجروه على كل من كذبوه من الحاديث، وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه، وفي الحديث:"أنه قال خرافة الحق".

الجوهري: الراء فيه مخففة ولا يدخله الألف؛ لأنه معرفة؛ إلا ان يريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل. روي عن المصنف انه قال: المسموع من العرب الخرافات بالتشديد.

ص: 599

والهذيان والرمل وما أشبه ذلك، حتى تخلطوا على القارئ وتشوّشوا عليه وتغلبوه على قراءته. كانت قريش توصي بذلك بعضهم بعضًا. {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يجوز أن يريد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}: هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم. قد ذكرنا إضافة {أَسْوَأَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والرمل)، الأساس: من المجاز كلام مرمل، أي مزيف، وعن بعضهم: الرمل الرجز يقال أراجيز العرب؛ وهو ما يقوله الصبيان من العرب وما يقوله المقاتلة في الحرب فيما بينهم.

الجوهري: الرمل جنس من العروض.

قوله: (ويجوز أن يريد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}) يروى بالواو وبغير الواو، ويروى وأن يذكر الذين كفروا، ولكن ذكر الأول أصح دراية؛ لن التقدير يجوز ان يريد بالذين كفروا هؤلاء اللاغين وضعًا للمظهر موضع المضمر، ويجوز ان يذكر الذين كفروا عامة، فيدخل فيه هؤلاء اللاغين دخولًا أوليًا.

قوله: (قد ذكرنا إضافة {أَسْوَأَ}) أي: في سورة "الزمر" عند قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] وذكر فيه ان إضافة "أسوأ" ليس من إضافة أفعل إلى ما أضيف إليه لقصد الزيادة عليه، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بني مروان. لأن التقدير: ليجزيهم أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون، وهذا غير مستقيم على التفضيل؛ لن الكفرة مجزيون بالعذاب الشديد، وليس المراد أن بالعذاب سوءًا وأسوأ، وانهم مجزيون بالأسوأ دون السوء، ويمكن أن تجري الإضافة على ظاهرها، ويكون عطف قوله:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي} الآية على قوله: {فَلَنُذِيقَنَّ} الآية، على نحو عطف "جبريل" على "ملائكته"، كأنه قيل: فلنذيقن أولئك اللاغين بما فعلوا من الشرك والإفساد والعصيان عذابًا شديدًا، وخصوصًا لنجزينهم أسوأ

ص: 600

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جزاء أعمالهم من الاستهزاء بىيات الله وتحقير القرآن المجيد، وقولهم:{لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} .

والنظم يساعد هذا التأويل؛ لأنه لما رتب ر على ما سبق وعطف عليه {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} بعد إثبات الكفر لهم والاستخفاف بكتاب الله المجيد علل استحقاق العذاب الشديد بوضع {الَّذِينَ كَفَرُوا} موضع الضمير تقريرًا، وعلل استحقاق الأسوأ بوضع {أَعْداءِ اللَّهِ} موضع {هُمْ} تلويحًا، وأشير إلى الأسوأ وهو قريب باسم الإشارة الدال على البعد؛ ليؤذن بالفرق بين الجزاءين والبون بين الكفرتين ثم بين بان هذا الجزاء الخاص موجبه ذلك الاستخفاف تصريحًا بأن ختم الكلام بقوله:{جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} واعاد بذكر الجزاء، ووضع الآيات موضع القرآن، واوثر صيغة التعظيم تربية لتلك الفوائد وترشيحًا لها، وعبر عن اللغو بالجحد ردًا للعجز على الصدر كما قال المصنف:"أي: جزاء بما كانوا يلغون فيها" فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو، وهذا نوع من انواع رد العجز على الصدر؛ لما بين قولهم:{لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} الآية، وبين قوله:{بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} من التوافق المعنوي؛ لأن من يستهزئ بالقرآن لا بد أن يكون جاحدًا له، فظهر أن الإضافة في الآية مما قصد بها الزيادة على ما أضيف إليه، ولما ألحق المصنف هذا الأسوأ بذلك، نحن نلحق ذلك بهذا النشر بعضد هذا التقرير.

وفي هذه الاعتبارات تعريض بمن لا يكون عند كلام الله المجيد خاضعًا خاشعًا متفكرًا متدبرًا، وتهديد ووعيد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ ويخلط عليه القراءة، وإرعاد وإبراق لمن يدرك منه قلة مبالاة به؛ فضلًا عمن ينبذه وراءه ظهريًا؛ واشتغل بما ينافيه من العلوم المذمومة، فانظر إلى عظمة القرىن المجيد، وتأمل في هذا التغليظ والتشديد، واشهد لمن عظمه وأجل قدره وألقى إليه السمع وهو شهيد بالفوز العظيم والدرجات المقيم، رزقنا الله وإياكم معاشر الإخوان توقير كلام الله وتوقير حرمته، واستنباط دقيق معانيه، وتحقيق مبانيه، ووفقنا بفضله وجوده للعمل بما فيه، إنه خير مامول ونعم مسؤول.

ص: 601

بما أغنى عن إعادته. وعن ابن عباس" {عَذابًا شَدِيدًا} يوم بدر. و {أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} في الآخرة، {ذلِكَ} إشارة إلى الأسوأ، ويجب أن يكون التقدير: أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون؛ حتى تستقيم هذه الإشارة. و {النَّارُ} : عطف بيان للجزاء، أو خبر مبتدأ محذوف. فإن قلت: ما معنى قوله: {لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ} ؟ قلت: معناه أن النار في نفسها دار الخلد، كقوله:{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وتقول: لك في هذه الدار دار السرور، وأنت تعنى الدار بعينها. {جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} أي: جزاء بما كانوا يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.

[{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} 29]

{الَّذَيْنِ أَضَلَّانا} أي: الشيطانين اللذين أضلانا {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ؛ لأنّ الشيطان على ضربين: جني وإنسي، قال الله تعالى:{وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [النعام: 112]، وقال:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 5 - 6]. وقيل: هما إبليس وقابيل؛ لأنهما سنا الكفر والقتل بغير حق. وقرئ: (أرنا)، بسكون الراء لثقل الكسرة، كما قالوا في فخذ: فخذ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن النار في نفسها دار الخلد) قال ابن جني: {لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ} وهي نفسها دار الخلد، فكانه جرد من الدار دارًا، وعليه قول الأخطل:

بنزوة لص بعدما مر مصعب .... بأشعث لا يفلى ولا هو يقمل

ومصعب بنفسه هو الأشعث، كانه استخلص منه أشعث.

قوله: (وقرئ: (أرنا)، بسكون الراء) ابن كثير وابن عامر وأبو بكر وأبو شعيب، وقرأ أبو عمرو عن اليزيدي: باختلاس كسرتها، والباقون: بإشباعها.

ص: 602

وقيل: معناه أعطنا اللذين أضلانا. وحكوا عن الخليل: أنك إذا قلت: أرني ثوبك بالكسر، فالمعنى: بصرنيه. وإذا قلته بالسكون، فهو استعطاء، معناه: أعطني ثوبك. ونظيره: اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء. وأصله: الإحضار.

[{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 30 - 32]

{ثُمَّ} لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه؛ لأنّ الاستقامة لها الشأن كله، ونحوه قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا} [الحجرات: 15]، والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن أبي بكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء. وأصله: الإحضار)، الجوهري: آتاه إيتاء، أي؛ أعطاه، وآتاه أيضًا، أي؛ أت به، ومنه قوله تعالى:{آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] أي؛ ائتنا به.

قوله: (ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته) يعني لم يرد بالقول مجرد النطق فحسب؛ بل هو وما يستبعه، وذلك أن هذا القول ادعاء من القائل بأنه رضي بالله ربًا، والرضا بذلك إقرار بأن المعبود الخالق المنعم على الإطلاق مالكه ومدبر أمره، وذلك يوجب القيام بمقتضياته من الشكر باللسان وتحقيق مراضيه بالقلب والجوارح، وعلى هذا النهج ورد عن عبد الله بن مغفل قال:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحبك. قال: انظر ما تقول. فقال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، قال: إن كنت صادقًا فأعد للفق تجفافًا، الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه". أخرجه الترمذي، وأنشد في معناه:

ص: 603

الصديق رضي الله عنه: استقاموا فعلًا كما استقاموا قولًا. وعنه: أنه تلاها، ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال: حملتم الأمر على أشدّه. قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه: استقاموا على الطريقة، لم يروغوا روغان الثعالب. وعن عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل. وعن علي رضي الله عنه: أدّوا الفرائض. وقال سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت يا رسول الله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تهون علينا في المعالي نفوسنا .... ومن طلب الحسناء لم يغله المهر

النهاية: التجفاف شيء من سلاح يترك على الفرس يقيه الردى، وقد يلبسه الإنسان، ولما كان هذا الكلام من الجوامع، وسأل الصحابي عن أمر يعتصم به، أجابه صلوات الله عليه بقوله:"قل ربي الله ثم استقم".

قوله: (قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان) هو من قوله صلوات الله عليه حين قرأ {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} قال: "قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام"، أخرجه الترمذي عن أنس.

قوله: (لم يروغوا روغان الثعالب)، ويروى "الثعلب"، الأثر مذكور في "شرح السنة"، النهاية: روغان الثعلب مثل لمن لا يثبت على حال، وفي حديث قيس:"خرجت أريغ بعيرًا شرد مني"، أي؛ أطلبه بكل طريق.

ص: 604

أخبرني بأمر أعتصم به، قال:"قل ربي الله، ثم استقم"، قال: فقلت: ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال: "هذا". {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عند الموت بالبشرى. وقيل: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم. {أَلَّا تَخافُوا} "أن" بمعنى "أي"، أو مخففة من الثقيلة، وأصله: بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(لا تخافوا)، أي: يقولون: لا تخافوا، والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضارّ. والمعنى: أنّ الله كتب لكم الأمن من كل غم، فلن تذوقوه أبدًا. وقيل: لا تخافوا ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم. كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين. {تَدَّعُونَ}: تتمنون: والنزل: رزق النزيل؛ وهو الضيف، وانتصابه على الحال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أخبرني بأمر أعتصم به) الحديث، أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه والدارمي.

قوله: (وانتصابه على الحال) قال صاحب "الكشف": إن جعلت "نزلًا" جمع نازل، كشارف وشرف، وصابر وصبر، كان حالًا من الكاف والميم، أي لكم فيها نازلين، ويكون قوله:{مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} في موضع نصب صفة "لنزلًا" أي نازلين من أمر غفور رحيم، قال أبو علي: ولا يكون من غفور رحيم متعلقًا بـ {تَدْعُونَ} ، لأن الحال التي هي من المجرور قد فصل بينهما، ولكن إن جعلت {نُزُلًا} حالًا من الضمير المرفوع في {تَدْعُونَ} على تقدير: تدعون أنتم نزلًا، جاز أن يتعلق {مِنْ} بـ {تَدْعُونَ} لأن الحال والظرف جميعًا في الصلة، وهذا يدل على أن الحال مما في الصلة ليس كالحال عن الموصول؛ لأن الحال عن الموصول يؤذن بتمامه فيصير فاصلًا بين الموصول وما بعد الحال من الصلة، ويجوز أن يكون

ص: 605

[{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 33]

{مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ} عن ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام {وَعَمِلَ صالِحًا} فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة له. وعنه: أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: ما كنا نشك أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين. وهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون موحدًا معتقدًا لدين الإسلام، عاملًا بالخير، داعيًا إليه؛ وما هم إلا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد، الدعاة إلى دين الله. وقوله:{وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده، كما تقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{نُزُلًا} حالًا من الموصول، أي لكم الذي تدعونه معدًا. ولا يكون جمع "نازل" بل هو من النزل الذي يجعل للضيفان، وهذا إنما يكون على قول من رفع بالظرف كقولهم: في الدار زيد قائمًا، وأما من رفع بالابتداء فلا يكون حالًا من "ما" ولكن من الضمير في الظرف، أو من الضمير المنصوب المحذوف، أي ما تدعونه نزلًا.

قوله: (نجلة (أي؛ ملة ومذهبًا له. الجوهري: فلان ينتحل مذهب كذا وقبيلة كذا؛ إذا انتسب إليه.

قوله: (ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده)، نحوه قال في قوله:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، قال: ومعنى "قال له أسلم" قال: أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام "فقال أسلمت"، أي: فنظر وعرف.

قال الإمام: إن السعادة لها مرتبتان: التام، وفوق التام، أما التام فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملًا في ذاته، فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ

ص: 606

هذا قول أبي حنيفة، تريد مذهبه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسْتَقامُوا} إشارة إلى هذه المرتبة، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بتكميل الناقصين، وهو فوق التام، فقوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا} إشارة إلى هذه المرتبة، واعلم أن من آتاه الله عز وجل قريحة وقادة ونصابًا وافيًا من العلوم الإلهية الكثيفة عرف أن لا ترتيب أحسن وأكمل من ترتيب آي القرآن.

وقلت: فعلى هذا ينبغي أن يكون قوله: {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} جامعًا للمعاني السابقة، ولا يكون محصورًا في القول المجرد لمجيئه على طريقة التذييل، وعلى أسلوب قولك: زيد من العلماء، أي: له مساهمة معهم في هذا الوصف، والعلم له كاللقب المشهور، فكأنه قال: إنني لمن الذين لهم القدح المعلى في التسليم والتفويض.

الراغب: الإسلام في الشريعة ضربان: أحدهما: دون الإيمان، وإياه عنى بقوله:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الأحزاب: 14]؛ والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل واستسلام في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].

قوله: (هذا قول أبي حنيفة) يريد: مذهبه. النهاية: منه الحديث: "لما أراد أن يعتكف ورأى الأخبية في المسجد فقال: آلبر تقوقون بهن؟ "، أي: أتظنون وترون أنهن أردن البر؟

ومنه: "سبحان الذي تعطف بالعز وقال به"، أي: أحبه واختصه لنفسه، كما يقال: فلان يقول بفلان، أي: بمحبته واختصاص، وقيل: معناه: حكم به، فإن القول يستعمل في معنى الحكم. وقال الأزهري: معناه: غلب به، وأصله من قبل الملك؛ لأنه ينفذ قوله.

ص: 607

[{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 34 - 35]

يعني: أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ الحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه، ويقتل ولدك فتفتدى ولده من يد عدوه، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك. ثم قال: وما يلقى هذه الخليقة أو السجية -التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان- إلا أهل الصبر، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير. فإن قلت: فهلا قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟ قلت: هو على تقدير قائل قال: فكيف أصنع؟ فقيل: ادفع بالتي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عدوك المشاق)، أي: المخالف الذي أخ في شق وأنت في شق. الجوهري: المشاقة والشقاق؛ الخلاف والعداوة.

قوله: (فهلا قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟ ) السؤال وارد على تفسيره السابق، وقوله:" إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك" يعني: حين أعلمناك بتفاوت الحسنتين إذا وردت عليك سيئة من بعض أعدائك فادفعها بإحدى الحسنتين، وهي التي أحسن، لأنك من أولي العزم وصاحب الخلق العظيم، فالفاء لازمة الترتب، فلم تركها؟ وأجاب بأن الترتيب موكول إلى الذهن الذي هو أقوى الدليلين، وترك الوصل إلى الفصل للاستئناف، وتقدير سؤال السائل، فـ {أَحْسَنُ} على هذا على حقيقته، وقوله:"وقيل "لا" مزيدة" عطف على قوله: "إن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما"، والمعنى: أن بين الحسنة والسيئة بونًا بعيدًا، ولا يكن اختيارك إلا الحسنة، فعدل إلى الحسن للمبالغة؛ لأنه على الوجه الأول وقعت الموازنة بين الحسنتين وبين السيئتين. وفي الثاني بين الحسنة والسيئة.

فإن قلت: قد علم بما تقرر الموازنة بين الحسنتين، فما معنى الموازنة بين السيئتين؟ قلت:

ص: 608

هي أحسن. وقيل: {وَلَا} مزيدة، والمعنى: ولا تستوي الحسنة والسيئة. فإن قلت: فكان القياس على هذا التفسير أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة! قلت: أجل، ولكن وضع "التي هي أحسن" موضع الحسنة؛ ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة؛ لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. وعن ابن عباس:{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة. وفسر الحظ بالثواب. وعن الحسن: والله ما عظم حظ دون الجنة. وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوًا مؤذيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار وليًا مصافيًا.

[{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 36]

النزغ والنسغ بمعنى، وهو شبه النخس. والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي. وجعل النزغ نازغًا، كما قيل: جد جدّه. أو أريد: وإما ينزغنك نازغ؛ وصفًا للشيطان بالمصدر. أو لتسويله. والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من شرّه، وامض على شأنك ولا تطعه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن المسيء إذا أساء إليك فإنك جازيته بمثل تلك السيئة فحسنتك سيئة بالنسبة إليك؛ لما كان عليك أن تعفو عنه؛ بل تحسن إليه، لكن لا تستوي سيئتك وسيئته. وسيجيء إن شاء الله تعالى في سورة "الشورى" الكلام فيه عند قوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} بالشورى: 40].

قوله: (أو أريد: وإما ينزغنك نازغ) وعلى هذا "من" بيانية، جرد من الشيطان؛ إما شيطان آخر وسمي نازغًا، أو جرد منه وصفه الذي هو تسويله وجعل نازغًا، فهو هو أيضًا، وعلى الأول كانت ابتدائية، المعنى: إما ينزغنك من جهة الشيطان نزغ فأسند الفعل إلى فعله مجازًا.

قوله: (وامض على شانك) أي خلصت من نزغاته. الأساس: مضى على أمره، تم عليه. ومضى السيف في الصريبة. ومضى في حاجته.

ص: 609

[{وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} 37 - 38]

الضمير في {خَلَقَهُنَّ} لليل والنهار والشمس والقمر؛ لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، أو الإناث. يقال: الأقلام بريتها وبريتهنّ، أو لما قال:{وَمِنْ آياتِهِ} كن في معنى الآيات، فقيل:{خلقهنّ} . فإن قلت. أين موضع السجدة؟ قلت: عند الشافعي رحمه الله: {تَعْبُدُونَ} ، وهي رواية مسروق عن عبد الله؛ لذكر لفظ السجدة قبلها. وعند أبي حنيفة رحمه الله:{يَسْأَمُونَ} ؛ لأنها تمام المعنى،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو لما قال: {وَمِنْ آياتِهِ} كن في معنى الآيات) ويروى: في معنى الآيات، وهو الأصح، فقيل:{خَلَقَهُنَّ} جواب عما قيل، لا يصح أن يعود إلى الشمس والقمر والليل والنهار؛ لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للتذطير دون التأنيث. وأجاب المصنف بأنها في معنى الآيات، قال الزجاج: قد قيل: الليل والنهار والقمر، وهي مذكرة، وقد قال:"خلقهن" والهاء والنون تدل على التأنيث، وفي الجواب وجهان: أحدهما: أن ضمير ما لا يعقل على لفظ المؤنث، تقول: هذه لناشق فسقها، وغن شئت "فسقهن". وثانيهما: أن يرجع إلى معنى الآيات؛ لنه تعالى ومن آياته هذه الأشياء، فاسجدوا لله الذي خلقهن.

قوله: (عند الشافعي رضي الله عنه: {تَعْبُدُونَ}) أي؛ الشافعي يسجد عند {تَعْبُدُونَ} ، وأبو حنيفة عند {يَسْأَمُونَ}. وقلت: الأصح الثاني. قال صاحب "الروضة": الأصح أنه عقيب {يَسْأَمُونَ} ، والثاني عقيب {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

قوله: (لأنها تمام المعنى) ويمكن أن يقال: تمام المعنى عند قوله: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي

ص: 610

وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب. لعل ناسًا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن هذه الواسطة، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصًا، إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم، فإنّ الله عز سلطانه لا يعدم عابدًا ولا ساجدًا بالإخلاص، وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد. وقوله:{عِنْدَ رَبِّكَ} عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة. وقرئ: (لا يسأمون)، بكسر الياء.

[{وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 39]

الخشوع: التذلل والتقاصر، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله:{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً} [الحج: 5]؛ وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو؛ وهو الانتفاخ: إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خَلَقَهُنَّ} لأنه حكم قد عقب الوصف المناسب، وقوله:{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تتميم للمعنى وتقريع للغافلين، وقوله:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} تتميم غب تتميم، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال: فدعهم وشأنهم، لكنه متضمن للذم على ترك السجود، فإن قوله:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} وضع موضع: فإن لم يسجدوا، إقامة للسبب موضع المسبب للعلية، وأنت قد عرفت أن شرعية إيجاب السجدة إما للأمر بها، أو المدح لمن أتى بها، أو الذم لمن تركها، وكان الظاهر إيجاب سجدتين؛ فجعل الثاني كالتوكيد للأول، فشرع سجدة واحدة.

وعن بعضهم: إنما كانت السجدة عند {لا يَسْأَمُونَ} لأنه أقرب إلى الاحتياط، فإنها إن كانت عند الآية الأولى جاز تاخيرها، وإن كانت عند الثانية لم يجز تعجيلها.

ص: 611

في زيه، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة. وقرئ:(وربأت) أي: ارتفعت؛ لأن النبت إذا همّ أن يظهر ارتفعت له الأرض.

[{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَاتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 40]

يقال: ألحد الحافر ولحد؛ إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شق، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. وقرئ:{يُلْحِدُونَ} و (يَلحَدون)، على اللغتين. وقوله:{لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا} وعيد لهم على التحريف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الكاسف البال)، الجوهري: رجل كاسف البال، سيء الحال. والطمر، الثوب الخلق، والجمع: الأطمار. يريد أن الكلام فيه استعارة تمثيلية، شبه حال جدوبة الأرض وإعدام الخير فيها؛ ثم غحياء الله بالماء النازل من السماء، وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب، وإنبات كل زوج بهيج بعد القحل، بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه له، ثم إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها؛ تكلف بأنواع الزين والزخارف، فيختال في مشيه زهوًا، فيهتز بالأعطاف خيلاء وكبرًا، ثم بولغ في التشبيه فحذف المشبه واستعمل الخشوع. والاهتزاز دلالة على مكانه.

قوله: (وقرئ "ورأت") قال الزجاج: ويقرأ "ربأت" بالهمز، فمعنى: ربت: عظمت. وربأت: ارتفعت. قال ابن جني: قرأ أبو جعفر "وربأت"، ومعناها راجعة إلى معنى قراءة الجماعة، وذلك ان الأرض إذا ربت ارتفعت، ومنه الربيئة، وهي الطليعة؛ لشخوصه على الموضع المرتفع.

قوله: (وقرئ: {يُلْحِدُونَ} و (يَلحَدون)) الثانية: حمزة، والباقون: الأولى.

ص: 612

[{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 41 - 42]

فإن قلت: بم اتصل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} ؟ قلت: هو بدل من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا} . والذكر: القرآن؛ لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله، {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} أي: منيع محمى بحماية الله {لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} مثل، كأن الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلًا من جهة من الجهات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو بدل من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا}) وفي هذا الإبدال الإشعار بتغليظ من تأول القرآن بالرأي الباطل والهوى الزائغ، وتعظيم لشأن القرآن المجيد، ونعي على المتقاعدين عنه، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن مطاعن القوم فيه، وذلك انه تعالى لما افتتح السورة بذكر القرآن المجيد، وانه آية عظيمة قاهرة، وعقبه بما بين عجزهم عن المعارضة بتلك الشبهة الركيكة، وهي ان الرسالة منحصرة على الملائكة لا تتعدى إلى البشر، وذكر طعنهم فيه وقولهم:{لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وذيل المعنى بوجوه من الاستطرادات المناسبة، أتى بنوع من مطاعنهم، وهو الإلحاد فيه تقريرًا للعجز والانخذال، وبيانًا لتبكيتهم عن الحجة القاهرة، وما يدل على أن الإبدال للتعظيم وضع قوله:{بِالذِّكْرِ} موضع {فِي آياتِنا} وضعًا للمظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، وجعله علة لابتناء أوصاف الكمال عليه {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} إلى آخره.

قوله: (كأن الباطل لا يتطرق إليه) بيان للمثل، يعني: قوله: {لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} استعارة تمثيلية، والوجه منتزع من عدة امور، وهي مسبوقة بالتشبيه، ومن ثم أتى في البيان بأداته، شبه الكتاب وعدم تطرق الباطل إليه بوجه من الوجوه بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من إحاطة العدو به من كل جانب، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، بأن ترك المشبه إلى ذكر المشبه به قائلًا:{لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فقوله: {لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ} صفة أخرى لـ"كتاب"، وقوله:{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} تعليل لاتصاف الكتاب بالوصفين، فكونه حكيمًا موجب؛ لأن يكون منزله محكمًا متقنًا رصينًا يغلب ولا يغلب؛ فيكون عزيزًا، وكونه حميدًا يستدعي أن يكون كلامه حقًا

ص: 613

حتى يصل إليه ويتعلق به. فإن قلت: أما طعن فيه الطاعنون، وتأوّله المبطلون؟ قلت: ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به: بأن قيض قومًا عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقًا، ولا قول مبطل إلا مضمحلًا. ونحوه قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا باطلًا عبثًا، يهدي الناس إلى النعمة العظمى، {وَاللهُ يَدْعَوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] فليشكر لذلك قائله وليحمد المتكلم به.

ثم إن المشركين حين لم يعرفوا هذه النعمة، وراموا نسبة الباطل إليه، وطلبوا توهين أحكامه، كما نبه عليه قوله:{وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} الآية سلى حبيبه أولًا بقوله: {ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وثانيًا بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} .

قوله: ({وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9]) أي: بحراس التنزيل وسواس التاويل، ذبوا عن حريم القرآن، ودفعوا عن مطاعن الخصوم، هكذا يجب أن يقدر ليصح استشهاده بالآية لقوله:" ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به: بأن قيض قومًا""الأساس": ولفلان قدم في هذا الأمر: سابقة وتقدم، وله قدم صدق، ضمن "تقدم" معنى "تكفل" أي: تكفل في حمايته سابقًا بأن اتاح وقدر علماء ذابين عن حريمه.

وقلت: يجوز خلافه؛ لأنه تعالى أنزل التوراة واستحفظها الحبار والربانيين كما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} إلى قوله: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] فغيروا وحرفوا، وتكفل عز وجل هو بنفسه حفظ القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9] فأكد الجملة انواعًا من التأكيد؛ لئلا يظن الخلاف.

قال الإمام: إن الله حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة والنقصان فيه؛ لأنهم لو راموا ذلك لتغير نظمه؛ وظهر للخلق أنه من كلام البشر وليس

ص: 614

[{ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} 43]

{مَا يُقَالُ لَكَ} أي: ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة. {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} ورحمة لأنبيائه، {وَذُو عِقابٍ} لأعدائهم. ويجوز أن يكون: ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول: هو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} ، فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، والغرض: تخويف العصاة.

[{وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} 44]

كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم! فقيل: لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت، وقالوا:{لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ} أي: بينت ولخصت بلسان نفقهه {ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الهمزة همزة الإنكار، يعني: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ ! أو: مرسل إليه عربي؟ ! وقرئ: (أعجمي)، والأعجمي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من كلام خالق القوى والقدر، ولقائل أن يقول:{وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} مطلق يحمل على إنا لحافظون ألفاظه من التغيير والتبديل، وحافظون معانيه من تاويل المبطلين، بأن يقيض قومًا يعارضونهم، فاستشهد به للمعنى الثاني.

قوله: (وقرئ " أعجمي") قرا هشام: "أعجمي" بهمزة واحدة من غير مد على الخبر، والباقون: على الاستفهام.

ص: 615

الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أي جنس كان، والعجمي: منسوب إلى أمّة العجم. وفي قراءة الحسن: (أعجمي) بغير همزة الاستفهام، على الإخبار بأن القرآن أعجمي، والمرسل أو المرسل إليه عربي. والمعنى: أنّ آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتًا؛ لأنّ القوم غير طالبين للحق، وإنما يتبعون أهواءهم. ويجوز في قراءة الحسن: هلا فصلت آياته تفصيلًا، فجعل بعضها بيانًا للعجم، وبعضها بيانًا للعرب. فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابًا أعجميًا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي؟ ! وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على الإخبار بأن القرآن أعجمي، والمرسل أو المرسل إليه عربي) فعلى هذا الإنكار ناشئ من كلمة التحضيض، أي: هلا فصلت آياته، ثم بين عدم التفصيل والبيان على سبيل الإخبار بأن القرآن أعجمي والرسول عربي والأمة المرسل إليها عربية، وأنها وكدت معنى التمني، أي: ليتها فصلت تفصيلًا بأن يكون بعضها أعجميًا وبعضها عربيًا؛ ليعلم كل أناس مشربهم الذي يشربون، وإليه الإشارة بقوله:"هلا فصلت آياته"، ويجوز ان يكون مجرى على ظاهره.

قوله: (على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتًا)، أي: مكانًا للتعنت، ويروى:"متعنتًا" باسم الفاعل، فيكون تجريدًا، أي وجدوا فيها من أنفسهم متعنتًا، الجوهري: جاءني فلان متعنتًا، إذا جاء يطلب زلتك.

قوله: (كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ ) أي: إطلاق العربي على الجماعة غير مطابق، وكان ينبغي أن يقال:"عربية" نظرًا إلى الأمة، أو "عربيون" نظرًا إلى المعنى؟ واجاب: إن القصد في الكلام إنكار تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا المطابقة بين اللفظ والمعنى، كما في مسألة المرأة القصيرة، فإن المنكر الجمع بين هذين المعنيين، ولا مدخل لخصوصية اللابس والملبس.

ص: 616

أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض، ولا يوصل به ما يخيل غرضًا آخر، ألا تراك تقول وقد رأيت لباسًا طويلًا على امرأة قصيرة: اللباس طويل واللابس قصير! ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول؛ لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما. {هُوَ} أي القرآن {هُدىً وَشِفاءٌ}: إرشاد إلى الحق وشفاء لِما فِي الصُّدُورِ من الظن والشك. فإن قلت: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} منقطع عن ذكر القرآن، فما وجه اتصاله به؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في موضع الجر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يخلو: إما أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في موضع الجر) قال ابن الحاجب في "الأمالي": {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} مخفوض عطف على {لِلَّذِينَ آمَنُوا} و {وَقْرٌ} مرفوع عطف على {هُدًى} و {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} عطف على قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} فلا بد ان يكون موافقًا له في الإعراب، فيجب أن يكون المعطوف على {لِلَّذينَ} مخفوضًا، والمعطوف على {هُدًى} مرفوعًا بالابتداء، ولا يستقيم ان يقال: أجعل في آذانهم وقرًا، جملة في موضع رفع معطوفة على {هُدًى} ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون المبتدأ جملة، ويلزم من هذا التقدير أن يكون عطفًا على عاملين، كقوله: في الدار زيد والحجرة عمرو، وما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة. ومثل هذا من العطف على عاملين جائز عند المحققين المتأخرين.

ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، تقديره: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر، على أن يكون المبتدأ الثاني محذوفًا، وخبره {وَقْرٌ} و {فِي آذانِهِمْ} بيان لمحل الوقر، ولا يكون الوقر "وفي آذانهم" مبتدأ وخبرًا، ولا يقدر هو؛ إذ لا عائد في الجملة على المبتدأ، فلا يكون ما يربط الجملة الثانية بالأولى؛ لأن قوله:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} إخبار عن القرآن بأنه للمؤمنين هدى وشفاء، فإذا لم يكن في الثانية ذكر القرآن كانت أجنبية.

ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، خبره {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} من غير تقدير هو، والرابط محذوف "به" هذا قريب من الوجه الثالث في "الكشاف".

ص: 617

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال أيضًا: ويجوز أن يكون قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} مرتبطًا بقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} والتقدير: هو للذين أمنوا هدى وهو على الذين لا يؤمنون عمى. وقوله: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} جملة معترضة على الدعاء.

وقلت: هذا وغن جاز من جهة الإعراب، لكن من جهة المعاني مردود؛ لفك النظم، وأولى الوجوه ما يصح منه عطف قوله:{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} على قوله: {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} ليكون على وزان قوله: {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} لأن الطريق الواضح والمنهج المستقيم إنما يعمى على من لا بصر له ولا بصيرة، وهذا لا يحسن إلا على الوجه الثاني في "الكشاف"، وعليه يلتئم الكلام؛ لأن قوله:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} الآية، جواب عن قوله:{لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} على الأسلوب الحكيم، والمعنى ما قال: إن آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتًا، لأن القوم غير طالبين للحق، فيكون ذكر المؤمنين مستطردًا لبيان أن الكتاب في نفسه سبب إزالة الشك والريب لوضوح آياته وسطوع براهينه، وإنما نشأ الريب منكم لتعنتكم، وأنكم من اهل الختم والطبع، ولكونه مستطردًا أخرج التركيب مخرجًا أفاد التعريض، بأن قدم الخبر على المبتدأ ليفيد التخصيص، وبنى الجملة على الضمير المرفوع لإفادى تقوي الحكم برتبة لفائدة التعريص، أي: هو للطالبين للحق خاصة هدىً وشفاء لما في صدوررهم من مرض الشك والريب، وللذين لا يؤمنون ضلال ومرض على مرض، {فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] ثم ابتدأ {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} لأن الضلالة ومرض الشك والصمم عن الحق والعمى عن الآيات إذا اجتمع في شخص، فداعيهم إلى الهدى كانه يناديهم من مكان بعيد، كقوله تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] أي: مثل داعي الذين كفروا، هذا هو التحقيق، ومن ثم قال:"وغن كان الأخفش تخيره"، أي: هذا الوجه ضعيف؛ لأن الدليل على ضعفه والمقام ينبو عنه، وقد منعه سيبويه، والمختار قوله، فإن القول ما قالت حذام.

ص: 618

معطوفًا على قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} على معنى قولك: هو للذين آمنوا هدًى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر؛ إلا أنّ فيه عطفًا على عاملين، وإن كان الأخفش يجيزه؛ وإمّا أن يكون مرفوعًا على تقدير: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر، على حذف المبتدأ، أو: في آذانهم منه وقر. وقرئ: (وهو عليهم عم)، و (عمي)، كقوله تعالى:{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [هود: 28]. {يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} يعني: أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء.

[{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 45]

{فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فقال بعضهم: هو حق، وقال بعضهم: هو باطل. والكلمة السابقة: هي العدة بالقيامة، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم، ولولا ذلك لقضي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ "وهو عليهم عم" و"عمي")، قال الزجاج: ويقرأ: "وهو عليهم عم" بكسر الميم؛ ويجوز "وهو عليهم عمي" بإثبات الياء وفتحها، ولا يجوز إسكان الياء وترك التنوين.

قوله: (لا يرعونه أسماعهم)، الجوهري: أرعيته سمعي، أي أصغيت إليه. ومنه قوله تعالى:{رَاعِنَا} [البقرة: 104].

قوله: (شاطة) شطت الدار شطوطًا، قال:

لئن غبت عن عيني وشطت بك النوى .... فأنت الذي في القلب حطت رواحله

قوله: (والكلمة السابقة: هي العدة بالقيامة، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم) إشارة إلى ان هذا القول وارد على سبيل التخلص إلى ذكر القيامة، وهو قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ

ص: 619

بينهم في الدنيا. قال الله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46]، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} [النحل: 61].

[{مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 46]

{فَلِنَفْسِهِ} : فنفسه نفع، {فَعَلَيْها}: فنفسه ضرّ، {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} فيعذب غير المسيء.

[{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 47 - 48]

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي: إذا سئل عنها قيل: الله يعلم. أو: لا يعلمها إلا الله.

وقرئ: {مِنْ ثَمَرَاتٍ} ، "من أكمامهن، والكم، بكسر الكاف: وعاء الثمرة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عِلْمُ السَّاعَةِ} والتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من اختلاف قومه في القرآن وطعن الطاعنين المتعنتين فيه، ولذلك اتى بذكر موسى عليه السلام واختلاف قومه في كتابه.

قوله: (أي: إذا سئل عنها قيل: الله يعلم. أو: لا يعلمها إلا الله) يريد أن التقديم في قوله: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} يجوز أن يكون إشارة إلى جواب منكر يزعم ان علم الساعة غير مختص بالله، فيجاب بالحصر، أي لا يعلمها غلا الله، وان يكون جوابًا عن متردد يتردد في ذلك ويشك فيه، فيزال شكه بقوله: الله يعلم؛ لإادته تقوي الحكم المستلزم للتخصيص لاختصاص ذكر الاسم الجامع، وانه تعالى يعلمه حقًا البتة، فلا يعلم غيره.

قوله: (وقرئ: {مِنْ ثَمَرَاتٍ}) نافع وابن عامر وحفص: بالجمع، والباقون: على التوحيد.

ص: 620

كجف الطلعة، أي: وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به. يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله: من الخداج والتمام،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كجف الطلعة)؛ أي: وعاؤها. النهاية: في حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه جعل في جف الطلعة"، الجف: وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون فوقه.

قوله: (أي: وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل) جعل "ما"- في "ما يخرج"- نافية، و"من" بيانية، والمبين مضمرًا، ثم أخذ القدر المشترك بين الفعال الثلاثة- أعني:"تخرج" و"تحمل" و"تضع" وجعله أصلًا في الاعتبار- وعبر عنه بـ"يحدث شيء"، ثم عمد إلى مصادر الأفعال وجعلها تفصيلًا لذلك المجنل وعطف بعضها على بعض ليتسبب له الاستثناء بقوله:"إلا بعلمه" عن المذكورات كلها، فلا يختص بواحد لاستقامة المعنى، كما جاء في "الأصول": الاستثناء المعقب للجمل يعود إليها؛ لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في التعلقات كالحال والشرط وغيرهما، إلا إذا منع منه مانع، والطريق الذي يسلكه ضابط حسن في الباب.

قال أبو البقاء: "وما تحمل""ما" نافية؛ لأنه عطف عليها "ولا تضع"ثم نقض النفي بـ"إلا" ولو كانت بمعنى "الذي" معطوفة على الساعة لم يستقم ذلك، واما قوله:"وما تخرج من ثمرة" فيجوز أن يكون بمعنى "الذي" والأقوى أن تكون نافية.

وقال القاضي: "ما" في "ما تخرج" نافية، و"من" الأولى مزيدة، ويحتمل ان تكون موصولة معطوفة على "الساعة" و"من" مبينة، بخلاف قوله:{وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} لمكان {بِعِلْمِهِ} حال، أي مقرونًا بعلمه واقعًا حسب تعلقه.

قوله: (من الخداج) خدجت الناقة تخدج خداجًا فهي خادج والولد خديج، إذا ألقته قبل تمام الأيام وإن كان تام الخلق.

ص: 621

والذكورة والأنوثة، والحسن والقبح وغير ذلك. {أَيْنَ شُرَكائِي} أضافهم إليه تعالى على زعمهم، وبيانه في قوله:{أَيْنَ شُرَكائِيَ} الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وفيه تهكم وتقريع. {آذَنَّاكَ}: أعلمناك {ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي: ما منا أحد اليوم وقد أبصرنا وسمعنا يشهد بأنهم شركاؤك، أي: ما منا إلا من هو موحد لك: أو: ما منا من أحد يشاهدهم؛ لأنهم ضلوا عنهم، وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ. وقيل: هو كلام الشركاء، أي: ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة. ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير: أنهم لا ينفعونهم، فكأنهم ضلوا عنهم. {وَظَنُّوا} وأيقنوا. والمحيص: المهرب. فإن قلت:

{آذَنَّاكَ} إخبار بإيذان كان منهم، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت: يجوز أن يعاد عليهم: {أَيْنَ شُرَكائِي} ؟ إعادة للتوبيخ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية: دليل على إعادة المحكي. ويجوز أن يكون المعنى: أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومعنى ضلالهم [عنهم] على هذا التفسير) يعني: إذا كان قوله: {آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} من كلام العبد، يكون معنى {وَضَلَّ عَنْهًمْ} غابن وإذا كان من كلام المعدوم فضلالهم بمعنى عدم نفعهم، لا بمعنى غيبتهم× لأنهم حينئذ المجيبون والمسؤول عنهم العبدة، والجملة على الوجهين حال، و"قد" معه مقدرة، ويجوز أن يكون عطفًا على {قَالُوا} .

قوله: ({آذَنَّاكَ} إخبار بإيذان كان منهم) يعني: هذا يقتضي أنه تعالى قد سأل عنهم بمثل هذا السؤال قبل ذلك، وانهم أجابوه بمثل هذا الجواب ثم أعاده، فما فائدة الإعادة؟ وأجاب بوجوه: أحدها أنه من عادة الموبخ أن يعيد كلمة التوبيخ تشديدًا على الجاني وتقبيحًا لجنايته، وثانيها: أن قولهم ليس أنه قد سبق منهم الإيذان بمثله، لكن هو إيذان بلسان الحال من مضمرات البال، وثالثها: أنه توطئة لفخبار وتمهيد لقوله: {ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} ، كقول القائل: أعلم الملك، ثم قوله: إنه قد كان من الأمر كيت وكيت.

ص: 622

الباطلة؛ لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه. ويجوز أن يكون إنشاءً للإيذان، ولا يكون إخبارًا بإيذان قد كان، كما تقول: أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت.

[{لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} 49 - 50}

{مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ} : من طلب السعة في المال والنعمة. وقرأ ابن مسعود: (من دعاء بالخير). {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} أي: الضيقة والفقر. {فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء "فعول"، ومن طريق التكرير. والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، أي: يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذه صفة الكافر، بدليل قوله تعالى:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [يوسف: 87]. وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض، أو سعة بعد ضيق قال:{هَذَا لِي} أي: هذا حقي وصل إلي، لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال برّ. أو: هذا لي لا يزول عني، ونحوه قوله تعالى:{فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ} [العراف: 131]، ونحوه قوله:{وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً} ، {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] يريد: وما أظنها تكون، فإن كانت على طريق التوهم {إِنَّ لِي} عند الله الحالة الحسنى من للكرامة والنعمة، قائسًا أمر الاخرة على أمر الدنيا. وعن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا:{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} ، ويقول في الآخرة:{يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 4]. وقيل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء "فعول"، ومن طريق التكرير) قال الإمام: اليأس من صفة القلب، والقنوط آثاره في الأحوال الظاهرة.

ص: 623

نزلت في الوليد بن المغيرة. فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب؛ ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند الله، {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]؛ وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلبًا للافتخار والاستكبار لا غير، وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحة، وأنهم محقوقون بذلك.

[{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} 51]

هذا أيضًا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة، وكأنه لم يلق بؤسًا قط فنسي المنعم وأعرض عن شكره، {وَنَأى بِجانِبِهِ} أي: ذهب بنفسه وتكبر وتعظم. وإن مسه الضرّ والفقر: أقبل على دوام الدعاء، وأخذ في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نزلت في الوليد بن المغيرة) فهو بمعنى قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] عن الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال المصنف: والمشهور أنها في العاص بن وائل؛ وقصته مع خباب مذكورة في سورة "مريم".

قوله: (وأنهم محقوقون) حق هذا الأمر، وهو محقوق به، أي: تيقن بخلافته، من الخليق، يعني أنهم احقاء بذلك.

قوله: (هذا أيضًا ضرب آخر من طغيان الإنسان)، والضرب الأول بيان لشدة حرصه، وأنه إن أعطي لم يشبع، وإن منع لم يقنع. والثاني لبيان طيشه؛ فلا يثبت على السراء، بل طار من منزلته وتكبر وطغى، ولا يصبر على الضراء، بل خضع واستكان في ذل.

ص: 624

الابتهال والتضرع. وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام، ويستعار له الطويل -أيضًا- كما استعير الغلظ لشدّة العذاب. وقرئ:(ونأِى بجانبه)، بإمالة الألف وكسر النون للإتباع، و (ناء) على القلب، كما قالوا: راء، في: رأى. فإن قلت: حقق لي معنى قوله: {وَنَأى بِجانِبِهِ} . قلت: فيه وجهان: أن يوضع "جانبه" موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى: {عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]: أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله:

...... ونفيت عنه .... مقام الذئب ...... ..

يريد: ونفيت عنه الذئب. ومنه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 6]، ومنه قول الكتاب: حضرة فلان ومجلسه، وكتبت إلى جهته، وإلى جانبه العزيز، يريدون نفسه وذاته، فكأنه قال: ونأى بنفسه، كقولهم في المتكبر: ذهب بنفسه، وذهبت به الخيلاء كل مذهب، وعصفت به الخيلاء؛ وأن يراد بجانبه: عطفه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: (ونأِى بجانبه)) ابن ذكوان: "وناءى بجانبه" جعل الهمزة بعد الألف، والباقون: بفتحهما، ورش على أصله.

قوله: (ونفيت عنه الذئب) قبله:

وماء قد وردت لوصل أروى .... عليه الطير كالورق اللجين

ذعرت به القطا ونفيت عنه .... مقام الذئب كالرجل اللعين

واللجين: ما سقط من الورق عند الخبط، وذعرت: أي أفزعته، والضمير في "به" يعود إلى الماء، خص الذئب والقطا؛ لأن القطا أهدى الطير، والذئب أهدى السباع، وهما السابقان إلى الماء، والرجل اللعين؛ شيء منتصب وسط الزرع يستطرد به الوحوش.

يقول: رب ماء قد وردته لأجل أن أرى عليه محبوبتي، جاءت إليه لغسل رأسها ورحض ثيابها، وصفة الماء ذلك.

ص: 625

ويكون عبارة عن الانحراف والازورار؛ كما قالوا: ثنى عطفه، وتولى بركنه.

[{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} 52]

{أَرَأَيْتُمْ} : أخبروني {إِنْ كانَ} القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني: أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويكون عبارة عن الانحراف) هذا هو الجواب الثاني عن السؤال، وكلا الجوابين لا يتجاوزان عن الكناية، لكن الأول من باب التعريض بالتعظيم، فإنهم يعبرون عن المجلس والمقام والمكان عن ذات من يقصدون تعظيمه، ويحتشمون عن التصريح بالاسم، قال زهير:

فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى .... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا

سيكفيك من ذاك المسمى إشارة .... فدعه مصونًا بالجلال محجبا

وها هنا وارد على التهكم. والثاني من باب الرمز، كما عبروا عن عدم الالتفات بالتولي والنبذ وراء الظهور، ومرجعه أيضًا إلى التكبر والخيلاء؛ لن المتكبر لا يخلو من تلك الحركات.

قوله: (يعني: أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن) إلى آخره، في كلامه قيود مستفادة من التركيب التنزيلي، فإن قوله تعالى:{إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} وارد على العرض والتقدير، ويوجب أن يكون مسبوقًا بمقدمات تنتهي إليه، وهو أن يقال: إن ما أنتم عليه من إنكار القرىن ليس بصادر عن حجة قاطعة عندكم، وإنما هو أمر محتمل؛ لأنكم ما اتبعتم الدليل، فيجوز أن يكون من عند الله وألا يكون من عنده؛ والعاقل إذا تورط في مثل هذه الورطة يتوقف حتى يحصل على اليقين؛ ثم يشرع في قطع الحكم، فأنتم قطعتم في التكذيب والإنكار قبل الفحص والنظر، أخبروني إن كان صادقًا ومن عند الله؛ فمن أضل منكم؟ وقوله:{مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ} وارد على العموم وعدم التصريح والمكافحة، وهو يقتضي أن يقال: ولعله حق فأهلكتم أنفسكم، ومن اظلم منكم؟ فوضع موضع الضمير {مِمَّنْ هُوَ

ص: 626

اليقين وثلج الصدور، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقًا وقد كفرتم به، فأخبرونى من أضلّ منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته، ولعله حق فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله:{مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} موضوع موضع: منكم، بيانًا لحالهم وصفتهم.

[{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} 53 - 54]

{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} يعنى ما يسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عمومًا وفي باحة العرب خصوصًا- من: الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} وهو معنى قوله: {ثم كفرتم به} لما فيه معنى البعد البعيد، والكلام وارد على إرخاء العنان والكلام المنصف.

قوله: (أبعدتم الشوط)، الجوهري: عدا شوطًا، أي: طلقًا. الأساس: فلان شوطه شوط باطل.

قوله: (في مشاقته) أي: بالغتم في مخاصمته، قال: المشاقة؛ مشتقة من الشق؛ لأن كلَا من المتعاديين في شق خلاف صاحبه.

قوله: (وفي باحة العرب)، الأساس: نشأ فلان في ساحتك وباحتك وهي العرصة، هذا تفسير لقوله:{وَفِي أَنْفُسِهِمْ} وهذا أيضًا وارد على خلاف مقتضى الظاهر، على عكس ما سبق آنفًا في قوله:{وَنَأى بِجانِبِهِ} أي: بنفسه، وقول الشاعر:"مقام الذئب" جعلت أنفسهم بإدخال "في" كالعرصة والمكان المفتوح، إعلامًا بان تلك الفتوح أثرت في أنفسهم أثرًا بليغًا كانها هي مكانها.

ص: 627

ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورًا خارجة من المعهود خارقة للعادات، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، وبسط دولته في أقاصيها، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علمًا من أعلام الله وآية من آياته، يقوى معها اليقين، ويزداد بها الإيمان، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه، مغالط نفسه، وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق، كما أن الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والزور، وأن للباطل ريحًا تخفق ثم تسكن، ودولة تظهر ثم تضمحل. {بِرَبِّكَ} في موضع الرفع على أنه فاعل كفى. و {أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بدل منه، تقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد؟ ) إلى آخره، فإن قلت: من أين دل هذا اللفظ الموجز على هذه المعاني المبسوطة؟ قلت: من مقتضى المقام والعدول من الظاهر، فإن أصل المعنى سنريهم هذه الآيات إظهارًا للحق، وكفى دليلًا على ذلك، والواو في {أَوَ لَمْ يَكْفِ} للحال، وإنما أدخل همزة التقرير على الجملة الحالية لمزيد تقرير حصول الموعود، وأن هذه الآيات كافية في المطلوب لا مزيد عليها، ووضع المظهر وقوله:{بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} موضع ضمير الآيات في قولنا: وكفى بها دليلًا؛ للإشعار بالعلية، وأن هذه الآيات إنما صلحت للدليل على حقية المطلوب؛ لأن منشئها من هو على كل شيء مهيمن مطلع، وإليه الإشارة بقوله:"فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب" وأبدل {أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} من {بِرَبِّكَ} بيانًا وتفسيرًا وإيذانًا بأن هذا الوصف متعين له وشاهد بأن الرب هو الذي يكون على كل شيء شهيدًا، وإليه الإشارة بقوله:"مطكلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته"، وأما اختصاص الضمير في أنه الحق بالقرآن، فمن حيث المقام؛ لما سبق أن هذه السورة الكريمة نازلة في بيان عظمة القرآن المجيد والرد على منكريه ومعانديه، فكل ما جعل ذكره مشروعًا لمعنى أتى بما يناسبه من المعاني، فكان قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كلامًا على سبيل إرخاء العنان كالخاتمة

ص: 628

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لهذه المعاني، فجيء بقوله:{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ} الآية مسليًا لحبيبه صلوات الله عليه، ووعدًا لإظهار كلمته وقهر أعهدائه، وسلك فيه مسلك الدليل والبرهان؛ ليظهر للموافق والمخالف حقيته، وإليه الإشارة بقوله:"ولو لم يكن كذلك لما قوي هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة"، وأدمج في الكلام معنى الإخبار بالغيب بذكر {عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وإليه الإشارة بقوله:"يستوي عنده غيبه وشهادته"؛ ليكون كالشاهد على أنها بنفسها آية مستقلة من حيث إنها مخبرة عن الغيب.

روى الواحدي عن الزجاج أنه قال: ومعنى الكفاية ها هنا أن الله تعالى قد بين لهم ما فيه كفاية من الدلالة.

فإن قلت: هل لقول عطاء على ما رواه محيي السنة {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ} يعني أقطار السماوات والأرض؛ من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والأنهار {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} من لطيف الصنعة وبديع الحكمة {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وجه مناسبة بالنظم؟

قلت: أجل، ونعمت المناسبة والعلم عند الله، وذلك أنه تعالى لما أمر حبيبه صلوات الله عليه بمتاركة القوم في قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} إلى قوله: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} دخل في خلده اليأس من إيمان القوم، وذهبت نفسه عليهم حسرات، فأعلمه الله تعالى بقوله:{سَنُرِيهِمْ آياتِنا} أنه ما عليك إلا البلاغ ومنا الهداية، فأنت قد أديت ما عليك من البلاغ وليس الهداية، ونحن سنهدي منهم من نريد هدايته بأن نفتح قلوبًا غلفًا وآذانًا صمًا وعيونًا عميًا، فيرون آياتنا في الآفاق وفي الأنفس، ثم قرر ذلك بقوله:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} إنجازًا للموعد، مسليًا له صلوات الله عليه مما اعتراه من اليأس، كان هذا الوجه أحسن، وفي معنى الخاتمة أدخل، وللتناول أعم وأسهل.

ص: 629

ومعناه: أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو:{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، أي: مطلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته، فيكفيهم ذلك دليلًا على أنه حق، وأنه من عنده، ولو لم يكن كذلك لما قوي هذه القوة، ولما نصر حاملوه هذه النصرة. وقرئ:(في مرية)، بالضم؛ وهي الشك. {مُحِيطٌ}: عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها، فلا تخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والقول الذي اختاره المصنف رواه محيي السنة عن مجاهد والحسن والسدي.

قال الإمام: فإن قيل: هذا الوجه ضعيف؛ لأن سين الاستقبال يدل على أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات، وسيطلعهم عليها، وليس كذلك. قلنا: إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء؛ إلا أن العجائب التي أودعها فيها مما لا نهاية لها، فهو تعالى يطلعهم عليها زمانًا قريبًا حالًا فحالًا، فإن كل أحد يشاهد بينة إلا الإنسان؛ إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في تركيبها لا تحصى واكثر الناس غافلون عنها، فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية، كلما ازداد تفكرًا ازداد وقوفًا، فصح معنى الاستقبال والله أعلم.

تمت السورة

حامدًا ومصليًا على رسول الله

* * *

ص: 630